بعد الإعلان في لبنان عن استشهاد العسكريين الذين خطفهم تنظيم “داعش” في العام 2014، ثمّة أمران لا يحتاجان إلى أي توضيح من أي نوع. يتعلق الأوّل بأن بلدة عرسال كانت مستهدفة دائما وذلك منذ بدء التفكير في مشروع “سوريا المفيدة”. أما الأمر الثاني، فهو مرتبط بمستقبل لبنان نفسه، أي بالتعايش بين الجيش والقوات الأمنية المختلفة من جهة، وميليشيا مذهبية مرتبطة بإيران تسعى إلى أن تكون صاحبة القرار في البلد من جهة أخرى.
لماذا كانت عرسال ولا تزال مستهدفة؟ الجواب بكلّ بساطة أنّها تمتلك موقعا استراتيجيا مهمّا فضلا عن أن لدى خراج البلدة حدودا طويلة مع سوريا. الأهمّ من ذلك كلّه أن أهل عرسال من السنّة في منطقة يعتبر “حزب الله” أنه يجب أن تكون تحت سيطرته الكاملة. يأتي مفهومه للسيطرة من منطلق تكريس وجود حدود مفتوحة بين المناطق التي يعتبرها “مربعات أمنية” في لبنان من جهة، وكل المنطقة المحيطة بدمشق، بما في ذلك الطريق الذي يربط دمشق بحمص وحماة وصولا إلى الساحل السوري من جهة أخرى.
لا يمكن لإيران، التي تسعى إلى تكريس وجودها في منطقة سورية قريبة من لبنان تؤمّن لها السيطرة بطريقة أو بأخرى على دمشق، أنْ تقبل بأقل من وجود ممر آمن لها بين سوريا ولبنان. هذا كلّ ما في الأمر. هذا ما يوضّح ما لم يعد في حاجة إلى أي توضيح من أي نوع، خصوصا في مرحلة ما بعد استقبال عرسال وجرودها الآلاف من السوريين الذين فروا بسبب ممارسات النظام أولا، ثم بعد سيطرة “حزب الله” على قرى وبلدات عدّة، بما في ذلك القصير، لتأمين الطريق بين دمشق وحمص تحديدا.
ما فعلته الحكومة اللبنانية منذ العام 2014، عندما اشتدّت الضغوط على عرسال، يتلخص في أنها حمت البلدة وأهلها الذين لا يمكن الشكّ بأن أكثريتهم الساحقة تدعم الجيش وقوى الأمن. الأكيد أن ليس أهل عرسال الذين جاؤوا بـ“داعش” و“النصرة” إلى مناطق في جوار بلدتهم، وإلى داخل البلدة أحيانا. الأكيد أيضا أن لا علاقة لأهل عرسال بخطف العسكريين اللبنانيين الذين خطفهم “داعش”. هؤلاء خُطفوا في العام 2014 خارج عرسال واقتيدوا إلى الأراضي السورية. ليس الجيش الذي قصّر في استعادة العسكريين. من قصّر كان المزايدون الذين حذروا بالصوت والصورة، بعيد حصول الخطف، من أي تفاوض مع “داعش” من أجل تأمين إطلاق الرهائن.
لا يمكن للمقصّرين الذين فعلوا كلّ ما يستطيعون لسدّ الطريق على أيّ مفاوضات مع “داعش” ادعاء حرصهم على أرواح العسكريين. الجميع يعرف أن “داعش” تنظيم إرهابي يتبيّن كلّ يوم أن علاقته الأساسية هي بالنظام السوري وهي علاقة تقترب من أن تكون عضوية. لا يمكن للذين وضعوا كلّ العراقيل الممكنة لمنع استعادة العسكريين التهرّب من المسؤولية. كلّ شيء واضح وكلّ المواقف التي صدرت في تلك المرحلة مسجّلة. كل التواريخ معروفة. معروف متى بدأ التحرّك لمنع حكومة تمام سلام من تحقيق ما كانت تصبو إليه… أي إطلاق العسكريين اللبنانيين المحتجزين لدى “داعش” بعيدا عن عرسال.
لا شكّ أن “حزب الله” يمتلك آلة إعلامية متخصصة في قلب الحقائق، بما في ذلك الترويج لروايات من النوع الخيالي للتغطية على المجرمين الذين كانوا وراء تفجير موكب رفيق الحريري. لا يمكن إلا الاعتراف بأنّه بارع في ذلك. الدليل أنّه استطاع تمرير ما يريد تمريره على عدد كبير من اللبنانيين، خصوصا على مجموعة من المسيحيين السذّج الذين يعميهم حقدهم على كلّ ما هو سنّي أو درزي في البلد. هؤلاء أشخاص لا تحرّكهم سوى الغريزة والأفق الضيّق الذي منعهم من استيعاب مدى خطورة أن يكون في لبنان سلاح غير شرعي لدى ميليشيا قررت، بناء على طلب إيراني مباشر، المشاركة في الحرب على الشعب السوري.
في وقت، يسعى رئيس الوزراء سعد الحريري إلى تجنيب لبنان المزيد من الكوارث والمآسي عبر زيارات لبلدان مثل روسيا يمكن أن يفيد المسؤولون فيها في معرفة النتائج التي ستترتب على إعادة تشكيل سوريا، هناك محاولة واضحة لتكريس أمر واقع في لبنان. ليس الضجيج الذي يستهدف توجيه اللوم إلى حكومة تمام سلام وسعد الحريري نفسه ووزير الداخلية نهاد المشنوق سوى حلقة في حملة تصبّ في منع لبنان من أن تقوم له قيامة. أكثر من ذلك، ممنوع على لبنان حماية مصالحه، وممنوع على جيشه تحقيق انتصار من أيّ نوع. كلّ ما هو مطلوب وضع لبنان في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني الذي يعني أنّه ورقة إيرانية لا أكثر.
في النهاية وفي مناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين لاغتيال الرئيس بشير الجميل، يكتشف اللبنانيون أن بلدهم لا يزال مهددا. بغض النظر عن اعتراضات كثيرة على طريقة انتخاب بشير رئيسا، أو عن الأخطاء التي ارتكبت في مرحلة حمل فيها قسم من المسيحيين السلاح وأساؤوا إلى شخصيات تمتلك فكرا مستنيرا وبعد نظر مثل ريمون اده، يبقى أن بشير اغتيل لأنّه كان قادرا في العام 1982 على لعب دور توحيدي في لبنان. كان هذا الدور يقضي في البداية بإعادة الحياة إلى الجيش كمؤسسة وطنية تسيطر على كل الأراضي اللبنانية.
تندرج الحملة على الرئيسين سعد الحريري وتمام سلام والوزير المشنوق، وهي حملة تقوم على تزوير الحقيقة والواقع في سياق الترويج لشعار “الشعب والجيش والمقاومة” لتبرير بقاء لبنان “ساحة”. من يدرك خطورة هذه المعادلة التي تعني وضع الجيش في مصاف ميليشيا مذهبية، معروف لمن هو ولاؤها، لا تعود له حاجة إلى أي بحث عن الوضوح. كلّ شيء واضح. الجريمة واضحة وأبطالها معروفون.
في 2017، يعود لبنان إلى جدل عمره نصف قرن تقريبا. بدأ هذا الجدل قبل توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969. كان عنوان الجدل وقتذاك، عندما بدأ السلاح الفلسطيني يتسلل إلى كل منطقة لبنانية، “الدولة والثورة”. هل من تعايش ممكن بين الدولة اللبنانية والثورة الفلسطينية؟ تبيّن أن هذا التعايش مستحيل. جلب السلاح الفلسطيني الذي كان استثمارا للنظام السوري في عملية القضاء على الدولة اللبنانية الاجتياح الإسرائيلي الذي أدى إلى تدمير كبير وإلى ما هو أخطر من ذلك. أدّى أيضا إلى حرب الجبل التي خلفت جروحا عميقة طالت نسيج المجتمع اللبناني.
إلى أين سيأخذ الإصرار على “المعادلة الذهبية” المسماة “الشعب والجيش والمقاومة” لبنان، خصوصا في مرحلة إعادة تشكيل سوريا والإصرار الإيراني على وجود فيها مع ربط هذا الوجود بالأراضي اللبنانية؟
هل هذا السؤال واضح لدى اللبنانيين، جميع اللبنانيين…أم ثمة حاجة إلى توضيح أكثر بعدما تبيّن، بالملموس، أن هناك وضوحا ليس بعده وضوح في لبنان.
في أوائل عام 2016 كتبت مقالة تحت عنوان (بيد من سقطت الموصل؟) وذكرت فيها أن الموصل لم تسقط وإنما سلمت تسليماً (لداعش)، وأن السبب في ذلك يعود إلى خدمة المشروع الطائفي الذي يتولى التخطيط له الحرس الثوري الإيراني. وقلت وقتها أن الموصل سلمت (لداعش) بهدف كسر الروح العسكرية وسمعة الجيش العراقي، والذي كان قد انسحب انسحاباً فوضوياً من المراكز الدفاعية عن الموصل، وذلك بأوامر من (نور المالكي) الرئيس العراقي وقتها. لقد كان الانسحاب مستغرباً من الجميع؛ وجميع هذه الأحداث صنعت صناعة لإيجاد قوة عسكرية راديكالية طائفية شبيهة للحرس الثوري الإيراني.
إن الاتفاقية التي تمت بين (حسن نصرالله) و (داعش) من أجل إخراجهم من لبنان والذهاب بهم إلى العراق بمباركة الولي الفقيه لهو أكبر دليل على أن (داعش) كان وجودها في العراق والشام من أجل تكريس النفوذ الإيراني والطائفية..
وقد تحقق ما أشرنا إليه بإيجاد قوة الحشد الشعبي؛ والتي بدأت معالمها الطائفية الصفوية بالظهور والاستبانة. فمن أماني أغلب المجموعات الراديكالية الطائفية الموجودة في العراق حالياً أن يكون لها جيشاً شبيهاً بالحرس الثوري ينفذ المشروع الصفوي الطائفي المشين. وقد بدأت علامات تكّون هذه القوة بالظهور هذه الأيام، ومما يؤكد هذا الكلام أن هنالك فصائل أصبحت تطلق على نفسها مسمى «حزب الله العراق»، وغير ذلك.
إن الاتفاقية التي تمت بين (حسن نصرالله) و (داعش) من أجل إخراجهم من لبنان والذهاب بهم إلى العراق بمباركة الولي الفقيه لهو أكبر دليل على أن (داعش) كان وجودها في العراق والشام من أجل تكريس النفوذ الإيراني والطائفية.
وبما أن داعش قد سقطت عسكرياً قبل أوانها المقرر، فلا بد أن يعاد شيء من القوة لها أي (داعش). (فداعش) والحرب على (داعش) هو ما صنع الحشد الشعبي وكرّس النفوذ الصفوي، ودمر القوة السنية في الرمادي والموصل، فهذه المناطق هي التكتل السني الذي يقع حاجزاً جغرافياً بين النفوذ الصفوي في العراق، والحراك الصفوي في الشام. ولكي تكون الطريق سالكة بانسياب فلا بد أن يزال كل عائق بين العراق والشام. نحن جميعاً نعلم أن (داعش) كانت تستفيد من موارد تهريب البترول والآثار وكان ذلك يتم بمباركة (بشار الأسد) وتنسيقه، وجميعنا يعلم أن الموصل كان من الممكن استعادتها بأقل الضرر. إن ما لحق بالموصل من ضرر وتدمير لجميع البنى لا يدل أبداً على أن القوات التي كانت تحارب (داعش) كما قيل هدفها تدمير (داعش) فقط! وإنما كان الهدف من وراء ذلك هو تدمير بنية حضارية وإنسانية، وتغيير لطبيعة المنطقة، وهذا ما حدث في الرمادي، فالناس هناك يختطفون ويختفون من غير أن يكون هنالك سبب غير السبب الطائفي. لقد ضخم الإعلام ونفخ في حقيقة هذه الفئات المتطرفة وأعني هنا (داعش)، حتى أن بعض التقارير العالمية ادعت أن (داعش) أصبحت تملك القدرة على التصنيع العسكري المضاهي للصناعة العسكرية التركية، وجميع هذه الأشياء الخاصة (بداعش )، وتضخيمها كانت لأسباب تتفاوت بين الطائفية ونوايا انتهاك حقوق الإنسان.
