من الممكن أن تستمع لآلاف المهاترات في الفضاء الالكتروني ، حول الاقتتال المندلع حالياً في الغوطة الشرقية بين فصائلها التي قررت أخذ دور المدافع أمام جموع الأعداء المتنوعين ، و دور المهاجم الجسور الذي لا يلين في مواجهة بعضهم الآخر ، معتمدين على مبدأ “التفرد لا يحكمه إلا القتلة ”.
قد نعجز في الوقت الراهن تحديد ما حدث و مسبباته على وجه الدقة ، و قد تخوننا عاطفتنا في توجيه أصابع الاتهام إلى الدافعين لهذا الاقتتال و المشاركين فيه و المتدخلين و الفاعلين ، و لكن في خضم هذه الصراعات الذاتية الداخلية ، يخرج تعليق واحد من احدى نساء الغوطة ، تقول فيه :”الله ياخدهن كلهم .. ولا يصفي ولا واحد فيهن” ، لتتيقن أن هذه هي الخلاصة التي يجب أن يحظى بها كل من اعتلى القيادة العامة عسكرياً أم سياسياً و الأهم شرعياً ، من لوثوا كل شيء و حافظوا على نظافة أثوابهم أمام سيل الدم ، تحت دعوى “تحكيم شرع الله” ، شرع يريدونه على الأموات بخلاف الأصل .
قد يكون هناك تحليلات عديدة لما يحدث مع صبيحة يوم ٢٨-٤-٢٠٧ ، المشؤوم و الأسود في تاريخ الرقعة الجغرافية التي تعد آخر من تبقى للثوار في دمشق و محيطها بشكل كامل ، تحليلات مبنية على حسب انتماء الناطق بها لهذا الفصيل أو ذلك أو ولائه لشخص أو للحية شرعي جهبذ في علم القتل و ليش الشرع حتماً ، منها ما يضع الحق في كفة هذا و آخرين ينقلونه إلى الكفة الأخرى ، في حين يعتزم كثر على النأي بالنفس على مبدأ “الله على الظالم” ، ظالم أعتى و أشد سواد من الليل حتى يبقى مجهولاً.
ومع اليقين بأن الوصول إلى نتيجة تتمثل بتسمية المتسبب ، ضرب من ضروب الخيال ، يجعل الجميع في ذات الميزان فهم ضحية و مجرم في آن معاً، وعلى جميع المستويات ابتداء من رأس الهرم حتى أصغر عنصر مشارك ، لا مكان للتسامح في هذه القوائم ، و ان تدرج حجم الاثم حتى يصل ذروته للشرعي العام ومحيطيه ومعتلي المنابر ، و كذلك قافذي الأنفس بين الدول و أؤلائك ممسكي زمام الخطط .
اليوم لاصوت أهتم به أو حتى أستمع إليه إلا صوت تلك الحرة التي تترتجف خوفاً في منزلها ، ويتملكها الرعب أكثر من اقتحام النظام و مليشياته للغوطة ، فهنا الموت معنى سام يحظى به من أنعم الله عليه ، ولكن الموت على يد المقتتلين هو موت سُمّي يكون من نصيب من فشل في الحصول علي الحظوة .
الطريق إلى الانتخابات الرئاسية في إيران مثل قائمة طعام، فيها أطباق تقليدية لا تتغير، وأطباق جديدة للتذوق ربما قد تشد الزبائن.
أعلن مجلس صيانة الدستور قبول ترشح حسن روحاني، وإبراهيم رئيسي، ومحمد باقر قاليباف، وإسحاق جهانغيري، وهاشمي طبا، ومصطفى مير سليم، وأكد رفض ترشح محمود أحمدي نجاد ومساعده السابق حميد بقائي.
وكان لوحظ رفض ترشح متطرف آخر هو علي رضا زكاني، وكأنه لا مكان لاستفزازيين في الانتخابات المقبلة. اللافت أن أحمدي نجاد لم يعلق شخصياً، بل بدل صورته في حسابه على «فيسبوك» ووضع مكانها صورة أخرى والجماهير تصفق له. ثم أصدر مستشاره الإعلامي البيان التالي: «الدكتور محمود أحمدي نجاد والسيد حميد بقائي شعرا بضرورة القيام بدورهما الثوري والوطني و(الديني) لحل المشكلات المعيشية للشعب الإيراني، لكن قرار مجلس صيانة الدستور (أزاح) عن كاهلهما هذا الدور و(الحمد لله رب العالمين)».
في الطريق إلى الانتخابات نشر رئيس شركة طيران إيران «اسيمان» صورة له وهو يصافح ممثلي شركة «بوينغ» الأميركية. حسين علائي، وهو منذ عقود طويلة مسؤول كبير في الحرس الثوري، كان قال: «وضعنا الخطط بحيث سنستعمل كل قدراتنا العسكرية لندمر الأسطول الأميركي». بعد ذلك جاء الطبق التقليدي الرئيسي والثابت، حيث أكد علي سعيدي ممثل المرشد الأعلى علي خامنئي لموقع «الحرس الثوري الإيراني» أن «الثورة هيأت الظهور للإمام المهدي، وتعد المرحلة الأخيرة قبل ظهوره، لكنْ، هناك طرفان يعملان على منع ذلك، وهما الولايات المتحدة، والليبراليون والعلمانيون في إيران»، وقد لاقاه رد الشيخ مالك وهبة في لبنان من كوادر «حزب الله»؛ حيث قال: «لقد احتاج الأمر إلى ما يزيد على ألف وثلاثمائة عام كي تتهيأ الأمة لمثل هذه الظروف (...). يا سيدي هذا أوان الظهور فمتى يكون (....)؟ إذا لم يتم في هذا العصر، فإنه سيتأخر ألف عام».
ومن الأطباق التقليدية استمرار الإعدامات، حيث تأكد أن أكثرية الذين أعدموا «بتهمة الإرهاب والإفساد في الأرض» في ما بين مارس (آذار) الماضي ومارس من هذا العام، كانوا من الأكراد والعرب. كما تبنت المحكمة العليا الحكم بالسجن 5 سنوات على نزانين زاغاري واتكليف البريطانية - الإيرانية، والدة طفلة منعت أيضاً من السفر، بتهمة محاولة «قلب النظام».
وفي الطريق إلى الانتخابات، كان هناك طبق جديد ولافت؛ إذ وقف طالب جامعي يوم الأحد الماضي خلال اجتماع مع حسن عباسي، من كبار قياديي «الحرس الثوري»، وتحداه وسط تصفيق وتهليل من القاعة حول دور إيران في سوريا، وقال له: «إن نظريتكم هي نظرية نشر الرعب والإرهاب بتصدير السلاح للدفاع عن الديكتاتور بشار الأسد. تقولون الدفاع عن المزارات الشيعية التي لم تكن أبداً موجودة في إدلب أو في حمص. أين هي المزارات هناك؟ إنكم تلعبون بعواطف الشعب».
هذا الطبق، انتشر كالريح في كل مواقع التواصل الاجتماعي، وقد يشد الزبائن. جرأة هذا الطبق يلاقيها صمت طبق آخر، يحكي عن سقوط أكثر من 53 أفغانياً وباكستانياً شيعياً في سوريا في الأسابيع الأربعة الماضية.
يدرس الرئيس حسن روحاني هذا القائمة، ويتساءل هل ستأخذه مع الاتفاق النووي إلى الرئاسة من جديد في 19 مايو (أيار) من الشهر المقبل؟ من المؤكد أنه سيواجه تحدياً عندما يتوجه الإيرانيون إلى صناديق الاقتراع. هو يتطلع إلى تأمين ولاية ثانية. أحد المنافسين الرئيسيين هو إبراهيم رئيسي، حارس مقام الإمام الشيعي الثامن، ورجل دين محافظ وحليف خامنئي، في السادسة والخمسين، وعمل سابقاً أميناً لإحدى كبرى الجمعيات الخيرية. يرتدي عمامة سوداء، ليشير إلى أنه سيد، ومن سلالة النبي (صلى الله عليه وسلم)، مما يزيد من سلطته في الأوساط الدينية. والدليل الكبير على أوراق اعتماده المحافظة أن البعض يرشحه ليأتي بعد خامنئي، إلى درجة يبدو معها كأنه من غير المحتمل أن يخسر «نجمهم الصاعد» حتى أعلى المراكز، في أول مسابقة كبيرة له. «رئيسي» هو المرشح المفضل للمؤسسة الدينية، لكن وعلى الرغم من أن دعم المحافظين له ميزات أفضلية، فإنه لا يجعل من انتصاره أمراً مفروغاً منه.
بدأ المحافظون الآن يصورون رئيسي باعتباره الشخص الذي لديه أكبر فرصة للفوز، لكن التقارير أشارت إلى تعيينه أعضاء من «جبهة التحمل» المتشددة في المناصب الرئيسية في حملته، مما دفع إلى تكهنات بأن فرص فوزه آخذة في التناقص، خصوصاً أن الرئيس الروحي لـ«جبهة التحمل» هو آية الله محمد طاغي مصباح يزدي المعروف بوجهات نظره المتشددة، وكان مرشحه في انتخابات عام 2013 سعيد جليلي الرئيس السابق لفريق التفاوض النووي حصل على 4 ملايين صوت ضد روحاني الذي حصل على 19 مليون صوت. ويدعي رئيسي أنه دخل السباق على أنه مستقل.
أما روحاني، فإنه يتطلع إلى فترة رئاسة ثانية، لكنه يجد نفسه بين مطرقة اقتصاد تعب، واتفاق نووي لا يحظى بشعبية.
للوصول إلى الاتفاق، تلقى روحاني دعماً من خامنئي بسبب الظروف الصعبة التي كانت تعيشها إيران في ظل عزلة دولية، وعقوبات ساحقة، واحتمال أن تقوم الولايات المتحدة أو إسرائيل بشن ضربة وقائية ضد منشآتها النووية. الآن تغير الوضع، والرخاء الاقتصادي لم يطل برأسه، والإيرانيون متعبون من محنتهم. وفي استطلاع للرأي أجرته مؤسسة مقرها تورونتو بكندا، تبين لدى الغالبية أن الاتفاق لم يحسن مستوى معيشة الإيرانيين العاديين، وإن كانوا ما زالوا ينظرون بإيجابية إلى روحاني.
