اللافت أن أكثر من طرف بات معنياً بترحيل عناصره في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وبات الأمر مكشوفاً ربما "أكثر من اللزوم". بعضهم بـ "السرّ"، لكنه منقول بالصور، وبعض بالعلن. انتهت مهمة "داعش" لدى بعضهم، وكان يجب نقلها من مكان إلى مكان بات بحاجة إليها لدى آخرين. كشفت الحالة الأخيرة أدوار كل من حزب الله والنظام السوري، وأوضحت طبيعة علاقة كل منهما بداعش. وتعلقت هذه الحالة كذلك بنقل جبهة النصرة ومركزتها في إدلب، حيث سيكون الأمر المطروح الآن "محاربة" جبهة النصرة لإخراجها منها.
لنعد إلى البداية، فقد أظهرت معركة الموصل كل الأمور التي كانت مغطاة قبلئذ. جرى ترويج خروج قوافل "داعش" من الفلوجة، بعد أن تدمّرت أقسام مهمة فيها. وأشير إلى فتح الطريق لها لكي "تغور" في الصحراء، طبعاً من دون أن يلحظ الطيران الأميركي، بكل تطوره التكنولوجي، خروج طابور طويل من مسلحي "داعش"، وحين افتُضح الأمر جرى الحديث "الإعلامي" عن قصف الموكب. في الموصل التي كانت آخر أهم معاقل "داعش"، خيضت حرب استمرت ما يقارب السنة، انحصرت الحرب، في نهايتها، في الموصل القديمة التي تعرضت لقصف الطيران والقصف المدفعي بوحشية، الأمر الذي أدّى إلى حدوث دمار كبير، ومن ثم "انتصر" الجيش العراقي والتحالف الغربي في "دحر داعش". وعلى الرغم من الحديث عن وجود آلاف الدواعش فيها، لم يُعتقل سوى عدد محدود، ولم يُقتل سوى عدد محدود، بالتالي طُرح السؤال: أين تبخّر هؤلاء؟ بعدئذ، ظهر كيف أن طائرات الهيليوكوبتر الأميركية نقلت مئات الدواعش، ربما آلاف، إلى المركز الذي انطلقوا منه. ربما في استراحة محارب إلى حين تحديد الوجهة الجديدة لهم.
ولأن القرار هو بـ "إنهاء" داعش، "تصفيتها"، بات واضحاً أن وضعها في العراق على وشك النهاية، بدأت معركة الرّقة، وتحرّر جزء كبير منها (والتحرير هنا يعني التدمير أيضا)، لكننا لم نجد داعشياً واحداً اعتقل، ولا ظهرت جثثٌ لآلاف كان يقال إنها موجودة في المدينة، وأشير إلى أن التحالف ترك لهؤلاء ممرّا لكي ينتقلوا إلى دير الزور. لكن طائرات أميركية شوهدت، أخيرا، تهبط في محيط دير الزور، وتنقل قادة في "داعش"، وربما عناصر كثيرة كذلك. حيث ظهر واضحاً أن توافقاً أميركياً روسياً قد تبلور، يقوم على أن تقوم القوات الروسية وقوات إيران بـ "مهمة تحرير" دير الزور، على الرغم من كل الحديث الذي كان يقال عن سعي أميركي لـ "تحريرها"، وربما يكون الدور الأميركي محدّداً في "تحرير" طرفها الشرقي، حيث عمل على إشراك كتائب من "الجيش الحر" موجودة في التنف في المعركة، مع قوات أخرى موجودة في الشدادي، حيث تقيم قاعدة لها.
بمعنى أن أميركا تعمل الآن على سحب عناصر "الشركة الأمنية الخاصة" التي تقود الدواعش، وتترك هؤلاء الذين التحقوا تحت أوهام الدين، أو "المساندة" أو غيرها، لكي يلقوا مصيرهم. لقد أنجزت هذه الشركة مهمتها بنجاح، وتغادر لكي تستعد لتكليف جديد في بلد آخر. ولا شك في أن كل الدول التي أرسلت دواعشها أخذت تسحبهم الآن، حيث "انتهت المهمة"، بعد أن شارفت الأمور على توافقٍ يتعلق بترتيب الوضع الإقليمي.
اللافت أكثر ما فعله حزب الله. لقد نقل النظام السوري منذ مدة عناصر من جبهة النصرة من مناطق درعا، بعد أن هربت إلى حواجزه، ووضعها في إدلب. ثم عمل على نقل عناصر "داعش" الموجودين في مخيم اليرموك والحجر الأسود إلى الرّقة، وكذلك نقل عناصر جبهة النصرة الموجودين في المخيم إلى إدلب، لكن الصفقة فشلت بعد تهديد جيش الإسلام بمنع مرورهم إلى هناك. وجرى نقل عناصر لجبهة النصرة من أكثر من مكان إلى إدلب. وآخرها ما قام به حزب الله بنقل هؤلاء (مع فرض انتقال آلاف اللاجئين السوريين) إلى إدلب، بعد معركةٍ برّرت صفقة كانت مقرّرة قبل "هجوم" الحزب على جبهة النصرة. هذا "الهجوم" الذي قطع الطريق على الجيش اللبناني، بعد أن قرّرت الحكومة مهاجمته جبهة النصرة، ليضمن ترحيلهم بدل قتلهم أو اعتقالهم. لكن الجيش قرَّر محاربة "داعش"، ويبدو أن حزب الله لم يستطع ذلك بعد أن استبق الحرب ضد "النصرة". لهذا تدخل من الطرف السوري تحت حجة محاربة "داعش"، وحين سيطر الجيش على أكثر من 80% من الجرود، كما صرّحت قيادة الجيش، وكان مستمراً في التقدم، تدخل الحزب بحجة معرفة مصير الجنود الذين قتلتهم "داعش" لوقف إطلاق النار، وإنجاز صفقة أنتجت استلام رفات الجنود، وإطلاق عناصر "داعش" بنقلهم إلى دير الزور كما يقال، على الرغم من أن القوات الروسية وقوات حزب الله تتقدم لفك الحصار عن المدينة. ولكن المطلوب نقلهم الى البوكمال، المنطقة التي كان يجب تعزيزها بعناصر من "داعش"، لأن التحالف الدولي مع بعض الكتائب التي تتعاون معه كان معدّاً لها التقدم من التنف إلى دير الزور لـ "تحريرها" من داعش (مع تقدم آخر من منطقة الشدادي، حيث توجد قاعدة أميركية). بالتالي، كان يجب منع ذلك، لأن "الحرب ضد داعش" في دير الزور يجب أن تكون لروسيا والنظام بعناصر حزب الله وإيران والمليشيا الطائفية العراقية.
لا يُراد هنا الإشارة إلى طبيعة "داعش" في البادية السورية وفي دير الزور (أشير في السطور السابقة إلى أن أميركا سحبت عناصرها)، لكن هذا الاستحواذ على "معركة" دير الزور فرض تعزيز وضع "داعش" في البوكمال. هذه داعش حزب الله التي بقي منها أعداد في بعلبك (حسب فداء عيتاني في مقال له)، ومن بينهم أمير في "داعش" كان يرسل المفخّخات إلى الضاحية الجنوبية. بمعنى أن مهمة داعش انتهت في جرود عرسال، كما انتهت مهمة جبهة النصرة، ويجب أن يعود كل منها إلى المنطقة التي تخدم استراتيجية النظام وحزب الله. وما قام به الطيران الأميركي هو "وقف تقدم قافلة داعش"، لكي يقول للنظام وحزب الله إنه يفهم ما يفعلون، لا لكي يدمّر القافلة، حيث سمح بقوافل كثيرة لداعش أن تتنقل في كل هذه الصحراء.
باختصار، أميركا ترحّل "جماعتها"، وحزب الله والنظام يعيدان ترتيب تموضع "داعش" وجبهة النصرة، تمهيداً لـ "معركة الحسم". حيث تُفشل خطة أميركا بإشراك كتائب مسلحة في معركة دير الزور، وربما قصر المعركة عليهما، وتصبح إدلب الرقة الجديدة التي تحتاج حربا من أجل "تحريرها". لهذه الأسباب، نقل حزب الله الدواعش، وقبلهم "النصرة"، لكن ما جرى أظهر أن التنظيمين مسيطر عليهما من النظام وحزب الله، كما كانت تسيطر أميركا على أجزاء كبيرة من "داعش"، وربما من جبهة النصرة، وكذلك دول أخرى، مثل إيران وتركيا، وأدوار لدول في الخليج.
إن توجه الأكراد نحو الانفصال وإنشاء دولة قومية لهم، هو نتيجة محتمة لسياسات الحكام العرب الاستبدادية القائمة طوال العقود الماضية على القومية العربية في كل شيء. حتى في غرف النوم، إذ تعرض الأكراد فيها لسياسات طمس الهوية وتعريب لغتهم ومعالم هويتهم وصولا إلى أسماء أطفالهم.
فكردستان العراق صبر كثير على الدولة العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين الذي سقاهم الكيماوي علقما. وحتى اليوم لم تتصالح المكونات العربية داخل العراق الفوضوي السائر في نهج الاقتتال الداخلي الطائفي والمذهبي. في ظل تسلط دولة عرقية جديدة هي إيران على مصانع صناعة القرار العراقي في بغداد لصالح فئة دون أخرى. لذا بات من الضروري أن تستقل كردستان لتشق طريقها نحو الدولة الكاملة الأركان، كما يقول أبناءها.
