باص أخضر عنوانٌ يصلح لكتاب قصة للأطفال، نقرأه عليهم قبل النوم، كي ينعموا بأحلام وردية، ذلك أن الخضار، ابن الطبيعة ورمز حياتها وكرمها، يبعث على استرخاء الحواس، ويشيع الهدوء في النفس، بما له من حمولةٍ سلميةٍ، لا حدود لها على امتصاص التوتر والإرهاق والعدوانية.
باصات النقل الداخلي، في أغلب مدن العالم الكبرى، باستثناء لندن، مطلية باللون الأخضر، وهو أمر لا يخلو من دلالةٍ مدنية، ولو لم يدرسه المتخصصون بتأثيث العمران والحياة داخل فضاء المدينة، لما اجتمعوا على مكانة هذا اللون الذي يظل أنسب للبصر، ومبعثا للراحة في صخب المدن الكبرى.
لكن الباص الأخضر في الحالة السورية لم يعد يرتبط بأي دلالةٍ صحيةٍ منذ باتت الباصات الخضراء أداة التهجير من دمشق وحمص وحلب باتجاه إدلب، وخصوصا في هذا العام الذي شهد موجات تهجير كبيرة.
حوّل النظام السوري الباص الأخضر إلى أداة اقتلاع للأهالي وطردهم من بيوتهم التي عاشوا فيها أبا عن جد. طابور الباصات الخضراء، وهو يخترق المدن السورية المحاصرة، يمثل صورة لا مثيل لها في القسوة. صورة جديدة يمكن أن نبني عليها مفاهيم خاصة، ذات مفعول مرضي، في الفن والعمارة والنقل، وننقلها إلى الرسم والسينما والأنثروبولوجيا. صار يمكن أن نقول إن حيوان ترامب، المدعو بشار الأسد، صاحب الاختراعات التي لم تخطر على بال أحد، هو أحد المبشّرين بتدمير النمط والنظام الإنساني وتفكيك الاستقرار الأهلي من منظور التطهير الطائفي الذي قاد إلى جرائم ضد الإنسانية في يوغسلافيا السابقة ورواندا. هو الذي اخترع براميل الديناميت التي يتم إسقاطها جوا على المدنيين، وأنكر، في مقابلة صحافية تلفزية، علمه بها. وهو يمتلك البراءة الحصرية لإعادة استخدام غاز الأعصاب (السارين) الذي جرى تحريمه في نهاية الحرب العالمية الأولى، أي منذ قرن. وهو من استخدم، لأول مرة، قوارير الغاز قذائف مدفعية. يمكن للمرء أن يعد الكثير عن هذا الكابوس الرهيب الذي لم يحرج حتى الآن، على الرغم من خطورته على القيم الإنسانية، ضمير القوى الكونية المسؤولة عن العدالة.
أمر غريب أن ترمي الولايات المتحدة القنبلة التي أطلقت عليها اسم "أم القنابل" كي تقضي على 100 مقاتل من "داعش" يختبئون في كهف في أفغانستان، وقد كان سيكون وقعها أفضل، ويمكن أن تحقق دعايةً لا مثيل لها، وتشكل خدمة ليس للسوريين فقط، بل للبشرية جمعاء، لو أنها رمتها على بشار الأسد كان استحقها أكثر، وكانت ستبدو من أسلحة العدالة، فالأسد، حسب ما وصفه وزير خارجية بريطانيا بوريس جونسون، هو "الإرهابي الأكبر"، الذي استمر باراك أوباما يدلّعه ستة أعوام بوصفه "فاقداً للشرعية". وهل كان أوباما يصدّق حقا أن الأسد رئيس شرعي في الأصل، ومن أين جاء بالشرعية، هل من تزكية عبد الحليم خدام له؟
مسخرةٌ لا حدود لها، إنهم يكذبون على الشعب السوري جميعا، أصدقاء سورية وأعداءها. وحدهم السوريون ضاعوا ولم يهتدوا حتى الآن إلى الطريق الذي يمكّنهم من وقف الجريمة.
في مشهد الانفجار الرهيب الذي حصد أكثر من 120 شخصا، نصفهم من الأطفال، خلال عملية تبادل التهجير بين مواطني كفريا والفوعا والزبداني، كان هناك من الناجين من يحاول مساعدة الجرحى. كانت الصور سوريالية، ضحايا ينقذون ضحايا، والجميع يسبحون في بحر من الدماء! من يصدّق أن شخصا يعيش تحت الحصار منذ أربع سنوات يمكن أن يتبرّع بتقديم مساعدة في ظرفٍ من هذا النوع؟ هذا الكائن الذي تخلى العالم عن نجدته يرمي نفسه للنار، لكي يساعد جريحا يسقط في أفق مفتوح باتساع الدماء، وطويل كمدى درب جريمة التهجير القسري الذي تعرّض له الشعب السوري.
الرسالة التي أراد «حزب الله» توجيهها من خلال الجولة التي نظمها لوفد إعلامي إلى حدود لبنان الجنوبية هي رسالة إلى الحكومة اللبنانية ورئيسها، كما إلى رئيس الجمهورية وسائر المسؤولين في الدولة، قبل أن تكون رسالة إلى اسرائيل أو إلى إدارة دونالد ترامب. وفحوى هذه الرسالة: نحن هنا. ونحن وحدنا قادرون على حماية لبنان. قرار الحرب والسلم عند هذه الحدود في يدنا.
لذلك بدت الجولة التي قام بها رئيس الحكومة سعد الحريري برفقة وزير الدفاع وقائد الجيش إلى الحدود، مصطحبين وفداً إعلامياً الى المناطق ذاتها التي جال فيها وفد «حزب الله»، وكأنها سباق مع الحزب على «ملكية» الجنوب وعلى حق السيادة عليه، والحق في اتخاذ القرار في ما يتعلق بحالة الحرب والسلم هناك. إذ فيما أكد الحريري أن هدف الحكومة اللبنانية هو تثبيت وقف دائم لإطلاق النار مع إسرائيل، بمعنى إنهاء الحالة الموقتة القائمة حالياً، فإن «حزب الله» يعتبر الجنوب ورقة في يده، يستخدمها ضمن «عدة الشغل» في السياسة اللبنانية لتبرير موقعه المتميز، الذي يفوق موقع أي حزب آخر، سواء في الطائفة الشيعية أو حيال الأحزاب والطوائف الأخرى.
بهذا المعنى لم يكن هناك جديد في الرسالة التي أراد «حزب الله» توجيهها من خلال الجولة الحدودية، فالكل في لبنان يعرف أن الوضع في المنطقة الحدودية ممسوك، سلماً أو حرباً، نتيجة حسابات للحزب لا علاقة لها دائماً بالحسابات اللبنانية أو بالقرار السيادي اللبناني. لذلك يصح التساؤل: لماذا استفزّت جولة الحزب الجنوبية الرئيس الحريري ودفعته إلى تنظيم جولة مقابلة بدت كرد فعل؟ فالوضع الاستثنائي للحزب في المنطقة الحدودية، الذي سمح له بالتصرف بحرية كاملة وبإدخال عناصره الذين كان بعضهم مسلحاً، مع الوفد الإعلامي، تحت عيون الجيش اللبناني، وعبر حواجزه، هو وضع معروف، والجديد الوحيد أن الكاميرات كشفته الآن، فيما هو بعيد عادة عن سمع المسؤولين ونظرهم. «حزب الله» يتصرف فعلياً في أرض الجنوب وكأنها أرضه، له وحده حق حمايتها، في ظل ما يزعمه عن عجز الجيش اللبناني عن الدفاع وحيداً عن لبنان، في مواجهة أي اعتداء إسرائيلي.
ومن الغرائب التي يندر أن تجد مثيلاً لها في بلد آخر غير لبنان، أنه في الوقت الذي يؤكد رئيس حكومته أن «الجيش وحده هو المكلف حماية الحدود والذي يدافع عنا بصفته القوة الشرعية التي لا قوة فوق سلطتها»، تسمع رئيس الجمهورية، الذي يُعتبر بحسب الدستور القائد الأعلى للقوات المسلحة، يلتمس الأعذار لـ «حزب الله» ولوجوده المسلح في المنطقة الحدودية، بشكل يخالف نص القرار الدولي رقم 1701 الذي أنهى الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006. فالرئيس ميشال عون كان واضحاً في إشادته بدور «حزب الله»، عندما اعتبر في حديث صحافي أخير أنه «طالما أن الجيش اللبناني لا يتمتع بالقوة الكافية لمواجهة إسرائيل، فنحن نشعر بضرورة وجود هذا السلاح (سلاح «حزب الله») لأنه مكمل لعمل الجيش ولا يتعارض معه، بدليل عدم وجود مقاومة مسلحة في الحياة الداخلية». وأضاف الرئيس: «إن حزب الله هو سكان الجنوب وأهل الأرض الذين يدافعون عن أنفسهم عندما تهددهم أو تحاول إسرائيل اجتياحهم، فهم ليسوا بالجيش المستورد»، في اعتراف واضح بحق الحزب في الدفاع عن «أرضه»، مع تشكيك ضمني في قدرة الجيش على القيام بهذه المهمة.
