يثير المشهد السوري الراهن الكثير من التساؤلات والاحتمالات التي تفرض ضرورة العودة لنقاش هادئ بهذا الصدد.
1- فأول ما يجب تذكره - مع التطورات الأخيرة بالضربة الأميركية ضد مطار الشعيرات، أنها أعادت التأكيد أو أعطت الانطباع بأن سورية كانت ولا تزال أحد الأبعاد الرئيسة للصراع في المنطقة، إلى الحد الذي يذكرنا ببعض ما كان يتردد في الخمسينات من القرن الماضي من أن السيطرة على سورية تعطي لصاحبها فرصة نفوذ أكبر في المنطقة - وفي الواقع أن هذا الطرح فيه قدر من المبالغة - فسورية كانت ترتبط منذ عقود بالنفوذ الروسي – بل كان من المفارقات أن انهيار الاتحاد السوفياتي كقطب دولي رئيس -لم يؤد إلى خروج روسي كامل من سورية - بل استمر الترابط والتفاهم الاستراتيجي بين البلدين في شكل جعل سورية أحد مظاهر أو بقايا الدور العالمي لروسيا أو لعله المظهر الوحيد حتى الآن، فالنفوذ الروسي في دول آسيا الإسلامية لا يختلف كثيراً عن ما تتمتع به دولة كجنوب إفريقيا في دول السادك وفي دول جنوب القارة الإفريقية في شكل خاص، أو على الأقل هو مشابه لهذا النمط من النفوذ لدولة كبرى أو متوسطة مع جيران أصغر مترابطين اقتصادياً وثقافياً. ما جعل سورية منذ البداية حالة خاصة بالنسبة لروسيا، والذي حدث بعد التدخل الروسي العميق في سورية أن العلاقة انتقلت من الترابط والتلاحم الاستراتيجي، إلى ما يؤهلها -أي سورية- لأن تكون مجالاً أكبر للنفوذ الروسي، ونقطة انطلاق محتملة لهذا النفوذ إقليمياً. وهنا أعود للمقولة التي بدأنا بها الحديث، وهي أن النفوذ والمكانة الروسيين اللذين لم يتوقفا في سورية لم يعطيا لموسكو أي فرصة حقيقية لنفوذ إقليمي شرق أوسطي أو عربي خلال هذه العقود السابقة، وقد لا يعطيانها في المستقبل حتى إذا نجحت في أن ترسخ من نفوذها في سورية.
2- إنه عبر كل مراحل الثورة ثم الحرب في سورية، كانت مفردات الصراع والتسوية في معظمها واحدة، بقاء الأسد مع استمرار النظام أو رحيل الأسد وبقاء النظام، أو رحيل الأسد والنظام معاً، توحيد المعارضة وتشرذمها، وأخيراً أيهما يجب التركيز عليه رحيل الأسد أم القضاء على التنظيمات الإرهابية المتشددة، ومن المسؤول عن ظهور هذه التنظيمات.
3- إنه لا يمكن إنكار أن مسؤولية ظهور هذه التنظيمات المتشددة – التي تتخذ من الإسلام شعاراً لها عن غير حق -أن مسؤولية بروز هذه الظاهرة تقع على عاتق كثير من الأطراف الدولية والإقليمية، فضلاً عن النظام السوري، فالمعلومات كثيرة حول تورط أطراف عدة في دعم هذه التنظيمات -في أكثر من مرحلة بتأثير وهم أنه دعم مرحلي حتى التخلص من هذا النظام المدان تاريخياً والملوث بدماء مئات الألوف من شعبه، أما مسؤولية النظام فواضحة سواء كان صحيحاً الاتهام بأنه في بعض المراحل أفسح الطريق لهذه العصابات لتغيير شكل الصراع وأبعاده، أو لأن استمراره وقسوته أثارا كثيراً من ردود الفعل المتطرفة واليائسة. وفي النهاية بصرف النظر عن المسؤولية تجاه هذه الظاهرة، فإنه لا يمكن استمرار تجاهل خطورة ما تمثله هذه الظاهرة ليس فقط سورياً وعربياً بل على البشرية كلها، وإنه لا بد من اتخاذ إجراءات حاسمة للتعامل مع هذا التهديد والخطر الوجودي.
4- إن أخطار الأزمة السورية بسبب جملة التعقيدات والتطورات المحيطة بها، قد أصبحت تمتد إلى صلب وجود الدولة والمجتمع في سورية، وكلما استمر الصراع والقتال، وما يحيط بهما من حركة للبشر باتجاه النزوح والتهجير، زادت صعوبة إنقاذ كيان الدولة في سورية، فضلاً عن استمرار النزيف البشري غير المقبول.
5- إن الضربة الأميركية أعادت مواقف الأطراف إلى بعض وليس كل منطلقاتها الأولى، فاللغة الأوروبية التي كانت قد تأثرت بالواقع الجديد الذي سببه التدخل الروسي، فقبلت الحديث عن سورية بوجود الأسد -سواء كمرحلة انتقالية أو كأمر واقع، عاد أغلبها للحديث مجدداً عن ضرورة رحيل الأسد. والأطراف العربية التي تبنت هذا الاتجاه منذ البداية أيدت من دون تردد هذه الخطوة - وعارضت الدول الحليفة والمتورطة كإيران و «حزب الله» هذه الخطوة كموقف واضح بالنسبة لها، كما عارضت تلك الدول التي ترتاب في السياسات الأميركية كالصين وبعض دول أميركا اللاتينية، وواصلت تركيا سياساتها الانتهازية التي تمارسها منذ فترة، فبعد أن دعمت «داعش»، تركت حلفاءها وسايرت روسيا بعض الوقت، ثم أيدت هذه الضربة -لتثير كثيراً من التساؤلات لحلفائها قبل أعدائها عن مدى مصداقيتها ومدى جديتها.
6- إن التقييم الدقيق لآثار هذه الضربة سيتوقف من دون شك على ما إذا كانت هناك خطوات أخرى تالية أم لا، وهنا نلاحظ أنه بينما صدرت تصريحات من مسؤولين أميركيين بما في ذلك ترامب نفسه بأنه ربما تلى هذا عمليات عسكرية أخرى، فإنه من ناحية أخرى تم تداول مواقف نسبت لبعض أعضاء الكونغرس بتأييدهم لهذه الخطوة بشرط العودة للكونغرس قبل الإقدام على خطوة تالية، وفي الواقع أن الشواهد التالية بخاصة تبين أن تأثير هذه العملية المحدود نسبياً بسبب إخطار روسيا والتعبئة العسكرية الروسية، فضلاً عن استعادة تصريحات ترامب خلال الحملة الانتخابية تشير كلها إلى عدم توقع تصعيد أميركي كبير، وأن ترامب كان في حاجة لتحويل الأنظار عن فشله في تنفيذ عدد من برامجه الانتخابية الرئيسة كما أشرنا في مقالنا السابق، وتوقعنا أنه قد يلجأ لتحركات خارجية تعويضاً عن إحباط سياساته الداخلية حتى الآن.
7- مع استبعادي تصعيداً أميركياً متواصلاً، وأن يتم الاكتفاء بهذا أو ببعض التدخلات المحدودة المتشابهة، فالمتوقع أن يتبلور هدف هذه الضربة حول مجرد إعادة التوازن للعملية السياسية بما يسمح باستيعاب الدور الأميركي في التفاعلات في شكل أكثر جدية، كما تزداد الاحتمالات أن يتم استثمار هذه الخطوة في تصعيد مخطط نحو إعادة شروط التسوية في ما يتعلق بمفردة بقاء الأسد أم رحيله، ويؤكد هذا نمط التفاعلات المحيطة بزيارة تيلرسون وزير الخارجية الأميركي لموسكو، رغم استمرار الحديث عن الخلاف بين الجانبين، وعموماً فإن هذا سيتوقف على مدى ثبات الموقف الأميركي في هذا الاتجاه، كما سيتوقف على حين بدء التراجع الحقيقي لتيارات العنف المتأسلم كلها. يبقى أن ما هو أكثر وضوحاً حتى الآن أن معاناة الشعب السوري الشقيق ستستمر، وأنه لم تتضح بعد معالم تسوية شاملة لمعاناته تشمل المفردات الأخرى التي لا تقل أهمية عن ما سبق ذكره، وهي إعادة الإعمار، وعودة النازحين والمهجرين، وتطبيق العدالة الانتقالية، وشروط كل هذه الأبعاد بما في ذلك إنهاء كل مظاهر الظلم والتجاوزات بحق هذا الشعب العربي.
أخيراً تحرك المجتمع الدولي. يبدو أن مناظر موت الأطفال هز العالم بالدرجة الأولى. في أميركا قال سيناتور أميركي لقد ولى عهد اللاحساب وعندنا اليوم رئيس. صدق فأوباما كان متردداً وإن كان يتقن الخطابة اللفظية. بالطبع بعد الضربة تعددت التعليقات، ومن يسمع حوار القوم وخصامهم وتهاترهم في مجلس الأمن، الذي يعطل ولادة العدل في كل مرة، لا يستطيع أن يمسك نفسه عن الضحك. يقول المثل شر البلية ما يضحك. ولكن يتقدم سؤالان: هل مسموح القتل بالبراميل، وممنوع بغاز الخردل والسارين؟ والثاني هل هي صفعة تحذير؟ أم هي بداية علاج حاسم؟
من التاريخ الأميركي نذكر قصة «مكنامارا»، وزير الدفاع الأميركي أيام كيندي، في أزمة كوبا. قال الرجل وقد اشتعل الرأس شيباً: إننا كنا على شفا حفرة من النار النووية، فالغواصات الروسية الأربع التي كانت تحوم حول جزيرة كوبا مثل سمك القرش، كانت تحمل الصواريخ النووية في بطنها، ومعها الأمر بالضرب إن هوجمت. قال لم تكن ثمة خطوط اتصال حمراء بين العملاقين، ونجونا مثل قصة الروليت الروسية!
