في10 حزيران من عام 2014 قام تنظيم "داعش" بالسيطرة على الموصل طارداً القيادات السياسية والأمنية والقوات الرسمية، التي كانت تقدر آنذاك بـ 40 الى 50 ألف مقاتل مجهزة بأحدث ما أنتجته مصانع السلاح الأميركية، والتي أصيبت بـ"انهيار أمني كامل"، حسب تعبير وزارة الخارجية الأميركية آنذاك، وفي حديث تلفزيوني لاحق للمحافظ أثيل النجيفي أكد النجيفي أن سلطاته لم تسلم الموصل للمسلحين "وإنما الذي سلمها الجيش التابع لرئيس الوزراء نوري المالكي الذي سحب كل الصلاحيات الأمنية والعسكرية من كل المحافظين، وأعطاها فقط للقوات العسكرية الموجودة من خلال قيادة عمليات نينوى". إذا قام نوري المالكي وبدم بارد الذي كان رئيساً لحكومة العراق ومدعوماً من إيران بتسليم الموصل الى "داعش".
عند بداية الثورة السورية وعندما بدأ بشار الأسد يشعر بأن المصيدة بدأت تضيق عليه وبأن الثورة قد تنتصر قام بإطلاق 1000 من سجنائه المدربين والعائدين من الحرب مع القاعدة في أفغانستان أو العراق من سجونه وأفلتهم داخل الأراضي السورية ومن هؤلاء المساجين الشهير أبو مالك التلي.
والتقرير الذي نشرته "الدايلي بيست" “The Dealy Beast” بعنوان "كيف نبني "داعش"، كفيل بشرح كيف كان بشار ونظامه ومنذ 2003 وراء صعود الجماعات المتطرفة وكيف أنه يقوم باختراق تلك الجماعات ويوظفها لصالحه عند الحاجة، إذ إن الجمع ببين المقاتلين السابقين من تنظيم "القاعدة" مع ناشطين من المجتمع المدني ليس مجرد صدفة عابرة.
ادعى بشار الأسد في بداية الثورة السورية أن مجموعات متطرفة تتكون من إرهابيين مسلحين كانت تقود الاحتجاجات في عام 2011، وهذا ما لم يكن منطقياً في ذلك الوقت.
حيث كان سجن حلب المركزي مسرحاً لعمليات تشويه تستهدف الثورة السورية منذ بدايتها.
وكان جون كيري، وزير الخارجية الأميركية السابق صريحاً إذ قال: "إن تنظيم الدولة صُنع من طرف بشار الأسد"، ورئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي اللذين قاما بتحرير سجناء تنظيم القاعدة في بلديهما. وكان الأسد يسعى إلى وضع العالم بين خيارين سيئين: "إما أنا أو الإرهابيون".
وفي وثيقة سربت عبر "ويكيليكس أوضحت: "أن الجنرال علي مملوك، أحد كبار المستشارين الأمنيين في نظام بشار الأسد قال متحدثاً عن سياسة النظام السوري في التعامل مع الجماعات الإرهابية "من ناحية المبدأ، نحن لا نقتل أو نهاجم على الفور. نحن نندس داخلهم، وننتظر اللحظة المناسبة للتحرك".
جاءت صفقة "حزب الله" اللبناني و"داعش" هذه المرة كانت أوضح ومحددة أكثر إذ إنها كانت أمام الإعلام وظهر حسن نصر الله، وقال: "إننا تفاوضنا مع داعش"، الصفقة تمت.