أمام خلاف من هذا النوع بين رئيس الجمهورية ورئيس حكومته بشأن الدور المطلوب من الجيش في الجنوب، ووظيفة «حزب الله» في المنطقة نفسها، من هو على حق؟ وكيف يتصرف الجيش أمام خلاف كهذا بين أكبر مسؤولَين في الدولة، ليس فقط حيال مهماته الأمنية، بل قبل ذلك حيال العلاقة الميدانية مع «حزب الله» في المنطقة الحدودية؟
إذا كانت جولة الحريري في الجنوب تؤكد شيئاً، فهو أن التعايش مع التناقضات داخل الحكومة وفي السياسة اللبنانية عموماً، هو تعايش هشّ وقابل للانفجار في أي وقت. وعندما يؤكد الحريري أن هذا الخلاف الأساسي مع «حزب الله» حول دور الجيش والمسؤولية عن السياسة الدفاعية، لا يجب أن يأخذ الحكومة «إلى مكان آخر»، فإن هذا يؤكد مجدداً الشعور السائد بالقوة الفائضة لـ «حزب الله» وبالحرص على التعايش معها، لأن البديل هو الانفجار نتيجة قدرة الحزب على ذلك، إذا سارت الأمور على الأرض إلى غير ما يرغب.
لا تستغربوا أن يتبنّى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) حادث سير في الهند، مثلاً، يودي بحياة عشرات الأشخاص، أو أن يتبنّى عملية فردية في أحياء هارلم وبرونكس الأميركيتين. لا ترتابوا إذا ما أعلن التنظيم احتضانه انتحار شخص بسبب الاكتئاب في مكان ما من العالم، واعتباره "شهيداً" له. نعم، لم يعد "داعش" ذاك التنظيم القادر على المواجهة الميدانية في ساحات القتال، بل تحوّل إلى رمزية صوتية في أحيان كثيرة، بما يشير إلى نموّ "الذئاب المنفردة" وتطوّرها في العامين الأخيرين.
يريد "داعش" ترسيخ صورةٍ له على أنه "أب الذئاب المنفردة"، وأن ديمومته باقية بعيداً عن معاقله الميدانية، الساقطة والتي ستسقط، في الموصل العراقية والرقة السورية. يريد تكريس نمطية جديدة في التفكير السياسي والأمني، عنوانه "خلف كل حادث فردي هناك داعش". يكفي هذا لاستمرار وجوديته كـ"أنونيموس"، بعد دنوّ نهايته طرفاً مقاتلاً في العراق وسورية. بالتأكيد، يفسح هذا النوع من النمطية المجال لاستغلال سياسي واسع، سواء عبر نموّ الأجنحة اليمينية المتطرفة، أو حتى في سياق ردود أفعال الأطراف اليسارية والوسطية. أوجد التنظيم لنفسه هامشاً بما يكفي لأن يهتف مشجعو كرة القدم ضده في الملاعب.
كرة القدم؟ من ينسى الاعتداء الذي طاول حافلةً تقلّ فريق بوروسيا دورتموند الألماني في 11 أبريل/ نيسان الحالي؟ من في وسعه نسيان الليلة الكئيبة في باريس، الجمعة 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، التي تحوّلت فيها الأحداث المحيطة في ملعب سان دوني في أثناء مباراة فرنسا وألمانيا إلى مأتم دموي؟ من يمكنه تجاهل أن مدينة هانوفر الألمانية كادت تلقى مصير باريس، بعد أيام قليلة، وفي أثناء مباراة لكرة القدم أيضاً؟ هذا ما فعله "داعش"، ضرب اللاوعي لدى الجماهير، ليتمكّن من اختراق وعيهم، وتحوّله إلى عدوٍ لهم. واختيار كل ما يتعلق بكرة القدم في أوروبا لتوجيه الرسائل الدموية، كاختيار الجوامع والكنائس في الشرق الأوسط. في أي ضربةٍ يوجهها التنظيم إلى تلك الأماكن، يُسمع صداها في كامل أرجاء البيئة المحيطة. هو ما كرّسه "داعش". تماماً كما حين فعلت "طالبان" حين دمّرت تمثالين لبوذا في أفغانستان، ربيع عام 2001. اختيار ضرب رموز مجتمعية في بيئات محددة، يعني الكثير لـ"داعش".
تحوّل التنظيم إلى خصم غير مرئي، يظهر بعد تنفيذه عملية ما، يزيد من قتامة الوضع في أوروبا والعالم. قادة "داعش" يعلمون ذلك، حتى أنهم لم يعودوا يعتمدون على صوت زعيمهم أبو بكر البغدادي، لتوجيه التهديدات، بل يكفي القول "داعش تبنّى" لإظهار "قوتهم". لا يشبه الأمر مرحلة أسامة بن لادن في قيادة تنظيم القاعدة، فعندما اُعلن عن مقتله أصيب تنظيمه بالوهن. في حالة "داعش"، لن يحصل ذلك، فـ"القاعدة" اعتمد على بيانات صوتية ومرئية لبن لادن ولأيمن الظواهري، أما "داعش" فيستند إلى مفهوم أبعد من "القائد".
صحيحٌ أن تأثيرات الهجوم الباريسي مساء أول من أمس الخميس ستطاول صناديق الاقتراع الفرنسية غدا الأحد، غير أن مقاربة المسألة في نجاح اليمين المتطرّف من عدمه فقط أمر غير صحيح. يريد "داعش" من مارين لوبان، وإيمانويل ماكرون، وبنوا هامون، وجان ـ لوك ميلانشون، وفرانسوا فيون، أن يعلموا أنه "سيبقى العدو رقم واحد لبلادهم"، وعبرهم إلى كامل أوروبا، بما فيها ألمانيا التي تجري انتخاباتها بين شهري أغسطس/ آب وأكتوبر /تشرين الأول المقبلين.
يفترض في المرحلة المقبلة أن يزيد التنظيم من ضرباته كـ"ذئاب منفردة"، للتغطية على السقوط الميداني والحتمي في سورية والعراق. سيكون أمام "داعش" مرحلة زمنية، انتقالية على الأرجح، يختفي فيها جميع قيادييه وعناصره من ساحات القتال المباشر، ولن يبقى سوى وكالة أعماق الناطقة باسمه، لتتبنّى كل حدث أمني في العالم باسم "داعش". وطالما أن تلك الوكالة باقية، يعني أن "داعش" باقٍ لكن من دون التمدّد.
هل ستفيق إيران مما يمكن تسميته «كابوس ترمب- ماتيس»؟ لقد أوفى الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بما وعد به الناخبين بشأن الموقف من إيران. فقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون الثلاثاء الماضي أنه كتب للكونغرس بشأن توجيه الأجهزة الحكومية المعنية بـ«مراجعة» ما إذا كان قرار الرئيس السابق باراك أوباما رفع العقوبات عن إيران إثر توقيع الاتفاق بين القوى الكبرى وطهران، بشأن البرنامج النووي الإيراني، يخدم مصلحة الأمن القومي الأمريكي.
وأقر تيلرسون في رسالته للكونغرس الذي تسيطر عليه غالبية من الجمهوريين بأن إيران ملتزمة ببنود الاتفاق النووي، لكنها لا تزال دولة راعية للإرهاب. وهي خطوة تمثل تحولاً كبيراً في موقف واشنطن حيال طهران، مقارنة بمواقف الإدارة الديموقراطية «الأوبامية»، التي بدا واضحاً نزوعها لإرضاء طهران، على رغم معرفتها التفصيلية بالنشاطات الإرهابية وزعزعة الاستقرار التي تمارسها إيران في المنطقة والعالم.
