لاقى الاتفاق الموقع بين " أحرار وتحرير الشام" مع إيران، والذي نفذت أولى مراحله، حالة استنكار كبيرة في أوساط الفعاليات المدنية والشعبية والإعلامية، حيث تعرض الفصيلين لانتقاد كبير عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وحالة غضب شعبية كبيرة في محافظة إدلب، لاسيما بعد الإفراج عن معتقلين حديثي العهد في سجون الأسد، فيما غاب أوائل المعتقلين والمعذبين في سجون الأسد منذ سنوات بتهم مناهضة نظام الأسد وبتهم عديدة لفت لهم لأنهم كانوا من أوائل الثائرين ضده.
ورأى البعض أن الاتفاق كان كاشفاً للأقنعة التي طالما اختفت ورائها الفصائل التي تسمي نفسها "إسلامية" والتي عملت الماكينة الإعلامية لها طوال سنوات الحراك الثوري على إظهارها بموقع الحق والمطالب بمظالم الشعب، والمحارب لأجل قضيته، مخونة كل من يخالفها لاسيما فصائل "الجيش السوري الحر" التي تسمى "بالمعتدلة" وأطلق عليها تسميات كثيرة كالعلمانية والعملية والمفحوصين وغيرها من التسميات.
ولعل هجوم الفصائل "الإسلامية" على الفصائل "المعتدلة" جاء من الدعم الذي تتلقاه فصائل الجيش الحر من الدول التي تقول أنها صديقة للشعب السوري، تطور ذلك لتلقي الأوامر والأموال من غرف "الموك والموم" فحق بهم غضب الفصائل الإسلامية، واتهامهم بالعمالة، زاد ذلك دخول هذه الفصائل في المفاوضات التي أجريت بدأ من جنيف 1 حتى 4 واستانة، فخونت وهوجمت وسيق بحقها عشرات الفتاوى الشرعية تدين جرمها، علما أنها كانت واضحة وصريحة عن كل ما يدور في أروقة المحافل والمؤتمرات، ولم تقبل بأي ضغوطات مورست ضدها من عدو أو صديق، وحاولت جاهدة تخفيف حجم معاناة السوريين ولم تفلح ومازالت تحاول ولسنا في سياق الدفاع عنهم.
وفي كل مرة تقع الفصائل الإسلامية في عثرة، تنطلق الماكينة الإعلامية والشرعية لتبرر وتبيض عملها وموقفها، وتؤكد أنه في صالح الثورة والثوار، وتمر الاتفاقيات واحدة تلو الأخرى، من راهبات معلولا وصولا لخروج عناصر "جبهة النصرة" من درعا حتى اتفاقيات الهدن في أحياء العاصمة دمشق، وريف حمص، واتفاق حلب الأخير الذي وصف بالنكبة، مع تمرير اتفاق المدن الأربعة وصولاً لاتفاق المدن الخمسة الأخير، وما يحمله من ضعف في موقف الفصائل، وانكسار، وعواقب وخيمة على المدنيين العزل الذين فقدوا أرضهم واستبدلت بخيمة أو زاوية في إحدى مراكز الأيواء، والاهم فقدان الورقة الرابحة من بلدات كفريا والفوعة والتي لم تستطع الفصائل كسبها طيلة سنوات حصاريها فانقلبت ضدها.
فاليوم تساوى الطرفان "معتدل وإسلامي" في خانة واحدة، فالاتفاق كان كاشفا لمن تخفى وراء ستار وعمل في الخفاء، لم يستشر الشعب الأعزل في قرار مصيري اتخذ، وكان قد خون واتهم من سعى للتخفيف عن ذات الشعب ولو بطريق سلمي، فالاتفاق اليوم "أخرس الأبواق التي كانت تستشرف على الغير وتخونهم في كل مناسبة" حسب رأي أحدهم، فالكل في خط واحد يسعى لنفسة ولمصلحته على حساب الشعب الثائر، فيدعي الوصاية عليه، ويحكمه بقوة الحديد، فلا هو نصره وفك الحصار عنه وخفف من ألمه ولا هو قبل بحل سلمي يخفف معاناته، إلا أنه تورط ووقع على اتفاق لم يحسب عواقبه، ولكن غيره لم يفعل .... فأين الأبواق التي نادت "شاهت الوجوه وأفلحت الوجوه" وأين أصحاب الفتاوى الشرعية اليوم مما عاينوه من تأثيرات الاتفاق، فهي خففت عن الأهل في مضايا والزبداني، ولكن تبعياتها ستظهر في القريب العاجل وسيسقط كل من باع دماء وتضحيات الشعب السوري الثائر لأجل مصلحة فصيلة كان إسلامياً أم معتدلاً.
مداولات مجلس الأمن الدولي في أعقاب الضربة الأميركية على قاعدة الشعيرات، وزيارة وزير الخارجية الأميركية، ريكس تيلرسون، إلى موسكو الأسبوع الماضي، تظهر أن عناصر الحل السوري بالنسبة لموسكو لم تصبح مكتملة بعد، على الرغم من الاستنزاف الكبير على المستوى الاقتصادي، حيث تقدّر المصروفات الروسية في سورية بحوالى مليار ونصف المليار دولار شهرياً، وتزيد هذه الكلفة في حال حصول خسائر في طرف النظام، تجد روسيا نفسها مضطرةً لتعويضها، مثل الطائرات التي تم تدميرها أخيراً في مطار الشعيرات.
روسيا التي تعيش أوضاعاً اقتصادية صعبة، بسبب تراجع أسعار النفط والغاز، وتواجه عقوبات اقتصادية غربية، تتكلف على المستوى الاقتصادي في سورية أكثر من إيران، والمبالغ التي تصرفها على إدامة نظام بشار الأسد ليست في وارد التعويض قريباً، فكل ما يجري الحديث عنه، كمكاسب اقتصادية ولوجستية، سوف تجنيها من وراء تدخلها العسكري بسورية، محض حسابات بعيدة عن الواقع، فسورية دولة منهارة اقتصادياً، ونفطها وغازها لا يكفيان في الظروف العادية للاستهلاك المحلي، أما مسألة بناء قاعدة روسية في طرطوس فأشبه بنكتة، إذا عرفنا حجم القوة العسكرية الروسية، ووضعها على المستوى التقني، وقدرتها على منافسة نظيرتها الأميركية التي تنتشر في قواعد على امتداد الكرة الأرضية.
كان الروس يودون لو أن تيلرسون وصل إليهم قبل حصول الضربة، التي غيرت جدول الأعمال بالنسبة لموسكو، فالعاصمة الروسية كانت تطمح إلى ابتزاز واشنطن، وعقد صفقةٍ معها تتعلق بالحل في سورية، يقوم على شروطها التي كانت تريد فرضها على الإدارة الأميركية السابقة، وعلى رأسها الاحتفاظ ببشار الأسد، ولكن الوزير الأميركي ذهب ببرنامج عمل مختلف، وروحية غير التي كان يتحلى بها سلفه جون كيري في زياراته موسكو. ومن دون شك، بات موقف روسيا بعد الضربة أضعف منه عما قبلها، لأن الوزير الأميركي أعلن، من موسكو وبعد اجتماعين طويلين مع الرئيس فلاديمير بوتين والوزير سيرغي لافروف، أن حقبة آل الأسد في سورية شارفت على الانتهاء، وهذا ليس رأي الولايات المتحدة وحدها، بل تقف معها أوروبا والدول العربية المؤثرة وتركيا واليابان.
لم يكن من المنتظر أن توافق موسكو على عرض المقايضة الذي حمله الوزير الأميركي بهذه السرعة، وكان متوقعاً أن يتسم ردها وردود أفعالها بنوعٍ من المكابرة، كي لا تقلل من التسعيرة التي كانت تنتظرها من واشنطن، من أجل تسهيل سير قطار الحل التي تعمل أن تكون حصتها فيه كبيرة.
ومهما كانت طبيعة التكتيك الذي سوف تعتمده موسكو من الآن فصاعداً، من أجل إبقاء ورقة الأسد عالية الثمن، فإنها لم تعد قادرةً على المناورة، كما كان عليه الأمر قبل الضربة الأميركية التي وضعت قواعد جديدة للوضع السوري، وما يفسر ضعف روسيا هو تصعيدها العسكري ضد المدنيين، واستخدامها أسلحة فوسفورية عدة أيام متوالية، وذلك من أجل استدراج تنازلات من الإدارة الأميركية التي حدّدت خطوطها الحمر بالسلاح الكيميائي. ولكن، ليس في وسع روسيا أن تستمر في القتل إلى ما لا نهاية، وإذا لم تكن قادرةً على التوصل إلى أجندة للحل، سواء السياسي أو العسكري، فماذا ستفعل، هل سوف تستمر بالخسارة من دون أي أفق؟
روسيا في معضلة، وهي تعرف طريق الخروج منها، وصار واضحاً أنه ليس في وسعها تغطية الأسد إلى ما لا نهاية، وربما تدخل المسألة السورية في مرحلةٍ جديدةٍ من التصعيد، وتسجيل النقاط. ولكن، سوف ترضخ روسيا لمنطق الحل الذي يشكل ثمن رأس الأسد العقدة الرئيسية فيه.
لم تتمكّن روسيا من تحقيق أي إنجاز عسكري أو سياسي في سورية، بعد انخراطها المباشر منذ أكثر من عام ونصف عام، وليس في وسعها الاستمرار في هذا الطريق من دون أفق.
ترسم الطوائف حدودها في الإقليم بالحديد والنار والدم والتهجير. يصعد المهجرون السنة في الحافلات الخضراء في سوريا ويغادرون بيوتاً وحيوات كثيرة إلى غير رجعة. مثلهم يركب المهجرون الشيعة حافلات لا تلبث أن تستهدف بالتفجير.
التهجير المذهبي يمارسه الطرفان، وإن بتفاوت هائل في نسب الارتكاب، لصالح الميليشيات المذهبية المرعية إيرانياً.
في العراق قطع التهجير أشواطاً كبيرة جرى في خلالها أعمق عملية تغيير ديموغرافي شهدته بلاد ما بين النهرين. محافظات سنية أفرغت من أهلها كما حصل عملياً في صلاح الدين، دعك عن «التحرير» المرعب للموصل، بعد أن سلمها نوري المالكي لمن احتلها، تسليم اليد.
يخدع اللبنانيون أنفسهم أنهم بعيدون عن أهوال هذا الحريق. قليلون يربطون الاستنفار المذهبي اللبناني الراهن بالحاصل من حولهم. أقل منهم من يدرج هذا الاستنفار في السياق العام لرسم حدود المذاهب الجاري في العراق وسوريا وبشكل أو بآخر في اليمن.
