مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٠ سبتمبر ٢٠١٧
الحرب السورية بين ماكرون وترامب وبوتين

اتسم لقاء الرئيسين ايمانويل ماكرون ودونالد ترامب في نيويورك بود بالغ حيث كان ترامب يشيد بالرئيس الفرنسي والعرض العسكري في باريس الذي دعاه اليه في الصيف بمناسبة العيد الوطني الفرنسي. وهذا اللقاء الذي شل السير في نيويورك لبضعة ساعات لأن تحركات ترامب تتطلب اجراءات امنية صارمة، لن يخرج بنتيجة على صعيد الملف السوري على رغم أن فرنسا تريد المساهمة بقوة في حل سياسي للحرب الاهلية في سورية. فلسوء حظ الشعب السوري سلم بشار الاسد مصير بلده الى القوتين اللتين انقذتاه من السقوط، روسيا وايران. وترامب عازم على العمل مع ماكرون لمكافحة ارهاب «داعش» لكن مستقبل سورية لا يهمه بالفعل كما كان ذلك بالنسبة إلى سلفه باراك اوباما. وبرغم اصرار الرئيس الفرنسي ووزير خارجيته جان ايف لودريان على تشكيل مجموعة اتصال لدفع الحل في سورية، لا يساعد انقسام مجلس الامن حول هذا الموضوع على التفاؤل بنجاح مبادرة فرنسا.

أمسكت روسيا زمام الامور على الارض في سورية وهي غير راغبة بتدخل فرنسا التي تؤيد معارضة سورية وطنية حقيقية غير تابعة لروسيا. فروسيا تمكنت من التوصل الى تخفيض التوتر والعنف في بعض المناطق السورية وعززت موقع الاسد. وقول الوزير لودريان ان تحديد مستقبل سورية حسب الانتصارات العسكرية لمختلف الاطراف في مختلف الاماكن يعني تمزق البلد وتقسيمه هو ما يجري حالياً مع ما تقوم به روسيا وايران وحزب الله على الارض في سورية. والمشكلة ستتفاقم إن اصبحت روسيا هي من يريد تقرير مصير سورية ومستقبلها وتحديد النظام فيها والمعارضة. وحالياً ومرحلياً حتى إشعار آخر هي متحالفة مع إيران وحزب الله على الارض. ودول المنطقة وخارجها كلها تذهب الى روسيا للقاء بوتين بحثاً عن الحل بعدما مكنه إنقاذ الأسد من استعادة هيمنته وقوته في المنطقة.

كل ذلك بسبب تراجع الاهتمام الاميركي منذ اوباما. والكلام الفرنسي عن المستقبل السوري وعن استحالة ان يكون هذا المستقبل يشمل الأسد، صحيح وعاقل. لكن قد يستطيع ماكرون لو سعى إلى القيام بجهود قوية وموحدة مع المستشارة الالمانية انغيلا ميركل، اذا أعيد انتخابها، ان يصل ربما الى نتيجة مع بوتين. ولروسيا علاقات قوية جداً على الصعيد الاقتصادي مع المانيا ولا يمكن بوتين ان يتخلى عن العلاقة مع المانيا حيث تصب في صالحه. فربما يمكن ماكرون ان يحرك الموقف الروسي عن طريق ميركل. والمستشارة الالمانية مدركة كما ماكرون أن اللاجئين السوريين في اوروبا والمانيا وفي الدول المجاورة لسورية عبء خطير على الدول كما على اللاجئين انفسهم. والمانيا فتحت لهم الابواب والآن تريد اغلاقها. واللاجئون لن يعودوا الى بلدهم في ظل نظام ذبحهم وخرّب بلدهم وهجرهم. فهناك بعض الامل في تحريك الموقف الروسي في حال قررت ميركل اعطاء الاولوية لهذا الملف مع حليفها الاوروبي الاكبر ماكرون الذي يسعى إلى المساهمة في الحل. ولكن هناك ايضاً سيطرة ايران على الارض في سورية عبر حزب الله. فهذه معضلة اخرى تصعب الحل السياسي لسورية. فالنظام يفرغ المدن المحررة من داعش لتغيير نوعية وطوائف السكان فيها. وكثير من الايرانيين وغيرهم من ابناء الطائفة الشيعية تمركزوا في اماكن عديدة من سورية. والمسعى الفرنسي المحتمل لإشراك ايران في اي مجموعة اتصال يرغب الرئيس ماكرون بتشكيلها لدفع المفاوضات لا يمكن الا ان يفشل.

وايران تحارب وتقتل وتدمر هي ووكيلها «حزب الله» على الأرض في سورية وهذا ما اكده عن حق رياض حجاب بعد لقائه ماكرون في نيويورك.. فالرئيس الفرنسي الشاب يتحرك ويريد وفق وزير خارجيته «العمل والمساهمة في حلول جميع أزمات العالم». لكن طموحه يصطدم بتراجع اميركي مع فلسفة ترامب «اميركا أولا» ومع هيمنة روسية متزايدة وتدخل ايراني يزعزع استقرار المنطقة.

اقرأ المزيد
٢٠ سبتمبر ٢٠١٧
حروب «الحدود الكردية» في العراق وسورية بعد «داعش»

الاستفتاء على استقلال كردستان في موعده الإثنين المقبل. لم تفلح الوساطات والمناشدات حتى الآن في ثني رئاسة الإقليم عن هذا الاستحقاق. بات مستقبل مسعود بارزاني على المحك. لا يمكنه التراجع لأنه سيخسر كل شيء، معه الكرد أيضاً. لم يعد في حساباتهم التراجع عن الانفصال، خصوصاً بعد تأييد البرلمان في إربيل هذه الخطوة بالإجماع، وإن قاطع عدد من نواب «كتلة التغيير» و «الجبهة الإسلامية». حتى هذه المقاطعة لا تعني رفض جمهور هاتين القوتين الاستقلال. الأمر يتعلق بخلافات حزبية داخلية معروفة بين رئيس الإقليم المنتهية ولايته وهذين الحزبين. وبعيداً من التهديدات الإقليمية المحمومة، خصوصاً من جانب تركيا وإيران، فإن المساعي الدولية التي تقودها الولايات المتحدة لم تثمر حتى الآن. لو نجح تسويق البديل الذي قدمه المبعوث الرئاسي الأميركي للحرب على «داعش» بريت ماكغورك وسفراء غربيون، لكان صرف النظر عن إعادة تفعيل مجلس نواب الإقليم. لم تقدم الضمانات التي طالب بها بارزاني. لأنه كان ولا يزال يريد خطوة متقدمة تفوق بمفاعيلها الاستفتاء. وحتى الكونفيديرالية فات أوانها على الأرجح بديلاً معقولاً. غير الذهاب نحو الانفصال يعد انتقاصاً من رصيده الشعبي. لم يرضَ بالتأجيل سنتين على أن تناقش هذه القضية في الأمم المتحدة، ما لم تقر بغداد صراحة بحق الكرد في تقرير المصير مقروناً بضمانات دولية، وما لم تحدد المنظمة الدولية نتيجة هذا النقاش موعداً جديداً لهذا الاستحقاق.

الثابت إذاً أنه لم يعد مطروحاً في أجندة كردستان طي صفحة الاستفتاء والعودة إلى طاولة الحوار لا مع بغداد ولا مع غيرها من عواصم إقليمية ودولية معنية. تأجيل الاستحقاق من دون بديل حقيقي يعني ببساطة انهيار كل ما بناه بارزاني في مسيرته السياسية. علماً أن ما قدمه ماكغورك نفت الناطقة باسم الخارجية الأميركية عمله به. الاقتراح صاغه وزير الدفاع الجنرال جيمس ماتيس بعد زيارته الأخيرة إربيل، بالتفاهم مع مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر. وواضح تماماً أن واشنطن تقر بما تسميه الطموحات المشروعة للكرد، لكنها تخشى أن يترك هذا الاستحقاق في هذا التوقيت بالذات آثاراً سلبية على الحرب ضد «تنظيم الدولة». ولا يمكنها الذهاب بعيداً في الضغط على إلإقليم حليفها الرئيس وشريكها المضمون في الحرب على «داعش». أما أن تكرر حرصها على وحدة العراق فمثل هذا قالته إدارة الرئيس جورج بوش الأب مع بدء انهيار الاتحاد السوفياتي. شددت على وجوب بقاء الاتحاد لكنها سرعان ما بدلت رأيها وكان ما كان من أمر الكتلة الشرقية.

والثابت أيضاً أن بارزاني أظهر عزيمة وصموداً في صراع الإرادات. وتمكن من فرض خيار الاستفتاء على جميع المعترضين. حتى الاتحاد الوطني الذي كان تردد في البداية لم يجد بداً من الاصطفاف خلف هذا الاستحقاق. وسيمنحه الاستفتاء مزيداً من الشرعية الشعبية لتكريس زعامة بلا منازع. وهذا ما سيعزز موقعه في مفاوضات لا مفر منها لاحقاً مع بغداد وأنقرة وطهران، يدعمه رأي عام واسع. أما التلويح بالحرب والوعيد بالويل والثبور فيبقى من باب التهويل. لا يبدو أن ثمة طرفاً يستطيع اللجوء إلى القوة خلال أيام لفرض تأجيل الاستحقاق أو إلغائه. بل لا مصلحة لأحد في مثل هذا الخيار. فلا الكرد أعلنوا استقلالهم بعد ولا هم أعلنوا الحرب على بغداد. ولا الحكومة العراقية في وارد أن توقف حربها على «داعش» والانصراف عن مشكلاتها الجمة من أجل شن مواجهات ميدانية تعجل في إعلان الاستقلال. جل ما يمكن التفاوض عليه في الأيام القليلة الباقية قبل الاستفتاء هو البحث عن إمكان تأجيله في كركوك والمناطق المتنازع عليها. وهو أمر يبدو مستبعداً في ضوء تصعيد بارزاني لهجته. فقد أعلن في إحدى جولاته قبل أيام أنه لن يقبل التفاوض على حدود كردستان، والعودة إلى «حدودنا في عهد حزب البعث». كما أن بغداد ستستمع إلى رأي إيران.