ظاهرياً كانت لمعرفة مصير العسكريين المخطوفين، أما باطنياً كانت للمقايضة على جثة الجندي الايراني محسن حججي، فحسب قول نصر الله: إنه ذهب الى الرئيس بشار الأسد وإنه "يتمنى عليه الحصول على "خدمة"، ونَقل عن الأسد قوله: "إذا أنتم حزب الله تريدون أن تفاوضوا ليس لديّ مشكل". على الرغم من ركاكة اللغة والحوار وأنه توجه بهذا الحوار إلى جمهوره ولم نعلم إذا كان قد أقنع جمهوره بهذه الصيغة، ولكن هذه الصيغة لا تقنع الأطفال، إذا إن الجندي محسن حججي هو أساس الصفقة وليس الجنود اللبنانيون، محسن حججي هو عنصر بارز في الحرس الثوري الإيراني وهو الذي أعدمه "داعش" بقطع رأسه وصوّر الاعدام في شريط فيديو ونشره على مواقع التواصل الاجتماعي، هذا ما جعل المرشد الإيراني الإمام علي خامنئي أن يهتم بنفسه بهذه القضية التي جرى التداول بها على نطاق واسع في الاعلام الايراني منذ تدخل إيران في الحرب السورية وللمرة الاولى، وتضمنت الصفقة التفاوض أيضا على أسير لحزب الله، أما بالنسبة للعسكريين المخطوفين فقد كان مصيرهم معروفا ومنذ 2005 كما أوضح المدير العام للأمن العام عباس إبراهيم، إذاً لا دخل للصفقة لا من قريب ولا من بعيد بالشأن اللبناني.
بكل الأحوال إن استسلام هؤلاء المقاتلين كان سوف يتيح لعناصر "حزب الله" أن يسحب منهم المعلومات بكل سهولة ولنظام بشار الاسد باع طويل في سحب المعلومات في أقبية سجونه، يعني أن الصفقة خدعة وكلام نصر الله عن قلقه على مصير الحدود اللبنانية وخوفه من تفشي الإرهاب مجرد ذر رماد في العيون، لأن هذا "الإرهاب" كان موجودا في جرود بعلبك والقاع منذ 2014، الصفقة جاءت لإخراج هؤلاء المقاتلين سالمين وإيصالهم إلى الحدود السورية العراقية ومن ثم إدخالهم إلى العراق أو إعادة توزيعهم كما تقتضي الحاجة.
بات من الواضح أن حسن نصرالله يريد أن ينصب نفسه مرشداً أعلى للجمهورية اللبنانية، عندما لم يأتِ هذا التعيين من مرجعية عربية أو إقليمية استعجل التعيين ولكن القاعدة الفقهية تقول: "من تعجّل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمــــــانه".
أولا، من المبكر إعلان الانتصار على كل المكونات اللبنانية، اذ اننا لم نرَ ردة فعل رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون الى الان، رئيس الجمهورية الذي كان يطل من الرابية اقوى بكثير وكنا ننتظر منه مواقف بشأن اعلانات النصر ولكنها لم تعلن حتى الان، فهل يبتلع افعال وتطاول "حزب الله" على كل مكونات الدولة؟ ولذلك حديث آخر.
ثانيا، من المبكر اعلان الانتصار على "داعش" عدا عن أن "داعش" هو فكر ونهج، ان "داعش" لا يزال كمجموعات وخلايا نائمة منتشر، وهو غب الطلب في ايدي انظمة مجرمة سوف يستعين به عند الحاجة وستسعين.
تماما كما في أفلام هوليوود عندما لا يتم سحق المجرم وابادته يهرب ويختبئ يداوي جروحه ويتعافى ولكن هذه المرة يخرج أقوى ولكن مشوه، وهنا "داعش" لم يهرب بل خرج معززاً مكرماً وعاد الى الحضن الدافئ اي حضن النظام السوري "الاب"، سوف يتم غسل دماغ عناصره من جديد وإعادة تدويرهم وإعطائهم هويات وماركة جديدة كي يتم إعادتهم الى الميادين ولكن هذه المرة بشكل أشرس وأهداف إجرامية أشد فظاعة وأقوى، أين منها "الذئاب المنفردة".