فمن الأسئلة التي يجب طرحها هي كيف استطاعت جماعة حسن نصر الله التفاوض مع (داعش)؟، وهي التي لم تتفاوض أبداً لا على باب الأسرى، ولا على فك مساجين، ولا على إنقاذ أناس من الإعدام، فكيف حدث أن تتفاوض هذه المجموعة مع جماعة نصرالله، وكيف رضيت جماعة نصرالله بهذه الصفقة التي لم تعد عليهم إلا باستعادة رفات قتلى بمقابل خروج (داعش) بأسلحتها وعوائلها من لبنان؟ علماً أن عناصر حزب الله كانت تهدم البيوت في الشام على رؤوس أصحابها العزل بذريعة اغتيال عنصر واحد من حزب الله. ولا يخف على أحد أن جميع التفجيرات التي استهدفت التجمعات البشرية هي من فعل (داعش) فقط. لقد ثبت أن (داعش) لم يكن هو الوحيد الذي مارس التفجير والقتل داخل حشود مواكب العزاء، بل إن هنالك ما يدل على تورط الحرس الثوري الإيراني وأتباعه في هذه التفجيرات، وكما قيل: إن الغاية تبرر الوسيلة، وقد بدأت معالم انكشاف هذه الممارسات المشينة لتحقيق المشروع الطائفي تظهر وتستبين للعيان والمراقب. وبما أن هذا المشروع الطائفي لم ينضج بعد ولم يقف على رجليه بعد فإنهاء( داعش ) في هذا الوقت ليس من مصلحته، وفوائد وجود( داعش) مازال قائماً حتى هذه الساعة. فوجود داعش في فترات سابقة وآنية كان له فوائد للمشروع الطائفي والذي أدى إلى وجود مليشيات الحشد الشعبي أو حزب الله العراق، وهو ما تأمله وتخطط له الجماعات الصفوية في إيران والعراق. ولنذكر كيف أن قيام الحشد الشعبي قد تم بسبب ما قيل من أن الحشد الشعبي سوف يهجم على النجف والكوفة وكربلاء، وأنه سوف يهجم على بغداد، وبسبب هذه الدعاية تكثف قيام ونشوء الحشد الشعبي إلا أن هذا الحشد لم يقف على رجليه بعد فهو يحتاج إلى عدو ضاغط مثل جماعة داعش تعجل في قيام وازدهار الحشد الشعبي وقوته، ولا ننسى أن طريقة قيام ونشوء الحشد الشعبي شبيهة إلى حد بعيد بقيام وازدهار وتمكن الحرس الثوري. فالحرس الثوري كان في أول نشوئه مليشيات تحرس الخميني، ثم تحولت إلى قوة موازية للجيش الإيراني في الحرب العراقية الإيرانية، وبعد ذلك تحول إلى قوة مهيمنة على مفاصل الدولة في إيران، وهذا ما يخطط له في العراق. فجماعات المشروع الطائفي تخطط لأن يكون الحشد الشعبي هو النواة لقوة موازية للجيش العراقي، وكان خير ذريعة لقيام هذا الحشد الطائفي هو محاربة (داعش)، إلا أن (داعش) بدأت بعد حرب الموصل تلفظ أنفاسها الأخيرة مبكراً، وقبل أن يتم المشروع الطائفي خصوصاً وأن هنالك الاستفتاء على انفصال منطقة كردستان عن العراق وما سوف يتم في الأيام القادمة أن (داعش )من الممكن أن نسمع عن سيطرتها على بعض المناطق الكردية، ولهذا الوجود فوائد لأربع دول معترضة على الاستفتاء وهم (العراق، وإيران، وتركيا، وسورية). فاستمرار الحرب على (داعش) مطلوب لأهداف متباينة عند جميع الأطراف.
التوجه الدولي الذي أفضى إلى اعتماد مسار آستانة كان يقول بالفم الملآن أن لا قدرة على إيجاد حل سياسي راهناً في سورية، وبالتالي البحث عن هدنة تُرحّل الحل إلى أجل بعيد هو البديل عن ضراوة الحرب. استبعاد إمكان الحل السياسي أساسه موضوع الأسد ذاته، وذلك ليس بسبب غياب بديل عنه يؤدي الدور والوظيفة ذاتَيهما، بل لأن إزاحة الأسد تمثل رمزية هزيمة لمشروع، وبقاءه يمثل رمزية انتصار للمشروع ذاته.
في تلك المعمعة يتلازم الإجماع الدولي الذي تقوده روسيا مع التوجه الإقليمي الذي تقوده مصر باعتبار أن هيكل النظام لا يمكن التفريط به، والمؤسسات بما فيها الجيش هي الضامن للحفاظ على مقومات الدولة السورية في المستقبل. الولايات المتحدة التي اشترطت عدم قتال فصائل المعارضة لجيش الأسد منذ البداية سارت بهذه النظرية، وإسرائيل، على غير عادتها في التعامل مع جيوش المنطقة، قبلت بها أيضاً، وبالتالي كان واضحاً أن مشروع الحل الموقت، الذي لا يشترط حرفية مسار جنيف، يفترض انخراط المعارضة بالنظام في شكل من الأشكال، الخلاف هو على النسبة وعلى الضمانات بأن لا تعود سورية دولة استبداد وتُهدَر كل تضحيات الشعب السوري في إطار تسوية كبيرة على حسابه، لكن كيف يمكن أن يظل الأسد وفق هذا التصور؟ وما الحاجة إلى مرحلة انتقالية لو بقي الأسد؟
البروفة الفعلية الأولى لهذا السيناريو لم تكن مُوفقة، فلقد فشلت جهود توحيد أجنحة المعارضة السورية مؤخراً في الرياض. افتراض أن توحيد رؤية المعارضة يستلزم جذب منصتي الرياض والقاهرة إلى المنطق الذي تتحدث به منصة موسكو فيه كثير من التجني على قوى الائتلاف، فالذهاب إلى هدنة تحت ضغط الأمر الواقع لا يشترط التخلي عن التصور الأساسي للحل. وقد بدا أن التوافق مع منصة موسكو يكاد يشبه عملية التوافق مع الأسد ذاته! فالمعروض لم يكن إلا استسلاماً لمقولة أن الإبقاء على مؤسسات ومعالم الدولة في سورية يرتبط حكماً ببقاء شخص الأسد. هذه مكافأه للدور الذي تلعبه روسيا باعتبارها الشرطي الذي يرعى الهدنة لا أكثر، والشبهة تصبح أكثر اتضاحاً عندما يتعلق الأمر بالاتفاقات الاقتصادية وتلك التي توهب أو تُؤجّر المرافق السورية والمقدرات والثروات لروسيا وإيران لعقود من الزمن وكلها ترتبط سياسياً بشخص الأسد وببقاء النظام ذاته أيضاً.
بالأساس لم يكن بقاء النظام وفقاً لهذا التصور مشكلة، المشكلة تكمن في أن يبقى كما هو بخصائصه وطبائعه ورموزه، هذا هو الموضوع، وليس خافياً أن التحول الثوري الذي أعطى الكلمة الفصل للشعوب عام 2011، عاد اليوم ليعطي الإمرة للأنظمة والجيوش. هذه خلاصة مسار تراكمي أفضى، منذ استشهاد الطفل حمزة الخطيب، إلى يقين بأن الأنظمة والجيوش في منطقتنا لا تُحاسَب على فِعلة ولا تُساءل على خطأ، وهي مستعدة لكي تُهزَم أمام العدو على أن لا تفقد هيبتها أمام الشعب. هذا الشعب الذي يُفترض أنه مصدر السلطات! التسويات تجرى في هذا السياق، لا تغيير جذرياً أو إعادة هيكلة للمؤسسات تحدد وظيفة جديدة لدور وطني جديد، ولا هي استنباط لقيادات عسكرية وسطية تُبقي على المؤسّسة وتضمن ديمومة النظام لحين إجراء انتخابات يقول فيها الشعب كلمته النهائية. هذا هو النموذج الذي يلوح في سورية وتعمل القاهرة وموسكو على هذه الرؤية من دون التطرق إلى مصير الأسد، لكن العقبات تكمن في كثير من حيثيات هذا المسار. كيف تدخل سورية إلى سلام أهلي من دون محاسبة أركان النظام والمسؤولين عن إطلاق دورة العنف وعلى رأسهم الأسد، أو من دون مصالحة ترتكز على معايير واضحة، وكيف تجرى انتخابات ويعود اللاجئون الذين قد يعكرون نقاوة وصفاء مجتمعه الذي أصبح، بعد خطابه الأخير، «أكثر صحة وأكثر تجانساً»؟
طبعاً هذا المنطق المقلوب ناجم عن توازن تفرضه الوقائع الميدانية، لكنْ في المقابل لا يوجد مسار قانوني - دولي يدعم عدالة ومشروعية المطالبة بتنحي الأسد، الأمر الذي تبرّره وتشرّعه الأكلاف التي دفعها السوريون جراء تمسكه بالسلطة.
تسليط الضوء على ضرورة توصّل أطياف المعارضة إلى ورقة واحدة قبل الشروع بالحل السياسي، وإن كان من الأفضل أن يتم، إلا أنه بمثابة شرط مسبق بحد ذاته وهو من قبيل التعجيز، وذلك حتى لو احتوت القرارات الدولية على مضامين نجحت روسيا في دسّها بهدف السيطرة على مفاصل الحل. فما الذي يمنع قيام مباحثات متعددة الأطراف، أساسها استعداد النظام لتقديم إصلاحات والتنازل عن امتيازات يملكها، وليس قدرة الشعب أو أطياف المعارضة على هضم تلك التنازلات؟
غطّى غضب بعض أوساط المعارضة السورية على تصريحات ستيفان ديميستورا، المبعوث الدولي إلى سورية، على السؤال الأساس الذي يطرحه أغلبية السوريين والذي يفترض أن تطرحه تلك الأوساط على نفسها منذ زمن، وهو: هل نجحت المعارضة حقاً، بكياناتها السياسية والعسكرية والمدنية، في إدارة صراعها مع النظام، وفي إدارة أحوالها، بأقوم وأسرع ما يمكن؟ وإذا كانت نجحت فأين وكيف؟ فهل استطاعت مثلاً تشكيل كيان وطني جامع يمثل أو يعبر عن السوريين أو معظمهم؟ وهل دافعت عن المقاصد الأساسية للثورة المتمثلة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية في وجه الخطابات الطائفية والمذهبية والأيديولوجية والفئوية أم اشتغلت على محاباتها؟ ثم هل حدث ذلك في محاولاتها تفكيك جبهة النظام وتالياً توسيع جبهتها؟ أو في نجاحها في صراعها العسكري ضده؟ أو تمثل ذلك، مثلاً، في نمط إدارتها «المناطق المحررة»؟ وأخيراً هل شهدنا ذلك في تعزيزها صورتها أمام شعبها وأمام العالم؟ أو في تخفيفها مآسي السوريين اللاجئين في بلدان اللجوء؟
في المقابل، أي إذا كانت المعارضة لم تنجح، بعد مرور حوالى سبعة أعوام، فما الذي تفعله إذاً لتدارك هذا الواقع والارتقاء بأوضاعها وأدائها؟ ولماذا تنكر ضعف تمثيلها أو ضعف قدراتها أو ضعف تواصلها مع شعبها؟ أو لماذا لا تعترف بقصورها وتنتقد أحوالها، وتراجع تجربتها في السياسة والعسكرة، وتوضّخ لشعبها ما حصل؟ أي لماذا لا تبحث المعارضة في أسئلة من نوع أين أخطأت وأين أصابت وماهي المعوّقات، أو ماهي العوامل المؤثرة التي حالت دون قيامها بالمهمات المنوطة بها؟ وأخيراً ما الذي يتوجب عليها فعله كي لا تعيد انتاج التجربة ذاتها وكي تضع السوريين على سكة الخلاص، أو أقله على سكة توقف التدهور الحاصل؟
واضح من ذلك أن المعارضة أخطأت بتسرعها في الرد على ديمستورا، ولاسيما بخلطها بين الثورة والمعارضة، إذ الأولى كفكرة وكرؤيا وكحاجة وكمشروع، تتوقف أو تستمر تتراجع أو تتقدم، تخبو أو تشتعل، في حين أن الثانية، أي المعارضة، قد تنجح وقد تفشل، قد تنتصر وقد تنهزم، كما قد تنحرف أو قد تدخل في مساومات اضطرارية أو وفق مصالح المهيمنين عليها، أي لا يوجد شيء يقيني أو حتمي لا في الثورات ولا في المعارضات. وربما تجدر المصارحة هنا بأنه لا يوجد رابحون في الصراع السوري الطويل والمضني والمعقد، لا النظام ولا المعارضة، وأن الشعب السوري هو الذي يخسر نتيجة استمرار هذا الصراع، سيما على النحو الذي يجري عليه، وفي ظل التنكر الدولي لتضحيات السوريين ومآسيهم، ما يفترض بأن تكون المعارضة الطرف الأكثر تحسساً لأهوال الكارثة السورية التي تسبب بها النظام أساساً، وتسببت بها القوى الإرهابية، التي أضرّت بالشعب السوري وبثورته، والأطراف الخارجية التي تلاعبت بثورة السوريين.