أما أكراد سورية الذين سنحت الفرصة لسحب غطاء الانفصال من تحت أقدامهم في موقعة شهيرة رفض فيها المكون العربي المناهض للنظام شطب كلمة العربية من اسم الجمهورية السورية، وإعادتها بلفظها إلى ما قبل الحكم القومي والبعثي، أي سورية الخمسينيات، يقومون اليوم بعمليات تطهير دموي وعرقي شمالي سورية بدعم أمريكي، تمهيدا لاستئصال أجزاء واسعة منه ونزعه من محيطها بدعوة مظلومية ذاق ويلاتها قبلهم العرب السوريون.
القومجيون الأكراد هنا وهناك لا يختلفون بشيء عن القوميين العرب، فهؤلاء أي الانفصاليون الأكراد كما يحلو للكثيرين تسميتهم استغلوا الفوضى العارمة واضطهاد جيرانهم العرب من قبل حكومات تتغنى بالعربية، لينهشوا أي الأكراد جسد الدولة الوطنية القائمة على التعددية التي سعى الكثيرون لبنائها بدمائهم، تماما كما فعل أولئك أي القوميون العرب بهم قبل عقود، يوم جلدوهم بسياط سايكس بيكو فأدموا حضارتهم وحطموا شعائرها.
أكراد إيران الفارسية بثوب شيعي، وبيدها العراق، وأكراد سورية الممزقة اليوم بالحرب الطائفية وبظهرهم أمريكا التي ما زالت تحلب شعوب المنطقة في الخليج وبلاد الشام، تمكنوا من إعادة ضعضعت ملف أكراد تركيا المستكين مؤقتا، بفعل إعادة معالم هويتهم في ظل حكم العدالة والتنمية الذي يقدس الدولة القائمة على القومية التركية المتعددة المذاهب والأطراف، دولة ضاقت بها أمريكا والغرب بعد النجاح الكبير الذي حققته على الصعيد الداخلي والخارجي، لذا لا مانع من تحريك حلم الدولة الكردية في عقول الأكراد فيها لكبح جماحها.
المؤكد أن مثلث الموت الكردي في العراق وإيران وتركيا وسورية سيعيد رسم معالم خارطة المنطقة في ظل الانقسام العربي والرفض الإقليمي والتعنت الكردي، وتداخل مصالح الدول الكبرى فيها، ورغبتهم إبقاءها تحت وصايتهم حتى لو اضطرهم الأمر إعلان مقتل سايكس بيكو في الشرق الأوسط كله.
أما عن فرحة الاحتلال الإسرائيلي باستفتاء كوردستان العراق ورفع أعلامهم فيها، فهذا أمر على الرغم من إيلامه، إلا أنه لا ينبغي أن يثير حفيظة الشعوب العربية كثيرا، لأن معظم حكام دولهم بايعت إسرائيل علنا وسرا بالعصا والجزرة على السمع والطاعة.
أخيرا عند حديثنا عن الدولة الكردية كعرب لا بد لنا أن نجد المبررات للشعب الكردي الذي يقاد اليوم بدعاية لها أصولها، تماما كما سيقت الشعوب العربية يوما بالدعاية والقوة نحو القومية العربية يوما.
لدى الحديث عن انكفاء تنظيم «داعش» الإرهابي وهزيمته، في العراق وسورية خصوصاً، يتكرر قول رائج عن أن هذه الهزيمة هي هزيمة عسكرية فقط، ولذا فإنّ «داعشَ» آخرَ سيخلُف «داعش» الحالي. ويحاجج هذا القول، عن حق، بأن البيئة التي أنتجت «داعش» لا تزال رابضة ولمّا تتفكك، وأنه لا بديل عادلاً أو ديموقراطياً حلّ بدلاً من التنظيم، فـ «المنتصرون» مستبدون ودمويون وطائفيون، كما أنه لا ثقافة دينية عفية وعقلانية وإنسانية جديدة تولّدتْ من التجربة المُرّة التي صاحبتْ صعود التنظيم وتمدده وانحساره، ومن الطبيعي أن لا يكون «منتصرون» تلك صفتهم قادرين على خلق هذه الثقافة، فضلاً عن أن الطرف غير المنتصر في هذه المعارك غير مؤهل لهذه المهمة، لأنه يقدّم الطبيعة التي يتوافر عليها «المنتصر» ذريعةً لعدم الاعتراف بالهزيمة، والإصرار، تالياً، على إنتاج جولة جديدة من سردية المظلومية كقنطرة للمواجهة السالبة، وفي ذلك إغراقٌ في التفسير الخاطئ للهزيمة، وتعطيلٌ لمبدأ السببية في تحليل الأحداث والوقائع. عند هذا الحدّ قد يجوز الاستنتاج بأن الذي هُزم ليس «السُنّة» في العراق وسورية ولبنان، وإنما الهزيمة هي هزيمة الدولة الوطنية وأيّ مشروع على صلةٍ بالوطنية الجامعة والمواطنة المتساوية والدولة العاقلة.
واستناداً إلى مضمون الفهم السابق قد تبدو مقولة إن «داعش» آخر سيخلف «داعش» الحالي مقولةً إشكالية لثلاثة أسباب:
أولها، أنها تهجس، من حيث تقصد أو لا تقصد، بوعي تشاؤمي ينطوي على ما يُشتمّ منه عدم ثقة بالشعوب العربية على تعلّم الدروس، وبأنها أسيرة تكرار الأخطاء مرة تلو أخرى.
وثانيها، أن تلك المقولة تخدم التيارات الإسلاموية، الجهادية وغيرها، ممن تُؤسس مقولاتها على الجزم بأنه لا خلاص سيأتي ما دامت أنها مستهدَفة ومحارَبة من قبل الخصوم والأعداء، «القريبين والبعيدين». وتصريف ذلك استمرار سردية المظلومية- الضحية، التي من مقوماتها أن هذه التيارات هي المستقبل الذي لا بدّ من أن ينبلج يوماً ما، «ليعود الحق إلى نصابه»!
وثالثها، مستنداً إلى السببين السابقين، يتمثل في أن القول إنّ تطرفاً دموياً آخر آتٍ قولٌ (على رغم واقعيته الجارحة) لا يُلقي بالاً لعذابات الشعوب جرّاء هذا التطرف، وبأنّ عذاباتها ستكون مضاعفةً حين تلجأ إلى احتضان التطرف لمواجهة ظلم الأنظمة والعالم.
هي دعوة للمراجعات ومحاولة تعلّم الدروس، وعليه، فإنّ الأجدى أنْ تتمحور المعالجة على تأكيد أنه لا منتصرون ما دامت الوطنية الجامعة الحُرّة هشّة ومريضة في دول الصراع، وهي وصلتْ إلى هذا الحدّ بفعل الاستبداد والتطرف، وأنه لا بدّ من الاعتراف بأن الأخيرين لا يزالان عنيدين للغاية في واقعنا العربي، ما يفيد بأن التضحيات الباهظة لم تكن في الاتجاه الصحيح الكافي لهزيمتهما، فـ «المهمة لم تُنجز»، أيْ أنّ ثمة قَدَراً أجمل... في انتظار من ينجح في ذلك.
مع انسداد أفق المفاوضات السياسية، وتفاقم معاناة السوريين من ملفات إنسانية لم تعد معالجتها تحتمل التأجيل، ومع ازدياد تغول أطراف خارجية في الصراع الدامي وتنامي أخطار أوهام النظام بتحقيق انتصار عسكري ربطاً باتساع مناطق خفض التصعيد والنجاح النسبي في دحر تنظيم «داعش»، تبدو بلادنا المنكوبة والمهددة بتفاقم الاضطراب والعنف، أمام فرصة منح المجتمع الدولي مهمة الأخذ بيدها عبر قرار نافذ يضعها تحت وصاية دولية أو إشراف أممي يحاصر منطق القوة والغلبة ويعيد للمجتمع دوره في سياق عملية التغيير السياسي وإعادة الإعمار المرتقبة.
والفرصة ليست قفزة في الهواء ولا تنطلق من الرغبات والأمنيات بل يحكمها توافق للمصالح يرجح أن يحض أهم القوى العالمية، كروسيا والولايات المتحدة وأوروبا، على توسل المظلة الأممية لمحاصرة بؤرة التوتر السورية وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.
وإذا كان السؤال الأهم: ما هي مصلحة روسيا في الإشراف الدولي على بلد هي فيه الطرف الأقوى والمقرر، ولماذا قد تتنازل وتشارك الغرب هذه الغنيمة؟ فإن الإجابة لا تنطلق من معطيات اللحظة الراهنة فقط وإنما من حسابات بعيدة المدى يفترض أن تأخذها موسكو في الاعتبار، حيث يمنحها هذا الخيار أولاً، غطاءً أممياً هي في حاجة إليه لتحصين موقعها ودورها، بخاصة عندما تغدو الرقابة الدولية إطاراً داعماً لخطتها في تعميم مناطق خفض التصعيد، وثانياً، لأنه يعزز حظوظ استقرار الوضع السوري، ويساعدها في تخفيف الاحتقان الشعبي وردود الأفعال تجاه ما خلفته حربها على البلاد، بما في ذلك تجنب التفرد في تقرير مستقبل لسورية قد يغرقها وحيدة في مستنقع يماثل تجربتها الأفغانية، وثالثاً، لأن قيادة الكرملين يمكنها الاستناد إلى تلك الشرعية الدولية للجم شهية التوسع الإيرانية، ولمحاصرة النفوذ التركي ومتطلباته، بما في ذلك طمأنة إسرائيل واللوبي اليهودي الضاغط عليها، ورابعاً، وهو الأهم، لأن مثل هذا الإشراف يدشن مناخاً سياسياً جديداً قد يرضي الداعمين العرب والغربيين ويشجعهم على المشاركة في إعادة الإعمار، ولنقل يغازل اشتراطهم تنفيذ الانتقال السياسي قبل بدء عملية إعمار تتخطى تكلفتها بالأرقام الأولية، القدرة المحدودة لروسيا وحلفائها، ولا يبدل الأمر تنطح الصين ودول البريكس لهذه المهمة.