هؤلاء المقاتلون هم أولاد النظام وهم مدربون وجاهزون وغب الطلب لأي عمل ارهابي جديد في أي مكان في العالم وهم كالسلاح النووي الفتاك بل أشد فعالية لأنهم قنابل بشرية "زومبي" خالية من أي عقول جرى العمل عليها منذ وقت طويل كي تصبح كالروبوتات فكيف سيفرط بهم؟ لذا هي غالية على قلوب اصحابها لهذا جرى سحبهم من أرض المعركة بهذه الطريقة اي حافلات مكيفة معززون وقام "حزب الله" بنقل وقائع استسلامهم بطريقة كاريكاتورية هزيلة أقل ما يقال فيها انها تبعث على الضحك، اذا ان من كان في الفيديوهات هم عناصر انتحارية وليس "لوريل" و"هاردي" صوروا وكأنهم حملان وديعة وتلك ادلة اضافية على ان عناصر "داعش" هم ابناء "النظام السوري".
وصولا الى الحديث عن بيان "حزب الله "الاخير الذي جاء ليشوش على صفقته التي سوف تبقى محرجة له ووصمة عار ابدية سوف يبقى يبررها دائما، في بيانه اتهم الامريكيين بأنهم وراء هروب اكثر من ألف مقاتل داعشي وخصوصاً من الأجانب من مدينة تلعفر واللجوء الى المناطق الكردية في شمال العراق".
هنا بيت القصيد اين سيستعمل هذا التنظيم في المرحلة الاولى، ان استفتاء استقلال كردستان العراق الذي حدد تاريخه في 25 من الشهر الجاري قد يكون هو المستهدف الاول من تهريب عناصر "داعش" الى الاراضي الكردية، لان من مصلحة ايران وتركيا والنظام السوري منع الاستفتاء الكردي من ان يحصل، وذلك لاعتبارات عدة قد نتكلم عنها في بحث اخر، لذا قد يتم استعمال هذه العناصر داخل كردستان للتشويش على الاستفتاء وبالتالي المطالبة بالاستقلال.
إعادة التدوير هي كتغيير اسماء المنتوجات والسلع و"داعش" سلعة وسوف تعاد "منتجته" باسم اخر ولكن بإضافات اشد شراسة ووحشية، على الاقل، الان باتت معروفة مصانعه وخلفياته ومن وراءه، "داعش" لم يهزم بعد، وهذا ما يذكرنا بدستور القاعدة "إدارة التوحش"، من سيقضي على التوحش في هذا العالم في المرحلة المقبلة؟
خلط وزير الخارجية الفرنسية، جان إيف لودريان، أوراق سياسة بلاده تجاه سورية، وخرج يوم الجمعة بتصريح يختلف كليا عن كل التصريحات التي صدرت عنه وعن رئيس الدولة، إيمانويل ماكرون، في ما يتعلق برئيس النظام السوري بشار الأسد، وقال إنّ الأخير "لا يمكن أن يكون الحل"، رافضاً بقاءه في المرحلة الانتقالية.
وشكّل تصريح لودريان مفاجأة، كون مواقف وزير الخارجية ورئيس الدولة الفرنسية ماكرون منذ حوالي شهرين التزمت السير على خط واحد، وأكدا أنهما لا يريان "بديلا شرعيا للأسد"، وأن "فرنسا لا تعتبر رحيل الأسد شرطا للتفاوض" مع النظام السوري.
وقال لودريان، لإذاعة لوكسمبورغ الجمعة، إنّه "لا يمكن أن نبني السلام مع الأسد. لا يمكنه أن يكون الحل. الحل هو في التوصّل مع مجمل الفاعلين إلى جدول زمني للانتقال السياسي يتيح وضع دستور جديد وانتخابات، وهذا الانتقال لا يمكن أن يتم مع بشار الأسد الذي قتل قسماً من شعبه".
جاء تصريح الوزير الفرنسي بعد زيارته إلى العراق، وانعقاد المؤتمر السنوي للسفراء الفرنسيين في نهاية الشهر الماضي، وعقب خطاب الرئيس ماكرون أمام مؤتمر السفراء الذي أعلن فيه أن فرنسا ستعلن تشكيل "مجموعة اتصال" جديدة حول سورية خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثلث الأخير من شهر سبتمبر/ أيلول الحالي. وحسب أوساط فرنسية مطلعة، فإن التغير الذي حصل في الموقف جاء بفعل النقاشات التي شهدها مؤتمر السفراء حول السياسة الخارجية، ولم يكن قبل ذلك، لأن الوزير سبق له أن كرّر في بغداد يوم 26 أغسطس/آب خلال لقائه مع نظيره العراقي، إبراهيم الجعفري، المواقف السابقة التي صدرت عنه وعن ماكرون، وقال إن "باريس لا تطرح رحيل الرئيس السوري بشار الأسد شرطا مسبقا، إنما ترى أولويتها في الحرب على تنظيم داعش في الأراضي السورية".