على ذلك فإن ما يفترض ان تدركه أوساط المعارضة، أولاً، أنه لا يمكن الحديث عن ثورة في المطلق، أو إلى الأبد، فالثورات هي حالة انفجارية عفوية وقصيرة الأجل، لذا لا يمكن الحديث عن ثورة لسنوات، لأن هذا الوضع هو دلالة على حالة صراعية بين أغلبية الشعب والنظام (في الحالة السورية)، من دون أن يقلل ذلك من شرعيتها ونبل أهدافها، ولكنه يعطي التوصيف الصحيح (وطبعاً فإن هذا المعيار ينطبق على ما يسمى «الثورة الفلسطينية»). ثانياً، لا يمكن الحديث عن ثورة، بمعنى الكلمة، وهي محصورة في صراع مسلح فقط، تخوضه جماعات عسكرية مختلفة ومتضاربة الأهواء، من دون حراكات شعبية، سيما في وضع باتت فيه أغلبية الشعب أما مشردة أو محاصرة أو مغلوبة على أمرها، فذلك كان يصحّ في العام الأول للثورة، مثلاً، أما في ما بعد فقد اختلف الأمر. ثالثاً، إن إدراك المعارضة واقعها، وحدود إمكانياتها، وقدرات شعبها على التحمل، والمعطيات الدولية والإقليمية المؤثرة، وخوضها الصراع على هذا الأساس، هو الذي يمكّنها من تجنيب شعبها دفع الأثمان الباهظة، والحفاظ على قواها، وتلافي مزيد من المعارك الخاسرة. ولعل كل ذلك قد يعزز صدقيتها، ويسمح لها بمراكمة النقاط في صراع قد يمكن كسبه بإيجاد تقاطعات مع المصالح الدولية والإقليمية، وفي شكل تدريجي، بخاصة في ظل عدم استطاعة الفوز في الصراع بواسطة القوى الذاتية. رابعاً، في الصراع السوري، وغياب أغلبية الشعب عن معادلات الصراع، ووجود واقع خارجي لا يساعد بل ولا يسمح للمعارضة بالحسم، سيما في وضعها الراهن، على ما بيّنت التجربة، لا شيء يعيب المعارضة، أو ينتقص من ثوريتها، مراجعة طريقها، ورسم إستراتيجية جديدة لمواجهة التعقيدات والمداخلات الجديدة، لأن الإنكار أو المعاندة والبقاء على الطريق ذاتها بمثابة وصفة لمزيد من التردّي والتدهور، فضلاً عن أن ذلك ينمّ عن ضعف في المسؤولية السياسية والأخلاقية، لأن مهمة القيادة هي جلب الإنجازات بأقوم وأسرع ما يمكن، وليس مجرد التمسك بالشعارات أو الادعاءات التي لا يمكن إسنادها في الواقع.
وبكلام أكثر تحديداً، فإن المعارضة السورية مطالبة اليوم بتقديم إجابات واضحة، أو وضع إستراتيجية جديدة مغايرة للماضي، هذا إذا كان ثمة إستراتيجية، وذلك للتعاطي مع المتغيرات الحاصلة في الصراع السوري، وفي تموضعات القوى الدولية والإقليمية في هذا الصراع، وضمنها: أولاً، نشوء نوع من التوافق الروسي الأميركي، أو الروسي الإيراني التركي. ثانياً، إخراج «داعش» ولاحقاً «جبهة النصرة»، أو انحسار نفوذهما في الصراع السوري. ثالثاً، صعود مكانة «قوات سورية الديموقراطية»، وأخذها حيزاً مهما في خريطة القوى والجغرافيا السوريين، وطرح المسألة الكردية كمسألة وطنية سورية، بدلاً من تركها للنظام أو للتوظيفات والتجاذبات الخارجية. رابعاً، إخفاق الطريق العسكري لحل الصراع السوري، من جهة النظام والمعارضة، بسبب عوامل خارجية وداخلية، ومعها تحكم القوى الدولية (سيما الولايات المتحدة وروسيا)، بقرار الحل والصراع في سورية.
والمعنى أن مجرد قول المعارضة إن هدفها هو إسقاط النظام لم يعد كافياً، إذ إن أي سوري معارض يستطيع أن يقول مثل ذلك، لكن قيادة المعارضة مطلوب منها أكثر من مجرد التلويح ببضع كلمات، إذ عليها أن توضّح، أيضاً، كيف يمكن لها أن تسقط النظام، بأي قوى ووسائل وتحالفات، وأن توضح هل ستسقطه مرة واحدة، وهل تستطيع ذلك؟ وإذا كانت لاتستطيع فماهي إستراتيجيتها لمراكمة القوى وإسقاطه بالتدريج، أو للحفاظ على قواها وتطوير وضعها بانتظار اللحظة المناسبة؟ هل ستسقطه بواسطة القوة العسكرية أم بالوسائل السياسية أم بالاثنتين؟ وهل تملك ما يمكنها أن تفعل ذلك وحدها أم يلزمها تحالفات وخلق معطيات دولية مناسبة، ومن دون ارتهانات خارجية مضرّة؟ هل يتطلب الأمر شق جبهة النظام، واستقطاب فئات اخرى وتوسيع جبهتها والتصرف كممثل لكل السوريين أم بتكريس الانشقاق الأهلي في سورية وتقديم نفسها كممثل لجزء من السوريين، لا يهم أكانوا أقلية أم أكثرية؟ ثم ماذا عن واقع الأكراد، هل ستبقى تتعاطى معهم في العموميات، أم أنها ستقوم بتقديم مقاربة وطنية ديموقراطية تلبي فيها طموحات الأكراد للتعبير عن ذاتهم كشعب، له حقوق قومية وكأفراد مواطنين. وأخيراً ماهي رؤيتها لسورية المستقبل؟ أي هل ستبقى على مواقفها في محاباة خطابات جماعات المعارضة العسكرية الإسلامية المتطرفة، التي قدمت نموذجا سيئاً للسلطة في إدارتها «المناطق المحررة»، وفي نمط هيمنتها على السوريين في تلك المناطق، الأمر الذي أفاد النظام، أم ستعيد الاعتبار إلى المقاصد الأساسية للثورة باعتبارها ثورة ضد الاستبداد بكل أشكاله، ومن اجله الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، بحيث تكون سورية لكل السوريين، بغض النظر عن اية هوية دينية أو مذهبية أو اثنية أخرى.
هذه أسئلة يفترض بقيادة المعارضة أن تفكر فيها وأن تقدم الإجابات المناسبة عليها، بدل الاكتفاء بالتغطّي بهدف إسقاط النظام، لأن الوضع يستلزم حينها سؤالها ماذا فعلت حقاً لإسقاطه غير الكلام أو مجرد طرح الشعارات؟ ولماذا لم تسقطه حتى الآن؟
الآن، للتوضيح، أو منعاً للالتباس، فإن هذا الكلام يأخذ في اعتباره حجم القوى التي صبّت في خدمة استمرار نظام بشار الأسد، ولاسيما وقوف دولتين معه إلى أخر حد، هما روسيا وإيران، في مقابل الخذلان او الإنكار الذي لاقاه السوريون من قبل دول ما، سميت «أصدقاء الشعب السوري»، وكذلك الفارق في موازين القوى العسكرية، وضعف خبرات السوريين في السياسة، التي حرموا منها لنصف قرن. لذا فإن الحديث هنا يتعلق بدور العوامل الذاتية في تردي أحوال المعارضة، أي قصور الأوساط التي تصدرتها، وتحكمت بمساراتها وخطاباتها وأشكال عملها، وأخطاء المراهنات والارتهانات التي استندت إليها، مع التأكيد أن السياسة هي فعل بشر، وأنها لذلك تستوجب النقد، والتشجيع على التفكير النقدي.
على الرغم من تعزيز وجودها العسكري شمالي حلب، وإجرائها تفاهمات مع روسيا جعلتها جزءا رئيسا من أي ترتيبات تتعلق بالشمال الغربي لسورية، إلا أن تركيا ما تزال تعاني اضطرابا في سلوكها، سواء على مستوى تحقيق أهدافها في المناطق السورية التي تعتبر حيوية لها، أو على مستوى رؤيتها للحل السياسي في سورية.
مشكلة تركيا أنها بحاجة إلى عباءة دولية، روسية أو أميركية، لتمرير سياساتها في سورية، وهذا راجع إلى فشلها على مدار السنوات السابقة في صناعة قوى سورية سياسية/ عسكرية تستحيل إلى كتلة تاريخية قادرة على إحداث الفرق. وهكذا شهدنا ضعف الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وعدم قدرته على أن يكون مرجعا رئيسا لكل القوى السياسية (لا تتحمل تركيا المسؤولية وحدها، لكنها تتحمل العبء الأكبر)، وهكذا شهدنا ضعف القوى العسكرية المدعومة من تركيا، وعدم قدرتها على فرض انتصارات مستدامة. وقد جعل هذا الواقع تركيا أضعف من أن تفرض شروطها على اللاعبين الدوليين الرئيسيين (روسيا/ أميركا)، وأضعف من أن تجترح مسارها الخاص في بيئةٍ تتشابك فيها قوى محلية وإقليمية ودولية.
صحيح أن التحالف مع روسيا سمح لها بالحصول على حصة جغرافية مهمة داخل سورية، ومكّنها من أن تكون ضمن الأطراف الخارجية الفاعلة في الملف السوري، لكن هذا التحالف اضطرّها في المقابل إلى تقديم تنازلات سياسية ـ عسكرية، أثرت على حضورها وتأثيرها في المجال السياسي والعسكري للمعارضة، ما جعلها أضعف أمام الروس، في حين يبدو هؤلاء أكثر قوةً، ليس بسبب إمكاناتها العسكرية فحسب، بل أيضا بسبب امتلاكها ناصية القرار العسكري داخل سورية، وقدرتها على ضبط إيقاع النظام والقوى التابعة له.
نجحت أنقرة في تحصيل مكتسبات عسكرية لا تُغفلها العين، لكنها فشلت في استكمال هذه النجاحات. منحها موقعها الجيوسياسي أفضليةً مقارنة بالدول الإقليمية الأخرى، غير أن الحضور الروسي ـ الأميركي الكثيف في الشمال السوري موضع مكانتها وقلص خياراتها، لتجد نفسها، في نهاية المطاف، في منزلةٍ بين المنزلتين، فتكون الحلول المقترحة وسطية، لا تحقق مصالحها، لكنها لا تهدّدها. هكذا كان الأمر في المناطق الجغرافية غرب "درع الفرات"، حيث انتشرت قوات روسية وقوات للنظام في تل رفعت ومحيطها، فهذه المنطقة، وفق القاموس الروسي ـ الأميركي، لا يمكن أن تكون تابعة للأتراك، كي لا تتحول الأخيرة قوة ضاربة في الشمال الغربي من سورية، ولا يمكن أن تشكل في المقابل تهديدا لتركيا.