ومضى بي الخيال في سيناريو مختلف لفضح ممارسات النظام. فهناك أيضاً احتمال ترتيب بين أميركا وحلفائها، أن يتم شراء ضابط من نظام الأسد، بحقيبة محشوة بمبلغ محترم من الدولارات الخضراء، يشتري بها فيلا في «ماربيلا» وتؤمن أميركا له هروبه! يقوم هذا الضابط العقائدي في حفلة إلقاء البراميل، أن يكون معها برميل مليء بغاز الخردل. وخاصة أن الروس زعموا أنهم سحبوا كل المخزون الكيماوي من ترسانة الأسد.
هو في الوقت نفسه اختبار لإدارة ترامب، هل تكون إدارة أوباما أخرى جديدة؟ سيكون هذا العمل مبرراً أمام العالم أن يتم صفع هذا المتنمر على إرادة أسياد العالم، كما حصل من قبل مع صدام فتم تأديبه ومسكه ومحاكمته ثم شنقه بيد أبناء جلدته، وهو ما سيحصل لبشار، مع فارق أن الأسد حارس جيد للحدود الإسرائيلية، فقد يشفع له هذا في الهروب، إلى قم ليلبس العمامة السوداء.
قال لي صديق مغربي، هناك أمران للتعليق: الأول الحسرة على وضع العالم العربي، وأننا نفرح بالخلاص على يد أميركي.
والأمر الثاني كيف سيتصرف نظام الأسد في المقابل؟ وكيف سيتصرف ترامب الذي تحدث إلى العالم بلغة إنسانية جداً وطلب العون من الله في حملته.
وثمة أسئلة أخرى كثيرة سيجيب عنها الزمن، طال الأمر أم قصر! هل سيسلح الروس الأسد بأنياب دفاع وعض أشد قوة؟ وهل سيقوم ترامب بتزويد المعارضة بأسلحة لإسقاط الطائرات؟ وأخيراً هل ستقع المواجهة بين الروس وترامب، فنكون على حافة حرب عالمية ثالثة مخيفة؟ تماماً كما هي في الأساطير.
حالياً على الأرض السورية يقاتل الكرد والعرب والعجم والروس والأميركيون والأتراك ومليشيات «الحقد الشعبي» ومقاتلو «النصرة» و«القاعدة» و«داعش» بعشرات الآلاف من المقاتلين. وتتعقد المسألة السورية كل يوم، وكان حلها في البداية أسهل بكثير. مثل الأمراض المختلطة، ومضاعفات العمليات الجراحية، فننتقل من ورطة إلى ورطة أبشع. فهل تخضع سوريا لقاعدة: اشتدي أزمة تنفرجي؟ أم أنها نار تأكل الجميع وتلتهب حرب عالمية في المنطقة؟
مرة أخرى قال صديقي المغربي، وهو يحاورني، في النهاية ماذا تتوقع؟ قلت: الأقرب هو بداية الحل، لأن المواجهة تعني الحرب النووية، وهذا يقول إنها نهاية العالم، والكل لا يريدها نهائياً وبشكل لا ريب فيه، فلا أحد يتمنى الفناء أبداً. والأقرب أن يركع نظام الأسد، ويتخلى عن المواجهة، وتبدأ مفاوضات التخلص من سرطان «البعث» السوري، كما تخلص العراق من «البعث» العراقي، فهما فردتا حذاء ووجهان لعملة واحدة. ومع هذا فحماقات البشر لا نهاية لها.
جاء في الأثر أن الفرات حيث المعارك اليوم، ويقال إن «داعش» قد جهزته للتفجير، يحسر عن كنز من ذهب يقتتل عليه الناس، فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون، كلهم يقول هذا لي، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً!
كان اليسار الأمريكي، أو ما يمكن أن يطلق عليه "أيتام أوباما" في حالة نشوة كبيرة، فقد استطاع إعلام اليسار أن يرسم صورة قاتمة للرئيس الجديد، دونالد ترمب، وهي صورة مليئة بالمغالطات، والتسريبات، والسيناريوهات المتخيلة، وقد ساهمت بعض أخطاء ترمب، وتفاعله مع استفزازات اليسار في رسم تلك الصورة، وكانت أقوى ورقة في يد خصوم ترمب هي التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، والتي يصر اليسار على أنه حدث لخدمة ترمب، بل وبتنسيق معه، ومع أقرب مستشاريه، كما كان لتعجل ترمب في إصدار الأمر التنفيذي، بمنع مواطني سبع دول من دخول أمريكا، دور في تفاقم أزمته، خصوصاً بعدما تدخل القضاء الفيدرالي، وأصدر أمره بإيقاف هذا الأمر، ولكنه فاجأ الجميع، خصوصاً خصومه السياسيين، عندما أعطى أوامره، كقائد أعلى للقوات المسلحة، بضرب النظام السوري ضربة تأديبة، كانت رمزيتها كبيرة جداً.
اليسار الأمريكي صعق من هذا التحرك العسكري لترمب، لأنه كان يريد له أن يستمر رئيساً بلا فاعلية، ليتسنى له توجيه الضربات ضده، وكانت أقسى ضربة "ترمبية" لليسار هي أن تحركه العسكري ضد نظام سوريا نسف كل ادعاءات خصومه عن علاقته الودية مع روسيا بوتين، فصواريخ توماهوك المرعبة على قاعدة الشعيرات كانت صفعة قوية لروسيا، التي تحتل سوريا فعلياً، قبل أن تكون ضربة تأديبية لنظام بشار، وقد أدرك خصوم ترمب ذلك، فما كان منهم إلا اختلاق القصص "المؤامراتية" بخصوص الضربة، ولم أكن أتوقع أن يسقط معلق سياسي أمريكي كبير، مثل لورانس اودانيل، بمثل هذا الوحل، ولكن يبدو أن أيدولوجيته اليسارية تغلبت على المنطق، جراء نسف ترمب لنظريته بتورط ترمب في علاقة مشبوهة مع الروس.
تقول نظرية لورانس اودانيل المتخيلة إن ضربة ترمب العسكرية لسوريا قد تكون جراء اتفاق بينه وبين بوتين، وذلك لصرف الأنظار عن المشاكل التي يواجهها ترمب في الداخل الأمريكي، وعن التحقيقات التي يجريها الكونجرس، وأجهزة المخابرات، حول علاقته بروسيا، وهو الأمر الذي حدث، عندما تحول حديث وسائل الإعلام الأمريكية إلى القرار الجريء بضرب نظام بشار، عوضاً عن الحديث عن مشاكل إدارة ترمب، وهذا السيناريو لم يكن مقبولاً من معلق مبتدئ، ناهيك أن يصدر عن معلق له وزنه مثل اودانيل، ولكنها الأيدولوجيا التي تعمي الأبصار، وسيناريو اودانيل يشبه سيناريوهات بعض البسطاء، الذين يقنعون أنفسهم دوماً بوجود مؤامرة غربية ضد العرب والمسلمين، ولم يكن اودانيل وحده في هذا السبيل، فهناك معلقون غيره وقعوا في ذات المطب، وفات عليهم أن زعيماً قومياً طموحاً مثل بوتين، لا يمكن أن يسمح بمثل هذا السيناريو أن يحدث، والذي سيظهره بمظهر الضعيف، وهو الزعيم الذي يطمح بإعادة الأمجاد الروسية، ومناكفة الإمبراطورية الأمريكية، التي ساهمت في سقوط الاتحاد السوفييتي، وسنواصل الحديث عن كل ذلك، فالأحداث لا تزال في بدايتها!
منذ بدء تدخلها العسكري المباشر في سورية، نهاية سبتمبر/ أيلول 2015، اتسم سلوك روسيا بكثير من العنجهية واستعراض القوة، بما يشي بأنها جاءت إلى سورية بعد أن اطمأنت إلى أنها ساحةٌ لا أطماع لأحد من اللاعبين الدوليين الكبار فيها، وأن تدخلها العسكري مرحبٌ به من الأميركيين والأوروبيين، وإن كانت مواقفهم المعلنة تقول عكس ذلك. خصوصًا أنها راعت ألّا تصطدم بمصالح الغرب، ولا تركيا، في سورية، بل قدّمت نفسها بسلوكها على الأرض ضامناً لتلك المصالح، فأتاحت للأتراك قضم حصتهم في الشمال، وبنت علاقات جيدة مع الأكراد، حلفاء الأميركان، ونسّقت في عملياتها معهم، ولم تهدّد حرية الطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية، وأبعدت قواتها عن مسرح العمليات الإسرائيلي- الأميركي- العربي في الجنوب، وحدّت من نفوذ إيران وأدواتها، وضمنت، في الوقت عينه، بقاء النظام، بعد أن كان على وشك السقوط قبل تدخلها، والذي يبدو أن الغرب لا يرغب بسقوطه، أو على الأقل لا يرغب أن يكون سقوطه غير منظم ومحسوب.