لكن الحقيقة أنه بعدما أدت الطوائف اللبنانية قسطها الدموي بين 1975 و1994 (سجن الزعيم المسيحي الماروني سمير جعجع) وعادت واستأنفته عام 2005 باغتيال رفيق الحريري، ها هي تشترك في لعبة ترسيم حدود المذاهب عبر لعبة قانون الانتخاب.
الجاري بين اللبنانيين، والأدق بين نخبتهم الحاكمة، ليس نقاشاً في قانون الانتخاب بل في عقد الشراكة بينهم، وهو امتداد سياسي لحروب المذاهب والقبائل والجهات من البحرين إلى موريتانيا مروراً بالعراق وسوريا وجنوب السودان ومصر وليبيا.
فوضى الحروب والاشتباكات والارتكابات في الساحات الساخنة، تقابلها فوضى المشاريع الانتخابية المقترحة، التي تقيم فصلاً حاداً بين الوسائل والغايات. في العام يجري الحديث عن ادعاءات تحديثية باسم النسبية وأخرى تلبس لبوس الحكمة باسم حماية السلم الأهلي وتحسين شروطه. في العمق تخوض المذاهب حروبها الأهلية الباردة لتنظيم الطلاق بين المكونات وترتيب انفكاك بعضها عن بعض.
فوضى كاملة وغابة من مشاريع القوانين. سبق مثلاً للعماد ميشال عون وبعد تجربة استخدام سلاح حزب الله في الداخل اللبناني في 7 مايو (أيار) 2008، أن جعل مما يسمى قانون الانتخابات النيابية المقر العام 1960، عنواناً وحيداً وحاسماً لتصحيح التمثيل المسيحي، بل لاستعادة ما يسميه «الحقوق المسيحية»! كان قانون الستين خشبة خلاص، وصار اليوم شيطاناً رجيماً.
الوزير جبران باسيل، صهر عون والأقرب سياسياً إلى عقله، تحمس مع الاتفاق الذي صاغته الكنيسة بين القادة المسيحيين، والذي يعطي الموافقة على اعتماد النسبية، ثم ما لبث أن تراجع وصار خصماً لها يغامر حتى بحسن علاقته بحزب الله، المنادي باعتماد نسبية شاملة ضمن لبنان دائرة انتخابية واحدة.
بعدها تنبه باسيل فجأة إلى أن عدد النواب اللبنانيين رُفع بعد اتفاق الطائف من 108 إلى 128، بضغط من الوصاية السورية يومها لتأمين مقاعد لحلفاء سوريا وزيادة عدد المسيحيين ضمن الكتلة الموالية لسوريا. طرح إعادة تقليص النواب وإلغاء المقاعد الإضافية، قبل أن يفطن إلى أن أغلب النواب المسيحيين العشرة (نصف العدد المضاف بعد الطائف) ليسوا بمعايير اليوم في موقع معاداة خيارات بيئتهم. تراجع أيضاً.
حزب الله هو الآخر، الذي قاتل لإيصال عون إلى الرئاسة وما لبث أن اصطدم بكثير من خياراته لا سيما انتخابياً، سقط في فخ التناقض أيضاً. زايد على السنة في قبوله بقوانين الفيدرالية المذهبية، أي أن ينتخب كل مذهب نوابه، أو ما يعرف بالقانون الأرثوذوكسي، ثم عارض اقتراحات قوانين «عونية» فيدرالية ولكن أقل مذهبية. قبل بالتقسيم المذهبي (سني شيعي علوي…) ورفض التقسيم الطائفي (مسيحي مسلم)! عجباً. المفارقة الأكبر أن ما يرفضه اليوم الثنائي الشيعي، أي القانون الذي يتيح للطوائف أن تؤهل المرشحين عنها قبل أن يشارك عموم اللبنانيين في انتخابهم، هو ما كان اقترحه رئيس مجلس النواب في البدء، أي أن الثنائي يرفض اقتراحاً تقدم به أحد ركنيه.
تنجم هذه الفوضى عن أمور كثيرة أختصرها بثلاثة.
أولاً: تبدو اللغة السياسية اللبنانية مفعمة بالأكاذيب والمجاملات، وهو ما يؤدي إلى ما أسميه انفصال الغايات عن الوسائل. جرعة صحية من السفاهة لا بد منها ليفهم اللبنانيون على بعضهم البعض. قبل اتفاق الطائف عرَّف المسيحيون الرئيس القوي بأنه الرئيس القادر على أن يحكم المسلمين. وفق هذا المعيار يُدرج اسم الرئيسين الراحلين كميل شيمعون وسليمان فرنجية بين الأقوياء وفؤاد شهاب بين الضعفاء. الرئيس القوي بعد الطائف هو الرئيس الذي يعلن أكثر عن استعداده للفصل مع المسلمين أو الفكاك السياسي عنهم.
ثانياً: تجربة الطائف في ظل الوصاية السورية، تركت ندوباً عميقة في الوعي المسيحي نتيجة الخلل في الشراكة. ما لم يصر إلى تنقية الذاكرة والتجربة، بين العامين 1990 - 2005 ستكبر الأوهام والأكاذيب وتتضخم بعض الحقائق ويسقط بعضها الآخر.
ثالثاً: لا خلاص لأحد في ظل تغييب الموضوع الأصلي، وهو ضرب فكرة الدولة نفسها وتمييع أسس الشراكة من خلال التمادي في مسايرة ميليشيا حزب الله والتوهم أن في قدرة أحد استخدام هذه القوة لتعديل تموضعه وموقعه تجاه الآخرين.
يسمونهم في واشنطن «طاقم الراشدين» الذي يشمل «محور البالغين» axis of adults المكوّن من وزير الدفاع الجنرال جيم ماتيس، وزير الخارجية ريكس تيلرسون، ووزير الأمن الوطني الجنرال جون كيلي، يضاف إليهم كل من مستشار الأمن القومي الجنرال هربرت رايموند ماكماستر (آش آر ماكماستر)، مدير وكالة الاستخبارات المركزية مايك بومبيو، والسفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي. هؤلاء هم أركان السلطة في إدارة الرئيس دونالد ترامب ونائبه مايك بنس، بل ربما التعبير الأفضل هو أركان الدولة. هناك فاعلون آخرون في إدارة ترامب، أبرزهم فريق جاريد كوشنر صهر الرئيس المتزوج من ابنته ذات النفوذ المميز إيفانكا ترامب، وهذا الفريق يضم أصدقاء من «وول ستريت» في طليعتهم غاري كوهن ودينا حبيب باول نائبة مستشار الأمن القومي، ويواجه هذا الفريق فريق المستشار المتطرف قومياً ستيفن بانون. طاقم الأمن القومي من الراشدين استفاد من التوتر بين فريقي البيت الأبيض وشق طريقه إلى دونالد ترامب الذي بدأ في الأسابيع القليلة الماضية يتصرف كرئيس بناء على التشاور مع أركان إدارته وليس بعشوائية طوّقت أول أيامه في البيت الأبيض. السؤال المطروح هو، كيف سيؤثر جنرالات إدارة ترامب ووزير خارجيته وسفيرة الديبلوماسية الحازمة في صقل السياسة الخارجية المتماسكة، وما هي خلفية فكرهم الاستراتيجي في العلاقات مع العالم؟
الجنرال بأربع نجوم الذي يعرف هؤلاء الجنرالات عندما كان في ساحات العراق وأفغانستان والاستخبارات المركزية، ديفيد بترايوس، يصف الطاقم بأنه «استثنائي» ويقول إن تفكير أركان هذا الطاقم ليس محصوراً عسكرياً وإنما هو فكر استراتيجي مسيّس بامتياز. بترايوس، أثناء مخاطبته «مجمّع آسيا» في نيويورك، وصف نيكي هايلي بأنها «مذهلة» وهي «تقف في وجه روسيا» وتقوم بـ «تعييب الناس بأناقة». وقال عن صديقه المقرب جيم ماتيس إنه من «أروع» المفكرين الاستراتيجيين، عسكرياً وسياسياً، وأطرى بإسهاب على تيلرسون وبومبيو وكيلي وماكماستر.
بترايوس فاعل مؤثر بعمق في تفكير صنّاع السياسة الخارجية وراء الكواليس. إنه لا يتباهى أبداً بذلك، بل يحرص على التقليل من أهمية دوره غير الرسمي. إنما أفكاره التي يعبر عنها في الجلسات الخاصة والعلنية لافتة ومفيدة في عملية التعرف إلى رؤى أركان الإدارة. تصريحاته العلنية شملت قوله إن العملية العسكرية في مطار الشعيرات رداً على استخدام النظام السوري الأسلحة الكيماوية هي «شبه بروفة لفريق الأمن القومي»، والسؤال الذي يتبعها هو: كيف سينتهي الأمر؟ ماذا بعد، إلى جانب تحقيق هدف إلحاق الهزيمة بـ «داعش»؟
رأي بترايوس هو أن الهدف يجب أن يكون إنهاء النزيف وسفك الدماء. رأيه أن ضربة عسكرية واحدة، على أهميتها، لن تؤدي إلى تخويف الأسد. رأيه أن الذي يفرض الحل العسكري في سورية هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والسوري بشار الأسد بالشراكة مع قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» الإيراني والميليشيات التابعة لأمره، وعليه، يتطلب الأمر خلق «ظروف عسكرية» ذات «زخم» مواتية لقيام الولايات المتحدة بطرح مواقفها والحفاظ على مصالحها. رأيه أن سورية باتت «مفككة»، وفق التعبير الإنكليزي Humpty Dumpty الذي يعني أنه من الصعب جداً إعادة تلصيق أعضائها، أقله في الفترة المقبلة، لأن الصراع القائم في سورية سيطول إلى «أكثر من جيل». بالتالي، يتوقع أن تكون هناك –أقله على مراحل– مناطق أمنية تضمنها دول مجاورة لسورية، كتركيا والأردن.
خلاصة تفكير بترايوس نحو روسيا أنه يجب أن يكون هناك «حوار استراتيجي» معها يكون جزءاً من «فن التوصل إلى الحل». فهو يشدد على أهمية التواجد العسكري في سورية بمحدودية أعداد العسكريين على الأرض –وعددهم الآن ألف– إنما بممتلكات عسكرية استطلاعية لها قيمة مميزة في ساحة الحرب العصرية. ويقول: «استغرقنا وقتاً طويلاً قبل استعادة الزخم» ميدانياً، ومن الضروري الإبقاء عليه.
مصدر مطلّع على تفكير «طاقم الراشدين» في واشنطن لفت إلى أهمية ليس فقط أمثال الجنرال ديفيد بترايوس البارز، والجنرال ألن مكريستال قائد العمليات الخاصة الذي سبق وخاض معارك بدءاً من «درع الصحراء» إلى حرب الخليج وأفغانستان والعراق، وإنما أيضاً إلى عدد من الرجال من مرتبة «كولونيل» يتواجدون حالياً في الوزارات هم أيضاً رافقوا الجنرالات في حروب الخليج وأفغانستان والعراق وبين هؤلاء ديريك هارفي، مثلاً، وجويل رايبورن.