ينطبق الأمر نفسه على محافظة إدلب، فموسكو وواشنطن ليستا بصدد منح المحافظة للأتراك، بسبب موقعها الجغرافي وثقلها الديمغرافي ووزنها العسكري، وليستا أيضا في وارد منح المحافظة لقوى معادية لتركيا. ولذلك، جاءت الحلول المقترحة حيال إدلب تلفيقيةً أكثر منها توافقيةً، كما هو الحال مع الطرح التركي بتشكيل هيئة إدارة محلية مدنية لمدينة إدلب وريفها. فهذا الطرح لا يستقيم مع هيئة تحرير الشام التي أعدت العدة منذ انقلابها على "أحرار الشام" للمواجهة العسكرية، وما طرح الهيئة مشروع "الإدارة المدنية للشمال السوري" إلا تمويه يتماثل تماما مع التمويه الذي أجرته جبهة النصرة، حين غيرت اسمها إلى "جبهة فتح الشام".
ومع ذلك، حقق المشروع التركي هدفا مهما بكشفه صراحةً أن محافظة إدلب لا يمكن اختزالها بهيئة تحرير الشام"، حيث هناك قوى عسكرية وطنية ذات طابع علماني، وهناك قوى مدنية قادرة على استلام إدارة المحافظة،ح وهناك قاعدة شعبية نابذة للهيئة، لكن هذه الحلول الوسطية تبقي التوتر التركي قائما في غياب الرؤية الواضحة الناجمة أصلا عن عدم حصول توافقات دولية حيال المناطق السورية المحاذية لتركيا. وليس معروفا إلى الآن ما هي المخططات التركية، فرئيس الوزراء، بن علي يلدريم، أعلن صراحة أنه لا توجد نيات لدى بلاده لشن هجوم عسكري على المحافظة، في وقت يجري التخطيط بين تركيا وإيران لاحتواء المخطط الأميركي ومنع "قوات سورية الديمقراطية (قسد) من دخول محافظة إدلب. وأمام هذا الوضع، يبدو السيناريو الأفضل الذي قد يرضي جميع الأطراف أن تعطى المحافظة للنظام السوري.
ومع أن موسكو رفضت، أخيرا، شن النظام هجوما على إدلب بدعم من إيران، إلا أنها قد تقبل به، خشية أن يصبح الشمال السوري بكامله بيد الولايات المتحدة، وقد تلقى في ذلك قبولا من تركيا التي تتحمل وجود النظام في إدلب، ولا تتحمل وجود وحدات حماية الشعب (الكردية) فيها. كما أن الولايات المتحدة التي دفعت الدول الغربية والإقليمية المعارضة للقبول بالأسد جزءا من الحل السياسي قد تقبل بوجود النظام في إدلب، وهو خيار أفضل بكثير من جعل المحافظة تحت الهيمنة التركية. لكن المشكلة التي تواجهها الإدارة الأميركية أن دخول النظام إلى إدلب يعني دخول القوات المدعومة من إيران، ذلك أن النظام غير قادر وحده على شن مثل هذه العملية. وقد تقبل واشنطن مشاركة القوى التابعة لإيران، شرط أن تخرج من المحافظة بعيد استكمال السيطرة عليها. ولكن هذا السيناريو يتطلب أيضا التفاهم مع أنقرة، بسبب وجود فصائل مسلحة مدعومة منها، داخل المحافظة وفي المناطق الحدودية داخل محافظة حلب، وقد يكون الثمن إعطاء تركيا مساحة جغرافية واسعة في حلب، أو توسيع منطقة "درع الفرات". وفي الحالتين، سيكون الحضور العسكري التركي جزءا من اللوحة المرسومة بأيد روسية.
يستعيد النظام السوري سيطرته على دير الزور المدينة من "داعش"، في مشهدٍ مكرّر لما تم سابقاً في تدمر، وكأننا أمام حليفين يتبادلان مواقعهما، حيث تتطلب مصلحة النظام ذلك، وحيث استطاع التنظيم إلحاق الهزيمة بالجيش الحر، كما حدث في مناطق عديدة، في وقت فشل النظام ومليشياته الطائفية المساندة له في هذا الأمر، سواء في الرّقة أو دير الزور أو مخيم اليرموك ومنطقة جنوبي دمشق، أو بعض الثغور في ريف دمشق.
وتأتي معركة النظام المستعجلة لـ"تحرير" دير الزور في وقتٍ تتزاحم فيه حشود القوى التي تطالب بدخول هذه المعركة الحاسمة ضد التنظيم الإرهابي الذي سيطر على هذه المدينة قبل ثلاثة أعوام (يوليو/ تموز 2014)، بعد سقوط الرّقة في يد هذا التنظيم، والذي كان سيطر على الموصل في العراق قبل ذلك من دون معارك حقيقية تبرّر انهيار القوات العراقية وانسحابها المفاجئ، إضافة إلى الدور الكبير الذي لعبته المداخلات الدولية والإقليمية في ظهوره وتوسّع انتشاره، واحتلاله حيزاً كبيراً في مشهد الصراع في العراق وسورية بداية، ثم تحوّل هذا الصراع إلى مهمةٍ أساسيةٍ لكل القوى في المنطقة، في محاولة لتغيير مواقع الجبهات وأهدافها، من صراع بين المعارضة والنظام إلى صراع ضد الإرهاب.
لم تفطن المعارضة الإسلامية المسلحة إلى الأدوار المنوطة بهذا التنظيم الإرهابي، بل احتفت ببعض معاركه الوهمية لاحتلال مساحات من سورية، ووقفت مع من يساندها من المعارضة السياسية ضد التحالف الدولي وضرباته للتنظيم، من دون الالتفات إلى أن "داعش" كان يعمل ضمن الأراضي التي يسيطر عليها "الجيش الحر"، وليس النظام، كما أنه سيطر على المناطق الشعبية الحاضنة للثورة، لا سيما في محافظتي الرّقة ودير الزور، كما أسهم في تشويه الثورة السورية، وترويج دعاية النظام في أن الحرب في سورية هي ضد الإرهاب وضد الجماعات الدينية المتطرفة.
في حين كان النظام وحلفاؤه (إيران ومليشياتها خصوصاً) هم أكثر من استثمر في هذا التنظيم الذي لم يلق أي مواجهة منهم، طوال السنوات الثلاث الماضية، ما يلفت الأنظار إلى مشهد قافلة "الدواعش" الذين يجري نقلهم في حافلاتٍ مكيّفة، من الحدود اللبنانية إلى الشرق السوري، نتيجة اتفاق عقده حزب الله (بالوكالة عن إيران) معهم. ولعل هذا المشهد يكشف الأدوار التي لعبها "داعش" لمصلحة النظام من جهة وحزب الله من جهة أخرى، سواء على الأراضي السورية، حيث منحته فرصة السيطرة على القلمون الغربي الذي صمد طويلاً قبل أن "يحتله" داعش، كما قدمت لحزب الله فرصةً لبنانية فريدة لتظهيره "مخلصاً" للبنانيين من الوجود الداعشي على أراضيهم، وتخفيف أعداد اللاجئين السوريين، بعد موجة تحريضٍ من إعلام الحزب ضدهم، تضمنت كثيراً من اختلاق الأكاذيب حولهم بإظهارهم سبباً في "زعزعة الأمن والاقتصاد اللبنانيين".
وتأتي البيانات "الإنسانية" الصادرة عن الحزب المذكور وعن الخارجية الإيرانية، والتي تلقي باللائمة على الطرف الأميركي الذي يضيّق على القافلة، ويأخذ عليه تهديد "المدنيين"، الأمر الذي لم نشهد مثله في تعامل إيران وحزبها في حربهم ضد السوريين، وحتى في تعاملهم مع اللاجئين السوريين في لبنان، لتشير إلى أن الحزب وإيران اللذيْن لم يلتزما بالقرارات الدولية لفكّ الحصار عن المدن السورية يدافع، في هذه البيانات، عن مصلحته المستمرة في وجود هذا التنظيم وسلامة عناصره، ربما لأنهم سيكونون العون له في معركة الفصل الكبرى في ريف دير الزور وليس في المدينة.
من المفيد التذكير أن معركة دير الزور، وأقصد المناطق الحدودية التي تصل "سورية المفيدة" التي يسيطر عليها النظام بالهلال الشيعي، تعيدنا إلى وقائع معركة حلب التي أدت إلى رسم خريطة طريق جديدة لمسار المفاوضات في جنيف، بعد أن أدخلت مسار أستانة إلى واجهة العمل المسلح والسياسي في آن معاً، وفتحت الطريق أمام اتفاقات فوق تفاوضية (مناطق خفض التصعيد)، ما يعني أن إنهاء "داعش" من الرّقة ودير الزور مرحلة جديدة في الصراع على سورية، تشبه مرحلة إنهاء جبهة النصرة من حلب وحصارها داخل إدلب، ليبقى مصير هذه المدينة مرهوناً بجملة التطورات الجارية في المعارك الآن، وبالأدوار الجديدة لقوات سورية الديمقراطية المدعومة أميركياً، والتي كادت، مراتٍ، تقف على حافّة الحرب مع تركيا.
إنهاء معركة دير الزور اليوم، سواء المدينة أو أطرافها، لا يعني إنهاء الصراع السوري وإنما تجميد حدوده، أي عند خطوط التماس أو خطوط النفوذ الحالية، إلى حين يتم إقرار نوع وطريقة المعركة التي تنهي وجود القاعدة في إدلب (جبهة النصرة)، حيث لا تنفع الترقيعات التي تجريها المعارضة السياسية (حكومة الائتلاف)، ولا تقنع التحالف الدولي بأن هذا ليس إعادة تدوير لجبهة النصرة، تحت غطاء الفصائل المسلحة الأخرى.
من ناحية أخرى، يحيل التطور المذكور إلى خيارين، إدامة الصراع أو وضع حد له، تمهيداً للاتفاق على شكل سورية المستقبل، لكن هذا الخيار أو ذاك سيخضع، على الأغلب، لتوافق، أو عدم توافق، القوى الدولية والإقليمية وبخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، من الناحيتين السياسية والأمنية، بالإضافة إلى أن أي توافق على شكل سورية في المستقبل سيخضع لتوجهات القوى الخارجية ومصالحها، أكثر بكثير مما سيخضع لمصالح السوريين وحقوقهم، خصوصاً في ظل ضعف المعارضة، وارتهاناتها لمصالح القوى الإقليمية، وتشتتها، والفجوة بينها وبين مجتمعات السوريين في الداخل والخارج.
ولكن، هل هناك مساحة لانتصار أهداف الثورة؟ هذا السؤال المهم لكل من يؤمن بأن الثورة عندما انطلقت لم تكن مسلحّة، ولم تكن مرتهنة لممولين، وكانت سورية، بكامل مساحتها، تحت حكم النظام، إجابة السؤال من فحوى السؤال نفسه: "نعم" في الثورات، يبقى الأمل قائماً بانتصار أهدافها، على عكس الحروب التي تعلن القوى انتصارها أو خسارتها، ولأن أهداف الثورة ومقاصدها ليست هي ما ارتهنت للأنظمة المختلفة، وفشل كيانات المعارضة في تحقيق ما يريده السوريون لا يعني فشل الثورة، وإنما تعثّرها، وهو ما يجب أن نعترف به، كي ننهض من جديد.
صدق المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في توصيفه للوضع الحالي في سورية. سأل المعارضة «هل هي قادرة على أن تتحد وأن تكون واقعية لتدرك أنها لم تربح الحرب»؟ وسأل أيضاً «هل ستكون الحكومة السورية مستعدة للمفاوضات بعد تحرير دير الزور والرقة أم أنها ستكتفي برفع راية النصر»؟ والجواب على السؤالين يعرفه المبعوث الأممي جيداً. ولكن كان الأجدى به أن يتحلى بالقدر المطلوب من الديبلوماسية. أو أقله مراعاة التوقيت. ليس من الحكمة إعلان «هزيمة» المعارضة في يوم إدانة زملائه الأممين المحققين في جرائم الحرب قوات النظام السوري بأنها استخدمت الأسلحة الكيماوية 27 مرة خلال الحرب ومنها في خان شيخون. صحيح أن المعارضة لم تربح الحرب، لكنها لم تهزم ولم تنتهِ فعلاً. ولو سلمت بخسارتها النهائية لانتهت معها مهمته. ولعله نسي تصريحات سابقة له عن عدم جدية النظام في المفاوضات بل عرقلته العملية السياسية في الجولات السابقة. وهي بين أسباب أخرى دفعت سلفيه في المهمة كوفي أنان والأخضر الإبرايهيمي إلى التنحي. علماً أنه يعي جيداً أن النظام كان ولى من زمن لولا دعم حليفيه إيران وروسيا. وهذا باعترافهما معاً. ويعي أيضاً أن الأزمة السورية عسكرها النظام والجماعات المتطرفة التي يقال الكثير عن دوره في تصديرها من سجونه، وعن رعايته ورعاية بعض جيرانه لعناصرها سابقاً أيام الغزو الأميركي، وإثر اندلاع التظاهرات المطالبة بالحرية والمساواة والعدالة في بلاد الشام. لم يوفق المبعوث الدولي، حتى وإن لطّف مواقفه بالإشارة إلى «أن لا أحد يمكنه القول إنه ربح الحرب».