إذا جمعنا العوائد الاقتصادية الهزيلة، والتصريحات القوية الآتية من واشنطن بالنسبة إلى إيران، نجد أمامنا كل المكونات المطلوبة لأزمة انتخابية. الرئيس الأميركي دونالد ترمب ليس مهتماً بالاتفاق، لم يفككه بعد، تجاوزه بسياسة خارجية مبكرة تجاه المنطقة موجهة لتوطيد التحالف السنّي الأميركي المعارض لإيران، وهذا أبعد ما يكون عن طرح الرئيس السابق باراك أوباما، بأن الاتفاق النووي مع إيران هو لإعادة توازن السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط. تجاه هذه المواقف المتطورة، لم تعد القيادة الإيرانية تهدد بتمزيق الاتفاق، فهي إن فعلت، فستجد ترحيباً من واشنطن، ويقول لي مسؤول أميركي إن الإيرانيين لا يريدون العودة إلى العداء المفتوح مع أميركا، بل يبحثون عن نافذة يرون منها يداً أميركية ممدودة نحوهم.
عندما فاوض روحاني على الاتفاق، كان يتوقع نفوذاً اقتصادياً ومالياً مقابل فقدان إيران نفوذها الاستراتيجي عبر منشآتها النووية. الرئيس ترمب لا يعنيه أي اتفاق فاوض عليه الرئيس أوباما. لم يتردد في التمرد على الصين، وحتى على الحليف الياباني. لكن إذا خسر روحاني الانتخابات، فستكون تلك نهاية تجربة مؤسسة الأئمة الحاكمة في إيران بالانفتاح المحدود على العالم الخارجي، كما أنها ستشكل انعطافاً باتجاه المتشددين دينياً في الاستعداد لتأمين خلافة خامنئي.
قد يفوز روحاني بدعم من خامنئي نفسه، لكن يجب ألا يعتبر فوزه تحصيل حاصل. هو الآن من دون شريك على الحلبة الدولية، كما كان في زمن أوباما، والمقلق أكثر أن إدارة ترمب سوف توسع العقوبات على إيران، وتطبق الاتفاق بشكل أكثر صرامة. من الواضح أن هذه الإجراءات تأتي في وقت حساس، وقد تميل الدفة في إيران إلى فوز أحد المرشحين المحافظين، وربما هذا ما تتطلع إليه إدارة ترمب. هي تريد «شريكاً جديداً»، في مرحلة عداء جديدة مع إيران، إنما أميركا تضع شروطها هذه المرة، ولذلك تجب مراجعة ما قاله علي سعيدي عن الإمام المهدي.
بعد الضربة الأميركية على قاعدة الشعيرات السورية، بدأ حلفاء بشار الأسد إعادة حساباتهم، ووضع سيناريوهات بديلة للمستقبل. ففي 15 أبريل/ نيسان الجاري، اجتمعت قيادات مليشيات عراقية مقاتلة في سورية، برعاية إيرانية، لترتيب أوضاعها السياسية والقتالية حال رحيل الأسد. ولم ينعقد الاجتماع لأن رحيل الأسد بات قريباً، ولكن لأن تصرفات الرئيس الأميركي دونالد ترامب غير متنبَّأ بها. وقد تداول المجتمعون في دمشق أفكاراً حول "الانفصال عن قوات النظام" و"ضم متطوعين سوريين من مدن الساحل السوري، وتسليمهم مهمة قيادة فصائل المليشيات"، والظهور بمظهر "المقاومة الشعبية"، والتأكيد على شعارات "حماية محور المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي".
بات قرار القتال في سورية حتى لو غادر الأسد السلطة محسوماً. وكتب الزميل عثمان المختار في "العربي الجديد" عن تفاصيل هذا الاجتماع تحت عنوان "مليشيات عراقية: باقون في سورية ولو رحل الأسد" في 21 أبريل/ نيسان الجاري.
مرت أنباء اجتماع المليشيات العراقية في دمشق مروراً عابراً، لأن بقاء هذه المليشيات في سورية، وقتالها حتى لو رحل الأسد، أمر مسلم به من الأساس، فلم يعد الأسد إلا خيطاً ناظماً لمجموعة مليشيات طائفية، تقاتل تحت رايته أكثر من قتالها تحت إمرته.
لا يختلف مشهد الأسد كثيراً عن مشهد خصومه، إلا أن لمعسكر النظام "رمزاً" يتمركز القتال حوله، الأمر الذي يفتقده معسكر المعارضة الأكثر تشتتاً. وقد نُشرت تقارير كثيرة عن أمراء الحرب، في معسكر النظام، وفقدان الأسد السيطرة. باتت المليشيات تحكم نفسها، وأصبحت تنظم هجماتها، وتحكم السيطرة على خطوط إمداد، وخطوط تهريب. وهذا بعد العام 2013 وليس خبراً جديداً.
ما يتم تجاهله في سورية أن النظام فشل بالاعتماد على نفسه لقمع المعارضة، فجنّد الشبيحة أولاً. ثم استعان بالإيرانيين الذين جلبوا له مليشيات طائفية من أفغانستان والعراق ولبنان لقتال الفصائل المسلحة. وعندما فشل هؤلاء أيضاً، تدخل الروس تدخلاً مباشراً. وهنا، يأتي سؤالٌ ملح: أي معنى تبقَّى للدولة؟
فشل النظام السوري باحتكار العنف، فتحولت الثورة مسلحة، ثم فشل في احتكار العنف حتى في المناطق التي يسيطر عليها، فأصبحت في قبضة مليشيات أجنبية موالية له ومجموعات من الشبيحة.
في الجهة المقابلة، لم يفشل النظام في حماية مواطنيه وحسب، بل قتلهم، وأبادهم في عمليات انتقامية عشوائية، إنْ بالسلاح الكيميائي أو بالبراميل المتفجرة، متبعاً سياسات التنكيل واستهداف المدنيين بصورة مباشرة لعزلهم عن المسلحين. وهنا، لم تخضع "الدولة" في سورية لتعريف مدرسي آخر للدولة: التنازل عن شيء من الحرية في مقابل الحماية، فأصبحت الدولة القاتل الأكبر.
قرار المليشيات العراقية القتال حتى لو رحل الأسد متوقع. وسيقاتل حزب الله على جبهاته حتى لو سقط النظام، ولن يقوم بأكثر من إعادة انتشار لقواته على الأرجح. سيستمر الشبيحة في القتال أيضاً، فهم أمراء حرب في مناطقهم.
بشار الأسد مرتهن لمعسكره. تعامل الروس المهين واستدعاؤه لمقابلة وزير الدفاع سيرغي شويغو على الأراضي السورية في يناير/ كانون الثاني 2016 مثال صغير. تصريحات المليشيات العراقية الموالية لإيران مثال آخر.
لم يعد للأسد "دولة" إلا في خيالات أنصار "محور المقاومة" الذين يريدون أن يبرّروا، باسم فلسفات الدولة، دعم تشكيلات واسعة من المليشيات الطائفية، والقوى الخارجية التي تعبث في البلاد. الأسد طرفٌ في حربٍ أهلية مثل الآخرين، ومدعوم خارجياً مثل الآخرين، وسيطرته على حلب أو ريف دمشق لن تكون عودة للدولة، بل سيطرة لمليشيا على منطقة.
ما يجعل الأسد مختلفاً عن أي طرف مقاتل في سورية أنه الفصيل الأكثر تنكيلاً بالسوريين، الأكثر قتلاً وإبادة لهم، والذي يتحمل المسؤولية كاملةً عن كل ما يجري، لأنه كان "الدولة".
تستثير السياسة الأميركية الجديدة للرئيس دونالد ترامب أسئلة حول المآل الذي يمكن أن تصل إليه في سياستها «الهجومية» المستجدة. كيف ترى هذه الإدارة الى مصالح أميركا بوصفها العنصر المحدد لسياستها الخارجية؟ ولماذا تبدو متناقضة مع الوجهة التي اعتمدتها إدارة الرئيس السابق؟ ما الخلفية الأيديولوجية الكامنة وراء السياسة الهجومية، وعلى الأخص التوتر «الكلامي» حتى الآن مع إيران؟ أسئلة تحتاج الى أجوبة.
لا بد أولاً من استعادة الخلفية «الأيديولوجية» لسياسة أوباما تجاه المنطقة العربية وتجاه إيران على وجه التحديد. قامت «عقيدة» أوباما على قاعدة أن بلدان الشرق الأوسط منقسمة مذهبياً الى دول غالبيتها تعتمد المذهب السنّي، وأخرى تعتمد المذهب الشيعي. منذ اعتداءات أيلول (سبتمبر) 2011، ساد اقتناع أن بعض الدول ذات المذهب السنّي ترعى الإرهاب الذي ضرب أميركا وأوروبا. اعتمدت إدارة أوباما وجهة احتضان تنظيمات إسلامية تعتبرها معتدلة ومناهضة للإرهاب، فأقامت علاقات مع تنظيم الإخوان المسلمين، وراهنت على وجوده في السلطة. لكن «الإخوان» اخفقوا في تحقيق أمنيات الإدارة الأميركية، حيث ظهر تنظيمهم بصفته الأب والأم لسائر التنظيمات الإرهابية. بعد أن خاب أمل الأميركيين من العالم «السنّي»، جرى التحول نحو إيران بصفتها القطب الآخر المذهبي الذي يمكن الاعتماد عليه والتحالف معه في وجه الإرهاب. هذا القطب تمثله دولة إيران، فبات الاهتمام الأميركي منصباً على إقامة علاقة حسنة مع إيران، وكان المدخل هو البرنامج النووي الإيراني الذي انتهى بتوقيع اتفاق إيجابي مع ايران. شكل ذلك تحولاً استراتيجياً، عبر التراجع عن العلاقة القوية مع بعض الدول العربية لمصلحة الدولة الإيرانية.