إلا أن الضربة الأميركية الأخيرة لقاعدة الشعيرات الجوية أربكت الروس بشكل واضح، وجاء الارتباك الروسي ليشي بأن تغيّرًا في الحسابات الأميركية والغربية كان وراء الضربة، لا مجرد رد فعل على التفجير الكيميائي في خان شيخون، ما يجعل موقفهم في سورية بالغ التعقيد، وعلى حافة الورطة. ومن أهم مظاهر الارتباك الروسي:
أولاً، بعد الهجوم الكيميائي على خان شيخون مباشرة، قال المتحدّث باسم وزارة الدفاع الروسية، اللواء إيغور كوناشينكوف، إنه "وفقا لوسائل الرصد الجوية الروسية، قصفت القوات الجوية السورية في الساعة 11.30 و12 ظهراً بالتوقيت المحلي أمس، مستودعًا ضخمًا للذخيرة تابعًا للإرهابيين في الأطراف الشرقية لبلدة خان شيخون في ريف إدلب، وكان المستودع يحوي ذخيرة ومعدات، فضلاً عن العثور على مصنع محلي لإنتاج قنابل محشوة بمواد سامة". وأضاف أن "المستودع احتوى على ذخائر أسلحة كيميائية تم نقلها إلى البلاد من العراق". وفي نهاية بيانه، أكد أن "المعلومات الواردة أعلاه موضوعية تمامًا وموثوق بها". وهي رواية صادق النظام السوري عليها على لسان وزير خارجيته، وليد المعلم.
وفي الثاني عشر من إبريل/ نيسان الجاري، قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في حديث لقناة مير الروسية: "هنالك فرضيات عديدة بخصوص الكيميائي في خان شيخون، منها ما يرجّح أن تكون مسرحية أو أن الطيران السوري قصف ورشة لصناعة المواد السامة". أي أن "المعلومات الموضوعية تمامًا وموثوق بها"، بحسب وزارة الدفاع الروسية، قبل الضربة الأميركية أضحت فرضية من بين فرضيات، بحسب الرئيس الروسي بعد الضربة.
ثانيًا، تعدّد الروايات حول عدم اعتراض أنظمة الدفاع الجوي الروسي صواريخ توماهوك الأميركية. في البدء نقلت وسائل إعلام روسية عن محللين روس أن روسيا لم ترغب في اعتراض الصواريخ الأميركية تجنبًا لتطور الأمور نحو حرب مع الولايات المتحدة، بعد ذلك قالوا إن "توماهوك" عبرت الأجواء اللبنانية، ولا تستطيع الدفاعات الروسية التصدّي للصواريخ الأميركية فوق لبنان، لعدم وجود اتفاق مع هذا البلد، يسمح للروس بالعمل في أجوائه، وكأن حالات الدفاع القاهرة تتطلب تفاهمًا واتفاقيات دولية، ثم أين كانت حساسية الروس نحو السيادة الوطنية للبنان، عندما أغلقوا معظم مجاله الجوي ثلاثة أيام، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، بحجة قيامهم بمناورات عسكرية في البحر المتوسط؟
ثالثًا، بعد قصف مطار الشعيرات، نشرت وسائل إعلام النظام وإيران وحزب الله بياناً لما سمتها "غرفة العمليات المشتركة لروسيا وإيران والقوات الرديفة"، تتوعد فيه بالرد على أي عدوان أميركي جديد (كأن الوجود العسكري الأميركي على الأرض في شمال شرق سورية ليس عدواناً)، لم ينف الروس البيان، لكنهم ردّوا عليه وكذّبوه ضمنياً بتصريح لرئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي، فيكتور أوزيروف، قال فيه إن "قواتنا المسلحة منتشرة في سورية من أجل محاربة الإرهاب، وليس لحماية سورية من التهديدات الخارجية، وليست لدينا مثل هذه المهمة. ولذا لن نقوم باعتراض شيء".
ماذا بعد الارتباك الروسي؟
جاءت الهجمة الصاروخية الأميركية إعلاناً عن مرحلة جديدة، تتدخل فيها الولايات المتحدة مباشرة في الصراع المركزي على من يحكم سورية، وليس فقط في الصراع الهامشي ضد "داعش"، والذي يُتَّخذ ذريعة من كل الأطراف لإدامة الأزمة ومد وتأمين مناطق نفوذها داخل البلد المنكوب.
ويبدو أن الضربة الأميركية حققت هدفها الأساسي غير المعلن، وهو تحجيم الروس، وإفهامهم أن الوقت يمر، وهو ليس في صالحهم، وعليهم التجاوب مع المبادئ الغربية للحل.
وفي هذا السياق، حملت الضربة الأميركية تهديدًا ضمنيًا للوجود العسكري الروسي نفسه في سورية، لم يكن بالضربة الصاروخية بحد ذاتها، بل بعدد الصواريخ الكبير الذي تم إطلاقه. 59 صاروخًا في موجة واحدة كافية لإرباك أي نظام دفاع جوي، مهما كان مستوى تطوره، وجاء إطلاق هذا العدد الكبير استعراضًا للقوة النارية الهائلة للولايات المتحدة في الإقليم، وتذكيرًا للروس بها. يكفي أن نعلم أن القطعة الحربية الأهم في مجموعات السفن الحربية الروسية المرابطة قبالة سواحل روسيا في البحر المتوسط، الفرقاطة الأميرال غريغوروفيتش، تمتلك ثماني حاويات فقط لصواريخ كروز الروسية كاليبر، بينما الرشقة الصاروخية الأميركية جاءت من مدمرة أميركية واحدة هي "يو إس إس بورتر"، وهي واحدة من بين 32 قطعة حربية بحرية ضمن الأسطول السادس الأميركي المرابط في المتوسط بشكل دائم، والذي يشتمل على حاملتي طائرات و175 طائرة، ناهيك عن قدرات باقي دول حلف الأطلسي المتوسطية.
الآن، وفي ظل هذا الواقع المتغير، يبدو أن الروس في مأزق، عبّرت عنه حالة الإرباك في التعاطي مع القصف الأميركي، والمخرج منه بتقديمهم تنازلاتٍ قد يكون منها القبول بحل وفق الشروط الغربية، وهو أمر خطير، فعلى الرغم من كل الرفض والإدانة للتدخل الروسي في سورية، إلا أنه يجب الاعتراف بأنهم الطرف الوحيد الذي ظل ينادي بحل سياسي، يضمن وحدة سورية وسيادة الدولة المركزية الكاملة. أما الغرب وحلفاؤه الإقليميون فقد أعطوا إشاراتٍ كثيرة حول قبول مبدأ الفدرلة، أو المحاصَصَة الطائفية، في نظام الحكم بعد الحل وحتى التقسيم، وقدّم حلفاء النظام الإقليميون مثل تلك الإشارات بدورهم، ويمكن مراجعة تصريحين لنائب أمين عام حزب الله، نعيم قاسم، عن إمكانية التقسيم، الثاني نهاية مارس/ آذار الماضي، والأول في أغسطس/ آب 2016.
من هنا، وبشيء من الاستطراد خارج عنوان هذا المقال، مِن المُلِح التأكيد على أن تهليل بعض السوريين والعرب للتدخل الأميركي العسكري ساذج وأرعن، ويدل على ضعف قدرات التعلم لدى هؤلاء. هذا إن افترضنا حسن النيات. الأميركان لا تعنيهم بشيء مصالح الشعب السوري بدولة ديمقراطية موحدة سيدة، فمصالحهم في سورية، وفي مقدمتها ضمان أمن إسرائيل الدائم، تتعارض مع هذا. على من ينتظر الخلاص في احتلال أميركي لسورية أن يشيح بعينه شرقًا نحو العراق، ليرى أين أوصل التدخل العسكري الأميركي هذا البلد العربي. إن حاضر العراق اليوم هو مستقبل سورية إن غزتها القوات الأميركية، وربما أسوأ بمراحل.
صحيح أنّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لم يقم إلى الآن بإعادة النظر في الاتفاقية النووية الإيرانية التي تمّ إقرارها في عهد الإدارة الأميركية السابقة، وشكّلت في حينها تحولاً كبيراً وتاريخياً للمقاربة الأميركية تجاه المنطقة العربية، منذ العام 1979. لكن الإدارة الأميركية الجديدة تقوم بما هو أكثر من ذلك، بهدم مقاربة الرئيس السابق باراك أوباما تجاه إيران، وإعادة تعريفها بوصفها خطراً وعدوا للولايات المتحدة الأميركية، وجعل مواجهة نفوذها ضمن أولويات الإدارة الجديدة.
هذا التصوّر الجديد واضح تماماً فيما يتعلق بسورية، فالإدارة الأميركية أعادت تعريف أهدافها لتصبح، بدلاً من محاربة داعش وهزيمتها (كما انتهت الإدارة السابقة) ثلاثة؛ هزيمة داعش، وفي الوقت نفسه تحجيم دور إيران، ومنعها من إقامة مجال حيوي يمتد إلى البحر المتوسط، وثالثاً إنهاء حكم بشار الأسد.