وصدق «الائتلاف الوطني المعارض» في الرد على المبعوث الدولي بأن تصريحاته «هزيمة للوساطة الأممية»، وأن «عملية جنيف بهذا الشكل تفقد صدقيتها». لكن قادة المعارضة الذين لم يعجبوا بدي ميستورا منذ البداية، يأخذون عليه أنه ينسق خطواته وآراءه بما يتماهى مع الموقف الروسي إلى حد ما، إنما بغطاء أممي. لذلك كان عليهم أن يتوقعوا منه ما قال، فلا يصابون بـ «الصدمة» من مواقفه الأخيرة. وهو ليس الوحيد بين من يدعوهم إلى التعقل أو الواقعية. فهو يقرأ جيداً مثلما هم يقرأون أن «أصدقاءهم» سلموا لموسكو بدورها الأول في إدارة الأزمة السورية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. ولا يحتاج الرجل إذاً إلى مراعاة المشاعر أو التمسك بلغة ديبلوماسية من أولى صفات الوسطاء أو المبعوثين. منذ ثلاث سنوات وهو يتابع تنفيذ رؤية روسيا للتسوية. وما دام هناك شبه إجماع إقليمي ودولي على هذه الرؤية فإن من مصلحته الشخصية ربما أن يسير خلفها لعله يكون هو «الفائز» بهذه الحرب حيث فشل سلفاه! ولكن من حق المعارضة التعبير عن استيائها. فكيف يمكن مبعوثاً دولياً أن يدعو طرفاً في الحرب عدّه «مهزوماً» إلى مفاوضات سليمة وجدية وعادلة؟ كأنه يدعو ببساطة إلى تقديم تنازلات. بالطبع لا يشكف دي ميستورا جديداً بدعوة هذه المعارضة إلى وحدة تبدو مستحيلة لأسباب تتعلق بمكوناتها، مثلما تتعلق أكثر برعاتها في الخارج. وهو يدرك مثلها السبب وراء تشتتها. كان حرياً به أن يتحدث عن التغيير الذي نادى به بيان جنيف الأول (حزيران/ يونيو 2012) بدل أن يركب عربة مشروع الكرملين الذي لم يفعل شيئاً منذ دفع قواته إلى الميدان سوى طي صفحة هذا البيان، والعمل على إعادة تأهيل النظام. ألا يقرأ ما يكتب عن محنة سورية التي هجر نصف سكانها إلى الداخل والخارج ودمرت مدنها ودساكرها فضلاً عن مئات ألوف الضحايا فيما الدول المسؤولة عن حماية المدنيين من بطش حكامهم لا ترى ولا تسمع!
صحيح أن المعارضة لم تربح الحرب، ولن تربحها في ظل موازين القوى الحالي. إذ لا تقتصر عناصر هذا الميزان على حركة الميدان فقط، بل في صلبها شبكة العلاقات التي ينسجها كل من المعارضة والنظام. الفصائل التي حملت السلاح بعيداً من «داعش» و «النصرة» توزعت مجموعات بالمئات بل بالآلاف، وهذا ما سهل على اللاعبين الخارجيين استقطابها ثم الإمساك بقرارها. ولا يصح بعد هذا أن تلومهم بالتخلي عنها. قوات «جبهة الجنوب» التي قارب عديدها أربعين ألفاً تمتعوا برعاية أردنية وعربية وأميركية. ولم يصدر عنهم في السنتين الأخيرتين أي حراك. لذلك لم يعد لها أي دور قتالي والزمن زمن إقامة مناطق خفض توتر، سوى اللحاق بالحرب على «تنظيم الدولة» إلى جانب «قوات سورية الديموقراطية» وقيادتها الكردية، أو المساهمة في توفير أسباب الهدنة... لعلها تنتظر دوراً في المستقبل كما كان حالها في الماضي القريب. بل إن قوات النظام هي التي تتقدم للإمساك بالحدود مع إسرائيل والأردن. وعمان تعمل على إعادة بناء العلاقات مع دمشق لأسباب كثيرة داخلية معروفة وخارجية أولها هذا التردد الأميركي من أيام إدارة الرئيس باراك أوباما، ثم إهمال خلفه دونالد ترامب الذي سلم الراية لروسيا، وأوقف برنامج المساعدات العسكرية والمالية عن الفصائل. همّ البيت الأبيض فقط هزيمة «داعش». فيما سياسته لتطويق نفوذ إيران لم يعد لها أي معنى ما دام أن النظام وحليفه الإيراني يتقدمان كل يوم لملء الفراغ الذي يخلفه تقلص جغرافيا المعارضة المعتدلة من جهة وتآكل خريطة «دولة الخلافة». ولا شك في أن استكمال تحرير دير الزور سيتيح لطهران تعزيز «طريقها» إلى ساحل المتوسط.
جميع الرعاة الإقليميين والدوليين للمعارضة يدعونها، كما فعل المبعوث الدولي إلى الواقعية، ويلحون على وفد موحد إلى مفاوضات جنيف قريباً. «الائتلاف الوطني» يبدو أعزل ومعزولاً لا حيلة له ولا قوة. ويتعذر على «الهيئة العليا للمفاوضات» أن تصل إلى تصور واحد مع «منصة القاهرة» و «منصة موسكو». وإذا كانت الأولى ترغب في تأجيل بند رحيل الرئيس بشار الأسد أو حرمانه من أي دور في «المرحلة الانتقالية»، فإن الثانية ترفض البحث في هذا البند نهائياً، وتتحرك تحت عباءة روسيا وتبع رغبتها في بقاء رأس النظام حتى نهاية ولايته في 2021 وتأكيد حقه في الترشح لأي انتخابات رئاسية مقبلة قبل هذا التاريخ أو بعده. ولا ترى حتى ضرورة لإقرار دستور جديد. بل تدعو إلى مواصلة العمل بالدستور الذي أقره النظام في 2012 إثر استفتاء عام مثير لم تشارك فيه المعارضة. وتدرك الهيئة أن رحيل الأسد لم يعد على أجندة أي من «أصدقاء الشعب السوري». الإدارة الأميركية لا يعنيها شيء سوى دحر «داعش». ومثلها أوروبا التي تقر بالعجز عن ردع النظام وإن استخدم الأسلحة المحرمة. وفي المقدمة فرنسا التي كرر وزير خارجيتها قبل أيام ما كان رئيسه ايمانويل ماكرون قاله من أشهر أن بلاده لا تضع رحيل الأسد شرطاً مسبقاً لإطلاق عملية سياسية وبدء المرحلة الانتقالية. ولا حاجة إلى تعداد المواقف التي تبدلت جذرياً منذ التدخل العسكري الروسي. ولعل أبرزها موقف تركيا التي لم يعد يعنيها شيء من الساحة السورية سوى حصار أو قتال الكرد ومنعهم من الفوز بحكم ذاتي. هذا الهاجس المقيم يدفعها كل يوم بعيداً من شبكة علاقاتها التاريخية القديمة مع الولايات المتحدة الداعم الرئيس للكرد. ويدفعها إلى تمتين تحالفها مع روسيا وإيران.
هذا ما يعرفه دي ميستورا عن وضع المعارضة. ويعرف أكثر أن النظام السوري لا يملك قراره وإن قدم إليه حليفاه انتصارات وأعادا سلطته إلى أراضٍ واسعة. فهو عاجز اليوم وغداً عن الحد من هيمنة روسيا وإيران. ويجب ألا يغيب عن باله كوسيط دولي أن ما يهم موسكو حالياً بالتفاهم مع اللاعبين الآخرين هو التهدئة ووقف الحرب، لأنها كما قال هو نفسه، تحتاج إلى استراتيجية خروج من هذا المستنقع. أما ما يشاع عن «وعودها» بإخراج كل الميليشيات الحليفة لإيران من سورية فيبقى مجرد آمال في الظروف الحالية. تغلغل طهران عميق في قطاعات أساسية في بلاد الشام، من الأمن إلى الاقتصاد والمجتمع والثروة الوطنية نفطاً وغير نفط. ولا يمكن قوة أخرى مواجهتها ما لم تتبدل خريطة التحالفات في الداخل والخارج، وما لم تستجب إدارة الرئيس ترامب دعوات أميركية داخلية إلى ترجمة سياسة مواجهة الجمهورية الإسلامية في سورية والمنطقة عموماً، حفاظاً على ما بقي من مصالح للولايات المتحدة في الإقليم.
صدق المبعوث الدولي. لم تربح المعارضة الحرب، لكنها ستبقى في ثنايا أي تسوية تتجاهل أسباب انفجار الأزمة منذ ست سنوات. خسرت الحرب إلى حين لكنها لم تخسر القضية. وكذلك النظام انتهى من سنوات، ولم ولن يربح، وإن أعلن الأسد قبل أيام أن علامات النصر واضحة في ظل تقدم المعارك. وصدقت نظرة المعارضة إلى دي ميستورا. فهو أيضاً فشل ولم ينجح بعد ثلاث سنوات. وأسباب فشله تكاد تكون هي نفسها أسباب فشلها: تخلي المجتمع الدولي عن سورية وشعبها وتقدم روسيا وإيران إلى ملء الفراغ الأميركي... وعوامل أخرى كثيرة.
أثارت تصريحات مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، أخيرا، وطالب فيها المعارضة السورية بالواقعية والإقرار بالهزيمة أمام النظام الأسدي، سخط معظم أوساط المعارضة واستنكارها، وخصوصا الهيئة العليا للتفاوض التي اعتبرها منسقها العام، رياض حجاب، تصريحاتٍ غير مسؤولة، وتعكس سقوط الوساطة الأممية ممثلة بشخص دي ميستورا، فيما اعتبر كبير مفاوضي وفد المعارضة إلى جنيف، محمد صبرا، أن دي ميستورا لم يعد وسيطاً مقبولاً، لأنه فقد حياده، وتكلم كجنرال روسي.
واللافت أن تصريحات دي ميستورا تزامنت مع إعلان لجنة التحقيق الأممية أن نظام الأسد قام بهجمات بالأسلحة الكيميائية سبعا وعشرين مرة خلال حربه الشاملة ضد الحاضنة الاجتماعية للثورة السورية، واستخدم غاز السارين في هجومه على بلدة خان شيخون في أبريل/ نيسان الماضي. ولذلك اعتبرت أوساط المعارضة السورية التصريحات أنها جاءت للتغطية على جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد، حسب التقرير الأممي.
ولعل الكلام عن الواقعية يذكّرنا بأن دي ميستورا لم يطالب نظام الأسد بالواقعية، والإقرار بخسارة الحرب قبيل التدخل العسكري الروسي المباشر، حين فقد النظام السيطرة على معظم سورية، وكان يسيطر على أقل من ربع مساحتها خلال النصف الثاني من العام 2015، حيث أظهرت الوقائع الميدانية والعسكرية تقدماً كبيراً للمعارضة السورية المسلحة، وتراجع قوات النظام في المناطق التي كانت تسيطر عليها، بعد أن سيطرت فصائل الجبهة الجنوبية على معظم محافظة درعا، بما فيها المعابر الحدودية مع الأردن. وحدث الأمر نفسه في جبهة إدلب وريفها، حيث تم دحر قوات النظام وإخراجها من مدينة إدلب وما حولها، ثم سيطرت المعارضة على مدينة جسر الشغور، وهو أمر اعترف به وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، حين قال إنه لولا التدخل الروسي لسقط النظام خلال أسبوع أو أسبوعين.
ولا شك في أن دي ميستورا يريد أن يستثمر، في تصريحاته، ما تشهده القضية السورية من تطورات ومتغيرات خطيرة في أيامنا هذه، في ظل انعدام أي أفق حقيقي لحل سياسي يحقق طموحات الشعب السوري في الحرية والخلاص من الاستبداد، وتحول الصراع في سورية وعليها إلى تقاسم نفوذ بين القوى الدولية والإقليمية التي تخوض في الدم السوري، وتضع مصالحها القومية والأمنية فوق أي اعتبار، وباتت تنظر إلى القضية السورية وفق ما تراه روسيا نزاعاً أهلياً، يحتاج إلى تبريد الجبهات، بغية تهدئة الأوضاع، عبر عقد مصالحات واتفاقات وقف إطلاق النار، وتقسيم سورية إلى مناطق خفض للتصعيد وأخرى مستثناة منه، إلى جانب مناطق السيطرة والنفوذ الأميركي والروسي والإيراني وسواها، وفق ما تقوم به هذه القوى، وتحاول تثبيته على الأراضي السورية.
والخطير في الأمر أن دي ميستورا ينحاز إلى ما يقوم به الروس والأميركيون والإيرانيون، والذي يهدف إلى إعادة إنتاج نظام الأسد، وإبقائه جاثماً من جديد على صدور السوريين. لذلك أراد من تصريحاته إيصال رسالة إلى المعارضة السورية، لكي تذعن لما تتطلبه المتغيرات والتطورات الجديدة، وإلزامها بمخرجات هذه التطورات ومفاعيلها.
ولعله يُراد من قضية توحيد المعارضة التي يركز عليها دي ميستورا إدخال أعضاء منصتي موسكو والقاهرة إلى الهيئة العليا للتفاوض، بغية تطويع المعارضة السورية وفق سياسات الساسة الروس والأميركيين ورغباتهم وتوجهاتهم، كي تقبل بالأسد خلال المرحلة التفاوضية وما بعدها، وهو أمر يرفضه السوريين الذين خرجوا طلباً للحرية واسترجاع الكرامة والخلاص من الاستبداد، وليس لكي يحققوا نصراً عسكريا، حسبما يزعم دي ميستورا الذي لا تغيب عنه محاولة استغلال ما جرى في الجولة الرابعة من جولات جنيف التفاوضية، التي لم تكن جولات تفاوض بالمعنى الحقيقي للتفاوض، بقدر ما كانت مشاورات ومباحثات بينه وبين مختلف الوفود، حيث استغل دي ميستورا هفوة قبول الوفد التفاوضي اقتراحات سلاله الأربع التي أعطى فيها الأولوية لمكافحة الإرهاب، نزولاً عند رغبة وفد النظام والروس، ثم راح يطالب بوفد تفاوضي موحد، فرضح وفد الهيئة العليا، وقبل الذهاب إلى الجلسة الافتتاحية مع وفد منصتي القاهرة وموسكو في قاعة واحدة مع وفد النظام، الأمر الذي اعتبره دي ميستورا إنجازاً كبيراً، وراح يطالب بتشكيل وفد موحد للمعارضة بمنصاتها الثلاث، وزاود الساسة عليه بضرورة ضم ممثلين عن حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، صاحب المشاريع الانفصالية عن سورية.
مشكلة دي ميستورا أنه يتصرف كموظف أممي، يريد الحفاظ على موقعه، ولا يعنيه كثيراً سيلان الدم السوري، أو تحطيم الثورة السورية والضرب بطموحات شعبها في التغيير السياسي، بل تعنيه مخططات الدول الخائضة في الدم السوري التي ركزت خلال السنوات السبع الماضية على إدارة الملف السوري، بوصفه أزمةً يجب تجنب إرهاصاتها الخارجية. لذلك حين بات الروس أصحاب كلمة قوية في هذه الأزمة، استدار نحوهم طالباً رضاهم، وبات ينظر مثلهم إلى الثورة السورية أنها مجرد نزاع داخلي، أهلي طائفي، وذلك بعد أن مكّنت الآلة العسكرية الروسية النظام من إعادة السيطرة على مناطق عديدة في سورية، وتقاسمت موسكو النفوذ مع واشنطن وطهران، وها هي تقوم بمحاولات لإعادة فرض الأسد على السوريين، ثم جاء الدور على إعادة تطويع المعارضة، لكي توافق على هذه العملية، خصوصا وأنها تحضر لعقد اجتماع الرياض 2، وستكون كل الاحتمالات مفتوحة عند انعقاده المرتقب.
ويبقى أن المسألة السورية هي مسألة شعب يتطلع إلى الحرية وبناء سورية جديدة، لا مكان فيها لحكم آل الأسد، وليست كما يصورها دي ميستورا في خسارة المعارضة عسكرياً أو انتصار معسكر النظام وحلفائه، وستبقى كذلك إلى أن يحقق هذا الشعب طموحاته.
يطيب الحديث، في الأيام الأخيرة، وهي تشهد تصفيات كأس العالم لكرة القدم، والمؤهّلة لمونديال موسكو في العام المقبل، عن ضرورة الفصل بين السياسة والرياضة عموماً، وبينها وبين كرة القدم خصوصاً.
تُحرّض هذه الحالة على استرجاع علمي مُبسّط للعلاقة الحميمة القائمة بين المشاريع السياسية الداخلية، كما الرهانات الجيوسياسية الإقليمية والدولية من جهة وكرة القدم من جهة أخرى. حيث تحفل أدبيات العلوم السياسية والأنثروبولوجيا، الغربية عموماً والفرنسية خصوصاً، بكتابات موسّعة في هذا الحقل، تجمع في جنباتها كباراً، كما بيير بورديو وكتابه الأساس في هذا الموضوع "قضايا كرة القدم"، والصادر سنة 1994.
وفي علم الاجتماع الغربي، يُجمع المختصون على أن النادي الرياضي يُشكّل ساحة مواجهة بين النخب، باعتبارها مدخلاً للوصول إلى السلطة، فكما بين فرق المدينة الواحدة الأوروبية التي تُمثّل مصالح متعارضة بين يسار ويمين، أو بين كاثوليك وعلمانيين، فإن الحالة الإسبانية تُعزّز الحالة المناطقية التي تتمثّل بالمطالبات الانفصالية، كما فريق برشلونة الكاتالوني أو أتليتيكو بيلباو الباسكي. وتوضح التباينات الطبقية التي تضع فريق ريال مدريد القريب من حقل الأعمال واليمين التقليدي، في مواجه أتليتيكو مدريد القريب من الحقل العمالي واليسار. ومن جهة أخرى، يتوضّح في المشهد الأيرلندي الشمالي الانقسام الديني، حيث فريق بلفاست محصور بأعضاء المذهب البروتستانتي، ويقابله من الطرف الكاثوليكي فريق كليفتونفيل.
من جهةٍ أخرى، يمكن أن تُشكّل هذه اللعبة عامل اندماج رمزي بين مكونات بلدٍ ما، كما حصل ذلك غداة الفوز الفرنسي بكأس العالم سنة 1998. وبسبب أهمية هذه اللعبة إعلامياً على الأقل، فقد سعى القوميون، من كل الأصناف، دائماً لاستغلالها. ولم يقتصد أي نظام شمولي، أو تسلطي، في استخدامها وسيلة دعاية فعّالة في البروباغندا الرسمية. ففي زمن الفاشية الإيطالية التي كانت تنظر بعين الريبة إلى اللعبة، على أساس أنها مستوردة من بريطانيا، فقد اعتبر موسوليني أعضاء الفريق الوطني "جنودا من أجل قضية الأمة". وكما الفاشيين، فعلى الرغم من عدم اهتمامهم الذاتي بلعبة كرة القدم، إلا أن القادة السوفييت استغلوا اللعبة أيضاً، اعتباراً من خمسينيات القرن الماضي، بعد أن وضع الجيش والشرطة والمخابرات أيديهم على الفرق الرئيسية في العاصمة موسكو. أما في يوغسلافيا السابقة، فاستعملت اللعبة وسيلة لتعزيز القومية المتطرفة من خلال سيطرة أجهزة أمنية وعسكرية على الفرق الرئيسية. تم استغلال كرة القدم دائماً في الحقل السياسي، فكما كان منتخب إيطاليا في الثلاثينيات هو السفير المميز للفاشية الإيطالية، فقد لعب المنتخب الأرجنتيني دوراً تلميعياً لعسكر الأرجنتين الدمويين، عندما أحرز كأس العالم سنة 1978. وفي سنة 1969، أدت مباراة كرة قدم إلى حرب بين السلفادور وهندوراس أوقعت ألفي قتيل، بعد أن غزت قوات السلفادور دولة هندوراس. كما وقعت مناوشاتٌ حدودية بعد المباراة النهائية لكأس العالم التي جمعت أوروغواي والأرجنتين سنة 1930.
عربياً، استخدمت جبهة التحرير الوطني الجزائرية لعبة كرة القدم أيضاً سلاحا فعالا في حرب التحرير، حيث كان الفريق المُشَكّل منها سفيراً فعالاً للقضية الوطنية، على الرغم من أن الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) منع الفرق الأخرى من مواجهة هذا الفريق. كما ساعدت كرة القدم كوسيط دبلوماسي بين الدول، كما حصل في كأس العالم في فرنسا سنة 1998 حيث جمعت إيران مع أميركا، أو في عام 2002، حيث نظم الإخوة الأعداء في اليابان وكوريا الجنوبية كأس العالم بشكل مشترك على أرضيهما. وفي عامي 2008 و2009، استغل الأتراك والأرمينيون المباريات التأهيلية لكاس العالم التي جمعت منتخبي بلديهما وسيلة للتقارب الدبلوماسي. وقد قادت "دبلوماسية كرة القدم" هذه البلدين إلى توقيع اتفاقية تاريخية بينهما قبل مباراة الإياب في أكتوبر/ تشرين الأول 2009.
وفي ظل الأنظمة الاستبدادية العربية المتنوعة، كانت الملاعب، وما تزال، من الأماكن النادرة التي يمكن للاحتجاجات السياسية أن تعبر عن نفسها. كما أن تشجيع هذا الفريق أو ذاك كان يُعطي لصاحبه هوية سياسية. كما أن أناشيد المشجعين، على الرغم من تقيّتها، فقد كانت تحمل رسائل سياسية احتجاجية واضحة. ولمن يعرف الملاعب السورية، فهو يذكر تماما حمولة هذه الأناشيد والشتائم الجماعية الموجهة لهذا الفريق أو ذاك. وفي الحقيقة، لما تمثله الفرق من حمولة سياسية أو أمنية. كما أن شتم الحكم على أرض الملعب كان متنفساً فعالاً لشتم الحاكم مواربة. والمتابعة للحالة المصرية في ظل الدكتاتورية الأمنية ـ العسكرية القائمة تُتيح التعرّف بجلاء على الثقل السياسي الذي تمارسه اللعبة في المجتمع.
خلاصة القول، الفصل بين هذه الرياضة (على الأقل) والسياسة، والدعوة إلى تحريرها العاطفي من هذه الحمولة، وحصر الاهتمام بها بالشأن الرياضي المحض، يمكن اعتباره شيئاً من المثالية المشتهاة.
المستبد كما الثائرين عليه، الدول كما الجماعات، الأحزاب كما الطوائف، وضعت في كرة القدم ثقلها الرمزي والمادي والبشري، فالنظر المجرد لها ينتقص من الذكاء البشري.
يبرّر معتقل سابق في سجن تدمر السوري كرهه كرة القدم، لأنه كان يسمع من بعيد، وهو في زنزانته تحت التعذيب، المذيع الرياضي من بعيد يصرخ مبتهجاً: هدف لسورية!
في وقتٍ أعلن فيه محققو جرائم الحرب التابعون للأمم المتحدة، بما لا يقبل الشك، مسؤولية الأسد في الهجوم بالسلاح الكيميائي الذي تعرّضت له بلدة خان شيخون في محافظة إدلب في أبريل/ نيسان الماضي، ما أسفر عن مقتل أكثر من 80 مدنياً وجرح مئات آخرين، معظمهم من الأطفال والنساء، وهو واحد من أكثر من 27 هجوما قامت به قوات الأسد بالسلاح الكيميائي ضد المدنيين في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، منذ العام 2011، منها سبعة بين الأول من مارس/ آذار والسابع من يوليو/ تموز، أقول في هذا الوقت بالذات، صرح مبعوث الأمم المتحدة إلى محادثات السلام السورية، ستيفان دي ميستورا، بأن الحرب في سورية انتهت تقريباً، لأن دولا كثيرة انخرطت فيها فعلت ذلك من منطلق هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في سورية، وأن على المعارضة السورية قبول أنها لم تنتصر في الحرب، ما قد يقود إلى مواجهة "لحظة الحقيقة"، متسائلا في ما إذا كانت المعارضة السورية "قادرة على أن تكون موحّدة وواقعية بالقدر الكافي لإدراك أنها لم تفز بالحرب"، أي خسرتها.
يطرح هذا التصريح حقيقة الدور الذي لعبته، ولا تزال تلعبه، الأمم المتحدة في ما سميت عملية الحل السياسي التي أطلقتها المبادرة العربية الدولية، منذ الأشهر الأولى للثورة أو/والحرب، والتي لم تسفر حتى اليوم عن أي نتيجة سوى الفشل بعد الفشل، ما دفع مبعوثين سابقين للأمين العام للأمم المتحدة إلى الانسحاب من مهمتهم، والاعتذار للشعب السوري. وبمقدار ما يفضح هذا التصريح حقيقة ما يفكّر فيه المبعوث الأممي للسلام يكشف طبيعة الحل الذي يتصوره دي ميستورا، والذي يعتقد، كما هو واضح من حديثه، أن على المعارضة التي خسرت الحرب أن تعترف بذلك وتعمل بمقتضاه، أي تتصرف من موقع المهزوم، وتقبل ما يُعرض عليها، أي ما يريده الروس والإيرانيون. بمثل هذا الكلام يضع دي ميستورا نفسه، بشكل واضح وصريح، في خدمة الأسد الذي لم يتردّد في الحديث بالمعنى ذاته عن انتصاره، ولا يكفّ عن ترديده في كل أحاديثه، طالبا من المعارضة/ "الإرهاب" إلقاء السلاح والاستسلام. ما يعني أن المبعوث الأممي يعتقد اليوم، تماما كما يعتقد الأسد، أن لا حل سياسيا ممكن من دون التسليم بهزيمة المعارضة، والقبول بالتطبيع مع النظام القائم الذي لن يربح في نظر دي ميستورا الحرب بعد، ولن يضمن انتصاره، ما لم يقبل بفتح مفاوضات لتلقي استسلام المعارضة والمصادقة عليه.
بالتأكيد لم تربح المعارضة المسلحة الحرب ضد النظام، وما كان لها أن تربحها، مهما فعلت في مواجهة تحالفٍ ضم إلى جانب قوى النظام السوري الذي صادر الدولة ومؤسساتها ومواردها للدفاع عن نفسه وزعيمه، روسيا "العظمى" وإيران الخامنئية الطامحة إلى إعادة مجد الأمبرطورية الساسانية، ومليشيات الحشود الشعبية الطائفية والتنظيمات الإرهابية التي تعمل على هامشها وضمن استراتيجيتها. وفي نظري، يشكل صمود المعارضة المسلحة واستمرارها في القتال خلال ست سنوات متواصلة، من دون دعم جدي ولا حليف استراتيجي، وفي مواجهة اختراقات الأجهزة الأمنية المحلية والإقليمية والدولية، بحد ذاته معجزة، ويشير إلى عمق إرادة التحرّر في انتفاضة السوريين، وتصميمهم على التخلص من نظامٍ هو نفسه مؤامرة مستمرة على الشعب والبلاد، والاستعداد غير المسبوق للتضحية من أجل التخلص من نظامٍ تحوّل إلى آلة للقتل والتطويع والترويع، وصار بمثابة مؤامرةٍ، تشارك فيها أكثر من دولة ونظام، على استقلال شعب وسيادته على أرضه وحقه في تقرير مصيره، واختيار ممثليه بإرادته الحرة. ما من شك في أنه كان للتحالف الدولي ضد السوريين تفوّق عسكري لا يقارن، لكني لم أسمع أحدا يصف سقوط الغيتوات اليهودية تحت ضربات الجيوش النازية بالهزيمة، أو يعترف لهتلر فيها بالانتصار. ليس لأن النازيين لم يربحوا الحرب ضد المقاومة الضعيفة للمعازل المحاصرة، وإنما لأن ما قاموا به كان جريمة، ولا يوصف إلا بوصفه كذلك. وهذا ما فعله الأسد ومليشيات حلفائه الرديفة بالقرى والمدن والأحياء السورية، وبمقاومة فصائلها الشعبية التي كانت ولا تزال تفتقر لكل ما يساعدها على أن تكون قوةً عسكرية قادرة على تحقيق أي انتصار، أعني التنظيم والتدريب والخبرة والإدارة والسلاح والقيادة الموحدة.
هؤلاء الذين هاجموا المدنيين بأسلحتهم الكيميائية وبراميلهم المتفجرة وصواريخهم الباليستية، ودرّبوا وجربوا فيهم كل أسلحة روسيا الجديدة، وخردة الأسلحة الإيرانية، وقضوا على أكبر عدد ممكن منهم، وشرّدوهم من بيوتهم، ليسوا ولا يمكن أن يعدّوا منتصرين في حربٍ، بل هم مجرمون، تماما كما وصفتهم عشرات التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية، وجديدها أخيرا تقرير لجنة التحقيق الدولية المنبثقة عن الأمم المتحدة. مثل هذه الجرائم التي نظر إليها دي ميستورا انتصارات، ولو مؤجلة حتى تحقيق الحل السياسي واعتراف المعارضة باستسلامها، لا يكافأ عليها، ومن العار على ممثلٍ للأمم المتحدة أن يذكّر ضحاياها، ولا أقصد مئات آلاف القتلى وملايين الجرحى والمعاقين والمشردين فحسب، وإنما الشعب السوري الذي قوّضت حياته ودمرت بلده ومستقبله، بأنهم لن ينالوا السلام والسكينة ووقف القصف والقتل إلا بالاعتراف بهزيمتهم، فمجرد صمودهم أمام القوة المتوحشة وتصميمهم على مواجهة الظلم والعدوان، وبذلهم أرواحهم وأبناءهم، وكل ما يملكون لرفع الظلم عنهم، هو أكبر انتصار، لكنه من نوع الانتصارات التي لا يمكن لمستخدمٍ من الأمم المتحدة أن يشعر بها أو يدرك فحواها الأخلاقي العظيم. وهذا هو المحرّك الأكبر لثورة الكرامة والحرية، وطلب المقاومة والنصر.
بدل أن يُضغط على المجرم والمعتدي، يريد الانتقام مجدّدا من الضحية، وتدفيعها ثمن فشله وانعدام حيلته وسوء نيته، محاولا أن يغطي تواطؤه، كباقي الدول "العظمى" وراء الحرب على "داعش" والمنظمات الإرهابية التي أطلق يدها المجرمون أنفسهم، لتلغيم الأرض التي تسير عليها المقاومة الشعبية، وتبرير التواطؤ مع العنف العاري والحرب الوحشية التي أعلنها نظام القتلة على شعبٍ كاد يفقد كل نوابضه الإنسانية.
بعد انحيازه إلى جانب الجلاد، ومطالبته تلك من المعارضة، وهو يقصد الثورة ومن ورائها الشعب السوري الذي ضحّى بكل شيء للتخلص من قاتله، لم يعد للمبعوث الأممي أي شرعيةٍ في أن يستمر في رعاية العملية السياسية، هذا إذا كان لا يزال هناك معنى لعمليةٍ سياسية أصلا عندما يقرّر مسبقا راعيها من هو المهزوم ومن هو المنتصر. ومن واجب المعارضة تجاه الشعب السوري، ممثلةً بهيئة المفاوضات، أن ترفض الاجتماع بدي ميستورا ثانية أو اللقاء به، وأن تطلب رسميا من الأمين العام للأمم المتحدة تحمل مسؤولياته، وتعيين ممثل آخر أكثر جدية واحتراما لمعاناة الشعب السوري، وأكثر احتراما لأرواح الضحايا وتضحياتهم.
لقد فقد ستيفان دي ميستورا أهليّته ليكون وسيطا نزيها ودبلوماسيا محنّكا، وأخلّ بواجبه تجاه الأمم المتحدة، وبالمهمة الكبيرة التي أوكلت له. وفقد ثقة الشعب السوري به، بعد أن أعلن انحيازه للقاتل ضد ضحيته، على الرغم من أنه لم يحقق أي تقدم أو إنجاز منذ تعيينه. ولوكان لديه أدنى شعور بالمسؤولية تجاه الشعب السوري الذي سلم له مفاتيح أمره، لأعلن، منذ زمن طويل، فشله وقدّم استقالته واعتذاره للشعب الذي ابتلي بخدماته، كما فعل من سبقه. اللهم إلا إذا كانت الأمانة العامة للأمم المتحدة شريكة الأسد والحليف السري له، وهذا ما لا أؤمن به.
أعرف أن الأمين العام للأمم المتحدة لا يستطيع أن يجترح المعجزات، لأنه مقيّد بآراء الدول الأعضاء. لكن إذا لم يكن للسيد غوتيريس أي سلطة على الإطلاق على هذه الدول، ويعتقد بالفعل أنه لا يملك أي وسيلة ضغط لدفعها إلى الاضطلاع بمسؤولياتها واحترام قراراتها ومواثيق الأمم المتحدة التي وقّعت عليها، فاستمراره في منصبه يعني أنه يقبل أن يكون شاهد زور، وشريكا في إبادة شعب وتجريده من حقوقه، وتقويض مواثيق الأمم المتحدة، وتبرير الانتهاكات المستمرة لحقوق الناس.
يستطيع الأمين العام للأمم المتحدة أن يلعب دورا كبيرا، ويمارس ضغطا قويا إذا توجه إلى الرأي العام الدولي، ووضع الدول الأعضاء، وأعضاء مجلس الأمن بشكل خاص، أمام مسؤولياتهم، واحتجّ على تهاونهم في تطبيق القرارات الدولية، وتغطيتهم على مرتكبي جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. ولا توجد أي ذريعة تبرّر موقف دي ميستورا الممالئ للأسد وطهران، ولا موقف الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريس الساكت على تقويض عملية السلام، والمتعايش مع خيانة الدول الأعضاء في مجلس الأمن التزاماتها واستمرارها في تقويض حياة شعب كامل، من أجل الحفاظ على مصالح استعماريةٍ لا مشروعة. وهو مسؤول أمام الرأي العام الدولي، وقبل ذلك أمام الشعب السوري، عن وضع حد للاستهتار بالقرارات الدولية، والتواطؤ بالصمت على فتك النظام بالسوريين، وتعطيل أي عملية سياسية، والاستمرار في الخداع من أجل إجبار الشعب السوري على الاستسلام، وهو الأمر المستحيل. لن تعمل خسارة المعركة العسكرية إلا على مزيد من التصميم على الاستمرار في المعركة السياسية، حتى تحقيق الأهداف الإنسانية التي خرج من أجلها السوريون، وإقامة العدالة وحكم القانون.
ينتظر من اجتماع الأستانة المقرر هذا الأسبوع أن يرسم الخطط النهائية لمنطقة خفض التوتر في إدلب، رسم يكون فيه توزيع القوى و الفصائل مما يمهد لإطلاق المنطقة، بعد أن يتم إنهاء العراقيل التي لا تخرج عن المعرفة العمومية ألا وهي "هيئة تحرير الشام" سواء أكانت كجهة عسكرية أم مدنية التحت بالهيئة مؤخراً.
لا يمكن إخفاء الدور المصلحي الدولي في سوريا، والذي يصل حد التدخل العسكري لفرضه بعد أن أعيت المفاوضات رجالاتها، وأفشل العناد الخطط لمجرد الإفشال دون إيجاد البديل المناسب، المقبول شعبياً قبل أن يكون الأمر متعلق بالمحيطين القريب و البعيد.
و لكن في الوقت ذاته هناك دور مشبوه لعبه المسيطرين على الأرض، و ظنوا أنهم باتجاه إجبار الجميع على التعامل معهم كونه المسيطرين الوحيدين، و لكن لم يقدموا أي دليل على ذلك إلا مزيداً من التعنت و الإقتراب من تجربة تنظيم الدولة بمراحلها الأولية التي تفضي بطبيعة الحال للنهاية ذاتها، فالدرس لم يفهم ولا بد من تكراره من قبل التنظيمات العابرة للحدود، التي لا تنفك عن فعل ذات الأمر بل ذات الأخطاء في كل مكان تحط به ليس بداية في أفغانستان و لا إنتهاء في العراق و سوريا.
ساعدت هيئة تحرير الشام جميع الدول على الدخول في العداء للسوريين و لكل من يقاتل إلى صفهم، وبعيداً عن الدخول في سلسلة تاريخية طويلة، فمع أولى انعقادات الأستانة، بدأت الشقاقات عندما ضغطت الهيئة ممثلة بـ"أبو محمد الجولاني" على حركة أحرار الشام ممثلة برئيس مجلس الشورى حينها "حسن صوفان" بعدم الذهاب للإجتماع، رغم الالحاح التركي الذي وصل حد الطلب الرئاسي الشخصي، لكن الجولاني قدم لصوفان الخارج حديثاً من العزلة طوال 12 عاماً، عروضاً ضمن كذبة التوحد و الإندماج والذوبان وما إلا ذلك، عروضاً أبعدت الحليف التركي الذي شعر بأنه غُدر به من قبل فصيل علّق عليه آمالاً كبيرة، وإذ بها مجرد سراب.
بعد اطمئنان الهيئة بحدوث الإنشقاق الأخير بين الحركة و تركيا، أتى دور الضربة النهائية التي بالفعل تمت دون جهود كبيرة نتيجة اختراقات الهيئة لصفوف الحركة، التي وهنت و تضعضعت صفوفها مع المعارك الدونكيشوتية الداخلية بين أقطاب أقرب لـ"الجهادية المتشددة" من "السلفية المتوازنة التي انتهجها المؤسسين الشهداء".
في العموم ظنت الهيئة عبر قطب الجولاني وجيشه "جيش النصرة"، أن فرض السيطرة التامة على كل ما هو موجود داخل ادلب وأريافها وصولاً إلى أرياف اللاذقية و حلب وحماة، يمنحها شرعية بقوة السلاح محصنة بما يقارب المليوني مدني، لكن القضية أبعد من مجرد تفكير بضع شخصيات تشي التسريبات عن ضحالة تفكيرهم و حصره بفرض المنطق بإنهاء هذا الفصيل أو ذاك، أم بتصفية سين من الشرعيين أو تمجيد عين من القيادين.
لا يمكن لوم أحد بعينه فيما وصلت إليه إدلب أكثر من لوم من ساعد على ذلك عبر الدراسات التي تم تقديمها للدول بأن الأمور وردية، أو أنه يمكن القضاء على الهيئة ببضع مفرقعات هنا وهناك، إذ أن وجودها في هذه البقعة يمثل الوجود الأخير لها في العالم المعاش، أي إما الإستمرار أو الإفناء التام لها ومع من حولها.
لفّ حسن نصر الله ودار خمسة أعوام، محاولا تبرير جريرته التي لا ولن تمحى من صفحات تاريخه الطائفي، ولن يغفرها السوريون، مهما طال الزمن، غزو سورية، وممارسة قتل يومي ضد شعبها، امتثالا لتكليف "شرعي" أصدره مجرم لا صفة له غير مذهبيته وعدائه العرب، اسمه خامنئي، ولا غرض له غير إنقاذ مجرم آخر اسمه بشار الأسد، مذهبي وكاره للعرب. بدايةً، قال نصر الله إنه يغزو سورية "كي لا تُسبى زينب مرتين". بعد ألف وأربعمائة عام ونيف، ظلت زينب خلالها آمنة مطمئنة في قلوب حُماتها من مسلمي سورية وعربها وأرواحهم، اكتشف أنها مهدّدة، وأن عليه غزو سورية لإنقاذها من سبي ثانٍ، سيقوم به حُماتها التاريخيون! وقد أطاعه قطيع طائفي يأتمر بأمر خامنئي. لذلك، لم يسأله أحد منهم: وهل يحمي عاقل ميتةً بقتل أحياء يقدّسونها؟ كان نصر الله يعلم أن من يتهمهم بسبيها لن يستطيعوا الصعود إلى دار الحق، وانتزاعها من الرفيق الأعلى، فاختطفها هو من المسلمين، ليستخدمها في إثارة هيجان طائفي وثني، يحوّل حزبه إلى وحوش ستستبدل أكذوبة السبي عقولها الآدمية بغريزة لطالما جرّمها الإسلام، هي قتل النفس التي حرّم الله قتلها. منذ سبيها على يدي نصر الله واستخدامها لتبرير غزو سورية، وخامنئي ونصر الله، الحريصين على ميتةٍ، يغسلان أيديهما بدماء السوريين، وينافسان البغدادي والجولاني على جعل القتل شعيرة إلهية، يكفران من يرفض ممارستها، كما يكفران ضحاياها أيضا. لقتل الآخر لأنه آخر، ولإعلاء مكانة أموات على الأحياء، لا بد لتحويل قطيع مذهبي إلى حثالاتٍ ما دون بشرية، تعبد أوثانا وتضعها في مقام الواحد الأحد، ترفض رحمانية الإسلام ونزعته الإنسانية، وتجعل القتل طقسا إلهيا مقدسا، يبلغ القاتل بواسطته درجةً من العرفان، يؤمن معها أنه بقتل ضحاياه الأبرياء لا يرتكب معصية، بل يرد الحسين إلى الحياة، ويحمي زينب من السبي، بالثأر لهما من المغاير مذهبيا، المجرم بالوراثة.
أخرج نصر الله زينب من لحدها، وأبلغ جماعته أن حمايتها تتطلب قتل السوريين من دون تمييز. وحين أيقن أن وحوشه فقدوا تماما إنسانيتهم وعقولهم، ودخلوا في الحالة التي تجعلهم مهيئين تماما لتنفيذ مخططات خامنئي، كشف أن الغزو لم يكن لحماية زينب، بل وقع امتثالا لتكليف شرعي صدر عن خامنئي، دام رصاصه الشريف.
بعد استعمال زينب لإيقاظ نزعات إجرامية، صار محرّر فلسطين واثقا من أن قطيعه سيصدّق أية أكاذيب أخرى، فأخرج من جرابه حكاية القرى الشيعية على الحدود اللبنانية/ السورية قرب القصير التي يجب إنقاذها، على الرغم من أن أحدا من جيرانها لم يرمها، ولو بوردة. عند دخول مرتزقته إليها، قوبلوا بتذمّر سكانها الذين يعيشون بسلام ووئام مع شركائهم في التهريب من سنّة قراهم والقرى المجاورة، ومسيحييها وعلوييها، لا يعكر صفوهم غير خوفهم من مهرّبين يسيطرون على حدود الشعب الواحد وجماركه في الدولتين الشقيقين، قدموا من "عرين الأسد" في القرداحة، وأسسوا شبكات تهريب وسرقة عابرة للقطر الممانع والمقاوم، بمعونة شركائهم في حزب "السيد"، قبل أن يتفرّغوا لقتل اختطاف مهرّبيها الأصليين، ويقسموا برأسي بشار الأسد وحسن نصر الله، أنه لا شيء يمنعهم من تحرير الجولان وفلسطين غير قلة الوقت، وانشغالهم بتوطيد عرى التعاون الأخوي مع إخوتهم في شبكات تهريب المخدرات وتجارة السلاح من قادة الحزب الفارسي الشقيق.
ما أن دخل القطيع إلى سورية، حتى قصد مدينة القصير، ليعمل سيف الخامنئي في رقاب سكّانها، ويقتل قرابة ألف منهم ويهجر ثمانين ألفا، ثم يجرف أحياء كاملة منها. بعد القصير، وما أثاره "انتصاره الإلهي" عليها من حماسة، أخرج نصرالله من جرابه أزعومة جديدة، سيكون ضحيتها ملايين السوريين، هي حتمية غزو العمق السوري للقضاء على "إرهابيين/ تكفيريين"، يوشكون الدخول إلى لبنان. عند هذا الحد من "التكليف الشرعي"، فجر "داعش" قنبلتين في الضاحية الجنوبية، فأعلن السيد أنه قرّر إنقاذ ضحيتها الرئيس بشار حافظ الأسد، المستهدف إمبرياليا وصهيونيا، كي يقلع عن المواء كهر صغير يختنق بهزائمه ودماء ضحاياه. من الآن، نسي خامنئي ونصر الله زينب وشيعة القصير، ونشرا قتلتهما على مجمل الأرض السورية، والمهمة: إبادة شعبها الإرهابي /التكفيري. عندئذ، انطلقت الحناجر بنشيد حزب المقاومة، بكلماته الوطنية الجميلة: رصاصة منك ورصاصة مني ما منترك بالأرض سني.
أسمعنا نصر الله أسطوانة "الإرهاب التكفيري" أربعة أعوام. وحين تحارَب مع جماعة هيئة تحرير الشام التي تفاخر العالمين بصفتها تنظيما إرهابيا/ تكفيريا، وبعد أن أعلن سماحته أنه أحرز "انتصارا إلهيا" عليها، بادر إلى عقد اتفاق رسمي معها حول مغادرتها لبنان، وقبل أن تصعد إلى الباصات الخضراء المكيفة، أخرج بعض معتقليها من سجون "الدولة" اللبنانية، فسافرت جحافلها الجرّارة الكرّارة التي بلغ عديدها رقما فلكيا، هو 120 مقاتلا بالتمام والكمال، سالمة غانمة إلى إدلب، بحراسة قواته الظافرة وفلول الجيش الأسدي التي لم ترمها ولو بحصاة، وهي تعبر أربعمائة كيلومتر من الأرض السورية يخضع معظمه لها. بعد انجلاء غبار "الانتصار"، تبين أنه كان لدى "الجماعة الإرهابية/ التكفيرية" أسرى وجثامين، وأن عدد من قتلوا وجرحوا على يد جيش جبهة النصرة العرمرم بلغ مائةً من أبطال حزب التحرير والعودة الذي لا يصد ولا يرد، وأن بعضهم أسر خلال المعركة التي سبقت سفر الإرهابيين/ التكفيريين السياحي الميمون.
لم يكتف نصر الله بهذه الفضيحة التي تكشف حجم ما اختلقه ليغطي جريمة غزو سورية وإنقاذ جلادها والبطش بشعبها، فقد اتفق مع مجرم دمشق على إخراج "داعش" من لبنان إلى منطقة سيطرة "دولتها" شرق دير الزور، القريبة من حدود العراق، متناسيا مزاعمه عن غزو سورية للقضاء عليها. أما بطل الحرب الآخر ضد الإرهاب، بشار حافظ الأسد، فتولى حماية قافلتها طوال رحلة شاركت فيها عشرات من باصاته المكيّفة، امتدت على أكثر من سبعمائة كيلومتر. وعندما شنّت طائرات التحالف غارة يتيمة عليها، عاد إرهابيوها للاحتماء داخل مناطق الأسد الذي ابتز العالم نيفاً وستة أعوام، وسوّغ قتل ملايين السوريين الأبرياء وجرحهم وتهجيرهم وتجويعهم وتعذيبهم، بحجة حربه ضد الإرهاب. وها هو نصر الله يتفاوض ويتفاهم معهم على رحلة سياحية آمنة من لبنان إلى حدود العراق، ومدّعي الحرب ضد شعب"ه"، بحجة أنه يحميهم من التحالف الذي أغار مرة واحدة عليهم، فواصلوا رحلتهم بطرقهم الخاصة وحراسة الأرض والسماء إلى البوكمال، حيث تقول نكتة سمجة وثقيلة الظل إنهم سيقاتلون الأسد والتحالف.
قلنا دوما إن نصرالله وبشار لا يحاربان الإرهابيين، وليس لهما من عدو أو هدف غير شعب سورية، لأنه ثار على نظامه الطائفي الإيراني التبعية. استهدف السيد ومسلحوه، وسفّاح طهران، المواطن السوري بالقتل والتهجير والاعتقال والتجويع والحصار، لأنه ثار على ظلم تابعهما. أليس هذا ما تقوله لنا الباصات المكيّفة التي بدل أن تنقل الإرهابيين إلى السجون والمشانق، كما توعدهم نصر الله وبشار مرات عديدة، حملتهم ، بعد "انتصار إلهي" آخر، وتحت حماية مشدّدة، إلى الداخل السوري، ليواصلوا جرائمهم ضد المواطن الذي لن ينسى، ما دام فيه عرق ينبض، هذه "المأثرة" لنصر الله ومرشده.