شكلت حادثة قصف مطار “الشعيرات” في السابع من نيسان الجاري حدثاً مفاجئاً، عقب استخدام النظام السوري السارين في قصفه لبلدة خان شيخون، فكانت نقطة تحوّل في التعاطي الأمريكي مع القضية السورية، أعقبها عدة حوادث لا يمكن أن تحدث مصادفة.
بدأت الأحداث بتصعيد إعلامي وتراشق للتهديدات، ثم زيارة وزير الخارجية الأمريكي “تيلرسون” إلى روسيا، أعقب ذلك على الفور اجتماع احتضن لافروف ووزير الخارجية الإيراني والسوري.
ما إن انتهت الزيارات الرسمية، حتى بدأ الحديث عن تفريغ بعض المطارات السورية، واستمرت التهديدات الروسية مع رفع الجاهزية الصينية، والتصعيد مع كوريا الشمالية حيث عرضت مقاطع فيديو تظهر إطلاقها لصواريخ باتجاه الولايات المتحدة، وجاء عرض هذا الفيديو خلال حفل غنائي بعيد ميلاد مؤسس الدولة الشيوعية “كيم إيل سونغ”، وقد حضر الحفل الزعيم الكوري “كيم جونغ أون” وفق ما أوردت “رويترز”.
وقد صرح الرئيس الأمريكي “ترامب”: على روسيا أن تفهم بأن المجرم الإرهابي بشار الأسد، أصبح إسقاطه هدفا أمريكا كما كان أسامة بن لادن من قبل.
جاء هذا التصريح بعد زيارة وزير الدفاع الأميركي “جيمس ماتياس” إلى الشرق الأوسط والحديث عن خطة أمريكية معدة لسوريا؛ حيث نقلت وكالة “اسوشيتد برس” عن مصدر أمريكي أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب ستعمل على القضاء على تنظيم الدولة داعش، مع التلويح بإقامة مناطق عازلة والعمل على نشر الاستقرار في المنطقة، بعد عقد هدنة بين نظام الأسد والمعارضة.
ويجري الحديث عن عودة السلطات المحلية إلى العمل، في نظام قريب إلى الفيدرالية، بمعنى أن في المناطق ذات الغالبية السنية يجب أن تدار من قبل شخصيات سنية، والمناطق الكردية من قبل شخصيات كردية وهكذا، على أن تدار البلاد في هذه الفترة بواسطة حكومة مؤقتة.
في “الفترة الانتقالية” يجب إبعاد الأسد عن السلطة ومنعه من خوض الانتخابات وتهديده بالملاحقة الدولية وتخييره بين مغادرة البلاد أو تركه لخصومه، ليواجه مصيرا كمصير القذافي من قبله.
ثم تأتي مرحلة تنظيم الحياة في سوريا، بعد انتهاء الفترة الانتقالية، وتأمل أمريكا تنفيذ الخطة بالتعاون مع الروس رغم كل الخلافات بين الدولتين مع إبقاء القاعدتين الروسيتين البحرية في طرطوس والجوية في “حميميم”.
جاء الرد الروسي عبر لافروف على الخطة البديلة التي طرحها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” للتسوية في سوريا، موضحاً أنه بحث مع وزير الخارجية الأمريكي “ريكس تيلرسون” في اجتماعهم الأخير القضية السورية بحذافيرها، حيث أكد له أنه لا بديل عن التطبيق لقرار مجلس الأمن “2254”.
فإن كانت الإدارة الأمريكية قد وضعت خطة من أربع مراحل لإزاحة بشار الأسد من الحكم بحسب مسؤول أمريكي تحدث مع وكالة “أسوشيتيد برس”، فإن الروس مع حلفائهم لن يسمحوا لها بالمرور، مما يعني لأن الوضع السوري سيزداد في التدهور، دون ظهور بوادر للحل.
لا أهمّية تذكر لفوز أي مرشح من المرشحين الإيرانيين في الانتخابات الرئاسية المتوقعة الشهر المقبل. ليس مهمّا من سيفوز بمقدار ما إن المهم أن تتغير سياسة إيران داخليا وخارجيا، وتتوقف لعبة الرهان على لعب دور القوة الإقليمية المهيمنة التي أخذت إيران والمنطقة إلى الخراب والفتنة المذهبية.
ليس في استطاعة إيران بنظامها الحالي الذي أقامه آية الله الخميني في العام 1979 الاستمرار في هذه اللعبة لأن ليس لديها نموذج تقدمه، لا داخل حدودها ولا خارج هذه الحدود. تستطيع إيران الهدم وجعل دول المنطقة تعتمد أكثر فأكثر على القوى الخارجية، بما في ذلك “الشيطان الأكبر” الأميركي. لكنها لا تستطيع أن تبني، لأن البناء سيعني مزيدا من التفاهم بين شعوب المنطقة واستثمارا لثرواتها في خدمة مواطنيها بدل صرف الأموال الطائلة على شراء الأسلحة. هل تنتفي الحاجة إلى إيران عندما تلعب دورا بناء، فلا تعود فائدة منها، لا لأميركا ولا لغير أميركا؟
كانت تجربة حسن روحاني الذي انتخب رئيسا قبل أربع سنوات أبلغ دليل على أن لا دور للرئيس الإيراني. ما أكثر الذين تحدّثوا عن أن روحاني “إصلاحي” وأنه سيغير إيران. تبين في نهاية المطاف أنه استُخدم في مرحلة معينة من المتشددين من أجل إقناع باراك أوباما بأن في الإمكان لعب الورقة الإيرانية والسير إلى النهاية في المفاوضات المتعلّقة بالملف النووي الإيراني بغية التوصّل إلى صفقة ما.
حصلت الصفقة. وقعت مجموعة الخمسة زائدا واحدا (البلدان الخمسة ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن وألمانيا) صيف العام 2015 الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني. حصلت إيران على مساعدات أميركية بمئات ملايين الدولارات كانت في حاجة ماسة إليها في ضوء هبوط أسعار النفط. لم يتغيّر شيء على الصعيد الإقليمي. على العكس من ذلك، زادت إيران عدوانية تجاه كلّ ما هو عربي في المنطقة. لم تلعب أيّ دور إيجابي في أي منطقة من مناطق الشرق الأوسط أو بلدانه أو في منطقة الخليج. تابعت إيران عملية الشحن المذهبي الذي يظلّ استثمارها الوحيد خارج أراضيها.
قبل روحاني، أمضى “الإصلاحي” محمّد خاتمي ثماني سنوات رئيسا، بين 1997 و2005. كيف أثّر ذلك على السياسة الخارجية لإيران؟ الأكيد أن خاتمي كان رجل علم ومعرفة، كما كانت لديه كلّ النيات الطيبة تجاه دول الجوار وما هو أبعد من الجوار. لكنّ الحكم هو على النتائج. بقيت إيران، في عهد خاتمي وبعد انتهاء ولايتيه الرئاسيتين، تتدخل في الشأن الداخلي لكل دولة عربية، بل زاد تدخلّها وتوسّع وباتت أكثر عدائية خصوصا بعدما شاركت في الحرب الأميركية على العراق مشاركة مباشرة في ربيع العام 2003.
تبيّن مع مرور الوقت كم كان الملك عبدالله الثاني بعيد النظر عندما تحدّث إلى صحيفة “واشنطن بوست” في تشرين الأوّل – أكتوبر 2004 عن “الهلال الشيعي” الذي كانت إيران تسعى إلى إقامته بعد سيطرتها على بغداد. لم يقصد العاهل الأردني بـ“الهلال الشيعي” أي إساءة إلى أتباع المذهب، خصوصا أن الهاشميين يعتبرون أنفسهم من “أهل البيت” ولم يفرّقوا يوما بين سني وشيعي. كان يشير إلى أن إيران أرادت أن تَحكم منطقة تمتد من طهران إلى بيروت الواقعة على البحر المتوسّط مستخدمة الغريزة المذهبية. تضمّ هذه المنطقة العراق وسوريا ولبنان الذي يتحكّم به حزب تابع لإيران اسمه “حزب الله”، ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني.
بعد ثلاثة عشر عاما، أدلى عبدالله الثاني، قبل أيام بحديث إلى “واشنطن بوست” كرر فيه ما قاله في الحديث الأوّل كاشفا أن إيران لم تتغير. ما تغيّر، من خلال ردّها على الحديث الأخير، هو انكشاف كم هي متضايقة من إدارة دونالد ترامب وتوجّهاتها من جهة، وزيادة كمّية العداء التي تكنّها لدولة مسالمة حافظت على استقرارها الداخلي، مثل المملكة الأردنية الهاشمية، من جهة أخرى.
استخدم مسؤولون إيرانيون كلاما بذيئا في الرد على حديث العاهل الأردني لمجرد أنه وصف الواقع كما هو بعيدا عن أي نوع من المبالغات. ما الذي تفعله إيران في العراق؟ ماذا تفعل في سوريا؟ ما الذي يدفعها إلى الرهان على ميليشيا مذهبية في لبنان من أجل ضرب اقتصاد البلد وتدمير كلّ مؤسسات الدولة وإيجاد قطيعة بينه وبين دول الخليج العربي؟
لا داعي بالطبع إلى التساؤل ماذا تفعل إيران في اليمن ولماذا كل هذا الحقد على البحرين أو لماذا تتدخل في الكويت؟
استخدم “المرشد الأعلى” علي خامنئي موقع رئيس “الجمهورية الإسلامية” في إيران لتمرير مراحل معينة كانت تتطلب وجود رئيس من طراز معين. متى تطلب الأمر، داخليا، والوضع الدولي رئيسا “إصلاحيا”، هبط الرئيس “الإصلاحي” على الإيرانيين وبدأ العالم يفكر في أن إيران ستنتهج سياسة تقوم على الانفتاح والتوقف عن دعم الإرهاب بكلّ أشكاله. متى كانت الحاجة إلى “متشدد”، يأتي أحمدي نجاد بقدرة قادر…
لم يحصل ولن يحصل أي تغيير في إيران ما دام خامنئي يحكم إيران بصفة كونه “الوليّ الفقيه”. ستبقى إيران دولة تحلم بلعب دور يفوق حجمها وقدراتها متجاهلة أن العالم يتغيّر بأسرع مما يعتقد، وأن الاستثمار المفيد الوحيد الذي تستطيع القيام به يتمثّل في التركيز على الاستثمار في مشاريع داخلية تعود بالفائدة على الإيرانيين الذين يعيش أكثر من نصفهم تحت خط الفقر.
في التاسع عشر من أيّار – مايو المقبل، ستجري الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الإيرانية. كلّ ما يمكن قوله في المناسبة، هو ما أشبه اليوم بالبارحة. ففي مثل هذه الأيّام من العام 2013، انتخب حسن روحاني رئيسا. كان الوحيد الذي اعتقد أن إيران تغيّرت هو باراك أوباما والفريق المحيط به الذي ضحّى بالشعب السوري الثائر على الظلم والدكتاتورية. تغاضى أوباما عن استخدام بشّار الأسد السلاح الكيميائي من أجل استرضاء إيران. كان حريصا كلّ الحرص على عدم التسبب بأي إزعاج لإيران، حتى عندما قُتل ما يزيد على ألف سوري في آب ـ أغسطس من تلك السنة بالسلاح الكيميائي في غوطة دمشق.