جاء الضغط بضرورة إجراء مراجعة سريعة في السياسة الخارجية الفرنسية من داخل مؤتمر السفراء الذي شهد انتقادات حادة لسياسة ماكرون التي وصفها بعضهم بأنها "سطحية وخالية من العمق، ولا تدرس مصالح فرنسا جيدا، ولا تمتلك تقديرا دقيقا للأزمات"، وجرى ضرب مثال على السطحية الاجتماع الذي نظمته باريس، في يوليو/تموز الماضي، بين رئيس حكومة الوفاق الليبي فايز السراج وقائد جيش حكومة طبرق اللواء خليفة حفتر، والذي أسفر عن اتفاق لم يصمد أكثر من 24 ساعة، وسبب ذلك انتقادات واسعة للدبلوماسية الفرنسية المعروف عنها عادة أنها لا تتعامل بهذه الخفة مع أزمات معقدة.
ويتركز النقد على سياسات ماكرون تجاه سورية، والتي حاولت التماهي مع الموقفين الأميركي والروسي، حيث اعتبر أولا أن الأولوية لمحاربة داعش وفق ما سارت عليه إدارة الرئيس دونالد ترامب، وثانيا أن رحيل الأسد ليس شرطا مسبقا للتفاوض، وهو ما تتمسّك به موسكو منذ بدء عملية جنيف في 2012، وتريد منه فعليا إعادة تأهيل الأسد، بدل محاكمته أمام محكمة الجنايات الدولية بسبب ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
ويرد في الانتقادات الموجهة إلى موقف ماكرون من الأسد أنه تنازلات مجانية، لم تجن فرنسا من ورائها أي مقابل، بل خسرت أخلاقيا بسبب تراجعها عن الدعوة إلى محاكمة الأسد. وفي حين كانت تنتظر من الرئيس الأميركي تراجعا بصدد اتفاقية المناخ، فإن ترامب استمر على تعنته حين زار باريس ضيف شرف في احتفالات العيد الوطني في 14 يوليو/ تموز الماضي، والأمر ذاته بالنسبة إلى موسكو التي عوّل عليها ماكرون أن تشرك فرنسا في الترتيبات المقبلة في سورية، وخصوصا إعادة الإعمار، لكنه لم يحصل على أي وعد من نظيره فلاديمير بوتين.
تصريحات لودريان الجديدة هي من باب المراجعة، حسب معلومات مصادر وزارة الخارجية الفرنسية، وهذا هو السبب وراء إعلان ماكرون عن تشكيل "مجموعة اتصال" جديدة حول سورية، على الرغم من أن تجارب مجموعات الاتصال السابقة لم تكن ناجحة من جهة، ومن جهة ثانية تلعب أستانة دور نقطة اتصال، حيث تشارك في اجتماعاتها الأطراف المعنية بالوضع الميداني.
في جميع الأحوال، سوف تشكّل مبادرة ماكرون مدخلا وفرصة لتصليب موقف فرنسا، من مسألة رحيل الأسد الذي تؤكد التطورات الميدانية في سورية أنه يستحيل التقدم من دون تجاوز هذه العقبة.
لم يكن اتفاق جرود عرسال بين زعيم المقاومة وسيدها حسن نصر الله ومقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية بزعامة خليفة المسلمين أبو بكر البغدادي، خارجا عن المألوف كما قد يعتقد بعضهم، إنه أمر طبيعي أن يتفاوض نصر الله مع أمير المؤمنين، أو من ينوبه، لتجنيب المدنيين الموت وسفك الأرواح بلا مبرر، وتهديم مدن كاملة على ساكنيها، إنه أمر طبيعي.