ولم يكن قرار المراجعة من بنات أفكار الوزير الأمريكي؛ إذ أكد في رسالته للكونغرس أن «ترمب وجه بمراجعة تقوم بها الوكالات، تحت إشراف مجلس الأمن القومي لخطة العمل الشاملة، لتقويم ما إذا كان تعليق العقوبات ضد إيران سيكون ضرورياً لمصالح الأمن القومي للولايات المتحدة». ويضاف إلى ذلك أن وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس زار السعودية لضخ دم جديد في التحالف التاريخي المتجذر بين المملكة والولايات المتحدة. وهو معروف بمقته الشديد لإيران، ومن هناك لا يذكر مقولته الأشهر حين سئل عن أكبر خطر يهدد العالم، فقال: إيران ثم إيران ثم إيران. وهو موقف واضح وليس من صنع غربي متعجرف كما تزعم طهران، بل ناجم عن معايشة وثيقة لأنشطتها التخريبية من خلال محطات عمله في الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان، وقيادة القوات الأمريكية في القيادة الأمريكية الوسطى. ولكن «الكوابيس» بالنسبة لإيران لا تأتي فرادى. فمن المتوقع أن يبدأ أعضاء الكونغرس عقب عودتهم من عطلة الربيع، التصويت على قوانين جديدة وقديمة، منها قانون يمنع وصول الدعم من برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية إلى النظام السوري، إضافة إلى مشاريع قوانين جاهزة أخرى تهدف إلى عزل 3 خطوط طيران إيرانية تجارية، يشتبه في نقلها أسلحة ومقاتلين لمساندة بشار الأسد.
كما يعتزم قادة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ تقديم مشروع قانون جديد لفرض عقوبات على الحرس الثوري الإيراني، لمساندته الإرهاب. ولن تطارد الكوابيس طهران وحدها، بل ستلاحق المنظمات الإرهابية التابعة لها، إذ يستعد الكونغرس الأمريكي لتعديل قانون حظر تمويل ميليشيا «حزب الله» اللبناني، الذي أصدره عام 2015. وتُوسِّع التعديلات المرتقبة قائمة الكيانات التي قد تواجه عقوبات بسبب تقديم الدعم لـميليشيا «حزب الله»، وصولاً إلى حلفائه السياسيين. وبحسب مسودة قانون 2017، ينص القانون الجديد على توسيع نطاق العقوبات لتشمل أي وكالة أو أداة تابعة لدولة أجنبية تقدم مساعدة أو رعاية أو دعماً مالياً للحزب. كما يهدّد مشروع قانون 2017 بفرض عقوبات على أي شخص يقوم بدعم قناة «المنار» التلفزيونية، وغيرها، أو أي شخص أجنبي يُحدّد الرئيس الأمريكي ضلوعه في جمع تبرعات أو تجنيد لصالح الحزب الإرهابي. ولعل تلك الكوابيس المتتالية تفسر الارتباك الظاهر في تصرفات وتصريحات القادة الإيرانيين هذه الأيام.
فهم يدركون جيداً أن أي قرارات أمريكية ضد بلادهم ستعني عملياً صدور عقوبات مماثلة من الدول الغربية المتحالفة مع الولايات المتحدة. وليس أمام ملالي طهران سوى أن يوغروا صدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد إدارة ترمب. ولكن هل حسابات بوتين تماثل حسابات طهران؟ وهل ستتضرر موسكو من عقوبات على طهران؟ وطهران تعرف أن بوتين نفسه متضايق من دورها في سورية. فإلى أين تتجه طهران بحثاً عن مُعين بعدما أحرقت نفسها وأغرقت سفنها مع العالم العربي، والخليج، والعالم الإسلامي، ولم يعد لها حليف في الغرب؟ الأكيد أن إيران تقع في شر أعمالها وميليشياتها ووكلاءها سيواجهون المصير نفسه عاجلاً أم آجلاً.
يُصدِّق بعض السياسيين اللبنانيين أنهم شركاء حقيقيون لحزب الله في السلطة او أَنْداد بكل معنى الكلمة. يصدّقون أنهم بالتسويات التي قبِلوا بها إنما حشروا الحزب في زاويةٍ وأجبروه على الإفراج عن الاستحقاقِ الرئاسي وتشكيلِ حكومةٍ وقريباً سيجبروه على القبولِ بنظامٍ انتخابي عابِرٍ للطوائف. يصدّقون ان الرئاسة صارت على مسافةٍ واحدة من الجميع وأنها ستنتهج سياسةً عربية تحترم مصالح لبنان وأَمْنه القومي. يصدّقون ان مسؤولية الأمن في بلدهم تتولاها القوى الأمنية الرسمية حصراً وان التعاطي مع الحرائق الإقليمية سيكون من خلال الحكومة فقط ...
يصدّقون ويصدّقون ... ولذلك "تَفاجأوا" كثيراً عندما حصل استعراضٌ مسلّحٌ لحزب الله في برج البراجنة، او الجولة الإعلامية - العسكرية على الحدود اللبنانية - الاسرائيلية. تَفاجأوا الى الدرجة التي لم يَبْقَ زعيمٌ او مسؤولٌ حكومي او غير حكومي من المقلب المعاكِس للحزب وحلفائه إلا وخاض السباق على انتقادِ ما جرى والتنديد به والتحذير من أن ممارساتٍ كهذه يمكن ان تضرب مبدأ الشراكة (يا سلام!) وتهزّ أسس الندّية (تعظيم سلام!)، وقد تضع لبنان في حال تكرارها أمام فوهة البراكين المشتعلة إقليمياً بل وتهدّد استقراره وسِلْمَه الأهلي.
اذا استثينا في هذا الإطار الحركة التي يقوم بها رئيس الوزراء سعد الحريري على مختلف المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والإنمائية والاجتماعية، وحتى السياحية، للحفاظِ على حدٍّ أدنى من مقوّمات الدولة والردّ بأسلوبٍ حضاري على مَن لا يعترف أساساً بالدولة ولا يقيم وزناً لمصالحها. اذا استثنينا ذلك، فلا بد من القول إن الذين فوجئوا بتحركات حزب الله إنما يثيرون الضحك، كي لا نقول الشفقة، ويستخفّون فعلاً بعقول اللبنانيين بل بعقول قواعدهم وأنصارهم.
للمرة المليون، حزب الله هو الحزب القائد الحاكِم في لبنان. هو رأس السلطة، وحوله "جبهة وطنية تقدمية" تضمّ أحزاباً وحركات طائفية وأخرى علمانية تدور في الفلك الايراني - السوري، وبعض "الدكاكين السنية" الصغيرة التي يحتاجها عند اللزوم وبينها "علماء" وقوميين وحتى "جهاديين". وفي الضفة الأخرى قوى رضيتْ بالمشاركة معه بشروطه، ووُجهة نظرها ان المشاركة أفضل من المقاطعة، وأن تمرير الاستحقاقات أهمّ من الفراغ، وان الوضع الاقليمي سيسفر عن نتائج ليست في مصلحة الحزب الذي سيضطرّ الى العودة الى لبنانيّته ويرضى لاحقاً بشراكةٍ حقيقية وليست وهمية، وأن وضع الانتظار الحالي يمكن ان يُستغلّ في الحفاظ على ما بقي من مؤسسات.
تبقى وجهة نظر، إنما على الأرض حزب الله يملك ميليشيا يقول عنها إنها اقوى من الجيش اللبناني عدداً وعُدّة. أَسقط حكومةً بكاملها ببعض شبانٍ انتشروا على جادات الطرق يرتدون قمصاناً سود ويحملون أجهزةَ لاسلكي في أياديهم من دون أيّ سلاح. حتى الاستعراض الأخير المسلّح في برج البراجنة بهدف تخويفِ جماعة المخدرات كان رسالةً مباشرة للدولة بأنه سيأخذ مكانها حتى في الأمور الجنائية العادية التي لا علاقة لها لا بدور المقاومة ولا بالتهديدات الاسرائيلية.
حزب الله ابن منظومةٍ إقليمية فاعلة ومؤذية تحت راية لواء القدس التابع للحرس الثوري الايراني، لا يحكم في لبنان فقط بل يحكم جزءاً من الارض والقرار في سورية ومثلهما في العراق، وعملياته توسّعت الى اليمن والبحرين وصولاً الى دول عربية أخرى وأوروبية وآسيوية (تدريبات في أفغانستان وباكستان)، وعليه فإن جولته الأخيرة على الحدود مع اسرائيل رسالة إيرانية لـ "العم سام" بالخيارات التي يمكن ان تُتخذ في حال نُقِل التصعيد ضدّ طهران الى مرحلة الفعل لا القول. وبما ان لبنان يلعب دور صندوق البريد كوظيفةٍ من وظائف الحزب، فإن الدول المشارِكة في قوة "اليونيفيل" وصلتْها الرسالة بأن جنودها قد يتحوّلون في هذا الصراع إن بدأ الى ... رهائن.
استعراض ضاحية بيروت المسلّح رسالة الى الدولة، و"عراضة" الجولة الجنوبية رسالة الى العالم ... والسياسيون اللبنانيون يضربون أياديهم على صدورهم من هول "المفاجأة". والخوف على أضلاعهم مستقبلاً من تكرار المفاجآت، يفترض ان يعيدهم الى المربّع الأول ... الى الحقيقة، ان هذا الحزب يحتلّ السلطة في لبنان في إطارِ وظيفةٍ مماثلة للوظائف التي تُوزِّعها إيران هنا وهناك للبقاء قوة إقليمية كبرى، فإما ان يقاوم المعترضون ولو بالانسحاب من السلطة وتحميل مسؤولية ما سيجري لـ "الحاكم" الحقيقي، وإما ان يكرمونا، بعدما شاركوا، بصمتٍ يحترم عقولنا بدل تصريحاتٍ ظاهرُها تحذيرٌ وباطنها تبرير.