يقول المصدر أن جميع هؤلاء العسكريين الرفيعي المستوى الذين عملوا في ساحات الحرب العراقية والأفغانية «فهموا علاقة الأصولية الشيعية المتطرفة بالأصولية السنّية المتطرفة وتمكنوا من حل اللغز بين الاثنين». يضيف أن فكرهم يرتكز إلى انهم «تمكنوا من حل اللغز بين الأصوليين والمتطرفين واكتشفوا تورط النظام الإيراني مع النظام السوري بهدف إجهاض المشروع الأميركي في العراق».
آش آر ماكماستر، وفق المصدر، درس بعمق علاقة النظامين بالجهاديين في كل من سورية والعراق، وهذا ترك أثراً مهماً على فكره ورؤيته الاستراتيجية. أساسي أيضاً في فكره هو «مشروع العراق ومشروع أفغانستان على أساس استئصال الفساد»، وإلا فإن الأمر «كمن يسكب الماء في كوب مثقوب». يضيف المصدر أن ماكماستر مقتنع بأن لا مجال للتقدم في محاربة «القاعدة» أو «داعش» أو أي أصولية متطرفة من دون استئصال الفساد في الدول المشرّعة للإفساد مثل العراق وسورية وأفغانستان. ولذلك اختلف مع الرئيس السابق باراك أوباما وتصادم معه. فماكماستر أصر على ضرورة الاهتمام بالسياسة البعيدة المدى في جهود إصلاح الحكومة الأفغانية حينذاك بقيادة كارزاي والحكومة العراقية بقيادة نوري المالكي بعيداً من سياسة الاسترضاء، لكن أوباما اعتمد الاسترضاء قاعدة أساسية لتنفيذ هوس الانسحاب الأميركي من البلدين وهوس استرضاء إيران.
«طاقم الراشدين» يعتبر أن إيران لعبت دوماً دور المخرّب الأول والأخير للمصالح الأميركية في المنطقة، وبالذات في العراق، وهم يعرفون تفاصيل العلاقة الوطيدة بين طهران ودمشق في إضرام النار ثم عرض دور الإطفائي. هذا ما يسمى بـ «الإطفائي» المريض بمرض إضرام النار. «الجنرالات يفهمون القصة وهو ما يفسّر كراهيتهم للنظامين الإيراني والسوري»، يقول المصدر، «لأنهما شريران في عزمهما على خلق الشرخ بين السنّة والشيعة».
«لهذا، هناك إقلاع حقيقي وصادق عن فلسفة باراك أوباما» وفق قول المصدر المخضرم الذي يعتبر أن سياسة أوباما وإدارته قامت عمداً على الفتنة وإشعال الحروب المذهبية بين السُنّة والشيعة في المنطقة العربية بقيادة إيرانية. فطاقم الراشدين في إدارة ترامب يريد استئصال الأدوات الإيرانية التي تستخدمها طهران في استراتيجيتها العسكرية الخارجية لحماية النظام الثوري وتصديره، وهذا تحوّل جذري بعيداً من السياسة الأميركية في عهد باراك أوباما.
رأي المصدر المطلع هو أن قرار أركان إدارة ترامب هو توفير «الحماية» لرئيس الوزراء العراقي الحالي حيدر العبادي كي يتصرف بثقة ويستأصل الفساد ويتمكن من لعب دور الشريك الحقيقي في استعادة العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والعراق. وهذا بين أبرز ما حمله جاريد كوشنر في زيارته العراق إلى جانب «لوائح بأسماء شخصيات شيعية تريد إيران قتلها بواسطة حزب الله» وفق أحد المصادر.
هذا المصدر يقول إن أي كلام عن تفاهم أميركي– روسي حول دور إيراني في سورية ولو كان عبر ممر ومطار واحد لن يقبل به أركان إدارة ترامب، لأن أي تسهيل للترابط بين إيران و «حزب الله» مرفوض كلياً. ويضيف أن هناك الآن إصراراً على كسر قبضة «حزب الله» في أكثر من مكان بما في ذلك قبضة الحزب على الدولة اللبنانية وذلك في «العاجل القريب». لكن المصدر رفض الكشف عن الوسائل التي في بال أركان إدارة ترامب واكتفى بالقول «جميعها»، إشارة إلى الأدوات الاقتصادية، المطار، العقوبات، الجيش اللبناني، وزارة المالية، ووزارة الأمن الداخلي الأميركية. قد تكون هذه قراءة دقيقة لتفكير أركان الإدارة وقد تكون مستعجلة. الواضح أن هناك تفكيراً أميركياً في أدوات التعاطي مع كل من إيران و «حزب الله» من جهة ومع كل من حكومة حيدر العبادي وحكومة فلاديمير بوتين في كل من العراق وسورية.
هناك اليوم تفكير يتعمق يومياً بين أوساط صنع القرار الأميركية، قوامه أن مَن لا يريد الشراكة الأميركية الجدية في تحقيق هدف القضاء على «داعش»، أمامه خيار معونة أميركية. هذا الكلام موجه إلى العبادي في العراق وبوتين في سورية، ليقررا ماذا يفعلان بإيران ونفوذها في البلدين. فمقولة امتلاك الوعاء الذي تكسره شقت طريقها إلى لغة السياسة الأميركية ترغيباً بالشراكة وتحذيراً من مغبات رفضها. فأميركا متورطة بقدر ما تريد أن تتورط، أما روسيا في سورية، فإن الورطة ورطتها والمستنقع في انتظارها، ما لم تستدرك وتقرر ما هو حقاً في مصلحتها.
بقي أن دونالد ترامب لا يرسم هذه السياسات بصورة اعتباطية مغرداً فجراً أو عصراً. إنها سياسات أركان دولة في طاقم الراشدين الذين يحرص دونالد ترامب على استشارتهم ليس فقط عند اجتماعات حكومية وإنما أيضاً بصورة غير رسمية حول الفطور أو العشاء ثلاث مرات أسبوعياً. ففي واشنطن الآن إدارة جدية ترسم السياسات المتماسكة والاستراتيجيات الأمنية. رسائلها إلى إيران في كل من سورية والعراق واليمن ولبنان لها أبعاد فائقة الأهمية.
بات دونالد ترامب متساوياً مع فلاديمير بوتين في الأفعال التي يصعب التنبؤ بها. وهذا ما يجعل كلاً من الدولتين العظميين في حال استنفار وترقب لخطوات الأخرى في ميادين التنافس والصراع والخلاف على امتداد الكرة الأرضية، من سورية مروراً بأوروبا وأوكرانيا واليمن وإيران وصولاً إلى كوريا الشمالية وبحر الصين الجنوبي.
فالاستنتاج أن إدارة ترامب تسير بلا خطة أو سياسة واضحة ما زال يشغل بال أصحاب القرار في العالم، ومنه العالم العربي، على رغم أن ضربة صواريخ «توماهوك» لمطار الشعيرات رداً على استخدام النظام السوري غاز السارين في خان شيخون، ثم إلقاء «أم القنابل» على مخابئ «داعش» في أفغانستان وإرسال قطع بحرية إلى المياه الآسيوية، قد تنذر كلها بأن هذه الخطة آخذة في الاتضاح. إلا أن ما قاله نائب الرئيس الأميركي مايك بنس عن أن بلاده غادرت «استراتيجية الصبر» التي حكمت سياستها السابقة على الصعيد الدولي، لا يعني أن هناك استراتيجية بديلة باتت واضحة. وهذا ما يصعّب التنبؤ بخطوات هذه الإدارة. ولربما يشي اعتماد الغموض في شأن ما يمكن أن تُقدم عليه بأنها تقوم على الخطوات غير المتوقعة لتبني عليها ما بعدها وفقا لردود الفعل.
ولعل هذا الأسلوب أقرب إلى المنطق العسكري البراغماتي منه إلى السياسي، على رغم أن ما أقدمت عليه واشنطن إلى الآن هو منح قدراتها التفاوضية أنياباً، لتكون ديبلوماسيتها أكثر فعالية. فالرئيس الذي يصعب التنبؤ بأفعاله والذي يفتقد الخبرة في السياسة الدولية اضطر إلى مغادرة مبدأ «أميركا أولاً» في ما يخص التحديات الخارجية، لأنه يتكل على 3 جنرالات هم الذين يركن إليهم: وزير الدفاع جيمس ماتيس، مستشاره للأمن القومي هربرت ماكماستر، ووزير الأمن الداخلي جون كيلي. فهؤلاء هم الذين سبق أن تعاطوا مع الأزمات الخارجية التي تتأثر بها مصالح أميركا، في العقود الماضية، بشتى أوجهها.
قد لا يعني تغيير ترامب موقفه من الأسد أن إزاحته باتت أولوية قياساً إلى تصريحات سابقة بأن إزاحته لا تهم واشنطن، إلا أن قصف قاعدة الشعيرات أعاد طرح مصير الأسد على الطاولة، تحت عنوان التفاوض على المرحلة الانتقالية في الحكم، بالتوازي مع أولوية القضاء على «داعش» بإنهاء وجوده في الرقة، بعد الموصل.
ولا يعني استخدام واشنطن القوة في سورية ورفع عديد قواتها على الأرض السورية أنها ستدخل في صدام مع روسيا راعية الأسد. فموسكو نفسها سعت إلى حصر العمل العسكري الأميركي باستهداف قوات الأسد، حين ذكّرت بأن صواريخ «أس 300 و400» موجودة لحماية قواعدها في طرطوس وحميميم، والذي يفهم منه أنها ليست لحماية النظام، بعدما أدركت أن إبلاغها نية قصف الشعيرات قبل ساعات توخّى سحب أي جنود لها فيها، تجنباً للصدام معها.
ومن ارتدادات الضربة أن موسكو نفت علمها بالبيان الذي صدر عن غرفة العمليات المشتركة مع إيران والجيش النظامي السوري الذي يهدد واشنطن «لتجاوزها الخطوط الحمر»، وأن اتفاق وزيري خارجية البلدين في موسكو على السعي إلى حل سياسي أخذ يعدل في طاولة التفاوض في آستانة (مطلع أيار/ مايو) بحيث تتم دعوة حلفاء واشنطن العرب، السعودية وقطر إليها، إضافة إلى الأردن، بعدما اقتصرت رعاية وقف النار غير المحقق، على روسيا وتركيا وإيران. ومن الارتدادات أن الاطمئنان الأسدي إلى حيادية واشنطن إزاء حاكم دمشق تلاشى. وطبيعي أن يفقد بعض مؤيدي رأس النظام الشعور بالأمان لمعرفتهم بهشاشة إمساكه بالسلطة وانشغال المحيطين به بتكديس الثروات وتصدر اقتصاد الحرب، ولإدراكهم الدورين الروسي والإيراني في إبقائه في دمشق، مقابل التراخي الأميركي السابق حيال جرائمه. ويتساوى في ذلك أن المناطق والقوى القبلية السورية التي فضلت تفادي العداء مع النظام بدأت تتلمس الطريق إلى الخروج من الحياد مع التحضير الأميركي لقيام منطقة مستقرة (آمنة) جنوب سورية، خلال الأشهر المقبلة، انطلاقا من الأردن... لنقل نازحين من لبنان والأردن إليها.