على رغم التوافق الأميركي- الإيراني على امتداد أكثر من عقد، خصوصاً منذ احتلال العراق عام 2003، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود تباينات بين المصالح الأميركية ومتطلباتها، وبين المصالح الإيرانية. لكن الثابت في السياسة الأميركية كان المهادنة مع طموحات إيران وتطلعاتها التوسعية في المنطقة، على رغم اعتراضات دول عربية حليفة بالأصل للسياسة الأميركية. استثمرت إيران التفاهمات مع الولايات المتحدة الى أبعد الحدود. فتربعت على قمة السلطة في العراق، بواسطة وكلائها من أمثال نوري المالكي، على ظهر الدبابات الأميركية وبحماية الإحتلال. تعاطت مع العراق بوصفه المدى الحيوي لإيران، فبات تشكيل الحكومات والميليشيات خاضعاً لما تقرره قيادة الحرس الثوري. وبعد الانتفاضة السورية، تدخلت إيران بقوة لحماية نظام الأسد، سواء بجيشها مباشرة، او بواسطة الميليشيات التابعة لها خصوصاً «حزب الله». ومدت أذرعها للتدخل في اليمن عبر دعم حركة الحوثيين، بواسطة السلاح الثقيل والمستشارين، ويقال بوجود قوات من الحرس الثوري. ولم تكف عن التدخلات في البحرين عبر دعم المعارضة فيها.
هذه السياسات الإبرانية كانت أحد الأسباب في تسعير الصراع الطائفي والمذهبي في المنطقة. لم تعر الإدارة الأميركية السابقة أي اهتمام لهذا الدور الإيراني المستفحل، بل أصرت على اعتماد النهج نفسه في إضعاف حلفائها الأصليين لمصلحة إيران. في العودة الى إدارة ترامب، المنطلقة من مصالح اميركا أيضاً، يبدو الفارق هو عدم الانطلاق من التفريق الطائفي والمذهبي في العلاقات والتحالفات، وهو أمر بدا بعيداً من التصنيف «الأيديولوجي» الذي اعتمدته إدارة أوباما. ينطلق ترامب من هدف استعادة موقع أميركا في الشرق الأوسط، وإعادة تحجيم الدول القائمة والذي تجاوز بعضها حدود المسموح له. بقي الثابت الأميركي الوحيد هو الدعم المطلق لإسرائيل، وهو ثابت لدى كل العهود الأميركية، ديموقراطية كانت أم جمهورية.
تصاعدت اللغة الأميركية الهجومية ضد إيران، فجرى توصيفها انها الداعمة للإرهاب في المنطقة، وأنها تهدد الأمن القومي الأميركي، وان البرنامج النووي الذي وقعه أوباما يجب إعادة النظر به بكل ما يعنيه من عدم رفع العقوبات. مما يعني وجوب تقليم أظافر إيران في المنطقة. واستكمل ترامب سياسته تجاه إيران بضربة عسكرية في سورية كانت الرسائل واضحة عبرها سواء الى الروس او الى الإيرانيين.
اذا كان ترامب لم يجد حرجاً في توجيه ضربة عسكرية الى سورية، وهو تصرف يعبر عن ترجمة التهديدات الى أفعال، فهل بإمكانه ان يتصرف مع إيران وفق الأسلوب نفسه؟ ليس الأمر مبسطاً، فإيران دولة تملك ترسانة صاروخية، صحيح انها لا توازي الترسانة الأميركية، ولكنها قادرة على إحداث دمار في القوة العسكرية الأميركية. لذلك تبدو الحسابات مع إيران أكثر تعقيداً من استسهال ضرب قواعد عسكربة في سورية؟ يناقش الطرفان الأميركي والإيراني احتمالات الصراع والحدود التي سيصل اليها، وليس غريباً ان تكون الحسابات دقيقة تجاه أي خطوة تصعيدية. تحتاج هذه العلاقة الى فترة تنقضي فيها الانتخابت الرئاسية في إيران التي ستحدد مسار علاقات إيران الدولية ومنها تلك المتصلة بالإدارة الأميركية.
ما إن أسقطت الثورة الشعبية الإيرانية نظام الشاه الاستبدادي، واستكمل الملالي سيطرتهم عليها، حتى أوكلوا لجمهوريتهم الإسلامية مهمة مزدوجة، هي تحرير فلسطين وتصدير ثورتهم الإسلامية إلى البلدان العربية بدرجة أولى، بحجة توحيد العالم الإسلامي تحت قيادة الخميني: قائد معركة القضاء على إسرائيل.
سوّغت هاتان المهمتان، بترابطهما، تعبئة إيران قطاعات شيعية عربية تبنّت نظرية ولاية الفقيه وتنظيمها وتمويلها وتسليحها، مع إعطاء أولوية خاصة للعراق ولبنان. الأول، بسبب حجم مسلميه الشيعة وتاريخية العلاقة بين النجف وقم. والثاني، بسبب مجاورة شيعته فلسطين. هذه السياسة مزدوجة الاستخدام التي تدمج المهمتين إحداهما في الأخرى، طبقا لحاجات إيران، وما تتطلبه مصالحها، اعتبرت تصدير الثورة، بما تمثله من اختراق للبلدان العربية شرطا لازما لتحرير فلسطين الذي يحتم دمج القوى الشيعية المحلية مع تشكيلات إيران العسكرية المقابلة لها، لقيامها بالمهام التي تكلف بها داخل بلدانها، وكأنها جزء تكويني من الجيش الإيراني، يرابط في البلد العربي المعني. يتخطى دوره الشؤون العسكرية والأمنية إلى دور اجتماعي، يضمن ولاء الكتل الشعبية الشيعية له، لضرورة ربط حاجاتها اليومية وحياتها بمؤسسات إيران الموازية أو المماثلة، الناشطة في أطر محض عسكرية وأمنية.
تلازمت هذه التطورات مع ترسيخ انقلاب حافظ الأسد في سورية الذي كان أول رئيس عربي عقد تحالفا على مستوى الدولتين، السورية والإيرانية، أحدث تبدلا جوهريا في علاقات دول المنطقة العربية ببعضها، وبينها وبين إيران، وغطى مذهبيته برطاناتٍ سياسيةٍ قوميةٍ في دمشق وطهران، جعلت القضية الفلسطينية وتحرير فلسطين مركز خطابها، ونقلتنا من وعد التحرير العربي المحتجز إلى حال عماءٍ بلا ضفاف، أسموها حلف "المقاومة والممانعة"، الذي سرعان ما ضم حركاتٍ وأحزابا انخرطت في خطط الدولتين، التي قامت على مزيجٍ من رهانات علنية وسرية، غطت تنفيذيا المجالين العربي والإسلامي. وأفادت من نقاط ضعفهما، وحاولت وضع أيدي المتحالفين على قضاياهما ذات التأثير المعنوي الواسع شعبيا، وجعلها ذريعةً لإطلاق خطاب تحريري، أريد به حجب دور الأسد في تضييع الجولان، وامتناع نظامه عن العمل لإقامة شروط تحريرها الوطنية والقومية، وفي الوقت نفسه، لاستغفال العرب واختراق أوطانهم ودولهم.
بعد عام 1982، جسد حزب الله اللبناني التنظيم/ النموذج الذي قيّض له أن يلعب دورا رئيسا لتنفيذ هذا التوجه الاستراتيجي الإيراني/ الأسدي، المزدوج الاستخدام، وليس من قبيل المصادفة أن تأسيس الحزب تم بالتعاون بين مخابرات حافظ الأسد وفيلق القدس بقيادة قاسم سليماني. لذلك، وضع تحت إشراف أجهزة أمن البلدين، وزود بكل ما احتاج إليه من مالٍ إيراني وسلاح أسدي، بينما مكّنه احتلال لبنان أسديا/ إيرانيا من إنجاح أولى المهام التي كلف بها: القضاء على "حركة المقاومة الوطنية اللبنانية" التي كانت قد شكلتها أحزاب وطنية وتقدمية لبنانية، مؤيدة لمنظمة التحرير الفلسطينية/ مقاتلة للصهيونية، وسقط مئات الشهداء والجرحى والأسرى من مناضليها، لكن "حلف الممانعة" بدأ بإزالتها من الساحة، لتمكين الحزب من الانفراد بساحة الجنوب، وخوض صراع متقطع ضد الاحتلال الإسرائيلي مناطق تعادل 12% من مساحة لبنان، كان قد استولى عليها بالتلازم مع غزو الجيش الأسدي لبنان بذريعة "حمايته أرضا وشعبا" التي برّر بها حربه ضد المنظمة والحركة الوطنية اللبنانية، ونسيها حين غزا العدو الإسرائيلي الجنوب ووصل إلى نهر الأولي، في عمليةٍ أخذت صورة اقتسام للبنان، أيدتها أميركا مقابل تعهد الأسد بقصر حربه على منظمة التحرير باعتبارها عدواً مشتركاً. يفسر هذا شن إسرائيل آلاف الغارات الجوية والبرية والبحرية ضد قوات المنظمة في لبنان، من دون أن تصيب جنديا أسديا واحدا، "مقاوما وممانعا"، وكيف تصيبه إن كان الأسد قد أرسل 35 ألف عسكري إلى لبنان، من دون أن يصل عسكري واحد منهم إلى جنوب الأولي، لـ"حماية لبنان أرضا وشعبا" من إسرائيل. يرجع ذلك إلى اتفاقه مع تل أبيب على غزوه لبنان، واعتبار المنظمة الخطر الوحيد على وحدة لبنان أرضا وشعبا.