عندما عقدت اتفاقية أستانة لوقف إطلاق النار في سورية، بمبادرة من روسيا وتركيا، اللتين انفردتا باقتراحها والتوصل إليها، شاعت أجواء أوحت بأنها ستكون مديدة، على عكس الهدن السابقة لها. حين كان أحد ما يشكّك في جديتها، كان يُسأل باستنكار: وكيف لا تكون نهائية، إذا كانت قد عقدت بضمانات قطعية من الطرفين الروسي والتركي، ثم من إيران التي استماتت كي تُقبل ضامناً ثالثا لها.
بيد أنه ما لبث أن تأكد أن المشكّكين كانوا على صواب، ومن أبدوا ثقتهم بالروس والإيرانيين أخطؤوا أيما خطأ، ذلك أنه بدل وقف إطلاق النار، وقع تصعيد لحرب الأسد وإيران إلى مستوى نوعي، لم يسبق أن شهدت الحرب السورية مثيلا له، بعد أن تولت إيران شن عملية عسكرية طاحنة ضد وادي بردى، بدأتها بقصف منشآت النهر التي تمد ملايين السكان في دمشق بالماء، ثم مرت بهجماتٍ قام بها مرتزقة حزب الله، تحت إشراف جنرالات طهران، زحف المشاركون فيها على الوادي شبرا بعد شبر، ودمروا كل ما وجدوه في طريقهم، بينما كانت إيران تعلن، من دون مواربة، تصميمها على تهجير سكان الوادي، واستقدام إيرانيين ولبنانيين إلى قراهم وبلداتهم.
بعد ثلاثة أسابيع من القتال الأشد ضراوة، ارتكبت خلالها جرائم تقشعر لها الأبدان، سقطت المنطقة التي تعرض سكانها للفتك بجميع صنوف الأسلحة، بما في ذلك غاز الكلور السام. في هذه الأثناء، كانت صرخات الملتزمين بوقف إطلاق النار تذكّر بما تم التوقيع عليه، وتصل إلى موسكو، وكانت تهديداتهم باعتبار اتفاقيته باطلة، بينما كان رد الروس يقتصر على جملةٍ واحدة: ليست الحرب خرقا لأي اتفاق، لأنها تستهدف جبهة النصرة. وقد كرّر الكرملين سخافته هذه، على الرغم من بيان رسمي أصدره مركز قيادة العمليات الروسية في حميميم، يقول إن الوادي خالٍ من جبهة النصرة والإرهابيين. والغريب أنه ما أن سلم مقاتلو الوادي أسلحتهم، حتى اختفت تهمة الانتماء إلى "النصرة" عنهم.
لم يقتصر العدوان على وادي بردى، بل تعداه إلى وعر حمص، حيث كثف النظام ومرتزقة إيران قصفه بجميع أنواع الأسلحة، وضغطوا على سكانه إلى أن قبل ممثلوه الدخول في مفاوضات هدنة. والمذهل أن ضباطا روسا قادوا المفاوضات، وهدّدوا بإبادة أهالي الوعر عن بكرة أبيهم، إذا رفضوا الاستسلام والترحيل. ما الذي حدث؟ تساءل السوريون. وهل هناك هدن خارج وقف إطلاق النار المغطى بضماناتٍ يفترض أنها أوقفت إطلاق النار، وبالتالي الهدن الجزئية التي تفرضها الحرب، الممنوعة، والتي تقوم على استغلال التهدئة العامة لعزل مناطق بعينها، وإرغامها على قبول الرحيل الجماعي والاستسلام.
بنجاح الضامنيْن، الروسي والإيراني، في تحويل وقف إطلاق النار إلى حربٍ قضمت مناطق مهمة خارج سيطرة النظام، ورحلت سكانها الذين بلغ عددهم في وادي بردى والوعر قرابة مائتي ألف مواطن، انتقل الضامنان والنظام إلى الخطوة الثالثة، وهي استخدام السلاح الكيميائي في خان شيخون، وبلغ إطلاق النار ذروته، وتبين أن لوقفه المزعوم معنى واحدا، يتقيد المقاومون به، ليستكمل الضامنان، الروسي والإيراني، اقتلاع مئات آلاف السوريات والسوريين من مناطقهم، بما لديهما من وسائل قتل جماعي.
والآن: هل سمع أحد، خلال التاريخين القديم والحديث، بوقف إطلاق نار يستخدم خلاله السلاح الكيميائي، وتحديدا ضد المدنيين؟ عن أي وقف إطلاق نار نتحدث، إذا كان النظام يحارب بغطاءٍ ومشاركةٍ من الضامنين، ويستخدم أسلحة لم تستخدم نيفاً وثلاثة أعوام؟ ثم، بربكم، كيف تكون الحرب، إن كان الطرف الذي يتقيد بوقف إطلاق النار يكافأ بهجماتٍ متلاحقةٍ هي أعنف ما واجهه خلال خمسة أعوام، لا بد من تصنيف نتائجها تحت حيثية التطهير العرقي والجغرافي؟ وإذا كان فوق يستهدف بالسلاح الكيميائي؟ وهل هناك صفاقةٌ تفوق صفاقة الروس، وهم يتهمون الضحية بانتهاك وقف إطلاق النار، لأنها احتجت على استمرار الحرب ضد الشعب السوري وتصعيدها، واستعمال الكيميائي ضد الآمنين؟
كم مرة يعتقد الروس والإيرانيون أننا سنقبل أن نلدغ من جحورهم، وبضماناتهم؟
صارحني أحد الأخوة الأعزاء، أنني مع مجموعة من الأصدقاء؛ صعَّدنا كثيراً بتسليطنا الضوء على المهزلة التي حدثت أمس، بما يسمى ” اتفاق البلدات الأربعة”.
وكان علينا برأي صاحبي أن نلتمس للأخوة الموقعين العذر، تحت مظلة “التمس لأخيك سبعين عذراً فإن لم تجد له عذر فقل يا قلب ما أظلمك”!
من المؤكد أنّه يجب علينا فعل ذلك، ولو كنا مكانهم لاضطررنا على فعل فعلتهم، وكدت أفعل ما سيقول لولا أنهم قد فعلوا بغيرهم الأفاعيل، واستباحوا سلاحهم وبعض أموالهم من قبل بمثل هذه الشُبه التي كسوها كسوة المخالفة للدّين.
كنّا في كلّ مناسبة نتكلم بهذا الأمر العظيم، وندعوهم للتبصر وأن يلتمسوا لإخوانهم في الجيش الحر وغيره من الفصائل الأعذار، وأن لا يعمموا فإن التعميم من العمى.
لكنّهم كانوا دون أن يشعروا وبنية طيبة أدواتاً رخيصة لتنفيذ مشاريع عالمية خبيثة، أقل مساوئها أنّها تهدف لتهجير أكبر عدد من شباب السوريين، ودفعهم للهجرة خارج المناطق المحررة لأنّهم لا يتوافقون مع نهجهم، وهذا بالفعل ما حدث حيث فرغت الساحة من بعض الثوار والناشطين والعاملين، وجعلوا منهم لقمة سائغة في فم المنظمات والوكالات التي تعمل لصالح المخابرات العالمية.
والطامة الأكبر هي: إنّ الإعلاميين الذين كانوا يزينون تلك الأباطيل، والشرعيين الذين كانوا يشرعنون تلك الضغوط على الفصائل لصبّها في بوتقة واحدة تمثل نهجهم وما يعتقدونه.
وقد أقفلوا جميعهم فجأة هواتفهم، وعلّقوا العمل بحساباتهم المسمومة، وتوقفوا عن التغريد وتبادل الشتائم وتهم التخوين، ونعتهم لخصومهم بالمميعة والمرجئة.
صمتوا من ساعة إبرام هذا الاتفاق، وذهبوا ليراقبوا ردّة الفعل الشعبية لهذا الاتفاق، فإن كانت حسنة تصدّروا للتبني وإلا فتركوا الأمر ليسجل ضد مجهول، لكنهم فوجئوا بالشارع الذي لا ينسى، وصدموا بدموع الأمهات اللاتي ينتظرن أبناءهم المعتقلين من سنين خلف الأبواب.
فعلها النظام الخبيث واستطاع اعتقال أكبر عدد من البسطاء المظلومين، وجمعهم من عملهم في مؤسساته أو على حواجزه أثناء ذهابهم لقبض رواتبهم من بنوكه، وقدّمهم للمعارضة على أنّهم منهم، قدمهم كعربون يضمن بهم حماية ما تبقى من أهالي كفريا والفوعة الخارجين في الدفعة الثانية.