ليس ذلك سوى جزءٍ من ملهاة مبكية، كوميديا سوداء إن شئت الدقة، نعيشها اليوم، فالمختلفان أيدلوجيا وعقائديا، ممن يرى في قتل عدوه فرصةً لدخول الجنة، يتفاوضون، ويتفقون، ويتم نقل مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية، الذين شكلت الولايات المتحدة حلفا من ستين دولة لقتالهم، وأنفقت بلايين الدولارات لقتلهم وطردهم، بواسطة باصات تابعة لنظام بشار الأسد، بعد اتفاق بين حزب الله، المقاول الأوحد المتكفل بمشاريع المقاومة، وهؤلاء المقاتلين.
لست هنا ضد الاتفاق ما دام يحقن دماء الأبرياء، ولست ضد أن يتم إجلاء عوائل مقاتلي التنظيم، ونقلهم إلى أماكن أخرى، فذلك، من وجهة نظر عقلانية، أفضل بكثير من أن يتم قتل عشرات الآلاف من المدنيين وسحقهم بجريرة 300 مقاتل، وتدمير مدن وحواضر كاملة، ولكني ضد أن يكون هذا الأمر مقبولا لا لشيء سوى لأن بطله نصر الله، بينما لا يمكن أن يقبل في العراق مثلا، وينقذ من خلاله نحو مليوني نفس بشرية كانت محصورة في الموصل، عقب استيلاء التنظيم عليها، وتدمير مدينة تاريخية وحاضرة مثل الموصل لن يجود الزمان بمثلها.
الجيد أن هذه الصفقة كشفت وجها قبيحا من وجوه حزب الله وإيران، وجوه ظلت تتاجر بالطائفية وفلسطين والإسلام، وجه قبيح جعل من المقاومة مقاولة محصورة على موظفي حسن نصرالله، صفقة جعلت عراقيين كثيرين يفيقون من سباتهم الطويل، وهم يشاهدون كيف أن زعيم المقاومة، ومعه راعيته إيران، ينقلون مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية، بباصات مكيفة، إلى مناطق قرب حدود العراق، حفاظا على منطقة حدودية مع لبنان كانوا فيها، وأيضا خشية من قتال "داعش" وما قد يجرّه عليهم ذلك من تهديداتٍ لمدنهم الداخلية.
إنهم لا يستحون من فعل ذلك، لا يستحون من حماية أنفسهم ومدنهم، حتى لو كانت صفقتهم مع الشيطان نفسه، إنها البراغماتية الإيرانية التي لا تعرف للمبدأ طريقا وللدين سبيلا، إلا بقدر ما يحققانه لها من مصلحةٍ تصب في خدمة مشروعها التوسعي.
في المقابل، السؤال الذي شغل العراقيين طوال الأيام الماضية: لماذا إذن لم تتفاوضوا مع "داعش" للخروج من الموصل؟ لماذا لم تسمحوا لهم بالهروب من المدينة، عندما بدأ القتال؟ لماذا هذا الإصرار على قتل مدينة يتجاوز عمرها سبعة آلاف عام، وشعب يزيد عن مليوني نسمة؟ لماذا أحرقت المدينة على من فيها، ناسها وتاريخها من أجل قتل بضع مئات منهم؟ لماذا حلال على حزب الله وإيران وحرام علينا؟
فقد العراقيون في الموصل وحدها قرابة المائة ألف ضحية، ناهيك عن عشرات آلاف من المصابين، وتشريد أكثر من مليون شخص، ودمرت المدينة عن بكرة أبيها بما لم يسبق أن شهد له التاريخ مثيلا، وقتها لم يسمح لهروب عناصر "داعش"، ولم يفتح حتى طريق لهروب المدنيين وخروجهم من الموصل، لماذا؟
لماذا قال نائب الرئيس العراقي، نوري المالكي، إن تلعفر مثلا سلمها عناصر التنظيم تسليما، وتم السماح لهم بالانسحاب من المدينة، الأمر الذي حسم المعركة في عشرة أيام؟
إنها الطائفية، يريدون تلعفر سالمة، لأنهم يخططون لتكون محافظة مستقلة عن الموصل، تسهل سيطرة إيران عليها التي تريد أن تمد خطها البري من طهران إلى سواحل البحر المتوسط عبر العراق، لهذا حافظوا عليها، خصوصا وأن المدينة مطروحة لتكون محافظةً، حتى قبل أن يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014.