تقتضي مثل هذه الأهداف، كما ذكرنا في المقال السابق ("العربي الجديد" 9/4/2017)، عملياً قلب قواعد اللعبة في سورية، بل في المنطقة، والدخول في مواجهةٍ مفتوحةٍ مع إيران التي دفعت كلفة كبيرة للوصول إلى هذا النفوذ المتنامي في سورية، ودعمت الأسد، وماضية في الطريق إلى إقامة "سورية المفيدة".
لو فرضنا، جدلاً، وهذا مستبعدٌ تماماً، أنّ الإدارة الأميركية نجحت، فعلياً، في تفكيك تحالف الروس مع الإيرانيين خلال الفترة المقبلة، فهل ستكون قادرةً على هزيمة النفوذ الإيراني، وتمكين الأطراف الأخرى في سورية من تضييق الخناق على بشار الأسد، وإخراجه من الحكم، وتحجيم نفوذ إيران في سورية؟
المسألة أكثر تعقيداً من هذا التبسيط. لكن، مع المواقف الأميركية الجديدة، دخل الصراع السوري منعرجاً جديداً، يعتمد أولاً على موقف الروس، وهو مهم وأساسي في دعم النظام السوري، وثانياً على رد فعل الإيرانيين على المواقف الأميركية الجديدة، فيما إذا كانوا سيكتفون بإعادة خلط الأوراق في سورية أم سيوّسعون المتاعب الأميركية لتصل إلى العراق، وتهديد المصالح الأميركية هناك.
أيّاً كان الأمر، فإنّ من المهم إدراكه أنّ الإيرانيين يمتلكون اليوم شبكةً عريضةً وكبيرةً من التحالفات الإقليمية والداخلية في كل من سورية والعراق، ودول عربية أخرى، ليس من السهل تدميرها أو إضعافها، ويقفون على الأرض عسكرياً بقوة، عبر الأذرع العسكرية للحرس الثوري الإيراني في المنطقة، فيلق القدس، والمليشيات الشيعية العراقية، وحزب الله، والمليشيات التي تمّ تشكيلها في سورية، وأصبحت تحت الوصاية العملية الإيرانية.
لن يترك الإيرانيون الأميركيين يهدمون ما أنجزوه من نفوذٍ كبير خلال الأعوام الماضية من الأحداث في سورية، وبعد أن دفعوا كلفةً كبيرةً عسكرياً ومالياً. لذلك، لن تكون المواجهة مع إيران سهلةً، ولا في متناول اليد، من الرئيس الأميركي الجديد.
قد لا تظهر على المدى القصير نتائج وعلامات مباشرة وواضحة للمواجهة الأميركية- الإيرانية في سورية، خصوصا إذا فشل الأميركيون في إبعاد الروس عن طهران، فستركّز إدارة ترامب على بناء نفوذ داخلي وإقليمي في سورية، وتعزيز وجودها العسكري، سواء مباشرة في بعض القواعد العسكرية، وتدشين قواعد جديدة، أو غير المباشرة عبر التحالف مع الأكراد والقوى العشائرية السورية في الجنوب، وربما تحاول الإدارة الأميركية تعزيز ذلك عبر تحالفٍ مصغّر، يضم دولاً عربية وغربية تشارك الأجندة الأميركية.
لكن، على المدى المتوسط، فإنّ الصراع على "تركة داعش" سيظهر جلياً في المشهد السوري، فهنالك معارك الرقّة وريفها وريف حلب، ودير الزور وريفها وبادية الشام، حيث انحاز عدد كبير من عناصر "داعش"، في محاولة لإعادة بناء قوتهم في الصحراء السورية الممتدة.
بكلمة؛ لا تزال هنالك فجوة واسعة بين التحولات الأميركية الجديدة على صعيد الأهداف، وإمكانية تحقيقها وتنفيذها على صعيد الخطط الواقعية، والواقع الأكثر تعقيداً وتشابكاً بين مصالح الأميركان والروس والإيرانيين والأتراك والأكراد والعرب.
بلغت الرحلة محطتها الأخيرة، فالوضع الدولي لم يعد طوع بنان فلاديمير بوتين، زعيم روسيا الذي يرجّح أن يعجز عن إنقاذ الأسد، بعد الضربة الأميركية ضد مطار الشعيرات عقاباً للنظام على استخدام السلاح الكيماوي ضد أهالي بلدة خان شيخون، وبعد ما كشفته من حقائق حول محدودية قدرة روسيا على إنجاز هذه المهمة التي تبدو شبه مستحيلة، وصار على بوتين اتخاذ قرارٍ على درجة قصوى من الأهمية بالنسبة لبلاده ولسورية والعالم، يتعلق بخيارٍ لا يترك له غير أحد بديلين: الانفصال عن سفاح دمشق، والسعي إلى تسويةٍ متوازنةٍ للصراع على سورية وفيها. يحافظ بواسطتها على مصالح بلاده، بموافقة من المعارضة السورية، لأن التسوية ستستجيب لحقوق شعبها ومطالبه، وإلا فالاكتفاء بمراقبة الأسد وهو يغرق، وبرؤية روسيا وهي تغرق معه، من دون أن يكون باستطاعته فعل أي شيء له ولبلاده، فيكون عندئذٍ كمن أخبرنا شكسبير أنه ذهب إلى قص صوف غيره، فعاد وقد جزّ وبره.
منذ الضربة الصاروخية الأميركية، يحاول بوتين التكيف بطرق متنوعة مع نتائجها التي يعرف، أكثر من أي أحد آخر، كم أظهرت وضعه على حقيقته، ويعمل لإجراء تحول في دور جيشه، ينقله من طرفٍ يخوض الحرب بقواه الذاتية والخاصة إلى جهةٍ تحارب بالواسطة: من خلال إيران ومرتزقتها وجيش الأسد الذي قرّر تزويده بأنواع من الأسلحة يعتقد أنها ستمكّنه من الرد على أميركا في أثناء الفترة الضرورية لإقناعها بأن الحسم لن يكون رهن قرارٍ يتخذه البيت الأبيض بمفرده. بقول آخر: بينما تنتقل واشنطن إلى الانخراط المباشر في الحرب، بعد أن كانت تخوضها بالواسطة وبنصف قلب، تشير تدابير الكرملين إلى أنه سيعتمد، من اليوم فصاعداً، أسلوب الحرب غير المباشرة، وسيلجأ حتى إلى تنظيمات الارهاب التابعة لإيران، ليطيل أمد الحرب، ويضمن أن لا تكون كل ضربةٍ يتلقاها النظام على الصعيدين، العسكري والسياسي، صفعة شخصية له ولجيشه، ولا تغامر قواته بالصدام مع جيش اليانكي.
... وكان بوتين قد أعلن أن معركته ضد السوريين ستحسم خلال ثلاثة أشهر، أو ستة أشهر على أبعد تقدير، وظن أن واشنطن ستحافظ على سياساتها الانكفائية واللحاقية في الشأن السوري، الأمر الذي سيمكّنه من الانفراد بالموقع السوري، وبالقضاء على الثورة، وإنقاذ الأسد، فإن حصل وأفاقت واشنطن من غيبوبتها، وجدت نفسها أمام واقعٍ لا تستطيع تغيير مفرداته، فلا يبقى لها، عندئذ، غير الانصياع لما يريده سيد العالم الجديد، الرئيس بوتين، الذي سيحسم بهذه النتيجة الصراع، وسيفوز بالضربة القاضية على خصمه الصغير: شعب سورية، والكبير: أميركا، الجهة التي ستجد نفسها مرغمةً على تقديم تنازلاتٍ لطالما طالبها بتقديمها، في المجال الدولي، كما في أوكرانيا والقرم وشرق أوروبا.
فشلت حسابات بوتين السورية، وها هو يواجه التدخل الأميركي، فلا يرى بدّاً من إحداث نقلة تراجعية في تكتيكه العسكري، تمكّنه من خوض حربٍ غير مباشرة بالتعاون مع إيران والأسد والمرتزقة الطائفيين القادمين من عوالم مجتمعاتهم السفلية، عله يدخل الصراع في مديات زمنية طويلة، تتورّط أميركا خلالها في حربٍ ينسى هو خلالها ما ألحقته بجيشه من خسائر كبيرة، بلغت 172 قتيلا وجريحاً بين يومي 1 و19 فبراير/ شباط الماضي في تدمر وحدها.
من المستبعد أن تصح حسبة بوتين، فالأميركيون يتقدّمون لخوض حربهم المباشرة في سورية، وقد جعلوا هدفهم إطاحة بشار الأسد، لاعتقادهم الصحيح مائة بالمائة أن الحرب ضد الإرهاب لن تنجح ما دام هو في السلطة، فماذا سيفعل الكرملين حيال سياسةٍ كهذه، تبدو أميركا مصممةً على انتهاجها في المستقبل القريب؟ وهل سينجح في حماية دوره السوري عبر حربٍ بالواسطة، إن كان قد أوقع نفسه في الفخ السوري بقوى جيشه المباشرة؟
ويبقى السؤال المهم: هل تبلغ الحماقة ببوتين حداً يدفعه إلى الغرق مع الأسد، أم يتخلى عنه ويعمل لتسويةٍ سوريةٍ يحصل بواسطتها على ما تقدمه في العادة التسويات العادلة لأطراف تصارعت، ثم أقنعتها التطورات أن أفضل انتصار تحققه هو الحل الوسط الذي يخدم جميع أطرافه؟
عروض دسمة، ومبادرات سياسية متتالية، واتفاقات فوق الطاولة وتحتها لا يعلم بها إلا من حضرها، بالتزامن مع قصف مستمر وممنهج تشنه الطائرات التي تحلق في سماء سوريا؛ للضغط على القاعدة الشعبية وجبرها بقبول التسويات السياسية والمشاريع المستوردة.