توحي الخطوات الأميركية في بلاد الشام بأن النهج الجديد لن يؤتي نتائج سريعة، وأنه يتوخى الإفادة من تفاعلاته بدل التدخل العسكري المباشر لتسريع هذه النتائج. والتفسير المنطقي لذلك ربما يكون في تصريحات ماتيس في السعودية ووزير الخارجية ريكس تيلرسون، عن ضرورة وضع حد لزعزعة إيران الاستقرار في المنطقة.
تبدو الأولوية لمواجهة ايران في اليمن، بعد أن أقحمت الحوثيين في تهديد الملاحة في باب المندب وفي استهداف الأراضي السعودية بالصواريخ الباليستية. فهناك يمكن امتحان فعالية عودة واشنطن إلى التشديد على إنجاح الحلول السياسية، في سائر الدول.
شكلت حادثة قصف مطار “الشعيرات” في السابع من نيسان الجاري حدثاً مفاجئاً، عقب استخدام النظام السوري السارين في قصفه لبلدة خان شيخون، فكانت نقطة تحوّل في التعاطي الأمريكي مع القضية السورية، أعقبها عدة حوادث لا يمكن أن تحدث مصادفة.
بدأت الأحداث بتصعيد إعلامي وتراشق للتهديدات، ثم زيارة وزير الخارجية الأمريكي “تيلرسون” إلى روسيا، أعقب ذلك على الفور اجتماع احتضن لافروف ووزير الخارجية الإيراني والسوري.
ما إن انتهت الزيارات الرسمية، حتى بدأ الحديث عن تفريغ بعض المطارات السورية، واستمرت التهديدات الروسية مع رفع الجاهزية الصينية، والتصعيد مع كوريا الشمالية حيث عرضت مقاطع فيديو تظهر إطلاقها لصواريخ باتجاه الولايات المتحدة، وجاء عرض هذا الفيديو خلال حفل غنائي بعيد ميلاد مؤسس الدولة الشيوعية “كيم إيل سونغ”، وقد حضر الحفل الزعيم الكوري “كيم جونغ أون” وفق ما أوردت “رويترز”.
وقد صرح الرئيس الأمريكي “ترامب”: على روسيا أن تفهم بأن المجرم الإرهابي بشار الأسد، أصبح إسقاطه هدفا أمريكا كما كان أسامة بن لادن من قبل.
جاء هذا التصريح بعد زيارة وزير الدفاع الأميركي “جيمس ماتياس” إلى الشرق الأوسط والحديث عن خطة أمريكية معدة لسوريا؛ حيث نقلت وكالة “اسوشيتد برس” عن مصدر أمريكي أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب ستعمل على القضاء على تنظيم الدولة داعش، مع التلويح بإقامة مناطق عازلة والعمل على نشر الاستقرار في المنطقة، بعد عقد هدنة بين نظام الأسد والمعارضة.
ويجري الحديث عن عودة السلطات المحلية إلى العمل، في نظام قريب إلى الفيدرالية، بمعنى أن في المناطق ذات الغالبية السنية يجب أن تدار من قبل شخصيات سنية، والمناطق الكردية من قبل شخصيات كردية وهكذا، على أن تدار البلاد في هذه الفترة بواسطة حكومة مؤقتة.
في “الفترة الانتقالية” يجب إبعاد الأسد عن السلطة ومنعه من خوض الانتخابات وتهديده بالملاحقة الدولية وتخييره بين مغادرة البلاد أو تركه لخصومه، ليواجه مصيرا كمصير القذافي من قبله.
ثم تأتي مرحلة تنظيم الحياة في سوريا، بعد انتهاء الفترة الانتقالية، وتأمل أمريكا تنفيذ الخطة بالتعاون مع الروس رغم كل الخلافات بين الدولتين مع إبقاء القاعدتين الروسيتين البحرية في طرطوس والجوية في “حميميم”.
جاء الرد الروسي عبر لافروف على الخطة البديلة التي طرحها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” للتسوية في سوريا، موضحاً أنه بحث مع وزير الخارجية الأمريكي “ريكس تيلرسون” في اجتماعهم الأخير القضية السورية بحذافيرها، حيث أكد له أنه لا بديل عن التطبيق لقرار مجلس الأمن “2254”.
فإن كانت الإدارة الأمريكية قد وضعت خطة من أربع مراحل لإزاحة بشار الأسد من الحكم بحسب مسؤول أمريكي تحدث مع وكالة “أسوشيتيد برس”، فإن الروس مع حلفائهم لن يسمحوا لها بالمرور، مما يعني لأن الوضع السوري سيزداد في التدهور، دون ظهور بوادر للحل.
لا أهمّية تذكر لفوز أي مرشح من المرشحين الإيرانيين في الانتخابات الرئاسية المتوقعة الشهر المقبل. ليس مهمّا من سيفوز بمقدار ما إن المهم أن تتغير سياسة إيران داخليا وخارجيا، وتتوقف لعبة الرهان على لعب دور القوة الإقليمية المهيمنة التي أخذت إيران والمنطقة إلى الخراب والفتنة المذهبية.
ليس في استطاعة إيران بنظامها الحالي الذي أقامه آية الله الخميني في العام 1979 الاستمرار في هذه اللعبة لأن ليس لديها نموذج تقدمه، لا داخل حدودها ولا خارج هذه الحدود. تستطيع إيران الهدم وجعل دول المنطقة تعتمد أكثر فأكثر على القوى الخارجية، بما في ذلك “الشيطان الأكبر” الأميركي. لكنها لا تستطيع أن تبني، لأن البناء سيعني مزيدا من التفاهم بين شعوب المنطقة واستثمارا لثرواتها في خدمة مواطنيها بدل صرف الأموال الطائلة على شراء الأسلحة. هل تنتفي الحاجة إلى إيران عندما تلعب دورا بناء، فلا تعود فائدة منها، لا لأميركا ولا لغير أميركا؟
كانت تجربة حسن روحاني الذي انتخب رئيسا قبل أربع سنوات أبلغ دليل على أن لا دور للرئيس الإيراني. ما أكثر الذين تحدّثوا عن أن روحاني “إصلاحي” وأنه سيغير إيران. تبين في نهاية المطاف أنه استُخدم في مرحلة معينة من المتشددين من أجل إقناع باراك أوباما بأن في الإمكان لعب الورقة الإيرانية والسير إلى النهاية في المفاوضات المتعلّقة بالملف النووي الإيراني بغية التوصّل إلى صفقة ما.
حصلت الصفقة. وقعت مجموعة الخمسة زائدا واحدا (البلدان الخمسة ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن وألمانيا) صيف العام 2015 الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني. حصلت إيران على مساعدات أميركية بمئات ملايين الدولارات كانت في حاجة ماسة إليها في ضوء هبوط أسعار النفط. لم يتغيّر شيء على الصعيد الإقليمي. على العكس من ذلك، زادت إيران عدوانية تجاه كلّ ما هو عربي في المنطقة. لم تلعب أيّ دور إيجابي في أي منطقة من مناطق الشرق الأوسط أو بلدانه أو في منطقة الخليج. تابعت إيران عملية الشحن المذهبي الذي يظلّ استثمارها الوحيد خارج أراضيها.
قبل روحاني، أمضى “الإصلاحي” محمّد خاتمي ثماني سنوات رئيسا، بين 1997 و2005. كيف أثّر ذلك على السياسة الخارجية لإيران؟ الأكيد أن خاتمي كان رجل علم ومعرفة، كما كانت لديه كلّ النيات الطيبة تجاه دول الجوار وما هو أبعد من الجوار. لكنّ الحكم هو على النتائج. بقيت إيران، في عهد خاتمي وبعد انتهاء ولايتيه الرئاسيتين، تتدخل في الشأن الداخلي لكل دولة عربية، بل زاد تدخلّها وتوسّع وباتت أكثر عدائية خصوصا بعدما شاركت في الحرب الأميركية على العراق مشاركة مباشرة في ربيع العام 2003.
تبيّن مع مرور الوقت كم كان الملك عبدالله الثاني بعيد النظر عندما تحدّث إلى صحيفة “واشنطن بوست” في تشرين الأوّل – أكتوبر 2004 عن “الهلال الشيعي” الذي كانت إيران تسعى إلى إقامته بعد سيطرتها على بغداد. لم يقصد العاهل الأردني بـ“الهلال الشيعي” أي إساءة إلى أتباع المذهب، خصوصا أن الهاشميين يعتبرون أنفسهم من “أهل البيت” ولم يفرّقوا يوما بين سني وشيعي. كان يشير إلى أن إيران أرادت أن تَحكم منطقة تمتد من طهران إلى بيروت الواقعة على البحر المتوسّط مستخدمة الغريزة المذهبية. تضمّ هذه المنطقة العراق وسوريا ولبنان الذي يتحكّم به حزب تابع لإيران اسمه “حزب الله”، ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني.
بعد ثلاثة عشر عاما، أدلى عبدالله الثاني، قبل أيام بحديث إلى “واشنطن بوست” كرر فيه ما قاله في الحديث الأوّل كاشفا أن إيران لم تتغير. ما تغيّر، من خلال ردّها على الحديث الأخير، هو انكشاف كم هي متضايقة من إدارة دونالد ترامب وتوجّهاتها من جهة، وزيادة كمّية العداء التي تكنّها لدولة مسالمة حافظت على استقرارها الداخلي، مثل المملكة الأردنية الهاشمية، من جهة أخرى.