وحتى إيران التي يرى غلاة قادتها أن الاستفتاء «مشروع صهيوني» هو المرحلة الأولى في «مؤامرة لتقسيم العراق وقيام إسرائيل جديدة»، ليست في وارد استخدام القوة لإرغام الكرد على إلغاء الاستفتاء. قد لا ترى بداً في المرحلة التالية للاستحقاق من حوار مع قيادة الإقليم للحصول على ضمانات لحدودها. وهي لن تكون، مثلها مثل تركيا بمنأى عن أي حريق كبير يندلع في كردستان أو على حدوده. فلهذه كردها ولتلك أيضاً، وقد وفرت لهم الحروب المشتعلة في الإقليم، كل أنواع السلاح ووفرت لهم الخبرات القتالية اللازمة. وفي ظل الصراعات الدولية والإقليمية على المنطقة ستكون هناك قوى وجهات خارجية جاهزة لمدهم بما يحتاجون من دعم. حتى رهان بعضهم على حزب العمال وعلاقته الجيدة مع «الحشد الشعبي» قد لا تفيد. فالهدنة القائمة بين طهران والقوى الكردية القريبة من الحزب مردها إلى رغبة الطرفين في اقتطاع حصته من الجغرافيا السورية. علماً أن الفرع السوري للعمال الكردي تمر تجارته من النفط السورية عبر كردستان. وليست لديه مصلحة في أي مشكلة مع إربيل. وأبعد من ذلك كيف للحزب الديموقراطي الكردي أن يعرقل توجه الإقليم نحو الاستقلال وقد دعت الهيئة التنفيذية لـ «الفيديرالية الديموقراطية لشمال سورية» إلى المشاركة في الانتخابات بعد أيام؟

لم يعد يفيد التوقف عند تحديد المسؤوليات عما آل إليه الوضع في العراق. صحيح ما يسوقه بارزاني عن استئثار بغداد بالسلطة وتحويل الدولة دولة دينية والكرد يريدونها كما في الدستور دولة مدنية ولا يرغبون في أن يكونوا خدماً. لكن ما يسوقه له خصومه صحيح أيضاً فهو ساهم في نظام المحاصصة وأفاد من الدعم الأميركي، وكذلك من الثنائية الكردية الشيعية التي أدارت الحكم إثر سقوط نظام صدام حسين. ولا شك في أن الإقليم لم يجد أي مصلحة في أن يكون «تكتل عربي» واسع يحول دون تحقيق طموحات الكرد في الانفصال. ولم يكن يعنيهم قيام حكم قوي في بغداد يكرر التجارب السابقة معهم. وهم على حق في ذلك. وحتى أعتى مناوئيهم زعيم «دولة القانون» نوري المالكي وفروا له ولاية ثانية. بل حالوا دون نزع الثقة عنه عندما تنادت قوى عدة لإطاحته. على رغم أنه وجه إليهم تهديدات واضحة وحشد قوات من الجيش الذي أشرف على بنائه على حدود الإقليم ملوحاً بالحرب. ولن تكون هناك ترجمة لما يرفع من شعارات عن «وحدة» عرب العراق بمواجهة الإنفصال، فالصراع المذهبي لم يبق شيئاً من وشائج هذه الوحدة. حتى أن مجاميع سنية عدة تلوذ بالإقليم، وبعضها يدعو إلى شمله بالاستفتاء!

الأيام السبعة الفاصلة عن موعد الاستفتاء حافلة بالغموض وبكثير من الأسئلة عن اليوم التالي لهذا الاستحقاق، وكذلك عن اليوم التالي لهزيمة «داعش». ليس واضحاً مشروع الحوار الذي سيقوم بين بغداد وإربيل في شأن الاستقلال، وما هي آليته ومتى يعلن، وما هي القضايا التي سيشملها هذا الحوار وأبرزها الحدود، هذا إذا تجرأت حكومة حيدر العبادي المقبل على انتخابات مصيرية، على بدء حوار في هذا الشان. علماً أن الكرد لا يبدون ولن يبدوا أي مرونة في احتمال التنازل عن الحدود الجديدة التي رسموها في أثناء مشاركتهم في الحرب على «داعش»، خصوصاً كركوك التي ستشكل بنفطها عماد اقتصاد الدولة الوليدة. وقضية الحدود هي المحك لمستقبل العلاقة بين بغداد وإربيل بعد سقوط آخر معاقل «تنظيم الدولة». فهل تتنازل المكونات العراقية الأخرى من عرب وتركمان وأقليات أخرى عن هذه المناطق بسهولة؟ والأمر نفسه بدأ يطرح في سورية أيضاً مع استعداد كردها لانتخابات في إطار فيديرالي يستقلون فيه بإقليمهم. ولا يبدو أن دمشق يمكنها مواصلة التنسيق معهم بعدما شارفت الحرب على «تنظيم الدولة» وبقية الفصائل نهايتها في بلاد الشام. وبدأت نذر المواجهة بين «قوات سورية الديموقراطية» بغالبيتها الكردية وقوات النظام في السباق إلى دير الزور ومنها الحدود مع العراق. قد تكون النزاعات الحدودية عنوان الحروب المقبلة للكرد مع شركائهم «السابقين» في كل من العراق وسورية... وربما في إيران وتركيا.

اقرأ المزيد
١٩ سبتمبر ٢٠١٧
«انتصار» العالم وهزيمة سوريا

تتقدّم قوات النظام السوري وقوات «سوريا الديمقراطية» (الاسم الفنّي لـ«وحدات الحماية الكردية» المدعومة أمريكياً) نحو مدينة دير الزور (شرق سوريا المحاذي للعراق)، فيما تتراجع فصائل المعارضة الجنوبية (المدعومة أيضاً من أمريكا) إلى الحدود الأردنية، وتتفاهم روسيا مع إسرائيل على تطويب مرتفعات الجولان وحمايتها من اقتراب الميليشيات المحسوبة من إيران، وتتفق روسيا وإيران وتركيا على نشر مراقبين في إدلب (شمال سوريا)، وتضطر الفصائل المدعومة من دول عربية في المناطق الأخرى إلى قبول شروط «خفض التصعيد» و»المصالحات».

هذا المشهد السوري، على تعقيده، هو أيضاً حراك لـ«خفض التصعيد» بين القوى الإقليمية و«المصالحات الإجبارية» بينها، التي تؤسس لها تفاهمات أمريكا وروسيا ما وراء الكواليس، وهذا يؤدي، في نتيجته الحقيقية، إلى تكريس مناطق تقاسم النفوذ والسيطرة لهذه القوى على ما تبقى من أشلاء السوريين، وعلى بقعة الجغرافيا المفتوحة والمدمّاة التي كانت تسمى سوريا.

الأضحية الكبرى في هذه المعادلة المستجدة، كانت، وما تزال، هي الشعب السوري، الذي ثار بعد 48 عاماً من حكم طغيان عسكري وراثيّ متوحّش يخلط الأيديولوجيا والممارسات الطائفية بالشعارات الكبرى: الوحدة، التي كانت قناعا لتفتيت المجتمع السوريّ نفسه وتحويله إلى مستحاثات مغلقة للطوائف والقوميّات الخائفة ولإرهاب كل ما حوله من فلسطينيين ولبنانيين وعراقيين وأردنيين؛ والحرّية، التي هي نكتة سوداء عن مسلخ كبير للبشر، والاشتراكيّة، التي كانت، عمليّاً، نهب عصابات منظّماً لثروة المجتمع السوري وخنقا لإمكانيات تطورّه الطبيعي.

في محاولتهم اليائسة للخلاص من الطغيان، دفع السوريون أثماناً تفوق التصوّر، فقتل منهم مئات الآلاف، واختفى مئات آلاف آخرين في السجون، وتهجّر ونزح نصف عدد السكان، واندثرت مدن وبلدات وقرى تحت الأنقاض، وما زال الباقون على الحياة منهم في الرقة ودير الزور ودرعا وإدلب وريف حماة ودمشق تحت طائلة القصف المكثّف، حيث يجرّب الروس والأمريكيون مفاعيل صواريخهم وغواصاتهم ومقاتلاتهم، من دون أي ردّ فعل أي اتجاه سياسيّ وازن في العالم، فاليمين العنصريّ لا يرى في سوريا غير نظام يحقق أهدافه في قتل «الإرهابيين الإسلاميين»، ومنظمات اليسار (الذي تحشّد وتظاهر فقط حين قصف المطار «الكيميائي») ترى في نظام الأسد حكماً «معادياً للإمبريالية»!

ما حصل في سوريا، ورغم أن السوريين هم من دفعوا ثمنه الأكبر، هو خلاصة ما يحصل في العالم من اختلال هائل يعلن عن عطب الأيديولوجيات الإنسانية الحديثة، بطبعاتها الثلاث: الليبرالية الغربية المأزومة والتي تتراجع حاليّاً أمام صعود نزعات العنصرية والفاشية التي اندحرت في الحرب العالمية الثانية لكنها استعادت قوّتها وتشهد صعوداً هائلاً حاليّاً، واليسار بكافة أنواعه، الذي كسب بعض المعارك المهمّة حاليّاً، وأعاد ترتيب صفوفها بعد أن غيّر الكثير من شعاراته وتكتيكاته، وهو مناصر بشكل طبيعي لدول مثل روسيا والصين وفنزويلا… وحتى نظامي بشار الأسد في سوريا وكيم جونغ أون في كوريا الشمالية.

غير أن التدخّلات الهائلة للقوى الكبرى والإقليمية، والتي ساهمت في تراجع حلم الحرية السوري، لا تعفي السوريين من بعض المسؤولية، فالطاقة الهائلة التي خلقتها الثورة، وضحّى لأجلها مئات الآلاف بأرواحهم، لم تتناسب حق التناسب مع بعض النخب السياسية التي تنطّعت لقيادتها، وضمن العديد من المسؤوليات التي تنكّبتها لم تنجح تلك القيادات السياسية في خلق أطر ديمقراطية فعليّة تعبّر عن الديناميّات الهائلة التي اعتملت داخل المجتمع السوري، وهو ما ساهم، مع فيض ظروف القمع والبؤس واللجوء، إلى تراجع سرديّة الثورة وشعاراتها عن الحريّة والعدالة، وتآكلها المتدرّج، أمام سرديّة النظام التي ما انفكّ يردّدها حول «الإرهاب» الإسلامي، فيما كانت أجهزته الأمنية تعمل على توطيد الإرهاب وتعزيز أركانه، والتعاون معه، لمهاجمة أي أثر لمدنيّة وديمقراطية الثورة وإنجازاتها السياسية والعسكرية.