لا يريد نصر الله أن يخوض حربا مع عناصر "داعش"، خشية من سقوط مزيد من القتلى في صفوف مقاتلي حزبه، وخشية من أن ترتد هذه الحرب على مدنه في داخل لبنان، بينما يدفع مقاتليه إلى الداخل السوري لإسناد بشار ودعمه ومنعه من السقوط.
اليوم، على كل المخدوعين بحزب الله وإيران أن يعيدوا حساباتهم. على كل المخدوعين بالحشد الشعبي، وأنه يمثل لونا عسكريا عراقيا، أن يعيدوا النظر بحساباتهم، فكل هؤلاء لا يهمهم كم يسقط من قتلى أو كم مدينة يمكن أن تدمرها التهم الحربية، المهم أن ينفذوا ما تمليه عليهم إرادة الولي الفقيه، وما تطلبه منهم.
الاستنكار الكبير لهذا الاتفاق على مواقع التواصل الاجتماعي محمود، يفيد بأن الوعي الشعبي في العراق بات على درجةٍ مقبولة، غير أن ذلك لا يكفي، ولن يكون مقبولا ما لم يعاقب الشعب كل من تاجر بدمه خدمة لأهداف خارجية، لا علاقة لها بالعراق ومصالح شعبه.
منذ الخطاب الأول لبشار الأسد بعد انطلاق الثورة السورية في مارس/ آذار من العام 2011 إلى خطابه أخيراً في 20 أغسطس/ آب الماضي، عبّر في خطاباته بفجاجة عن انفصال كامل عن الواقع، وكأن الخطابات تتحدّث عن بلد آخر غير سورية. وقد شكل خطاب الانفصال عن الواقع ميزة إستراتيجية للنظام لم يحد عنها أن روايته عما يجري في سورية هي الوحيدة التي يتعامل معها. وهي تقوم، أساساً، على نفي ما يحصل، بالتالي، لا تجعل النظام خارج أي مطالب فحسب، بل تجعل كل مطالبةٍ له بالتنازل غير مشروعة أيضاً. لأن حتى المطالب المشروعة هي المدخل الذي دخلت منه المؤامرة على سورية، وتوسعت بهذا الشكل، ركب المتآمرون موجة المطالب العادلة.
لا تُناقش هذه العجالة مواقع الانفصال في الخطاب السياسي للرئيس السوري، فهذه أكثر من أن تحصى، وأكثر فجاجة من أن تتطلب البحث عنها. لكن ما يراد أن يُلقى الضوء عليه هنا، هو كيف حوّل النظام الانفصال عن الواقع إلى ميزة استراتيجية، بدل أن تكون عيباً سياسياً. لأني أعتقد أنها كانت حالة مصنوعة ومقصودة، وليست حالة جهل بالواقع نفسه. لقد أنتج النظام نفسه هذا الانفصال عن الواقع من أجل المزيد من التحكم في المجتمع السوري. .. كيف حصل ذلك؟
إنها بدعة الأسد الأب مؤسس النظام، لا بدعة الوريث، بدعة الفصل بين مركز القوة في البلد والمواقع السياسية، فصل المواقع والمناصب السياسية في الدولة عن مصادر القوة الحقيقية فيها، وإخراج مصادر القوة من السياسة، وتحويلها إلى أدوات شخصية للرجل الأول في النظام، أدوات غير سياسية تفرض نفسها بقوةٍ على السياسة، الأول والوحيد، فليس هناك رجل ثانٍ في دولة حافظ الأسد، وليس هناك رجال أصلاً، هناك رجل واحد والباقي إمّعات.