وقد لا يتأخر النظام عن جمع دفعة أخرى من الأبرياء للتفاوض عليهم في مراحل قادمة، ليبقى رموز المعارضة من الناشطين والثوار والمنشقين كالهرموش وغيره من الصادقين في أقبية سجونهم تحت أشد أنواع التعذيب.
حافظت قطر على أبنائها ورعاياها، وعملت لصالح أمنها كما تفعل تركيا وغيرها في وقوفهم إلى جانب الثورة، لأنهم يجدون فيها شركاء حقيقيين يجب التواصل والتنسيق معهم للحفاظ على المنطقة من التفتت والتشظي أو التشييع والعلونة.
فهل نبحث نحن عن شركاء لنا لنشكل تحالفا يمثلنا؟ ويراعي مصالحنا وبعدنا الديني والأخلاقي أم سنبقى ننعتهم ونخون ونكفر الجميع؟.
هذه الكرة في ملعبكم فأرونا ما أنتم فاعلون.
لاقى الاتفاق الموقع بين " أحرار وتحرير الشام" مع إيران، والذي نفذت أولى مراحله، حالة استنكار كبيرة في أوساط الفعاليات المدنية والشعبية والإعلامية، حيث تعرض الفصيلين لانتقاد كبير عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وحالة غضب شعبية كبيرة في محافظة إدلب، لاسيما بعد الإفراج عن معتقلين حديثي العهد في سجون الأسد، فيما غاب أوائل المعتقلين والمعذبين في سجون الأسد منذ سنوات بتهم مناهضة نظام الأسد وبتهم عديدة لفت لهم لأنهم كانوا من أوائل الثائرين ضده.
ورأى البعض أن الاتفاق كان كاشفاً للأقنعة التي طالما اختفت ورائها الفصائل التي تسمي نفسها "إسلامية" والتي عملت الماكينة الإعلامية لها طوال سنوات الحراك الثوري على إظهارها بموقع الحق والمطالب بمظالم الشعب، والمحارب لأجل قضيته، مخونة كل من يخالفها لاسيما فصائل "الجيش السوري الحر" التي تسمى "بالمعتدلة" وأطلق عليها تسميات كثيرة كالعلمانية والعملية والمفحوصين وغيرها من التسميات.
ولعل هجوم الفصائل "الإسلامية" على الفصائل "المعتدلة" جاء من الدعم الذي تتلقاه فصائل الجيش الحر من الدول التي تقول أنها صديقة للشعب السوري، تطور ذلك لتلقي الأوامر والأموال من غرف "الموك والموم" فحق بهم غضب الفصائل الإسلامية، واتهامهم بالعمالة، زاد ذلك دخول هذه الفصائل في المفاوضات التي أجريت بدأ من جنيف 1 حتى 4 واستانة، فخونت وهوجمت وسيق بحقها عشرات الفتاوى الشرعية تدين جرمها، علما أنها كانت واضحة وصريحة عن كل ما يدور في أروقة المحافل والمؤتمرات، ولم تقبل بأي ضغوطات مورست ضدها من عدو أو صديق، وحاولت جاهدة تخفيف حجم معاناة السوريين ولم تفلح ومازالت تحاول ولسنا في سياق الدفاع عنهم.
وفي كل مرة تقع الفصائل الإسلامية في عثرة، تنطلق الماكينة الإعلامية والشرعية لتبرر وتبيض عملها وموقفها، وتؤكد أنه في صالح الثورة والثوار، وتمر الاتفاقيات واحدة تلو الأخرى، من راهبات معلولا وصولا لخروج عناصر "جبهة النصرة" من درعا حتى اتفاقيات الهدن في أحياء العاصمة دمشق، وريف حمص، واتفاق حلب الأخير الذي وصف بالنكبة، مع تمرير اتفاق المدن الأربعة وصولاً لاتفاق المدن الخمسة الأخير، وما يحمله من ضعف في موقف الفصائل، وانكسار، وعواقب وخيمة على المدنيين العزل الذين فقدوا أرضهم واستبدلت بخيمة أو زاوية في إحدى مراكز الأيواء، والاهم فقدان الورقة الرابحة من بلدات كفريا والفوعة والتي لم تستطع الفصائل كسبها طيلة سنوات حصاريها فانقلبت ضدها.
فاليوم تساوى الطرفان "معتدل وإسلامي" في خانة واحدة، فالاتفاق كان كاشفا لمن تخفى وراء ستار وعمل في الخفاء، لم يستشر الشعب الأعزل في قرار مصيري اتخذ، وكان قد خون واتهم من سعى للتخفيف عن ذات الشعب ولو بطريق سلمي، فالاتفاق اليوم "أخرس الأبواق التي كانت تستشرف على الغير وتخونهم في كل مناسبة" حسب رأي أحدهم، فالكل في خط واحد يسعى لنفسة ولمصلحته على حساب الشعب الثائر، فيدعي الوصاية عليه، ويحكمه بقوة الحديد، فلا هو نصره وفك الحصار عنه وخفف من ألمه ولا هو قبل بحل سلمي يخفف معاناته، إلا أنه تورط ووقع على اتفاق لم يحسب عواقبه، ولكن غيره لم يفعل .... فأين الأبواق التي نادت "شاهت الوجوه وأفلحت الوجوه" وأين أصحاب الفتاوى الشرعية اليوم مما عاينوه من تأثيرات الاتفاق، فهي خففت عن الأهل في مضايا والزبداني، ولكن تبعياتها ستظهر في القريب العاجل وسيسقط كل من باع دماء وتضحيات الشعب السوري الثائر لأجل مصلحة فصيلة كان إسلامياً أم معتدلاً.
مداولات مجلس الأمن الدولي في أعقاب الضربة الأميركية على قاعدة الشعيرات، وزيارة وزير الخارجية الأميركية، ريكس تيلرسون، إلى موسكو الأسبوع الماضي، تظهر أن عناصر الحل السوري بالنسبة لموسكو لم تصبح مكتملة بعد، على الرغم من الاستنزاف الكبير على المستوى الاقتصادي، حيث تقدّر المصروفات الروسية في سورية بحوالى مليار ونصف المليار دولار شهرياً، وتزيد هذه الكلفة في حال حصول خسائر في طرف النظام، تجد روسيا نفسها مضطرةً لتعويضها، مثل الطائرات التي تم تدميرها أخيراً في مطار الشعيرات.
روسيا التي تعيش أوضاعاً اقتصادية صعبة، بسبب تراجع أسعار النفط والغاز، وتواجه عقوبات اقتصادية غربية، تتكلف على المستوى الاقتصادي في سورية أكثر من إيران، والمبالغ التي تصرفها على إدامة نظام بشار الأسد ليست في وارد التعويض قريباً، فكل ما يجري الحديث عنه، كمكاسب اقتصادية ولوجستية، سوف تجنيها من وراء تدخلها العسكري بسورية، محض حسابات بعيدة عن الواقع، فسورية دولة منهارة اقتصادياً، ونفطها وغازها لا يكفيان في الظروف العادية للاستهلاك المحلي، أما مسألة بناء قاعدة روسية في طرطوس فأشبه بنكتة، إذا عرفنا حجم القوة العسكرية الروسية، ووضعها على المستوى التقني، وقدرتها على منافسة نظيرتها الأميركية التي تنتشر في قواعد على امتداد الكرة الأرضية.
كان الروس يودون لو أن تيلرسون وصل إليهم قبل حصول الضربة، التي غيرت جدول الأعمال بالنسبة لموسكو، فالعاصمة الروسية كانت تطمح إلى ابتزاز واشنطن، وعقد صفقةٍ معها تتعلق بالحل في سورية، يقوم على شروطها التي كانت تريد فرضها على الإدارة الأميركية السابقة، وعلى رأسها الاحتفاظ ببشار الأسد، ولكن الوزير الأميركي ذهب ببرنامج عمل مختلف، وروحية غير التي كان يتحلى بها سلفه جون كيري في زياراته موسكو. ومن دون شك، بات موقف روسيا بعد الضربة أضعف منه عما قبلها، لأن الوزير الأميركي أعلن، من موسكو وبعد اجتماعين طويلين مع الرئيس فلاديمير بوتين والوزير سيرغي لافروف، أن حقبة آل الأسد في سورية شارفت على الانتهاء، وهذا ليس رأي الولايات المتحدة وحدها، بل تقف معها أوروبا والدول العربية المؤثرة وتركيا واليابان.