اقرأ المزيد
١٩ سبتمبر ٢٠١٧
من الخاسر ومن المستفيد من نهاية تنظيم «الدولة»

بسيطرته على أراض واسعة في العراق والشام، شكل تنظيم «الدولة» شبه دولة أمرا واقعا. وقد امتلكت عناصر الدولة حسب (معاهدة ويستفاليا) لكن من دون وجود اعتراف.

فالارض التي سيطر عليها كانت بحدود 144 ألف كم، وشعب مجموعه أكثر من 6 ملايين فرد، وقوة عسكرية ذات خبرة، واقتصاد، وسيطرة على مصادر المياه والسدود، وكذلك قيادة مركزية وشبه مؤسسات. يضاف إلى كل هذا أن العناصر الصلبة لديها قوة ناعمة أيضا وهي الدين، على الرغم من أن استخدام هذا النوع من القوة كان على المستوى الأدنى من الأخلاق والقيم المتعارف عليها. وقد أجمعت وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية على أنها دولة صبورة ومنظمة جدا، وقادرة على التعامل السياسي بحرفية عالية لتحقيق أهدافها.

هذه المواصفات جعلت منها ملاذا آمنا لكل من يريد مقاتلة الامريكان وحلفائهم، ليس من الافراد وحسب، بل حتى دول في المنطقة استثمرت في وجود هذا الكيان لتحقيق مصالحها. بعضهم دعم تنظيم «الدولة» بصورة غير مباشرة أو بالخفاء، كي يستدر الدعم المادي والمعنوي من الولايات المتحدة والغرب. وآخرون شاركوا في محاربته بحماسة شديدة، على الرغم من أن قلبهم كان معه، لكن دافعه في ذلك كان الحصول على الرضى والدعم الامريكي تحديدا. وثالث تغاضى عن تجارة التنظيم والمهاجرين إلى دولته من بقاع العالم، الذين كانوا يمرون عبر أراضيه. على سبيل المثال، إيران استثمرت كثيرا في الحرب على التنظيم، وعوائد هذا الاستثمار كانت شرعنة دخولها إلى سوريا والعراق، وبالتالي فرضت نفسها حتى على الامريكان، كلاعب مهم في هذا المشهد، ظهر ذلك من خلال قيام الطيران الامريكي بتوفير غطاء جوي فاعل للحشد الشعبي العراقي، الذي يدين بالولاء لها ولديه مستشارون إيرانيون يقودون معاركه. كما حصلت الحكومتان العراقية والسورية من تنظيم «الدولة» على شرعية دولية، غطت على الكثير من الانتهاكات التي جرت من قبلهما بحق مواطنيهم، إلى الحد الذي تنازلت فيه دول كثيرة عن مناداتها السابقة بالاطاحة بالنظام السوري، وجرت التضحية بالمعارضة السورية إكراما له. كما تنادت أصوات دولية كثيرة بضرورة توفير الدعم للنظامين، على اعتبار أن ساحتيهما هما مسرح القتال الدولي ضد التنظيم، فحصلت الحكومة العراقية على الدعم المادي الكبير وتسليح وتدريب قواتها لهذا السبب، لكن لا يمكن بأي حال من الاحوال النظر إلى النظام السوري على أنه رابح، لان كل المشاركين في الحرب على أرضه يصطفون اليوم لقبض الثمن، لان كل قوة في سوريا لديها مشروعها الخاص.

يقينا أن هزيمة التنظيم وزوال دولته سيعني شرق أوسط جديدا، وظهور محاور قوة لم تكن موجودة على الخريطة السياسية للمنطقة، حيث سيكون الفاعل الروسي موجودا وبقوة، وستكون إيران موجودة أيضا أكثر من قبل، وبيدها أوراق ضغط جديدة. لكن من أبرز المواقف المتخوفة من هذا التغيير هو الموقف الاسرائيلي، حيث تعتبر إسرائيل أن زوال دولة التنظيم وتدمير قواه خطأ استراتيجي كبير يهدد مصالحها. وينطلق هذا الموقف من اعتبارات عدة منها، أن ذلك يعتبر خدمة كبيرة لايران وأذرعها الممتدة في المنطقة، وستتخلص من المستنقع السوري، ويسلم حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية من حرب الاستنزاف التي يخوضونها في سوريا، والتي كلفتهم الاف القتلى والجرحى. كما أن المنطقة لن تبقى منطقة قتل لكل أعدائها، ومحور استنزاف كبير لكل الدول المحيطة بها. فإسرائيل تفضل أن لا يكون التنظيم قويا إلى درجة بحيث يشكل وجوده خطرا عليها، وليس ضعيفا إلى درجة تجعل أعداءها ومنافسيها في المنطقة يشعرون بالراحة والاطمئنان. كما أنها تنظر بارتياب شديد إلى شكل النظام الاقليمي الذي سيعقب نهاية التنظيم. فهي تعتقد أن نهايته تعني تسليم العراق إلى إيران بصورة أكبر من السابق، لان الاخيرة أرسلت متطوعيها وأسلحتها وميليشياتها إليه عندما استولى التنظيم على أراضيه، وستبحث عن الثمن. كما ستكون سوريا من حصة روسيا التي هبت للدفاع عن نظامها، حين احتل التنظيم أراضيها وبات يهدد وجود النظام السياسي فيها، وهي كذلك ستبحث عن الثمن. أيضا هي تنظر بارتياب شديد إلى طريق الحرير الايراني عبر العراق إلى سوريا، فالبحر الابيض المتوسط، والى الفضاء الجيوسياسي الذي مرت به صواريخ كروز الروسية من بحر قزوين ثم إيران والعراق فسوريا. وهي تعتقد أن هنالك توزيع حصص سيجري في المنطقة بعد زوال تنظيم «الدولة» وانحسار وجوده قد يؤثر على ميزان قوتها في المنطقة.

أما تركيا فقد حاولت الاستثمار في هذا الوضع، خاصة أنها موجودة في شمال دولة التنظيم، ونجحت بعض الشيء في تثبيت وجودها ضمن معادلة اللاعبين الاساسيين في مقاتلة تنظيم «الدولة»، لكن عائداتها من هذا الاستثمار كانت أقل من الطموح. صحيح أنها حصلت على دعم مادي ومعنوي من الغرب وروسيا أيضا، لكنها كانت تأمل أن تكون جائزتها في المشاركة في قتال التنظيم، هي إطلاق يدها في القضاء على الحلم الكردي الذي يقض مضاجعها. لكن ظنها خاب كثيرا بعد الاصرار الامريكي على دعم الاكراد في سوريا، واعتبارهم رأس الحربة في قتال التنظيم، وتقديم الدعم المادي والعسكري لهم. لذا يمكن اعتبارها أحد الخاسرين من هزيمة التنظيم، حالها حال المملكة الاردنية التي هي موجودة ضمن الاستراتيجية الامريكية في الجنوب السوري، لكنها على الصعيد الذاتي لم تكن من المستفيدين، على الرغم من مشاركتها في مجال الحرب الجوية والاستخباراتية في الحرب. يجدر الانتباه هنا إلى أن الاردن هو دائما ضمن اللعبة الدولية، لكن وفق الدور المرسوم له، أي ليس باجتهاده الخاص وفق مصالحه الوطنية والقومية. والدول المرسوم دورها مسبقا بالطريقة هذه، غالبا ما ينظر إلى ما تقدمه من أدوار على أنها واجب ليس بالضرورة أن يعود عليها بالفائدة.

أما المملكة العربية السعودية فهي ليست من الرابحين أو الخاسرين بسبب موقعها البعيد جغرافيا عن ساحة الحدث، وكذلك الطبيعة الطبوغرافية الصحراوية، لكنها كانت موجودة بصورة غير مباشرة على المسرح ضمن لعبة التحالفات الدولية. مع ذلك يمكن اعتبارها أحد الخاسرين من ظهور التنظيم وإعلان دولته، إن أخذنا بنظر الاعتبار الحملات الإعلامية التي كانت تشن في الغرب عليها، والتي تتهمها بأنها المصدر الفكري الرئيسي لتنظيم «الدولة».

في النهاية يمكن القول بأن هنالك الكثير من دول المنطقة حرصت على المشاركة، أما في الاستراتيجية الامريكية أو الاستراتيجية الروسية في الحرب على تنظيم «الدولة»، كلا لها مصالحها الخاصة التي تروم تحقيقها من هذه الحرب. لكن السيئ في ذلك هو أن غالبيتها لم تكن لديها عوامل تحقيق ما تريد. فالنجاح الاستراتيجي يحتم السيطرة على كل مكونات تحقيقه، أي أن عوامل النجاح يجب أن تكون بيدك وليست بيد الاخرين، وتتمنى أن يتصرف الاخرون كما تريد. فلا يمكن تمني النجاح، بل يجب فرضه في العلاقات الدولية، لان ليس فيها من يقدم مكرمة لهذا الطرف وذاك، بل هي تدافع بشراسة لنيل المصالح.

اقرأ المزيد
١٩ سبتمبر ٢٠١٧
إيران من الداخل

بعيداً عن السياسة، أريد اليوم أن أكشف أو أعرّي النظام الإيراني من الداخل بكل هدوء ودون أي فلسفة أو تجريح:
تؤكد المصادر المطلعة أنه في أحياء طهران التي يعيش فيها أكثر من 14 مليون نسمة، تبلغ نسبة البطالة في أوساط النساء 70 في المائة، وعندما لا يجدن عملاً فقد يضطررن إلى التسول أو يقعن في براثن تجار المخدرات.