استخدم مسؤولون إيرانيون كلاما بذيئا في الرد على حديث العاهل الأردني لمجرد أنه وصف الواقع كما هو بعيدا عن أي نوع من المبالغات. ما الذي تفعله إيران في العراق؟ ماذا تفعل في سوريا؟ ما الذي يدفعها إلى الرهان على ميليشيا مذهبية في لبنان من أجل ضرب اقتصاد البلد وتدمير كلّ مؤسسات الدولة وإيجاد قطيعة بينه وبين دول الخليج العربي؟
لا داعي بالطبع إلى التساؤل ماذا تفعل إيران في اليمن ولماذا كل هذا الحقد على البحرين أو لماذا تتدخل في الكويت؟
استخدم “المرشد الأعلى” علي خامنئي موقع رئيس “الجمهورية الإسلامية” في إيران لتمرير مراحل معينة كانت تتطلب وجود رئيس من طراز معين. متى تطلب الأمر، داخليا، والوضع الدولي رئيسا “إصلاحيا”، هبط الرئيس “الإصلاحي” على الإيرانيين وبدأ العالم يفكر في أن إيران ستنتهج سياسة تقوم على الانفتاح والتوقف عن دعم الإرهاب بكلّ أشكاله. متى كانت الحاجة إلى “متشدد”، يأتي أحمدي نجاد بقدرة قادر…
لم يحصل ولن يحصل أي تغيير في إيران ما دام خامنئي يحكم إيران بصفة كونه “الوليّ الفقيه”. ستبقى إيران دولة تحلم بلعب دور يفوق حجمها وقدراتها متجاهلة أن العالم يتغيّر بأسرع مما يعتقد، وأن الاستثمار المفيد الوحيد الذي تستطيع القيام به يتمثّل في التركيز على الاستثمار في مشاريع داخلية تعود بالفائدة على الإيرانيين الذين يعيش أكثر من نصفهم تحت خط الفقر.
في التاسع عشر من أيّار – مايو المقبل، ستجري الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الإيرانية. كلّ ما يمكن قوله في المناسبة، هو ما أشبه اليوم بالبارحة. ففي مثل هذه الأيّام من العام 2013، انتخب حسن روحاني رئيسا. كان الوحيد الذي اعتقد أن إيران تغيّرت هو باراك أوباما والفريق المحيط به الذي ضحّى بالشعب السوري الثائر على الظلم والدكتاتورية. تغاضى أوباما عن استخدام بشّار الأسد السلاح الكيميائي من أجل استرضاء إيران. كان حريصا كلّ الحرص على عدم التسبب بأي إزعاج لإيران، حتى عندما قُتل ما يزيد على ألف سوري في آب ـ أغسطس من تلك السنة بالسلاح الكيميائي في غوطة دمشق.
ليس رئيس الجمهورية الذي يغيّر إيران. ما قد يغيرها حاليا هو سياسة أميركية مختلفة. المسألة مسألة أسابيع فقط سيتبيّن بعدها هل سيقول دونالد ترامب والفريق المحيط به أنه آن أوان أن يأخذ كلّ طرف إقليمي، وحتى دولي، حجمه الحقيقي على خريطة العالم؟
لا شكّ أن ضربة القاعدة الجويّة التابعة للنظام السوري في الشعيرات تعطي مؤشرا على تغيير أميركي بدأت تشعر به إيران. لكنّ الحذر يظل ضروريا قبل التوصل إلى استنتاج نهائي في ما يخص مستقبل العلاقات بين طهران وواشنطن. فإيران قدّمت في نهاية المطاف خدمات كبيرة لأميركا يحتاج تعدادها إلى موسوعة، وذلك عندما أسست لشرخ مذهبي غيّر أوّل ما غيّر أولويات الدول العربية، خصوصا أهل الخليج.
أحداث وتطورات متلاحقة على جبهة الشرق الأوسط المستعرة. قبل بضعة أشهر، كان الرأي العام التقليدي أن الظروف كلها تعمل لصالح إيران، وكانت إيران تضاعف نفوذها من خلال مشاركتها المباشرة وغير المباشرة في أزمات المنطقة، مدعومة بتخفيف العقوبات الدولية من دون أي شروط «مسلكية» عليها. لكن الصورة اليوم لم تعد بذلك الوضوح، مع الاتجاهات الإقليمية الطارئة التي تشمل روسيا والإدارة الجديدة في واشنطن ومواقف عربية جريئة.
الجغرافيا السياسية في المنطقة تتحرك بسرعة. حصل تعاون حول سوريا بين روسيا وتركيا، واجتمع جنرالات أميركيون وروس وأتراك في جنوب تركيا لتجنب صدام عسكري أثناء مواجهة «داعش»، ثم تصاعد نجم حيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي، وتردد أن قوات أميركية في العراق بدأت بنشر نقاط استطلاع على جزء واسع من الحدود العراقية - الإيرانية، وانطلقت أصوات عراقية تهتف: «إيران برا برا»، لذلك يمكن ملاحظة أن إيران تفقد الأرض، ولم تعد قادرة على وضع أو عرقلة جداول الأعمال، كأقرانها أو منافسيها الذين يعملون أيضاً لحماية مصالحهم الأساسية. هناك من قال إنه كان لإيران دور في القصف الكيماوي في سوريا، وإن أكثر من 20 إيرانياً قتلوا في القصف الأميركي على قاعدة «الشعيرات» السورية.
تشعر إيران بالقلق من الموقف الروسي، حيث انتقلت الشراكة بينهما من مستوى التحالف إلى حالة أقل استقراراً. عندما تدخلت روسيا عام 2015 في سوريا، كانت واضحة برسالتها؛ إن دعم إيران لنظام بشار الأسد لم يحقق أهدافه. ثم تحولت موسكو إلى أنقرة، باعتبارها أكثر فائدة، لتعود وتمسك وحدها بزمام الأمور، بعدما تأكدت أن الأتراك ليس لديهم ما يكفي من النفوذ على القوات السورية المناهضة للأسد، ثم جاءت الضربة الكيماوية، ولحقتها الغارة الأميركية.
لاحظت إيران خلال هذه الفترة تناقص قيمة التعاون الخاص بينها وبين روسيا، فانعكس ذلك على استراتيجيتها الخاصة بسوريا، فتوجهت إلى قطر، لتشرفا معاً على صفقة تبادل أهالي كفريا والفوعة (شمال إدلب) بأهالي الزبداني ومضايا (شمال غربي دمشق).
هناك نقطتان بارزتان في هذا «التهجير» المؤلم: روسيا تريد سوريا غير مقسمة ودولة علمانية، وهي استثمرت كثيراً في سوريا، وتريد أن تحقق هذا الهدف بين أهداف أخرى. فردت إيران بأنها تستمد قوتها من خطوط إمداداتها؛ هي تريد إضافة إلى الخطوط الجوية، تأمين خطوط برية من حدودها حتى المتوسط؛ إنها حاجة استراتيجية لإيصال السلاح إلى «حزب الله» في لبنان. من هنا، حمايتها لنظام بشار الأسد، وإسراعها والحزب عام 2011 إلى دعم النظام الذي كان مهدداً بالسقوط. وحسب التقارير، فإن من أهدافها توزيع خطوط إمدادات الطاقة، ولديها خطط لبناء خط أنابيب يمتد من الشرق إلى الغرب عبر العراق إلى الساحل السوري. ومن هنا، أتت خطة التهجير الأخيرة التي ستغير وجه سوريا.
من جهة أخرى، تراقب إيران بحذر تحرك الإدارة الأميركية الجديدة، فالرئيس دونالد ترمب، كما يبدو، مزمع على تنفيذ تعهداته الانتخابية، بأن يكون أكثر صرامة تجاه إيران من إدارة أوباما.
مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، مايك بومبيو، قال يوم الخميس الماضي، في تصريحات لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إن غارة الصواريخ على القاعدة السورية هي رسالة إلى إيران، بأن بلاده على استعداد للجوء إلى القوة لحماية المصالح الأميركية.
ربط بومبيو صواريخ «توماهوك» التي أطلقت على قاعدة جوية في سوريا، منها أقلعت الطائرات التي تحمل أسلحة كيماوية، بامتثال إيران للاتفاق الدولي النووي. قال إن وكالته تراقب عن كثب التزام إيران بالاتفاق، بما في ذلك المنشآت النووية المعلنة وغير المعلنة. وأضاف: «يجب أن نضع في اعتبارنا ما حصل في سوريا، وأن نعود ونقرأ الاتفاق، لا سيما عندما يتحدث عن المنشآت المعلنة والمرافق غير المعلنة، ومدى وصول مدققي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى كل من هاتين المجموعتين المتميزتين؛ هذا قد يظهر مستوى التأكد الذي نأمل أن نقدمه إلى القائد العام»، وأوضح: «ما أعنيه أن الضربة السورية كانت عملية صنع قرار، حاسمة ومدروسة ومبنية حقاً على فهم واقعي للأهمية الاستراتيجية للأشياء التي تواجهها أمتنا اليوم».
قال بومبيو عن الأسد: كان هناك شخص انتهك حظر استعمال الأسلحة الكيماوية، وهذا ليس مهماً. لذلك أعتقد أنه يجب على الإيرانيين أن يأخذوا علماً بأن هذه الإدارة مستعدة للإقدام على أنشطة مختلفة عما كانت تفعله أميركا خلال السنوات القليلة الماضية.
وتعمل وكالة «سي آي إيه» على متابعة ما إذا كانت إيران تنتهك الاتفاق من خلال أنشطة نووية سرية. وأضاف: «الاتفاق لم يأتِ بإيران «حميدة»، فهي ما زالت دولة ترعى الإرهاب «فيما يتعلق بالإيرانيين، ما زالوا في المسيرة نفسها، منها زيادة القدرة على إيصال منظومات صواريخ متجهة إلى إسرائيل عبر «حزب الله»، وزادوا نشاطهم في الميليشيات الشيعية في الموصل، إضافة إلى دعمهم للحوثيين في اليمن لإطلاق الصواريخ ضد السعودية. وأضاف: إن قائمة التجاوزات الإيرانية ازدادت بشكل كبير منذ التوقيع على الاتفاق النووي، وإيران تدعم الهلال الشيعي في الشرق الأوسط، وهذا ليس مناسباً للمصالح الأميركية.
من جهته، كان قائد القيادة المركزية، الجنرال جوزيف فوتيل، قد صنف إيران في المرتبة الخامسة بين أكبر 5 تهديدات في منطقة الشرق الأوسط، وقدم في التاسع من هذا الشهر بعض التفاصيل حول استراتيجية الاحتواء الأميركية: «يجب أن نشغلهم بفعالية أكبر في (المنطقة الرمادية)، من خلال وسائل تشمل وضع ردع قوي، وبناء قدرات الدول الشريكة. ويجب أن تدرك إيران أنه ستكون هناك عواقب وخيمة، إذا ما قررت مواصلة أنشطتها الخبيثة المصممة لإثارة الاضطرابات في المنطقة». وكان لافتاً دعم الجنرال فوتيل «لاتصالات مباشرة مع القيادة الإيرانية، لتحسين الشفافية وتقليص احتمالات سوء التقدير».
في الوقت نفسه، استخدم ترمب لقاءاته مع قادة عرب وإسرائيليين لتأكيد عزمه على تشديد التدابير الرامية لاحتواء إيران، والضغط عليها «وذلك بالاشتراك مع الأصدقاء الإقليميين». أخيراً، أقدمت إدارة ترمب على اتخاذ عقوبات اقتصادية جديدة ضد كبار المسؤولين الإيرانيين، ونظام السجون هناك، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان الواسعة النطاق، واستهدفت العقوبات سهراب سليماني، المسؤول عن سجن إيفين، السيئ السمعة، وهو شقيق قاسم سليماني الجنرال المسؤول عن تشغيل الأنشطة الإيرانية الإرهابية في سوريا والعراق واليمن والبحرين.
ليس من قبيل المصادفة أن سهراب سليماني هو شقيق قاسم سليماني، فالأول أدار سجناً اشتهر بعمليات الاستجواب التعسفية والقسرية، وإساءة معاملة السجناء، ونقل كثيرين منهم مباشرة إلى القبور، وإعطاء أهاليهم لاحقاً ورقة عليها رقم القبر. والثاني غني عن التعريف؛ هو لم يحسم حرباً، إنما ما زال يواصل الحرب العراقية - الإيرانية التي خسرتها إيران، عبر عمليات تعتمد على ميليشيات أقدمت على القتل والتدمير والتهجير.
هذه العقوبات الجديدة تعتمدها إدارة ترمب، في ظل المراجعة الحالية الواسعة النطاق لكل الأمور المتعلقة بالاتفاق النووي. وكان قد لوحظ زيادة في انتهاك حقوق الإنسان، في ظل الرئيس حسن روحاني، المنتمي إلى الجناح الإصلاحي. العقوبات الجديدة لا تتعارض مع الالتزامات الأميركية بموجب الاتفاق النووي، ولا يتم التعامل معها كجزء من ذلك الاتفاق.
إن التحولات في ديناميكية المنطقة، التي تشمل روسيا وأميركا، تضع إيران في موقف الدفاع. روسيا بعد القصف الكيماوي، كثفت من اتصالاتها مع السعودية، وسيزور وزير الخارجية السعودي عادل الجبير موسكو في 26 من الشهر الحالي. أما الولايات المتحدة الأميركية، فإنها تتعلم بالفعل أن تعزيز العمليات العسكرية في اليمن وسوريا، من دون خطة للعبة سياسية مهيمنة، لا تجعل الإدارة الجديدة تبدو في موقع جيد. وفي رسالة إنذار إلى كوريا الشمالية، قال مايك بنس، نائب الرئيس الأميركي: إن زمن «استراتيجية الصبر» ولى. وكما كانت «توماهوك» رسالة إلى إيران، كذلك تشمل تصريحات بنس إيران.
«لا أنسى أبدا ذلك المريض العجوز الفقير الذي كنت قد أعطيته موعدا لإجراء عملية الماء الأزرق، وكان يسكن في قرية بعيدة»، تقول طبيبة وجراحة العيون والروائية السورية د. هيفاء بيطار. «كنت قد طلبت كالعادة من الممرضات أن يحقنه وريديا بالإبر المنومة والمهدئة استعدادا للعملية، وكان المريض العجوز شبه مخدر ومستلقيا على سرير العمليات.
وهممت بتعقيم يدي لإجراء العملية حين أتتني الأوامر بوقف كل شيء، لأن إدارة المستشفى قررت إعادة المسيرة التي شاركنا فيها قبل يوم بسبب الأمطار التي شوشت التصوير».
لم تكترث إدارة المستشفى بمصير المريض الفقير العاجز وحياته المهددة وموقف الطبيبة الجراحة د. بيطار! «يومها غضبت واتصلت بمدير المستشفى»، وهو «المشفى الوطني» في اللاذقية، «قلت للمدير، إن العجوز قد حقن بالفاليوم، وصار جاهزا للجراحة، والفاليوم مخدر قوي جدا لا يجوز إعطاؤه في فترات متقاربة للمريض. فأجابني بلهجة تهديد: اتركي المريض، ستجرين له العملية غدا. قلت له لكن قد يموت إذا أعطيته غدا إبرة فاليوم». لم يغير موقف الطبيبة شيئا من إصرار المدير على إعادة «المسيرة الطبية».. كي تكون الصور واضحة، وكانت النتيجة تقول الدكتورة «إن هددت بطريقة غير مباشرة بأنني يجب أن أشارك في المسيرة الثانية، لأن الجو من حسن الحظ صحو، ولا يهم أن يكون هناك إنسان ينتظر عملية جراحية في عينه وهو شبه مخدر، ولا يهم إن مات في اليوم التالي، فالولاء كل الولاء والتقديس كل التقديس للمسيرات المؤيدة للنظام، وكانت المناسبة ثورة الثامن من آذار». هل في مثل هذا الموقف ما يثير غير الحزن والعجز وشعور الطبيب باليأس والإحباط، وخيانة كل سنوات دراسته؟
امتثلت د. بيطار لتهديدات المدير، الذي بالطبع لم يكن ليكتفي بطردها من عملها، بل هناك على الأرجح «إجراءات ما بعد الطرد»!
«عدت إلى بيتي أحس بضيق نفس حقيقي واختناق لأشاهد أهلي يتفرجون على المسيرة المؤيدة التي يبثها التليفزيون السوري، يومها أحسست بأن شعار الحياة في سورية هو سحق الكرامة، وفكرت بالمريض العجوز المسكين، ولم أجد إلا السخرية تخفف من غضبي وألمي وقلت الحمد لله، لم يطلبوا منه أيضا أن يشارك في المسيرة.. وهل ينسى أحد من العاملين في «المشفى الوطني»، يوم حضر فريق من الأمن وأخرج طبيبا اختصاصيا في جراحة العظم من غرفة العمليات قبل جره إلى سيارة واقتياده إلى معتقل، حيث بقي أربع سنوات؟ الجميع تفرج على هذا المنظر بعيون عمياء وشفاه ألصقها الخوف بأقوى لاصق في العالم»، (الحياة: 24-12-2016.)
تحولت سوريا إلى «ملطشة» إقليمية تتحارب على أرضها كل القوى المحلية والدولية، ويقتل آلاف السوريين بأبشع الطرق وتتحول مدنها وقراها وحقولها إلى خرائب، ولا يرحم المتقاتلون والمخربون حتى مستشفياتها. باتت سوريا، كما تقول الباحثة في مركز الأهرام صافيناز محمد أحمد، أقرب إلى نموذج «الدولة الساحة» التي أصبحت مسرحا لصراع القوى الإقليمية والدولية.
«الوجود الإيراني عبر ميليشيات الحرس الثوري والميليشيات اللبنانية والعراقية، التي تدين بالولاء لإيران، والوجود الروسي الذي دخل عامه الثاني، لتصبح ساحة الصراع السوري مفتوحة على جميع الاحتمالات التي تختلط فيها الأوراق الإقليمية بالدولية، ويجعل من عملية التنبؤ بمستقبل ذلك الصراع عملية غاية في الصعوبة، وليصبح بلا حسم سياسي أو عسكري». (السياسة الدولية، يناير، 2017). المعارضة بشقيها العسكري والسياسي تعاني أوجه قصور في حالة انقسام لأسباب ذاتية أو لارتباطاتها الخارجية.
المسار الحالي للصراع السوري في رأي المحللين «مرشح للاستمرار»، إلى حين دخول متغيرات جديدة في معادلة الصراع من الجانب الدولي تحديدا والتي يتمثل أهمها في الإدارة الأمريكية الجديدة.
وقد يستعيد الجانب الإيراني الكثير من قوته إن صح ما تقوله الصحف من أن «إيران تهيمن على ملفات الرئيس «ترامب» في المنطقة»، كما أوردت صحيفة الجريدة في الكويت، 05-04-2017، وأضافت أن هناك مساع خليجية تهدف أساسا إلى «اقناع الرئيس الروسي بالابتعاد عن إيران، عبر تقديم كثير من الحوافز والتسهيلات، غير أن تصاعد الجدل حول التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الأمريكية لمصلحة ترامب جمد كل اللقاءات التي كان يفترض أن تتواصل، في وقت تحدثت أوساط أمريكية عن خطأ الاعتقاد بأن بوتين سيغير صداقاته وشراكته مع إيران، أحد أهم حلفائه في المنطقة».
ما الذي جرى حقا للشيخ السوري الذي كاد أن يفقد بصره ثمنا لنجاح «مسيرة تأييد؟» لا أدري!
يقول الكاتب عبد الباسط سيدا في الحياة، 08-11-2016: كان السوريون على دراية تامة منذ اليوم الأول للثورة، بصعوبة مهمتهم، وكانوا على يقين بأن النظام محمي عبر شبكة من العلاقات والمصالح الإقليمية والدولية، وله موقعه المهم في خريطة التوازنات والحسابات الإقليمية والدولية. لذلك كان الشعار المعبر «يا الله مالنا غيرك يا الله». فقد جسد هذا الشعار معاناتهم وعذاباتهم على مدى عقود مظلمة من حكم استبدادي فاسد، سطح العقول والضمائر».
تستعد وزارة الخزانة الأميركية لإدراج حزمة من العقوبات المالية على مؤسسات وأفراد تتهمهم بتمويل حزب الله أو بالتعاون معه. هذه الحزمة التي ينتظر أن تصدر خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة تأتي ضمن سلسلة من الإجراءات المشددة اتخذتها واشنطن ضد عمليات نقل الأموال من وإلى لبنان غير الشرعية من جهة، وعلى حزب الله من جهة ثانية، وكانت واشنطن أدرجت خلال السنوات القليلة الماضية عددا من المؤسسات ورجال الأعمال على اللائحة السوداء.
الجديد الذي تتداوله أوساط مصرفية على صعيد العقوبات المالية المرتقبة، هو تنفيذ هذه العقوبات على أفراد منتمين لتنظيمات لبنانية حليفة لحزب الله، وبشكل خاص على أفراد من حركة أمل أو قريبين منها وكذلك آخرين من رجال أعمال ينتمون إلى التيار الوطني الحر والحزب السوري القومي الاجتماعي المعروف بعلاقته الوثيقة بالنظام السوري وأجهزته، كما بعلاقته مع حزب الله.
وإذا صحت هذه المعلومات التي تتداولها جهات لبنانية سياسية وأشارت إليها مؤسسات صحافية وإعلامية عدة، فإن ذلك يعد أول خطوة أميركية تلامس عقوباتها جهات لبنانية حزبية لا تدرج في خانة القوى المعادية لواشنطن، لا سيما حركة أمل والتيار الوطني الحر، وهما الطرفان اللذان يتولى زعيماهما رئاسة مجلس النواب (الرئيس نبيه بري) ورئاسة الجمهورية (ميشال عون).