والقصد أن قرار إعادة الإعمار شيء وتنفيذه شيء آخر، ويتوهم من يعتقد ببدء التنفيذ في ظل الشروط القائمة، وبالأهداف السياسية التي يطرحها النظام وحلفاؤه، فلا يمكن أن تنجز عملية إعادة إعمار بالمعنى الحقيقي، إن غابت عنها الدول الكبرى ومؤسساتها التي تمتلك الأموال والتقنية والخبرات، وأهمها دول ذات وزن حاسم، مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسة ودول الخليج العربي. وهؤلاء بداهة، لن يتعاطوا مع عملية إعادة إعمار تصب الحب في طاحونة النظام السوري وحلفائه ومشاريعهم السياسية المعروفة والمرفوضة.
وفي المقابل، يشكل الإشراف الأممي حافزاً لتأمين مصالح الدول الغربية ما دام يفتح الباب أولاً، لدخولها بصورة شرعية ومستدامة في الوضع السوري وللمشاركة الجدية في تقرير مصيره ومستقبله العمراني والسياسي، وثانياً، لأنه يمكنها من محاصرة نفوذ الدول الإقليمية ومشاريعها المغرضة في سورية، وتحديداً إيران وتركيا، عداكم عن أنه يشكل بديلاً مقبولاً عند إسرائيل عن تحالف الدول الثلاث الضامنة، روسيا وإيران وتركيا، وثالثاً، لأنه يخفف إلى حد كبير ضغط اللاجئين السوريين، حيث لا يمكن أن يُطمئن هؤلاء الهاربين من أتون العنف والانتقام ويشجعهم على العودة لديارهم، سوى وجود طرف ثالث يضمن لهم الأمن والحماية ويعيد التأسيس للبنيتين التحتية والخدمية، بما في ذلك عودة آلاف الكوادر العلمية والمهنية المعنية بإعادة إعمار وطنها، والتي لا بد أن تفرض تأثيرها على الحياة المدنية والسياسية وقد باتت أكثر إيماناً بالقيم الغربية، ورابعاً، لأنه يعزز توحيد الجهود الدولية لدحر الإرهاب الإسلاموي ولتمكين مناهضيه من لعب دور ثقافي وسياسي ضده، وأيضاً لتخفيف المظالم والأسباب التي تساهم في توليده وتنميته، وخامساً، لأنه يساهم في تغيير الصورة السلبية التي ترسخت بين السوريين والعرب عن مجتمع غربي لم يحرك ساكناً لوقف ما حصل من قتل ودمار، ولم يتدخل لحماية أرواح المدنيين.
اعتمدت الأمم المتحدة مبدأ الإشراف الدولي كوسيلة لمعالجة مخلفات الحرب العالمية الثانية، ولإنقاذ مجتمعات عجزت عن التخلص من صراعاتها الدموية بسبب تهالك بناها الذاتية وتشابك التدخلات الخارجية في شؤونها، وهو ما وصل إليه الوضع السوري، ما يعني، أن الإشراف الدولي، بات طريقاً ممكنة لتخليص السوريين من محنتهم، ربطاً بتحجيم دور النظام القمعي القائم، مع الحفاظ على ما تبقى من الدولة ومؤسساتها، ومنع سقوط المجتمع في أوحال الطائفية والمحاصصة والتقسيم وأتون الثأر والانتقام.
وحين تخلص الدول الكبرى إلى اعتماد الإشراف الدولي على سورية كخطة طريق لإطلاق عملية تغيير بنيوية تحيي دور المجتمع وتبعث الثقة بمكوناته المدنية في رسم مستقبل البلاد، تصبح مفاوضات جنيف قابلة للحياة، ويغدو بالإمكان إنجاح النظام السياسي الانتقالي، ووضع حد لمراكز سلطوية فاسدة أفرزتها الحرب، بما في ذلك تفكيك التنظيمات المتطرفة واستيعاب المعارضة المسلحة في جيش وطني يعاد تشكيله، في سياق إعادة هيكلة مؤسسات الدولة ودورها العمومي، يحدوها انتشار لجان أممية للرقابة الأمنية والسياسية تستعين بمختلف الكوادر والخبرات السورية.
لن يكون تمرير هذا الخيار سهلاً وستقاومه أطراف كثيرة وتعرقله، أولها سلطة تأبى تقديم التنازلات وتستمر في التهرب من الحلول السياسية، لكن صعوبة، إن لم نقل استحالة، استمرارها في الحكم بعد ما ارتكبته، ثم حاجتها الماسة للمساعدات المادية والتقنية الغربية والعربية لمعالجة الخراب العمراني والاقتصادي، والأهم اضطرارها للخضوع للإرادة الروسية إن تبنت الإشراف الأممي، هي عوامل ستحاصر مجتمعة رفض السلطة السورية وتجبرها على الالتزام بما يقرره المجتمع الدولي، وربما لن يختلف الأمر بالنسبة لإيران التي تستنزف في العراق واليمن، وقد تكره على المساكنة تحسباً من اندفاعة للبيت الأبيض تضع تهديداته بالحد من نفوذها موضع التنفيذ، وكذلك حال تركيا التي لن يهمها في نهاية المطاف سوى احتواء الوضع الكردي وضبط انفلاته.
واستدراكاً، يغدو خيار الإشراف الأممي اليوم، ضرورة وفرصة في آن، ضرورة لإنقاذ المجتمع السوري من مصائر مأسوية تهدد وحدته ومستقبله، بما في ذلك وقف الاستهتار الدولي المخزي بالأرواح التي تزهق وبمعاناة بشر فاقت كل الحدود، وفرصة تخلقها حوافز موضوعية لتشابك المصالح العالمية وتقاطعها، يعزز حظوظها أن تكون أوروبا، بما تملكه من وزن ومصالح لدى جيرانها العرب، هي السباقة لتبني هذا الخيار والتشجيع عليه.
لا توجد أوهام لدى المعارضة السورية، والشريحة الاجتماعية الواسعة وراءها، بأنّ هنالك من لا يزال متمسّكاً برحيل الأسد عن السلطة في سورية، عملياً، ولا حتى أكثر الدول شراسةً ضده في السابق، مثل فرنسا وبريطانيا وأميركا وبعض الدول العربية.
لسنا، هنا، بصدد مناقشة ما إذا كانت هذه الدول الغربية في الأصل كانت جادّة بإطاحة نظام الأسد (والجواب برأيي؛ لا، بل على النقيض كانت تخشى من انهياره المفاجئ واستلام الإسلاميين الحكم، وتلخّصت تلك الهواجس بسؤال اليوم التالي لسقوط الأسد)، لكنّها اليوم لا تصرّ دبلوماسياً، ولا في مفاوضاتها مع الروس، على رحيل الأسد من شروط العملية السياسية المقترحة، بقدر ما إنّ موقفها (هذه الدول) يمكن أن يوصف بـأنه "غامض" وفضفاض.
على أرض الواقع، تغيرت الموازين فعلياً. ويمكن القول إنّ تحالف الروس والإيرانيين والنظام ربح الجولة العسكرية الأخيرة، وقلب المعادلة، حتى إنّ النظام بات يسيطر على ما يقارب من 80% من مساحة سورية، بعدما كان لا يسيطر على أكثر من ربع المساحة قبل عامين تقريباً!
ليست هنا المشكلة الحقيقية، بل المعضلة أنّ من يسيطر على باقي الأراضي عملياً هي قوى مصنّفة دولياً إرهابية، ولا تنتمي للثورة السورية، إن لم تكن معادية لها، فما يزال جزء من الرّقة ودير الزور وريفها بيد "داعش"، وإدلب بيد فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً= القاعدة= مقاتلين محليين وأجانب)، أمّا الجيش الحرّ والفصائل الإسلامية الوطنية فتسيطر على مناطق في درعا ومناطق في أرياف الشمال محدودة التأثير والنفوذ.
يطرح هذا وذاك السؤال الجوهري في ما إذا كان يعني عودة سورية إلى ما كانت عليه قبل شهر مارس/ آذار 2011، أي عندما انطلقت الشرارة الأولى للثورة السورية؟ الجواب: لا، وهو أمر ليس فقط مستبعداً، بل يكاد يكون خيالياً، على أكثر من صعيد. يتمثل الأول في الأوضاع الداخلية وموازين القوى في أوساط النظام وعلاقته بالروس والإيرانيين، والنفوذ الإيراني الواسع المتنامي في سورية، ما يعني إعادة هيكلة المعادلة الداخلية، مع تقلّص الجيش السوري إلى أقل من النصف بكثير، واستنزاف موارده، ونضوب الخزّان البشري الداعم له، وكذلك الحال بالنسبة لعلاقته بالقواعد الاجتماعية المتعددة. ويتمثل الصعيد الثاني في الاستراتيجيات الدولية والإقليمية، فعلى الرغم من عدم طرح شرط رحيل الأسد اليوم مفتاحا رئيسيا للعملية السياسية، فإنّ من الواضح، في المقابل، أنّ القبول ببقاء الأسد، وعودة الأمور إلى ما كانت عليه، غير مقبول، ولا مطروح أوربياً وأميركياً، وهو سيناريو يعني الاستسلام والتسليم الكامل بانتصار الروس والإيرانيين، وهزيمة ليس المعارضة السورية فقط، بل الغرب والعرب أيضاً، وهو أمر سابق لأوانه.