وتظهر الإحصائيات الرسمية أن هناك ما يقارب المليوني طفل يعملون في البلاد، ولكن إحصائيات غير رسمية تؤكد في الوقت نفسه وجود سبعة ملايين طفل عامل في إيران تتراوح أعمارهم بين 10 و15 عاماً.

وتشهد شوارع العاصمة الإيرانية طهران تنامياً كبيراً وملحوظاً في عمليات الاتجار بالبشر، خاصة بيع الأطفال وبأسعار متدنية، من قبل أمهات أصابهن اليأس والفقر والإحباط، وإدمان المخدرات، وسط مجهودات حكومية شبه معدومة.

وكشف مدير عام إدارة الشؤون الاجتماعية والثقافية في طهران، سياوش شهريور، أن بيع المواليد يتم بشكل منظم، منتقداً بعض المسؤولين الذين ينفون تلك الظاهرة في إيران معمقين أزمة تجارة الإنسان.

وأردف قائلاً: «علينا الاعتراف بحقيقة أن بعض النساء المدمنات والمومسات ينجبن الأطفال للبيع، وأن الوسطاء في هذه التجارة يتفقون مع النسوة وأهلهن على السعر قبل الإنجاب، وأن 80 في المائة من هؤلاء النساء وأطفالهن مصابون بالإيدز»، معرباً عن أسفه البالغ لعدم الاهتمام بهم، وتخلي الحكومة عن دعمهم، على عكس باقي دول العالم.

وشدد على ضرورة وضع حد لمعضلة بيع الأطفال حديثي الولادة، موضحاً أن بعض نساء الأحياء الفقيرة في طهران ينجبن عدداً كبيراً من الأطفال بهدف بيعهم، وأنه في هذه السنة وحدها (2017) تم بيع أكثر من 600 طفل - أي أنه يباع يومياً ما يقارب الطفلين.

من جانب آخر، كشف رئيس محاكم محافظة أصفهان، غلام رضا أنصاري، أن بيع الأطفال يتم من قبل مجموعات لديها عاملون في «المنظمة الوطنية للتسجيل المدني»، ومن خلالها يتم إصدار شهادة الميلاد، وأيضاً لديها عاملون في المستشفيات يقومون باختيار الأطفال وتزوير شهادة المستشفى - انتهى.

وتختلف أسعار المواليد، غير أن هناك حالات مروعة ومؤلمة تقشعر لها الأبدان، حيث تراوح سعر الطفل ما بين 30 إلى 60 دولاراً فقط، وتشتريه عصابات المتسولين وتجار المخدرات، ثم تستثمرهم بدورها.

وقد أفاد التقرير السنوي للخارجية الأميركية، وكذلك منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) لعام 2016، بأن سعر الطفل هناك قد يصل إلى 150 دولاراً.

هذه هي حقيقة إيران من الداخل، أهديها لكم يا من غسلت هي عقولكم وفتنتكم بتجربتها المثالية (المتخبّطة) التي سوف تؤكلكم بها المن والسلوى ملفوفاً بورق (السوليفان)!!

اقرأ المزيد
١٩ سبتمبر ٢٠١٧
اقبضوا على مقاتلي «داعش» الأميركيين

يتعين على الرئيس دونالد ترمب اتخاذ قراره بشأن ما يتعين فعله إزاء أميركي يقاتل في صفوف تنظيم داعش، ألقت قوات كردية القبض عليه في سوريا وسلمته للقوات الأميركية هذا الأسبوع. في الواقع، الحل الأبسط هو الأمثل هنا: اتهامه بتوفير دعم مادي للإرهاب، وإدانته وحبسه داخل سجن أميركي لسنوات كثيرة.

في الواقع، في أي عالم يسوده المنطق ولا تحكمه الأهواء الحزبية، كان هذا القرار ليبدو بديهياً، خاصة أن الخيارات الأخرى معيبة - عملياً أو قانونياً أو كليهما.

ومن المحتمل أن يجري سجن مقاتل «داعش» باعتباره أسير حرب، بناءً على فكرة أننا في حالة حرب مع «داعش». وربما يجري إقرار هذا المسار، لكن ينبغي التنويه هنا بأن الكونغرس أقر شن حرب ضد من خططوا لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) وضد العراق في ظل قيادة صدام حسين، لكن ليس «داعش» على وجه التحديد.

وتكمن المشكلة في أن أسرى الحرب من غير المفترض معاقبتهم لحملهم السلاح. كما أنهم يتمتعون بحماية اتفاقيات جنيف، وأن ينالوا حريتهم عندما تضع الحرب أوزارها. ولا يمكن إساءة معاملتهم أو التحقيق معهم بأساليب عنيفة.

أما أسرى الحرب الوحيدون الذين لا يمكن إطلاق سراحهم لدى نهاية الحرب فهم مجرمو الحرب. ويكاد يكون في حكم المؤكد أن الأميركي الذي ألقي القبض عليه يصنف قانوناً كمقاتل غير شرعي في ظل التعريفات الأميركية لجرائم الحرب، لأنه لم يكن يرتدي زياً رسمياً. وفيما وراء مسألة الخرق الفني، لا ندري أي أفعال ربما كان ليقدم عليها في خضم قتاله لحساب «داعش». في كل الأحوال، يتعين توجيه اتهام إلى مجرم الحرب بارتكاب جريمة حرب من جانب محكمة عسكرية، وهي غير متوافرة حالياً.

ورغم أن ثمة محاكم عسكرية قائمة وعاملة بالفعل في خليج غوانتانامو في كوبا في محاكمة المتورطين في التخطيط لهجمات 11 سبتمبر، فإنه يكاد يكون في حكم المؤكد أنها لا تصلح لمحاكمة شخص أميركي.

من ناحية أخرى، إذا كان هناك درس يمكن استخلاصه من المحاكم العسكرية في غوانتانامو، فهو أنها تعمل ببطء مثير للصدمة.

في المقابل، من الممكن أن تجري إجراءات المحاكمة الجنائية بسرعة. وإذا ما أقر المتهم بجرمه، فإن الحكم النهائي ربما يصدر على الفور. وسيكون لدى المحتجز الأميركي سبب وجيه يدفعه للتفاوض حول صفقة قانونية بحيث يقلص فترة حبسه أو يحسن ظروف حبسه. على أي حال، من المؤكد أن هذا الأميركي سيدان بتقديم دعم مادي للإرهاب إذا كان قد ألقي القبض عليه داخل ميدان القتال يحارب إلى صف «داعش». وتستدعي هذه الجريمة فترة سجن طويلة، التي يمكن بسهولة أن يقضيها داخل سجن شديد الحراسة، وما يحمله ذلك من شقاء إضافي.

وينقلنا ذلك إلى قضية دفعت بعض أعضاء الحزب الجمهوري فيما مضى إلى انتقاد خيار توجيه اتهامات جنائية للإرهابيين: مسألة إملاء حقوقهم عليهم. حال توجيه اتهامات إليه، يجب أن يجري إخبار الأميركي بحقه في توكيل محام وكذلك حقه في التزام الصمت.
بيد أن هذه النصيحة من المحتمل ألا تقف عائقاً في طريق كشف الأميركي معلومات استخباراتية. ويتمثل الحافز هنا في التهديد بقضاء عقود داخل سجن شديد الحراسة.

ورغم أنه من المتعذر بالفعل تعذيبه أو إساءة معاملته، لكن هذا سيكون أمرا غير قانوني حتى لو لم يكن أميركياً، أو لم يكن متهماً.

فيما مضى، اتبعت الحكومة سياسة مثيرة للجدل حيال بعض المحتجزين تتألف من خطوتين. أولاهما: احتجازهم في حبس انفرادي باعتبارهم أسرى حرب على متن سفن أميركية لشهور، يخضع خلالها المحتجزون للاستجواب من قبل مسؤولين من وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه). بعد ذلك، عندما يدلون بما يعرفون من معلومات، تلقي الحكومة القبض عليهم وتقرأ عليهم حقوقهم.

وربما تحاول إدارة ترمب هذه العملية المؤلفة من خطوتين، لكنها تثير تساؤلات دستورية خطيرة بخصوص ما إذا كان أي شيء يتفوه به المحتجز من الممكن استخدامه في المحكمة.
علاوة على ذلك، فإن هذه العملية المؤلفة من خطوتين تنطوي على ازدراء تجاه استقلالية العملية القضائية.

وإذا كان ترمب يشعر بالقلق حيال التعرض لانتقادات فيما يخص الحق في إلقاء القبض على مقاتل يتبع «داعش»، فإن بمقدوره دوماً شرح (عبر «تويتر» إذا أراد) أن السجن المكان الوحيد المناسب لأي أميركي يحمل السلاح ضد الأبرياء وضد بلاده.
لقد تقبّل الرأي العام محاكمة الأميركي عضو جماعة «طالبان»، جون ووكر ليندا، الذي ما يزال سجيناً حتى اليوم. لتورطه في مقتل ضابط يعمل لدى «سي آي إيه».

في الواقع، في مختلف أرجاء العالم تناضل الدول للوصول إلى السبيل الأمثل للتعامل مع مقاتلي «داعش» العائدين إلى أوطانهم. داخل الولايات المتحدة، تبدو الأدوات والحلول الواضحة. لقد اقترف هذا المقاتل جريمة، واليوم عليه قضاء عقوبتها في السجن.

اقرأ المزيد
١٨ سبتمبر ٢٠١٧
سوريا عشية مرحلة مفصلية

يتسارع العد العكسي لآخر المواجهات المسلحة في شرق سوريا وشمالها. معارك الشرق السوري ضد إرهابيي «داعش» تتسع، والسباق والتعاون، الروسي – الأميركي على أشدّه، لاقتسام السيطرة على محافظة دير الزور الغنية وذات الموقع الاستراتيجي، وكل المعطيات تؤكد أن الجانبين الكبيرين ينفذان توافقهما المعلن: جنوب الفرات من حصة الحكم السوري والميليشيات الطائفية التي تدعمه، ولهم السيطرة على الطريق الدولية بين دير الزور ودمشق... وشمال الفرات حصة «قوات سوريا الديمقراطية» والمجلس العسكري لعشائر دير الزور، وسيكون من حصة هذا التحالف المدعوم أميركياً مدينتا «البوكمال» الحدودية و«الميادين» الاستراتيجيتين، على الطريق البري الذي يربط دمشق مع بغداد.