تعقد صفقات التسوية في دهاليز مظلمة، يوقعها المجاهيل برعاية دول حليفة ومؤثرة في قرار تلك الفصائل المسيطرة على الأرض، والتي تنفذ بنود الاتفاق المتشعبة بتأن، وتحت نظر ذلك الشعب المقموع دون أن يحرك ساكنا، لانه مشغول بحفظ نفسه وأهله عن أهم القضايا مثل المال والوطن.
عندما تكون النفس مهددة بالقتل تشل كل الحواس، وتخمد كل التطلعات، فلا تحليل ينفع، ولا مقال يقف في وجه الشلال البشري المندفع.
هناك يتحول الناس لذرات بشرية صغيرة، يدفعها الخوف لتتراكم بشكل طائفي، يتوزع على بقع محددة من الأرض السورية، فتستيقظ البلاد من سكرات الحرب المرعبة، لتجد نفسها مقسمة وضعيفة تفتقد لأدنى مقومات الحياة.
سمع الجميع باتفاق البلدات الأربع “كفريا والفوعة ومضايا والزبداني”. وشاهدوا أمس عبور قوافل الشيعة من الشمال إلى الجنوب، وقوافل السنة من الجنوب إلى الشمال.
رغم أن جميع الحافلات وصلت إلى وجهتها سالمة إلا أن من الصعب معرفة ما حدث خلف الكواليس! ومن هي الجهة الضعيفة في الصفقة التي تنازلت للأخرى؟
وما هي الضغوط التي مورست عليها؟
في ذات الوقت تردنا أخبار مشابهة من ريف حلب الشمالي، تردد أصوات تدعو قوات سوريا الديمقراطية للانسحاب من الشمال وتسليم البلدات للجيش الحر بغير قتال، تحت ضغوط أمريكية تركية، الرافضة للمشروع الكردي في الشمال السوري.
يرفض القائمون على اتفاق البلدات الأربع تهمة الموافقة على التهجير ، وتفريغ مناطق أهل السنة، لأن عدد من يريد الخروج هو 3500 شخص، من المقاتلين والمطلوبون للنظام، ولم يتخذوا هذا القرار بالخروج من بلدهم إلا بعدما ضاقت بهم السبل، وانعدمت سبل الحياة ووسائل الدفاع عن النفس.
وذهبوا للدفاع عن الاتفاق بما فيه من بنود كوقف إطلاق النار في البلدات المشمولة في الاتفاق، بما فيه القصف الجوي والمدفعي، وإخراج الحالات الطبية الحرجة، وإدخال الإغاثات العاجلة للمناطق المحاصرة، بالإضافة لإخراج 1500 أسير وأسيرة أثناء تنفيذ بنود الاتفاق وبعضهم من البلدات المحيطة بكفريا والفوعة، إضافة إلى إخلاء الموجودين في البلدات الأربع وجبل بلودان بريف العاصمة كذلك، ويتم ذلك على مرحلتين، حيث يخرج في الدفعة الأولى 8 آلاف من كفريا والفوعة بينهم 2000 مقاتل، ويخرج حوالي الـ3200 شخص من مضايا والزبداني وجبل بلودان إلى إدلب؛ وبعد 60 يوم من المرحلة الأولى تُنفذ المرحلة الثانية بإجلاء ما تبقى من كفريا والفوعة، بالتزامن مع ذلك يخرج حوالي الـ1000 من مخيم اليرموك إلى الشمال السوري، وأثناء تنفيذ الاتفاق يطلق النظام المجرم سراح الأسرى على دفعات، على أن يكون ثلثهم من ساكني المناطق المحررة.
تأتي تلك الصفقات بالتزامن مع التلويح بإقامة مناطق آمنة في سوريا بعد الهجوم بالغاز الكيميائي على بلدة خان شيخون، وهي المناطق التي سماها وزير خارجية أمريكا “ريكس تيلرسون”: «مناطق استقرار مؤقتة لمساعدة اللاجئين في العودة إلى ديارهم».
هذه المناطق المعقدة التي يعارض الروس إنشائها، ويسعى الأتراك لتحقيقها، والتي يصعب حمايتها وتمويلها، وستكون هذه المناطق كالكثبان الرملية المتحركة بيد الداعم والدول ذات النفوذ في المنطقة.
مما سبق يظهر كيف تطغى المصالح الدولية على العامل الإنساني، واستخدامه لتحقيق خطط مستقبلية تؤدي في النهاية للتقسيم، بعد إغلاق كل الأبواب في وجه الشعب المسكين.
للمرة الثامنة تعطل روسيا قرارات مجلس الأمن التي تسعى إلى وضع نهاية لعذابات السوريين، بل إنها هي التي عطلت القرار 2254 الذي صاغته بنفسها وقدمته إلى مجلس الأمن، حين وجدت أن المعارضة مصممة على انتقال سياسي حقيقي لا دور للأسد فيه. وهي تقول اليوم إنها تدعم الحل السياسي مع أن طائراتها لم تتوقف لحظة عن قصف المدنيين وعن تهديم المدن والقرى السورية وعن هدم مؤسسات الدولة التي تدعي الحرص عليها. وهي المسؤولة عن فشل اتفاقية وقف الأعمال العدائية التي أبرمتها مع الولايات المتحدة وقد اخترقها النظام نحو أربعة آلاف اختراق، وهي المسؤولة عن فشل لقاءات أستانة لأنها الضامن للنظام نظرياً، ولكنها أطلقت يده في تهجير المواطنين وفي متابعة قصفهم حتى بالكيماوي.
وروسيا التي أنقذت النظام بعد جريمته الكبرى في الغوطة، وأقنعت المجتمع الدولي بالاكتفاء بإلقاء القبض على الأسلحة الكيماوية مع إعفاء القاتل من أية مساءلة، بل مع السماح له بمتابعة القتل والتدمير، تعود إلى محاولة إنقاذه بعد مجزرة خان شيخون، وهي تنكر مسؤوليته مع أنها تعلم أن ما صيغ من تلفيق حول وجود مصنع أسلحة كيماوية فجرتها طائرات النظام يدعو إلى السخرية، فلا يوجد عاقل سيقتنع بأن أهل خان شيخون يخزنون غاز السارين في بيوتهم أو في غرف نومهم، أو يتركون أولادهم يلعبون بعبوات كيماوية قاتلة!
ولولا خوف روسيا من افتضاح حقيقة كذب النظام لما عطلت قرار مجلس الأمن بالتفتيش، مع أن الدول الكبرى رصدت تفاصيل القصف وبات لديها من الأدلة ما يكفي، ولاسيما أن النظام استخدم الأسلحة الكيميائية ضد السوريين 160 مرة بعد جريمة الغوطة، والمراقبون العسكريون في العالم يرصدون ذلك.
ونفهم أن روسيا تبحث عن مصالحها، ولكن المؤسف أن يضحي بمئات الآلاف من السوريين من أجل مصالح كان يمكن التفاهم حولها مع أية قيادة قادمة ضمن علاقات متوازنة تضمن المصالح المتبادلة ضمن أعراف الدول.
وقد حرصت دول عربية وغربية صديقة أن تقنع روسيا بالتخلي عن موقفها، وبتنفيذ ما قررته هي وسمته مرحلة بناء الثقة في القرار الدولي، ولكنها تريد من المعارضة أن تسلم رقابها للأسد، وأن تقبل به رئيساً بعد أن ارتكب من الجرائم ما ليس له مثيل في التاريخ.
وقد بدا الضعف المريع في خطاب المندوب الروسي في جلسة مجلس الأمن 12/4/2017، ولاسيما حين حصر مشكلة السوريين بوجود ألغام زرعها «داعش» في تدمر التي سلمها النظام لأنصاره من «الدواعش»، ولم يرَ المندوب الروسي مشكلتهم مع الطيران الذي لم يتوقف عن قصف السوريين بالكيماوي وبالنابالم والفوسفوري والكلور وغاز السارين، ولم يرَ عشرة ملايين ونيفاً من اللاجئين والنازحين، ومئات الآلاف من المعتقلين من بيوتهم ومن المحاصرين.
ولم يفهم الروس سر ترحيب الأغلبية العظمى من الشعب السوري بالضربة الأميركية على مطار الشعيرات الذي انطلقت منه الطائرات التي قتلت أطفال خان شيخون بالكيماوي، وهذه مفارقة تاريخية لا سابقة لها، فلم يحدث عبر تاريخ سوريا الممتد في أعماق التاريخ أن رحبت أغلبية السوريين بمن يستهدف أرضهم وسيادتهم عليها، وهذا ما ينبغي أن يفهمه العالم كله دليلاً على وحشية الظلم الذي يعاني منه السوريون إلى درجة أنهم ينتظرون عوناً من أية جهة كانت، فلم يعد لهم في الأرض من يحميهم من جبروت النظام وحلفائه، وحين قام الرئيس الأميركي ترامب بهذه الضربة الإنذارية تفاءل السوريون بأن يجد المجرمون عقاباً من المجتمع الدولي الذي طال صمته، حتى بات هذا الصمت على موت أطفالهم وتهديم بلادهم وصمة عار على جبين الإنسانية.