ما نراه اليوم أنّنا أمام حلم كردي متنامٍ في المنطقة، وعلى عتبة استفتاء تاريخي لإقليم كردستان العراقي (إن لم يُحبط في اللحظة الأخيرة)، وهو وإن لم يتمخض عملياً عن استقلال كردي معترف فيه، فإنّ القضية الكردية أصبحت اليوم في عصر جديد ولحظة مختلفة، وفي سورية على الأقل سيكون هنالك شبه استقلال، أقرب إلى الحكم الذاتي.
يفكر الأميركيون جديّاً بتطوير قواعدهم العسكرية في المناطق الكردية، وباعتماد الأكراد حليفا استراتيجيا، وما يزالون يفكّرون بأدوات استراتيجية لتحجيم النفوذ الإيراني، وعرقلة طريق طهران إلى المتوسط بريّاً، ويحتفظون بمناطق في البادية.
وعلى الرغم من نجاح مسار أستانة العسكري (برعاية الروس) في تحقيق مناطق منخفضة التصعيد وإيجاد تنسيق روسي- إيراني- تركي، فإنّ مسار جنيف السياسي ما يزال متعثراً، ما يعني عدم وجود توافق استراتيجي دولي وإقليمي حول مستقبل سورية.
وكان وزير الخارجية الأميركية الأسبق، هنري كسينجر، قد ذكر، في مقالٍ له، إنّ الخيارات الأميركية والدولية مع صدام حسين بعد حرب الخليج في 1991 ثلاثة، إسقاطه، إعادة تأهيله، احتواؤه وإبقاؤه في القمقم، فتم اختيار الثالث. وهو السيناريو الذي سيسير على الأغلب مع الأسد، في المرحلة المقبلة، أي سيناريو صدام المحاصر بعد 1991، مع الفارق والاختلاف في المواقف الإقليمية والدولية، لكن جوهر المشكلة بين الحالتين أنّ إعادة التأهيل مستبعدة، والعودة إلى سورية في الجغرافيا السياسية كما كانت عليه مستبعدة، بينما هناك حالة ضعيفة داخلياً، مقتطعة جغرافياً، وهشّة عسكرياً وسياسياً، مع هويات داخلية فرعية متضاربة!
اتسم لقاء الرئيسين ايمانويل ماكرون ودونالد ترامب في نيويورك بود بالغ حيث كان ترامب يشيد بالرئيس الفرنسي والعرض العسكري في باريس الذي دعاه اليه في الصيف بمناسبة العيد الوطني الفرنسي. وهذا اللقاء الذي شل السير في نيويورك لبضعة ساعات لأن تحركات ترامب تتطلب اجراءات امنية صارمة، لن يخرج بنتيجة على صعيد الملف السوري على رغم أن فرنسا تريد المساهمة بقوة في حل سياسي للحرب الاهلية في سورية. فلسوء حظ الشعب السوري سلم بشار الاسد مصير بلده الى القوتين اللتين انقذتاه من السقوط، روسيا وايران. وترامب عازم على العمل مع ماكرون لمكافحة ارهاب «داعش» لكن مستقبل سورية لا يهمه بالفعل كما كان ذلك بالنسبة إلى سلفه باراك اوباما. وبرغم اصرار الرئيس الفرنسي ووزير خارجيته جان ايف لودريان على تشكيل مجموعة اتصال لدفع الحل في سورية، لا يساعد انقسام مجلس الامن حول هذا الموضوع على التفاؤل بنجاح مبادرة فرنسا.
أمسكت روسيا زمام الامور على الارض في سورية وهي غير راغبة بتدخل فرنسا التي تؤيد معارضة سورية وطنية حقيقية غير تابعة لروسيا. فروسيا تمكنت من التوصل الى تخفيض التوتر والعنف في بعض المناطق السورية وعززت موقع الاسد. وقول الوزير لودريان ان تحديد مستقبل سورية حسب الانتصارات العسكرية لمختلف الاطراف في مختلف الاماكن يعني تمزق البلد وتقسيمه هو ما يجري حالياً مع ما تقوم به روسيا وايران وحزب الله على الارض في سورية. والمشكلة ستتفاقم إن اصبحت روسيا هي من يريد تقرير مصير سورية ومستقبلها وتحديد النظام فيها والمعارضة. وحالياً ومرحلياً حتى إشعار آخر هي متحالفة مع إيران وحزب الله على الارض. ودول المنطقة وخارجها كلها تذهب الى روسيا للقاء بوتين بحثاً عن الحل بعدما مكنه إنقاذ الأسد من استعادة هيمنته وقوته في المنطقة.
كل ذلك بسبب تراجع الاهتمام الاميركي منذ اوباما. والكلام الفرنسي عن المستقبل السوري وعن استحالة ان يكون هذا المستقبل يشمل الأسد، صحيح وعاقل. لكن قد يستطيع ماكرون لو سعى إلى القيام بجهود قوية وموحدة مع المستشارة الالمانية انغيلا ميركل، اذا أعيد انتخابها، ان يصل ربما الى نتيجة مع بوتين. ولروسيا علاقات قوية جداً على الصعيد الاقتصادي مع المانيا ولا يمكن بوتين ان يتخلى عن العلاقة مع المانيا حيث تصب في صالحه. فربما يمكن ماكرون ان يحرك الموقف الروسي عن طريق ميركل. والمستشارة الالمانية مدركة كما ماكرون أن اللاجئين السوريين في اوروبا والمانيا وفي الدول المجاورة لسورية عبء خطير على الدول كما على اللاجئين انفسهم. والمانيا فتحت لهم الابواب والآن تريد اغلاقها. واللاجئون لن يعودوا الى بلدهم في ظل نظام ذبحهم وخرّب بلدهم وهجرهم. فهناك بعض الامل في تحريك الموقف الروسي في حال قررت ميركل اعطاء الاولوية لهذا الملف مع حليفها الاوروبي الاكبر ماكرون الذي يسعى إلى المساهمة في الحل. ولكن هناك ايضاً سيطرة ايران على الارض في سورية عبر حزب الله. فهذه معضلة اخرى تصعب الحل السياسي لسورية. فالنظام يفرغ المدن المحررة من داعش لتغيير نوعية وطوائف السكان فيها. وكثير من الايرانيين وغيرهم من ابناء الطائفة الشيعية تمركزوا في اماكن عديدة من سورية. والمسعى الفرنسي المحتمل لإشراك ايران في اي مجموعة اتصال يرغب الرئيس ماكرون بتشكيلها لدفع المفاوضات لا يمكن الا ان يفشل.
وايران تحارب وتقتل وتدمر هي ووكيلها «حزب الله» على الأرض في سورية وهذا ما اكده عن حق رياض حجاب بعد لقائه ماكرون في نيويورك.. فالرئيس الفرنسي الشاب يتحرك ويريد وفق وزير خارجيته «العمل والمساهمة في حلول جميع أزمات العالم». لكن طموحه يصطدم بتراجع اميركي مع فلسفة ترامب «اميركا أولا» ومع هيمنة روسية متزايدة وتدخل ايراني يزعزع استقرار المنطقة.
الاستفتاء على استقلال كردستان في موعده الإثنين المقبل. لم تفلح الوساطات والمناشدات حتى الآن في ثني رئاسة الإقليم عن هذا الاستحقاق. بات مستقبل مسعود بارزاني على المحك. لا يمكنه التراجع لأنه سيخسر كل شيء، معه الكرد أيضاً. لم يعد في حساباتهم التراجع عن الانفصال، خصوصاً بعد تأييد البرلمان في إربيل هذه الخطوة بالإجماع، وإن قاطع عدد من نواب «كتلة التغيير» و «الجبهة الإسلامية». حتى هذه المقاطعة لا تعني رفض جمهور هاتين القوتين الاستقلال. الأمر يتعلق بخلافات حزبية داخلية معروفة بين رئيس الإقليم المنتهية ولايته وهذين الحزبين. وبعيداً من التهديدات الإقليمية المحمومة، خصوصاً من جانب تركيا وإيران، فإن المساعي الدولية التي تقودها الولايات المتحدة لم تثمر حتى الآن. لو نجح تسويق البديل الذي قدمه المبعوث الرئاسي الأميركي للحرب على «داعش» بريت ماكغورك وسفراء غربيون، لكان صرف النظر عن إعادة تفعيل مجلس نواب الإقليم. لم تقدم الضمانات التي طالب بها بارزاني. لأنه كان ولا يزال يريد خطوة متقدمة تفوق بمفاعيلها الاستفتاء. وحتى الكونفيديرالية فات أوانها على الأرجح بديلاً معقولاً. غير الذهاب نحو الانفصال يعد انتقاصاً من رصيده الشعبي. لم يرضَ بالتأجيل سنتين على أن تناقش هذه القضية في الأمم المتحدة، ما لم تقر بغداد صراحة بحق الكرد في تقرير المصير مقروناً بضمانات دولية، وما لم تحدد المنظمة الدولية نتيجة هذا النقاش موعداً جديداً لهذا الاستحقاق.
الثابت إذاً أنه لم يعد مطروحاً في أجندة كردستان طي صفحة الاستفتاء والعودة إلى طاولة الحوار لا مع بغداد ولا مع غيرها من عواصم إقليمية ودولية معنية. تأجيل الاستحقاق من دون بديل حقيقي يعني ببساطة انهيار كل ما بناه بارزاني في مسيرته السياسية. علماً أن ما قدمه ماكغورك نفت الناطقة باسم الخارجية الأميركية عمله به. الاقتراح صاغه وزير الدفاع الجنرال جيمس ماتيس بعد زيارته الأخيرة إربيل، بالتفاهم مع مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر. وواضح تماماً أن واشنطن تقر بما تسميه الطموحات المشروعة للكرد، لكنها تخشى أن يترك هذا الاستحقاق في هذا التوقيت بالذات آثاراً سلبية على الحرب ضد «تنظيم الدولة». ولا يمكنها الذهاب بعيداً في الضغط على إلإقليم حليفها الرئيس وشريكها المضمون في الحرب على «داعش». أما أن تكرر حرصها على وحدة العراق فمثل هذا قالته إدارة الرئيس جورج بوش الأب مع بدء انهيار الاتحاد السوفياتي. شددت على وجوب بقاء الاتحاد لكنها سرعان ما بدلت رأيها وكان ما كان من أمر الكتلة الشرقية.