كانت الفكرة ببساطة فصل المؤسسات عن قادتها، هناك وزير يدير وزارة من الناحية الشكلية، لكنه، في الواقع، لا يستطيع أن يتحكّم حتى بالحاجب عنده، وليس بطاقم الوزارة. أي متغير وأي موظف جديد بحاجة إلى تدقيقاتٍ من خارج الوزارة، من الجهات الأمنية تحديداً، وعندما لا توافق، يُقضى الأمر، لا يجرؤ أحدٌ على توظيف هذا الشخص. وهذا كان يشمل كل الوزارات ومديرياتها، من وزارة الدفاع التي شغلها رجل واحد أكثر من أربعة وثلاثين عاماً حتى أتفه وزارة في سورية، وزارة التموين.
أهم ما تم فصله عن قيادته هو مؤسسة الجيش، ليس على مستوى القمة فحسب، بل وحتى على مستوى كل الوحدات القتالية، من قيادة الأركان، مروراً بالفرق والألوية والكتائب والسرايا (لذلك لم نرَ انشقاقات وحدات عسكرية خلال الثورة، إنما انشقاق ضباط أفراد فقط). كان هذا الفصل فعالاً بتحطيم الجيش وإخصائه، حتى لا يقوم مرة أخرى بانقلابٍ على الرجل الذي جاء إلى السلطة بانقلابٍ عبر الجيش نفسه، وحتى لا يهدّد سيده، عليه أن يبقى مربوطاً بيد هذا السيد فقط. لذلك تم تفكيك الجيش من خلال التحكّم بكل مراكز القوة فيه، من أصغر الوحدات إلى رئاسة الأركان من خلال المؤسّسة الأمنية. حيث كان الأسد الأب يدرك أن أجهزة المخابرات تحمي النظام، لكنها لا تستطيع أن تقوم بانقلاب عليه، بعد تفريغها من أي معنى سياسي، وبالتالي يمكن استخدامها أداة سياسية، أو أداة في مواجهة السياسة من دون أن يكون لها أي خطر على النظام، طالما هي أداته الرئيسية التي يعطيها الصلاحيات الواسعة، والتي لا مرجعية لها، سوى شخصه، لا يلاحقها قانون ولا تخضع له، ولا يحاسبها أي رجل غيره. بذلك باتت بنية النظام كما صمّمها الأسد الأب أقرب إلى مسرح الدمى، هناك مسرح كبير، هو الدولة ومؤسساتها ووزارتها وجيشها، ظاهر للعلن، تملأ الأخبار والصحف. لكن المتحكّم الفعلي بمسرح الدمى (الوزارات والمؤسسات العامة)، والذي لا يظهر على المسرح هو أجهزة المخابرات التي تتبع الأسد نفسه، والتي شخصنها وطيّفها وبات ولاؤها الوحيد له وحده، هذه الأجهزة هي التي أرعبت السوريين على مدار حكم العائلة الأسدية لسورية، الشبح الفعال.
هذه الماكينة التي اختارها الأسد الأب امتلكت آليتها الذاتية منذ منتصف الثمانينات، وبات التعامل مع الأسد بوصفه "إلهاً" منذ ذلك الوقت، كان الحدث الرئيسي الذي كرس هذا الإطلاق هو مذابح حماة في العام 1982، فلم يكن الناس الذي قضوا في تلك المذابح ضحية هذه المذابح فقط، بل كان ضحيتها رأس السياسة في سورية أيضاً. في هذه المذابح، قطع الأسد الأب رأس الطيف السياسي كاملاً في سورية، وتصحّرت الحياة السياسية بعد ذلك. وفي معركته لتحطيم السياسة في سورية، استخدم الأب الشعارات نفسها التي استخدمها الابن بعد ثلاثين عاماً، بالحديث عن المؤامرة والصراع مع إسرائيل، والغرب الذي يريد تحطيم صمود البلد، فلا مشكلة ولا خلاف ولا صراع بين السوريين أنفسهم.
خلت الساحة السورية من أي مخاطر حقيقية تهدّد النظام، وبات النظام الذي صمّمه الأسد الأب يعمل بآليته الذاتية. لذلك، كان يغيب فترات طويلة من دون أن تتأثر هذه الماكينة، حتى أن باتريك سيل يصف الأسد الأب، في تلك الفترة، أنه تحوّل إلى صوت على الهاتف بلا جسد، لا يستطيع الوصول إليه سوى ثلاثة أو أربعة مسؤولين في كل البلد.