ليس رئيس الجمهورية الذي يغيّر إيران. ما قد يغيرها حاليا هو سياسة أميركية مختلفة. المسألة مسألة أسابيع فقط سيتبيّن بعدها هل سيقول دونالد ترامب والفريق المحيط به أنه آن أوان أن يأخذ كلّ طرف إقليمي، وحتى دولي، حجمه الحقيقي على خريطة العالم؟
لا شكّ أن ضربة القاعدة الجويّة التابعة للنظام السوري في الشعيرات تعطي مؤشرا على تغيير أميركي بدأت تشعر به إيران. لكنّ الحذر يظل ضروريا قبل التوصل إلى استنتاج نهائي في ما يخص مستقبل العلاقات بين طهران وواشنطن. فإيران قدّمت في نهاية المطاف خدمات كبيرة لأميركا يحتاج تعدادها إلى موسوعة، وذلك عندما أسست لشرخ مذهبي غيّر أوّل ما غيّر أولويات الدول العربية، خصوصا أهل الخليج.
أحداث وتطورات متلاحقة على جبهة الشرق الأوسط المستعرة. قبل بضعة أشهر، كان الرأي العام التقليدي أن الظروف كلها تعمل لصالح إيران، وكانت إيران تضاعف نفوذها من خلال مشاركتها المباشرة وغير المباشرة في أزمات المنطقة، مدعومة بتخفيف العقوبات الدولية من دون أي شروط «مسلكية» عليها. لكن الصورة اليوم لم تعد بذلك الوضوح، مع الاتجاهات الإقليمية الطارئة التي تشمل روسيا والإدارة الجديدة في واشنطن ومواقف عربية جريئة.
الجغرافيا السياسية في المنطقة تتحرك بسرعة. حصل تعاون حول سوريا بين روسيا وتركيا، واجتمع جنرالات أميركيون وروس وأتراك في جنوب تركيا لتجنب صدام عسكري أثناء مواجهة «داعش»، ثم تصاعد نجم حيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي، وتردد أن قوات أميركية في العراق بدأت بنشر نقاط استطلاع على جزء واسع من الحدود العراقية - الإيرانية، وانطلقت أصوات عراقية تهتف: «إيران برا برا»، لذلك يمكن ملاحظة أن إيران تفقد الأرض، ولم تعد قادرة على وضع أو عرقلة جداول الأعمال، كأقرانها أو منافسيها الذين يعملون أيضاً لحماية مصالحهم الأساسية. هناك من قال إنه كان لإيران دور في القصف الكيماوي في سوريا، وإن أكثر من 20 إيرانياً قتلوا في القصف الأميركي على قاعدة «الشعيرات» السورية.
تشعر إيران بالقلق من الموقف الروسي، حيث انتقلت الشراكة بينهما من مستوى التحالف إلى حالة أقل استقراراً. عندما تدخلت روسيا عام 2015 في سوريا، كانت واضحة برسالتها؛ إن دعم إيران لنظام بشار الأسد لم يحقق أهدافه. ثم تحولت موسكو إلى أنقرة، باعتبارها أكثر فائدة، لتعود وتمسك وحدها بزمام الأمور، بعدما تأكدت أن الأتراك ليس لديهم ما يكفي من النفوذ على القوات السورية المناهضة للأسد، ثم جاءت الضربة الكيماوية، ولحقتها الغارة الأميركية.
لاحظت إيران خلال هذه الفترة تناقص قيمة التعاون الخاص بينها وبين روسيا، فانعكس ذلك على استراتيجيتها الخاصة بسوريا، فتوجهت إلى قطر، لتشرفا معاً على صفقة تبادل أهالي كفريا والفوعة (شمال إدلب) بأهالي الزبداني ومضايا (شمال غربي دمشق).
هناك نقطتان بارزتان في هذا «التهجير» المؤلم: روسيا تريد سوريا غير مقسمة ودولة علمانية، وهي استثمرت كثيراً في سوريا، وتريد أن تحقق هذا الهدف بين أهداف أخرى. فردت إيران بأنها تستمد قوتها من خطوط إمداداتها؛ هي تريد إضافة إلى الخطوط الجوية، تأمين خطوط برية من حدودها حتى المتوسط؛ إنها حاجة استراتيجية لإيصال السلاح إلى «حزب الله» في لبنان. من هنا، حمايتها لنظام بشار الأسد، وإسراعها والحزب عام 2011 إلى دعم النظام الذي كان مهدداً بالسقوط. وحسب التقارير، فإن من أهدافها توزيع خطوط إمدادات الطاقة، ولديها خطط لبناء خط أنابيب يمتد من الشرق إلى الغرب عبر العراق إلى الساحل السوري. ومن هنا، أتت خطة التهجير الأخيرة التي ستغير وجه سوريا.
من جهة أخرى، تراقب إيران بحذر تحرك الإدارة الأميركية الجديدة، فالرئيس دونالد ترمب، كما يبدو، مزمع على تنفيذ تعهداته الانتخابية، بأن يكون أكثر صرامة تجاه إيران من إدارة أوباما.
مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، مايك بومبيو، قال يوم الخميس الماضي، في تصريحات لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إن غارة الصواريخ على القاعدة السورية هي رسالة إلى إيران، بأن بلاده على استعداد للجوء إلى القوة لحماية المصالح الأميركية.
ربط بومبيو صواريخ «توماهوك» التي أطلقت على قاعدة جوية في سوريا، منها أقلعت الطائرات التي تحمل أسلحة كيماوية، بامتثال إيران للاتفاق الدولي النووي. قال إن وكالته تراقب عن كثب التزام إيران بالاتفاق، بما في ذلك المنشآت النووية المعلنة وغير المعلنة. وأضاف: «يجب أن نضع في اعتبارنا ما حصل في سوريا، وأن نعود ونقرأ الاتفاق، لا سيما عندما يتحدث عن المنشآت المعلنة والمرافق غير المعلنة، ومدى وصول مدققي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى كل من هاتين المجموعتين المتميزتين؛ هذا قد يظهر مستوى التأكد الذي نأمل أن نقدمه إلى القائد العام»، وأوضح: «ما أعنيه أن الضربة السورية كانت عملية صنع قرار، حاسمة ومدروسة ومبنية حقاً على فهم واقعي للأهمية الاستراتيجية للأشياء التي تواجهها أمتنا اليوم».
قال بومبيو عن الأسد: كان هناك شخص انتهك حظر استعمال الأسلحة الكيماوية، وهذا ليس مهماً. لذلك أعتقد أنه يجب على الإيرانيين أن يأخذوا علماً بأن هذه الإدارة مستعدة للإقدام على أنشطة مختلفة عما كانت تفعله أميركا خلال السنوات القليلة الماضية.
وتعمل وكالة «سي آي إيه» على متابعة ما إذا كانت إيران تنتهك الاتفاق من خلال أنشطة نووية سرية. وأضاف: «الاتفاق لم يأتِ بإيران «حميدة»، فهي ما زالت دولة ترعى الإرهاب «فيما يتعلق بالإيرانيين، ما زالوا في المسيرة نفسها، منها زيادة القدرة على إيصال منظومات صواريخ متجهة إلى إسرائيل عبر «حزب الله»، وزادوا نشاطهم في الميليشيات الشيعية في الموصل، إضافة إلى دعمهم للحوثيين في اليمن لإطلاق الصواريخ ضد السعودية. وأضاف: إن قائمة التجاوزات الإيرانية ازدادت بشكل كبير منذ التوقيع على الاتفاق النووي، وإيران تدعم الهلال الشيعي في الشرق الأوسط، وهذا ليس مناسباً للمصالح الأميركية.
من جهته، كان قائد القيادة المركزية، الجنرال جوزيف فوتيل، قد صنف إيران في المرتبة الخامسة بين أكبر 5 تهديدات في منطقة الشرق الأوسط، وقدم في التاسع من هذا الشهر بعض التفاصيل حول استراتيجية الاحتواء الأميركية: «يجب أن نشغلهم بفعالية أكبر في (المنطقة الرمادية)، من خلال وسائل تشمل وضع ردع قوي، وبناء قدرات الدول الشريكة. ويجب أن تدرك إيران أنه ستكون هناك عواقب وخيمة، إذا ما قررت مواصلة أنشطتها الخبيثة المصممة لإثارة الاضطرابات في المنطقة». وكان لافتاً دعم الجنرال فوتيل «لاتصالات مباشرة مع القيادة الإيرانية، لتحسين الشفافية وتقليص احتمالات سوء التقدير».
في الوقت نفسه، استخدم ترمب لقاءاته مع قادة عرب وإسرائيليين لتأكيد عزمه على تشديد التدابير الرامية لاحتواء إيران، والضغط عليها «وذلك بالاشتراك مع الأصدقاء الإقليميين». أخيراً، أقدمت إدارة ترمب على اتخاذ عقوبات اقتصادية جديدة ضد كبار المسؤولين الإيرانيين، ونظام السجون هناك، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان الواسعة النطاق، واستهدفت العقوبات سهراب سليماني، المسؤول عن سجن إيفين، السيئ السمعة، وهو شقيق قاسم سليماني الجنرال المسؤول عن تشغيل الأنشطة الإيرانية الإرهابية في سوريا والعراق واليمن والبحرين.
ليس من قبيل المصادفة أن سهراب سليماني هو شقيق قاسم سليماني، فالأول أدار سجناً اشتهر بعمليات الاستجواب التعسفية والقسرية، وإساءة معاملة السجناء، ونقل كثيرين منهم مباشرة إلى القبور، وإعطاء أهاليهم لاحقاً ورقة عليها رقم القبر. والثاني غني عن التعريف؛ هو لم يحسم حرباً، إنما ما زال يواصل الحرب العراقية - الإيرانية التي خسرتها إيران، عبر عمليات تعتمد على ميليشيات أقدمت على القتل والتدمير والتهجير.
هذه العقوبات الجديدة تعتمدها إدارة ترمب، في ظل المراجعة الحالية الواسعة النطاق لكل الأمور المتعلقة بالاتفاق النووي. وكان قد لوحظ زيادة في انتهاك حقوق الإنسان، في ظل الرئيس حسن روحاني، المنتمي إلى الجناح الإصلاحي. العقوبات الجديدة لا تتعارض مع الالتزامات الأميركية بموجب الاتفاق النووي، ولا يتم التعامل معها كجزء من ذلك الاتفاق.
إن التحولات في ديناميكية المنطقة، التي تشمل روسيا وأميركا، تضع إيران في موقف الدفاع. روسيا بعد القصف الكيماوي، كثفت من اتصالاتها مع السعودية، وسيزور وزير الخارجية السعودي عادل الجبير موسكو في 26 من الشهر الحالي. أما الولايات المتحدة الأميركية، فإنها تتعلم بالفعل أن تعزيز العمليات العسكرية في اليمن وسوريا، من دون خطة للعبة سياسية مهيمنة، لا تجعل الإدارة الجديدة تبدو في موقع جيد. وفي رسالة إنذار إلى كوريا الشمالية، قال مايك بنس، نائب الرئيس الأميركي: إن زمن «استراتيجية الصبر» ولى. وكما كانت «توماهوك» رسالة إلى إيران، كذلك تشمل تصريحات بنس إيران.