والثابت أيضاً أن بارزاني أظهر عزيمة وصموداً في صراع الإرادات. وتمكن من فرض خيار الاستفتاء على جميع المعترضين. حتى الاتحاد الوطني الذي كان تردد في البداية لم يجد بداً من الاصطفاف خلف هذا الاستحقاق. وسيمنحه الاستفتاء مزيداً من الشرعية الشعبية لتكريس زعامة بلا منازع. وهذا ما سيعزز موقعه في مفاوضات لا مفر منها لاحقاً مع بغداد وأنقرة وطهران، يدعمه رأي عام واسع. أما التلويح بالحرب والوعيد بالويل والثبور فيبقى من باب التهويل. لا يبدو أن ثمة طرفاً يستطيع اللجوء إلى القوة خلال أيام لفرض تأجيل الاستحقاق أو إلغائه. بل لا مصلحة لأحد في مثل هذا الخيار. فلا الكرد أعلنوا استقلالهم بعد ولا هم أعلنوا الحرب على بغداد. ولا الحكومة العراقية في وارد أن توقف حربها على «داعش» والانصراف عن مشكلاتها الجمة من أجل شن مواجهات ميدانية تعجل في إعلان الاستقلال. جل ما يمكن التفاوض عليه في الأيام القليلة الباقية قبل الاستفتاء هو البحث عن إمكان تأجيله في كركوك والمناطق المتنازع عليها. وهو أمر يبدو مستبعداً في ضوء تصعيد بارزاني لهجته. فقد أعلن في إحدى جولاته قبل أيام أنه لن يقبل التفاوض على حدود كردستان، والعودة إلى «حدودنا في عهد حزب البعث». كما أن بغداد ستستمع إلى رأي إيران.
وحتى إيران التي يرى غلاة قادتها أن الاستفتاء «مشروع صهيوني» هو المرحلة الأولى في «مؤامرة لتقسيم العراق وقيام إسرائيل جديدة»، ليست في وارد استخدام القوة لإرغام الكرد على إلغاء الاستفتاء. قد لا ترى بداً في المرحلة التالية للاستحقاق من حوار مع قيادة الإقليم للحصول على ضمانات لحدودها. وهي لن تكون، مثلها مثل تركيا بمنأى عن أي حريق كبير يندلع في كردستان أو على حدوده. فلهذه كردها ولتلك أيضاً، وقد وفرت لهم الحروب المشتعلة في الإقليم، كل أنواع السلاح ووفرت لهم الخبرات القتالية اللازمة. وفي ظل الصراعات الدولية والإقليمية على المنطقة ستكون هناك قوى وجهات خارجية جاهزة لمدهم بما يحتاجون من دعم. حتى رهان بعضهم على حزب العمال وعلاقته الجيدة مع «الحشد الشعبي» قد لا تفيد. فالهدنة القائمة بين طهران والقوى الكردية القريبة من الحزب مردها إلى رغبة الطرفين في اقتطاع حصته من الجغرافيا السورية. علماً أن الفرع السوري للعمال الكردي تمر تجارته من النفط السورية عبر كردستان. وليست لديه مصلحة في أي مشكلة مع إربيل. وأبعد من ذلك كيف للحزب الديموقراطي الكردي أن يعرقل توجه الإقليم نحو الاستقلال وقد دعت الهيئة التنفيذية لـ «الفيديرالية الديموقراطية لشمال سورية» إلى المشاركة في الانتخابات بعد أيام؟
لم يعد يفيد التوقف عند تحديد المسؤوليات عما آل إليه الوضع في العراق. صحيح ما يسوقه بارزاني عن استئثار بغداد بالسلطة وتحويل الدولة دولة دينية والكرد يريدونها كما في الدستور دولة مدنية ولا يرغبون في أن يكونوا خدماً. لكن ما يسوقه له خصومه صحيح أيضاً فهو ساهم في نظام المحاصصة وأفاد من الدعم الأميركي، وكذلك من الثنائية الكردية الشيعية التي أدارت الحكم إثر سقوط نظام صدام حسين. ولا شك في أن الإقليم لم يجد أي مصلحة في أن يكون «تكتل عربي» واسع يحول دون تحقيق طموحات الكرد في الانفصال. ولم يكن يعنيهم قيام حكم قوي في بغداد يكرر التجارب السابقة معهم. وهم على حق في ذلك. وحتى أعتى مناوئيهم زعيم «دولة القانون» نوري المالكي وفروا له ولاية ثانية. بل حالوا دون نزع الثقة عنه عندما تنادت قوى عدة لإطاحته. على رغم أنه وجه إليهم تهديدات واضحة وحشد قوات من الجيش الذي أشرف على بنائه على حدود الإقليم ملوحاً بالحرب. ولن تكون هناك ترجمة لما يرفع من شعارات عن «وحدة» عرب العراق بمواجهة الإنفصال، فالصراع المذهبي لم يبق شيئاً من وشائج هذه الوحدة. حتى أن مجاميع سنية عدة تلوذ بالإقليم، وبعضها يدعو إلى شمله بالاستفتاء!
الأيام السبعة الفاصلة عن موعد الاستفتاء حافلة بالغموض وبكثير من الأسئلة عن اليوم التالي لهذا الاستحقاق، وكذلك عن اليوم التالي لهزيمة «داعش». ليس واضحاً مشروع الحوار الذي سيقوم بين بغداد وإربيل في شأن الاستقلال، وما هي آليته ومتى يعلن، وما هي القضايا التي سيشملها هذا الحوار وأبرزها الحدود، هذا إذا تجرأت حكومة حيدر العبادي المقبل على انتخابات مصيرية، على بدء حوار في هذا الشان. علماً أن الكرد لا يبدون ولن يبدوا أي مرونة في احتمال التنازل عن الحدود الجديدة التي رسموها في أثناء مشاركتهم في الحرب على «داعش»، خصوصاً كركوك التي ستشكل بنفطها عماد اقتصاد الدولة الوليدة. وقضية الحدود هي المحك لمستقبل العلاقة بين بغداد وإربيل بعد سقوط آخر معاقل «تنظيم الدولة». فهل تتنازل المكونات العراقية الأخرى من عرب وتركمان وأقليات أخرى عن هذه المناطق بسهولة؟ والأمر نفسه بدأ يطرح في سورية أيضاً مع استعداد كردها لانتخابات في إطار فيديرالي يستقلون فيه بإقليمهم. ولا يبدو أن دمشق يمكنها مواصلة التنسيق معهم بعدما شارفت الحرب على «تنظيم الدولة» وبقية الفصائل نهايتها في بلاد الشام. وبدأت نذر المواجهة بين «قوات سورية الديموقراطية» بغالبيتها الكردية وقوات النظام في السباق إلى دير الزور ومنها الحدود مع العراق. قد تكون النزاعات الحدودية عنوان الحروب المقبلة للكرد مع شركائهم «السابقين» في كل من العراق وسورية... وربما في إيران وتركيا.
تتقدّم قوات النظام السوري وقوات «سوريا الديمقراطية» (الاسم الفنّي لـ«وحدات الحماية الكردية» المدعومة أمريكياً) نحو مدينة دير الزور (شرق سوريا المحاذي للعراق)، فيما تتراجع فصائل المعارضة الجنوبية (المدعومة أيضاً من أمريكا) إلى الحدود الأردنية، وتتفاهم روسيا مع إسرائيل على تطويب مرتفعات الجولان وحمايتها من اقتراب الميليشيات المحسوبة من إيران، وتتفق روسيا وإيران وتركيا على نشر مراقبين في إدلب (شمال سوريا)، وتضطر الفصائل المدعومة من دول عربية في المناطق الأخرى إلى قبول شروط «خفض التصعيد» و»المصالحات».
هذا المشهد السوري، على تعقيده، هو أيضاً حراك لـ«خفض التصعيد» بين القوى الإقليمية و«المصالحات الإجبارية» بينها، التي تؤسس لها تفاهمات أمريكا وروسيا ما وراء الكواليس، وهذا يؤدي، في نتيجته الحقيقية، إلى تكريس مناطق تقاسم النفوذ والسيطرة لهذه القوى على ما تبقى من أشلاء السوريين، وعلى بقعة الجغرافيا المفتوحة والمدمّاة التي كانت تسمى سوريا.
الأضحية الكبرى في هذه المعادلة المستجدة، كانت، وما تزال، هي الشعب السوري، الذي ثار بعد 48 عاماً من حكم طغيان عسكري وراثيّ متوحّش يخلط الأيديولوجيا والممارسات الطائفية بالشعارات الكبرى: الوحدة، التي كانت قناعا لتفتيت المجتمع السوريّ نفسه وتحويله إلى مستحاثات مغلقة للطوائف والقوميّات الخائفة ولإرهاب كل ما حوله من فلسطينيين ولبنانيين وعراقيين وأردنيين؛ والحرّية، التي هي نكتة سوداء عن مسلخ كبير للبشر، والاشتراكيّة، التي كانت، عمليّاً، نهب عصابات منظّماً لثروة المجتمع السوري وخنقا لإمكانيات تطورّه الطبيعي.