هذه المرحلة من الحرب لاقتلاع «داعش» من دير الزور، التي تتزامن مع التقدم الكبير في المواجهات لاستعادة الرقة، تؤشر أن التنظيم الإرهابي الذي فقد صلاحيته، هو بالطريق لأن يخرج من كل الحواضر المدنية في سوريا، وهو خارج وجوده في مجرى وادي الفرات بين سوريا والعراق، لن يبقى له في سوريا إلا نقاط صحراوية معزولة ستكون قيد السقوط فور اكتشافها.

في الشمال قُضي الأمر، وتتمُّ بلورة خريطة «خفض التصعيد في إدلب»، وليس مسموحاً أن تستمر هذه المحافظة المكتظة بأبنائها ومن نزح إليها، ثقباً أسود في الجسد السوري، بمعنى أنه ليس الزمن الذي يُسمح فيه لتنظيم «القاعدة» إقامة إمارة تديرها «هيئة تحرير الشام» أو الفرع السوري لـ«القاعدة». الاجتماعات العسكرية لأطراف «آستانة» التي جرت في تركيا، حسمت المنحى، وهي تزامنت مع المبادرة التي أطلقتها فصائل سورية تعمل في إدلب والأرياف الشمالية، لإقامة «جيش وطني» يضم نحو أربعين فصيلاً مسلحاً، توافق الجميع على تسمية رئيس الحكومة المؤقتة جواد أبو حطب وزيراً للدفاع، ومعه جرى توزيع المهام القيادية، والأهم أن هذا التوجه الذي يطلق يد هذه الفصائل المدعومة من تركيا وروسيا، قوبِل بدعم لافت من السعودية ودول الخليج، فبموازاة إعلان الوزير الروسي لافروف أن «خطة إدلب ستخلق الظروف لتحريك العملية السياسية على أساس قرار مجلس الأمن الدولي 2254»، أكد الوزير الجبير «دعم خطة خفض التصعيد»، وأن المملكة تعمل مع «فصائل المعارضة في (آستانة) لتثبيت وقف إطلاق النار». وبالتوازي، تحدث الرئيس التركي إردوغان عن «مرحلة نهائية للمباحثات الرامية لحل الأزمة في سوريا»، مضيفاً أن نهاية الخطوات المتخذة «تساهم في تسهيل مباحثات جنيف».

ما تقدم يؤكد أن حل المأساة السورية لن يكون إلا سياسياً، وما بعد إدلب سيكون لحظة مفصلية في مسار المسألة السورية، وأن كل منحى «مناطق خفض التصعيد» سيشرع الأبواب أمام بدء معالجة القضايا الإنسانية، وهي عميقة ومتنوعة من كشف مصير المعتقلين إلى التهجير والاقتلاع، وسيطوي أحلام اليقظة للحكم الديكتاتوري وحاضنته طهران بتحقيق حسم عسكري، لا بل فإن التسوية السياسية وحدها ستكون متاحة.

وبقدر ما هو مفضوح أن الظهور المدروس للتنظيمين الإرهابيين «داعش» و«النصرة»، قد نجح في خدمة الديكتاتورية وأنصارها من الميليشيات الطائفية بتشويه الثورة السورية والإساءة إلى كل السوريين، عندما طُوِيت الشعارات – الأهداف الأصلية، وأبرزها أن الديمقراطية هي البديل للديكتاتورية، وأديا في إجرامهما إلى إحداث انقلاب في موقف الكثير من الدول حتى مجموعة أصدقاء سوريا، التي لم تعد بأكثريتها تشترط رحيل الأسد، فإن ما بعدهما (داعش والنصرة) سيسرع من العودة الجادة إلى جنيف، وربما كانت الأشهر القليلة المقبلة حاسمة في بلورة مسار سياسي جديد لسوريا؛ ما يعني أن استمرار المعارضة التي هي حالة شعبية أشبه بالمعجزة، ما كان إلا لأنها تعبير حقيقي عن أصالة إرادة التحرر لدى السوريين، الذين لم تنكسر عزيمتهم وتصميمهم على إنقاذ بلادهم، من ديكتاتورية انحنت أمام كل طامح وتحولت أداة ترويع وقتل بوهم تطويع كل السوريين.

سوريا اليوم عشية مرحلة جديدة رغم كل الوهن الشعبي والتعب والاقتلاع والتفتت، ورغم تفكك القيادات وتشرذمها بوجه تحالف إجرامي غير مسبوق في احتضان الديكتاتورية ودعمها. وثابت وحقيقي أن المعارضة التي أُنزلت عليها العسكرة عُنوة لم تنتصر، لكن الأكيد أيضاً أن التقدم العسكري للنظام وفريقه، ما كان ليتم من دون التدخل الروسي الحاسم، الذي حقق انتصارات متتالية، وأمّن للنظام السوري استعادة نظرية لأراضٍ واسعة؛ فهو لا يملك حتى الحد الأدنى من القرار بعدما تحول إلى تابع وأداة للخارج منذ سنوات، وسوريا خراب ودمار وموت...

ستشهد سوريا ما بعد «داعش» و«النصرة»، فتح ملفات الميليشيات الطائفية؛ لأنها الوجه الآخر للإجرام الذي أُنزل بالسوريين، وهذا الأمر سيكون وثيق الصلة باستعادة كل الرهانات التي رفعتها ثورة السوريين، رهانات تحقيق الحرية والديمقراطية ورغيف الخبز، والسبيل معروف ومحدد وهو استعادة الحراك السلمي وتجاوز عيوب المرحلة الماضية التي تعيق استعادة الوحدة ونبذ التطييف. من درعا التي انتخبت إدارة محلية لها، إلى الغوطة التي تشهد عودة لجان محلية شبابية، إلى كل مناطق «خفض التصعيد» المؤشرات كبيرة عن عودة لن تتأخر للتنسيقيات التي ستبلور جيلاً جديداً. كل ذلك يكتمل عندما تتمكن القيادات السورية من تجميع قواها وتوحيد الرؤية وتقديم المشترك، وذلك لن يكون إلا على قاعدة قراءة حقيقية للسابق، خصوصاً تبعات ربط القرارات بأطراف خارجية، إلى الانحناء أمام العسكرة التي تمّ فرضها، والبداية تكون بالكف عن تخوين وعزل بعض الأطياف السورية التي لا تخدم إلا النظام السوري وحماته.

اقرأ المزيد
١٨ سبتمبر ٢٠١٧
سوريا والعراق والإعصار

تسمَّر العربي أمام الشاشة. المشاهد راعبة وغير مسبوقة. والدولة الأقوى في العالم تقف مذعورة وتحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. غضب الطبيعة وحش يتعذّر اعتقاله. سرعة الإعصار تجاوزت مئتي كيلومتر في الساعة. اقتلع كل شيء. السقوف. والمنازل. وأعمدة الكهرباء. ولوحات الإعلان. مطر لئيم لا يرحم. وسيول تجرف الشاحنات والسيارات. تحولت الساحات مستنقعات يطفو عليها ما تسرب من دواخل المنازل المهشمة. أعلنت السلطات حال الطوارئ. استنفرت كل الأجهزة. وتحدثت عن إجلاء الملايين.

على الشاشات عائلات تفرّ عارية إلا من دموعها. هاربون يبحثون عن سقف يحمي. ورجال يشهرون أحزانهم على بيوت تعبوا في تشييدها. كأن أنياباً هائلة انقضّت على منطقة واسعة وانغرزت في أحشائها. تدفق الدم والوحل والرعب. إنه الإعصار «إيرما». حجز سريعاً موقعه في كتب الأرقام القياسية. قدرت الخسائر بـ150 مليار دولار. ستعاني منازل كثيرة من الظلام بانتظار انطلاق ورشة الإصلاح.

في اليوم التالي يقرأ العربي عدداً من «الشرق الأوسط». عدد الخميس 14 سبتمبر (أيلول) الحالي. مصدر القصة «برنامج الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا» الذي يشرف عليه خبراء سوريون ودوليون تحت مظلة «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا» (اسكوا). يقول التقرير إن تكلفة الحرب السورية بلغت 327 مليار دولار، بينها 227 ملياراً بسبب الفرص الضائعة، و100 مليار قيمة الدمار.

يخوض العربي في تفاصيل التقرير. كان قطاع السكن الأكثر عرضة للدمار بنسبة 30 في المائة، أي بنحو 30 مليار دولار. واقتربت إلى 18 في المائة نسبة الدمار في القطاع الصناعي، و9 في المائة حصة قطاع الكهرباء والمياه، و7 في المائة لقطاع الزراعة. ولا تشمل الإحصاءات الدمار الحاصل في مدينتي الرقة ودير الزور.

قرأ العربي الأرقام السورية كمن يحك جروحه الملتهبة. راودته رغبة في التنقيب في أزقة الإنترنت عن أثمان الأعاصير العراقية. إعصار غزو الكويت وذيوله. وإعصار غزو العراق وتداعياته. وإعصار الفتنة السنية - الشيعية وويلاته. وإعصار سقوط الموصل في قبضة «داعش». وإعصار الفساد الذي لا يقل قتلاً عن أعاصير الدم. يكفي سماع سياسي عراقي يقول: «أنفقنا أكثر من مائة مليار دولار لمعالجة مشكلة الكهرباء ولا تزال المشكلة قائمة».

صرف العربي النظر عن الغوص في الأرقام. تذكر أن الأعاصير العراقية والسورية أنجبت أكثر من مليون قتيل وعدداً أكبر من الجرحى والمعوقين. خسارة الأرواح أوجع من خسارة الجدران.