«لا أنسى أبدا ذلك المريض العجوز الفقير الذي كنت قد أعطيته موعدا لإجراء عملية الماء الأزرق، وكان يسكن في قرية بعيدة»، تقول طبيبة وجراحة العيون والروائية السورية د. هيفاء بيطار. «كنت قد طلبت كالعادة من الممرضات أن يحقنه وريديا بالإبر المنومة والمهدئة استعدادا للعملية، وكان المريض العجوز شبه مخدر ومستلقيا على سرير العمليات.
وهممت بتعقيم يدي لإجراء العملية حين أتتني الأوامر بوقف كل شيء، لأن إدارة المستشفى قررت إعادة المسيرة التي شاركنا فيها قبل يوم بسبب الأمطار التي شوشت التصوير».
لم تكترث إدارة المستشفى بمصير المريض الفقير العاجز وحياته المهددة وموقف الطبيبة الجراحة د. بيطار! «يومها غضبت واتصلت بمدير المستشفى»، وهو «المشفى الوطني» في اللاذقية، «قلت للمدير، إن العجوز قد حقن بالفاليوم، وصار جاهزا للجراحة، والفاليوم مخدر قوي جدا لا يجوز إعطاؤه في فترات متقاربة للمريض. فأجابني بلهجة تهديد: اتركي المريض، ستجرين له العملية غدا. قلت له لكن قد يموت إذا أعطيته غدا إبرة فاليوم». لم يغير موقف الطبيبة شيئا من إصرار المدير على إعادة «المسيرة الطبية».. كي تكون الصور واضحة، وكانت النتيجة تقول الدكتورة «إن هددت بطريقة غير مباشرة بأنني يجب أن أشارك في المسيرة الثانية، لأن الجو من حسن الحظ صحو، ولا يهم أن يكون هناك إنسان ينتظر عملية جراحية في عينه وهو شبه مخدر، ولا يهم إن مات في اليوم التالي، فالولاء كل الولاء والتقديس كل التقديس للمسيرات المؤيدة للنظام، وكانت المناسبة ثورة الثامن من آذار». هل في مثل هذا الموقف ما يثير غير الحزن والعجز وشعور الطبيب باليأس والإحباط، وخيانة كل سنوات دراسته؟
امتثلت د. بيطار لتهديدات المدير، الذي بالطبع لم يكن ليكتفي بطردها من عملها، بل هناك على الأرجح «إجراءات ما بعد الطرد»!
«عدت إلى بيتي أحس بضيق نفس حقيقي واختناق لأشاهد أهلي يتفرجون على المسيرة المؤيدة التي يبثها التليفزيون السوري، يومها أحسست بأن شعار الحياة في سورية هو سحق الكرامة، وفكرت بالمريض العجوز المسكين، ولم أجد إلا السخرية تخفف من غضبي وألمي وقلت الحمد لله، لم يطلبوا منه أيضا أن يشارك في المسيرة.. وهل ينسى أحد من العاملين في «المشفى الوطني»، يوم حضر فريق من الأمن وأخرج طبيبا اختصاصيا في جراحة العظم من غرفة العمليات قبل جره إلى سيارة واقتياده إلى معتقل، حيث بقي أربع سنوات؟ الجميع تفرج على هذا المنظر بعيون عمياء وشفاه ألصقها الخوف بأقوى لاصق في العالم»، (الحياة: 24-12-2016.)
تحولت سوريا إلى «ملطشة» إقليمية تتحارب على أرضها كل القوى المحلية والدولية، ويقتل آلاف السوريين بأبشع الطرق وتتحول مدنها وقراها وحقولها إلى خرائب، ولا يرحم المتقاتلون والمخربون حتى مستشفياتها. باتت سوريا، كما تقول الباحثة في مركز الأهرام صافيناز محمد أحمد، أقرب إلى نموذج «الدولة الساحة» التي أصبحت مسرحا لصراع القوى الإقليمية والدولية.
«الوجود الإيراني عبر ميليشيات الحرس الثوري والميليشيات اللبنانية والعراقية، التي تدين بالولاء لإيران، والوجود الروسي الذي دخل عامه الثاني، لتصبح ساحة الصراع السوري مفتوحة على جميع الاحتمالات التي تختلط فيها الأوراق الإقليمية بالدولية، ويجعل من عملية التنبؤ بمستقبل ذلك الصراع عملية غاية في الصعوبة، وليصبح بلا حسم سياسي أو عسكري». (السياسة الدولية، يناير، 2017). المعارضة بشقيها العسكري والسياسي تعاني أوجه قصور في حالة انقسام لأسباب ذاتية أو لارتباطاتها الخارجية.
المسار الحالي للصراع السوري في رأي المحللين «مرشح للاستمرار»، إلى حين دخول متغيرات جديدة في معادلة الصراع من الجانب الدولي تحديدا والتي يتمثل أهمها في الإدارة الأمريكية الجديدة.
وقد يستعيد الجانب الإيراني الكثير من قوته إن صح ما تقوله الصحف من أن «إيران تهيمن على ملفات الرئيس «ترامب» في المنطقة»، كما أوردت صحيفة الجريدة في الكويت، 05-04-2017، وأضافت أن هناك مساع خليجية تهدف أساسا إلى «اقناع الرئيس الروسي بالابتعاد عن إيران، عبر تقديم كثير من الحوافز والتسهيلات، غير أن تصاعد الجدل حول التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الأمريكية لمصلحة ترامب جمد كل اللقاءات التي كان يفترض أن تتواصل، في وقت تحدثت أوساط أمريكية عن خطأ الاعتقاد بأن بوتين سيغير صداقاته وشراكته مع إيران، أحد أهم حلفائه في المنطقة».
ما الذي جرى حقا للشيخ السوري الذي كاد أن يفقد بصره ثمنا لنجاح «مسيرة تأييد؟» لا أدري!
يقول الكاتب عبد الباسط سيدا في الحياة، 08-11-2016: كان السوريون على دراية تامة منذ اليوم الأول للثورة، بصعوبة مهمتهم، وكانوا على يقين بأن النظام محمي عبر شبكة من العلاقات والمصالح الإقليمية والدولية، وله موقعه المهم في خريطة التوازنات والحسابات الإقليمية والدولية. لذلك كان الشعار المعبر «يا الله مالنا غيرك يا الله». فقد جسد هذا الشعار معاناتهم وعذاباتهم على مدى عقود مظلمة من حكم استبدادي فاسد، سطح العقول والضمائر».
تستعد وزارة الخزانة الأميركية لإدراج حزمة من العقوبات المالية على مؤسسات وأفراد تتهمهم بتمويل حزب الله أو بالتعاون معه. هذه الحزمة التي ينتظر أن تصدر خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة تأتي ضمن سلسلة من الإجراءات المشددة اتخذتها واشنطن ضد عمليات نقل الأموال من وإلى لبنان غير الشرعية من جهة، وعلى حزب الله من جهة ثانية، وكانت واشنطن أدرجت خلال السنوات القليلة الماضية عددا من المؤسسات ورجال الأعمال على اللائحة السوداء.
الجديد الذي تتداوله أوساط مصرفية على صعيد العقوبات المالية المرتقبة، هو تنفيذ هذه العقوبات على أفراد منتمين لتنظيمات لبنانية حليفة لحزب الله، وبشكل خاص على أفراد من حركة أمل أو قريبين منها وكذلك آخرين من رجال أعمال ينتمون إلى التيار الوطني الحر والحزب السوري القومي الاجتماعي المعروف بعلاقته الوثيقة بالنظام السوري وأجهزته، كما بعلاقته مع حزب الله.
وإذا صحت هذه المعلومات التي تتداولها جهات لبنانية سياسية وأشارت إليها مؤسسات صحافية وإعلامية عدة، فإن ذلك يعد أول خطوة أميركية تلامس عقوباتها جهات لبنانية حزبية لا تدرج في خانة القوى المعادية لواشنطن، لا سيما حركة أمل والتيار الوطني الحر، وهما الطرفان اللذان يتولى زعيماهما رئاسة مجلس النواب (الرئيس نبيه بري) ورئاسة الجمهورية (ميشال عون).
ويمكن القول إن العقوبات المالية الأميركية المتدرّجة والتي منعت على المصارف اللبنانية تسجيل حسابات لمسؤولين ومؤسسات وأفراد في حزب الله، تحت طائلة مصادرة الأموال، واتخاذ إجراءات عقابية ضد المصارف التي تعمد إلى فتح هذه الحسابات، ساهمت في التضييق على المصارف التي باتت ملزمة بإجراءات مشددة على سياسة فتح الحسـابات المصرفية وعلى عملية انتقال الأموال من وإلى لبنان.
وكان لافتا خلال شهر مارس الماضي اعتقال أحد أبرز رجال الأعمال اللبنانيين قاسم تاج الدين في مطار الرباط بالمغرب من قبل الإنتربول وتسليمه إلى واشنطن، وهو من رجال الأعمال الذين تحوم حولهم شبهات تمويل حزب الله عبر نشاطات استثمارية مشتركة يقوم بها في لبنان ودول أفريقية.
اعتقال تاج الدين الذي لم يلقَ أي رد فعل لبناني رسمي ولا من قبل حزب الله، أظهر إلى حدّ بعيد أنّ الإجراءات الأميركية تستند إلى وقائع يصعب دحضها في سياق ما تعتبره تجاوزا لأنظمة وقرارات وضعتها لمـواجهة عمليات مالية غير قانونية.
اعتقال تاج الدين من قبل السلطات الأميركية فتح الباب واسعا على المزيد من التكهنات حيال إجراءات عقابية قد تطال رجال أعمال لبنانيين استثمروا في السنوات الماضية قوة ونفوذ حزب الله الأمنية والعسكرية والسياسية في لبنان والمنطقة للقيام باستثمارات ونشاط تجاري، سواء في لبنان أو العراق أو إيران، ورغم أنّ عددا كبيرا من رجال الأعمال نفروا من حزب الله بعدما تشددت الخزانة الأميركية تجاهه ماليا، وبعدما صار اقترابهم منه ماليا مكلفا بعد أن كان مربحا ويوفر فرصا للربح، فإن ذلك لا يقلل من أهمية الشبكة المالية التي لا يزال حزب الله يعتمد في تمويله عليها، والتي امتدت إلى دول عدة سواء في أميركا اللاتينية أو الخليج العربي وحتى أميركا نفسها.
يؤكد بعض الخبراء المصرفيين وغيرهم من السياسيين أنّ الموارد المالية لحزب الله تراجعت بشكل لافت في السنتين الأخيرتين، وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال تراجع الدعم المالي الذي كان يقدمه لجهات سياسية ودينية وحزبية حليفة، ومن عمليات تسريح المئات من عناصره بعدما تحول، خصوصا بعد حرب 2006 مع إسرائيل، إلى ثاني رب عمل في لبنان بعد الدولة اللبنانية، ورغم أنّ الحرب في سوريا تستنزف واستنزفت قدرات حزب الله المالية فضلا عن العسكرية والبشرية، فإنّ تراجع القدرة المالية لديه يرتبط إلى حدّ كبير بالتضييق المالي الذي سببته الإجراءات الأميركية.
وتضيف المصادر أنّ الدعم الإيراني الثابت لحزب الله منذ تأسيسه لا يتجاوز 50 بالمئة من ميزانية الحزب، بل وفر النفوذ العسكري لحزب الله وحرية الحركة عبر المرافئ اللبنانية والانتقـال غير المقيد عبر الحدود البرية فرصا لتحصيل مـوارد مالية بوسائل لا تخطر على بال المواطن العادي، وهذا الامتياز الذي فرضه حزب الله بذريعة المقاومة، كان يغطي شبكة مترامية الأطراف في لبنان وخارجه، عمد حزب الله إلى استثمارها في عمليات غير قانونية من أجل توفير المال.
عنصر آخر أساسي في تمويل حزب الله يتصل بالمال العام، أي الدولة اللبنانية وخزينتها، إذ ليس خافيا أنّ حزب الله الذي يسيطر على نحو مئة بلدية واتحاد بلديات في لبنان، نجح بطرق مختلفة ومنظّمة في تجيير جزء أساسي من أموال البلديات لتمويل أنشطته، والأهم لدفع رواتب عناصره الذين يندرجون في الاسم ضمن العاملين في البلدية ولكنهم بالفعل ينفذون تعليمات حزب الله وقراراته وهذا ما يعرفه أبناء البلدات التي يتولى حزب الله السيطرة على إدارة مجالسها البلدية، إذ يمكن القول إنّ أموال البلديات هذه التي تأتي من الجباية من المواطنين ومن خزينة الدولة، تخضع بمجملها في تلك البلديات إلى إدارة موحدة هي من تأمر بالصرف والتوظيف.
وقد عمد حزب الله أخيرا من خلال اتحاد البلديات (يجمع عدة بلديات) إلى احتكار بيع الطاقة الكهربائية وإنتاجها لصالح “الاتحاد” وهو مصدر مهم من مصادر تحصيل الأموال يتيح لحزب الله توظيف الآلاف من عناصره ويخفف من أعباء تمويلهم.
وقبل كل ذلك وبعده يمكن القول بثقة إنّ أكبر عملية نهب تمت للأملاك العامة في لبنان ولا سيما في المناطق الخاضعة لسيطرة حزب الله، جرت خلال سيطرة حزب الله وهذا ما يمكن رصده بوضوح في الجنوب والبقاع وبيروت والضاحية الجنوبية خلال السنوات العشر الأخيرة في الحد الأدنى وغيرهما، بحيث تمت مصادرة أراضٍ بشكل غير قانوني وبغطاء فعلي من حزب الله وبقوة بندقيته التي يسميها بندقية المقاومة، فيما الأجهزة الرسمية تقف شاهدا بحالة عجز في أغلب الأحيان وبتواطؤ أحيانا أخرى.
التضييق المالي على حزب الله زاد من شهيته على الغرف من المال العام وبشكل منظم بدرجة أولى، من خلال تغطية عمليات التهريب عبر الحدود المتاح له تجاوزها من دون مساءلة وهذا ما يتيح له ربط شبكة من التجـار ورجال الأعمال من انتماءات مختلفة لقدرته على تنفيذ عمليات تجارية غير قانونية من دون أي مساءلة، وبدرجة ثانية من خلال ما يمكن أن يستحصل عليه بشكل شبه قانوني من نظام المحاصصة في الدولة كطـرف أسـاسي في الحكـومة ومجلـس النواب، وبدرجة ثالثة التمويل الإيراني.
وتأتي حزمة العقوبات الأميركية التي تعتمد طريقة متأنية ومتدرجة، لتطال أفرادا ومؤسسات في جهات حليفة لحزب الله مثل حركة أمل والتيار الوطني الحر، وهي رسالة ستكون ذات دلالة سياسية لجهة أن الإدارة الأميركية الجديدة ذاهبة نحو المزيد من التشدد تجاه حزب الله، الذي حظي في عهد الإدارة الأميركية السـابقة بنوع من المـراعاة لا سيما في عدم مجابهة واشنطن لقرار تورطه في الحرب السورية. وكان لافتا أن يترافق تداول الإجراءات العقابية على أمل والتيار الوطني الحر مع أمرين برزا في الأسبوع الماضي.
الأول يتمثل في مواجهة شبه معلنة بين حزب الله والتيار الوطني الحر على خلفية قانون الانتخاب، حيث برز اتهام غير رسمي من قبل التيار الـوطني الحر بأنّ حزب الله يعرقل رؤية التيار ومشاريعه المقدمة لقانون الانتخاب.
ومن ناحية ثانية حصول منازعات بين عناصر حركة أمل وحزب الله في ثلاث بلدات حدودية مع إسرائيل خلال أسبوع، أدّت إلى إطلاق نار بين الطرفين لا سيما في بلدتي ميس الجبل ومركبا.
يقرأ بعض المراقبين هذه الشواهد على أنّها رسالة ضمنية لجهات خارجية من قبل حركة أمل والتيار الوطني الحر مفادها أنّه ليس صحيحا أنّنا على ما يرام مع حزب الله، فهل تحُول هذه الرسالة دون إصدار لائحة عقوبات أميركية ضدهما أو تخفف من حدتها؟
«ما يحدث في سورية حرب وليست ثورة»، عبارة قالتها زميلة يسارية بوليفية في تعليق لها على كلام زميلة أخرى سورية.
فوجئت بالتعليق غير المتوقع، بناء على مناقشاتنا السابقة، وآثرت الاستماع صامتاً إلى تشعبات الحديث، الذي سرعان ما انتقل لتناول موضوع آخر لإدراك الطرفين مدى حساسية ما قيل، وتحسباً لمآلات غير محسوبة.
قابلت الزميلة البوليفية ذاتها في مناسبة أخرى وبينت لها أن موقفها من الوضع في سورية كان غريباً غير متوقع بالنسبة إلي. وجدتها ما زالت مصرّة على موقفها، لكنني لاحظت في الوقت عينه مسحة مختلطة من التشنج والبرود على وجهها، وهي سمة يتشارك فيها العقائديون عادة.
من الحجج الضعيفة التي اتكأت عليها لدعم موقفها: بشار الأسد منتخب ديموقراطياً، وكل المتطرفين الإسلاميين من جميع أرجاء العالم اجتمعوا لمقاتلة النظام بدعم أميركي، وغير ذلك من الأقاويل المعلّبة، الفاقدة لأية صلاحية تسويقية.
ويبدو أنها شعرت بتماديها في الدفاع عن حاكم مسؤول عن قتل أكثر من نصف مليون إنسان، ومسؤول عن إعاقة أكثر من نصف مليون، وتشريد أكثر من نصف الشعب وتدمير البلد، فقالت: لست ضد خروج الناس للمطالبة بحقوقهم، ولكن ما يجري في سورية ليس كذلك.
نظرت فيها ملياً، وأنا أفكر في مدى قدرة الايديولوجيا على تحويل الكائن الإنساني إلى مجرد آلة من دون أية حواس ومشاعر ومبادئ.
قلت لها: ما رأيك بخروج أكثر من ثمانية ملايين مدني معظمهم من الطلاب والمثقفين يمثلون كل فئات ومكوّنات الشعب، في يوم واحد، يطالبون سلمياً برحيل بشار؟ وما موقفك من جلب النظام لقوات «حزب الله» اللبناني- الإيراني، والفصائل العراقية المذهبية، والحرس الثوري الإيراني لمشاركته ومساعدته في قتل السوريين وتدمير البلد؟ وكيف تسوغين إقدام النظام بقيادة بشار على قصف المدن منذ أكثر من خمسة أعوام بالطائرات وبكل أنواع الأسلحة، بما فيها الكيماوية؟ أما الانتخابات الديموقراطية التي تتحدثين عنها فهي انتخابات 99،99 التي كانت تعرف بها الأنظمة الشيوعية السابقة، وهي نسخة عن تلك «الانتخابات الديموقراطية» التي تمت عندكم أخيراً، وأسفرت عن انتخاب اورتيغا رئيساً لنيكاراغوا وزوجته نائباً له.
ولم يكن أمامها من مجال سوى أن تنظر في الأرض، وتقول: لا أدري. حينئذٍ أدركت أن السطحية، والمواقف المسبقة، والعماء الإنساني، ومناصرة الديكتاتوريات بناء على الشعارات، من الخصائص المشتركة بين أتباع اليسار الإيديولوجي عموماً، وليست مقتصرة على «يساريينا» المحليين وحدهم.
من بين ما يسجّل للثورة السورية على رغم كل شيء، أنها أسقطت الأقنعة عن وجوه الجميع، فبات نظام العصابة، والقوموي المدعي، والعلماني المزيف، والمقاوم المذهبي، والإرهابي الجهادي، بات هؤلاء جميعهم في الخنادق المتكاملة المناوئة لتطلعات السوريين، يستمدون الدعم من القيصر الأحمر والولي الفقيه.
وعلى رغم كل القتل والتهجير والتجويع والتدمير على مدى ستة أعوام، وتقاعس العالم أجمع عن نجدة السوريين كما ينبغي، تمكّن السوريون بفضل صبرهم وتحملهم وثباتهم، من إفهام الجميع بأن إعادتهم مجدداً إلى حظيرة الطاعة لبيت الأسد وشركائهم باتت أمراً يتجاوز المستحيلات السبعة.
وقد عملت روسيا في هذا الاتجاه، اتجاه إعادة تأهيل النظام، باستمرار، لا سيما في مرحلة ما بعد حلب، وحاولت أن تظهر في هيئة المتحكّم بكل خيوط اللوحة السورية، ودعت إلى اجتماعات آستانة، وحاولت أن تفرض أجندتها في جنيف، وكانت في سباق مع الزمن، لمعرفتها الكاملة بأن الموقف الأميركي في نهاية المطاف هو الحاسم.
وقد بلغ استخفاف روسيا بالسوريين أنها قدمت للنظام كل أنواع الدعم العسكري والسياسي، وعملت جاهدة على «فبركة» المعارضين وتسويقهم، وهي تسعى الى تحديد الوفد المفاوض وفق معاييرها، وبطريقة تذكّرنا بمسرح العرائس الدمشقي. بل بلغ الأمر بالروس حد وضع الدستور للسوريين قبل المفاوضات، وذلك في لحظة درامية إبهارية، كان الغرض منها الإيحاء بأن المقادير والمصائر جميعها غدت في حوزتهم.
وجاءت الضربة الكيماوية على خان شيخون من جانب النظام، وبالتفاهم مع الروس والإيرانيين، وفي أجواء التصريحات الأميركية اللافتة بخصوص مصير بشار، لتكون في حسابات معسكر النظام أداة لبث الرعب الشمولي، تمهيداً لرسم حدود ممالك الرغبة والعقد الماضوية.
وخرج الروس على الملأ بحكاية كانت أكثر «معقولية» من حكاية بثينة شعبان غداة الضربة الكيماوية على الغوطة. لكن القاسم المشترك بين الحكايتين هو افتقارهما الى أية صدقية.
وتوجهت الأنظار جميعها نحو واشنطن التي خدعت تصريحاتها قبل خان شيخون النظام ورعاته. وكانت الضربة الأميركية التي كان أوباما لوّح بها كثيراً قبل أن يتنصّل من خطه الأحمر، مكتفياً بصفقة كان هو أكثر الناس اطلاعاً على جوانبها الرخوة، ومع ذلك اكتفى بالبعد الدعائي، وترك الجاني طليق اليد والقدرات.
ومن محاسن هذه الضربة الأميركية المحدودة أنها أكدت رسمياً للمجتمع الدولي المشلول مسؤولية «نظام» بشار عن استخدام الكيماوي. كما أرغمت الروس على إعادة النظر في حكايتهم التفسيرية - التضليلية حول ما جرى في خان شيخون، وسحب قواتهم في الوقت عينه من المنطقة التي كانت هدفاً للضربة الأميركية، وذلك في اعتراف ضمني بأن القوة الأعظم هي التي تقرر.
لقد كانت روسيا تريد إرغام المعارضة السورية على القبول بمنطقها القائم على أن ما بعد حلب ليس كما قبلها. والآن تبيّن للجميع، ومعهم روسيا بطبيعة الحال، أن ما بعد ضربة مطار الشعيرات ليس كما قبلها.
الضربة الأميركية على محدوديتها، وعلى رغم التساؤلات الكثيرة حول مراميها، وحدودها وجديتها، وإمكانات استمراريتها، تشكّل رسالة قوية للجميع، ولروسيا بخاصة، تؤكد أن مرحلة التفرد الروسي بالملف السوري انتهت. هذا بصرف النظر عما إذا كان ذلك التفرّد قد تم ضمن سلسلة تفاهمات أميركية- روسية سابقة أو لا.
أميركا موجودة بقوة في الجغرافيا السورية براً وجواً. وهي الفاعل الأكثر تأثيراً وقوة اقليمياً ودولياً. وعلى وقع خطاها ينظم الأوروبيون سيرهم، ويعبر حلفاؤها الإقليميون بمناسبة ومن دونها عن رغبتهم في التعاون والإسهام، وتجاوز مرارات وخيبات المرحلة الأوبامية.
أما خصوم أميركا، فيدركون تماماً أن قدرتهم على المجابهة محدودة إذا بلغت الأمور مرحلة الجد.
منذ تدخل الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، والأحاديث تتصاعد حول دورها الإمبراطوري، وإمكانية تحول قوتها إلى أداة تدمير للدول المعادية، والمشاريع المختلفة. في المقابل، عُرِفت التيارات الشمولية بمعاداتها للقيم الأميركية، باعتبارها منتجات لقوة «إمبريالية» تخطط للسيطرة على العالم من خلال الأزياء، والجينز، والوجبات السريعة، والمشروبات الغازية، والسينما، وثيمة الرجل القوي الذي لا يهزم، كما في سلسلة أفلام جيمس بوند، أو أفلام رامبو، التي رغم مبالغاتها، فإنها كانت مؤثرة، شرقاً وغرباً!
تطوّرت الحالة الأميركية، وتفتقت العبقرية الإعلامية عن سيطرة مشهودة، فبات كل شيء أميركياً تقريباً، لأن أميركا ذات قيم مختصرة، وأساسها الحرية والقانون والعدالة، ولا يمكن فصل قوتها العسكرية عن قوتها الميديائية الساحرة، بالإضافة لكونها ذات جذور غير عميقة بالتاريخ والصراعات، إذ وجدت منذ ثلاثمائة سنة، وقيمها خليط من الحضارات والشعوب والأمم، واستلهمت عُصارة الحضارة الأوروبية، وطورتها ضمن مكائنها واحتياجاتها.
في لقاء بين وزيري الخارجية، الروسي لافروف والأميركي تيلرسون، تحدث الأول عن ضرورة «الوعي بالتاريخ»، قبل الدخول في الأزمة السورية، وقال له بشيء من التعالي: «إنك حديث في مهمتك، وليتك تعرف سياق الأزمة تاريخياً»، غير أن الوزير الأميركي أحاطه بأن ما يهم أميركا هو الواقع والحدث الحالي، والتاريخ ليس جزءاً من الاهتمام الشخصي، فأميركا تاريخها حديث أصلاً. تراجع الروس عملياً، حتى وإن تصاعدت لغتهم وتعالت، ذلك أن أميركا لديها قوة ضغط مهولة تتعلق بالعقوبات، وأزمات روسيا الداخلية. وتعرف موسكو أن القوة الأميركية ليست مجالاً للمزاح، وبخاصة في عهد غير عهد أوباما.
ضمن ذلك السياق، يدور الحديث دائماً حول طموحات أميركا العسكرية؛ تتعارض الآراء بين قائلٍ إنها الدولة القوية القادرة على حل الأزمات، والتدخل في مفاصل المعارك، وحسم الصراعات، والبعض الآخر يراها دولة استعمارية إمبريالية توسعية، ولكن كيف يمكن توضيح الدور الأميركي بالشكل الأدق، والأكثر علميةً ومعرفيةً؟!
العميد السابق لمدرسة جون كيندي الحكومية، جوزيف ناي، كتب دراسةً عن «مستقبل القوة الأميركية»، حلل فيها باتزان موضوع دور القوة الأميركية، وعواقبه أحياناً، إذ يعتبر أن إدارة القوة أهم من القوة ذاتها، مقارناً بين القوة الأميركية والصينية مع الفارق، إذ لا تزال أميركا تتفوق، على مستوى العدة العسكرية والعتاد، والغنى التكنولوجي.
يقول في دراسته: «ستظل الولايات المتحدة، بوصفها القوة الكبرى، محافظةً على أهميتها في الشؤون العالمية، ولكن سرد القرن الحادي والعشرين بوصفه قرن التفوق الأميركي، وكذلك أي سرد حول الاضمحلال الأميركي، مضللٌ عندما يسترشد به في تحديد نوع الاستراتيجية التي ستكون ضرورية في القرن الحادي والعشرين. ومن غير المحتمل أن تشهد العقود المقبلة ظهور (عالم ما بعد أميركا)، ولكن الولايات المتحدة ستحتاج إلى استراتيجيةٍ ذكية، تجمع بين موارد القوة الخشنة والقوة الناعمة، وتؤكد التحالفات والشبكات التي ستستجيب للسياق الجديد؛ سياق عصر المعلومات العالمي».
تتدخل الولايات المتحدة في الأزمات، ليس بوصفها أداة استعمار واحتلال بالضرورة، وإنما لقدرتها على دحض المقولات العسكرية والسياسية، من دول عظمى ترى في خلل إنساني ما أمراً طبيعياً، ولا يمكن الحديث عن دافعٍ إنساني محض، بل قد تكون هناك رغبة في استعادة النفوذ، وإضعاف قوى أخرى. وليس سراً أن النفوذ الأميركي من مصلحته أن يتدخل في سوريا على المستويين العسكري والسياسي، بغية إضعاف التدخل الروسي. ودون ذلك التدخل، فإن روسيا وإيران ستعيثان في منطقة الهلال الخصيب فساداً، وستنفرد قواهما في الأمر والتدبير، وهذا مُضر بالأمن القومي الأميركي.
المقولات القديمة حول أميركا لم تعد مجدية، فقد ذهبت التيارات اللغوية الشاتمة، وبقيت هذه القوة العظمى، التي تستطيع أن تغطي بقيمها الإنسانية على المشاريع الدموية، والآيديولوجيات الإقصائية، فهل من عاقل يعتبر قيم حزب البعث السوري، على سبيل المثال، منافسةً لقيم الولايات المتحدة؟!
لن يسعدني العدوان الأميركي على بلادي، كما لم يسعدني قبله أي عدوان، أنا السوري الصامت بالع الموسى على الحدّين. ولم تكن لتسعدني استباحة سمائي ومائي وأرضي من أي طرفٍ أجنبي كان. لا يسعدني أي أمر، لكن هناك أمورًا كثيرة تحزنني وتقهرني وتملؤني شعورًا بالذل والمهانة والهزيمة.
ربما إبريل/ نيسان بالنسبة لي هو شهر المشاعر اللعينة هذه التي تأكل روحي، نيسان الذي يذكّرني بأننا شعبٌ لم نعرف الاستقلال، وكل عام يحتفلون في بلادي بعيد الاستقلال الذي اعتمد اسمه رسميًا بعيد الجلاء. بلى، هو جلاء آخر جندي فرنسي عن أرض سورية التي كانت تحت انتداب دولةٍ تقاسمت المنطقة، وقسمتها بموجب معاهدة سايكس بيكو، بعدما أرضوا تركيا بقسم عزيز من أرض سورية.
سورية لم تتحرّر، فالحرية الحقيقية هي استقلال الإرادة، وأول خطوةٍ في الحرية تبدأ بخطوة حرة، الخطوة الحرّة تعثرت منذ بداياتها، منذ تعاقبت على سورية بعد الانتداب انقلاباتٌ عسكريةٌ حتى استيلاء حزب البعث الذي وُلد ذات نيسان أيضًا على السلطة، وبقائه في سدّة الحكم سبعين عامًا، يحكم البلاد ويتحكّم بمصيرها، بإقامته نظاماً عسكرياً قمعياً أمنياً بعد انقلاب الحركة التصحيحية عام 1970، ولمّا يزل هذا النظام في سورية.
يحزنني أن السوريين انقسموا باكرًا، وانشغلوا بالعداوات البينية، وكل فريق راح يبني الآمال والأحلام على قوة خارجية، ويتلقى الدعم اللوجستي والمعنوي منها، بينما الشعب يقتل ويشرّد ويهجّر، والمجتمع ينهار ومؤسسات الدولة تتداعى ورصيدنا الذي راكمناه من لقمة أطفالنا ومستقبلهم يتبدّد.
أي جهل وضلال وتغريب هذا الذي يحصل؟ يراهنون على القوى التي تتصارع على مصالحها بأرواحنا، متوهمين أن للسياسة أخلاقًا، وأن مواقف القوى المتصارعة فوق أرضنا مبدئية، ويضرمون نار الطائفية والعصبية في صدورهم. التبست صورة الاتحاد السوفييتي بصورة روسيا اليوم، روسيا الدولة الرأسمالية الساعية إلى ترسيخ موطئ قدمها في الساحة العالمية، فمنهم من اعتبرها حامي الحمى وضامن المستقبل، ومنهم من عاداها سابقًا، لأنها دولة شيوعية، استثمر عداءه التاريخي لها انطلاقًا من هذا الموقف. وأما أميركا التي لم تكن يومًا في تاريخها مناصرة لقضايا شعوبنا، ولم تكن إلا دولة استعمارية كبرى، تسعى إلى الاستئثار بالسيادة على العالم، وصديقتها وحليفتها الدائمة في قلب أوطاننا هي إسرائيل، فشعبنا آخر همها، كيف استفاق الحس الإنساني لديها اليوم وأطفال سورية يقتلون في مهدهم منذ سنوات ست؟ على الرغم من بشاعة المجزرة التي حصدت أطفال خان شيخون، لكنها لم تكن المجزرة الأولى، ولا الأكبر في تاريخ هذه الحرب اللعينة. لقد حصدت البراميل أكثر، وحصد طيران التحالف أكثر، وحصد الطيران الروسي أكثر، وطاولت سكاكين "داعش" وجبهة النصرة نحورًا غضّة وأحلامًا طاهرة، وابتلع البحر كثيرين لم يلفظهم كما لفظ الطفل إيلان، ولم تتحرّك أميركا، ولم يتحرّك العالم.
هل ذاكرتنا مثقوبة إلى هذه الدرجة، حتى لم تعد تستطيع أن تنبش من أرشيفها صور المجازر والقتل والدمار والتهجير؟ أم إن الغشاوة على أبصارنا وبصائرنا تزداد سماكةً، فلا نعود نرى أو نسمع إلا أصوات الضغينة والثأر ترسم لنا واقعًا يقضي على أدنى إمكانيةٍ لأن نصحو ونعرف من أين نمسك بمصيرنا؟
يا للمهزلة والفاجعة، صار بوتين هو "أبو علي بوتين"، وصار ترامب "أسد السنة" و"أبو عمر ترامب"، في استدعاءٍ قاتلٍ لإرث أكثر من ألف وأربعمئة عام من الشقاق المبارك من سلاطين الاستبداد مجتمعين، غافلين عن المجازر التي يرتكبها المدعوان في أرضنا بفجاجة وفجور صريحيْن، أو بالوكالة عن طريق أدواتهما، فأي دركٍ من التفكير والإدراك والفهم والانحطاط العاطفي قد وصلنا إليه؟ صرنا نشهر ولاءاتنا برموزٍ نعيد تداولها وتكرارها، انطلاقًا من ثوابت التفكير الذي رسخه النظام الشمولي بمهارته الفذّة في تصنيع الكوادر، فصُور "بو علي بوتين" تلصق على السيارات وحافلات النقل العامة، وتشهر على الواجهات، مثلما اعتادت ذاكرتنا البصرية على مدى 50 عامًا على رؤية صورة الزعيم القائد في كل مكان. وبعد الضربة الأميركية على مطار الشعيرات، الضربة الإشكالية التي ليست أكثر من حركة تضليل، تعيد خلط الأوراق، وتربك مشاعر الناس الغاضبة والمحقونة، عمد مشتركون على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) إلى وضع صورة ترامب الممهورة بكلمة "منحبك" صورة شخصية.
هذا السوري الذي فاجأ نفسه بعد الحراك بصورةٍ تتناقض مع تصوره عن نفسه، بعدما حُقن، عقوداً خلت، بمشاعر العزة والكرامة والوطنية والتميز والتفرد، مشاعر خلبية خادعة مارست تنويم الفكر والمشاعر عليه، لم يستطع الانفلات من قيد القالب الذي يحاصره، لم يستطع امتلاك أدوات تفكير جديدة، تناسب طموحه وجنوحه نحو الحرية، ما زال عبدًا للمفاهيم التي صنعها الاستبداد ولأدوات التفكير والتعبير التي لم يتقن غيرها بعد، فعلى مدى الحراك الذي دخل سنته السابعة، لم يتخلص السوري من الشخصنة، إن كان بدايةً في إطلاق تسمياتٍ على أيام الجمعة وقت الحراك السلمي والتظاهر، إلى اليوم، ليس فقط الشخصنة والحاجة دائمًا إلى "زعيم" يتبعه ويمنحه الولاء، بل الحاجة العاطفية، التعلق الشعوري والنفسي به، حاجته إلى الأب مثلما لو كان محرومًا من الأبوة، أو لو أن الحياة لا تستقيم بلا سندٍ قويٍّ جبار، يتكثف معناه في صورة القائد الخالد الرمز.
السوري المنتهك جسديًا ونفسيًا وروحيًا، دفعته الحرب الملعونة، المدعومة بحرب إعلامية جبارة، إلى متاريس العداوة البينية، فصارت مواقفه كيديةً من دون إدراكٍ للكارثة التي تحيق بوطنه، مواقف مبنية على العصبية الطائفية والمذهبية والقومية، صار السوري عدو السوري لدى غالبية الشعب، وصار الوطن والوطنية بازارًا للمساومة والاحتكار، وصار التخوين يُبنى على الولاءات الخارجية، وفق الأجندات المطروحة، فمن لا يؤيد ولاءاتي خائن للقضية والوطن، بينما العالم يسوّي حساباته على حساب مصيرنا ومستقبلنا وأحلامنا. لم يعد السوري ينتبه إلى أن الوطن هو المنتهك، وأن أبناءه يفقدون حصتهم فيه ومستقبلهم عليه، بل صار يُسكت صوت العقل، فيما لو اخترق مجاله السمعي، لأن صراخ الدم أقوى وأعتى، صراخ الدم ليس صوتًا فقط، هو نار تتّقد في الصدور، تضرمها الخطابات المأجورة، ولا يخمدها غير الثأرية المرتجاة، الثأرية المدفوع لها، كي تتغوّل وتبدّد طاقاته، وتدفعه إلى حمل سلاحه وإشهاره نحو الدريئة الخطأ، نحو أخيه في الوطن، بعد أن شرخت الحرب الصدور والنفوس، وقضت على الرحمة والتراحم وصلة الرحم.
في السابع عشر من أبريل/ نيسان، في العام 1946، طرد الشعب السوري آخر جندي فرنسي عن أرض بلاده، فدوّن عيدًا تاريخيًا سُمّي "عيد الجلاء". ربما هذه التسمية من الحقائق القليلة التي تحسب للتاريخ، فالجلاء لا يعني الاستقلال. والاستقلال، بتعريفٍ بسيطٍ، ليس إلا استقلال الإرادة وحرية صنع المصير، وقد صودر الإنجاز التاريخي للشعب السوري، منذ استلبت قراره وحقه في صنع حياته ومصيره أنظمة عاتية الديكتاتورية، سلبته إحساسه بنفسه، وغرّبته عنها، فكانت النتيجة الفادحة ما نراه اليوم: احتفالا بالغزو الأميركي، وقبله تهليلا للهيمنة الروسية ومباركة لغاراتها وما تحصد من أرواح الأبرياء، وانقسام الشعب بين مؤيد لـ "بو علي بوتين" ومؤيد لـ ترامب "أسد السنة"، وسماؤنا مستباحة، مثلما أرضنا وآدميتنا، وبدلاً من التفكير بالاستقلال عن كل ما يعيق تحقيق الحلم الذي انتفض من أجله الشعب، والسعي إلى إحياء الوطن من جديد، وإعادة إعماره على أساس المواطنة السليمة المعافاة، ازددنا انقسامًا وتبعيةً وفق نزعاتٍ عصبيةٍ مذهبيةٍ وطائفيةٍ بجدارة تمنح الطامعين بسيادتنا من طغاة وحلفائهم ما يفوق ما ارتجوه من حربهم علينا.
مثلت الضربة العسكرية الأميركية على مطار الشعيرات في حمص تغيراً جذرياً في الموقف الأميركي من سورية، وتحديداً ضد نظام الرئيس بشار الأسد. لقد استخدم الرئيس ترامب كلمات قاسية جداً بحق الأسد، فوصفه بأنه «شرير» وغير ذلك من العبارات المسيئة التي تعكس موقفاً شخصياً أكثر منها موقفاً سياسياً. وفي حالة سورية فإن الموقف الشخصي للرئيس الأميركي هو أهم بكثير من الموقف السياسي لأسباب عدة:
أولاً: الملف السوري أصبح معقداً ومتشعباً واختلطت فيه قضايا كثيرة كاللاجئين والتدخلات الإقليمية والإرهاب وغيرها، وكلها تدفع أي دولة بما فيها أميركا للتردد في اتخاذ أي موقف أو التصدي لحل هذه القضية لأنها ستتحمل كل تبعاتها، وقد وصل الرئيس السابق أوباما إلى هذه النتيجة وقرر أن لا يتعامل مع هذا الملف كلياً وتركه للتعفن حتى وصلت الأزمة السورية إلى ما وصلت إليه، وهي الخلاصة ذاتها التي كان المرشح ترامب يحملها، وبقي على ذلك الموقف خلال أسابيعه الأولى في البيت الأبيض، وبالتالي قرر متابعة سياسة سلفه في عدم الانخراط في القضية السورية والتركيز فقط على تفصيل صغير يتعلق بالقضاء على «داعش»، ومن خلال الغارات الجوية حصراً والاعتماد على حلفاء محليين على الأرض من أجل تنفيذ هذه المهمة، وبالتالي كان الانخراط السياسي لأي رئيس أميركي جديد في سورية مستحيلاً إلا إذا وجد دافعاً شخصياً له للاهتمام ووضع سورية في صلب أولوياته، ولذلك فإن التصريحات الشخصية للرئيس ترامب ضد الرئيس السوري تعكس كيف يفكر ترامب وحاجته إلى استخدام نفوذه وقوة الولايات المتحدة من أجل القيام بشيء ما يراه جيداً في الحالة السورية.
ثانياً: صحيح أن ترامب لا يملك خبرة في السياسة الخارجية أو الخيارات العسكرية، لكنه محاط بخيرة الخبرات العسكرية في البنتاغون ومجلس الأمن القومي، وبالتالي يكفيه أن يعبر عن مواقف سياسية وعلى مستشاريه أن يقوموا بتحويلها إلى سياسات عملية على الأرض، ولذلك فبمجرد استخدام الأسد السلاح الكيماوي في خان شيخون وجد ترامب في هذا العمل تصرفاً لا أخلاقياً واستشعر أنه يجب القيام بشيء ما، فطلب الخيارات العسكرية التي قدمت له على شكل ثلاثة خيارات، فاختار أولها والذي كان توجيه ضربة محدودة للمطار الذي خرجت منه الطائرات التي قصفت خان شيخون، وهو ما يعكس أن ترامب لا يتردد في استخدام القوة العسكرية حتى من دون تغطية قانونية إذا شعر أنها ضرورية بالنسبة إليه، وبالتالي ومجدداً فإن ما يسمى الاتصال الشخصي بالقضية لعب دوراً كبيراً في اتخاذه القرار المناسب والسريع.
ثالثاً: يشعر ترامب أنه مني بثلاث هزائم داخلية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من حكمه، الأولى كانت رفض المحكمة الفيديرالية لقراريه الأول والثاني في ما يتعلق بمنع السفر لمواطني سبع دول مسلمة من بينها سورية، ووقف برنامج اللجوء بشكل موقت. والثانية كانت في فتح مكتب التحقيق الفيديرالي (أف بي آي) تحقيقاً في العلاقة بين حملة ترامب وروسيا والتي أثرت في شكل كبير على صورته الداخلية، خصوصاً بعد استقالة مستشاره للأمن القومي مايكل فلين. والثالثة كانت في عدم تمكنه من تمرير قانون التأمين الصحي المقترح من قبل الجمهوريين وإلغاء قانون الرعاية الصحية الذي استطاع أوباما تمريره في الكونغرس قبل ست سنوات، وكان نقطة هامة في الحملة الانتخابية للمرشح ترامب. بالتالي هناك حاجة شديدة له كي يحقق نجاحاً ما، خصوصاً خلال المئة اليوم الأولى من حكمه، ولذلك ربما يرى في سورية الاهتمام الكبير والدعم الذي حصل عليه بعد ضرب مطار الشعيرات فرصة في تحقيق نجاح ما يمكنه الاعتماد والبناء عليه، وربما هذا ما يفسر وضع سورية على رأس اهتمامات وزير الخارجية الأميركي في رحلاته وتصريحاته الصحافية، وربما كان أكبر دليل على ذلك ما قاله ترامب خلال مؤتمره الصحافي مع الأمين العام لحلف الأطلسي وهو يقرأ من تصريحه المكتوب «حان الوقت لإنهاء الحرب الدموية في سورية، ومنع الجرائم التي ترتكب بحق الأطفال والرضّع في سورية»، مستكملاً أوصافاً حادة ضد بشار الأسد من خلال وصفه بأنه «جزار».