في محاولتهم اليائسة للخلاص من الطغيان، دفع السوريون أثماناً تفوق التصوّر، فقتل منهم مئات الآلاف، واختفى مئات آلاف آخرين في السجون، وتهجّر ونزح نصف عدد السكان، واندثرت مدن وبلدات وقرى تحت الأنقاض، وما زال الباقون على الحياة منهم في الرقة ودير الزور ودرعا وإدلب وريف حماة ودمشق تحت طائلة القصف المكثّف، حيث يجرّب الروس والأمريكيون مفاعيل صواريخهم وغواصاتهم ومقاتلاتهم، من دون أي ردّ فعل أي اتجاه سياسيّ وازن في العالم، فاليمين العنصريّ لا يرى في سوريا غير نظام يحقق أهدافه في قتل «الإرهابيين الإسلاميين»، ومنظمات اليسار (الذي تحشّد وتظاهر فقط حين قصف المطار «الكيميائي») ترى في نظام الأسد حكماً «معادياً للإمبريالية»!
ما حصل في سوريا، ورغم أن السوريين هم من دفعوا ثمنه الأكبر، هو خلاصة ما يحصل في العالم من اختلال هائل يعلن عن عطب الأيديولوجيات الإنسانية الحديثة، بطبعاتها الثلاث: الليبرالية الغربية المأزومة والتي تتراجع حاليّاً أمام صعود نزعات العنصرية والفاشية التي اندحرت في الحرب العالمية الثانية لكنها استعادت قوّتها وتشهد صعوداً هائلاً حاليّاً، واليسار بكافة أنواعه، الذي كسب بعض المعارك المهمّة حاليّاً، وأعاد ترتيب صفوفها بعد أن غيّر الكثير من شعاراته وتكتيكاته، وهو مناصر بشكل طبيعي لدول مثل روسيا والصين وفنزويلا… وحتى نظامي بشار الأسد في سوريا وكيم جونغ أون في كوريا الشمالية.
غير أن التدخّلات الهائلة للقوى الكبرى والإقليمية، والتي ساهمت في تراجع حلم الحرية السوري، لا تعفي السوريين من بعض المسؤولية، فالطاقة الهائلة التي خلقتها الثورة، وضحّى لأجلها مئات الآلاف بأرواحهم، لم تتناسب حق التناسب مع بعض النخب السياسية التي تنطّعت لقيادتها، وضمن العديد من المسؤوليات التي تنكّبتها لم تنجح تلك القيادات السياسية في خلق أطر ديمقراطية فعليّة تعبّر عن الديناميّات الهائلة التي اعتملت داخل المجتمع السوري، وهو ما ساهم، مع فيض ظروف القمع والبؤس واللجوء، إلى تراجع سرديّة الثورة وشعاراتها عن الحريّة والعدالة، وتآكلها المتدرّج، أمام سرديّة النظام التي ما انفكّ يردّدها حول «الإرهاب» الإسلامي، فيما كانت أجهزته الأمنية تعمل على توطيد الإرهاب وتعزيز أركانه، والتعاون معه، لمهاجمة أي أثر لمدنيّة وديمقراطية الثورة وإنجازاتها السياسية والعسكرية.
بسيطرته على أراض واسعة في العراق والشام، شكل تنظيم «الدولة» شبه دولة أمرا واقعا. وقد امتلكت عناصر الدولة حسب (معاهدة ويستفاليا) لكن من دون وجود اعتراف.
فالارض التي سيطر عليها كانت بحدود 144 ألف كم، وشعب مجموعه أكثر من 6 ملايين فرد، وقوة عسكرية ذات خبرة، واقتصاد، وسيطرة على مصادر المياه والسدود، وكذلك قيادة مركزية وشبه مؤسسات. يضاف إلى كل هذا أن العناصر الصلبة لديها قوة ناعمة أيضا وهي الدين، على الرغم من أن استخدام هذا النوع من القوة كان على المستوى الأدنى من الأخلاق والقيم المتعارف عليها. وقد أجمعت وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية على أنها دولة صبورة ومنظمة جدا، وقادرة على التعامل السياسي بحرفية عالية لتحقيق أهدافها.
هذه المواصفات جعلت منها ملاذا آمنا لكل من يريد مقاتلة الامريكان وحلفائهم، ليس من الافراد وحسب، بل حتى دول في المنطقة استثمرت في وجود هذا الكيان لتحقيق مصالحها. بعضهم دعم تنظيم «الدولة» بصورة غير مباشرة أو بالخفاء، كي يستدر الدعم المادي والمعنوي من الولايات المتحدة والغرب. وآخرون شاركوا في محاربته بحماسة شديدة، على الرغم من أن قلبهم كان معه، لكن دافعه في ذلك كان الحصول على الرضى والدعم الامريكي تحديدا. وثالث تغاضى عن تجارة التنظيم والمهاجرين إلى دولته من بقاع العالم، الذين كانوا يمرون عبر أراضيه. على سبيل المثال، إيران استثمرت كثيرا في الحرب على التنظيم، وعوائد هذا الاستثمار كانت شرعنة دخولها إلى سوريا والعراق، وبالتالي فرضت نفسها حتى على الامريكان، كلاعب مهم في هذا المشهد، ظهر ذلك من خلال قيام الطيران الامريكي بتوفير غطاء جوي فاعل للحشد الشعبي العراقي، الذي يدين بالولاء لها ولديه مستشارون إيرانيون يقودون معاركه. كما حصلت الحكومتان العراقية والسورية من تنظيم «الدولة» على شرعية دولية، غطت على الكثير من الانتهاكات التي جرت من قبلهما بحق مواطنيهم، إلى الحد الذي تنازلت فيه دول كثيرة عن مناداتها السابقة بالاطاحة بالنظام السوري، وجرت التضحية بالمعارضة السورية إكراما له. كما تنادت أصوات دولية كثيرة بضرورة توفير الدعم للنظامين، على اعتبار أن ساحتيهما هما مسرح القتال الدولي ضد التنظيم، فحصلت الحكومة العراقية على الدعم المادي الكبير وتسليح وتدريب قواتها لهذا السبب، لكن لا يمكن بأي حال من الاحوال النظر إلى النظام السوري على أنه رابح، لان كل المشاركين في الحرب على أرضه يصطفون اليوم لقبض الثمن، لان كل قوة في سوريا لديها مشروعها الخاص.
يقينا أن هزيمة التنظيم وزوال دولته سيعني شرق أوسط جديدا، وظهور محاور قوة لم تكن موجودة على الخريطة السياسية للمنطقة، حيث سيكون الفاعل الروسي موجودا وبقوة، وستكون إيران موجودة أيضا أكثر من قبل، وبيدها أوراق ضغط جديدة. لكن من أبرز المواقف المتخوفة من هذا التغيير هو الموقف الاسرائيلي، حيث تعتبر إسرائيل أن زوال دولة التنظيم وتدمير قواه خطأ استراتيجي كبير يهدد مصالحها. وينطلق هذا الموقف من اعتبارات عدة منها، أن ذلك يعتبر خدمة كبيرة لايران وأذرعها الممتدة في المنطقة، وستتخلص من المستنقع السوري، ويسلم حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية من حرب الاستنزاف التي يخوضونها في سوريا، والتي كلفتهم الاف القتلى والجرحى. كما أن المنطقة لن تبقى منطقة قتل لكل أعدائها، ومحور استنزاف كبير لكل الدول المحيطة بها. فإسرائيل تفضل أن لا يكون التنظيم قويا إلى درجة بحيث يشكل وجوده خطرا عليها، وليس ضعيفا إلى درجة تجعل أعداءها ومنافسيها في المنطقة يشعرون بالراحة والاطمئنان. كما أنها تنظر بارتياب شديد إلى شكل النظام الاقليمي الذي سيعقب نهاية التنظيم. فهي تعتقد أن نهايته تعني تسليم العراق إلى إيران بصورة أكبر من السابق، لان الاخيرة أرسلت متطوعيها وأسلحتها وميليشياتها إليه عندما استولى التنظيم على أراضيه، وستبحث عن الثمن. كما ستكون سوريا من حصة روسيا التي هبت للدفاع عن نظامها، حين احتل التنظيم أراضيها وبات يهدد وجود النظام السياسي فيها، وهي كذلك ستبحث عن الثمن. أيضا هي تنظر بارتياب شديد إلى طريق الحرير الايراني عبر العراق إلى سوريا، فالبحر الابيض المتوسط، والى الفضاء الجيوسياسي الذي مرت به صواريخ كروز الروسية من بحر قزوين ثم إيران والعراق فسوريا. وهي تعتقد أن هنالك توزيع حصص سيجري في المنطقة بعد زوال تنظيم «الدولة» وانحسار وجوده قد يؤثر على ميزان قوتها في المنطقة.