شعر بالفارق الهائل بين الأعاصير. فور انحسار «إيرما» ستبدأ ورشة إزالة آثاره. ثمة دولة هناك. ومؤسسات. ورأي عام يتابع ويحاسب ويحاكم. نحن أعاصيرنا مختلفة. في بداية الإعصار الذي ضرب فلوريدا بدأ الحديث الطبيعي. هل كانت أجهزة الإنقاذ والدفاع المدني مهيأة للقيام بواجبها؟ ما الدروس التي يمكن استخلاصها كي تكون الخسائر أقل حين تعاود الطبيعة غضبها بعد سنوات أو عقود؟

نحن أعاصيرنا مختلفة. أشد وطأة وهولاً. تلتقي رياح الخارج مع ثغرات الداخل. تتحلل الدولة وتتفكك الخريطة. تفترق المكونات. يتمزق النسيج الوطني. يتفكك الجيش ويسود زمن الميليشيات. يشعر العلم الوطني بالعزلة وتطل على امتداد البلاد غابة أعلام عجيبة وغريبة. أعلام وافدين من مناطق بعيدة وقريبة. بحسابات متناقضة وأحقاد متباينة. هذا شيشاني جاء ليقتل سورياً مؤيداً للنظام. وهذا أفغاني جاء ليقتل سورياً مؤيداً للمعارضة.

يفضحنا الإعصار. البلاد التي كانت تباهي بتماسكها تتفكك وتتفتت. البلاد التي كانت رقماً صعباً صار قتلاها مجرد أرقام لا تثير أحداً. البلاد التي كانت لاعباً على خريطة المنطقة صارت ملعباً لجيوش صغيرة ترسم بدم السوريين خرائط صغيرة تتغطى بحمايات دولية أو إقليمية. مناطق نفوذ ووصايات. وقرار تائه بين عواصم قريبة وبعيدة.

تفضحنا الأعاصير. تكشف أننا بلدان مهدورة. وشعوب مهدورة. ومؤسسات مهدورة. لا الجيش ينقذ البلاد من خطر الخارج. ولا الأمن ينقذ المواطن من السفاحين. ولا الدستور يحمي حقوق الناس. ولا المحاكم تتجرأ على التحرش بالمرتكبين. يهزنا الإعصار فنرجع ساحة لكل أنواع الوافدين. كأننا حقل تجارب للقنابل والسكاكين. للباحثين عن حروب بديلة. وللحاملين أفكاراً أكثر غدراً من الخناجر. لمروجي السياسات المهجوسة بالثأر وتغيير موازين القوى بالدم المحلي. لمروجي الظلم والظلام والكهوف. للقساة من كل اتجاه.

يستطيع غضب الطبيعة اقتلاع سقف وجرف سيارات وكسر أعمدة، لكنه لا يستطيع تفكيك دولة وشرذمة خريطة. غياب الدولة الحقيقية هو ما يطلق يد الأعاصير. لا تستطيع عواصف الخارج اقتلاع دولة مبنية على المواطنة والعدالة. دولة يضمن دستورها حقوق مواطنيها ويحدد آليات تداول السلطة والتصحيح. ثغرات الداخل هي الحليف الأول للرياح المسمومة الوافدة من الخارج. مشاعر التهميش هي التي تغري بالقفز من القطار وزرع العبوات لتفجيره أو حرف مساره.

أنا عربي ولا أريد من العراق غير أن يكون بلداً مستقراً ومزدهراً وطبيعياً يلعب دوره في محيطه ويأخذ مواطنيه إلى المستقبل. قصة من يحكم العراق مسألة يجب أن تترك للعراقيين وعلى قاعدة المواطنية والديمقراطية التي تضمن حقوق الأقليات قبل الأكثرية. أنا عربي ولا أريد لسوريا غير أن تكون دولة مستقرة ومزدهرة تلعب دورها الطبيعي في محيطها. دولة لا تعيش في ظل غابة أعلام تسللت إليها من مواقع متناقضة لتعمق الجروح بين مكوناتها. دولة لا تشكل خطراً على نفسها ولا على جيرانها. قصة من يحكم سوريا يجب أن تكون مسؤولية السوريين وفي ظل دستور يقوم على المواطنة والعدالة.

غياب الدولة العصرية الحقيقية العادلة يحوّل الهويات الصغيرة ألغاماً كامنة. غياب الدولة الفعلية يرشح الأرض لاستضافة الأعاصير. الدرس الأول من الإعصار هو الهجرة مجدداً إلى فكرة الدولة التي تتسع بدستورها وممارساتها لكل المواطنين بوصفهم أبناء الوطن لا مجرد بنادق تتكئ عليها المكونات بانتظار لحظة الانهيار.

اقرأ المزيد
١٨ سبتمبر ٢٠١٧
الإيرانيون والأتراك في سوريا والعراق

بلغت العلاقة بين إيران وتركيا أدنى مستوياتها بين العامين 2014 و2016. وقد سبقت بينهما اختلافات بسبب الموقف من بشار الأسد. فمنذ بداية الثورة في سوريا، توجَّه الحليفان: قطر وتركيا (وكانا صديقين للأسد منذ 2004) إلى الرئيس السوري بضرورة الإصلاح. بينما وقفت إيران مع الأسد منذ البداية، وكذلك روسيا، بعد تجربتها السلبية مع الغربيين في ليبيا. وبين العامين 2012 و2013 تدخل الإيرانيون في سوريا عسكرياً بواسطة «حزب الله»، وما عاد الأمر مقتصراً على الخبراء، والمساعدة في غرفة العمليات، بينما ذهب الأتراك والقطريون باتجاه دعم «الإخوان» في مصر وسوريا، وبدأوا بتسليح التجمعات بجوار دمشق وشمال البلاد.

إنّ هذا الاختلاف في تقدير المصالح وصل ذروته عندما ظهر كلٌّ من «داعش» و«النصرة»، بينما أقبل الإيرانيون على دعم الأكراد في سوريا، والذين أقبلت وشنطن على دعمهم أيضاً. وما حرَّكت الولايات المتحدة ساكناً عندما استقر «حزب العمال» الكردستاني في منطقة سنجار، ودخلت قواتٌ تركيةٌ إلى جوار الموصل، وتحججت بالكردستاني، وأنها لا تسمح بدخول ميليشيات «الحشد الشعبي» إلى تلعفر، لوجود أقلية تركمانية فيها.

صحيح أنّ العلاقات التجارية لم تتأثر. لكن الزيارات المتبادلة بين المسؤولين من الدولتين إلى كلٍ من أنقرة وطهران، خلال 2014 و2015 كانت حافلةً بالغضب وسوء الظن. ثم تغير المشهد كلياً بتطورات التدخل الروسي في سوريا (2014) أيضاً، إذ اضطرت تركيا، بعد إسقاط الطائرة الروسية، إلى مهادنة الروس، مدفوعةً ليس فقط بالغضب الروسي، بل وبتردي العلاقات مع الولايات المتحدة. والتقارب مع الروس في شمال سوريا، والسماح للأتراك بتحدي الأكراد و«داعش» على الحدود التركية السورية، خفّف من الصدام الإيراني التركي. فقد تدخلت موسكو وسيطاً بين الطرفين، ودفعت كلاً منهما للاعتراف بمصالح الطرف الآخر في سوريا والعراق. ثم أخذتهما معها إلى مفاوضات أستانا من جهة، كما أجريا محادثات ثُنائية بشأن التعاوُن ضد الإرهاب، وبشأن مخاوفهما من الدعم الأميركي للأكراد في سوريا والعراق.

أما بدء التعاوُن العملي فقد ظهر في الحرب على حلب. فالأتراك الذين اعتبروا حلب منطقة نفوذ لهم، ما لبثوا أن اضطروا لمفاوضة الروس على سحب المسلحين من المدينة وجوارها بعد أن تخرب معظم القسم القديم منها. وصار الإيرانيون إلى جانب الروس موجودين في الشمال السوري على حدود المناطق الكردية والتركية. وعندما كانوا يتفاوضون على حدود النفوذ في الشمال والشرق السوري، تبين للأتراك أن الإيرانيين صارت لهم علاقات بـ«داعش» و«النصرة» معاً، تفوق أحياناً علاقات تركيا بالتنظيمين. تدعم تركيا عدة تنظيمات مسلحة في الشمال السوري، وهي مهتمة بالأوضاع على حدودها هناك، أما الإيرانيون فمهتمون بالمناطق السورية الحدودية مع العراق. وقد خشي الروس والإيرانيون معاً أن تكون عملية الاستيلاء على إدلب وقراها (و«النصرة» هي المسيطر فيها) في هَول حرب حلب. لذلك، وبعد ظهور فكرة مناطق خفض التصعيد، استحثّ الروس والإيرانيون تركيا على دفع «النصرة» للخروج منها بدلاً من الحرب. وعندما لم يفلح ذلك، سلّم الروس والإيرانيون الزمام للأتراك الذين أعلنوا مؤخراً أنهم مع عشرين ألف مسلَّح عربي سوري سيقتحمون إدلب إن اضطرهم الأمر لذلك. بينما ذهب الإيرانيون لدعم قوات النظام لاقتحام دير الزور القريبة من حدود العراق، بمساعدة الطيران الروسي، مع استمرار قصف الأميركيين لدير الزور إلى جانب الرقة. ولأن قصة إدلب ودخول الأتراك إليها، قد جرت من دون تشاوُرٍ مع التحالف الدولي، فإن الأميركيين قاموا بخطوتين لإزعاج الحلفاء الثلاثة، شركاء «أستانا».

معنى هذا أنّ كلاً من إيران وتركيا استخدمت الإرهاب أو أعادت توجيه فصائله. وكما أخرج الإيرانيون «داعش» و«النصرة» طوعاً من جرود لبنان، فإنّ الأتراك قد يُخرجون «النصرة» طوعاً كذلك من إدلب. وقد عادت الشراكة بين الطرفين لمنْع الأكراد من الاستقلال في العراق وسوريا، وفي أن تكون لكلٍ منهما منطقة نفوذ، ولإيران على حدود العراق، ولتركيا على حدودها!