لم يكن من المنتظر أن توافق موسكو على عرض المقايضة الذي حمله الوزير الأميركي بهذه السرعة، وكان متوقعاً أن يتسم ردها وردود أفعالها بنوعٍ من المكابرة، كي لا تقلل من التسعيرة التي كانت تنتظرها من واشنطن، من أجل تسهيل سير قطار الحل التي تعمل أن تكون حصتها فيه كبيرة.
ومهما كانت طبيعة التكتيك الذي سوف تعتمده موسكو من الآن فصاعداً، من أجل إبقاء ورقة الأسد عالية الثمن، فإنها لم تعد قادرةً على المناورة، كما كان عليه الأمر قبل الضربة الأميركية التي وضعت قواعد جديدة للوضع السوري، وما يفسر ضعف روسيا هو تصعيدها العسكري ضد المدنيين، واستخدامها أسلحة فوسفورية عدة أيام متوالية، وذلك من أجل استدراج تنازلات من الإدارة الأميركية التي حدّدت خطوطها الحمر بالسلاح الكيميائي. ولكن، ليس في وسع روسيا أن تستمر في القتل إلى ما لا نهاية، وإذا لم تكن قادرةً على التوصل إلى أجندة للحل، سواء السياسي أو العسكري، فماذا ستفعل، هل سوف تستمر بالخسارة من دون أي أفق؟
روسيا في معضلة، وهي تعرف طريق الخروج منها، وصار واضحاً أنه ليس في وسعها تغطية الأسد إلى ما لا نهاية، وربما تدخل المسألة السورية في مرحلةٍ جديدةٍ من التصعيد، وتسجيل النقاط. ولكن، سوف ترضخ روسيا لمنطق الحل الذي يشكل ثمن رأس الأسد العقدة الرئيسية فيه.
لم تتمكّن روسيا من تحقيق أي إنجاز عسكري أو سياسي في سورية، بعد انخراطها المباشر منذ أكثر من عام ونصف عام، وليس في وسعها الاستمرار في هذا الطريق من دون أفق.
ترسم الطوائف حدودها في الإقليم بالحديد والنار والدم والتهجير. يصعد المهجرون السنة في الحافلات الخضراء في سوريا ويغادرون بيوتاً وحيوات كثيرة إلى غير رجعة. مثلهم يركب المهجرون الشيعة حافلات لا تلبث أن تستهدف بالتفجير.
التهجير المذهبي يمارسه الطرفان، وإن بتفاوت هائل في نسب الارتكاب، لصالح الميليشيات المذهبية المرعية إيرانياً.
في العراق قطع التهجير أشواطاً كبيرة جرى في خلالها أعمق عملية تغيير ديموغرافي شهدته بلاد ما بين النهرين. محافظات سنية أفرغت من أهلها كما حصل عملياً في صلاح الدين، دعك عن «التحرير» المرعب للموصل، بعد أن سلمها نوري المالكي لمن احتلها، تسليم اليد.
يخدع اللبنانيون أنفسهم أنهم بعيدون عن أهوال هذا الحريق. قليلون يربطون الاستنفار المذهبي اللبناني الراهن بالحاصل من حولهم. أقل منهم من يدرج هذا الاستنفار في السياق العام لرسم حدود المذاهب الجاري في العراق وسوريا وبشكل أو بآخر في اليمن.
لكن الحقيقة أنه بعدما أدت الطوائف اللبنانية قسطها الدموي بين 1975 و1994 (سجن الزعيم المسيحي الماروني سمير جعجع) وعادت واستأنفته عام 2005 باغتيال رفيق الحريري، ها هي تشترك في لعبة ترسيم حدود المذاهب عبر لعبة قانون الانتخاب.
الجاري بين اللبنانيين، والأدق بين نخبتهم الحاكمة، ليس نقاشاً في قانون الانتخاب بل في عقد الشراكة بينهم، وهو امتداد سياسي لحروب المذاهب والقبائل والجهات من البحرين إلى موريتانيا مروراً بالعراق وسوريا وجنوب السودان ومصر وليبيا.
فوضى الحروب والاشتباكات والارتكابات في الساحات الساخنة، تقابلها فوضى المشاريع الانتخابية المقترحة، التي تقيم فصلاً حاداً بين الوسائل والغايات. في العام يجري الحديث عن ادعاءات تحديثية باسم النسبية وأخرى تلبس لبوس الحكمة باسم حماية السلم الأهلي وتحسين شروطه. في العمق تخوض المذاهب حروبها الأهلية الباردة لتنظيم الطلاق بين المكونات وترتيب انفكاك بعضها عن بعض.
فوضى كاملة وغابة من مشاريع القوانين. سبق مثلاً للعماد ميشال عون وبعد تجربة استخدام سلاح حزب الله في الداخل اللبناني في 7 مايو (أيار) 2008، أن جعل مما يسمى قانون الانتخابات النيابية المقر العام 1960، عنواناً وحيداً وحاسماً لتصحيح التمثيل المسيحي، بل لاستعادة ما يسميه «الحقوق المسيحية»! كان قانون الستين خشبة خلاص، وصار اليوم شيطاناً رجيماً.
الوزير جبران باسيل، صهر عون والأقرب سياسياً إلى عقله، تحمس مع الاتفاق الذي صاغته الكنيسة بين القادة المسيحيين، والذي يعطي الموافقة على اعتماد النسبية، ثم ما لبث أن تراجع وصار خصماً لها يغامر حتى بحسن علاقته بحزب الله، المنادي باعتماد نسبية شاملة ضمن لبنان دائرة انتخابية واحدة.
بعدها تنبه باسيل فجأة إلى أن عدد النواب اللبنانيين رُفع بعد اتفاق الطائف من 108 إلى 128، بضغط من الوصاية السورية يومها لتأمين مقاعد لحلفاء سوريا وزيادة عدد المسيحيين ضمن الكتلة الموالية لسوريا. طرح إعادة تقليص النواب وإلغاء المقاعد الإضافية، قبل أن يفطن إلى أن أغلب النواب المسيحيين العشرة (نصف العدد المضاف بعد الطائف) ليسوا بمعايير اليوم في موقع معاداة خيارات بيئتهم. تراجع أيضاً.
حزب الله هو الآخر، الذي قاتل لإيصال عون إلى الرئاسة وما لبث أن اصطدم بكثير من خياراته لا سيما انتخابياً، سقط في فخ التناقض أيضاً. زايد على السنة في قبوله بقوانين الفيدرالية المذهبية، أي أن ينتخب كل مذهب نوابه، أو ما يعرف بالقانون الأرثوذوكسي، ثم عارض اقتراحات قوانين «عونية» فيدرالية ولكن أقل مذهبية. قبل بالتقسيم المذهبي (سني شيعي علوي…) ورفض التقسيم الطائفي (مسيحي مسلم)! عجباً. المفارقة الأكبر أن ما يرفضه اليوم الثنائي الشيعي، أي القانون الذي يتيح للطوائف أن تؤهل المرشحين عنها قبل أن يشارك عموم اللبنانيين في انتخابهم، هو ما كان اقترحه رئيس مجلس النواب في البدء، أي أن الثنائي يرفض اقتراحاً تقدم به أحد ركنيه.
تنجم هذه الفوضى عن أمور كثيرة أختصرها بثلاثة.
أولاً: تبدو اللغة السياسية اللبنانية مفعمة بالأكاذيب والمجاملات، وهو ما يؤدي إلى ما أسميه انفصال الغايات عن الوسائل. جرعة صحية من السفاهة لا بد منها ليفهم اللبنانيون على بعضهم البعض. قبل اتفاق الطائف عرَّف المسيحيون الرئيس القوي بأنه الرئيس القادر على أن يحكم المسلمين. وفق هذا المعيار يُدرج اسم الرئيسين الراحلين كميل شيمعون وسليمان فرنجية بين الأقوياء وفؤاد شهاب بين الضعفاء. الرئيس القوي بعد الطائف هو الرئيس الذي يعلن أكثر عن استعداده للفصل مع المسلمين أو الفكاك السياسي عنهم.
ثانياً: تجربة الطائف في ظل الوصاية السورية، تركت ندوباً عميقة في الوعي المسيحي نتيجة الخلل في الشراكة. ما لم يصر إلى تنقية الذاكرة والتجربة، بين العامين 1990 - 2005 ستكبر الأوهام والأكاذيب وتتضخم بعض الحقائق ويسقط بعضها الآخر.
ثالثاً: لا خلاص لأحد في ظل تغييب الموضوع الأصلي، وهو ضرب فكرة الدولة نفسها وتمييع أسس الشراكة من خلال التمادي في مسايرة ميليشيا حزب الله والتوهم أن في قدرة أحد استخدام هذه القوة لتعديل تموضعه وموقعه تجاه الآخرين.