بعد تأسيس حزب الله، تطور تعهده إلى تحكم أسدي به، استخدمه أداة استعان بها، ليوهم السوريين بأنه يخوض معركة تحرير الجولان في لبنان، بدعم من دولة شقيقة هي إيران التي تتفانى في تحدي العدو، وتتقدم إلى ميدان المعركة، بينما يختبئ العرب وراء أصابعهم، ويحجمون عن مساعدة النظام على استرداد أرضه المحتلة من العدو الإسرائيلي، ناهيك عن تحرير فلسطين: رهان إيران الأول.
تعزّز تصدير الثورة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وتسليمه لإيران وأتباعها، وتخلق محورٌ شيعي مركزه كتلة طهران/ بغداد/ ودمشق، وجناحاه البعيدان في مزار الشريف الأفغانية وجنوب لبنان المتوسطي. بعد العراق، انقلب حضور إيران في سورية إلى حضور دمجي/ احتلالي، خصوصا بعد تنصيب الحرس الجمهوري بشار الأسد رئيسا لدولةٍ، كانت تزداد ارتباطا بطهران، على الصعيدين العقائدي والمذهبي. لذلك، وما أن قامت الثورة ضده، حتى أصدر المرشد أمرا إلى حسن نصر الله بإرسال حزب الله، محرّر فلسطين المزعوم، إلى سورية، لتحريرها من شعبها وحماية "ملا القرداحة" العلماني، مندوبها السامي في دمشق الذي يغطي منصبه هوية نظامه المذهبية/ العقدية، المحمية من خلال ربط سورية ب ـ"المركز الإمامي" في طهران وذراعه الطائفي اللبناني، لربط سيطرته بتمكين إيران من استخدامها تحقيق أي هدفٍ تريده، وللإفادة من قدرته على خططها لإنهاك العالم العربي واختراق بلدانه، وخصوصا الخليجية منها، بينما يعرّضها التصدي لإسرائيل إلى انهيارٍ، يطاول وجودها في عموم المشرق، وربما داخل إيران نفسها. والآن: إذا لم يكن تدمير العالم العربي هدف إيران الاستراتيجي، ما معنى تصريحات كبار مسؤوليها السياسية والأمنيين حول تبعية بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء لهم؟ ... وماذا عن تحرير فلسطين أيها السادة؟ هل كانت وظيفته تغطية تصدير الثورة إلى المشرق والخليج وشرق وشمال إفريقيا؟ ألم تستخدمه لشن الحرب على الشعوب العربية، وخصوصا منها الواقعة على محور مزار الشريف/ جنوب لبنان التي اتهمت طهران معظم شعوبها بالأصولية والتكفير، وغزتها بالتعاون مع مرتزقةٍ متنوعي الجنسيات، وبطشت بكتلها الكبرى واستبدلت سكانها بأغراب استجلبتهم من أفغانستان وأوزبكستان وبنغلادش وإيران والعراق ولبنان واليمن و... و... إلخ؟
والآن: هل للقتال من أجل بشار اعتباراتٌ تمليها مصالح سياسية أم أن الشراكة المذهبية/ الطائفية مع إيران هي التي تمليه؟ إذا كان قادة "المركز الإمامي" في طهران يقولون بلا خجل: سورية هي المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثون، وإنهم يدافعون فيها عن آل البيت، ويمنعون سبي زينب مرة أخرى، وأن مسلحيهم ينشدون أغاني تعد بتطهير مكة، وقتل أهلها، ماذا يبقى من معنى للسياسة؟ ولماذا لا تعامل إيران دولة تقوّض العالم العربي، كما لم يفعل حتى الاستعماريون والصهاينة؟ وإذا كان عدد قتلى "حرب تحرير فلسطين" التي شنها حزب الله والحرس الثوري والجيش الإيراني وفيلق القدس لم يتعد عشرات قليلة من جنود إسرائيل، طوال خمسة وثلاثين عاما، وكان هؤلاء مجتمعين قد قتلوا مئات آلاف الشهداء، وجرحوا وشوهوا وسجنوا وغيبوا وقتلوا تحت التعذيب وهجّروا ورحلوا وحاصروا وجوعوا ملايين السوريات والسوريين خلال أقل من ستة أعوام ، من أجل حماية "ملا دمشق" من شعبه، فعن أي تحريرٍ لفلسطين والجولان، وأي إخاء إسلامي تتحدث طهران؟
استخدمت إيران "تحرير فلسطين" لتصدير ثورتها المذهبية إلى شعوبٍ ترفضها، وخاضت حربا شاملة تدثرت بالإسلام، أقدس مقدسات العرب، للالتفاف على وعي المؤمنين والغدر بهم، ولربط مصيرهم بها، وتقويض انتمائهم القومي، لإيمانها بأن لفشلها نتائج تمسّ بقدرة عقيدتها على حفظ دولتها، وتفضي إلى نجاة العرب من صراعاتٍ وحروبٍ مذهبيةٍ تريد زجّهم فيها، لا مصلحة لهم في وقوعها، ولم يكونوا يوما طرفا فيه، ويعتقدون أن انبعاثها المتجدّد لن يكون غير كارثةٍ تحل بهم، ما دام تجييش المسلمين بعضهم ضد بعض لا يخدم غير العدو الإسرائيلي وواشنطن، فهل هذا هو دور إيران؟
بانكشاف سياساتهم كفاعلية تغطي سعيهم إلى تدمير جوارهم بالمذهبية المسلحة، يضع الملالي إيران، شقيقة العرب التاريخية، في تناقضٍ قاتل معهم، ويسهمون بتدمير ما لم يدمّر بعد من بلدانهم في الخليج، وخصوصا منه السعودية. واليوم، وقد كادت سياسات طهران تبلغ نهاية شوطها، في زمن تقومنت وتعلمنت سياساته ومصالحه، ويستحيل ردّه إلى ماضٍ زال وانقضى، مهما غطته بألاعيب سياسية المظهر، تدرك دول المنطقة ومعظم دول العالم أن إفشال سعي إيران إلى إحياء رميم المذهبية شرط لازم لإنقاذ الأمة العربية وحضارتها، ومجمل حضارة البشر.
تزداد قوة دوران دوامة الحرب السورية في الآونة الأخيرة، خاصة بعد المجزرة الكيميائية المرتكبة في بلدة “خان شيخون”، وما أعقبها من ضربات عسكرية أمريكية محدودة استهدفت مطار “الشعيرات” كاستعراض لقوة السلاح الأمريكي في حقل تجارب سوري مفتوح.
ما إن أعلنت الخارجية الأمريكية عن انتهاء عمليات القصف على مطار الشعيرات، حتى انهمرت أطناناً من الصواريخ والقذائف فوق المناطق المحررة. رغم أن هذه الأسلحة غير كيميائية لكنها أحدثت العديد من المجازر في عدة بلدات كجسر الشغور وسلقين وأورم الجوز وغيرها، وكان للمشافي ومباني الدفاع المدني النصيب الأكبر من ذلك القصف والتدمير فأُخرج معظمها عن الخدمة في حملة ممنهجة لهدم البنية التحتية في الشمال السوري.
أهم تلك المشافي المدمرة في الآونة الأخيرة:
1 – المشفى الوطني في مدينة معرة النعمان والذي قُصف في 2 نيسان.
2 – مشفى الرحمة في مدينة خان شيخون في 4 و 16 نيسان.
3 – مستوصف حيش في 7 و 8 نيسان.
4 – مشفى الإخلاص في قرية شنان في 17 نيسان.
5 – المشفى المركزي قرب عابدين في 22 نيسان.
6 – مشفى الشهيد وسيم حسينو في مدينة كفر تخاريم 25 نيسان.
تستمر هذه الحملة مع عقد الاجتماعات من قبل الأقطاب المؤثرة للبحث عن حلّ سياسي ترقيعي يرضي كلّ الأطراف المتصارعة والمتناحرة في سوريا، ويوقف تصفية الحسابات فيما بينها على حساب هذا الشعب المنهك مسلوب الهوية والقرار والذي تحوّل لمجرد أرقام في عداد القتلى والجرحى والمفقودين لا أكثر.
فقَدَ السوريون في هذا الصراع الدولي عدة مفاهيم كالمواطنة والهوية، وسلبت منهم ثورتهم، ودمرت منازلهم، وقتل أولادهم في حرب دولية كبيرة لا ناقة لهم فيها ولا جمل إلاّ تلك الثورة على ذلك الحاكم المستبد الذي استعان بكل الميليشيات الأجنبية للتمسك بالحكم، وإظهار نفسه على أنه متحكم بالقرار السوري المسلوب منه منذ فقد سيطرته على مناطق واسعة من البلاد .
في حين ينتظر الشارع السوري ضربات أمريكية جديدة، على مناطق استراتيجية تلجم الأسد ومليشياته، تعود الولايات المتحدة الأمريكية للحديث عن المناطق الآمنة ولنقطة العقوبات المالية فأدرجت يوم الإثنين الواقع في الــ 24/4 /2017م على تلك القوائم 271 موظفاً في المركز السوري للبحوث العلمية بتهمة العمل على تطوير الأسلحة الكيميائية لأكثر من خمس سنوات؛ تأمر العقوبات البنوك الأمريكية بتجميد الأصول المالية والعقارية لأي موظف قد أُدرج اسمه، وتمنع جميع الشركات الأمريكية من القيام بتعاملات مع مؤسساته، وقد أعلن وزير الخزانة “ستيفن منوتشين” في بيان له أنّ هذه العقوبات الواسعة تستهدف مركز الدعم العلمي للهجوم المروع بالأسلحة الكيماوية للدكتاتور بشار الأسد على رجال ونساء وأطفال مدنيين أبرياء وأنّ السلطات الأمريكية ستلاحق باستمرار الشبكات المالية لجميع الأفراد المشاركين في إنتاج الأسلحة الكيماوية المستخدمة لارتكاب هذه الفظائع وستقوم بغلقها.
لم يكن قرار ترامب على مستوى تطلعات الكثير من السوريين لأنها تذكرهم بحقبة أوباما وتعاطيه مع القضية السورية لأنّ هذه العقوبات كسابقتها لن تؤثّر على مجريات الأحداث ولن تخفف من وطأة الحرب والعنف على المدنيين.