اقرأ المزيد
١٨ سبتمبر ٢٠١٧
ما بعد الثورة

عملت روسيا منذ أول يوم انطلق فيه التمرد الشعبي الواسع ضد النظام الأسدي على مواجهته بجميع ما لديها من خبراتٍ تنظيمية وقدرات سياسية وعسكرية، وأسلحة. بداية حدث هذا عبر التعاون مع الأسدية، ثم حين تبين أن نظام الأخيرة آيل إلى السقوط، انتقلت روسيا إلى التدخل العسكري المباشر، ولم تترك أي مجال للشك في أن الرئيس بوتين يشرف، شخصياً ويومياً، على حرب إنقاذ الأسد التي تصاعدت إلى أن صارت روسيا الطرف الرئيس، وأحياناً الوحيد، الذي يواجه الشعب السوري سياسياً وعسكرياً، والذي حكم على ثورته بالفشل، بجعله شخص الأسد خطاً أحمر، ورئاسته جزءاً من أمن موسكو الوطني.

في سياق هذا التطور، برز دور وزير الخارجية، سيرغي لافروف، في ترجمة التحول العسكري الذي أحدثته قوة الغزاة المفرطة إلى مواقف سياسية أُريد لها أن تبطل عملياً وثيقة جنيف، وقرار مجلس الأمن 2118، وما اعتمدتاه من بدائل للأسد ونظامه، وتحقق نتائج تتطابق وسياسات روسيا السورية، وفي مقدمتها إبقاء الأسد في السلطة، وتحويل الانتقال السياسي إلى النظام الديمقراطي البديل للأسدية إلى انتقالٍ داخل النظام، ينجز من خلال احتواء المعارضة داخل صفوفه ومؤسساته. وقد عمل لافروف على محورين:

أولاً، استبدال القرارات الدولية بقراءتها الروسية التي جسدها قرار دولي حمل الرقم 2254، أطاح وثيقة جنيف والهيئة الحاكمة الانتقالية، ومرجعيتها القرار الدولي 2118، واستبدلها بـ "جسم حكم" مرجعيته بشار الأسد، هو"حكومة وحدة وطنية" برئاسته، مهمتها احتواء الثورة ودمج المعارضة في النظام.

ثانياً، ترجمة هذا الانقلاب الدولي والعسكري إلى خطواتٍ تجعله مقبولاً وقابلاً للتطبيق، بقوة تدمير قدرات الثورة العسكرية، ومصفوفة من الأفعال مكّنتها من ممارسة تحكّمٍ متزايد بأطراف الصراع، منها "الهدن" التي عقدتها بالقوة مع مناطق خرجت عن سيطرة الأسدية، أنهكها الحصار والتجويع والقتل العشوائي والأمراض، وأعادتها إلى النظام في محيط دمشق بصورة خاصة، واستخدام علاقاتها بالدول العربية والإقليمية وبواشنطن، من أجل تفتيت المعارضة وابتداع منصات بديلة لها، ترفض مثلها وثيقة جنيف والقرار 2118، تحمل إحداها، بكل وقاحة، اسم قاعدة جيشها الغازي في الساحل السوري، وممارسة ضغوط عسكرية لا قبل للفصائل بصدها أو ردعها، وعزل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وشق الفصائل ودعوتها إلى مفاوضاتٍ مرجعيتها فيها خلافاتها، تتجاهل "الائتلاف" وهيئة التفاوض العليا. وأخيراً، بلورة معادلة دولية/ إقليمية/ عربية يتم بها تطويق الثورة، ودفع الشعب إلى الاستسلام لخطة الكرملين التي تنفذ بموافقةٍ أميركية وتفويض عربي/ إقليمي، وتحول الغزاة المعتدين من عدو يقاتل إلى طرفٍ يعد العدة للحل.

واليوم، وقد أنجز معظم العمل في المستويين، العسكري والسياسي، تنتقل روسيا إلى موقف يضع المعارضة أمام أحد خيارين: الرضوخ للاحتواء أو الاستبدال. بعد نجاحها في جعل عدد مهم من الفصائل "يستقل" عن الائتلاف، ويسحب منه اعترافه اللفظي بمرجعيته، بدأت روسيا ضغوطاً مكثفة من أجل تشكيل وفد مفاوض "موحّد"، سيقضي تشكيله على مشروع "الهيئة الحاكمة"، وإزالة الأسد، والانتقال إلى نظام ديمقراطي، وسينقل الخلاف مع الروس إلى خلافٍ بين السوريين، تمهيداً لمرحلة تالية يعاد فيها تشكيل وفد مفاوض يقبل الإبقاء على الأسد، ويطبق مرحلة انتقالية من حكومة أسدية إلى أخرى، ويعترف بحقه في رئاسة جديدة، بينما سيعود تحالف المعارضة الأسدية والروسية إلى أماكنهم السابقة من حكومة النظام، أو سيُمنحون مواقع جديدة فيها.

يكاد يكون مؤكداً أن مؤتمر الرياض 2 سيواجه مهمتين: الاعتراف بالقرار 2254 مرجعية وحيدة لمفاوضات جنيف، والقبول بسقوفه العالية جداً بالنسبة للنظام، والملتصقة بالأرض بالنسبة للمعارضة. والقبول بدور روسيا مرجعية دولية مطلقة الصلاحية ومعتمدة في أي حل. أما من لا يقبل هاتين المرجعيتين، فستكون منصّة موسكو وحميميم وبعض منصّة القاهرة بانتظاره سياسياً، وطيران بوتين وأسطوله الحربي بانتظاره عسكرياً. بقول أوضح: لن يسمح لأحد بإفشال طبخة يبدو أنه حان وقت التهامها.

كنت، في الماضي، أحاول تحميس المعارضة، فاختم مقالاتي دوماً بسؤال عما سنفعله نحن، وأحدد نقاطاً يمكننا القيام بها. هذه المرة، لا حاجة لأن أتعب نفسي بطرح هذا السؤال السخيف. من يتابع ألاعيب المعارضة يدرك أنها لا ولن تفعل شيئاً غير الاستمتاع بخلافاتها اليوم، والنقّ غداً.

اقرأ المزيد
١٧ سبتمبر ٢٠١٧
أميركا في شرق الفرات

تثير السياسة الأميركية فضول المراقبين لجهة محاولة تفسير أدوارها الفعليّة داخل سورية، تحديداً شرق الفرات، ذلك أنه بالكاد يمكن رؤية رأس جبل الجليد في ما خصّ سياسة الولايات المتحدة واستراتيجيتها الحالية، والمتمثّلة بدورها الطليعي في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) اتكاءً على حليفتها قوات سورية الديمقراطية (قسد)، ليبقى السؤال العالق: هل هناك إشارات على رغبة أميركا البقاء في المنطقة شرق الفرات والمتاخمة للحدود السورية - التركية، والسورية - العراقية في المرحلة التالية للإجهاز على تنظيم داعش؟ أي هل يمكن الحديث عن النقلة الثانية للاستراتيجية الأميركية، وما هي الأكلاف التي تنطوي عليها مسألة بقاء أميركا، وتلك المتعلقة بانسحابها؟

يغلب على الظن أن الولايات المتحدة نجحت في تحقيق الجزء الرئيسي من استراتيجيتها العلنيّة المتمثّلة بدحر "داعش" بأقل الخسائر البشرية في صفوف عديد قواتها، والتي تكاد تلامس الصفر قتيلاً أميركياً، وبكلفةٍ ماليةٍ زهيدة قياساً بخسائرها الباهظة في العراق وأفغانستان. إلى ذلك، نجحت في امتصاص الغضب التركي على تحالف الولايات المتحدة مع غريمها الكردي (وحدات حماية الشعب)، عبر إشراك مقاتلين عرب محليين في عديد القوات التي تأسست عليها (قسد)، وكان للأميركان دورٌ بالغ الأهمية في تغيير بنيتها التنظيمية من وحدات حماية الشعب، ذات الطابع الكردي، لتصبح أشبه بقوات وطنية متعدّدة العناصر والقوميات.

تخشى قوات سورية الديمقراطية، ضمناً، القيادات العسكرية الكردية، انفضاض الدور الأميركي في المنطقة، وجلاء قواتها ومستشاريها وغرف عملياتها ونقل مرابض طيرانها بُعيد هزيمة "داعش"، فالخشية تنطوي على مخاوف واقعية تتمثّل بإمكانية صدامٍ عسكري في اتجاهين: صدام عسكري بين "قسد" وقوات النظام السوري والمليشيات التابعة لها، وهذا مكلف لـ "قسد" نتيجة اضطلاع الروس بالدور الرئيسي القائم على تمكين النظام من بسط سيطرته على كل سورية، وبالتالي لا طاقة للقوات المذكورة من مجابهة الروس بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، بينما يُخشى من صدام ثانٍ متوقّع قد يحصل مع تركيا التي سبق أن لوّحت بإمكانية شنّ هجمات عبر سلاحي الطيران والمدفعية على مواقع تابعة لوحدات حماية الشعب. وفي حال تم الرد على مصادر النيران التركية، وفي غياب الأميركان، قد يؤدي الأمر إلى اندلاع مواجهاتٍ لا تحمد عقباها، تكون فيها الغلبة للجانب التركي، ما يجعل تمسّك "قسد" بتلابيب تحالفها والولايات المتحدة أمراً مفهوماً، وواقعياً.

في حين، وفي المقابل، يكاد يُفهم من الخطوط العريضة لسياستها في سورية أن الولايات المتحدة تبحث عن توسيع حزام تحالفاتها، والاحتفاظ في الوقت نفسه بما يضمن لها ولحلفائها المحليين مقاعد متقدّمة في جولات المفاوضات بين النظام وخصومه، وبالتالي قد تسعى أميركا إلى أن لا تمنح معظم مقاعد التفاوض للروس والإيرانيين، وفرض شروطهما التي قد تودي بسورية كلياً في أحضان إحدى هاتين القوتين النافذتين أو إحداهما، وفي هذا ضرر بالغ على الوجود الأميركي في المنطقة برمتها.