ويمكن القول إن العقوبات المالية الأميركية المتدرّجة والتي منعت على المصارف اللبنانية تسجيل حسابات لمسؤولين ومؤسسات وأفراد في حزب الله، تحت طائلة مصادرة الأموال، واتخاذ إجراءات عقابية ضد المصارف التي تعمد إلى فتح هذه الحسابات، ساهمت في التضييق على المصارف التي باتت ملزمة بإجراءات مشددة على سياسة فتح الحسـابات المصرفية وعلى عملية انتقال الأموال من وإلى لبنان.
وكان لافتا خلال شهر مارس الماضي اعتقال أحد أبرز رجال الأعمال اللبنانيين قاسم تاج الدين في مطار الرباط بالمغرب من قبل الإنتربول وتسليمه إلى واشنطن، وهو من رجال الأعمال الذين تحوم حولهم شبهات تمويل حزب الله عبر نشاطات استثمارية مشتركة يقوم بها في لبنان ودول أفريقية.
اعتقال تاج الدين الذي لم يلقَ أي رد فعل لبناني رسمي ولا من قبل حزب الله، أظهر إلى حدّ بعيد أنّ الإجراءات الأميركية تستند إلى وقائع يصعب دحضها في سياق ما تعتبره تجاوزا لأنظمة وقرارات وضعتها لمـواجهة عمليات مالية غير قانونية.
اعتقال تاج الدين من قبل السلطات الأميركية فتح الباب واسعا على المزيد من التكهنات حيال إجراءات عقابية قد تطال رجال أعمال لبنانيين استثمروا في السنوات الماضية قوة ونفوذ حزب الله الأمنية والعسكرية والسياسية في لبنان والمنطقة للقيام باستثمارات ونشاط تجاري، سواء في لبنان أو العراق أو إيران، ورغم أنّ عددا كبيرا من رجال الأعمال نفروا من حزب الله بعدما تشددت الخزانة الأميركية تجاهه ماليا، وبعدما صار اقترابهم منه ماليا مكلفا بعد أن كان مربحا ويوفر فرصا للربح، فإن ذلك لا يقلل من أهمية الشبكة المالية التي لا يزال حزب الله يعتمد في تمويله عليها، والتي امتدت إلى دول عدة سواء في أميركا اللاتينية أو الخليج العربي وحتى أميركا نفسها.
يؤكد بعض الخبراء المصرفيين وغيرهم من السياسيين أنّ الموارد المالية لحزب الله تراجعت بشكل لافت في السنتين الأخيرتين، وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال تراجع الدعم المالي الذي كان يقدمه لجهات سياسية ودينية وحزبية حليفة، ومن عمليات تسريح المئات من عناصره بعدما تحول، خصوصا بعد حرب 2006 مع إسرائيل، إلى ثاني رب عمل في لبنان بعد الدولة اللبنانية، ورغم أنّ الحرب في سوريا تستنزف واستنزفت قدرات حزب الله المالية فضلا عن العسكرية والبشرية، فإنّ تراجع القدرة المالية لديه يرتبط إلى حدّ كبير بالتضييق المالي الذي سببته الإجراءات الأميركية.
وتضيف المصادر أنّ الدعم الإيراني الثابت لحزب الله منذ تأسيسه لا يتجاوز 50 بالمئة من ميزانية الحزب، بل وفر النفوذ العسكري لحزب الله وحرية الحركة عبر المرافئ اللبنانية والانتقـال غير المقيد عبر الحدود البرية فرصا لتحصيل مـوارد مالية بوسائل لا تخطر على بال المواطن العادي، وهذا الامتياز الذي فرضه حزب الله بذريعة المقاومة، كان يغطي شبكة مترامية الأطراف في لبنان وخارجه، عمد حزب الله إلى استثمارها في عمليات غير قانونية من أجل توفير المال.
عنصر آخر أساسي في تمويل حزب الله يتصل بالمال العام، أي الدولة اللبنانية وخزينتها، إذ ليس خافيا أنّ حزب الله الذي يسيطر على نحو مئة بلدية واتحاد بلديات في لبنان، نجح بطرق مختلفة ومنظّمة في تجيير جزء أساسي من أموال البلديات لتمويل أنشطته، والأهم لدفع رواتب عناصره الذين يندرجون في الاسم ضمن العاملين في البلدية ولكنهم بالفعل ينفذون تعليمات حزب الله وقراراته وهذا ما يعرفه أبناء البلدات التي يتولى حزب الله السيطرة على إدارة مجالسها البلدية، إذ يمكن القول إنّ أموال البلديات هذه التي تأتي من الجباية من المواطنين ومن خزينة الدولة، تخضع بمجملها في تلك البلديات إلى إدارة موحدة هي من تأمر بالصرف والتوظيف.
وقد عمد حزب الله أخيرا من خلال اتحاد البلديات (يجمع عدة بلديات) إلى احتكار بيع الطاقة الكهربائية وإنتاجها لصالح “الاتحاد” وهو مصدر مهم من مصادر تحصيل الأموال يتيح لحزب الله توظيف الآلاف من عناصره ويخفف من أعباء تمويلهم.
وقبل كل ذلك وبعده يمكن القول بثقة إنّ أكبر عملية نهب تمت للأملاك العامة في لبنان ولا سيما في المناطق الخاضعة لسيطرة حزب الله، جرت خلال سيطرة حزب الله وهذا ما يمكن رصده بوضوح في الجنوب والبقاع وبيروت والضاحية الجنوبية خلال السنوات العشر الأخيرة في الحد الأدنى وغيرهما، بحيث تمت مصادرة أراضٍ بشكل غير قانوني وبغطاء فعلي من حزب الله وبقوة بندقيته التي يسميها بندقية المقاومة، فيما الأجهزة الرسمية تقف شاهدا بحالة عجز في أغلب الأحيان وبتواطؤ أحيانا أخرى.
التضييق المالي على حزب الله زاد من شهيته على الغرف من المال العام وبشكل منظم بدرجة أولى، من خلال تغطية عمليات التهريب عبر الحدود المتاح له تجاوزها من دون مساءلة وهذا ما يتيح له ربط شبكة من التجـار ورجال الأعمال من انتماءات مختلفة لقدرته على تنفيذ عمليات تجارية غير قانونية من دون أي مساءلة، وبدرجة ثانية من خلال ما يمكن أن يستحصل عليه بشكل شبه قانوني من نظام المحاصصة في الدولة كطـرف أسـاسي في الحكـومة ومجلـس النواب، وبدرجة ثالثة التمويل الإيراني.
وتأتي حزمة العقوبات الأميركية التي تعتمد طريقة متأنية ومتدرجة، لتطال أفرادا ومؤسسات في جهات حليفة لحزب الله مثل حركة أمل والتيار الوطني الحر، وهي رسالة ستكون ذات دلالة سياسية لجهة أن الإدارة الأميركية الجديدة ذاهبة نحو المزيد من التشدد تجاه حزب الله، الذي حظي في عهد الإدارة الأميركية السـابقة بنوع من المـراعاة لا سيما في عدم مجابهة واشنطن لقرار تورطه في الحرب السورية. وكان لافتا أن يترافق تداول الإجراءات العقابية على أمل والتيار الوطني الحر مع أمرين برزا في الأسبوع الماضي.
الأول يتمثل في مواجهة شبه معلنة بين حزب الله والتيار الوطني الحر على خلفية قانون الانتخاب، حيث برز اتهام غير رسمي من قبل التيار الـوطني الحر بأنّ حزب الله يعرقل رؤية التيار ومشاريعه المقدمة لقانون الانتخاب.
ومن ناحية ثانية حصول منازعات بين عناصر حركة أمل وحزب الله في ثلاث بلدات حدودية مع إسرائيل خلال أسبوع، أدّت إلى إطلاق نار بين الطرفين لا سيما في بلدتي ميس الجبل ومركبا.
يقرأ بعض المراقبين هذه الشواهد على أنّها رسالة ضمنية لجهات خارجية من قبل حركة أمل والتيار الوطني الحر مفادها أنّه ليس صحيحا أنّنا على ما يرام مع حزب الله، فهل تحُول هذه الرسالة دون إصدار لائحة عقوبات أميركية ضدهما أو تخفف من حدتها؟
«ما يحدث في سورية حرب وليست ثورة»، عبارة قالتها زميلة يسارية بوليفية في تعليق لها على كلام زميلة أخرى سورية.
فوجئت بالتعليق غير المتوقع، بناء على مناقشاتنا السابقة، وآثرت الاستماع صامتاً إلى تشعبات الحديث، الذي سرعان ما انتقل لتناول موضوع آخر لإدراك الطرفين مدى حساسية ما قيل، وتحسباً لمآلات غير محسوبة.
قابلت الزميلة البوليفية ذاتها في مناسبة أخرى وبينت لها أن موقفها من الوضع في سورية كان غريباً غير متوقع بالنسبة إلي. وجدتها ما زالت مصرّة على موقفها، لكنني لاحظت في الوقت عينه مسحة مختلطة من التشنج والبرود على وجهها، وهي سمة يتشارك فيها العقائديون عادة.
من الحجج الضعيفة التي اتكأت عليها لدعم موقفها: بشار الأسد منتخب ديموقراطياً، وكل المتطرفين الإسلاميين من جميع أرجاء العالم اجتمعوا لمقاتلة النظام بدعم أميركي، وغير ذلك من الأقاويل المعلّبة، الفاقدة لأية صلاحية تسويقية.
ويبدو أنها شعرت بتماديها في الدفاع عن حاكم مسؤول عن قتل أكثر من نصف مليون إنسان، ومسؤول عن إعاقة أكثر من نصف مليون، وتشريد أكثر من نصف الشعب وتدمير البلد، فقالت: لست ضد خروج الناس للمطالبة بحقوقهم، ولكن ما يجري في سورية ليس كذلك.
نظرت فيها ملياً، وأنا أفكر في مدى قدرة الايديولوجيا على تحويل الكائن الإنساني إلى مجرد آلة من دون أية حواس ومشاعر ومبادئ.
قلت لها: ما رأيك بخروج أكثر من ثمانية ملايين مدني معظمهم من الطلاب والمثقفين يمثلون كل فئات ومكوّنات الشعب، في يوم واحد، يطالبون سلمياً برحيل بشار؟ وما موقفك من جلب النظام لقوات «حزب الله» اللبناني- الإيراني، والفصائل العراقية المذهبية، والحرس الثوري الإيراني لمشاركته ومساعدته في قتل السوريين وتدمير البلد؟ وكيف تسوغين إقدام النظام بقيادة بشار على قصف المدن منذ أكثر من خمسة أعوام بالطائرات وبكل أنواع الأسلحة، بما فيها الكيماوية؟ أما الانتخابات الديموقراطية التي تتحدثين عنها فهي انتخابات 99،99 التي كانت تعرف بها الأنظمة الشيوعية السابقة، وهي نسخة عن تلك «الانتخابات الديموقراطية» التي تمت عندكم أخيراً، وأسفرت عن انتخاب اورتيغا رئيساً لنيكاراغوا وزوجته نائباً له.
ولم يكن أمامها من مجال سوى أن تنظر في الأرض، وتقول: لا أدري. حينئذٍ أدركت أن السطحية، والمواقف المسبقة، والعماء الإنساني، ومناصرة الديكتاتوريات بناء على الشعارات، من الخصائص المشتركة بين أتباع اليسار الإيديولوجي عموماً، وليست مقتصرة على «يساريينا» المحليين وحدهم.
من بين ما يسجّل للثورة السورية على رغم كل شيء، أنها أسقطت الأقنعة عن وجوه الجميع، فبات نظام العصابة، والقوموي المدعي، والعلماني المزيف، والمقاوم المذهبي، والإرهابي الجهادي، بات هؤلاء جميعهم في الخنادق المتكاملة المناوئة لتطلعات السوريين، يستمدون الدعم من القيصر الأحمر والولي الفقيه.
وعلى رغم كل القتل والتهجير والتجويع والتدمير على مدى ستة أعوام، وتقاعس العالم أجمع عن نجدة السوريين كما ينبغي، تمكّن السوريون بفضل صبرهم وتحملهم وثباتهم، من إفهام الجميع بأن إعادتهم مجدداً إلى حظيرة الطاعة لبيت الأسد وشركائهم باتت أمراً يتجاوز المستحيلات السبعة.
وقد عملت روسيا في هذا الاتجاه، اتجاه إعادة تأهيل النظام، باستمرار، لا سيما في مرحلة ما بعد حلب، وحاولت أن تظهر في هيئة المتحكّم بكل خيوط اللوحة السورية، ودعت إلى اجتماعات آستانة، وحاولت أن تفرض أجندتها في جنيف، وكانت في سباق مع الزمن، لمعرفتها الكاملة بأن الموقف الأميركي في نهاية المطاف هو الحاسم.
وقد بلغ استخفاف روسيا بالسوريين أنها قدمت للنظام كل أنواع الدعم العسكري والسياسي، وعملت جاهدة على «فبركة» المعارضين وتسويقهم، وهي تسعى الى تحديد الوفد المفاوض وفق معاييرها، وبطريقة تذكّرنا بمسرح العرائس الدمشقي. بل بلغ الأمر بالروس حد وضع الدستور للسوريين قبل المفاوضات، وذلك في لحظة درامية إبهارية، كان الغرض منها الإيحاء بأن المقادير والمصائر جميعها غدت في حوزتهم.
وجاءت الضربة الكيماوية على خان شيخون من جانب النظام، وبالتفاهم مع الروس والإيرانيين، وفي أجواء التصريحات الأميركية اللافتة بخصوص مصير بشار، لتكون في حسابات معسكر النظام أداة لبث الرعب الشمولي، تمهيداً لرسم حدود ممالك الرغبة والعقد الماضوية.
وخرج الروس على الملأ بحكاية كانت أكثر «معقولية» من حكاية بثينة شعبان غداة الضربة الكيماوية على الغوطة. لكن القاسم المشترك بين الحكايتين هو افتقارهما الى أية صدقية.
وتوجهت الأنظار جميعها نحو واشنطن التي خدعت تصريحاتها قبل خان شيخون النظام ورعاته. وكانت الضربة الأميركية التي كان أوباما لوّح بها كثيراً قبل أن يتنصّل من خطه الأحمر، مكتفياً بصفقة كان هو أكثر الناس اطلاعاً على جوانبها الرخوة، ومع ذلك اكتفى بالبعد الدعائي، وترك الجاني طليق اليد والقدرات.
ومن محاسن هذه الضربة الأميركية المحدودة أنها أكدت رسمياً للمجتمع الدولي المشلول مسؤولية «نظام» بشار عن استخدام الكيماوي. كما أرغمت الروس على إعادة النظر في حكايتهم التفسيرية - التضليلية حول ما جرى في خان شيخون، وسحب قواتهم في الوقت عينه من المنطقة التي كانت هدفاً للضربة الأميركية، وذلك في اعتراف ضمني بأن القوة الأعظم هي التي تقرر.
لقد كانت روسيا تريد إرغام المعارضة السورية على القبول بمنطقها القائم على أن ما بعد حلب ليس كما قبلها. والآن تبيّن للجميع، ومعهم روسيا بطبيعة الحال، أن ما بعد ضربة مطار الشعيرات ليس كما قبلها.
الضربة الأميركية على محدوديتها، وعلى رغم التساؤلات الكثيرة حول مراميها، وحدودها وجديتها، وإمكانات استمراريتها، تشكّل رسالة قوية للجميع، ولروسيا بخاصة، تؤكد أن مرحلة التفرد الروسي بالملف السوري انتهت. هذا بصرف النظر عما إذا كان ذلك التفرّد قد تم ضمن سلسلة تفاهمات أميركية- روسية سابقة أو لا.
أميركا موجودة بقوة في الجغرافيا السورية براً وجواً. وهي الفاعل الأكثر تأثيراً وقوة اقليمياً ودولياً. وعلى وقع خطاها ينظم الأوروبيون سيرهم، ويعبر حلفاؤها الإقليميون بمناسبة ومن دونها عن رغبتهم في التعاون والإسهام، وتجاوز مرارات وخيبات المرحلة الأوبامية.
أما خصوم أميركا، فيدركون تماماً أن قدرتهم على المجابهة محدودة إذا بلغت الأمور مرحلة الجد.
منذ تدخل الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، والأحاديث تتصاعد حول دورها الإمبراطوري، وإمكانية تحول قوتها إلى أداة تدمير للدول المعادية، والمشاريع المختلفة. في المقابل، عُرِفت التيارات الشمولية بمعاداتها للقيم الأميركية، باعتبارها منتجات لقوة «إمبريالية» تخطط للسيطرة على العالم من خلال الأزياء، والجينز، والوجبات السريعة، والمشروبات الغازية، والسينما، وثيمة الرجل القوي الذي لا يهزم، كما في سلسلة أفلام جيمس بوند، أو أفلام رامبو، التي رغم مبالغاتها، فإنها كانت مؤثرة، شرقاً وغرباً!
تطوّرت الحالة الأميركية، وتفتقت العبقرية الإعلامية عن سيطرة مشهودة، فبات كل شيء أميركياً تقريباً، لأن أميركا ذات قيم مختصرة، وأساسها الحرية والقانون والعدالة، ولا يمكن فصل قوتها العسكرية عن قوتها الميديائية الساحرة، بالإضافة لكونها ذات جذور غير عميقة بالتاريخ والصراعات، إذ وجدت منذ ثلاثمائة سنة، وقيمها خليط من الحضارات والشعوب والأمم، واستلهمت عُصارة الحضارة الأوروبية، وطورتها ضمن مكائنها واحتياجاتها.
في لقاء بين وزيري الخارجية، الروسي لافروف والأميركي تيلرسون، تحدث الأول عن ضرورة «الوعي بالتاريخ»، قبل الدخول في الأزمة السورية، وقال له بشيء من التعالي: «إنك حديث في مهمتك، وليتك تعرف سياق الأزمة تاريخياً»، غير أن الوزير الأميركي أحاطه بأن ما يهم أميركا هو الواقع والحدث الحالي، والتاريخ ليس جزءاً من الاهتمام الشخصي، فأميركا تاريخها حديث أصلاً. تراجع الروس عملياً، حتى وإن تصاعدت لغتهم وتعالت، ذلك أن أميركا لديها قوة ضغط مهولة تتعلق بالعقوبات، وأزمات روسيا الداخلية. وتعرف موسكو أن القوة الأميركية ليست مجالاً للمزاح، وبخاصة في عهد غير عهد أوباما.
ضمن ذلك السياق، يدور الحديث دائماً حول طموحات أميركا العسكرية؛ تتعارض الآراء بين قائلٍ إنها الدولة القوية القادرة على حل الأزمات، والتدخل في مفاصل المعارك، وحسم الصراعات، والبعض الآخر يراها دولة استعمارية إمبريالية توسعية، ولكن كيف يمكن توضيح الدور الأميركي بالشكل الأدق، والأكثر علميةً ومعرفيةً؟!
العميد السابق لمدرسة جون كيندي الحكومية، جوزيف ناي، كتب دراسةً عن «مستقبل القوة الأميركية»، حلل فيها باتزان موضوع دور القوة الأميركية، وعواقبه أحياناً، إذ يعتبر أن إدارة القوة أهم من القوة ذاتها، مقارناً بين القوة الأميركية والصينية مع الفارق، إذ لا تزال أميركا تتفوق، على مستوى العدة العسكرية والعتاد، والغنى التكنولوجي.
يقول في دراسته: «ستظل الولايات المتحدة، بوصفها القوة الكبرى، محافظةً على أهميتها في الشؤون العالمية، ولكن سرد القرن الحادي والعشرين بوصفه قرن التفوق الأميركي، وكذلك أي سرد حول الاضمحلال الأميركي، مضللٌ عندما يسترشد به في تحديد نوع الاستراتيجية التي ستكون ضرورية في القرن الحادي والعشرين. ومن غير المحتمل أن تشهد العقود المقبلة ظهور (عالم ما بعد أميركا)، ولكن الولايات المتحدة ستحتاج إلى استراتيجيةٍ ذكية، تجمع بين موارد القوة الخشنة والقوة الناعمة، وتؤكد التحالفات والشبكات التي ستستجيب للسياق الجديد؛ سياق عصر المعلومات العالمي».
تتدخل الولايات المتحدة في الأزمات، ليس بوصفها أداة استعمار واحتلال بالضرورة، وإنما لقدرتها على دحض المقولات العسكرية والسياسية، من دول عظمى ترى في خلل إنساني ما أمراً طبيعياً، ولا يمكن الحديث عن دافعٍ إنساني محض، بل قد تكون هناك رغبة في استعادة النفوذ، وإضعاف قوى أخرى. وليس سراً أن النفوذ الأميركي من مصلحته أن يتدخل في سوريا على المستويين العسكري والسياسي، بغية إضعاف التدخل الروسي. ودون ذلك التدخل، فإن روسيا وإيران ستعيثان في منطقة الهلال الخصيب فساداً، وستنفرد قواهما في الأمر والتدبير، وهذا مُضر بالأمن القومي الأميركي.
المقولات القديمة حول أميركا لم تعد مجدية، فقد ذهبت التيارات اللغوية الشاتمة، وبقيت هذه القوة العظمى، التي تستطيع أن تغطي بقيمها الإنسانية على المشاريع الدموية، والآيديولوجيات الإقصائية، فهل من عاقل يعتبر قيم حزب البعث السوري، على سبيل المثال، منافسةً لقيم الولايات المتحدة؟!