من المؤكد أن هذه المأساة تجاوزت الحدود السورية، وعبرت الحدود التركية، وشملت العراق ولبنان والأردن، وتحوّلت قضية اللجوء لقضية محورية!
إلا أن اختصار الحل ببعض العقوبات المالية التي تدر أرباحها للبنوك الأمريكية، وإقامة مناطق آمنة في جنوب سورية وشمالها لإيقاف الهجرة إلى تلك الدول هو الأنانية بحد ذاتها، ومحاولة حل الصراع التاريخي بهذه الطريقة كتوجيه بعض الضربات الصاروخية المحدودة سيكون أشبه بقطع زيل الأفعى وترك رأسها، كما سيكون تسليط الضوء على إجرام داعش والتغاضي عن الميليشيات الشيعية الأجنبية التّي تجوب المنطقة لتبتلع أكثر عدد ممكن من البلدات وتهجر أهلها، والتغاضي أيضاً على عمليات التهجير التي يقوم بها حزب الــpkk الكردي بعد سيطرته على مناطق في الشمال السوري.
كل ذلك يدل إلى أن المنطقة تسير إلى التقسيم وفق تصنيف طائفي دون أي تدخل من قبل المجتمع الدولي، وهذا ما سيجعل المنطقة قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، ولن تقتصر على سوريا فحسب، لأن الطوائف تتوزع على كل البلاد المجاورة، مما سيهددّ المنطقة العربية ومحيطها بالتفتت والتشظي، ويتوعد المحيط كله بزحف الحرب الطائفية إليه، وهذا كله يصب في صالح إسرائيل المستفيد الأكبر من إطالة أمد هذه الحرب.
في غياب المفاجآت، سيكون إيمانويل ماكرون ابن الـ39 عاما الرئيس الجديد لفرنسا، خصوصا بعدما أيده اليمين والوسط وقسم كبير من اليسار. صار لدى ماكرون الذي حل أوّلا في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية ما يكفي من دعم توفّره له القوى السياسية للانتصار على مارين لوبن مرشحة اليمين المتطرّف والمعجبة ببشّار الأسد. لم يحن بعد وقت وصول اليمين المتطرّف إلى الإيليزيه على الرغم من كلّ الجهود التي تبذلها أطراف عدّة تدّعي محاربة الإرهاب من أجل تحقيق هذا الهدف.
المفارقة، أنه للمرة الأولى منذ قيام الجمهورية الخامسة في فرنسا، هناك مرشحان يتنافسان على الرئاسة لا يمتلك أيّ منهما كتلة نيابية تذكر. لدى لوبن نائبان وليس لدى ماكرون الاشتراكي السابق الذي كان ينتمي إلى ما يسمّى تيّار “اليسار الذي يحبّ الكافيار”، أي حياة البذخ على طريقة فرنسوا هولاند، أي نائب. كيف سيفعل الرئيس الفرنسي المفترض من أجل ممارسة سلطته في بلد فيه نظام يجمع بين الرئاسي والبرلماني؟ الأكيد أن ماكرون سيتدبّر أموره، خصوصا أنّه قادر على التكيّف مع كل الظروف، ويعمل تحت شعار الرجل “القادر على أن يكون على تفاهم مع الجميع”، مع الذين على تفاهم معهم فعلا، ومع الذين لا يتفاهم معهم!
في كلّ الأحوال، يظلّ ماكرون ظاهرة فرنسية، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار صعوده السريع إلى موقع المرشّح الأبرز لدخول قصر الإيليزيه بعد الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية المتوقّعة في السابع من أيّار ـ مايو المقبل. لم يعد معروفا هل الرئيس المقبل لفرنسا اشتراكي أو غير اشتراكي. ليس معروفا هل هو رجل أعمال أو مصرفي أو أستاذ جامعي أو مفكّر درس الفلسفة وتأثر بهيغل… أو عازف بيانو. الأكيد أنه رجل استثنائي ولامع يمتلك صفات كثيرة. من أهمّ هذه الصفات أنه وجد من يعلّبه جيّدا ويسوّقه ويوصله إلى عتبة الإيليزيه في خلال بضعة أشهر. استفاد من دون أدنى شكّ من الحملة التي تعرّض لها فرنسوا فيون مرشّح اليمين، الذي كان صادقا عندما وصف تلك الحملة بـ”الوحشية”.
ركّز ماكرون في حملته الانتخابية على استقلاله عن الحزب الاشتراكي الذي كان ينتمي إليه في الماضي والذي أوصله إلى موقع وزير الاقتصاد والصناعة والرقمية في إحدى الحكومات التي تشكّلت في عهد فرنسوا هولاند (حكومة مانويل فالس). أمضى ماكرون عامين وزيرا في حكومة فالس (بين 2014 و2016)، لكنّه اختار الخروج في الوقت المناسب من السفينة الاشتراكية الغارقة وتشكيل حزب خاص به تحت تسمية “إلى الأمام”.
لن يجد ماكرون صعوبة كبيرة في الانتصار على مارين لوبن، تماما كما حصل في العام 2002 عندما سحق جاك شيراك والدها جان ماري لوبن في الدورة الثانية التي كانت فيها المنافسة بين الرجلين. نال شيراك وقتذاك نسبة 82 في المئة من أصوات الناخبين، تاركا الفتات للوبن الأب. لن يكون الفارق في الأصوات كبيرا، إلى هذا الحدّ، بين مارين لوبن وماكرون، لكنّ الثابت، استنادا إلى استطلاعات الرأي أن فرنسا ليست مهيّأة بعد لقبول أفكار لوبن وعنصريتها، على الرغم من كل المحاولات التي يبذلها الإرهابيون ومن يقف خلفهم من أجل الترويج لها وإيصالها إلى الرئاسة بصفة كونها على علاقة طيبة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومن مؤيدي بشّار الأسد، فضلا بالطبع عن أنها معادية لأوروبا والعملة الموحّدة (اليورو). من أهداف لوبن إجراء استفتاء على خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي.
لا شكّ أن ليس في الإمكان استبعاد فوز مارين لوبن استبعادا كليا، لكن كل ما يمكن قوله أن فرنسا، على الرغم من كل الإرهاب الذي تتعرّض لـه، لن تسمح لنفسها بالسـقوط في فخ اليمين المتطرّف الذي ليس لديه أي شيء يقدمه باستثناء الشعارات والتخويف من الإسلام. فمن يخاف الإسلام، من دون معـرفة بطبيعة هـذه الـديانة، لا يمكـن أن يذهب إلى تأييد بشّار الأسد من منطلق أن الحرب في سوريا هي حرب بين بشّار و“داعش”. من يعرف، ولو قليلا بالسياسة، يدرك أن الوجه الآخر لـ“داعش” هو رئيس النظام والميليشيات المذهبية الإيرانية التي تشارك في الحرب على شعب سوريا.
ثمة ملاحظات لا بدّ من الإشارة إليها على هامش صعود نجم إيمانويل ماكرون. الأولى مرتبطة بتلك التغطية الإعلامية التي حظي بها، والتي ترافقت مع تدمير ممنهج لفرنسوا فيّون. لم يكن الحزب الاشتراكي الذي أحرز مرشحه الرسمي بنوا هامون، في الدورة الأولى، ستة في المئة من أصوات الناخبين في حاجة إلى من يدمّره. تولّى الأمر فرنسوا هولاند الذي تميّز عهده بتراجع فرنسي على كل المستويات، وبسياسة اقتصادية فاشلة جعلت أصحاب رؤوس الأموال يهربون من فرنسا. لكنّ فيّون، مرشح اليمين، استطاع منذ البداية تكريس نفسه مرشحا جديا لا يقاوم. قضى على آلان جوبيه الذي كان قادرا على إنقاذ فرنسا وإخراجها من محنتها. فجأة حصل الانهيار على جبهة فيّون الذي بات مهددا بملاحقة القضاء له إثر كشف أن زوجته كانت تتقاضى رواتب وهمية من مجلس النواب.
من وراء تلك الحملة المدروسة التي أطاحت بمرشح اليمين الذي عرف كيف يزايد على مارين لوبن والذي ارتبط مثلها بعلاقات جيّدة بموسكو؟ ذلك هو لغز من ألغاز الانتخابات الرئاسية الفرنسية.
أمّا الملاحظة الأخرى، بين ملاحظات كثيرة، فهي مرتبطة بلغز ماكرون الذي حظي صعوده بتغطية إعلامية فريدة من نوعها. هناك مجموعات إعلامية عدّة تولت هذه المهمة. إحداها تابعة لرجل الأعمال باتريك دراعي المقيم في سويسرا. أحد مساعدي دراعي الذي يسيطر على وسائل إعلامية عدة كان بين المجموعة التي خططت للترويج لماكرون ولحملته الانتخابية. هذا الشخص يدعى برنار مراد وقد لعب دورا مهمّا في انطلاقة الوزير الاشتراكي السابق الذي استطاع وضع نفسه فوق اليمين والوسط واليسار… والأحزاب!
المهمّ أن ماكرون، صاحب التوجّه الأوروبي، سيسعى إلى الاستفادة قدر الإمكان من الغياب البريطاني عن أوروبا. من الواضح أنّه شخص انتهازي وذكي وأنّ هناك قوى تقف خلفه وتدعمه وتلمّع في صورته بشكل يومي. هناك فضائح مالية عدّة كان يمكن استخدامها ضدّه، بينها بعض الصفقات التي مرّرها في أثناء وجوده في وزارة الاقتصاد. لم تأت وسيلة إعلامية على ذكر أي منها. هنـاك على العكـس من ذلك تأليه لمرشح يصلح لكل الفصول يطـرح وصوله إلى الرئاسة من دون أكثرية نيابية أو حزب قوي لديه وجوده في الجمعية الـوطنية، مستقبـل الجمهورية الخامسة. جاء شارل ديغول بهذه الجمهورية في العام 1958 من أجل إخراج فرنسا من حال مزرية ومن التبـديل السريع للحكومات الذي اتسمت به الجمهورية الرابعة التي كادت أن تقضي على البلد. ما هو مطروح اليوم هل يؤسس ماكرون للجمهورية السادسة في وقت تحتاج فرنسا إلى نظام جديد يعيد إليها الاستقرار، تماما كما فعل ديغول قبل تسعة وخمسين عاما؟
كان أمراً مفاجئاً لأطراف عديدة، إقليمية وعالمية، أن تشن الطائرات الحربية التركية أمس عشرات الغارات الجوية المتزامنة على مواقع لتنظيم العمال الكردستاني في مدينة سنجار العراقية وأخرى على مواقع «وحدات الحماية الكردية» (وهي أحد الأسماء العديدة التي تشكّل واجهة يقودها فعليّاً حزب العمال الكردستاني) في شمال شرق سوريا.