بيد أن نقطة ضعف الموقف الأميركي شرق الفرات متصلةٌ بعدم توفر دور للمعارضة المسلحة التي سبق أن اجتثتها "داعش" شرق الفرات، وإن كانت المعارضة قد أبدت استعدادها المشاركة في معركة الرقة، من دون جدية، لتبرز أصوات تعلن عن رغبة المعارضة الاشتراك في حملة تحرير دير الزور عبر قوات موازية لـ "قسد"، غير أنه، وفي معزل عن جدية هذه الأصوات، يمكن القول إنها تأخرت في طرح هذا الاقتراح، جرّاء تسارع التسابق بين الروس والأميركان لأجل السيطرة على المحافظة شاسعة المساحة، علاوةً على عدم امتلاك أميركا ترف تضييع الوقت أمام تقدّم النظام والروس على الأرض. وعليه، قد تتمكّن أميركا من تلافي نقطة الضعف هذه، عبر إشراك المعارضة في إدارة المناطق العربية شرق الفرات، ما يقلّل من مخاوف تركيا، ويخفّض من مخاوف المعارضة التي تخشى التهميش.

نظرياً، قد تبقى الولايات المتحدة في المنطقة الواقعة شرق الفرات، فالغاية من البقاء قد تتحوّل من ملاحقة "داعش" إلى غاية استراتيجية متمثلة بضمان حفظ الحدود الشرقية لسورية من التمدّد المذهبي الذي تسعى إليه إيران، الطامحة إلى التوغّل داخل العمق السوري، كما قد يكون لبقاء الأميركان دورٌ في منع إعادة إنتاج الجماعات الإسلامية الراديكالية نفسها مجدداً في منطقةٍ بات نسيجها الاجتماعي هشّاً وقابلاً لعمليات إعادة التدوير، يضاف إلى ذلك الخشية من اندلاع مواجهاتٍ بين الإثنيات أو بين المسلحين الذين رعتهم أميركا نفسها، ما يعني أن غيابها عن المشهد سيسهّل على النظام والروس وإيران قضم هذه المناطق بسهولة.

قصارى القول، لم تحدّد أميركا أمد بقاء قواتها شرق الفرات، ما يجعل مسألتي بقائها أو رحيلها مفتوحتين على الاحتمالات المتراوحة بين البقاء والاستثمار استراتيجياً وامتصاص المنغّصات التي قد تظهر لاحقاً كضريبة للوجود في منطقة مليئة بالتناقضات، وبين الرحيل وترك المشكلات التي قد تنجم عن الفراغ الذي قد يملأه خصومها على كثرتهم، وإذا كان لا بد من تدبّر وتفكير مليّ في ما سيحصل في الحالتين، تبقى مسألة بقاء الأميركان شرق الفرات في المدة التي تلي الإجهاز على "داعش" أقرب إلى المنطق والتصديق.

اقرأ المزيد
١٧ سبتمبر ٢٠١٧
مغامرة إسرائيلية في سورية

للوهلة الأولى، بدت الغارات الجوية الإسرائيلية التي دمرت المنشأة العسكرية السورية في مصياف قرب حماة، أواخر الأسبوع الماضي، حدثاً استثنائياً؛ حيث أن المرة الوحيدة التي نفذت فيها إسرائيل هجوماً مماثلاً في سورية كانت في عام 2007، وأسفر في حينه عن تدمير منشأة الأبحاث النووية في دير الزور. علاوة على أن الهجوم الجديد شذّ عن طابع الجهد الحربي الذي تنفذه إسرائيل في سورية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، والذي انحصر في استهداف قوافل، تدّعي تل أبيب، أنها تنقل السلاح من سورية إلى حزب الله أو مواقع يتم تخزين السلاح فيها تمهيداً لنقله إلى لبنان. لكن نظرة متأنية تدلل على أن هذا الهجوم يرتبط بقرار إسرائيل توسيع خريطة مصالحها الإستراتيجية في سورية، وهو القرار الذي أملته التحولات التي طرأت على الصراع الدائر حالياً في سورية؛ سيما مع تواتر مؤشراتٍ على قرب حسم هذا الصراع لصالح نظام الأسد، بفعل الدعم الذي قدمته له روسيا وإيران والقوى الشيعية. فقد شنت إسرائيل، خلال الشهر الماضي، حملاتٍ دعائيةً ودبلوماسية مكثّفة، هدفت إلى محاولة حشد دعم دولي لطلبها عدم السماح لإيران بتوظيف نتائج الصراع لصالح توسيع دائرة نفوذها في سورية؛ حيث تنافس القادة الإسرائيليون في إطلاق التهديدات باستخدام القوة العسكرية لضمان عدم تمكين إيران من تأمين تواصل جغرافي لنفوذها، يربط طهران بدمشق مروراً ببغداد وانتهاء ببيروت.

ومما يدل على أن الهجوم يرتبط بتحولٍ طرأ على طابع خريطة المصالح الإسرائيلية حقيقة، أن محافل التقدير الإستراتيجي في تل أبيب عكفت، بشكل خاص، على التحذير من أن إيران قد مهّدت لتوسيع نفوذها في سورية من خلال تدشين منشآتٍ لتصنيع السلاح النوعي، أو تفعيل منشآتٍ يملكها جيش الأسد في مناطق متفرقة من سورية. وتدّعي تل أبيب أن المنشأة العسكرية التي قصفت في مصياف تستخدم لتصنيع صواريخ ومنظومات دفاعية بالغة الدقة، تعتمد بشكل خاص على تقنيات إيرانية. وحسب المنطق الإسرائيلي، فإنه في حال تمكّنت إيران من توسيع دائرة نفوذها في سورية بعد حسم الصراع لصالح نظام الأسد، فإن السماح بإنتاج السلاح النوعي هناك ينطوي على خطورةٍ لا تقل عن خطورة السلاح الذي ينقل إلى حزب الله في لبنان. وتنطلق تل أبيب من افتراضٍ مفاده بأن اتساع دائرة نفوذ طهران في سورية يعني أن إسرائيل ستواجه، في أية حرب مستقبلية مع حزب الله، خطر انطلاق عملياتٍ ضدها من سورية أيضاً، وليس من لبنان فقط؛ الأمر الذي يوجب الحرص على إحباط أية محاولة إيرانية لإنشاء بنى صناعية عسكرية، ترفد الجهد العسكري ضدها، انطلاقاً من سورية. وتحاجج تل أبيب بأن ما يضفي مصداقيةً على مخاوفها من تبعات تعاظم النفوذ الإيراني في سورية حقيقة أن هذا التحول سيجعل أبواب سورية مشرعةً أمام عناصر المليشيات الشيعية من جميع أرجاء العالم، ما يحوّل سورية عملياً إلى قاعدة متقدمة لإيران، كما يزعم رئيس الموساد، يوسي كوهين.

لكن إسرائيل تقدم على مخاطرة كبيرة، وغير محسوبة العواقب، في حال اعتمدت نمط التعاطي العسكري في مواجهة مظاهر تعاظم النفوذ الإيراني في سورية، كما عكس ذلك الهجوم على مصياف، فالإستراتيجية العسكرية الجديدة ستقلص هامش المناورة أمام روسيا، بحيث قد يستحيل التقاء المصالح النسبي الذي كان سائداً بين موسكو وتل أبيب في سورية إلى مواجهة خطيرة. لقد غضّت روسيا الطرف عن هجوم الأسبوع الماضي، وبدت غير معنيةٍ باندلاع مواجهة بين إسرائيل وكل من إيران وحزب الله، لأنها تخشى أن تؤثر هذه المواجهة على مآلات الصراع في سورية الذي بات في مراحله الأخيرة. لكن في حال طبقت إسرائيل المعيار الجديد في استهداف المنشآت التي تشكّ بأن إيران تدشّنها بهدف إنتاج السلاح "النوعي"، فإن فرص تفجر صراع مفتوح في سورية بين إسرائيل من جهة وكل من روسيا وإيران والقوى الشيعية ستتعاظم. فعلى سبيل المثال، تدّعي إسرائيل أن أخطر منشآت التصنيع العسكري التي دشّنها الإيرانيون، أخيراً، تقع في محيط مدينة طرطوس، وقريبة من قاعدة حميميم الروسية، الأمر الذي يعني أن استهداف هذه المنشأة ستفسّره موسكو مسّاً متعمداً بمكانتها في سورية.

إلى جانب ذلك، تبين لإسرائيل أن الروس يرون في الوجود الإيراني والشيعي، بعد حسم المواجهة في سورية، مصلحة استراتيجية لموسكو. وقد تأكد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، خلال لقائه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في منتجع سوتشي قبل ثلاثة أسابيع، أنه عند المفاضلة بين تل أبيب وطهران، فإن روسيا اختارت الأخيرة بدون تردد. وكما روى شمعون شيفر، المعلق السياسي في "يديعوت أحرنوت"، فقد "أربكت" صراحة بوتين نتنياهو عندما أوضح له أن روسيا ترى في إيران حليفاً إستراتيجياً لا بديل عنه، وأن من حق موسكو توثيق تحالفها مع إيران "تماماً كما تدشّن إسرائيل تحالفاً مع الملكيات العربية السنية". ومن نافلة القول إن التدهور الكبير الذي طرأ على العلاقات بين موسكو وواشنطن يزيد من القيمة الإستراتيجية للعلاقات مع طهران في نظر الروس.

إسرائيل، على الرغم من أنها تعي طابع الاعتبارات التي تحكم السلوك الروسي، إلا أن إحباطها المعلن من السياسات التي تتبناها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في سورية قد يجعلها تمضي في تبنّي الإستراتيجية الجديدة بهذه الوتيرة أو تلك، وهو ما قد يفضي إلى اندلاع مواجهة مع إيران والقوى الشيعية في سورية، ويمكن أن تنتقل لاحقاً إلى لبنان. وعلى الأقل، في وسع الروس توظيف منظومات الإنذار المبكر ومنظومات الدفاع الجوية التي يحتفظون بها في سورية في تقليص عوائد الجهد الحربي الإسرائيلي في سورية، واستنزاف تل أبيب. إلى جانب ذلك، فإن مواجهة جديدة بين إسرائيل وحزب الله تحديداً تنطوي على خطورة أكبر، بسبب تواتر التقديرات في تل أبيب التي تؤكد أنه على الرغم من مرور 11 عاماً على حرب لبنان الثانية، فإن إسرائيل لم تتمكّن بعد من اتخاذ الاحتياطات التي تكفل تأمين عمقها المدني في مواجهة الصواريخ التي يملكها حزب الله، والتي تمتاز بمداها الطويل ورؤوسها الثقيلة ودقة إصابتها.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو