بينما استقبلت ألمانيا منفردة 800 ألف لاجئ سوري، ضاقت الجزائر والمغرب مجتمعَين بـ54. 54 لاجئا تسببوا في أزمة دبلوماسية بين البلدين، وصلت إلى استدعاء السفراء. هذا العنوان العريض لقصة ـ مأساة ـ حقيقية انتهت، ولو إعلاميا ومؤقتا، لكنها تخفي الكثير.
المسألة هنا بوجهين. الأول يخص العلاقة الثنائية بين الجزائر والمغرب، والتي تتأرجح منذ ربع قرن بين سيئة وأسوأ، ولا يبدو أنه بقي في الدنيا شيء يستطيع إصلاحها. والثاني يخص مقاربة الدول «الشقيقة»، وبينها الجزائر والمغرب، لسوريا ومأساة شعبها. وهي مقاربة بائسة، تتأرجح بدورها بين سيئة وأسوأ، من الخليج إلى المحيط.
أولاً لأن حكومتي الجزائر والمغرب، فوق أنهما غير جاهزتين (من كل النواحي والأصعدة) لموضوع اللاجئين السوريين (وغير السوريين)، تترصد إحداهما للأخرى بشكل لا يمكن أن يؤدي إلا إلى أزمة ويزيد الوضع سوءا.
كان بإمكان البلدين استقبال تلك المجموعة من اللاجئين وإيوائهم وترتيب حياتهم إلى نوع من الكرامة والأمان. وهناك فعلا لاجئون سوريون بالمئات يعيشون في البلدين، لكن كلتا الدولتين رفضتا الـ54، لأن الواحدة منهما تسعى للإساءة إلى الأخرى أمام الرأي العام الدولي من خلالهم وبهم.
وما سهّل الأزمة وعجّل بها، تمسكُ اللاجئين ذاتهم بالسفر إلى أوروبا، لأنها أكثر ضمانا لمستقبلهم ومستقبل أولادهم، وعملهم على تحقيق ذلك من الجزائر أو المغرب بحكم الجغرافيا.
قضية الـ54 هي حلقة أخرى من مسلسل صامت مستمر ضحاياه لاجئون أفارقة يتقاذفهم البَلَدان على خط حدودهما. هناك حرب حقيقية في مناطق الحدود ومساحات التهريب المستباحة بين البلدين، وقودها شبان أفارقة يصلون من دول الساحل إلى الجزائر ومنها إلى شمال المغرب أملا في التسلل نحو أسبانيا.
وإذا كان الوصول إلى الجزائر صعبا ويستغرق جهدا خارقا وزمنا طويلا، فالوصول إلى المغرب أصعب وأكثر تعقيداً بحكم الحدود المغلقة بين البلدين والتأزم المستمر في علاقاتهما، والذي يجعل من أولئك المساكين وقوداً وذريعة.
إذاً، هي حرب صامتة ومفتوحة، المهاجرون إحدى أدواتها الجديدة والمختلفة. فعندما تطرد الجزائر دفعة من المهاجرين أو تسيء معاملتهم، يسارع المغرب إلى استقبالهم أو إعلان استعداده لإيوائهم، ليس حبا فيهم أو رأفة بهم، بل نكاية في الجزائر وبحثا عن إحراجها أمام المنظمات الدولية. والعكس صحيح.
واقع الحال أنه لا أحد أفضل من الآخر. لا الجزائر جنّة للاجئين والمضطَهدين، ولا المغرب أرض الأحلام. ولا يتوقف هذا الحكم على حكومتي البلدين، بل ينسحب على المجتمعين الجزائري والمغربي وتشابههما في مقاربتهما السلبية للاجئين، من حيث معاملتهم وقلة إكرامهم وحتى اللغة البغيضة والمصطلحات السلبية المستعملة في وصفهم. هذا الواقع غير المرحِّب يجعل من البلدين مجرد أرض عبور، للأفارقة والسوريين معا، لن يبقى فيها إلا المكرَهون ممن تقطعت بهم السبل.
الوجه الآخر لهذه الحالة المخزية، هو درس يجب أن نقف عنده جميعا ونتوارثه جيلا عن جيل. إنه يخص معاملتنا كـ»أشقاء» لـ»أشقاء» آخرين دمرت حرب طاحنة حياتهم وحطمت أحلامهم وقضت على مستقبلهم.
عندما احتاج السوريون إلى مَن يسندهم ويخفف عنهم، اختفت فجأة كل مفاهيم الأخوَّة والدين والجوار والعرق والقومية التي صمّت أذاننا، رسميا وشعبيا، طيلة حياتنا. وحلت محلها الأنانية والجحود التي كان من نتائجها أن عدد من استقبلتهم الدول العربية والمسلمة مجتمعة من سوريين، يقل عن عدد من استقبلتهم ولاية ألمانية واحدة. وكان من نتائجها أن ملايين اللاجئين السوريين في أوروبا سبَّبوا لدولها وحكوماتها صداعا أقل بكثير مما سبّبه الـ54 للجزائر والمغرب.
يجب هنا استثناء تجارب الأردن ولبنان وتركيا، لأن هذه الدول استقبلت اللاجئين السوريين مضطرة ومكرهة. لو خُيّرت الدول الثلاث بشأنهم، لرفضت استقبال أي أحد وطاردتهم في الحدود. ولو استطاعت لأقفلت في وجوههم الحدود وأقامت الأسلاك الشائكة المكهربة. أما عندما استقبلت منهم مَن استقبلت بحكم الأمر الواقع، ها هي تسيء معاملتهم وتضيّق عليهم في الداخل، وتتاجر بمآسيهم أمام الخارج، وفيها من يبتز الحكومات الأوروبية بهم.
وما ساهمت به الدول العربية، منفردة أو عن طريق الجامعة العربية، ماليا لصالح اللجوء السوري في الداخل والخارج، لا يساوي شيئا أمام دور ومساهمة الاتحاد الأوروبي الذي تناهز أرقامه التسعة مليارات يورو.
أصلا لا يُعرف عن جهة عربية معلومة تنظم الأعمال الخيرية الموجهة للسوريين، إلا من جمعيات يتيمة مبعثرة هنا وهناك، ترعاها الحكومات في نهاية المطاف. ذلك أن الحكومات تتحكم في «فعل الخير»، أولاً، ولأن ثقافة عمل الخير الجماعي في المجتمعات العربية والمسلمة قليلة، وإن وُجدت فهي عقيمة، ثانيا.
فقط يجب أن يتذكر السوريون أنهم ليسوا وحدهم. الأفغان لم ينتظروا شيئا من «أشقائهم» في الدين عندما احترقت بلادهم. والصوماليون كذلك. والجزائريون توجهوا إلى فرنسا وأوروبا في تسعينيات القرن الماضي.
إنها محنة تتجاوز السوريين وأعمق من الخلاف الجزائري المغربي.
خلصت الأيديولوجيا الإيرانية في مشروعها التمددي في المنطقة العربية عبر الحرس الثوري أو ما يسمى لواء القدس، إلى واقع تدميري، امتد على طول خط هذا النفوذ من العراق إلى سوريا إلى لبنان، فضلاً عن اليمن.
لواء القدس، الذي أنشأته إيران وادعت أنه منذور لتحرير القدس، لم يقم هذا اللواء- الذي أتيح له أن يكون القوة الأولى في العراق وفي سوريا وصولاً إلى لبنان- بأي مواجهة مباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي رغم انخراطه المباشر في حروب دموية في العراق وسوريا.
هذه الحقيقة لم تقتصر على إسرائيل فحسب بل برزت بوضوح أكبر تجاه الولايات المتحدة الأميركية أو الشيطان الأكبر كما سمّته أيديولوجيا ولاية الفقيه. وطالما كان هذا “الشيطان” منذ احتلال العراق في العام 2003 القوة التي فتحت الطريق واسعاً أمام التمدد الإيراني في العراق، وفي أفغانستان، وأتاح للحرس الثوري الإيراني أن يعلن في ظل الاحتلال الأميركي للعراق عن تشكل “هلال الممانعة والمقاومة” الممتد من إيران إلى لبنان مرورا بالعراق وسوريا، أو كما سماه العاهل الأردني عبدالله بن الحسين “الهلال الشيعي”.
الأيديولوجيا الإيرانية رفعت لواء القدس وتحرير فلسطين، وروّجت لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، عبر خلق جماعات موالية لإيران بالدرجة الأولى.
جماعات طالما كانت وظيفتها السياسية ضرب الهوية الوطنية لأيّ مشروع مقاوم كما حصل في لبنان عبر حزب الله، وعبر بعض الجماعات الأصولية الفلسطينية في غزة وفي الشتات الفلسطيني، والهدف كان السيطرة على ورقة المقاومة والمساومة عليها في لعبة الأمم لصالح الأيديولوجيا الإيرانية، هذا ما يمكن ملاحظته في فضيحة خطف الرهائن الغربيين بين العام 1983 و1988 في لبنان، حيث تمّ استخدام الرهائن الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين، من أجل ابتزاز الغرب ليس في سبيل الضغط على إسرائيل لإجبارها على الانسحاب من لبنان على سبيل المثال، أي من أجل قضية لبنانية محقة، بل استخدم هؤلاء في عملية ابتزاز إيراني للغرب من أجل صفقات أسلحة لصالح إيران خلال حربها مع العراق.
الجماعات اللبنانية التي أنشأتها إيران في هذا السبيل، نشأت على ولاء مطلق للأيديولوجيا الإيرانية ولقيادتها، بحيث أنّ حزب الله الذي كان في مرحلة التبلور قام وجوده على رفض الكيانية اللبنانية، ورفض أي مشروع مقاوم لبناني، فارضا أيديولوجيته على مشروع المقاومة بقوة السلاح وبقوة الدعم السوري الذي وفره النظام السوري بالكامل في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، عندما تمّ منع أيّ طرف لبناني من حمل السلاح ومقاومة إسرائيل بالقوة، فيما أتيحت لحزب الله كل الإمكانيات، ليؤمن فصل المقاومة ضد الاحتلال عن بعدها الوطني، وتحويلها إلى ورقة إيرانية سورية بالكامل يجري استخدامها لصالح الدولتين ولو على حساب المصلحة الوطنية اللبنانية.
كانت إيران كما سوريا، تريدان الفصل دائماً بين البنية العسكرية التي مثلها حزب الله في لبنان، وبين السلطة اللبنانية، لذا كان الكثير من اللبنانيين يشعرون بغربة مع مشروع حزب الله لأنّه مشروع منفصل بجوهره وممارسته عن سياق المشروع الوطني اللبناني ومقتضيات حماية الاستقرار وتوفير شروط المناعة الداخلية تجاه أي تدخل خارجي لا يراعي المصلحة الوطنية اللبنانية بالدرجة الأولى.
النموذج اللبناني وتاريخه في العلاقة مع الأيديولوجيا الإيرانية من خلال نموذج حزب الله، كان المثال الذي جرى تطبيقه في العراق واليمن في الحد الأدنى، ذلك أنه في فلسطين المحتلة، لم تذهب إيران ولا مرة إلى دعم مشروع وطني فلسطيني، كل التدخلات الإيرانية من خلال دعمها لجماعات فلسطينية كانت تقوم في جوهرها ليس على مقاومة الاحتلال، بل في استغلال المقاومة لضرب المشروع الوطني وبالتالي لإضعاف الخيارات الوطنية الفلسطينية لحساب مشاريع إقليمية كانت تستغل القضية الفلسطينية لمآرب لا علاقة لها لا بتحرير فلسطين ولا بإنهاء إسرائيل.
هكذا في لبنان تحوّل حزب الله إلى ذراع إيرانية منفصلة بطبيعة تكوينها الأيديولوجي عن لبنان، متصادمة مع نظام المصالح العربية، غير متآلفة مع أيّ مشروع وطني فلسطيني، نابذة لأيّ مكوّن سياسي وطني أو عربي لا يقدّم الولاء والطاعة للسيد الإيراني، لذا ومنـذ نشأة حزب الله، لم يستطع ولم يعمل على أن يكـون حاملاً لهموم وطنية أو عربية تتصل في توفير شروط قيام الدولة المستقلة، أو دافعا باتجاه قيام مشروع عربي صديق لإيران، ولكن من موقع الشـراكة والندية وليس التبعية المطلقة.
المشروع الإيراني في المنطقة العربية الذي توسّل شعار “الوحدة الاسلامية” مع انتصار الثورة الإسلامية في العام 1979، وتوسّل أيضاً عنوان القضية الفلسطينية وشعار تحرير القدس، وتوسّل قبل ذلك شعار لا شرقية لا غربية في إشارة إلى مشروع مواجهة النموذجين السوفييتي والأميركي، خلص اليوم إلى حقيقة مرة وقاسية على العالم العربي، فإسرائيل ازدادت قوة وهيمنة ونجحت بفضل السياسة الإيرانية في اختراق الدول العربية وتعزيز حضورها وسيطرتها على كامل فلسطين، أما الوحدة الإسلامية فمع المشروع الإيراني باتت مشروعا منفرا ومرفوضا لدى الشعوب العربية قبل حكامها، والمذهبية تفاقمت لتفجر العديد من الكيانات الوطنية فيما مقومات الدول العربية المادية أصبحت نهباً للروس والأميركيين، كل ذلك يمكن أن لا تتحمل إيران مسؤوليته وحدها، لا مئات الآلاف من القتلى ولا تدمير الدول ولا تدمير المجتمعات العربية لا سيما على امتداد هلال الممانعة، لكن الدخول الإيراني إلى المنطقة العربية لم يحمل في طياته إلا التدمير ولم يدخل إلى دولة إلا وزاد من أزماتها، وفكك من عناصر وحدتها، وعزز من شروط الانقسام فيها.
لقد بشّرت الأيديولوجيا الإيرانية بالوحدة، لكنها أتقنت فنون التفتيت والتقسيم، ليس في الجغرافيا فحسب، بل في المشروع الأيديولوجي الذي حملته، فهل يعقل أنّ مشروع إيران الذي يبشّر بولاية الفقيه وطاعته، وهو الذي يتوسّل زاوية مذهبية ضيقة أن يكون عنصر وحدة للمسلمين؟ هذا إذا لم نشر إلى أبعاد أخرى تتمثل في أن المشروع الديني والأيديولوجي الإيراني ما هو إلاّ غطاء لمشروع قومي إيراني، بهدف النفـاذ إلى الدول المحيطـة به وإلى المجتمعات الإسلامية التي تحوّلت مع التمدد الإيراني الأيديولوجي إلى مجتمعات غارقة في صراعات داخلية، وهذا ما يكشف كم ساهم المشروع الإيراني في المنطقة العربية إلى حدّ كبير بما لم تستطع الدول الاستعمارية أن تحققه، فحققه هو أي النفاذ إلى داخل المجتمعات من خلال الشرعية الإسلامية وعنوان تحرير القدس وفلسطين، وهي عناصر قـوة كانت راسخة في المجتمعات الإسلامية نجحت إيران، بوعي أو بجهل، في تقويض عناصر القوة هذه بحجة الدفاع عنها وحمايتها.
الحقيقة الفاضحة اليوم أنّ إيران التي استكملت مهمتها عملياً، من خلال دورها في ضرب الهويات الوطنية ومشاركتها في تدمير العديد من الدول العربية، ومشاركتها الفعالة في ترسيخ الانقسام المذهبي، استنفذت كل طاقتها أو معظمها، لتجد نفسها اليوم أمام الحقيقة، ها هي إسرائيل تضرب أذرعها وتحاصرها في لبنان وسوريا، وهذا الشيطان الأكبر يسرح ويمرح في العراق وداخل سوريا وكل المنطقة، وهذه روسيا تحوّلت إلى المنقذ من الضلال والحامي لإيران، وتحول معظم العرب إلى أعداء لإيران، وهذا هو الشعب الإيراني بقضه وقضيضه يئن من النموذج الأيديولوجي الإسلامي الإيراني ويحلم بنموذج “الشيطان الأكبر”.
هذه النهاية كفيلة بأن تجعل الأيديولوجيا الإيرانية أداة طيّعة بيد روسيا والشيطان الأكبر، وكفيلة بأن نقول أنّ المشروع الأيديولوجي الإيراني في خواتيمه المدمرة حضارياً لمحيطه العربي وللداخل الإيراني وليس أقل من ذلك، فيما من سماتهم الأيديولوجيا أعداء لها يزدادون قوة ونفوذا ويقهقهون.
تؤكد حصيلة نصف قرن من الحكم الوطني في المنطقة العربية أن الأنظمة الوراثية كانت أكثر استقراراً مقارنة بتلك الجمهورية التي رفعت في معظمها شعارات انقلابية ثوروية، تمحورت حول الاشتراكية والديموقراطية الشعبية.
وعلى رغم كل الاتهامات التي وجهت إلى الأنظمة الملكية والأميرية، فقد تمكنت من تحقيق الكثير من الإنجازات في الميادين المعيشية والتربوية والمعرفية والصحية والعمرانية والتنموية العامة، فيما الأنظمة الجمهورية أخفقت في كل الميادين، بل عانت هي نفسها من نزعة تسلطية لدى حكامها، تمثلت في رغبتهم بالاستمرار الأبدي، سواء عبر أشخاصهم، أو من خلال أبنائهم.
وحدها الحالة اللبنانية ربما كانت استثناء، لكن النظام السياسي اللبناني نفسه بُني على آليات ومعادلات محلية وإقليمية ودولية، تسببت بتفاعلها في تعطيله، وجعله مرهوناً بتقلبات الأوضاع الإقليمية والدولية، وانعكاساتها عليه.
ومن الحجج التي تقدم عادة من جانب أنصار النظام الجمهوري العربي، أن وضعية الاستقرار التي تبدو عليها الدول ذات الأنظمة الوراثية سببها إمكانات تلك الدول التي أسهمت في تجاوز الكثير من المشكلات، والتغطية على الكثير من المثالب. وهي حجج واهية، لا تصمد أمام لغة الأرقام، ولا تستقيم مع الإمكانات الهائلة التي وفرتها الثورة التقنية المعلوماتية المعاصرة، واستطاعت بفضلها دول كثيرة، على رغم شحة قدراتها المادية، من تحقيق قفزات هائلة على مختلف المستويات، بينما تراكمت مشكلات الأنظمة الجمهورية العربية، على رغم كل الإمكانات، وأسفرت في النهاية عن صدامات عنيفة، اعتقدنا نتيجة قراءاتنا الخاطئة في بداية موجة الربيع العربي، أنها لن تكون كذلك، لكن تبين في ما بعد أن الأزمة أعمق وأعقد مما كنا نتصور. وهذا في حين أن النظامين الملكيين في المغرب والأردن تمكنا من الاستمرار على رغم ضعف الموارد.
حجة أخرى ربما تساق هنا، وهي تقوم على فكرة قوة الأجهزة الأمنية في الأنظمة الوراثية. وهي الأخرى حجة ضعيفة، لا سيما بعدما تبين للجميع حجم الجرائم التي أقدمت عليها الأنظمة الجمهورية عبر أجهزتها الأمنية الأخطبوطية، لتعزيز سطوتها، واستمرارية حكمها. والأمر ذاته بالنسبة لحجة الدعم الخارجي والإرادات الدولية.
وكل ذلك يدفع بنا إلى طرح تساؤلات مفصلية، تستلزم الإجابة عنها، إذا كانت هناك رغبة جادة في الخروج من دائرة الشر التي أنهكت مجتمعاتنا.
هل العلة تكمن في وضعية التنافر بين قواعد النظام الجمهوري المغلّف بشعارات ديموقراطية والبنية المجتمعية العربية؟
هل الأزمة التي نعيشها تخص مجتمعاتنا وحدها، أم أنها نتيجة التفاعل بين وضعيتنا الداخلية والعوامل الإقليمية والدولية؟ أو بتعبير آخر، هل تسمح تركيبة مجتمعاتنا بعملية انتقال سلمية للسلطة من المفروض أن تكون حصيلة انتخابات نزيهة ديموقراطية؟ أم أن ما حصل كان من نتائج هيمنة الأيديولوجية القومية التي أغرقت دول الأنظمة الجمهورية بالمزاعم والشعارات المتناقضة مع الطبيعة المجتمعية، على رغم أنها غطت لفترة محدودة على حالات التنافر بين الأجنحة الداخلية للأنظمة المعنية، وباتت في المراحل الأخيرة يافطة للتستر على قباحات الفساد والإفساد التي تجسدت نهباً وبذخاً خرافياً، مقابل فقر وبؤس غير مسبوقين.
أسئلة تستوقف وتستحق التمعّن بعد كل هذه التجارب العربية الفاشلة.
وإذا اعتمدنا الحالة السورية مثالاً، فسنجد أن النظام الجمهوري كان واعداً لسنوات يتيمة بعد استقلال 1946، ولكن سرعان ما شهدت البلاد سلسلة انقلابات عسكرية، كان آخرها انقلاب حزب البعث في 8 آذار (مارس) 1963 الذي أسفر بدوره عن جملة انقلابات ضمن الحزب نفسه، حتى تمكّن حافظ الأسد من السيطرة الكاملة على مقاليد الأمور عام 1970.
ومنذ ذلك الحين اعتمد حافظ الأسد نهج التأبيد عبر إزاحة الخصوم سجناً وتشريداً واغتيالاً، وعمل على التحكّم بمفاصل الدولة والمجتمع، وذلك من خلال الأجهزة الأمنية المتداخلة التي كانت خيوطها الموجهة تلتقي جميعها عنده، ليكون هو الآمر للكل، والمسيطر على الجميع.
ولم يكتف بذلك، بل زرع تماثيله في شتى أنحاء الجمهورية، لتكون أصناماً يُلزمُ الناس بتقديم فروض الطاعة لها، بموجب سابقة غير معهودة، في تاريخنا الحديث، قوامها إسباغ سمة التأليه على حاكم تجبّر على الناس بفعل استغلاله لواقع المعادلات الإقليمية والدولية.
وأدرك الحاكم المتأله أن الموت الحق قادم، ففكّر في التأبيد عبر التوريث، وكان باسل هو الخليفة المنتظر، لكن موته جعل بشّار من تتوافق عليه إرادات أركان حافظ الأسد، بناء على تعليمات وأوامر الأخير. وتم تسويقه إقليمياً ودولياً، حتى بات أمر تنصيبه حاكماً جمهورياً بالوراثة مسألة تحصيل حاصل. وهذا ما تجسّد في الهرطقة «القدورية» التي بموجبها عُدل الدستور بسرعة الضوء، ليصبح عمر الرئيس المطلوب «دستورياً» مطابقاً بقدرة قادر لعمر بشار.
واستلم الأسد الابن مملكة الأسد الأب الجمهورية. وبدأ يوجه الانتقادات إلى الملوك والرؤساء العرب في مختلف المناسبات بأسلوب إنشائي مفعم بالحشو والتكرار المملين، ولم يقطع مع أسلوبه هذا اعتقاداً منه بأن السماء اختارته ليكون الهادي لشعب أعياه الضياع.
ومع انطلاقة الثورة السورية، صدم وريث الجمهورية بما جرى، فشبه الناس بالجراثيم، وأصرّ على أن ما يواجهه إنما هو بتدبير قوى الشر. وهو لا يزال يحلم باستعادة حكمه التليد بمساعدة الروس والإيرانيين وسائر الميليشيات المذهبية، والفصائل القوموية الثوروية التي وجدت في قتل السوريين وتشريدهم مدخلاً للنهوض بالأمة التي طالما تآمروا للقضاء عليها.
المثال السوري يعيدنا ثانية إلى التساؤل الذي انطلقنا منه، وهو لماذا أخفقت الأنظمة الجمهورية عربياً؟
هل تكمن العلة في النظام السياسي نفسه؟ أم في البنية المجتمعية؟ أم في الاثنين معاً؟
أليس النظام الملكي الدستوري البرلماني أكثر انسجاماً مع واقعنا ما قبل القبلي؟
أسئلة نطرحها ببراءة، ومن دون أية نوايا مضمرة، ونحن نفكر بصوت مرتفع في مواجهة واقع يبدو مسدود الآفاق من مختلف الجهات.
النظام الديموقراطي الذي يحترم سائر الحقوق والخصوصيات يظل هو النظام الذي نحلم به. ولكن الوقائع شيء، والأحلام شيء آخر.
على أي عرشٍ مهترئ كان يجلس طاغية الشام، وهو يتحدّث عن "اكتشافه" العبقري الجديد، بشأن الأردن؟
لست مجروح الشهادة، إذا وقفت مدافعًا عن الأردن في وجه تخرّصات بشار الأسد أخيرا، التي ادّعى فيها أن "قرار عمّان في يد واشنطن"؛ لأنني لم أُحسب على أي نظام عربي يومًا، ولم أكن من أصحاب "الأعطيات" و"الهبات". لكن، لا أدري لماذا أصابُ بهذا الكمّ المهول من الاحتقان إذا هاجم أحدٌ من أمثال الأسد هذا البلد الذي خبرته من أصابع القابضين على جمر الكرامة، وسط صقيع الفقر والفاقة.
على هذا الطاغية الذي كان موشكًا على السقوط قبل عام فقط، لولا حبل الإنقاذ الروسي والإيراني والعراقي، أن يفكّر مليًّا قبل أن يطلق حكمًا واحدًا على الآخرين؛ لأن القرار السوري لم يكن، في أي يوم، غير بضاعةٍ معروضة للبيع، حسب تغير المراحل وتبدل التجار.
منذ الانقلاب الأسدي على رفاق "البعث" الذي جاء تحت شعار "الثورة التصحيحية"، أصبح القرار السوري متاحًا للبيع والإيجار، بعد أن حوّل هذا النظام المرعب سورية كلها إلى جمهورية للخوف، تحت شعارات "التطهير"، فكان أول عمل قام به، هو زجّ رفاق الأمس من المحظوظين في الزنازين التي لم يبرحوها إلا محمولين على النعوش، فيما كان مصير سيئي الحظ، المشانق والتذويب بالأسيد، وعمد الأسد إلى تغليب القيادة القطرية على نظيرتها القومية، وبطش برموز من مؤسسي حزب البعث، كما فعل خصومه في بغداد، فخسر الحزب أنقى وجوهه، من أمثال منيف الرزاز وميشيل عفلق.
وكان أول مشتر للقرار السوري تل أبيب التي اشترت، في الواقع، قرار الانسحاب المفاجئ من الجولان، في حرب 1967، من حافظ الأسد شخصيًّا، حين كان وزيرًا للدفاع آنذاك، وهو الذي أمر القوات السورية المرابطة على مرتفعات الجولان الاستراتيجية، بالانسحاب من دون أي مبرّر أو تهديد حقيقي، فكان أن احتلت إسرائيل الجولان على طبقٍ من ذهب، وحتى اليوم لا يزال قرار الأسد الأب لغزًا لا يعرف المحللون العسكريون تفسيره، أما الضالعون في فن "العمالة" وتجارة الأوطان فيعرفون السبب حتمًا.
ثاني المشترين، كانت طهران، إبّان الحرب العراقية الإيرانية، وكان البائع الأسد الأب أيضًا، وجاءت مؤازرته إيران، لوجستيًّا وعسكريًّا بالخبراء والمستشارين، تحت شعار "رد العدوان العراقي عن الثورة الإيرانية"، وصدّقه كثيرون آنذاك، وهو يروّج شعاراته الثورية، لتسويغ مناصرة الإيرانيين. لكن سرعان ما اتضح الأمر، حين اكتشف المخدوعون أن هذه المؤازرة تحمل رائحة المذهبية النتنة؛ لأن النظامين، الإيراني والسوري، تجمعهما وحدة المعتقد الطائفي.
والحال أن البعث الأسدي، منذ اغتصابه السلطة، كان يُبطن هذا الشعار الطائفي، بدليل أن الأسد سلم أفراداً من طائفته العلوية مفاصل الدولة، ومحرّكات الاقتصاد، فنهبوا البلاد وأخضعوا العباد بكل وسائل الترهيب و"الترهيب".
أما المشتري الثالث، وهو الأهم، فكان مزيجًا من "الإمبريالية" و"الرجعية" ذاتهما اللتين أتخمنا الأسد وبعثه بمهاجمتهما وجعلهما هدفًا استراتيجيًّا لمعاركه "الخالدة"، وكانت السوق التي عرض فيها الأسد بضاعته، هي "حفر الباطن"، إبّان التحضير للعدوان الثلاثيني على العراق، فجرت مساوماتٌ تمخضت عن موافقة الأسد على الانضمام لهذا الحلف، عسكريًّا، فاصطفت مدرعاته، إلى جانب زميلاتها "الإمبريالية" و"الرجعية"، فيما يُحسب للأردن، الذي كان يتهمه الأسد بـ"الرجعية"، أنه كان من الدول القليلة التي عضّت على كرامتها، فرفض هذا العدوان جملة وتفصيلاً، وتحمّل جراء ذلك، سائر أشكال الضغوط والحصارات البحرية والاقتصادية، ودفع ثمنًا باهظًا، بعودة أبنائه مطرودين من دول الخليج، ولو لم يتخذ الأردن غير هذا الموقف في تاريخه، لكفاه ذلك عنوانًا لحسّه القومي والعروبي، على الرغم من أنه لم يكن صاحب شعارات "ثورجية".
حاصل القول، لم يكن الأردن ينتظر شكرًا من الأسد، على استضافته أكثر من مليون ونصف المليون لاجئ سوري، ممن شرّدهم الأسد نفسه بفضل استبداده وولعه بالسلطة، والذين يتقاسمون مع الشعب الأردني لقمة الخبز والوظيفة. لكن، أن يتهم "بائع مواقف" مثله الأردن بمثل هذه الاتهامات، فمن حق الشعب الأردني كله أن يصرخ في وجهه: "سيادة الرئيس: اخرس".
ترسم المتغيرات الجديدة على الساحة السورية سيناريوهات عديدة، مع أنها ليست جديدة، بل كانت في حالة ضمور، فقط، بانتظار من يوقظها لا أكثر. وعلى الرغم من ذلك، لم تتحرّك الأطراف السورية صاحبة القضية لفعل شيء يمكّنها من استثمار تلك المتغيرات، أو يدفع باتجاه سيناريو أكثر ملاءمةً لإرادة التغيير السورية.
عند الحديث عن أطراف، فتلك حقيقة قائمة، إذ لم يعد الصراع محصوراً بين المعارضة "كياناً سياسياً" والنظام سلطة قوة حاكمة لسورية، إذ أضحت المعارضة معارضات، وأضحى النظام مبعثراً بين قوتي احتلال لقراره وسيادته (إيران وروسيا)، في حين بات الوضع السوري برمته رهينة المداخلات الخارجية الدولية والإقليمية. فإذا سلمنا بواقع أن النظام لا يمكنه إلا الامتثال لرغبة من يحميه بأساطيله العسكرية، براً وجواً، فليس من مصلحة الثورة أن تسلّم بواقع معارضة تخضع للمعادلات الدولية والإقليمية، ولسياسات تنازع الحصص على سورية، أو أن تتحلّل من مسؤوليتها في السعي إلى إيجاد مقاربة سورية تجمع بين "المعارضات"، وتحقق مصلحة المكونات السورية، على اختلاف مشاربها السياسية والقومية والدينية، فتلك مسؤولية لا تسقط عن عاتق من يدّعي قيادة الثورة، أو المعارضة، حتى مع تواتر الأحاديث عن تبعيات وارتهانات طاولت الكثير أو القليل من كيانات المعارضة الموجودة في صدارة التمثيل أو التفاوض.
في هذا المجال، ربما يجدر بنا أن نتصارح بأسئلة عديدة، فمن هي المعارضة؟ ومن تمثل؟ وما مشروعها كي تشكّل البديل الوطني الذي يفترض أن يلتفّ حوله السوريون، مراهنين على مستقبلٍ أفضل لبناء دولتهم التي دمرتها حرب النظام على المطالبين بالحرية والكرامة وحقوق المواطنة؟
وبأسئلة أكثر تحديداً، ماذا فعلت المعارضة اليوم إزاء الاستحقاقات التي باتت تقف أمامها، وأولها، استحقاق المتغيرات الدولية، وخصوصا التدخل الأميركي مباشرة على خط الصراع السوري، وهو دخول يحمل، في طياته، تغيير معادلات صراعية كثيرة، والمسّ بأدوار أطراف عديدة، منها روسيا وإيران وتركيا، وصولاً إلى مكانة الأكراد، سواء في ما يرغبونه أو في ما يعطيه الواقع، هذا مع تبعات ذلك كله في ما يتعلق بالحرب على الإرهاب، المتمثل بـ "داعش" وجبهة النصرة وأخواتهما.
ترتبط ثاني هذه الاستحقاقات بما ينبغي على المعارضة أن تفعله، لتوسيع قاعدة تمثيلها وتفعيل دورها وتطوير أدائها وملاءمة خطاباتها مع مقاصد الثورة السورية المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية. أقصد كياناتها الممثلة في مفاوضات جنيف جميعها، وكيف يمكن التعاطي مع خطاباتها غير المتقاطعة وغير المتفق عليها، وخصوصا ما يتعلق فعلياً بالقضايا الكبرى التي يتم التفاوض عليها عبر ما سميت "السلال الأربع" التي طرحها الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا، في مفاوضات جنيف 5، والتي يراد لها أن تكون محور النفاش، أو فاتحة السلة الخامسة والأهم، إعادة إعمار سورية؟
ويشتمل ذلك على ضرورة إيجاد مقاربة وطنية سورية للمسألة الكردية، تركز على حقوق الكرد الفردية والجمعية، وهو ما تهربت منه معظم كيانات المعارضة، سواء تحت عناوين مخاوفها من التقسيم، أو بحجة أن إقامة دولة مواطنين ديمقراطية تكفي، إضافة إلى محاولة بعضهم تأجيل الخوض في هذا الموضوع، خشية الدخول في معارك تفاوضية جانبية، مع إقدام آخرين على صوغ مقاربات سطحية، كان هدفها القفز إلى الأمام، لإيجاد مشهد توافقي، من دون حسابات دقيقة لما يمكن أن ينتجه مثل هذا الهروب من مسائل جوهرية، تقع مسؤولية حلها على هذه الكيانات.
أما الاستحقاق المتعلّق بالمفاوضات، فإن أطراف المعارضة، فضلاً عن أنها لم ترتّب بيتها بعد، فهي تضعنا إزاء معارضاتٍ، أو مكوّنات، إذ لا توجد رؤية جامعة توحد هذه الأطراف، خصوصا بعد تراجع المكانة التمثيلية المفترضة، أولاً، لـ "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة"، الذي خاض وحيداً مفاوضات جنيف 2، ولاحقاً لـ "الهيئة العليا للمفاوضات"، التي تابعت التفاوض ممثلة للمعارضة خلال جنيف 3 و4 لتلتحق منصتا القاهرة وموسكو بالتفاوض إلى جانبها، وليس معها في جولة جنيف 5. نحن إذا نفتقد لهيئة تفاوضية تمثيلية جامعة، وفوقها نفتقد لإجابات حول القضايا التفاوضية المطروحة، الأمر الذي بات من الملحّ تجاوزه، أو إيجاد الصيغ التي تتجاوز هذه الجهات التي لم تثبت في صدقيتها كممثل للمعارضة أو للثورة؟
التمثيل السوري كطرف معارض أمام النظام ما زال ضعيفاً، إذ لا يتجاوز دور السوريين حتى اللحظة دور "الكومبارس"، إلا أن ذلك لا يعفي الجهات المسؤولة في المعارضة من العمل الدؤوب للإجابة على التساؤلات المطروحة، أو لتأهيل نفسها لمواجهة الاستحقاقات المستجدّة، لإنتاج المشروع الوطني السوري الجامع، والذي يحقق فعلياً انتقالاً سياسياً إلى دولة مواطنين أحرار متساوين.
وما صمت المعارضة اليوم، أو عجزها، أمام ضجيج النظام الخاوي، والذي ما يزال ينتهج الحل العسكري والتهجير الديمغرافي وسيلةً لإنهاء مطالب السوريين بالحرية، إلا إقرار بالفشل، أو في أحسن الأحوال، بالعجز أمام شعبٍ يدفع دمه ثمناً لحرية طلبها.
في سنين الحرب والمفاوضات، دأب حلفاء نظام دمشق على تخفيف الضغوط السياسية على أنفسهم ببيع الوعود، «لا تقلقوا، نحن نفكر جدياً في تغيير بشار الأسد من الرئاسة ووقف القتال». وبعد أسابيع يصدر توضيح في مقابلة في صحيفة ما، «لا يهمنا الأسد ونقبل بتغييره، لكن بعد أن تنتهي فترته الرئاسية حتى لا نخرق الدستور». والدستور السوري لا يساوي الحبر الذي كتب به، والذي أصلاً لم يحترم في أي يوم مضى. وينتظر الجميع وتجرى الانتخابات في عام 2014 ويفوز الرئيس بالرئاسة في المسرحية المعتادة. تمر الأيام وتشتد المعارك وتتراجع قواته، فترجع الضغوط وتظهر الوعود، «تحلوا بالصبر، نحن نبحث عن بدائل للنظام، أو على الأقل عن بديل للرئيس نفسه»، ثم بعد طول انتظار ومماطلة، يعلن حلفاء الأسد أنهم موافقون على مشروع حل سياسي يقوم على حكومة مشتركة مع المعارضة. وبعد أشهر من الرحلات يصدر توضيح بأن المعارضة هنا يقصد بها تلك التابعة للنظام، ولا علاقة لها بالمعارضة الحقيقية. تعود الحرب إلى أسوأ من قبلها، وعند الهزائم أو ارتكاب الجرائم تظهر الضغوط من جديد فيعلن حلفاء النظام أنهم يتباحثون في أفكار جديدة لحل سلمي ويوحون بتغيير الرئيس. ولاحقاً يقدمون مشروعاً سياسياً جديداً، «نوافق على أن يقرر الشعب السوري من يريده رئيساً، بالانتخاب». كلام جميل وعقلاني، ثم تأتي التفاصيل، الشعب المعني به الذين في مناطق سيطرة النظام، أما الستة عشر مليون سوري خارج سلطته هم إرهابيون. وهكذا، تنتكس الأمور وتعود الحروب والوعود. المعارضة لا تنتصر، والنظام لا ينتصر حيث لم يبق عنده من جيشه وقواته الأمنية إلا نسبة صغيرة، بسبب الانشقاقات والهروب والقتل. معظم قوات النظام حالياً هي كوكتيل من ميليشيات خارجية بترتيب وإدارة إيرانية.
تعلمنا ألا نصدق شيئاً من المشاريع السياسية الروسية والإيرانية، هي تكتيك تفاوضي يهدف إلى تهدئة الاحتجاجات الدولية، وتمييع المطالب، وامتصاص الحماس، ومع الوقت لا يحصل أحد على شيء.
أتصور أن هذا ما يحدث الآن في مفاوضات آستانة، التي تسربت معلومات منها تبعث على التفاؤل جداً، إلى درجة يشم منها أنها موجهة للاستهلاك الإعلامي. تزعم المصادر أن الروس وافقوا على استبدال الأسد، بل وطرحوا بدائل له! وسواء قالوها أو لا، فإن السنوات الماضية علمتنا أن الوعود أكاذيب وأكبرها أكذبها، هي وسائد للنوم ونسيان المطالب، لتعقبها براميل القصف المتفجرة، والتشريد، وتوسيع دائرة الفوضى في الجوار.
لنتأمل ونتساءل، هل يمكن أن يشعر حلفاء النظام السوري بالحاجة إلى حل سياسي معقول، ويتوقفون عن بيع مسرحيات الحلول السياسية الوهمية؟
هناك حالة واحدة، على الأقل، يمكن أن تضطرهم إلى الدخول في حوار جاد، وإنهاء الحرب. الحل في رفع الحظر عن تسليح المعارضة السورية بالأسلحة النوعية. ستتغير المواقف إذا تحولت سوريا إلى مستنقع كبير للإيرانيين وميليشياتهم، وحينها ستضطر طهران إلى التفاوض الجاد.
الآن، الحرب بالنسبة لهم رخيصة نسبياً، كلما يموت ألف عراقي أو باكستاني أو لبناني يستبدلونهم بألف مقاتل جديد من هناك. لكنهم لا يفقدون طائرات ولا مدرعات، لأن أسلحة المعارضة بسيطة، بنادق وكلاشنيكوف AK47، والمحمول على الكتف من مضاد الدبابات RPG، وأسلحة مطورة محلياً، مثل hell canton «مدفع جهنم». وطالما أن خسائر الإيرانيين في سوريا، غالباً بشرية، ومن جنسيات أخرى، وتكاليفها السياسية عليهم زهيدة، فإنهم يستطيعون الاستمرار في مشروعهم الإقليمي، وستستمر الحرب هكذا إلى سنين.
المتحاربون، عادة، يضطرون إلى الصلح تحت ضغط خسائر المعارك، لكن الخسائر في سوريا في معظمها مقاتلون أجانب مستوردون لنظام الأسد، أو مدنيون على الطرف الآخر، الذين ترمى عليهم البراميل، أو يقذفون بالقنابل والصواريخ، دون أن يملكوا وسيلة للرد عليها.
ولهذا السبب تحديداً نرى في الحرب السورية مشردين أكثر من بقية الحروب، تجاوز عددهم اثني عشر مليوناً، لأن وسيلة الدفاع الوحيدة المتاحة لهم هي الرحيل فقط.
إذا كان الهدف حلاً سياسياً معقولاً، فإن ذلك سيتطلب إعادة النظر في التعامل مع المعارضة، وتسليحها، بهدف إيصال الجميع إلى طاولة المفاوضات.
ما يقارب الـ16 عاماً تفصلنا عن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) التي شنها تنظيم القاعدة ضد الولايات المتحدة الأميركية، حيث تغيرت السياسات الأميركية من العالم أجمع بعد تلك الكارثة، ومع تغير السياسات تغيرت مفاهيم ومصطلحات سياسية وفكرية، لكن تفكير القاعدة لم يتغير مثله مثل تفكير الطغاة جميعاً.
ومنذ أيلول 2001 وحتى تاريخه شهد العالم الكثير من الهجمات الإرهابية، تبناها تنظيم الدولة الإسلامية، لكنها لم تكن مروعة كما أحداث أيلول.
شيء ما في الذهن الأيديولوجي عموماً والبعثـــي خصوصاً جعل أصحابه يرون في كل هذا الذي حدث في الغرب مسرحيات مفتعلة، مختلقة، ويبنون مصفوفات من التحليلات منطلقها أن تلك الأحداث الإرهابية اصطنعها الغرب من أجل محاربة أنظمة «الممانعة».
بعد انطلاق الثورة السورية في منتصف آذار (مارس) 2011 بساعات قليلة جهز نظام الأسد رواية مفادها أن الإرهابيين هم وراء ما يحدث، وقد استمر على الرواية ذاتها طوال فترة التظاهرات السلمية وما زال، إلى أن أقام داعش دولته في الرقة وظهرت جبهة النصرة بكل محاكمها الشرعية.
وإذا تركنا قليلاً وقائع الصلة العضوية بين نظام الأسد واستخباراته وعموم المتطرفين الإسلاميين، فإن واقعة قيام داعش بتأسيس كيان سمته «دولة» ما تزال عند الكثير من الجهات الأيديولوجية أيضاً مسرحية، لعبة. والغريب أن العالم، «القرية»، الذي ينقل الحدث خلال دقائق ما زال فيه أناس يتعاملون مع الكوارث السياسية من موقع أنها «مسرحية أو لعبة».
هنا علينا تماماً أن نعيد تأكيد بدهيات منها مثلاً أن داعش موجود كنظام سياسي على الأرض يطبق شرائعه وطرائقه، يذبح ويشنق ويدمر آثار وهو تهديد حقيقي للعالم أجمع. وكذا الحال مع جبهة النصرة التي غيرت اسمها ولكن لم تغير منهجها.
الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً يرون هذا المشهد بواقعية سياسية وهم منشغلون في الليل والنهار بكيفية مواجهة هذا الإرهاب، والصحافة الغربية تناقش هذا الواقع يومياً، ولا تزال الذاكرة الشعبية السياسية الأميركية ترتعد كلما ذكر اسم القاعدة أو داعش.
من هنا ارتكز نظام الأسد على هذه الجماعات المتطرفة التي حمته من السقوط، لا بل دعمها بكل ما استطاع، وصار يشرح للغرب مدى خطورتها على السلم العالمي، وفي نفس الوقت يذكرها الآن كحقائق مروعة وينسى أنه هو نفسه من كان يقول عن أحداث 11 أيلول أنها لعبة ومسرحية.
ولأن الأمور هكذا، ولأننا لا نراها على حقيقتها، ولا نواجه أسبابها الفكرية والثقافية العميقة، فإن سقوط داعش والأسد -وهو ما سوف يحصل- لا يضمن لنا عدم عودة داعش في مكان آخر أو عودة الأسد في هيئة مستبد جديد!
ليست الغارة الإسرائيلية على مطار دمشق وحدها المؤشر الى ما يجرى بين إسرائيل و «حزب الله». الأيام القليلة الفائتة شهدت نحو خمس غارات على مواقع في سورية. وردّ فعل «حزب الله» الوحيد حتى الآن الزيارة «الملتبسة» التي نظمها لصحافيين إلى الحدود.
الابتعاد مسافة قصيرة عما يجري يُساعد على تخليص خيوط المواجهة، فلا يُغرق المرء بتفسير انكفاء الحزب عن التصدي للغارات بصفته فقط خطأ أملته خياراته في سورية. هذا تمرين يجب أن نمارسه. ففي سورية تجرى واحدة من أغرب حروب العالم، لكنْ أكثرها وضوحاً أيضاً. الغارة الإسرائيلية على مطار دمشق جرت فيما كان وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان في موسكو!
لم نعتد على هذا النوع من الشفافية في خوض الحروب. فلـ «حزب الله» في هذه المعادلة الحق في خـــوض القتال الســـوري، لكن المعادلة تقضي بألّا يقترب مـــن الحدود مع إسرائيل. له الحق في التزود بالسلاح لخـــوض تلك الحـــرب، على أن لا يفيض السلاح عن هذه المهـــمة. ومـــوسكو الحليف في الداخل السوري، هي في الوقـــت عينه راعية تلك المعادلة، ومثبتة قواعدها.
لكن المواظبة الإسرائيلية على الغارات مؤخراً تُشعر المرء بأن تل أبيب تسعى إلى تعديلٍ ما فيها. والحزب رصد، على ما يبدو، حثّ الإسرائيليين خطاهم نحو الحرب. بهذا المعنى، فالتوقيت اختاره الإسرائيليون. حماسة إدارة دونالد ترامب لخوض حروب تقوض النفوذ الإيراني تُشكل فرصة لن تُعوض لبنيامين نتانياهو. تشتت قوة الحزب على الجبهات السورية فرصة أخرى. عجزه عن تصريف تبعات نتائج الحرب في جنوب لبنان يدفع الإسرائيليين إلى مزيد من الحماسة لها.
«حزب الله» لن ينجرّ إلى حرب وفق هذه الشروط، وفي الوقت عينه هو عاجز عن امتصاص تبعات محاولات الاستدراج الإسرائيلية. ثمة إرباك واضح في أدائه على هذا الصعيد، والإرباك هو ما يُفسر تخبطاً أصابه على الحدود اللبنانية قبل نحو عشرة أيام. نظم الحزب زيارة للصحافيين إلى هذه الحدود وظهر فيها ضابط منه يشرح للصحافيين عن التحصينات الإسرائيلية، في خرق واضح ومتعمد للقرار 1701، وفي اليوم الثاني زار رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري المكان نفسه الذي ظهر فيه ضابط «حزب الله»، وأعلن من هناك رفضه «ما حصل بالأمس»، ثم عاد أدراجه إلى مدينة صور حيث أولم له وزير حركة أمل علي حسن خليل، بمشاركة وزير «حزب الله» محمد فنيش.
لم يعوّدنا الحزب على هذه المرونة. وقائع يوم زيارة الحريري الحدود، ليست امتداداً لما ألفه اللبنانيون في «حزب الله». وما حصل في صور يُشبه في غرابته ما حصل في موسكو عشية الغارة على مطار دمشق. قوى الحرب تتوافق تحت أنظارنا، نحن ضحاياها، على قواعد لعبة هي في طور التغير. «حزب الله» لا يريد حرباً، وإسرائيل تريدها حالاً. منع وقوع الحرب هو الحرب التي يسعى «حزب الله» لربحها في ظل ميزان قوى ليس لمصلحته. لكن تل أبيب تسعى في ظل عدم وجود شريك تُحاربه، إلى تغيير معادلة السلم. فالغارات على مواقع الحزب في سورية تجرى في ظل «نشاط ديبلوماسي» لفتح ثغرة جديدة في التوازن القائم، وفي ظل مواكبة أميركية واضحة لنوايا تل أبيب.
الأرجح أن إسرائيل لن تخوض حرباً مفتوحة على الحزب في سورية من دون غطاء ما روسي. وموسكو التي تنسق معها ميدانياً لم تصل بها الفرقة عن طهران إلى حد منح تل أبيب هذا الغطاء.
وفي مقابل ذلك، فإن لهذه الحرب وجهاً آخر يتمثل في الرغبة الأميركية بمحاصرة نفوذ طهران الإقليمي. وواشنطن معنية بتحديد ساحة المواجهة. الخيارات أمامها تتراوح بين لبنان والعراق وسورية. ستعني الحرب الإسرائيلية على «حزب الله» في لبنان انهياراً جديداً لن يمثل انتصار تل أبيب ثمناً كافياً له. ومواجهة إيران في العراق أمر أشد تعقيداً من لبنان، وواشنطن تخوض هناك حرباً على «داعش» إلى جانب طهران، في واحدة من لحظات الغرابة التي يشهدها الإقليم. ومن المنطقي في هذه الحال أن تكون سورية هي من وقع عليه اختيار واشنطن.
يجرى إعداد كبير لهذه المواجهة، وفي مقابل ذلك، يُمارس «حزب الله» أقصى درجات الحذر والانكفاء. ليس الوضع نموذجياً لتسطير بطولات. والاختلال بدأ يفرز قواه بالقرب من الحزب. خرج مقتدى الصدر ليطالب الجميع بالانسحاب من سورية. كرر هذا الطلب أحمدي نجاد. هذه أصوات تؤشر إلى بداية صدع لا يُعين الحزب في حال السقوط في المواجهة. وهي أيضاً صادرة عن شعور بأن تدفق طهران على المنطقة وصل إلى مستوى يُهدد أصحابه بالاختناق. فترامب أشهر نواياه، وقصف في سورية من خارج معادلة التوازن مع موسكو.
الوضع عالق عند خطوة روسية تُسهل الحرب وتلبي شهية نتانياهو إليها. لكن العيش في عنق زجاجة ليس بالأمر اليسير، فرئيس الحكومة الإسرائيلية يدفع بكل طاقته نحو توفير شروط حرب على «حزب الله». والمرء اذ يُراقب إعداد المسرح في إسرائيل يشعر بأن مبالغات هائلة بدأت تصيب آلة الترويج الإسرائيلية. فـ «حزب الله» وحده من تتركز عليه الهموم، وله أثر في كل قصة إسرائيلية، بدءاً من مخازن غاز الأمنيون في حيفا وصولاً إلى الزيارة التي نظمها مؤخراً إلى الحدود. لا أثر لمخاوف إسرائيلية أخرى.
في موسكو مطبخ آخر للحرب، ولم تبلغ مصلحة الكرملين الحد من نفوذ طهران في سورية مستوى يدفعه إلى التخلي عن شريكه هناك. مصير بشار الأسد يحضر بكثافة في هذه اللحظة من دون شك. فحرب إسرائيلية بغطاء أميركي لن تبقي عليه. وفي موسكو ثمة غرفة أخرى لا تبعد كثيراً عن الغرفة التي التقى فيها ليبرمان مع بوتين ولافروف، أي تلك التي التقى فيها وزراء دفاع روسيا وإيران وسورية قبل نحو أسبوعين.
الحرب اقتربت إلى حد يجلس فيه المتحاربون في غرف متجاورة في أروقة الكرملين. طهران لا تريد حرباً، وتل أبيب وواشنطن تريدانها. فكيف ستلعب موسكو ورقة مصير الأسد، وأي تغيير في الوضع القائم ستقبل به تل أبيب؟
الاجتماع الخليجي الثلاثي الذي عقد في الرياض يوم الخميس الماضي والذي حضره وزراء الداخلية والدفاع والخارجية في دول مجلس التعاون، هذا الإجتماع يأتي بعد أن تصاعدت التهديدات والتدخلات الإيرانية في دول المجلس مما يشكل خطورة على استقرار الأوضاع في المنطقة.
ولا شك أن مثل هذه الاجتماعات تأتي لتدارس الموقف من هذه التهديدات وبلورة موقف خليجي موحد وقوي لإيصال رسالة لإيران من أن دول مجلس التعاون لن تقبل بزعزعة الاستقرار والأمن في دول المجلس.
وكما أكد وزير الخارجية الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة أكثر من مرة من أن إيران تحتل المركز الأول في تهديد أمن دول المجلس.. ولذلك فإنه من الضرورة بمكان أن تفعل اللجنة الدائمة التي تم تشكيلها مؤخرا بالجامعة العربية تحت مسمى «التدخلات الإيرانية في الدول العربية» والتي تضم في عضويتها البحرين ومصر والإمارات والسعودية، وأنه إذا لم تبد إيران حسن النية وواصلت تدخلاتها السافرة في الشأن المحلى للبحرين ودول مجلس التعاون فإن البحرين تأمل في تطبيق الآلية المقترحة من المجلس لمواجهة التدخلات الإيرانية بالتعاون مع الدول الصديقة والمجتمع الدولي لزيادة عزلة إيران إقليميا ودوليا.
إن الرسالة القوية التي يجب أن تصل إلى إيران من دول مجلس التعاون أن مصالحها وعلاقاتها التجارية والاقتصادية والدبلوماسية والسياسية سوف تتأثر بشكل كبير إذا لم تكف عن تدخلاتها في الشؤون الخليجية.
وإذا كانت جمهورية الملالي في إيران تريد إن تجعل من منطقة الخليج منطقة فارسية تأتمر بأوامر الولي الفقيه، فإننا نقول لإيران ولأتباعها الخونة في المنطقة أن دول الخليج دول عربية منذ أقدم العصور، وأن عمقها الجغرافي وامتدادها التاريخي يصل إلى أعماق شبه الجزيرة العربية.
إن على الدول الخليجية والعربية من ورائها أن لا تكتفي بعبارات الشجب والاستنكار ضد التدخلات الإيرانية في المنطقة، وهذا يستلزم تفعيل مبادرة المغفور له بإذن الله تعالى الملك عبدالله بن عبد العزيز آل سعود في الإتجاه نحو الإتحاد الخليجي، لأنه الرد العملي والناجع للتصدي للمحاولات الإيرانية «لتفريس» الخليج العربي.
إن على دول مجلس التعاون كذلك أن تستغل الخلافات التي ظهرت بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الملالي في إيران بعد مجيء ترامب إلى سدة الحكم في أمريكا، فالولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تستطيع لجم تطلعات إيران التوسعية في المنطقة، ولو من أجل المحافظة على العلاقات الاقتصادية والتجارية والنفطية بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربية، وهي علاقات متجذرة ومتشعبة.
إن على دول مجلس التعاون أيضا أن تدرس بعمق التصريحات التي تصدر بين حين وآخر من المسئولين الإيرانيين حول التدخل في البحرين، ومنها تصريح عضو مجلس الشورى الإيراني الدكتور ناصر سوداني الذي اجتمع مع بعض قوى المعارضة البحرينية البائسة في الخارج والتي دعا فيها إلى الاستعداد للكفاح المسلح في البحرين لاسترداد حريتها على حد زعمه.
حفظ الله البحرين ونظامها الخليفي الشرعي وحفظ شعبها من مطامع إيران الصفوية.
لم تعد هناك أسرار. ردّت روسيا على الغارات الإسرائيلية الخمس التي استهدفت مواقع في محيط مطار دمشق بالدعوة إلى “التهدئة” وبغارة على مستشفى في إدلب أوقع ضحايا مدنيين وعطّل المستشفى!
جاء التحدي الإسرائيلي لروسيا واضحا كلّ الوضوح، ذلك أن إسرائيل قصفت أهدافا في محيط مطار دمشق بعد ساعات من إعلان مسؤول عسكري روسي إقامة شبكة روسية تحمي كلّ الأراضي السورية. كان على المسؤول العسكري الروسي أن يوضح أنّ شبكة حماية الأجواء السورية لا علاقة لها بإسرائيل ولا تستهدفها لا من قريب ولا من بعيد.
الحقيقة أنّه لم يكن هناك في الأصل أيّ تحدّ من أيّ نوع. ليست روسيا في وارد الدخول في أيّ مواجهة مع إسرائيل بسبب سوريا. على العكس من ذلك، هناك تنسيق تام بين الجانبين في وقت صارت روسيا في حاجة أكبر إلى إسرائيل بعد التغيّر الذي طرأ على الموقف الأميركي في عهد دونالد ترامب.
دفعت الغارة الأميركية بصواريخ توماهوك على قاعدة الشعيرات، التابعة للنظام السوري، في الرابع من الشهر الجاري موسكو إلى مزيد من التقارب مع إسرائيل في غياب القدرة على لعب دور إيجابي في سوريا، على أيّ صعيد كان… أو غياب الرغبة في ذلك. بالنسبة إلى روسيا، تظلّ إسرائيل عنصر توازن تستعين به في لعبة شد الحبل وإرخائه بين موسكو وواشنطن في مرحلة ما بعد عهد باراك أوباما.
المفارقة أن الغارات الإسرائيلية الجديدة تأتي في سياق أجندة تقوم على رفض إسرائيل أي تهديد لها بواسطة صواريخ “حزب الله” الآتية من إيران عبر مطار دمشق. هناك هدف إسرائيلي محدّد. يتمثّل الهدف في رفض تحوّل الأراضي السورية، خصوصا مناطق الجنوب، قاعدة لـ”حزب الله” تستخدمها إيران في تهديد إسرائيل أو ابتزازها.
الأكيد أن روسيا لا تعترض على ذلك. كانت المرّة الوحيدة التي احتجت فيها موسكو على عمل إسرائيلي عندما قصف الإسرائيليون قواعد صواريخ تابعة للنظام في منطقة قريبة من تدمر. اكتفت موسكو، وقتذاك، باستدعاء السفير الإسرائيلي. ربّما كان ذلك من أجل الاستفسار عن الهدف الحقيقي لمثل هذه العملية وهل تندرج في سياق التنسيق العميق ذي الطابع الاستراتيجي القائم بين الجانبين.
هذا ما فعله السلاح الروسي بحلب
تطرح الغارات الإسرائيلية الخمس على محيط مطار دمشق مسألة عمرها نصف قرن. هذه المسألة هي ما الذي تريده موسكو من الشرق الأوسط ولماذا الإصرار على دعم أنظمة لا تمتلك أيّ شرعية من أيّ نوع، أنظمة كانت دائما في خدمة إسرائيل؟
في مثل هذه الأيّام من العام 1967، كانت المنطقة العربيّة كلّها تغلي. كانت في الواقع تتهيّأ لحرب الأيّام الستّة التي اندلعت يوم الخامس من حزيران ـ يونيو من تلك السنة والتي انتهت باحتلال إسرائيل للجولان وسيناء وقطاع غزّة والضفّة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
معروف من سلّم الجولان إلى إسرائيل وظروف عملية التسليم. معروف جيّدا أن مصر لم تكن مستعدة للحرب وأن الهزيمة التي لحقت بها كانت مدوّية. كشفت تلك الهزيمة سذاجة جمال عبدالناصر الذي جرّه حزب البعث الحاكم في سوريا إلى خوض الحرب. تبيّن كم كان عبدالناصر جاهلا في السياسة الدولية وكم هو مسؤول عن حال الانهيار التي يعاني منها العرب عموما.
معروف أكثر من اللزوم أن الملك حسين تعرّض لمزايدات جعلته يصدّق، وإن غصبا عنه، أن مصر قادرة على إقامة توازن استراتيجي مع إسرائيل. خسر الأردن الضفة الغربية والقدس. لا تزال الضفّة محتلة إلى اليوم، كذلك القدس.
من يتابع المواقف السوفييتية ثمّ الروسية، منذ ما قبل العام 1967، يكتشف أن شيئا لم يتغيّر إن في أيّام الاتحاد السوفييتي، السعيد الذكر، أو في أيّام روسيا الاتحادية.
هناك سؤال واحد يمكن طرحه: ما المساهمة الايجابية التي قدمتها موسكو السوفييتية أو الروسية للمنطقة؟ هناك بالطبع من سيجيب أن الاتحاد السوفييتي بنى السدّ العالي لمصر. يمكن الدخول في جدل لا نهاية له في شأن السدّ العالي وفوائده وما إذا كان من الأفضل ترك الدول الغربية تبنيه في سياق خطة متكاملة بعيدا عن النظريات الاشتراكية التي لم تعد على مصر والمنطقة سوى بالخراب والتخلّف.
لم يستعد العرب من الأراضي التي خسروها في 1967 سوى سيناء. كان ذلك بفضل أنور السادات الذي ابتعد إلى أبعد حدود عن الاتحاد السوفييتي واتكل على الولايات المتحدة. أمّا قطاع غزّة، الذي كانت تديره مصر في العام 1967، فقد عاد إلى الفلسطينيين بفضل اتفاق أوسلو أوّلا ولأنّ إسرائيل لا تريد البقاء فيه ثانيا وأخيرا.
لم تبع موسكو السوفييتية والروسية العرب سوى الأوهام. باعتهم السلاح الذي قمع به الحكّام شعوبهم. لم تدعم غير أسوأ الأنظمة العربية، على رأسها النظام السوري الذي سلّم الجولان قبل نصف قرن والذي يعمل حاليا على الانتهاء من سوريا. ماذا فعل السلاح السوفييتي والروسي غير تمكين الأنظمة الديكتاتورية من قهر الشعوب وتدمير نسيج المجتمعات في هذه الدولة العربية أو تلك.
لعلّ ليبيا أفضل مثال على ذلك. لم يصدر عن موسكو في أيّ يوم ما يدين ممارسات معمّر القذافي الذي رفض الرحيل قبل تأكّده من أنّه لن تقوم لليبيا أيّ قيامة في يوم من الأيّام.
ما نشهده حاليا هو موقف روسي بائس من سوريا وثورة شعبها أسوأ بكثير من الموقف الذي اتخذته موسكو من “جماهيرية” القذّافي. هناك إصرار على الذهاب إلى النهاية في دعم بشّار الأسد ومراعاة إسرائيل إلى أبعد حدود في الوقت ذاته. يحصل ذلك في ظلّ استحسان إيراني لمواقف موسكو.
ليست شبكة الدفاع الجوّي الخدمة التي يمكن لروسيا في السنة 2017 تقديمها إلى سوريا. هناك خدمة وحيدة تصلح للمرحلة. تتمثّل هذه الخدمة بتخليص سوريا من نظام انتهت صلاحيته لم يعد لديه ما يفعله سوى شنّ حرب على شعبه.
نعم، إنّ مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيكي هايلي على حقّ عندما تدعو روسيا إلى الضغط على الأسد الابن من أجل التوقف عن استخدام السلاح الكيميائي في حربه على شعبه والرحيل عن السلطة. هل كثير الطلب من روسيا مثل هذه الخدمة في الذكرى الـ50 لهزيمة العام 1967؟
طوال ما يزيد على نصف قرن، لم تبع موسكو العرب سوى الأوهام ولا شيء غير الأوهام. لم تجد ما تقوله لهم عشية الخامس من حزيران ـ يونيو 1967 عن أنّهم يخوضون حربا خاسرة سلفا لأنّ موازين القوى في غير مصلحتهم. كيف كان لدولة عظمى في حجم الاتحاد السوفييتي أن تتجاهل قدرة إسرائيل على تدمير الجيوش العربية في أقلّ من ستّة أيّام؟
حسنا، يمكن تفسير الموقف السوفييتي في تلك المرحلة بالرغبة في جعل العرب أسرى الكرملين أكثر من أيّ وقت. ما التفسير الحالي للموقف الروسي الداعم لبشّار الأسد، علما أن أصغر مسؤول في موسكو يعرف أن النظام السوري انتهى؟
لا جواب عن هذا السؤال سوى الرغبة في الانتهاء من سوريا. ما بدأ في 1967 يستكمل في 2017 لا أكثر ولا أقلّ. يظل الردّ الروسي على الغارات الإسرائيلية الخمس أفضل دليل من أجل التأكّد من ذلك.
يصعب الحديث بسهولة في المسألة الكردية السورية. أولاً، لأن قطاعاتٍ واسعة من الجمهور السوري لا تكاد تميّز بين موقف الاتحاد الديمقراطي الذي يقود اليوم السياسة الكردية السورية وموقف الأحزاب الكردية العديدة الأخرى، وأهمها المنضوية في المجلس الوطني الكردي. وثانياً، لأن هذه النخب والأحزاب الكردية السورية، على الرغم من تنافسها واختلافاتها، تكاد تشترك في سمةٍ واحدةٍ مع بقية النخب والأحزاب السورية التي تربت على ثقافةٍ سياسيةٍ، تلغي وجود الشعب السوري بأكمله، وتتصرّف كما لو كانت الوصية الشرعية عليه، فهي تنزع إلى الحلول محله، وتقرير مصيره مسبقاً، بدل الدفاع عن حقه هو في تقرير مصيره. ويصعب ثالثاً الحديث والتواصل أيضاً بين النخب الكردية والسورية الأخرى، لأن ثقافة التعقيم والإعدام السياسي للسوريين خلال العقود الطويلة الماضية لم تترك أي مجال لبناء لغة مفاهيم واضحة، لا غنى عنها لأي تواصل جدي. لذلك يغلب على النقاش التأويل الذاتوي للألفاظ وتحميلها غير ما تحمله، فلا مفاهيم الأمة والدولة والشعب والإدارة الذاتية والفيدرالية تعني شيئاً واحداً ومحدّداً عند جميع المتكلمين. ويصعب، أخيراً، الحديث في المسألة الكردية السورية، لأن سنوات الصراع الطويل، قبل الثورة وبعدها، قد خلفت إرثاً كبيراً من سوء الفهم وانعدام الثقة ومشاعر العداء التي تعاني منها النخب السورية بكل مكوناتها، بسبب ما عانته من قهرٍ وإحباط وخنق في ظل نظام البعث والأسد الذي تبعه، والحرمان من أي مشاركةٍ أو مجال للتعبير والتفكير المشترك والتفاهم الوطني. والواقع أن منع مثل هذا التفاهم بين أطراف النخب وأطياف المجتمع كان الاستراتيجية الرئيسية لنظام الأسد كي يحول دون ظهور قوةٍ وطنيةٍ منظمةٍ وموحدةٍ، تضع سلطته المطلقة موضع السؤال. لذلك، حسناً فعل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تنظيمه مؤتمراً علمياً حول العلاقات العربية الكردية.
1
ما من شك في أن الثورة الشعبية السورية قد فاقمت من الخلافات بين النخب العربية والكردية، إن لم تكن قد أحدثت صدعاً كبيراً بينها، وعمّقت الهوّة التي نشأت، منذ عقود، بين قوميتين تعاني كلاهما من مشكلاتٍ عويصة، حرمتهما من تحقيق أهدافهما، والانتقال بشعوبهما من حالة الشك والانقسام والغليان القومي إلى حالة الاستقرار والنضح والثقة بالنفس، وفتح خطوط التواصل على قدم المساوة، وبصورة جدية ومثمرة، مع الآخر، فقد شكل انفجار الثورة السورية، وتطورات الأحداث التي حالت دون انتصارها السريع كل الآمال المعلقة عند نخبةٍ قوميةٍ كرديةٍ عانت، خلال عقود طويلة، من الغبن والإحباط، وشعرت قيادتها بأن الثورة قد فتحت نافذة فرص كبيرة، ربما تمكّنها، إذا عرفت كيف تستفيد منها، أن تنتقم لنفسها من تجاهل النخب السورية لها في العقود الماضية، وأن تنتزع لنفسها ولايةً في جزء من الأرض السورية المستباحة من قوى داخلية وخارجية عديدة. وما من شك أيضاً في أن نموذج الحكم الذاتي الذي حصل عليه الأكراد في العراق لم يبرح مخيلتها، وربما ساهم فيه أيضاً دعم إقليم كردستان العراق هذا الخيار، وسعيه إلى نقل تجربته في العراق إلى كرد سورية. وهكذا تفاهمت الأحزاب الكردية، أو أغلبها، على تشكيل مجلس وطني كردي، بعد أقل من 15 يوماً من الإعلان عن تشكيل المجلس الوطني السوري في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2011. وكان الهدف من ذلك تمييز القضية الكردية القومية عن القضية السورية الديمقراطية العامة، والسعي إلى وضع المجلسين بموازاة بعضهما ندّين في مفاوضاتٍ تفضي إلى الاعتراف بحق الكرد السوريين في تقرير مصيرهم، وإقامة حكم ذاتي يتحول، في ما بعد، إلى إقليم مستقل أو شبه مستقل، كما حصل في كردستان العراق.
وهكذا تبلورت سياسات جديدة في الوسط السياسي والثقافي الكردي، لم تكن معروفة من قبل أو كانت مقصورةً على فئات قليلة من النخبة الكردية السورية. ومن ضمنها وأهمها التركيز على الشعب الكردي في مواجهة الشعب السوري، والسعي إلى فرض أسماء كردية على بعض المدن والقرى، سواء أكانت أسماء جديدة أو بعضاً مما كان قد تم تعريبه في عهد سابق، وتداول الإعلام الكردي السوري، لأول مرة، فكرة كردستان سورية، تشبهاً بكردستان العراق. وبدل أن يتعاون المجلس الوطني الكردي مع المجلس الوطني السوري، لتعيين ممثليه في مكتبه التنفيذي وأمانته العامة، على أساس البيان الوطني الجامع الذي قام عليه، علّق المجلس الكردي انضمامه العملي للمجلس الوطني بشروطٍ عديدةٍ، أهمها اعتراف المجلس بحق الشعب الكردي السوري في تقرير المصير، والاعتراف الدستوري بالشعب الكردي، وفي ما بعد إقرار اللامركزية السياسية، رداً على اقتراح المجلس الوطني السوري باللامركزية الإدارية الموسعة التي نص عليها بيان إعلان المجلس الوطني، تماشياً مع تطلعات الشعب الكردي. وطالب قادة الكرد أيضاً المجلس بالتخلي عن اسم الجمهورية العربية السورية، واعتماد اسم الجمهورية السورية، كما تم اعتماد علم الاستقلال بديلاً للعلم السوري الراهن. لكن مع تعثر المفاوضات، لم يتردد بعض قادة المجلس الكردي في ربط موقفهم من الثورة بموقف المجلس الوطني من تلبية مطالبهم، على الرغم من أن الشارع الكردي كان من أنشط الشوارع المؤيدة للثورة، والمساهمة في مظاهراتها الشعبية الواسعة وشعاراتها.
2
والواقع أنه لم يكن أحد في المجلس الوطني يعارض الاعتراف بهوية الشعب الكردي الثقافية المستقلة والمتميزة، ولا في تأكيد المساواة التامة في الحقوق بين القوميتين العربية والكردية وبقية القوميات أو الجماعات القومية الأخرى التي تعيش على الأرض السورية، ولا في ضرورة تقليص صلاحيات السلطة المركزية للعاصمة، وإعطاء صلاحيات أوسع للمحافظات، وربما حكماً ذاتياً لمناطق أو لجماعاتٍ تحلم بذلك، في إطار سورية ديمقراطية واحدة ومستقلة. وكان لعدد كبير من قادة المجلس الوطني السوري علاقات متميزة وإيجابية مع الكرد، وعملوا في طليعة القوى التي دافعت عن إنصافهم وتلبية مطالبهم قبل الثورة وبعدها. ما كان يخشاه قادة المجلس هو أن يستخدم بعض غلاة القوميين مفاهيم ليست واضحة، ولا متداولة بشكل واسع في الثقافة السياسية السورية، من أجل أن يخلقوا شرخاً عميقاً بين العرب والكرد، ويهدّدوا وحدة قوى الثورة السورية التي كان التفاهم العفوي بين جمهور السوريين، على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم وأديانهم، أساسها القوي. وكان كثيرون منهم يخشون أن يستغل حزب الاتحاد الديمقراطي، المرتبط بحزب العمال الكردستاني في تركيا، والمشكوك بتحالفه مع نظام الأسد، هذه المطالب والشعارات، من أجل ثني الجمهور الكردي عن دعمه الثورة وتأليبه عليها. وهذا ما حصل بعد ذلك بالفعل، فبدل أن يلاقي قادة المجلس الكردي شباب الكرد المتحمسين للثورة، والمنخرطين فيها، على شعارات ومطالب تعزّز مشاركتهم، وتجعل منهم طرفاً أصيلاً وثابتاً في التحالف ضد نظام الطغيان، شكّكوه بوعي أو من دونه في صحة تضامنه مع إخوته السوريين المنخرطين في الثورة، وقرّبوه من مواقف الاتحاد الديمقراطي وشعاراته، وكان المستفيد الوحيد من ذلك هو قادة هذا الحزب الذين كانوا الملاك الحقيقيين والأصلاء لهذه المطالب والشعارات. ما عزل المجلس وأحزابه وأضعفها أمام حزب صالح مسلم الذي تقدّم، بشكل سريع، إلى موقع القيادة السياسية للحركة الكردية، ونجح في استقطاب الدعمين، الأميركي والروسي. وهكذا أمكن لحزب الاتحاد الديمقراطي أن يحول أنظار جمهور الثورة الواسع في المدن والقرى الكردية عن محور نشاطه الأول ضد الأسد، ويوجهه نحو أهدافٍ قوميةٍ خاصة، عزلته تدريجياً عن الثورة، وأحدثت مناخ مواجهة كردية عربية، يكاد يكون من الصعب تفكيكها، محورها الصراع على الأرض، بمفاهيم الملكية التاريخية وتوسيع دائرة السيطرة والنفوذ. وفي هذا السياق، تم تعميد الكانتونات الثلاثة باسم روج آفا، وأعلنت المنطقة منطقة إدارة ذاتية من طرف واحد، وتم تشكيل حكومة خاصة بها. وبالطريقة نفسها، تم التخلي في ما بعد بموازاة تنامي قوة الحزب القتالية عن روج آفا، وأعيد تعميدها باسم فيدرالية الشمال السوري قيد الإنشاء التي تضم، حسب مفهوم الحزب، مناطق عربية وكردية من دون تمييز، وتشكل نواة لسورية الجديدة التي يراها الحزب فيدرالية في كل أقاليمها، ويريد أن يفرضها على السوريين من دون نقاش ولا حوار ولا مشاورات.
منذ ذلك الوقت، لم يكف الشرخ بين النخب السياسية الكردية والنخب السورية العربية وغير العربية عن التفاقم. وعلى العموم، هناك اليوم شبه وحدة في التطلعات والمواقف لطيف واسع من النخب الكردية السورية، وموقف غالب أو مهيمن، يقوم على اعتقاد راسخ بأن أمام الكرد فرصة تاريخية لا تفوّت، لفرض تصورهم لمصالحهم ورؤيتهم لسورية القادمة، بحيث يكرّرون مثال الشمال الكردي في العراق، بينما يخشى العرب من تنامي طموحات القادة الكرد السوريين، وسعيهم إلى توسيع دائرة نفوذهم، على حساب مصالح العرب السوريين في منطقة الجزيرة والفرات، نتيجة الدعم العسكري المتزايد الذي يقدمه لهم الأميركيون والروس، لمساهمتهم في القتال ضد "داعش". وفي موازاة هذا الشرخ بين العرب والكرد، يزداد الانقسام داخل صفوف النخب الكردية ذاتها، كما هو الحال في صفوف النخب العربية التي تزداد توتراً وخوفاً مع انحسار دورها وتراجع سيطرتها على أيٍّ من أدوات الصراع القائم. وكما أن مثل هذا الشرخ يشجع دولاً عديدة كبيرة، منخرطة في الصراع داخل سورية وعليها، على استثماره والتوظيف فيه، من أجل تعزيز سيطرتها على الأطراف السورية جميعاً، وفي سبيل توسيع هامش مناورتها وفرض تصوراتها لسورية المقبلة، وتقسيم مناطق النفوذ فيها، ربما على حساب الكرد والعرب مجتمعين.
لا أخفي أنني كنت دائماً أخشى، قبل الثورة، الصدام بين الأجندة القومية التي لا يزال قسم كبير من النخب الكردية يركّز عليها، وهذه طبيعة أي نخبة حيل بينها وتحقيق مشروعها القومي الخاص بها، والأجندة الديمقراطية التي أصبحت محور اهتمام النخب السورية عموماً بعد فشل النخب والأحزاب القومية العربية، وفي مقدمها البعث، وتجييرها لتخليد السلطة الاستبدادية. وكنت أعتقد، ولا أزال، أن العمل على الأجندة الديمقراطية التي وضعتها الثورة في مقدمة المهام التاريخية لسورية، يقرّب الكرد من تحقيق تطلعاتهم القومية، وأولها الحفاظ على هويتهم الثقافية واكتساب خبرة أساسية في بناء الدولة والممارسة السياسية، والارتقاء بشروط حياة الشعب التي لاتزال بائسة كبقية السوريين، أكثر بكثير من التعلق بأجندة قومية مغالية، تغامر بقطع الكرد عن محيطهم وبيئتهم الوطنية، وتزرع بذور صراعاتٍ ونزاعاتٍ، لا تنتهي، على الأرض المشتركة، أول من يقفز عليها ويستفيد منها الدول الأجنبية الساعية إلى مزيدٍ من النفوذ والسيطرة.
ونحن الذين عشنا إجهاض حلم القومية العربية، ونعيش اليوم الفاجعة السورية، ندرك أن بناء دولةٍ، لا تتحول إلى فخ لأبنائها، ومصدر قهر وترويع وتدمير لحياتهم الإنسانية، يتطلب أكثر من وحدة اللغة والهوية الثقافية، ويحتاج إلى عملٍ من نوع مختلف، أوسع من استعادة التراث أو ترداد الشعارات والأسماء القومية، وأن الهوية الثقافية تنتعش وتزدهر وتتجدّد بشكلٍ أكبر بكثير، عندما تكون في ظل دولة حقيقية، دولة المواطنة والحقوق المتساوية وحكم القانون، أي دولة الأمة بالمعنيين، الدستوري والسياسي، لا الأتني. هذا خيار معظم العرب اليوم، وهو في اعتقادي خيار أغلبية الكرد أيضاً في سورية وخارجها، في ما وراء اختلافات النخب وصراعاتها الفكرية والسياسوية.
ومهما كان الحال، ليس هناك، في نظري، مبدأ صالحٌ لتنظيم العلاقات بين الشعوب والجماعات، سوى حق تقرير المصير، لكن تقرير الشعوب مصيرها، لا تقرير النخب مصير الشعوب، كما هو جار في منطقتنا، والذي راحت ضحيته الدول والشعوب. وفي إطار احترام حقوق الشعوب والجماعات الأخرى، وحقها المماثل في تقرير مصيرها أيضاً لا على حسابها. لذلك، لا يوجد حق تقرير مصير من طرف واحد، ولا مجال لتحقيقه وتطبيقه إلا من خلال الحوار والتشاور والمفاوضات الجماعية. من دون ذلك، لن يعني فرضه بالقوة سوى تعميم الحروب والنزاعات داخل الدول القائمة، وفي ما بينها.
تحمل التطورات الجارية على المستوى الإقليمي بوادر رياح جديدة، قد تغير تركيبة، النظام الإقليمي للشرق الأوسط، وربما خصائصه. الملمح الأهم في تلك الرياح الجديدة أنها تُذكِّر برياح سابقة هبّت قبل عقدين، كانت تحمل أطروحاتٍ للتعاون الإقليمي، واكبت تدشين مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل في تسعينيات القرن الماضي. والتي جرت محاولاتٌ لتأطيرها في عدة صيغ، منها الشرق الأوسط "الجديد" والشرق الأوسط "الكبير" أو "الموسّع". الفارق الأساس، فيما تشير إليه التحركات الجارية حالياً، أن الصيغ السابقة تستند إلى هدف تحقيق تنمية اقتصادية، من خلال تعاون إقليمي. وتنطلق من ذلك نحو دمج إسرائيل في المنطقة، وإقامة منظومة تعاون إقليمي جماعي، تكون هذه جزءاً منه. بينما تبدأ التحرّكات الجديدة من وجود تحدّياتٍ وتهديداتٍ مشتركة، تجمع دولاً في المنطقة ومن خارجها. أي أن الصيغ السابقة للشرق الأوسط الموسّع أو الكبير كانت فلسفتها تعاونيةً تجميعيةً، ترفع شعار تحقيق الأفضل. بينما ما تشير إليه التحرّكات الراهنة يبدو، في جوهره، استنفاراً دفاعياً لمواجهة السيئ، أو ربما الأسوأ.
يتبدّى ذلك بوضوح في مساعي تسوية بعض الملفات، لحلحلة التأزم الإقليمي، وتهيئة الأجواء لتحالفاتٍ إقليميةٍ، تتجاوز الاختلافات المرتبطة بالأزمات الراهنة. وتواجه تحدياتٍ متنوعةٍ، تشمل انتشار العنف في المنطقة وخارجها، والطموح الإقليمي الإيراني. وتداعيات الاضطرابات الداخلية، مثل تدفق اللاجئين وتهريب السلاح وانتقال المسلحين، وتنازع موارد الطاقة. وفي هذا السياق، تأتي مبادرات تحريك قضية قبرص، وأفكار استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وتعدّد منظومات تسوية أو إدارة الملف السوري (جنيف/ أستانة/ أصدقاء سورية) وكذلك الملف الليبي (اتفاق الصخيرات/ دول الجوار/ الرباعية الدولية). وفي المقابل، يجيء التصعيد الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية. وتحفز إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ضد إيران، فضلاً عن الحضور الروسي المتزايد في ملفات المنطقة وقضاياها، سياسياً وعسكرياً.
تشير تلك الحزم المتوازية من المستجدات والتحركات، بوضوح، إلى أن ثمة إعادة تشكيل للنظام الإقليمي، وأن ترتيبات جديدة تنتظر المنطقة في المدى المتوسط، إن لم يكن القصير.
ويمكن رصد ظواهر وخصائص مصاحبة لذلك الوضع الإقليمي الجديد، الجاري التحضير له، في مقدمتها تغير أولويات المصالح والتهديدات الإقليمية، حيث لم يعد العمل العربي المشترك، أو تطوير العلاقات والروابط العربية- العربية، يمثل أولوية لمعظم، إن لم يكن كل، الدول العربية. كما تراجعت أولوية الصراع العربي الإسرائيلي حتى لدى الدول المعنية به مباشرة، بما فيها التي كان يطلق عليها "دول الطوق". وفي المقابل، تتقدّم أولوية القضايا العابرة للحدود، خصوصاً انتشار ظاهرة العنف المسلح، سواء بواسطة تنظيمات ومجموعات أو بواسطة أفراد.
الظاهرة الثانية الملفتة فيما تشهده المنطقة من مستجدّات هي عودة الاستقطاب المذهبي، القائم فعلياً منذ بدايات الألفية الثالثة، لكنه توارى قليلاً بضعة أعوام. كان يتركز خلالها في التفاعلات الداخلية والعلاقات المجتمعية داخل بعض الدول التي تتسم بالتنوع المذهبي والديمغرافي بشكل عام. وكان لكل منها خصوصية محكومة بطبيعة التركيبة المجتمعية. بمعنى أن البعد الإقليمي أو الخارجي في ذلك الانقسام كان حاضراً، لكن على استحياء وبشكل محدود. وكان الدور الخارجي في الانقسام المذهبي استجابةً لمحركات داخلية بالأساس. بينما، في الوضع الراهن، صار الانقسام إقليمياً أكثر منه داخليا. وتجلت انعكاساته في تدخلاتٍ عسكرية وسياسية مباشرة، يمتزج فيها المذهبي بالسياسي. كما يتضح في تدخل حزب الله وجماعات شيعية مسلحة موالية لإيران في الأزمة السورية، والدور الإيراني في اليمن، والاحتقان المذهبي الكامن في القوس الشمالي المأزوم، الممتد من العراق إلى لبنان مروراً بسورية.
بالتوازي مع تلك التحولات، تجري على قدم وساق عملية تسليم للأدوار ونطاقات النفوذ الإقليمية الخاصة بالقوى الكبرى واستلامها، فقد تصدرت الولايات المتحدة الأميركية القوى الكبرى المؤثرة في الشرق الأوسط ثلاثة عقود متصلة، كانت خلالها تنفرد تقريباً بدور "الراعي الرسمي" لمجمل قضايا المنطقة وتطوراتها. أخذت واشنطن، في الأعوام الثلاثة الماضية، ترفع يدها عن المنطقة تدريجياً، ما أتاح الفرصة أمام روسيا لتملأ ذلك الفراغ بسرعة وديناميكية. وبعد أن صارت الفاعل الرئيس في الملف السوري، بقبول أميركي، فإن موسكو تتجه حالياً إلى ملفات وأزمات أخرى، مثل ليبيا واليمن، لتثبت أنها تقترب كثيراً من الحلول محل الولايات المتحدة في موقع القوة العالمية المهيمنة على الشرق الأوسط.
النتيجة المنطقية المترتبة على ما سبق أن تشهد المنطقة منظومة تحالفات ومحاور إقليمية، تجسد تلك الموجة من التغيرات، إلا أن التحالفات الجاري تشكيلها ليست مختلفة كلياً عن التي كانت سائدةً حتى سنوات قليلة مضت، وتوزعت بشكل أساسي بين جناحين، أطلق أولهما على أعضائه وصف "المقاومة والممانعة"، بينما تبنى الثاني مصطلح "الاعتدال" تعريفاً للدول المنضوية فيه. والمهم في هذا التقسيم أنه تمحور، بالدرجة الأولى، حول الموقف من إسرائيل، سواء لجهة العلاقة المباشرة معها، أو إزاء مجمل طريقة إدارة الصراع معها. وانبثق من هذا الاستقطاب الأساسي محاور انقسام فرعية، شملت الموقف من تنظيمات والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وجماعاتها، خصوصاً ذات المرجعية الإسلامية. وساعد في ذلك رفع شعار الجهاد، واعتبار تحرير القدس غاية إسلامية، بواسطة دول وتنظيمات يجمع بينها اتساق مذهبي. الأمر الذي أوجد ظلالاً مذهبية لحالة الاستقطاب في النظام الإقليمي للشرق الأوسط.
أما في الشرق الأوسط "الجديد" الذي يبدو تبلوره قريباً، فلم يعد خافياً أن ثمّة أولويات مشتركة بين إسرائيل ودول عربية كثيرة. لذا، لن يكون مفاجئاً أن تصبح إسرائيل شريكاً أصيلاً في أحد التحالفات الإقليمية الجديدة، أو بعضها، علناً أو بغير إعلان. وفي ذلك منعطف تاريخي أكثر من خطير بكل المعايير السياسية والأخلاقية، ما يجعله جديراً بالتناول لاحقاً في حديث مستقل.