كان لا بد لهجوم بهذا الحجم أن ينسّق غاراته مع «التحالف الدولي» الذي ترأسه الولايات المتحدة الأمريكية في العراق، وكذلك مع روسيا التي تهيمن بمنظومتها الدفاعية الصاروخية وطائراتها المقاتلة على أجواء سوريا؛ والحصول على موافقة هاتين الجهتين، في هذه الأجواء الدولية المعقّدة والخطرة، يحتاج قراءة متأنية لاستيعابه، من جهة، وقراءة أخرى لتحليل النقلات الأخرى التي قد تنتج عنه أو تتلوه، سواء من تركيا نفسها، أو من قبل الأطراف الكبرى والصغرى المعنيّة، بمن فيها حزب العمال الكردستاني نفسه.
الأتراك من جهتهم كانوا قد صرّحوا أكثر من مرّة بأن إنهاء عملية «درع الفرات» في شمال سوريا سيكون فاتحة لعمليات أخرى، وأنه لن ينهي مهمّة الجيش التركيّ التي وضعها على نفسه في فتح بيكار حربه مع حزب العمال الكردستاني داخل تركيّاً إلى مناطق نفوذ الحزب واستطالاته في العراق وسوريا، وخصوصاً في جبل سنجار، الذي اعتبرت سيطرة «بي كا كا» عليه إخلالاً بتوازنات سياسية وديمغرافية، وتهديداً ليس للحكومة التركية فحسب، بل كذلك لقيادة إقليم كردستان العراقي أيضاً التي ردّت على ذلك بتفعيل قوّات قوامها عناصر من الأكراد السوريين الذين لم يجدوا في مشروع واجهات «بي كا كا» السورية (كـ»حزب الاتحاد الديمقراطي» و»سوريا الديمقراطية» و«وحدات الحماية الكردية») مكاناً سياسياً لهم.
عنصر المفاجأة في الغارات يعود طبعاً إلى حقيقة أن سياسة قوات «التحالف» الأمريكية قامت على اعتماد كامل على واجهات «بي كا كا» الافتراضية في سوريا وهو، لو أردنا الحقيقة، أحد مكامن المرارة الكبيرة التركيّة والإحساس الشديد بوجود تآمر أمريكي ضدها، ولعلّ الضربات الجويّة الأخيرة تشكّل نوعاً من بداية مراجعة أمريكية لمنع تحوّل القناعة التركيّة بالتآمر إلى خسارات أكبر.
تساند هذا الاتجاه وقائع مستجدّة منها إمساك الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بأركان السلطة وتراجع إمكانيات التأثير الغربي على القرار التركي سواء فيما يخص الجيش أو أحزاب المعارضة التركية، في وقت تواجه واشنطن فيه تحدّيات جدّية في أكثر من مكان في العالم، وتتعرّض أوروبا إلى مخاطر التفكّك أمام اليمين المتطرّف المدعوم من روسيا.
وقد كان بليغاً، في هذا الصدد، أن الاستفتاء التركيّ الأخير حول التحوّل للنظام الرئاسي وتعزيز صلاحيات إردوغان حظي بتأييد أمريكي وروسي، مع ذلك فمن الصعب معرفة إن كان ما حصل عنواناً لسياسة أمريكية جديدة رغم أن ترامب أكد لإردوغان في اتصال هاتفي قبل أيام دعمه للحرب التركية على تنظيم العمال الكردستاني.
من الصعب أيضاً معرفة كيف ستتقبل القيادة العسكرية للتحالف في سوريا والعراق، وهي التي دافعت دائماً عن سياسة التعاون مع «بي كا كا» في سوريا، هذا التوجه، وإن كانت ستتمكن من اعتراض بوادر السياسة الجديدة للإدارة الأمريكية فيما يخصّ حرب أنقرة على حزب «الكردستاني» وواجهاته السورية، وهو أمر يمكن أن يتضح بعد لقاء الرئيسين ترامب وإردوغان المرتقب منتصف الشهر المقبل.
لا خلاف على أن أولوية إدارة ترامب هي القضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية» ولكن في وجود قرار سياسي وعسكري تركيّ بهذا الصدد يصبح التزام القيادة العسكرية الأمريكية بتعهيد «بي كا كا» مهمة تحرير الرقّة من تنظيم «الدولة»، وهي مدينة عربيّة، إصراراً على استهداف العرب السنّة الذين يجأرون بالشكوى والإحساس بالظلم، وتمكيناً لمخططات التغيير الديمغرافي في المنطقة، وتأسيساً مستمراً لتنظيمات التطرّف، إضافة طبعاً إلى التهديد الذي تستشعره تركيا وتحارب ضده.
منذ نشأته أوائل الثمانينات، كانت لـ «حزب الله» وظيفتان: تمكين الطائفة الشيعيّة وخدمة النفوذ الإيرانيّ، واستطراداً السوريّ. الوظيفتان ليستا متجانستين. إنّهما بالأحرى متضاربتان. وإذا صحّ أنّ حرباً مع إسرائيل تلوح في الأفق، ولهذا يستطلعها مسبقاً «الإعلاميّون»، جاز القول بأنّ التضارب بين الوظيفتين يبلغ الآن أقصاه: إحداهما لا بدّ أن تفجّر الأخرى: إمّا أن ينفصل الحزب عن الطائفة ليغدو مجرّد عصا إيرانيّة في تطويعها، وإمّا، وهذا هو الاحتمال المستبعد، أن ينفصل عن إيران ويعاود الالتحام بأهله وتغليب مصالحهم.
تبدأ المشكلة في التمكين. تمكين «حزب الله» للشيعة ليس من النوع الذي تُحدثه «أمل» بطريقتها: قضم للمواقع في الإدارة والمؤسّسات. إنّه تمكين سلاحيّ يقوم على افتراض الحرب الدائمة. وككلّ تمكين يقتصر على القوّة المحضة، يمكن في أيّة لحظة أن ينقلب إلى تدمير للطائفة التي يراد تمكينها. والمطالبة بالتضحية لا يمكن أن تمضي هكذا، وإلى قيام الساعة، من دون أيّ مقابل.
لهذا يجوز الافتراض بأنّه لو تُرك الأمر لـ «حزب الله» بتنا أمام سلاح يُلوّح به ولا يُستعمل. التلويح به قد يوحي بتمكين الأهل، بمعنى توازن القوّة. أمّا استعماله فيهدّد بتبديدهم. الدور الإيرانيّ المقرِّر هو الذي يدفع في الاتّجاه الآخر. الشيعة اللبنانيّون، في النهاية، ليسوا أهل الإيرانيّين، والإيرانيّون ليسوا أهلهم. إنّهم غير معنيّين بهم في ما يتعدّى استخدامهم أدوات في توسيع نفوذ طهران. للغرض هذا دفعوا «حزب الله»، ويدفعونه، كي يكون حزب مقاومة دائمة، مرّة على الحدود الجنوبيّة للبنان، ومرّة في سوريّة.
إذا صحّ اليوم أنّنا عشية حرب كبرى غرضها حماية النفوذ الإيرانيّ المستجدّ في سوريّة، صحّ أنّ كارثة محقّقة ستنزل على لبنان، وعلى شيعته وجنوبيّيه خصوصاً.
لنستعرض بعض العناصر التي طرأت منذ 2006 والتي تدلّ كلّها على أنّ الشروط الحربيّة ضعيفة جدّاً. يصحّ هذا في القدرة العسكريّة كما في سياسات الحرب واقتصادها: نوايا التدمير الثأريّ الإسرائيليّ أكبر بلا قياس. الاستعدادات الوحشيّة لم تكتمها التصريحات والمقالات التي تهبّ علينا بإيقاع متعاظم من تلّ أبيب. أموال البناء والتعمير التي توافرت في 2006 هي اليوم أقلّ بلا قياس في يد طهران كما في يد الدولة اللبنانيّة. النظام الدفاعيّ الأميركيّ – الإسرائيليّ المعروف بـ «القبّة الحديد» عطّل فعاليّة الصواريخ التي يتباهى بها «حزب الله». الأخير استُنزف بشريّاً وقتاليّاً في حربه منذ ثلاث سنوات على الشعب السوريّ. العلاقات الطائفيّة، لا سيّما السنّيّة – الشيعيّة، أسوأ من أيّ وقت سابق، وهي لن توفّر أيّ حاضن، كالذي وفّرته في 2006، لضحايا عمليّة عسكريّة إسرائيليّة. تحويل الأموال ونقلها أصبحا، مع إدارة ترامب، أصعب من أيّ وقت سابق. العلاقات الأميركيّة – الإيرانيّة لم تبلغ، منذ خطف رهائن السفارة الأميركيّة في طهران عام 1979، مستوى التردّي الذي تبلغه الآن.
تعبير «أشرف الناس» لن يكفي لإطعام الأفواه وبناء البيوت المهدّمة. إنّه يغدو، والحال هذه، رشوة لا ترشو أحداً. وبالمعنى نفسه فإنّ اعتذاريّة «لو كنت أعلم لما فعلت» لن تعذر صاحبها هذه المرّة. أخبار الحرب باتت في كلّ مكان. الكلّ على بيّنة من شروطها واحتمالاتها. الكلّ بات يعلم.