ويبدو السؤال الأهم الآن، ماذا بعد فشل مجلس الأمن في إقناع روسيا بالتوقف عن دعم إجرام النظام؟ هل يصل الطموح الإمبراطوري الروسي والإيراني إلى درجة إشعال حرب عالمية، من أجل أن يبقى رجل على كرسي السلطة رغماً عن الشعب الذي ضحى بمليون إنسان كي يتخلص من استبداده؟
وهل يمكن لترامب الذي وعد شعبه بأن تستعيد الولايات المتحدة مكانتها في العالم أن يرضخ للفيتو الروسي، وأن يعلن العجز والضعف الأوبامي أمام بوتين؟
لا يغيب عن بوتين أنه اليوم أمام رئيس أميركي صارم، ولن يتجاهل الموقف الدولي الذي اصطف مع ترامب بعد أن ضاق العالم ذرعاً بسياسة أوباما التي صمتت على الجرائم ضد الإنسانية، وهي تتحمل مسؤولية أممية عن دماء السوريين.
يجب أن تقتنع روسيا أن التحدي سيكون سبباً في مقتل ملايين من الضحايا، ولن ينتصر الظلم وإن طال أمد بقائه، فلابد مما ليس منه بد.
من سخرية القدر أن تنقلب الأوضاع، فالحرب أصبحت في سوريا، والحكم في دمشق يعيش في ظل حراسة الميليشيات اللبنانية.
ومن باب المقاربة نعتبر ميليشيات «حزب الله» قوات لبنانية، وهي كذلك في واقع الأمر. فهي تعتبر نفسها مماثلة للجيش اللبناني والأمن الداخلي. حالة تعيد بالذاكرة إلى زمن كانت فيه المطالَبات الشعبية في لبنان، وكذلك النداءات الدولية، بإخراج القوات السورية من لبنان.
وإخراج «حزب الله» وبقية القوى والميليشيات من سوريا هو صلب النقاش بين الحكومتين الأميركية والروسية، ضمن نقاش الحل السلمي. الجانب الأميركي يريد إنهاء وجود القوى الأجنبية المسلحة المساندة للنظام السوري، وعلى رأسها قوات إيران من الحرس الثوري، وكذلك «حزب الله» اللبناني وبقية الميليشيات العراقية والباكستانية والأفغانية وغيرها.
احتل النظام السوري لبنان، بحجة مواجهة إسرائيل. لم يكن اللبنانيون يصدقون مبررات دمشق لأنهم عايشوا هيمنة النظام وتدخلاته في تفاصيل حياتهم، أما العرب فالكثرة منهم انساقت وراء «البروباغندا» حتى قيام الحرب الأهلية في سوريا.
وفي إطار الحديث عن حل سلمي لإنهاء الثورة في سوريا، سبق لواشنطن أن عبرت عن قبولها بالمشروع الروسي من حيث المبدأ، بإنهاء الصراع سياسيا بغض النظر عن بقاء بشار الأسد في الحكم. ثم ارتكب النظام غلطة رئيسية في جريمة قصفه خان شيخون بالسلاح الكيماوي، ولم يكن مضطراً لأنه يمارس القتل يومياً بالقصف والبراميل المتفجرة. كانت تحديا للإدارة الأميركية، وبرهنت أيضاً على صحة كلام خصوم نظام دمشق، بأنه وحلفاءه لن يلتزموا بأي تعهدات سياسية، وأن «الأجندة» تتجاوز سوريا.
في التصريحات الأخيرة رفع الأميركيون سقف مطالبهم إلى أقصى نقطة، وهي إقصاء الأسد من الحكم، وفِي سياق النقاش أيضاً يطالبون بإخراج القوات والميليشيات الإيرانية واللبنانية والأخرى من سوريا، التي يقدر إجمالي عددها بنحو خمسين ألف مقاتل. وهذا يعني أن التركيز المقبل، فعلياً، سيكون على النقطة الثانية؛ إخراج القوى غير السورية، وربما تستثنى روسيا من ذلك.
إنما سيكتشف الأميركيون لاحقاً أن إخراج الأسد سيكون أهون من إخراج فيلق القدس الإيراني و«حزب الله» اللبناني اللذين دقّا حوافرهم في الأرض السورية. ولا أتصور أن «حزب الله» سعيد بالوظيفة التي كلفته إيران بها، أي القتال في سوريا، لأسباب كثيرة، أبرزها أنها استنزفت رجاله وخسر في سوريا أكثر مما فقده في حروبه مع إسرائيل في ثلاثين عاماً. وفي لبنان هو في مواجهة صعبة لأن تدخله سبب في تهجير، ونزوح مليون ونصف لاجئ سوري إلى لبنان. وضعف «حزب الله» عسكرياً نتيجة انخراطه في الحرب منذ ثلاث سنوات الذي سيكون له تبعات على نفوذه في لبنان أيضاً. لكن قرار إرسال ميليشيات الحزب إلى الحرب هو قرار إيراني بانفراد، مثل بقية الميليشيات التابعة الأخرى في العراق. طهران تقرر وتفاوض ولن يكون الحزب طرفاً في مفاوضات الانسحاب مستقبلاً.
التحدي كيف يمكن للأسد إبعاد خمسين ألف مقاتل تحت إشراف الحرس الثوري الإيراني؟ في رأيي المهمة مستحيلة. الروس يعرفون أنهم لا يملكون الكلمة الأخيرة في دمشق رغم أن تدخلهم العسكري هو الذي رجح الكفة لصالح الأسد. المصادر تجمع على أن إيران هي صاحبة القرار النافذ في دمشق، وقد عملت خلال سنوات الحرب على السيطرة على مفاصل الدولة السورية، بما فيها الأمنية والعسكرية.
التحدي الحقيقي للمجتمع الدولي هو إخراج القوات الإيرانية بأعلامها المختلفة من سوريا. إخراج «القوات اللبنانية» من سوريا حل محل إخراج القوات السورية من لبنان ولا نعلم كيف ولا متى. فالمشروع الإيراني في المنطقة يشمل العراق ولبنان، وتعتبر القيادة الإيرانية سوريا الهضبة الضرورية للسيطرة على هذين البلدين، وليست سوريا بذاتها.
نظام بشار الأسد، هو أخطر من أي سلاح كيماوي أو نووي أو بيولوجي. مثلما هي إيران الخمينية، خطيرة وضارّة، بوجود سلاح نووي أو دونه.
التركيز الكثيف على منع بشار وقتلته المتجردين من الانتماء الإنساني، الذين يرّشون الأطفال والنساء والعجزة بأمطار السمّ، بوقاحة وبلادة، مفهوم ومتفهّم.
السلاح الكيماوي ممنوع دولياً، وأخلاقياً، أمطره بشار على ضحايا لا حول لهم ولا قوة. كان هذا كافياً لإثارة غضب «الجدّ» دونالد ترمب، مع تشكيك الروس وبشار والخمينية، ومن يستهلك دعايتهم، من العرب، في حقيقة الضربة الصاروخية الأميركية على قاعدة الشعيرات العسكرية الأسدية بريف حمص.
لكن، وبعيداً عن الشق الذاتي الأخلاقي بالضربة الأميركية، فمجرد استمرار هذا النظام الشيطاني، نظام بشار، هو الخالق للجماعات الإرهابية، الجالب لها، المهيّج لخيالها، المحفّز لنشاطها، وليس هو علاج الإرهاب، وفق الثقافة الروسية المنكّسة.
من أجل ذلك فإن العمل الصحيح للسياسة الأميركية الجديدة، ومعها الحلفاء في أوروبا والعالم العربي، في مقدمهم السعودية، هو «ترحيل» هذا النظام، وليس شخص بشار فقط.
ترحيله على رغم أنف روسيا البوتينية، التي تجردت هي الأخرى من كل قناع أخلاقي وسياسي؛ لم تبالِ بمآسي الشعب السوري من أجل بقاء تابعهم بشار.
روبرت فورد السفير الأميركي في دمشق في عهد أوباما، قال في لقاء مع قناة CBS الأميركية إن الهجمات ضد نظام الأسد في سوريا لا بد أن تستمر. وإنه من غير الممكن تحقيق الرغبة الأميركية في تغيير النظام في سوريا، ما دام استمر الدعم الإيراني والروسي للأسد.
أعتقد أنه من الممكن ترحيل النظام الأسدي، برغم الروس والإيرانيين، لكن الأمر يحتاج لرؤية وعزيمة وتحالف متين.
الروس أخذوا الجانب المظلم من التاريخ، وخاطروا بمعاداة المسلمين، من غير العرب حتى، بهذا الاصطفاف الفاجر مع تحالف طائفي تقوده إيران. ومن آخر تجليات الروس تلك، الفيتو القبيح الذي أشهر الأربعاء الماضي لمنع التحقيق في مجزرة خان شيخون.
بالنسبة لبوتين، وفق مقابلة نشرها الكرملين فإن: «دمشق تخلصت من مخزونها من الأسلحة الكيماوية».
أما بخصوص مطر خان شيخون القاتل، والذي أزعج العالم به سمع بوتين، فسهلة!: «إما أن ضربات جوية للحكومة السورية أصابت مستودعاً للأسلحة الكيماوية تابعاً للمعارضة، ما أدى لانبعاث غاز سام، وإما أن الحادثة مختلقة لتشويه صورة الحكومة السورية».
المهم، بالنسبة لإمبراطور الروس، حماية بشار ونظامه، سواء قصف شعبه بالكيماوي أو لم يفعل، هذه تفاصيل «تافهة».
الآن، المطلوب هو الاصطفاف الدولي العربي خلف هذا الزخم الأميركي الجديد، لتطوير الموقف من مجرد غضبة أخلاقية لاستراتيجية جديدة لتطيير هذا النظام الشيطاني المشعّ.
ندَّدَت روسيا بالغارة الأميركية على قاعدة «الشعيرات» الجوية في سوريا، لكن لم يصدر أي تصريح مباشر عن الرئيس فلاديمير بوتين، لا تنديداً بالغارة الأميركية، ولا دفاعاً عن بشار الأسد. ويوم الاثنين الماضي، قالت القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم): «لم يكن الهدف جعل القاعدة خارج الصلاحية، بل تقليص القدرة السورية على شن هجمات بالأسلحة الكيماوية». ومن ناحيتهم، أوضح الروس أن دفاعاتهم الجوية في سوريا هي للدفاع عن قواتهم هناك، وعن معداتهم، وليس للدفاع عن الجيش السوري أو معداته أو قواعده، أيضاً، وكما قال محلل عسكري روسي إنه على الرغم من الضجة الإعلامية التي ترافق أنظمة الدفاع الروسية، فإنها محدودة جداً فيما يمكن أن تفعله ضد صواريخ «الكروز»، خصوصاً إذا كانت متجهة إلى هدف ليست الصواريخ موجَّهَة للدفاع عنه.
يوم الأحد الماضي، استضافت القنوات التلفزيونية الأميركية كبار مسؤولي الإدارة الجديدة. الجنرال ه. آر. ماكماستر مستشار الأمن القومي قال على قناة «فوكس نيوز»: «نحن لا نقول إننا من سيتسبب بالتغيير في سوريا، فالحل للصراع هناك يتطلب إلحاق الهزيمة بـ(داعش)، وبعد ذلك تغييراً ملحوظاً في طبيعة النظام».
عندما وقَعَت الغارة كثرت التخمينات بتغيير في السياسة الأميركية الخارجية، لكن الغارة بحد ذاتها لا تغير مجرى اللعبة، هي كانت مجرد واحدة لها هدف محدد، ولإبلاغ الأسد بأن اللجوء إلى الأسلحة الكيماوية غير مقبول أميركياً، وكانت بمثابة ضربة على كتف روسيا، وبأن الولايات المتحدة ليست خائفة من الإقدام على عمل عسكري، حتى لو كان الروس منتشرين عسكرياً، والأهم كانت لإظهار الفارق الشاسع بين إدارة الرئيس دونالد ترمب والإدارة السابقة، ثم إن ترمب يعرف أن تغيير اللعبة في سوريا من الطرف الأميركي يتطلب دوراً من الكونغرس.
إذا راجعنا ما قاله الرئيس ترمب ووزارة الدفاع، نلحظ أن الغارة كانت لإعادة رسم الخطوط الحمراء. قال الجنرال جيمس ماتيس وزير الدفاع يوم الاثنين الماضي: «إن الحكومة السورية تكون مخطئة جداً، إذا ما حاولت اللجوء إلى السلاح الكيماوي مرة أخرى». يُفهَم من هذا أن الغارة ليست محاولة للإطاحة بالأسد، أو تصحيح كل الأخطاء في سوريا، لأنه لا أحد في الغرب يعتقد أن الحل في سوريا عسكري.
وأسأل أحد المراقبين السياسيين الغربيين عن أسباب لجوء الأسد إلى استعمال غاز السارين، وفي اعتقاده أن المعارك انقلبت على قواته، فأراد اختصار مسافاتها، ثم شعر بالقوة، إنما بالشكوك أيضاً من التحول في الموقف الأميركي تجاه بقائه في السلطة، واعتقد أن التحول جزء من تقارب روسي - أميركي قد يؤدي إلى اتفاق بينهما على تسوية سورية شاملة، خصوصاً بعدما فشلت روسيا في التوصل إلى حل بإشرافها.
ويضيف محدثي: «إن الاتفاق لتسليم أسلحته الكيماوية جرى بين روسيا والولايات المتحدة، وهذا يعني أن الدولتين ضامنتان للاتفاق، من هنا فإن لجوءه إلى استعمال غاز السارين هو تحدٍّ للاثنين معاً، وبمثابة صفعة للرئيس الروسي».
سوريا مشكلة معقدة جداً وشائكة، وأكثر العارفين بهذا الأمر هو بشار الأسد. لقد تحولت إلى مستنقع. قبل الغارة الأميركية قال ريكس تيلرسون وزير الخارجية: «لا دور للأسد في مستقبل سوريا». المشكلة في هذه العبارة أن الكثيرين رددوها سابقاً، لدرجة أصبحت بنظر الأسد مثل فقاعات صابون، لأنه إذا أراد الأميركيون أن يكون لتصريحاتهم وَقْع الفعل، فيجب أن تكون لهم قوات داخل اللعبة.
لو أن هذه الغارة الأميركية شُنَّت عام 2013، عندما سقط أكثر من ألف مدني ضحية القصف الكيماوي، لكانت غَيَّرت مجرى الحرب، لأنه في ذلك الوقت كان الأسد ضعيفاً، وهو الآن أقوى، بعدما أصبح الروس مشاركين إلى جانبه، والتغاضي عنه عام 2013 أعطاه ثقة بأنه قد ينجح هذه المرة أيضاً، إنما بضرب عصفورين بحجر واحد، خصوصاً أن الروسيَّ استثمر كثيراً في سوريا كخطوة أولى لإعادة بناء مجد غابر.
لكن هل الولايات المتحدة وروسيا على استعداد لخوض حرب ضد بعضهما من أجل سوريا؟ بالطبع لا، لا من أجل سوريا، ولا من أجل تركيا، ولا حتى من أجل إيران.
يوم السبت الماضي، أطل على شاشة «بي بي سي» البريطانية، سباستيان غوركا النائب المساعد للرئيس ترمب، قال: «ما حصل كان عملية جراحية استُعمِلَت فيها الصواريخ». الرئيس ترمب اليوم هو نفسه الذي قال: «ليس من اهتماماتنا غزو دول أخرى، أو احتلالها، هذا أمر غير أميركي (...)». رد غوركا على قول رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف إن العلاقة بين موسكو وواشنطن تدمَّرَت، فقال: «إن إرهاب المتطرفين هو خطر على دولنا. وتبقى روسيا جيواستراتيجياً دولة مهمة».
يقول بعض العارفين إن روسيا فُوجِئَت بالغارة الكيماوية، الأسبوع الماضي، وبالتالي فإن الأسد سيدفع لاحقاً ثمن إحراجه لبوتين. يقول محدثي: «إن روسيا تنظر إلى الصورة الأوسع، التوتر مرتفع الآن، لكن هناك مجالات أمام روسيا وأميركا للعمل معاً في سوريا، ويجب أن تتوفر، لأنه لا مجال لتسوية أحادية في سوريا. فالكثير من الدول لها دور في تلك البلاد؛ من أميركا إلى روسيا، إلى إيران، إلى تركيا إلى دول الخليج، والكل يجب أن يفكر في الصورة الأبعد، لذلك على الدول كلها أن تعمل معاً، ثم إن زيارة تيلرسون إلى موسكو فرصة للطرفين لإيجاد طرح لتجاوز هذا الوضع». ويضيف: «تقول روسيا إن كل المحاولات لفرض وقف لإطلاق النار في سوريا فشلت، لأن الأميركيين والروس غير قادرين على التحكم في كل الأطراف على الأرض».
الغرب يريد أن يكون حاسماً مع روسيا، ويجب، لكنه اختلف حول فرض عقوبات اقتصادية. العارفون يقولون إن سيطرة روسيا على الأسد مبالغ فيها، وفكرة أنها تستطيع إلغاء الأسد ساعة تشاء غير صحيحة، هي تود أن تسيطر أكثر مما تفعل الآن، لكنها لا تستطيع، والهجوم الكيماوي الأخير أثبت ما قاله تيلرسون يوم الأحد الماضي لقناة «إيه بي سي» الأميركية: «لا أقول إن الروس تواطأوا، إنما كان عجزهم واضحاً، أو ربما ناور السوريون عليهم».
الدول الصناعية السبع، في قمتها في لوكا بإيطاليا، طالبت روسيا بوضع مسافة بينها وبين الأسد، لكن روسيا لا تستطيع ذلك، ليس لأن لها مصالح في المنطقة وحسب، بل ترى أنه إذا تمت إزاحة الأسد فمصير سوريا سيكون كمصير العراق أو ليبيا. في هذه الحالة، تفضل روسيا «الشيطان الذي تعرف على الشيطان الذي لا تعرف» على هذا يجيب محدثي: «إن الشيطان في كل الأحوال شيطان، والواقع أن الروس موجودون في سوريا وبإمكانهم فعل أكثر مما يفعلون». يضيف: «نتفق على أن النفوذ الروسي على الأسد غير معروف، لكن الروس هم القوة الأكبر التي تحمي الأسد، ولولا التدخل الروسي لكان الأسد سقط». يقول: «ما سيأتي بعد الأسد لن يختلف عن الواقع السوري الآن. قد يكون ما بعد الأسد سيئاً، لكن ما هو في ظل الأسد الآن سيئ جداً».
في النهاية، رغم كل التصريحات القوية، لا يبدو أن الأوروبيين أو الأميركيين يرون أن الصراع في سوريا جدي وخطير إلى درجة تدفعهم لنشر قوات على الأرض. والمثير في هذه الحالة أن يخسر بوتين رئاسة روسيا، العام المقبل، ويبقى الأسد في سوريا.
تيلرسون في موسكو في زيارة محددة سابقاً، ليس معروفاً كيف ستتطور العلاقة الروسية - الأميركية بعد هذه الزيارة. والمهم، كما ذكرت، أن بوتين لم يُدِن العملية ولم يدافع عن الأسد، وهذا يعني أنه يتطلع إلى علاقة جديدة مع واشنطن؛ فبعد هذه الغارة الأميركية، خفتت الأصوات الأميركية التي كانت تتهم ترمب بأنه في جيب الكرملين. أثبت ترمب أنه سيد نفسه، فهل يثبت بوتين أنه كذلك وأنه لن يسمح للأسد بالمراوغة عليه؟!
كانت الضربات الصاروخية الأميركية التي استهدفت قاعدة جوية عسكرية سورية الأسبوع الماضي، والتي قدمت كعقاب على استخدام نظام بشار الأسد الأسلحة الكيمياوية، خطوة غير متوقعة من جانب الإدارة الجديدة بقيادة الرئيس دونالد ترامب. وقد دلّت هذه العملية العسكرية على تحول في السياسة الأميركية تجاه سورية من عدم التدخل المباشر إلى العكس، بعد أسبوع واحد فقط من إعلان إدارة ترامب أنها لا تهدف الى تغيير النظام في سورية. كما جاءت الضربات كإجراء غير متوقع، بعد تصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية والتي أشار فيها إلى أنه غير مهتم بالتورط العسكري الأميركي في الشرق الأوسط.
جاء الإعلان عن تأجيل زيارة وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون إلى روسيا، ودعوة جونسون دول مجموعة الدول السبع لفرض عقوبات إضافية على روسيا وسورية رداً على استخدام الأسد الأسلحة الكيمياوية كخطوة تصعيدية بعد العملية الأميركية. وعلى رغم عدم استجابتهم لنداء جونسون في ما يتعلق بالعقوبات، إلا أن القادة الغربيين في قمة مجموعة السبع جددوا النقاش حول تغيير النظام في سورية. تطرح هذه التطورات مسألة متى يتحرك الغرب في شكل فعلي للعمل من أجل سورية. الإجابة عن هذا السؤال تكمن في واشنطن.
يتأجج الصراع السوري منذ أكثر من ست سنوات، من دون نهاية واضحة في الأفق. وعلى الرغم من اتفاقات وقف إطلاق النار المتعددة وجولات عدة من محادثات السلام، لم تكن هناك أدلة على وجود إرادة سياسية في الغرب لإنهاء الصراع. وكان الجاني الرئيسي على مدى تلك السنوات هو الولايات المتحدة. في ظل الرئيس السابق باراك أوباما، كان الصوت الأعلى في الولايات المتحدة هو البيت الأبيض بدلاً من وزارة الخارجية أو البنتاغون. وكان البيت الأبيض - وتحديداً موقف الرئيس من سورية - هو تفادي التدخل العسكري في أي شكل من الأشكال.
كل هذا أتاح استمرار الصراع السوري. أضف الى ذلك نهج الولايات المتحدة تجاه الصراع والذي بني على عدم السماح لأي جانب واحد بالفوز عسكرياً. وقد اتخذت الولايات المتحدة هذا النهج على أساس أنه إذا لم يشعر النظام ولا المعارضة أنهما يمكن أن يفوزا، فإن كلا الطرفين سيضطران إلى الجلوس حول طاولة المفاوضات. ولكن بدلاً من أن يُجبر النظام السوري والمعارضة على التفاوض، أدى عدم الفوز العسكري لأي فريق - إلى جانب استمرار التمويل من جانب داعمين أجانب من الجانبين – الى استمرار محاولة تحقيق النصر العسكري.
وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة دعت إلى إجراء المفاوضات، فقد أثبتت المنظمة الدولية أنها غير قادرة إلى حد كبير على إحداث التغيير على أرض الواقع. فقد عارضت روسيا بانتظام قرارات مجلس الأمن. وانتهت غالبية المساعدات الإنسانية الموجهة عبر الأمم المتحدة إلى مناطق يسيطر عليها النظام وليس الى مناطق سيطرة المعارضة. واستخدمت المحادثات في جنيف كفرصة من النظام السوري وروسيا لتقويض المعارضة بدلاً من الدخول في مفاوضات فعلية. وشاركت الولايات المتحدة في محادثات السلام ولكن من دون أن تلعب دوراً قيادياً. وكأن الولايات المتحدة قد تعهدت بالصمت من أجل إثبات أن الرئيس أوباما كان جدياً عندما قال إنه لن يجرّ الولايات المتحدة إلى مستنقع آخر في الشرق الأوسط في أعقاب التدخل في العراق عام 2003 .
سياسة أوباما عنت أن الولايات المتحدة لم تظهر ان لديها قيادة سياسية بالنسبة الى القضية السورية، وترك هذا الدور مفتوحاً على نطاق واسع لروسيا، التي استخدمت الأزمة السورية كوسيلة لتأكيد نفسها في مواجهة الولايات المتحدة.
عندما جاء ترامب إلى السلطة، كان هناك تركيز كبير على علاقته مع روسيا، واعتبرت أكثر دفئاً من تلك التي اتبعها سلفه. ولكن مهما كان ترامب ليناً تجاه روسيا، فهو لا يستطيع السماح بأن يُنظر إليه على أنه الرئيس الذي سمح لروسيا بأن تصبح قوة عظمى تنافس الولايات المتحدة. كما أراد ترامب أن يثبت أنه، على عكس أوباما، يعني ما يقوله. ومثلما وجدت روسيا في سورية ساحة ملائمة لإعادة تأكيد نفسها في مواجهة الولايات المتحدة، يستخدم ترامب سورية حالياً بالطريقة نفسها تجاه روسيا. والعدد الكبير من المستشارين السابقين لأوباما الذين أثنوا على الضربات الصاروخية التي أمر بها ترامب يظهر مدى تأثير أوباما نفسه في الطريقة التي تعاملت بها حكومة الولايات المتحدة خلال ولايته مع سورية، واحتمال أن تتغير في حال تغير موقف الرئيس الأميركي.
مع هذا التحرك في واشنطن، أفاقت بقية الغرب من سباتها. وهذا يؤكد بوضوح شديد أهمية الإرادة السياسية الأميركية وتأثيرها في السياسة الغربية. لكن هذه الحركة المحدودة في واشنطن لا تعني أن السياسة الأميركية تجاه سورية قد تغيرت بين عشية وضحاها. ولا تزال الدول التي اجتمعت في قمة مجموعة السبع تنقسم حول ما يجب القيام به في شأن سورية. وفي ختام القمة، أكد بيان لوزير الخارجية الإيطالي أنجيلينو ألفانو عن سورية فقط أن الضربات الأميركية أتاحت «فرصة سانحة لبناء حالة إيجابية جديدة للعملية السياسية في سورية».
ومن المرجح أن تسبب الضربات الأميركية بعض القلق للنظام السوري، ليس لأنه سيعتبرها بداية لحملة عسكرية أميركية أكبر، ولكن لأنها تظهر أنه لا يمكن التنبؤ بقرارات الإدارة الأميركية الحالية. فحتى وقوع الضربات، كان نظام بشار الأسد وحليفته روسيا يشعران بالارتياح إزاء تقاعس الولايات المتحدة النسبي عن سورية. واليوم، من المرجح أن يقيسا خطواتهما بعناية أكبر. لكن هذا لن يعني أن النظام سيوقف أنشطته العسكرية في سورية. قد تتوقف الهجمات الكيماوية، ولكن نظام الأسد لا يزال يستخدم الأسلحة التقليدية ضد خصومه. وسوف يستمر في القيام بذلك طالما أن الولايات المتحدة ليست لديها استراتيجية في سورية.
والتحدي الذي تواجهه إدارة ترامب الآن هو متابعة عملها العسكري المعزول باستراتيجية شاملة لإنهاء الصراع السوري. إذا تم تصميم هذه الاستراتيجية في واشنطن، فإن بناء تحالف غربي لدعمها لن يكون عقبة. وتكمن العقبة في ما إذا كانت الولايات المتحدة ستؤدي دوراً ديبلوماسياً وعسكرياً رائداً لتمهيد الطريق أمام الانتقال السياسي في سورية أم لا.