أما تركيا فقد حاولت الاستثمار في هذا الوضع، خاصة أنها موجودة في شمال دولة التنظيم، ونجحت بعض الشيء في تثبيت وجودها ضمن معادلة اللاعبين الاساسيين في مقاتلة تنظيم «الدولة»، لكن عائداتها من هذا الاستثمار كانت أقل من الطموح. صحيح أنها حصلت على دعم مادي ومعنوي من الغرب وروسيا أيضا، لكنها كانت تأمل أن تكون جائزتها في المشاركة في قتال التنظيم، هي إطلاق يدها في القضاء على الحلم الكردي الذي يقض مضاجعها. لكن ظنها خاب كثيرا بعد الاصرار الامريكي على دعم الاكراد في سوريا، واعتبارهم رأس الحربة في قتال التنظيم، وتقديم الدعم المادي والعسكري لهم. لذا يمكن اعتبارها أحد الخاسرين من هزيمة التنظيم، حالها حال المملكة الاردنية التي هي موجودة ضمن الاستراتيجية الامريكية في الجنوب السوري، لكنها على الصعيد الذاتي لم تكن من المستفيدين، على الرغم من مشاركتها في مجال الحرب الجوية والاستخباراتية في الحرب. يجدر الانتباه هنا إلى أن الاردن هو دائما ضمن اللعبة الدولية، لكن وفق الدور المرسوم له، أي ليس باجتهاده الخاص وفق مصالحه الوطنية والقومية. والدول المرسوم دورها مسبقا بالطريقة هذه، غالبا ما ينظر إلى ما تقدمه من أدوار على أنها واجب ليس بالضرورة أن يعود عليها بالفائدة.
أما المملكة العربية السعودية فهي ليست من الرابحين أو الخاسرين بسبب موقعها البعيد جغرافيا عن ساحة الحدث، وكذلك الطبيعة الطبوغرافية الصحراوية، لكنها كانت موجودة بصورة غير مباشرة على المسرح ضمن لعبة التحالفات الدولية. مع ذلك يمكن اعتبارها أحد الخاسرين من ظهور التنظيم وإعلان دولته، إن أخذنا بنظر الاعتبار الحملات الإعلامية التي كانت تشن في الغرب عليها، والتي تتهمها بأنها المصدر الفكري الرئيسي لتنظيم «الدولة».
في النهاية يمكن القول بأن هنالك الكثير من دول المنطقة حرصت على المشاركة، أما في الاستراتيجية الامريكية أو الاستراتيجية الروسية في الحرب على تنظيم «الدولة»، كلا لها مصالحها الخاصة التي تروم تحقيقها من هذه الحرب. لكن السيئ في ذلك هو أن غالبيتها لم تكن لديها عوامل تحقيق ما تريد. فالنجاح الاستراتيجي يحتم السيطرة على كل مكونات تحقيقه، أي أن عوامل النجاح يجب أن تكون بيدك وليست بيد الاخرين، وتتمنى أن يتصرف الاخرون كما تريد. فلا يمكن تمني النجاح، بل يجب فرضه في العلاقات الدولية، لان ليس فيها من يقدم مكرمة لهذا الطرف وذاك، بل هي تدافع بشراسة لنيل المصالح.
بعيداً عن السياسة، أريد اليوم أن أكشف أو أعرّي النظام الإيراني من الداخل بكل هدوء ودون أي فلسفة أو تجريح:
تؤكد المصادر المطلعة أنه في أحياء طهران التي يعيش فيها أكثر من 14 مليون نسمة، تبلغ نسبة البطالة في أوساط النساء 70 في المائة، وعندما لا يجدن عملاً فقد يضطررن إلى التسول أو يقعن في براثن تجار المخدرات.
وتظهر الإحصائيات الرسمية أن هناك ما يقارب المليوني طفل يعملون في البلاد، ولكن إحصائيات غير رسمية تؤكد في الوقت نفسه وجود سبعة ملايين طفل عامل في إيران تتراوح أعمارهم بين 10 و15 عاماً.
وتشهد شوارع العاصمة الإيرانية طهران تنامياً كبيراً وملحوظاً في عمليات الاتجار بالبشر، خاصة بيع الأطفال وبأسعار متدنية، من قبل أمهات أصابهن اليأس والفقر والإحباط، وإدمان المخدرات، وسط مجهودات حكومية شبه معدومة.
وكشف مدير عام إدارة الشؤون الاجتماعية والثقافية في طهران، سياوش شهريور، أن بيع المواليد يتم بشكل منظم، منتقداً بعض المسؤولين الذين ينفون تلك الظاهرة في إيران معمقين أزمة تجارة الإنسان.
وأردف قائلاً: «علينا الاعتراف بحقيقة أن بعض النساء المدمنات والمومسات ينجبن الأطفال للبيع، وأن الوسطاء في هذه التجارة يتفقون مع النسوة وأهلهن على السعر قبل الإنجاب، وأن 80 في المائة من هؤلاء النساء وأطفالهن مصابون بالإيدز»، معرباً عن أسفه البالغ لعدم الاهتمام بهم، وتخلي الحكومة عن دعمهم، على عكس باقي دول العالم.
وشدد على ضرورة وضع حد لمعضلة بيع الأطفال حديثي الولادة، موضحاً أن بعض نساء الأحياء الفقيرة في طهران ينجبن عدداً كبيراً من الأطفال بهدف بيعهم، وأنه في هذه السنة وحدها (2017) تم بيع أكثر من 600 طفل - أي أنه يباع يومياً ما يقارب الطفلين.
من جانب آخر، كشف رئيس محاكم محافظة أصفهان، غلام رضا أنصاري، أن بيع الأطفال يتم من قبل مجموعات لديها عاملون في «المنظمة الوطنية للتسجيل المدني»، ومن خلالها يتم إصدار شهادة الميلاد، وأيضاً لديها عاملون في المستشفيات يقومون باختيار الأطفال وتزوير شهادة المستشفى - انتهى.
وتختلف أسعار المواليد، غير أن هناك حالات مروعة ومؤلمة تقشعر لها الأبدان، حيث تراوح سعر الطفل ما بين 30 إلى 60 دولاراً فقط، وتشتريه عصابات المتسولين وتجار المخدرات، ثم تستثمرهم بدورها.
وقد أفاد التقرير السنوي للخارجية الأميركية، وكذلك منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) لعام 2016، بأن سعر الطفل هناك قد يصل إلى 150 دولاراً.
هذه هي حقيقة إيران من الداخل، أهديها لكم يا من غسلت هي عقولكم وفتنتكم بتجربتها المثالية (المتخبّطة) التي سوف تؤكلكم بها المن والسلوى ملفوفاً بورق (السوليفان)!!
يتعين على الرئيس دونالد ترمب اتخاذ قراره بشأن ما يتعين فعله إزاء أميركي يقاتل في صفوف تنظيم داعش، ألقت قوات كردية القبض عليه في سوريا وسلمته للقوات الأميركية هذا الأسبوع. في الواقع، الحل الأبسط هو الأمثل هنا: اتهامه بتوفير دعم مادي للإرهاب، وإدانته وحبسه داخل سجن أميركي لسنوات كثيرة.
في الواقع، في أي عالم يسوده المنطق ولا تحكمه الأهواء الحزبية، كان هذا القرار ليبدو بديهياً، خاصة أن الخيارات الأخرى معيبة - عملياً أو قانونياً أو كليهما.
ومن المحتمل أن يجري سجن مقاتل «داعش» باعتباره أسير حرب، بناءً على فكرة أننا في حالة حرب مع «داعش». وربما يجري إقرار هذا المسار، لكن ينبغي التنويه هنا بأن الكونغرس أقر شن حرب ضد من خططوا لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) وضد العراق في ظل قيادة صدام حسين، لكن ليس «داعش» على وجه التحديد.
وتكمن المشكلة في أن أسرى الحرب من غير المفترض معاقبتهم لحملهم السلاح. كما أنهم يتمتعون بحماية اتفاقيات جنيف، وأن ينالوا حريتهم عندما تضع الحرب أوزارها. ولا يمكن إساءة معاملتهم أو التحقيق معهم بأساليب عنيفة.
أما أسرى الحرب الوحيدون الذين لا يمكن إطلاق سراحهم لدى نهاية الحرب فهم مجرمو الحرب. ويكاد يكون في حكم المؤكد أن الأميركي الذي ألقي القبض عليه يصنف قانوناً كمقاتل غير شرعي في ظل التعريفات الأميركية لجرائم الحرب، لأنه لم يكن يرتدي زياً رسمياً. وفيما وراء مسألة الخرق الفني، لا ندري أي أفعال ربما كان ليقدم عليها في خضم قتاله لحساب «داعش». في كل الأحوال، يتعين توجيه اتهام إلى مجرم الحرب بارتكاب جريمة حرب من جانب محكمة عسكرية، وهي غير متوافرة حالياً.
ورغم أن ثمة محاكم عسكرية قائمة وعاملة بالفعل في خليج غوانتانامو في كوبا في محاكمة المتورطين في التخطيط لهجمات 11 سبتمبر، فإنه يكاد يكون في حكم المؤكد أنها لا تصلح لمحاكمة شخص أميركي.
من ناحية أخرى، إذا كان هناك درس يمكن استخلاصه من المحاكم العسكرية في غوانتانامو، فهو أنها تعمل ببطء مثير للصدمة.
في المقابل، من الممكن أن تجري إجراءات المحاكمة الجنائية بسرعة. وإذا ما أقر المتهم بجرمه، فإن الحكم النهائي ربما يصدر على الفور. وسيكون لدى المحتجز الأميركي سبب وجيه يدفعه للتفاوض حول صفقة قانونية بحيث يقلص فترة حبسه أو يحسن ظروف حبسه. على أي حال، من المؤكد أن هذا الأميركي سيدان بتقديم دعم مادي للإرهاب إذا كان قد ألقي القبض عليه داخل ميدان القتال يحارب إلى صف «داعش». وتستدعي هذه الجريمة فترة سجن طويلة، التي يمكن بسهولة أن يقضيها داخل سجن شديد الحراسة، وما يحمله ذلك من شقاء إضافي.
وينقلنا ذلك إلى قضية دفعت بعض أعضاء الحزب الجمهوري فيما مضى إلى انتقاد خيار توجيه اتهامات جنائية للإرهابيين: مسألة إملاء حقوقهم عليهم. حال توجيه اتهامات إليه، يجب أن يجري إخبار الأميركي بحقه في توكيل محام وكذلك حقه في التزام الصمت.
بيد أن هذه النصيحة من المحتمل ألا تقف عائقاً في طريق كشف الأميركي معلومات استخباراتية. ويتمثل الحافز هنا في التهديد بقضاء عقود داخل سجن شديد الحراسة.
ورغم أنه من المتعذر بالفعل تعذيبه أو إساءة معاملته، لكن هذا سيكون أمرا غير قانوني حتى لو لم يكن أميركياً، أو لم يكن متهماً.
فيما مضى، اتبعت الحكومة سياسة مثيرة للجدل حيال بعض المحتجزين تتألف من خطوتين. أولاهما: احتجازهم في حبس انفرادي باعتبارهم أسرى حرب على متن سفن أميركية لشهور، يخضع خلالها المحتجزون للاستجواب من قبل مسؤولين من وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه). بعد ذلك، عندما يدلون بما يعرفون من معلومات، تلقي الحكومة القبض عليهم وتقرأ عليهم حقوقهم.
وربما تحاول إدارة ترمب هذه العملية المؤلفة من خطوتين، لكنها تثير تساؤلات دستورية خطيرة بخصوص ما إذا كان أي شيء يتفوه به المحتجز من الممكن استخدامه في المحكمة.
علاوة على ذلك، فإن هذه العملية المؤلفة من خطوتين تنطوي على ازدراء تجاه استقلالية العملية القضائية.
وإذا كان ترمب يشعر بالقلق حيال التعرض لانتقادات فيما يخص الحق في إلقاء القبض على مقاتل يتبع «داعش»، فإن بمقدوره دوماً شرح (عبر «تويتر» إذا أراد) أن السجن المكان الوحيد المناسب لأي أميركي يحمل السلاح ضد الأبرياء وضد بلاده.
لقد تقبّل الرأي العام محاكمة الأميركي عضو جماعة «طالبان»، جون ووكر ليندا، الذي ما يزال سجيناً حتى اليوم. لتورطه في مقتل ضابط يعمل لدى «سي آي إيه».
في الواقع، في مختلف أرجاء العالم تناضل الدول للوصول إلى السبيل الأمثل للتعامل مع مقاتلي «داعش» العائدين إلى أوطانهم. داخل الولايات المتحدة، تبدو الأدوات والحلول الواضحة. لقد اقترف هذا المقاتل جريمة، واليوم عليه قضاء عقوبتها في السجن.
يتسارع العد العكسي لآخر المواجهات المسلحة في شرق سوريا وشمالها. معارك الشرق السوري ضد إرهابيي «داعش» تتسع، والسباق والتعاون، الروسي – الأميركي على أشدّه، لاقتسام السيطرة على محافظة دير الزور الغنية وذات الموقع الاستراتيجي، وكل المعطيات تؤكد أن الجانبين الكبيرين ينفذان توافقهما المعلن: جنوب الفرات من حصة الحكم السوري والميليشيات الطائفية التي تدعمه، ولهم السيطرة على الطريق الدولية بين دير الزور ودمشق... وشمال الفرات حصة «قوات سوريا الديمقراطية» والمجلس العسكري لعشائر دير الزور، وسيكون من حصة هذا التحالف المدعوم أميركياً مدينتا «البوكمال» الحدودية و«الميادين» الاستراتيجيتين، على الطريق البري الذي يربط دمشق مع بغداد.
هذه المرحلة من الحرب لاقتلاع «داعش» من دير الزور، التي تتزامن مع التقدم الكبير في المواجهات لاستعادة الرقة، تؤشر أن التنظيم الإرهابي الذي فقد صلاحيته، هو بالطريق لأن يخرج من كل الحواضر المدنية في سوريا، وهو خارج وجوده في مجرى وادي الفرات بين سوريا والعراق، لن يبقى له في سوريا إلا نقاط صحراوية معزولة ستكون قيد السقوط فور اكتشافها.
في الشمال قُضي الأمر، وتتمُّ بلورة خريطة «خفض التصعيد في إدلب»، وليس مسموحاً أن تستمر هذه المحافظة المكتظة بأبنائها ومن نزح إليها، ثقباً أسود في الجسد السوري، بمعنى أنه ليس الزمن الذي يُسمح فيه لتنظيم «القاعدة» إقامة إمارة تديرها «هيئة تحرير الشام» أو الفرع السوري لـ«القاعدة». الاجتماعات العسكرية لأطراف «آستانة» التي جرت في تركيا، حسمت المنحى، وهي تزامنت مع المبادرة التي أطلقتها فصائل سورية تعمل في إدلب والأرياف الشمالية، لإقامة «جيش وطني» يضم نحو أربعين فصيلاً مسلحاً، توافق الجميع على تسمية رئيس الحكومة المؤقتة جواد أبو حطب وزيراً للدفاع، ومعه جرى توزيع المهام القيادية، والأهم أن هذا التوجه الذي يطلق يد هذه الفصائل المدعومة من تركيا وروسيا، قوبِل بدعم لافت من السعودية ودول الخليج، فبموازاة إعلان الوزير الروسي لافروف أن «خطة إدلب ستخلق الظروف لتحريك العملية السياسية على أساس قرار مجلس الأمن الدولي 2254»، أكد الوزير الجبير «دعم خطة خفض التصعيد»، وأن المملكة تعمل مع «فصائل المعارضة في (آستانة) لتثبيت وقف إطلاق النار». وبالتوازي، تحدث الرئيس التركي إردوغان عن «مرحلة نهائية للمباحثات الرامية لحل الأزمة في سوريا»، مضيفاً أن نهاية الخطوات المتخذة «تساهم في تسهيل مباحثات جنيف».
ما تقدم يؤكد أن حل المأساة السورية لن يكون إلا سياسياً، وما بعد إدلب سيكون لحظة مفصلية في مسار المسألة السورية، وأن كل منحى «مناطق خفض التصعيد» سيشرع الأبواب أمام بدء معالجة القضايا الإنسانية، وهي عميقة ومتنوعة من كشف مصير المعتقلين إلى التهجير والاقتلاع، وسيطوي أحلام اليقظة للحكم الديكتاتوري وحاضنته طهران بتحقيق حسم عسكري، لا بل فإن التسوية السياسية وحدها ستكون متاحة.
وبقدر ما هو مفضوح أن الظهور المدروس للتنظيمين الإرهابيين «داعش» و«النصرة»، قد نجح في خدمة الديكتاتورية وأنصارها من الميليشيات الطائفية بتشويه الثورة السورية والإساءة إلى كل السوريين، عندما طُوِيت الشعارات – الأهداف الأصلية، وأبرزها أن الديمقراطية هي البديل للديكتاتورية، وأديا في إجرامهما إلى إحداث انقلاب في موقف الكثير من الدول حتى مجموعة أصدقاء سوريا، التي لم تعد بأكثريتها تشترط رحيل الأسد، فإن ما بعدهما (داعش والنصرة) سيسرع من العودة الجادة إلى جنيف، وربما كانت الأشهر القليلة المقبلة حاسمة في بلورة مسار سياسي جديد لسوريا؛ ما يعني أن استمرار المعارضة التي هي حالة شعبية أشبه بالمعجزة، ما كان إلا لأنها تعبير حقيقي عن أصالة إرادة التحرر لدى السوريين، الذين لم تنكسر عزيمتهم وتصميمهم على إنقاذ بلادهم، من ديكتاتورية انحنت أمام كل طامح وتحولت أداة ترويع وقتل بوهم تطويع كل السوريين.
سوريا اليوم عشية مرحلة جديدة رغم كل الوهن الشعبي والتعب والاقتلاع والتفتت، ورغم تفكك القيادات وتشرذمها بوجه تحالف إجرامي غير مسبوق في احتضان الديكتاتورية ودعمها. وثابت وحقيقي أن المعارضة التي أُنزلت عليها العسكرة عُنوة لم تنتصر، لكن الأكيد أيضاً أن التقدم العسكري للنظام وفريقه، ما كان ليتم من دون التدخل الروسي الحاسم، الذي حقق انتصارات متتالية، وأمّن للنظام السوري استعادة نظرية لأراضٍ واسعة؛ فهو لا يملك حتى الحد الأدنى من القرار بعدما تحول إلى تابع وأداة للخارج منذ سنوات، وسوريا خراب ودمار وموت...
ستشهد سوريا ما بعد «داعش» و«النصرة»، فتح ملفات الميليشيات الطائفية؛ لأنها الوجه الآخر للإجرام الذي أُنزل بالسوريين، وهذا الأمر سيكون وثيق الصلة باستعادة كل الرهانات التي رفعتها ثورة السوريين، رهانات تحقيق الحرية والديمقراطية ورغيف الخبز، والسبيل معروف ومحدد وهو استعادة الحراك السلمي وتجاوز عيوب المرحلة الماضية التي تعيق استعادة الوحدة ونبذ التطييف. من درعا التي انتخبت إدارة محلية لها، إلى الغوطة التي تشهد عودة لجان محلية شبابية، إلى كل مناطق «خفض التصعيد» المؤشرات كبيرة عن عودة لن تتأخر للتنسيقيات التي ستبلور جيلاً جديداً. كل ذلك يكتمل عندما تتمكن القيادات السورية من تجميع قواها وتوحيد الرؤية وتقديم المشترك، وذلك لن يكون إلا على قاعدة قراءة حقيقية للسابق، خصوصاً تبعات ربط القرارات بأطراف خارجية، إلى الانحناء أمام العسكرة التي تمّ فرضها، والبداية تكون بالكف عن تخوين وعزل بعض الأطياف السورية التي لا تخدم إلا النظام السوري وحماته.