في مقابلة تلفزيونية يوم الاربعاء الماضي، أكّدت بثينة شعبان، مستشارة الرئيس السوري، بعد عودتها من موسكو أن الولايات المتحدة لن تستهدف سوريا بضربة مشابهة لتلك التي وجهتها لقاعدتها الجوية في الشعيرات قبل نحو اسبوعين.
مراقبون سياسيون في بيروت أكدوا بدورهم ان شعبان ما كانت لتقول ما قالته لولا ان المسؤولين الروس استنتجوا ذلك. غير ان محللاً استراتيجياً قريباً من القيادة السورية اكّد لي ان ما قالته شعبان يستند الى قاعدة معلومات بالغة الاهمية وليس الى مجرد استنتاجات.
بحسب هذه المعلومات، صارح مسؤولون سياسيون وعسكريون روس وزير الخارجية الأمريكي ركس تيلرسون خلال زيارته الاخيرة لموسكو بأن روسيا لن تترك سوريا عرضةً لهجمات أمريكية مقبلة، وانها قامت بغية حمايتها بتسليمها صواريخ متطورة للدفاع الجوي من طراز «إس 300» وصواريخ اخرى للغرض نفسه من طراز اسكندر، وانها جادة في دعمها سياسياً وعسكرياً في جهودها الرامية الى الدفاع عن سيادتها وتحرير اراضيها الواقعة تحت سيطرة تنظيمات ارهابية كـ «داعش» و»النصرة» في سياق استعادة وحدتها الجغرافية والسياسية. لعله في هذا الإطار جرى ايضاً نقل عدد من المقاتلات والقاذفات السورية الى مطار حميميم العسكري حيث تتواجد قوات روسية برية وجوية مزودة بأسلحة نوعية متطورة لتكون عملياً تحت حماية روسيا.
من السهل الاستنتاج، في ضوء هذه المعلومات، ان يكون وزير الخارجية الأمريكي قد اسرّ لنظيره الروسي بأن واشنطن ليست في وارد توجيه ضربة جوية جديدة لسوريا، وان يكون المسؤولون الروس قد سرّبوا هذا التوّجه الأمريكي الى شعبان.
غير ان متابعةً حثيثة لأقوال المسؤولين الأمريكيين وافعالهم تشي بحقيقة مغايرة. ففي نيويورك، شنت مندوبة الولايات المتحدة في الامم المتحدة نيكي هايلي حملةً شديدةً على سوريا كما على جمهورية ايران الإسلامية وطالبت مجلس الامن الدولي بالتركيز عليهما لأنهما «يتآمران معاً لزعزعة الشرق الوسط ويرتكبان اعمالاً ارهابية». بل هي لم تتورع عن القول إن «المجرم الكبير ايران وشريكها حزب الله» ضليعان في قتل الآلاف من المدنيين مع قوات الرئيس بشار الأسد وفي التدريب المميت للميليشيات في العراق وفي تسليح ميليشيات الحوثيين في اليمن. ولم توفر هايلي مقاتلي حزب الله فقالت بالحرف: «في لبنان ، يستخدم حزب الله ، وهو منظمة ارهابية ، القرى درعاً لترسانة من عشرات الآلاف من الصواريخ ، كما يسيطر حزب الله في سوريا على مناطق عدّة». بعدها اعلن وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس خلال زيارته للسعودية ان ايران تلعب دوراً يزعزع الاستقرار في الشرق الاوسط، وانه ينبغي دحر نفوذها لإنهاء الصراع في اليمن.
قبل هذه الحملة الواسعة على ايران وفي اثنائها، عَكَس الفشل في تنظيم لقاء ثلاثي يجمع ممثلي روسيا والولايات المتحدة مع المبعوث الدولي الى سوريا ستيفان دي مستورا إتساعَ هوة الخلاف بين موسكو وواشنطن ما عطّل وضع آليات للحوار وتقريب وجهات النظر لإنجاح محادثات آستانة المقبلة. ذلك ان واشنطن حافظت على مواقفها المتباعدة من موسكو منذ زيارة وزير خارجيتها الاخيرة للعاصمة الروسية. بينما حذّر ديبلوماسيون روس من تأثيرات السجالات حول الملف الكيميائي على جهود استئناف العملية السياسية ولاسيما بعد قيام «اسرائيل» بشن حملة سياسية واعلامية على سوريا وحزب الله في موازاة حملة دول اطلسية عليهما تتهمهما باستعمال السلاح الكيميائي.
ضابط اسرائيلي رفيع ادلى بتصريح الى مراسلي الشؤون العسكرية في وسائل الاعلام الاسرائيلية («يديعوت احرنوت» 2017/4/20) مفاده ان التقديرات الموجودة لدى قيادة الجيش الاسرائيلي تشير الى ان كمية الاسلحة الكيميائية التي تملكها القوات السورية تصل الى 3 اطنان. تلقّف السفير الإسرائيلي في واشنطن داني دانون هذه الإتهامات ليطالب مجلس الامن الدولي بإدراج حزب الله وحركة «حماس» على قائمة المنظمات الإرهابية ، معلناً ان ايران وحزب الله شريكان في «الجرائم التي ترتكب في سوريا» . وما لبث وزير الدفاع الأمريكي ماتيس أن كرر اتهام سوريا بالإحتفاظ بكمية من الأسلحة الكيميائية!
كل هذه الوقائع والشواهد تشير الى ان الولايات المتحدة و»اسرائيل» منخرطتان في حرب باردة متصاعدة مع روسيا وايران ، وان محور الحرب وميدانها هما سوريا، فهل تتطور الحرب الباردة الى حرب ساخنة؟ وهل تنتهز «اسرائيل» فرصة التوتر المتزايد واتساع نطاق المواجهات العسكرية في شمال سوريا وشرقها كما في جنوبها المواجه لـ»اسرائيل» لشن هجوم صاعق في منطقتي القنيطرة ودرعا بغية توسيع رقعة الجيب الحدودي الذي تسيطر عليه «داعش» و «النصرة» وحلفاؤهما؟ وهل تنتقل الولايات المتحدة من التنديد الإعلامي بـِ «داعش» والدعم العسكري لـِ»قوات سوريا الديمقراطية» الكردية الى إنزال المزيد من قواتها في محافظة الرقة والمشاركة تالياً في عملية إقامة «مناطق استقرار» (وهو المصطلح الذي تطلقه على «المناطق الامنة») وذلك في اطار تحويل هذه المناطق إلى كيانات منفصلة عن الحكومة المركزية في دمشق ؟
ألا يجد موقف أمريكا المتحفّظ من اجتماعات آستانة الرامية الى استعادة الوحدة والسلام لسوريا ترجمته العملانية في هذه التحركات الأمريكية والإسرائيلية المريبة والساعية الى تقسيم سوريا بدعوى انها تحتضن تنظيمات ارهابية معادية لها، وانها تقوم باستعمال اسلحة كيميائية ضد خصومها وتتسبّب بقتل مدنيين؟
اسئلة كثيرة تبحث عن اجوبة في مرحلة ملتبسة شديدة الغموض والخطورة في آن.
يريد الرئيس ترمب انتهاجَ سياسةٍ جديدة ضدّ إيران ونقْض كل الاتفاقات التي أَبْرمَها سلَفُه. يريد كبْح رفْع العقوبات وبالتالي حرمانها من 150 مليار دولار، ويريد أن يوصِل لها رسالة مفادها أنه مستعدٌّ حتى لحربٍ ضدّها إن لم ترتدع وتلتزم مجموعةً من المعايير تتعلق بتدخُّلها في العراق وسوريا ولبنان وسلوكها مع بعض دول الخليج ورعايتها للإرهاب... وبالطبع، مراعاة مصلحة إسرائيل.
مستر ترمب، تريد أن تحارِب إيران، حسن إذاً ... حارِبها في إيران وليس في العراق أو سوريا أو الخليج أو لبنان أو فلسطين.
لماذا؟
أهمّ شيء يجب أن يُدرِكه العالم أن أنظمةً مثل طهران - الثورة ودمشق - الأسد وبغداد - صدّام أولوياتها المقدّسة هي البقاء. تحترق الدنيا وما فيها بمَن فيها أمرٌ جلل لكنه يمكن أن يُبرَّر ما دام "القائد" موجوداً ومُصادِراً لاسم الأمة وتاريخها ويحظى برعاية "سماوية" عند الأزمات. ولنتذكّر أن أحداً لم يجتثّ الدين من الدولة ولم يقتل من العلماء السنّة والشيعة كما فعل صدّام حسين، وعند اقتراب انتهاء حكمه وضع شعار "الله أكبر" على العلم.
هذه الأنظمة باختصار، ابتدعتْ سياسةً مفادها أن التدخّل الخارجي وتجميع أوراق إقليمية يؤمّنان استقرارها الداخلي ويسمحان بمنسوبٍ عالٍ من القمع والطغيان والاستبداد مع شعوبها كون العالم يتعامل معها في ميادين الآخرين، فإذا خسرتْ فمن الربح وإن صمدتْ زادتْ أرباحها.
في الحرب العراقية - الإيرانية، ضُربتْ سفن دولٍ لا علاقة لها لا بالحرب ولا باللاعبين فيها. تمّ خطْف رهائن وطائرات ما اضطُر الإدارة الأميركية إلى التفاوض بمختلف الأقنية السرّية مع طهران. حصلتْ تفجيراتٌ في الكويت ولبنان وسوريا عبر مأجورين لطرفيْ الصراع.
في 1986، كاد عميل الاستخبارات السورية نزار هنداوي أن يفجّر صديقته الحامل داخل طائرةٍ متّجهة إلى إسرائيل بأمرٍ مباشر من محمد الخولي مدير المخابرات الجوية في دمشق. انكشفتْ العملية وفُرضت عقوبات على سوريا وقَطعتْ بريطانيا علاقاتها الدبلوماسية معها. تَحرّك "الأشاوس" في لبنان تحت مسمى "الجهاد الإسلامي" (لاحِظوا أصل التسمية) وخَطَفوا رهائن أجانب، لتبدأ الاستخبارات الدولية بالعمل عبر الأقنية الخلفية، حتى وصلنا إلى مرحلةٍ نرى فيها لبنان غير المعاقَب يَسقط دولياً ويوضع على اللائحة السوداء، وسوريا المعاقَبة دولياً تَخرج من اللائحة السوداء من خلال دورها "الإنساني" في إطلاق رهائن اختفوا في بيروت... وظَهَروا في دمشق.
وعند بدء الثورة السورية، توعّد المفتي حسون أوروبا بآلاف الانتحاريين ... وسواء كان يَقصد "داعش" و"القاعدة" أم لا، فإن هذا ما حصل عملياً، ما اضطُرّ العالم الى غضّ النظر في محطاتٍ كثيرة عن جرائم النظام باعتبار أن محاربة الإرهاب أولوية.
لا نريد أيّ حربٍ جديدة في منطقةٍ ذبحتْها الحروب من الوريد الى الوريد. ولكن إن قررتْ إدارة ترمب تصعيد الموقف من إيران، فلتفعل ذلك مع إيران وليس بتخريبِ لبنان أو هدْم غزة مجدداً، أو تدمير ما بقي من قرى ومدن في سوريا، أو تسليم العراق للميليشيات والفوضى، أو تسعير الأزمة اليمنية أو تفخيخ البحرين. ففي كل منطقةٍ من هذه المناطق هناك (بنسبة أو بأخرى) مَن سيلعب دور الأداة لمصلحة طهران حيث صار الانتماء عابراً للحدود وفوق المصالح الوطنية للدول. ولذلك سترتفع قبضات السنّي في "الجهاد" في غزة بالعلو نفسه لقبضة الشيعي في "حزب الله"، وكذلك الأمر بالنسبة للموالين لإيران في سوريا والعراق.
عندما قال علي لاريجاني قبل سنوات إن نفوذ إيران يمتدّ من حدود الصين إلى شاطئ غزة فإنه كان يُهدِّد لا يُشخِّص. قد يتمّ خطْف أجانب في لبنان وسوريا والعراق وباكستان وأفغانستان وغيرها وتلعب طهران دوراً "إنسانياً" لإطلاقهم، وربما تهتزّ الحدود مع إسرائيل من لبنان وغزة وتلعب طهران دوراً في التهدئة. ربما تُطلَق يد "القاعدة" في التفجير بأمرٍ من "أميرٍ" مقيم في طهران، وقد يَنسحب الجيش العراقي فجأةً كما حصل أيام المالكي ويعود "داعش" إلى ضواحي بغداد باسمٍ أو بآخر. ربما تتعرّض مصالح أجنبية للخطر في صنعاء ويُضطر الأوروبيون إلى الحوار مع طهران لمنْع تكرار ما جرى، وقد تَحصل عملياتٌ في كل دول العالم، لكن الثمن سَيَدْفَعُه لبنانيون وسوريون وعراقيون وفلسطينيون وخليجيون ويمنيون. ستتدمّر دولٌ وتتعب أخرى وتَستدرج المنطقة كل أنواع التدخلات. وعلّمتنا التجارب أننا في حساباتِ الأميركيين أقلّ أهمية أحياناً من دبب الباندا، وأن الموت ليس مجانياً عند أنظمةِ الممانعة فحسب، وأن المصلحة تقود التحوّلات في البيت الأبيض.
لا نريد الحرب ولا نتمنّاها، والإيرانيون كشعبٍ يستحقّ الأفضل داخلياً وخارجياً، إنما إذا قرّرتم التصعيد يا مستر ترمب، فلا تستنسخوا المشروع الإيراني وتحاربوا بنا ومن خلالنا... نشتاق إلى الخروج من دائرة الوقود والأوراق والساحات إلى دائرة البشر.
المرّة الأولى التي ينظّم فيها حزب الله جولة للإعلاميين، ويعترف فيها بوجود عسكري له جنوب نهر الليطاني على الحدود اللبنانية الفلسطينية، منذ إصدار مجلس الأمن الدولي القرار 1701 في 2006، والذي أنهى بموجبه العدوان الإسرائيلي على لبنان آنذاك. يومها، قبل حزب الله بإخلاء المنطقة من وجوده العسكري، وتركها للجيش اللبناني وقوات الأمم المتحدة (يونيفل). نظم الحزب، يوم 20 إبريل/ نيسان الجاري، جولة لإعلاميين لبنانيين وغيرهم إلى الحدود مع فلسطين المحتلة، وشرح ضابط في الحزب استعدادات دفاعية استحدثها الجيش الإسرائيلي. وجرى ذلك على الهواء مباشرة، وعلى مسافة أمتار قليلة من المواقع الإسرائيلية، وتحت مراقبة "كاميرات" الاحتلال في أكثر من موقع. وقال الضابط في حزب الله، وكان يرتدي بزّة عسكرية، إن وحدات القتال في الحزب جاهزة للرد على أي عدوان إسرائيلي يستهدف المنطقة أو لبنان. وعرض على مرأى من كاميرات الإعلام عناصر من الحزب ببزاتهم العسكرية، وقد حمل أحدهم بندقية حربية، فيما كان الآخر يحمل صاروخاً موجهاً مضاداً للطائرات.
لاقت خطوة حزب الله في الداخل اللبناني استنكاراً من قيادات وقوى لبنانية كثيرة، فقد عدّها تيار المستقبل عراضة في غير محلّها، وفي غير مصلحة لبنان، واعتبرها رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، خطأ استراتيجياً وتعدّياً على السيادة اللبنانية، ودعا الحكومة إلى القيام بدورها ومسؤوليتها في هذا الإطار. وكذلك فعل رئيس حزب الكتائب، النائب سامي الجميل، الذي اعتبر ما جرى تجاوزاً للسيادة اللبنانية، وتعدّياً على القرار الأممي 1701، وضرباً للاستقرار في الداخل اللبناني. وقال وزير العدل السابق، أشرف ريفي، إن غرض الخطوة خدمة المصالح الايرانية في المنطقة. وكان لافتاً أن رئيس الحكومة، سعد الحريري، اختار منطقة الجنوب، وهي معقل حزب الله، والمنطقة الحدودية تحديدا في الناقورة، حيث كانت انطلاقة جولة الإعلاميين رفقة حزب الله. وقال الحريري إن حكومته متمسّكة ببيانها الوزاري الذي يتضمن الالتزام بالقرار 1701، ودعا إسرائيل إلى الالتزام أيضاً به. وكان لافتا في هذا الموقف مرافقة وزير الدفاع الوطني، وقائد الجيش للرئيس الحريري في جولته، والوقوف إلى جانبه حين إطلاق هذا الموقف. فماذا أراد حزب الله من الجولة؟ ولماذا جاء ردّ الحريري سريعاً؟
كثرت، في الآونة الأخيرة، التهديدات الإسرائيلية ضد حزب الله بتوجيه ضربة قاضية، وربما قاسمة للحزب في لبنان، وفي سورية أيضاً، وقد تعرّضت مواقع للحزب في سورية فعلاً إلى غاراتٍ لم يُعرف مصدرها بدقة. كما درج الجيش الإسرائيلي على إجراء مناورات متواصلة عند الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة وفي منطقة الجولان، وتكاد هذه المناورات لا تتوقف حتى تنطلق من جديد، ما يُفسّر الاستعدادات الإسرائيلية الفعلية لتوجيه ضربة للحزب، سواء في سورية أو في لبنان. فضلاً عن هذه وتلك، كثرت التهديدات الأميركية لإيران وحزب الله في سورية. ومنذ انتخاب الرئيس، دونالد ترامب، ارتفع منسوب الخطاب الأميركي باعتبار إيران تهديداً للاستقرار في المنطقة، وجاءت الضربة الأميركية، أخيرا، قاعدة عسكرية سورية في ريف حمص لتزيد من حجم المخاوف والقلق الإيراني من هذا الخطاب، وصولاً إلى تيقّن أن الولايات المتحدة بصدد توجيه ضربة لإيران ولـ "المليشيات" الداعمة لها في سورية، إذا لم تدرك إيران حجمها وسقف الدور المسموح لها به في المنطقة.
أمام هذا المشهد، جاءت خطوة حزب الله في لبنان لتحمل رسالةً مفادها بأنه في لبنان مستعد لإسقاط القرار الأممي 1701 إذا تغيّرت قواعد اللعبة في المنطقة، ومن بينها سورية والعراق، أو إذا شعر أنه سيكون عرضةً لضربة عسكرية في لبنان أو في سورية. وتجاهل الحزب في خطوته الدولة اللبنانية، باعتبار أن رسم مصير المنطقة أهم، بحسب وجهة نظره، من أي شيء آخر، خصوصا أن فلسفته للأمور تقوم على مبدأ عدم الانتظار، حتى تلقي الضربات، حتى ولو كان ذلك على حساب السيادات والقرارات الدولية، فالنسبة له، مقاومته الاحتلال الإسرائيلي هي التي صنعت السيادة للدولة اللبنانية، ولعلّ أبلغ ما في رسالة الحزب تأكيده على وجوده العسكري في جنوب الليطاني، وامتلاكه أسلحة مضادة للطائرات.
أما موقف رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، الذي لم ينتظر طويلاً، وجاء عملياً هذه المرة، فهو نابع من خوف وقلق حقيقي على لبنان، وعلى مستقبله ومستقبل الاستقرار فيه، وقد حاول أن يستوعب تداعيات رسالة الحزب، ليؤكد أن الحكومة غير معنية بمواقفه (الحزب)، بل وغير راضية عنها، وهذا بالطبع لا يزعج الحزب اليوم، على اعتبار أن رسالته وصلت، لكنها ستكون مزعجة كثيراً للحزب، إذا فتحت الجبهة مرّة جديدة على لبنان.