من كل ذلك، يتوقع أن تعمل إدارة ترامب على تطوير استراتيجية سياسية وعسكرية بالنسبة إلى سورية، ربما تعتمد في بعض عناصرها على ما قامت به إدارة أوباما من قبل في التركيز على محاربة «داعش»، لكن، وفي الوقت نفسه، تطوير أولوية الدفع بالانتقال السياسي وإزاحة الأسد، الذي قال وزير الخارجية الأميركي تيلرسون أنه يمكن أن يتم في شكل متواز، وليس بالضرورة متعاقب.
المشكلة الرئيسية في هذه الاستراتيجية ستكون المعارضة السورية السياسية والعسكرية، وإعادة تموضع القوى الإقليمية. فالمعارضة السورية السياسية في انهيار تام بفعل خلافات داخلية، والأهم عدم قدرتها على التأثير في مجرى الأحداث في سورية بفعل عنف النظام الأعمى مما ألغى أي معنى لمفاوضات أو عملية سياسية يمكن لها أن تسهم في بناء معارضة سياسية ذات تأثير وفعالية. أما المسلحة منها، فقد انهار «الجيش السوري الحر» كقيادة مركزية في عام 2014 ولم تفلح أية جهود في إعادة توحيد الفصائل المختلفة تحت راية واحدة. ومع تعدد الفصائل وتفرقها واتخاذها مسميات عدة، لم تفلح في تكوين بديل عسكري، ومع تلاحق سلسلة الانهيارات العسكرية وآخرها في حلب، أدركت الفصائل العسكرية أنها تعيش مرحلة من التراجع والانهيار مع تزايد دعم الميليشيات الشيعية و «حزب الله» لنظام الأسد على الأرض، وهو للأسف ما لم يدفع هذه الفصائل للقيام بإعادة بناء التحالفات العسكرية وتركيز جهودها في استراتيجية عسكرية موحدة. الذي حصل هو العكس تماماً حيث انهارت واختفت هذه الفصائل رويداً رويداً.
أما على المستوى الإقليمي فكان تغير الأولويات عاملاً رئيسياً في انهيار المعارضة السورية المسلحة، خصوصاً بالنسبة إلى تركيا والسعودية، فأصبح تركيز تركيا على منع الكرد المتحالفين مع «حزب العمال الكردستاني» من كسب المزيد من الأراضي السورية. ومع الانقلاب الحوثي على الشرعية في اليمن زاد اهتمام السعودية بحديقتها الخلفية التي أصبحت أولوية لا بد من تنظيفها، ولذلك يمكن القول إن نقطة الضعف الرئيسية في الاستراتيجية الأميركية ستكون المعارضة نفسها التي تُركت لسنوات تحارب وحدها قوات نظام الأسد و «حزب الله» والميليشيات العراقية والإيرانية وقوات «الحرس الثوري» وفوق ذلك كله القوات الروسية التي تدخلت جوياً مع نهاية عام 2015 وبرياً مع نهاية عام 2016.
لذلك ولإنجاح أية استراتيجية أميركية في سورية للتخلص من نظام الأسد يجب أن تعيد المعارضة السياسية والعسكرية تمركزها وتنظيم صفوفها وإلا أضاعت الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما تبقى من سورية.
قتلت الولايات المتحدة أشخاصًا لا تُعرف هوياتهم. قتلت مدنيين قالت إنهم جميعًا قُتلوا من طريق الخطأ، والخطأ يتكرر، وأشلاء الضحايا تتناثر حاملة توقيع الطائرات الأميركية في سورية.
أظهرت وثائق سرية كشفت عنها إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، أن أميركا استخدمت سلاح الطائرات بدون طيار أكثر بخمسة أضعاف من إدارة سلفه جورج بوش، وهو ما أدى إلى سقوط كثير من الضحايا.
لكن المفاجأة لم تكن بهذه المعلومات، بقدر ما كانت بالمعلومات التي أكدت أن 90 في المئة ممن قتلوا في غارات الطائرات بدون طيار، خلال خمسة أشهر، لم يكونوا هم الأشخاص المستهدفين، وأن 456 غارة بهذه الطائرات -أواخر 2014- قتلت 2464 في 7 بلدان (باكستان وأفغانستان واليمن والصومال والعراق وليبيا وسورية).
علق عليها حينئذ الصحافي الأميركي “جيريمي سكيل” الذي شارك في الكشف عن الوثائق بأن الغارات التي يشنها الجيش الأميركي بهذه الطائرات تستهدف -عادة- شخصًا واحدًا، لكنها تقتل معه عدة أشخاص، يعدّهم الجيش أعداء، على الرغم من أنهم ليسوا مستهدفين.
وكما هي العادة الأميركية في استخدام اللغة والمصطلحات، فمنذ حرب فيتنام أتوا بمصطلح collateral damage أي: “الأضرار الجانبية”؛ لتجميل القتل المجاني، بل إن هيئة اللغة الألمانية أعلنت عام 1999 أن كلمة العام كانت “الأضرار الجانبية” في إثر حرب كوسوفو الدموية. على الرغم من الانتقادات الكثيرة من داخل أميركا التي طالت الطريقة الأميركية في التعامل مع ضحاياها المدنيين، إلا أنها بقيت انتقادات إعلامية بعيدة عن مركز القرار.
موت مجاني
قتلت قوات التحالف الدولي في اليوم الأول من غاراتها على سورية، 24 أيلول/ سبتمبر 2015، ما لا يقل من 24 مدنيًا، بينهم 5 أطفال و5 نساء، بحسب توثيق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، واستمر نزيف الدم السوري على يد جميع من يقاتل على الأرض السورية بدءًا بالنظام السوري وميليشياته، ومرورًا بتنظيم الدولة الإسلامية، وفصائل إسلامية متشددة، وميليشيات كردية، وانتهاء بالتحالف الدولي، ولكن كل من قَتل على الأرض السورية كان يُندَّد بقتله المدنيين من جهات أممية أو غربية، وعلى الرغم من أن التنديد لم يوقف أو يخفف من عدد القتلى، إلا أنه أصبح سمة ترافق المجازر اليومية السورية، وبقي القتل على يد التحالف الدولي قيد التجاهل.
واليوم وصل عدد ضحايا نيران التحالف الدولي منذ بداية تدخله في سورية “لمحاربة داعش بحسب التصريحات الأميركية والدولية”، من المدنيين السوريين إلى 945 شخصًا، بحسب توثيقات الشبكة السورية 1 آذار/ مارس 2017.
وفي بداية العام الجاري، في كانون الثاني/ يناير، تفوقت قوات التحالف الدولي على القوات الروسية بعدد القتلى المدنيين، فقُتل بنار التحالف في ذلك الشهر 91 مدنيًا.
مجازر التحالف
اعتاد التحالف الدولي على منهجية تبتدئ بإنكار قيامه بمجزرة كردّ أولي وسريع، ثم تأتي الخطوة الثانية بالاعتراف بالمجزرة، وتليها مباشرة الخاتمة بتحميل المسؤولية لأحد الأطراف المتصارعة على الأرض، بذريعة أنها قدمت للتحالف بيانات وإحداثيات ومعلومات مغلوطة، وينتهي الأمر عند هذا الحد؛ لينشغل المدنيون بجمع الأشلاء من تحت الأنقاض، ولتخف الانتقادات تدريجيًا، وبالطبع، وكما هي العادة في سورية، سرعان ما ترتكب مجازر أخرى على يد أطراف أخرى في مكان آخر؛ ما “يعفي” التحالف من مسؤولياته تجاه “الأضرار الجانبية” من المدنيين ضحايا الحرب العالمية التي تتم على الأرض السورية.
في تموز/ يوليو 2016، قُتل في منبج السورية، من ريف حلب، مالا يقل من 200 مدني بنار غارات التحالف، وبعد الإنكار الأولي اعترف التحالف بارتكابه المجزرة، وحمل المسؤولية لميليشيا “قوات سورية الديموقراطية”، وكأن التحالف الدولي يلعب دور الأعمى، فلا هو يمتلك أقمارًا صناعية، ولا يعرف شيئًا عن التكنولوجيا التي يدرك العالم كله أن ذريعة المعلومات المغلوطة لا تقنع حتى ذلك المقيم في الجبال البعيدة عن الحضارة.
وأما تسويغ التحالف للمجزرة، فجاء أكثر قسوة من المجزرة نفسها، لاستخفافه بأرواح المدنيين، إذ قال المتحدث باسم التحالف، كريستوفر غارفر: إن “الغارة كان من المقرر أن تستهدف كلًا من المباني والمركبات التابعة لداعش، إلا أن تقارير وردت لاحقًا من مصادر مختلفة تحدثت عن احتمال وجود مدنيين بين مسلحي التنظيم الإرهابي يستخدمهم دروعًا بشرية”.
وأضاف “غارفر” في بيان نشره موقع وزارة الدفاع الأميركية أن الهجوم ضد تنظيم الدولة في منبج تم بناءً على معلومات من ميليشيا “قوات سورية الديمقراطية”، وأشار إلى أن التحالف سيحدد ما إذا كانت المعلومات موثوقة بما فيه الكفاية؛ لإجراء تحقيق رسمي، وتابع “نبذل جهدًا لتجنب سقوط ضحايا مدنيين أو أضرارًا جانبية لا داعي لها وللتقيد بمبادئ قانون النزاعات المسلحة”.
ونقلت “الواشنطن بوست” عن بريت ماكغورك، المبعوث الرئاسي الخاص لمنظمة “مكافحة الإرهاب”، في تعليقه على مجزرة منبج: “كانت هذه هي الحملة الجوية الأكثر دقة في التاريخ”.
إذن؛ المدنيون في سورية هم ضحايا لا يمكن تجنبهم، وأضرار جانبية لا داع للاهتمام بها، وهنا يتوقف الكلام إذ إننا لا نجد تعليقًا ملائمًا للتوصيف الأميركي للضحايا المدنيين السوريين.
مجزرة المدرسة
نفذت طائرات التحالف في 21 آذار/ مارس 2017 غارات على بلدة المنصورة في ريف الرقة السورية، لتصيب مدرسة البادية التي يقطنها 50 عائلة نازحة من ريف حلب والرقة وتدمر؛ ما أدى إلى مقتل وجرح أكثر من 200 مدني.
وبأرقام “المرصد السوري لحقوق الانسان؛ “فإن التحالف ارتكب 4 مجازر متتالية بين 16 و20 آذار/ مارس 2017، أي خلال 4 أيام فحسب، بمعدل مجزرة يومية، وطالت تلك المجازر مدنيين من قاطني ريفي حلب والرقة، والنازحين إلى هذه المناطق، إضافة إلى ضربات متفرقة خلّفت عدة قتلى، وبحسب توثيقات المرصد، فإن 85 سوريًا قُتلوا بهذه الضربات، بينهم 10 أطفال دون سن 18، فضلًا عن المصابين بإعاقات دائمة؛ بسبب غارات التحالف، والأضرار المادية التي لا يتحدث فيها أحد بسبب الخسائر البشرية العالية.
وبمرور سريع بضحايا التحالف الدولي في سورية، نجد أنه في آذار/ مارس 2015 ارتكبت مجزرة في بير محلي، في ريف حلب؛ إذ لقي نحو 60 شخصًا مصرعهم، وبشهادة لممرض من المنطقة، فإن هذه المجزرة أبادت عائلات بأكملها من جراء استهداف منازل مدنيين.
وأيضًا جاء تسويغ القيادة المركزية الأميركية على لسان الناطق باسمها للمجزرة بأن الميليشيات الكردية التي كانت تسيطر على المنطقة قبل تنظيم الدولة الإسلامية أكدت خلوها منذ أسابيع من المدنيين.
في المدة بين 28 تموز/ يوليو 2015 و4 شباط/ فبراير 2016، أي خلال 7 أشهر تقريبًا، وُثقت 15 حادثة استهداف لمناطق مدنية ومراكز حيوية في سورية، وتسببت تلك الاستهدافات بمقتل 68 مدنيًا في الأقل، وخلال تلك المدة جرت مجزرة عين الخان التي راح ضحيتها 40 مدنيًا، بينهم 19 طفلًا. وفي قرية عين الخان في ريف الحسكة، قتل 40 من المدنيين يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر 2015 بغارات التحالف الدولي، وكالعادة تبودلت اتهامات، وقُطعت وعود بإجراء تحقيقات، ومن ثم؛ طويت الصفحة مرة جديدة.
يبدو أن جميع القتلة المتصارعين فوق سورية لهم المنهجية نفسها: مجزرة تصيب المدنيين، ثم إنكار وتهرب، ثم تسويغ وتحميل الخطأ لطرف آخر؛ وبعد ذلك بمدة قصيرة، مجزرة جديدة تخطف أضواء الإعلام ومشاعر الناس، فتغطي على التي قبلها، وهكذا دواليك؛ يُقتل المدنيون السوريون بأسلحة الجميع، بذريعة حماية المدنيين من أسلحة الجميع. متى ستقف الإنسانية وتقول إنها “جرائم جانبية”، وليست “أضرارًا جانبية”، بل متى سنقف -السوريين- لنرفض أن يكون مقتل من معنا “جريمة” ومقتل من ليس معنا “ضررًا”.
كثيرا ما اتُّهم من يحلل الأحداث على الأرض السورية بربطها باتفاقاتٍ دوليةٍ مسبقة، أو تنسيق بين القوى الكبرى الفاعلة في هذا الملف، بأنه حبيس "نظرية المؤامرة". وبأنه، بالتالي، بعيد عن الواقع أو العوامل الداخلية، بما فيها مخططات نظام الأسد وقدراته المحرّكة للأحداث. لكن ما تثبته الأيام مجزرةً بعد أخرى، ومعركة سياسية بعد أخرى، أن ما يجري لا يمكن له أن يكون من دون اتفاقات حقيقية مدروسة، وأن كل ردود الفعل التي وصلت إلى درجة التدخل العسكري الأميركي في الأيام القليلة الماضية ما هي إلا خطوات مقرّرة ومرسومة بعناية لتحقيق التقاطع المطلوب بين مصالح الدول الفاعلة، والسير باتجاه هدف محدّد، لا يغيّره تصاعد الخطوط البيانية أو هبوطها، للشدّ والرخي بين كل الأطراف.
وكالعادة، ولأن السوريين بشكل عام "محكومون بالأمل" الذي تسرّب من بين أصابعهم، وتبعثر في الهواء، تفاءل كثيرون بالضربة الأميركية المفاجئة، والتي جاءت بعد أن اعتراهم يأس تام من أي تدخل خارجي، سبق لهم أن طلبوه في مراحل سابقة من الثورة، لكن هذا الأمل الوهمي ما لبث أن بدأ بالتراجع خلال الساعات التي تلت الضربة، ليتلاشى تقريباً خلال ما تلاها من أيام، وليعود السوريون إلى حالة اليأس التي بدأت تصبح مضاعفةً ومشوبة بالتوقعات الأسوأ.
لم تكن مجزرة خان شيخون الأولى من نوعها خلال السنوات الماضية، فقد سبقها استخدام نظام الأسد الأسلحة الكيميائية والمحرمة دولياً في مناطق عدّة، لكنها ربما كانت الأكثر وقاحةً، باعتبارها جاءت بعد إعلان النظام السوري تسليم كل ترسانته من الأسلحة الكيميائية، كما كانت الصور والفيديوهات المنتشرة بعدها واضحةً وصارخةً وغير محتملة، لكن الأهم من هذا كله أنها جاءت في ظروفٍ دوليةٍ معقدة، خصوصا في ما يتعلق بوجود الإدارة الأميركية الجديدة التي تسعى إلى أن تثبت اختلافها عن سابقتها، كما يسعى رئيسها، دونالد ترامب، إلى تثبيت قدميه، عن طريق إعادة "هيبة" أميركا ودورها الرئيسي في العالم، من خلال إثبات عنجهيتها واستهتارها بكل المحافل الدولية، وقدرتها على التصرّف منفردة.
وكما هو واضح حتى اللحظة، لم تهدف الضربة الأميركية المحدودة إطلاقاً لإزالة بشار الأسد ونظامه، بل إنها لم تتعدّ كونها رسالة سياسية لروسيا ودميتها في سورية، لإجبارهما على العودة إلى الحظيرة. وهو تماماً ما حملته الرسائل السياسية التي تبعت الضربة العسكرية اليتيمة، والتي جاء بعضها على شكل تصريحاتٍ تهديديةٍ واضحة، على لسان مندوبة أميركا في الأمم المتحدة، أو الناطقين المختلفين باسم إدارة ترامب.
لمّحت تلك التصريحات لروسيا بعصي مختلفة، كان أهمها ملفات التورّط بجرائم ضد الإنسانية في سورية، ولم يكن التلميح إلى الدور الروسي في تصنيع السارين وتعبئته في مطار الشعيرات إلا واحدا من هذه العصي.
في المقابل، علا في اليومين التاليين للهجوم الكيميائي، والسابقين للضربة الأميركية، الصوت الإسرائيلي الذي تجاوز، هذه المرة، أرقامه القياسية، ما يمكن اعتباره مؤشراً آخر لما قد تحمله المرحلة المقبلة، والذي قد يصل إلى ظهور إسرائيل لاعباً معلناً مهّد له الدخول العلني لأميركا، وهو ما سيكون، إن حدث، الشعرة القاصمة للمعارضة السورية، والخطوة التالية بعد التدخل الأميركي التي ستحول الأسد إلى بطل قومي، يحارب القوى الإمبريالية العالمية التي تخافه، وتسعى إلى النيْل منه.
الملفت للنظر أن نظام الأسد لم يحتج إلا ساعات بعد الضربة الأميركية، حتى يعاود نشاطه اليومي المعتاد في قصف المدن والبلدات السورية، برفقة حلفائه الروس ومليشياته متعدّدة الجنسيات، بل واستخدموا في اليوم التالي الكلور والنابالم المحرّم دولياً، إضافة إلى غارات مركزة وكثيفة بالبراميل والقنابل.
هي مجرد مجزرة أخرى إذا، استدعت صفعة تأديبية خفيفة، لن توقف الموت المجاني المعلن للسوريين، ولن تغيّر من المعادلة شيئاَ سوى إعلان لاعبٍ آخر انضمامه الصريح لفريق اللاعبين على الأرض السورية، بعدما كان يدير الحلبة من بعيد.
تسعى دول عظمى جاهدة لتطعيم دول العالم ذات الأنظمة الفاشية بلقاح الديمقراطية، في محاولة لتعديل الجينات في تلك المجتمعات، وصبغها بطباع الدول المتحضرة، فتنمو فيها وتثور في وجه تلك الأنظمة الديكتاتورية المجرمة، وأنظمة الحكم الملكي الذي جعل البلاد مزارعاً لحفنة من الملوك والأمراء، وأصبحت الشعوب فيها خدم مستعبدة تسهر على حماية تلك المماليك.
لكن من المؤكد أنّ ولادة الديمقراطية لن تستنسخ نفس المواليد في كل المجتمعات، بل اكتسب القادة أصوات القاعدة الهرمية التي بنيت عليها وستكسب تمثيلها وتفرض حضورها، وحينها ستختلف صفات المواليد الجدد في المجتمعات المتحضرة عن المحافظة، كما ستختلف في البلاد ذات الصبغة العنصرية والطائفية عن المجتمعات التعددية المتحررة.
هذه النتيجة ستكون حتمية فالديمقراطية هي: من أنجبت بوتين لروسيا وترمب لأمريكا وأولاند لفرنسا وروحاني لإيران، وهي أيضاً من أوصلت مرسي لمصر وأردغان لتركيا.
ومن المؤكد أنها لن تنجب عباس لحكم إسرائيل مهما قدّم لها من خدمات وتنازلات، ولم تكن لتنجب السيسي لمصر لولا عملية الإجهاض الانقلابية التي استهدفت مرسي، وجلبت اللقيط المشوه من شوارع السياسة ليحكم مصر، ويجعلها سخرية العصر.
ستنطلق الشعوب من قيودها، وستبحث عن السيادة والاستقلال، لكنّها لن تنسى تاريخها وتقاليدها ومشروع أمتها، التي ورثتهْ وستحافظ عليه، فلكل بلد عمقه الذي انحدرت منه الشعوب، وهي من سيدافع عنه بكل الوسائل المتاحة لتحقيق استقرارها واستقلال قرارها مهما عبثت بها المخططات الدخيلة ونالت منها المؤامرات.
والذي حدث في تركيا صباح ال ١٦ من أبريل/نيسان ٢٠١٧ هو نتيجة حتمية للديمقراطية إذا فرضت في المجتمعات المحافظة بعيدا عن الانقلابات.
فمعركة الاستفتاء التركية كانت بين الأحزاب السياسية التي شاركت في حملة “نعم” وهي: حزب العدالة والتنمية، وحزب الحركة القومية، وحزب الاتحاد الكبير، وحزب الهدى الكردي جنوب تركيا وغيرها.
وبين الأحزاب المعترضة وهما حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعب الديمقراطي، والتي اتخذت من المحافظات الكبيرة مقرا لحملاتها في كل من أنقرة واسطنبول وأزمير.
وما إن انتصرت الأحزاب المؤيدة، حتى أعلن قائدها الرئيس أردغان بفتح باب الحوار والتعاون بين جميع الأحزاب، بعد انتهاء الاستفتاء.
نجحت “نعم” بنسبة ديمقراطية ضئيلة جداً، لذلك وجه “أردغان” أنصاره وخصومه من السياسيين للحوار العقلاني، وسيتجه باقي الشعب التركي لإكمال بناء تركيا الجديدة، فقد أقرّ الاستفتاء التعديلات الدستورية وانتهى الأمر، والدولة التركية سوف تتوجه خلال السنتين المقبلتين نحو النظام الرئاسي الجديد.
وأما من صوّت بنعم لن يقاتل من صوت بلا؛ لأن الجميع في معركة بناء وليس في معركة هدم ولن يغضب الأم الحنون ولن ينكر الحضن الدافئ الذي يجمع كل أبناء تركيا ويلمّ شملهم.