يسمونهم في واشنطن «طاقم الراشدين» الذي يشمل «محور البالغين» axis of adults المكوّن من وزير الدفاع الجنرال جيم ماتيس، وزير الخارجية ريكس تيلرسون، ووزير الأمن الوطني الجنرال جون كيلي، يضاف إليهم كل من مستشار الأمن القومي الجنرال هربرت رايموند ماكماستر (آش آر ماكماستر)، مدير وكالة الاستخبارات المركزية مايك بومبيو، والسفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي. هؤلاء هم أركان السلطة في إدارة الرئيس دونالد ترامب ونائبه مايك بنس، بل ربما التعبير الأفضل هو أركان الدولة. هناك فاعلون آخرون في إدارة ترامب، أبرزهم فريق جاريد كوشنر صهر الرئيس المتزوج من ابنته ذات النفوذ المميز إيفانكا ترامب، وهذا الفريق يضم أصدقاء من «وول ستريت» في طليعتهم غاري كوهن ودينا حبيب باول نائبة مستشار الأمن القومي، ويواجه هذا الفريق فريق المستشار المتطرف قومياً ستيفن بانون. طاقم الأمن القومي من الراشدين استفاد من التوتر بين فريقي البيت الأبيض وشق طريقه إلى دونالد ترامب الذي بدأ في الأسابيع القليلة الماضية يتصرف كرئيس بناء على التشاور مع أركان إدارته وليس بعشوائية طوّقت أول أيامه في البيت الأبيض. السؤال المطروح هو، كيف سيؤثر جنرالات إدارة ترامب ووزير خارجيته وسفيرة الديبلوماسية الحازمة في صقل السياسة الخارجية المتماسكة، وما هي خلفية فكرهم الاستراتيجي في العلاقات مع العالم؟
الجنرال بأربع نجوم الذي يعرف هؤلاء الجنرالات عندما كان في ساحات العراق وأفغانستان والاستخبارات المركزية، ديفيد بترايوس، يصف الطاقم بأنه «استثنائي» ويقول إن تفكير أركان هذا الطاقم ليس محصوراً عسكرياً وإنما هو فكر استراتيجي مسيّس بامتياز. بترايوس، أثناء مخاطبته «مجمّع آسيا» في نيويورك، وصف نيكي هايلي بأنها «مذهلة» وهي «تقف في وجه روسيا» وتقوم بـ «تعييب الناس بأناقة». وقال عن صديقه المقرب جيم ماتيس إنه من «أروع» المفكرين الاستراتيجيين، عسكرياً وسياسياً، وأطرى بإسهاب على تيلرسون وبومبيو وكيلي وماكماستر.
بترايوس فاعل مؤثر بعمق في تفكير صنّاع السياسة الخارجية وراء الكواليس. إنه لا يتباهى أبداً بذلك، بل يحرص على التقليل من أهمية دوره غير الرسمي. إنما أفكاره التي يعبر عنها في الجلسات الخاصة والعلنية لافتة ومفيدة في عملية التعرف إلى رؤى أركان الإدارة. تصريحاته العلنية شملت قوله إن العملية العسكرية في مطار الشعيرات رداً على استخدام النظام السوري الأسلحة الكيماوية هي «شبه بروفة لفريق الأمن القومي»، والسؤال الذي يتبعها هو: كيف سينتهي الأمر؟ ماذا بعد، إلى جانب تحقيق هدف إلحاق الهزيمة بـ «داعش»؟
رأي بترايوس هو أن الهدف يجب أن يكون إنهاء النزيف وسفك الدماء. رأيه أن ضربة عسكرية واحدة، على أهميتها، لن تؤدي إلى تخويف الأسد. رأيه أن الذي يفرض الحل العسكري في سورية هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والسوري بشار الأسد بالشراكة مع قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» الإيراني والميليشيات التابعة لأمره، وعليه، يتطلب الأمر خلق «ظروف عسكرية» ذات «زخم» مواتية لقيام الولايات المتحدة بطرح مواقفها والحفاظ على مصالحها. رأيه أن سورية باتت «مفككة»، وفق التعبير الإنكليزي Humpty Dumpty الذي يعني أنه من الصعب جداً إعادة تلصيق أعضائها، أقله في الفترة المقبلة، لأن الصراع القائم في سورية سيطول إلى «أكثر من جيل». بالتالي، يتوقع أن تكون هناك –أقله على مراحل– مناطق أمنية تضمنها دول مجاورة لسورية، كتركيا والأردن.
خلاصة تفكير بترايوس نحو روسيا أنه يجب أن يكون هناك «حوار استراتيجي» معها يكون جزءاً من «فن التوصل إلى الحل». فهو يشدد على أهمية التواجد العسكري في سورية بمحدودية أعداد العسكريين على الأرض –وعددهم الآن ألف– إنما بممتلكات عسكرية استطلاعية لها قيمة مميزة في ساحة الحرب العصرية. ويقول: «استغرقنا وقتاً طويلاً قبل استعادة الزخم» ميدانياً، ومن الضروري الإبقاء عليه.
مصدر مطلّع على تفكير «طاقم الراشدين» في واشنطن لفت إلى أهمية ليس فقط أمثال الجنرال ديفيد بترايوس البارز، والجنرال ألن مكريستال قائد العمليات الخاصة الذي سبق وخاض معارك بدءاً من «درع الصحراء» إلى حرب الخليج وأفغانستان والعراق، وإنما أيضاً إلى عدد من الرجال من مرتبة «كولونيل» يتواجدون حالياً في الوزارات هم أيضاً رافقوا الجنرالات في حروب الخليج وأفغانستان والعراق وبين هؤلاء ديريك هارفي، مثلاً، وجويل رايبورن.
يقول المصدر أن جميع هؤلاء العسكريين الرفيعي المستوى الذين عملوا في ساحات الحرب العراقية والأفغانية «فهموا علاقة الأصولية الشيعية المتطرفة بالأصولية السنّية المتطرفة وتمكنوا من حل اللغز بين الاثنين». يضيف أن فكرهم يرتكز إلى انهم «تمكنوا من حل اللغز بين الأصوليين والمتطرفين واكتشفوا تورط النظام الإيراني مع النظام السوري بهدف إجهاض المشروع الأميركي في العراق».
آش آر ماكماستر، وفق المصدر، درس بعمق علاقة النظامين بالجهاديين في كل من سورية والعراق، وهذا ترك أثراً مهماً على فكره ورؤيته الاستراتيجية. أساسي أيضاً في فكره هو «مشروع العراق ومشروع أفغانستان على أساس استئصال الفساد»، وإلا فإن الأمر «كمن يسكب الماء في كوب مثقوب». يضيف المصدر أن ماكماستر مقتنع بأن لا مجال للتقدم في محاربة «القاعدة» أو «داعش» أو أي أصولية متطرفة من دون استئصال الفساد في الدول المشرّعة للإفساد مثل العراق وسورية وأفغانستان. ولذلك اختلف مع الرئيس السابق باراك أوباما وتصادم معه. فماكماستر أصر على ضرورة الاهتمام بالسياسة البعيدة المدى في جهود إصلاح الحكومة الأفغانية حينذاك بقيادة كارزاي والحكومة العراقية بقيادة نوري المالكي بعيداً من سياسة الاسترضاء، لكن أوباما اعتمد الاسترضاء قاعدة أساسية لتنفيذ هوس الانسحاب الأميركي من البلدين وهوس استرضاء إيران.
«طاقم الراشدين» يعتبر أن إيران لعبت دوماً دور المخرّب الأول والأخير للمصالح الأميركية في المنطقة، وبالذات في العراق، وهم يعرفون تفاصيل العلاقة الوطيدة بين طهران ودمشق في إضرام النار ثم عرض دور الإطفائي. هذا ما يسمى بـ «الإطفائي» المريض بمرض إضرام النار. «الجنرالات يفهمون القصة وهو ما يفسّر كراهيتهم للنظامين الإيراني والسوري»، يقول المصدر، «لأنهما شريران في عزمهما على خلق الشرخ بين السنّة والشيعة».
«لهذا، هناك إقلاع حقيقي وصادق عن فلسفة باراك أوباما» وفق قول المصدر المخضرم الذي يعتبر أن سياسة أوباما وإدارته قامت عمداً على الفتنة وإشعال الحروب المذهبية بين السُنّة والشيعة في المنطقة العربية بقيادة إيرانية. فطاقم الراشدين في إدارة ترامب يريد استئصال الأدوات الإيرانية التي تستخدمها طهران في استراتيجيتها العسكرية الخارجية لحماية النظام الثوري وتصديره، وهذا تحوّل جذري بعيداً من السياسة الأميركية في عهد باراك أوباما.
رأي المصدر المطلع هو أن قرار أركان إدارة ترامب هو توفير «الحماية» لرئيس الوزراء العراقي الحالي حيدر العبادي كي يتصرف بثقة ويستأصل الفساد ويتمكن من لعب دور الشريك الحقيقي في استعادة العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والعراق. وهذا بين أبرز ما حمله جاريد كوشنر في زيارته العراق إلى جانب «لوائح بأسماء شخصيات شيعية تريد إيران قتلها بواسطة حزب الله» وفق أحد المصادر.
هذا المصدر يقول إن أي كلام عن تفاهم أميركي– روسي حول دور إيراني في سورية ولو كان عبر ممر ومطار واحد لن يقبل به أركان إدارة ترامب، لأن أي تسهيل للترابط بين إيران و «حزب الله» مرفوض كلياً. ويضيف أن هناك الآن إصراراً على كسر قبضة «حزب الله» في أكثر من مكان بما في ذلك قبضة الحزب على الدولة اللبنانية وذلك في «العاجل القريب». لكن المصدر رفض الكشف عن الوسائل التي في بال أركان إدارة ترامب واكتفى بالقول «جميعها»، إشارة إلى الأدوات الاقتصادية، المطار، العقوبات، الجيش اللبناني، وزارة المالية، ووزارة الأمن الداخلي الأميركية. قد تكون هذه قراءة دقيقة لتفكير أركان الإدارة وقد تكون مستعجلة. الواضح أن هناك تفكيراً أميركياً في أدوات التعاطي مع كل من إيران و «حزب الله» من جهة ومع كل من حكومة حيدر العبادي وحكومة فلاديمير بوتين في كل من العراق وسورية.
هناك اليوم تفكير يتعمق يومياً بين أوساط صنع القرار الأميركية، قوامه أن مَن لا يريد الشراكة الأميركية الجدية في تحقيق هدف القضاء على «داعش»، أمامه خيار معونة أميركية. هذا الكلام موجه إلى العبادي في العراق وبوتين في سورية، ليقررا ماذا يفعلان بإيران ونفوذها في البلدين. فمقولة امتلاك الوعاء الذي تكسره شقت طريقها إلى لغة السياسة الأميركية ترغيباً بالشراكة وتحذيراً من مغبات رفضها. فأميركا متورطة بقدر ما تريد أن تتورط، أما روسيا في سورية، فإن الورطة ورطتها والمستنقع في انتظارها، ما لم تستدرك وتقرر ما هو حقاً في مصلحتها.
بقي أن دونالد ترامب لا يرسم هذه السياسات بصورة اعتباطية مغرداً فجراً أو عصراً. إنها سياسات أركان دولة في طاقم الراشدين الذين يحرص دونالد ترامب على استشارتهم ليس فقط عند اجتماعات حكومية وإنما أيضاً بصورة غير رسمية حول الفطور أو العشاء ثلاث مرات أسبوعياً. ففي واشنطن الآن إدارة جدية ترسم السياسات المتماسكة والاستراتيجيات الأمنية. رسائلها إلى إيران في كل من سورية والعراق واليمن ولبنان لها أبعاد فائقة الأهمية.
بات دونالد ترامب متساوياً مع فلاديمير بوتين في الأفعال التي يصعب التنبؤ بها. وهذا ما يجعل كلاً من الدولتين العظميين في حال استنفار وترقب لخطوات الأخرى في ميادين التنافس والصراع والخلاف على امتداد الكرة الأرضية، من سورية مروراً بأوروبا وأوكرانيا واليمن وإيران وصولاً إلى كوريا الشمالية وبحر الصين الجنوبي.
فالاستنتاج أن إدارة ترامب تسير بلا خطة أو سياسة واضحة ما زال يشغل بال أصحاب القرار في العالم، ومنه العالم العربي، على رغم أن ضربة صواريخ «توماهوك» لمطار الشعيرات رداً على استخدام النظام السوري غاز السارين في خان شيخون، ثم إلقاء «أم القنابل» على مخابئ «داعش» في أفغانستان وإرسال قطع بحرية إلى المياه الآسيوية، قد تنذر كلها بأن هذه الخطة آخذة في الاتضاح. إلا أن ما قاله نائب الرئيس الأميركي مايك بنس عن أن بلاده غادرت «استراتيجية الصبر» التي حكمت سياستها السابقة على الصعيد الدولي، لا يعني أن هناك استراتيجية بديلة باتت واضحة. وهذا ما يصعّب التنبؤ بخطوات هذه الإدارة. ولربما يشي اعتماد الغموض في شأن ما يمكن أن تُقدم عليه بأنها تقوم على الخطوات غير المتوقعة لتبني عليها ما بعدها وفقا لردود الفعل.
ولعل هذا الأسلوب أقرب إلى المنطق العسكري البراغماتي منه إلى السياسي، على رغم أن ما أقدمت عليه واشنطن إلى الآن هو منح قدراتها التفاوضية أنياباً، لتكون ديبلوماسيتها أكثر فعالية. فالرئيس الذي يصعب التنبؤ بأفعاله والذي يفتقد الخبرة في السياسة الدولية اضطر إلى مغادرة مبدأ «أميركا أولاً» في ما يخص التحديات الخارجية، لأنه يتكل على 3 جنرالات هم الذين يركن إليهم: وزير الدفاع جيمس ماتيس، مستشاره للأمن القومي هربرت ماكماستر، ووزير الأمن الداخلي جون كيلي. فهؤلاء هم الذين سبق أن تعاطوا مع الأزمات الخارجية التي تتأثر بها مصالح أميركا، في العقود الماضية، بشتى أوجهها.
قد لا يعني تغيير ترامب موقفه من الأسد أن إزاحته باتت أولوية قياساً إلى تصريحات سابقة بأن إزاحته لا تهم واشنطن، إلا أن قصف قاعدة الشعيرات أعاد طرح مصير الأسد على الطاولة، تحت عنوان التفاوض على المرحلة الانتقالية في الحكم، بالتوازي مع أولوية القضاء على «داعش» بإنهاء وجوده في الرقة، بعد الموصل.
ولا يعني استخدام واشنطن القوة في سورية ورفع عديد قواتها على الأرض السورية أنها ستدخل في صدام مع روسيا راعية الأسد. فموسكو نفسها سعت إلى حصر العمل العسكري الأميركي باستهداف قوات الأسد، حين ذكّرت بأن صواريخ «أس 300 و400» موجودة لحماية قواعدها في طرطوس وحميميم، والذي يفهم منه أنها ليست لحماية النظام، بعدما أدركت أن إبلاغها نية قصف الشعيرات قبل ساعات توخّى سحب أي جنود لها فيها، تجنباً للصدام معها.
ومن ارتدادات الضربة أن موسكو نفت علمها بالبيان الذي صدر عن غرفة العمليات المشتركة مع إيران والجيش النظامي السوري الذي يهدد واشنطن «لتجاوزها الخطوط الحمر»، وأن اتفاق وزيري خارجية البلدين في موسكو على السعي إلى حل سياسي أخذ يعدل في طاولة التفاوض في آستانة (مطلع أيار/ مايو) بحيث تتم دعوة حلفاء واشنطن العرب، السعودية وقطر إليها، إضافة إلى الأردن، بعدما اقتصرت رعاية وقف النار غير المحقق، على روسيا وتركيا وإيران. ومن الارتدادات أن الاطمئنان الأسدي إلى حيادية واشنطن إزاء حاكم دمشق تلاشى. وطبيعي أن يفقد بعض مؤيدي رأس النظام الشعور بالأمان لمعرفتهم بهشاشة إمساكه بالسلطة وانشغال المحيطين به بتكديس الثروات وتصدر اقتصاد الحرب، ولإدراكهم الدورين الروسي والإيراني في إبقائه في دمشق، مقابل التراخي الأميركي السابق حيال جرائمه. ويتساوى في ذلك أن المناطق والقوى القبلية السورية التي فضلت تفادي العداء مع النظام بدأت تتلمس الطريق إلى الخروج من الحياد مع التحضير الأميركي لقيام منطقة مستقرة (آمنة) جنوب سورية، خلال الأشهر المقبلة، انطلاقا من الأردن... لنقل نازحين من لبنان والأردن إليها.
توحي الخطوات الأميركية في بلاد الشام بأن النهج الجديد لن يؤتي نتائج سريعة، وأنه يتوخى الإفادة من تفاعلاته بدل التدخل العسكري المباشر لتسريع هذه النتائج. والتفسير المنطقي لذلك ربما يكون في تصريحات ماتيس في السعودية ووزير الخارجية ريكس تيلرسون، عن ضرورة وضع حد لزعزعة إيران الاستقرار في المنطقة.
تبدو الأولوية لمواجهة ايران في اليمن، بعد أن أقحمت الحوثيين في تهديد الملاحة في باب المندب وفي استهداف الأراضي السعودية بالصواريخ الباليستية. فهناك يمكن امتحان فعالية عودة واشنطن إلى التشديد على إنجاح الحلول السياسية، في سائر الدول.