بالوصول إلى عقد التسعينات من القرن الماضي، أمر الأسد الأب أن يكون خليفته ابنه الأكبر، فاشتغل مسرح الدمى ومديروه في تلميع "الولد المعجزة". وكان من المفارقة أنه عندما توفي "الولد المعجزة" في حادث سيارة، كان جميع المسؤولين السوريين يبكون بمبالغة في جنازته، ما عدا الأب كان يبتسم ويلوح للجماهير. وسرعان ما استبدل الولد بالثاني، وبعد أن كان الأول، "الولد المعجزة"، بات الثاني كذلك، طالما هو يُعدُّ لخلافة والده، ولم يكن يعني الأسد الأب الكلام الذي يقوله عن الصراع مع إسرائيل وعن مؤسسات الدولة، في وقتٍ يورث ابنه علناً، من دون أن ينبس أي أحد بكلمة واحدة عن الموضوع، أو يتطرّق له، هو يفعل ما يشاء بدون إعلان، ويعلن ما يشاء بصرف النظر عن علاقته بالواقع.
الماكينة التي امتلكت آليتها الذاتية، هي التي كلفها الأسد الأب بتنفيذ نقل السلطة للابن، إذا كان من الصحيح أن الأب توفي، إلا أن الماكينة بقيت خاضعة لأوامره، فجاء "الولد المعجزة" إلى الحكم. ولا مبالغة في القول إن الأسد الأب ما زال يحكم سورية، لأن الماكينة نفسها هي التي ما زالت تعمل، و"الولد المعجزة" لم يفعل سوى تشغيل آلة القتل التي صممها الأب، واستخدمها في حماة، أثبتت فعاليتها بالنسبة للنظام، فاستخدمها الابن على نطاق أوسع من الأب، ما أوحى أن الابن يتفوّق على أبيه، لكن في الحقيقة أن الابن كان أسير أبيه في كل ما يفعل.
تتزايد المعطيات الدالَّة على خروج الوضع الإقليمي عن الحدود التي تحرص عليها إسرائيل، يحدث هذا بسبب مآلات الصراع في سورية، من دون انقطاع عن جوارها في العراق، ولبنان، ولا يقتصر التغيير في توزيع النفوذ الدولي والإقليمي على توسُّع النفوذ الإيراني، وتمدُّده، بل يشمل ذلك بروز اللاعب الروسي دوليا، والتركي إقليميا، حيث تملأ موسكو الفراغ الذي تركته واشنطن، على أرضية تفاهمات وتنسيق بينهما.
فهنا، والآن، وعلى جوارها المباشر تحدث مُتغيِّرات، المُرجَّح أنْ تطول، بعد الضعف الكبير الذي لحق بنظام الأسد في دمشق؛ ما جعله غيرَ قادر على توفير ذلك الاستقرار الذي نعمتْ به إسرائيل، ما يزيد عن أربعين عاما، منذ اتفاقية فكّ الاشتباك عام 1974، هذا الضعف الذي يوفِّر فرصة حقيقية لروسيا لتقترب أكثر من المنطقة.
وممَّا يقلق إسرائيل الوجودُ الإيراني في جنوب سورية، وهي تصرِّح إن الوجود السوري هو الذي ينبغي أن يبقى، من دون أن يُنتقَص لصالح إيران، وحزب الله، وغيره من المليشيات، والمقاتلين الذين استقدمتْهم طهران إلى الحرب في سورية، وعليها.
يحاول المستوى السياسي في تل أبيب أن يحقِّق أقصى الطلب، وهو إبعاد نفوذ إيران عن سورية، وإرجاعه إلى سابق عهده، قبل ثورة السوريين؛ لأنها تخشى أن يعزِّز نفوذُ طهران في سورية من قدراتها على تمكين حزب الله في لبنان، فضلا عن أنه يوفر لها تحكُّما أصيلا، في دمشق وبيروت سيكون امتدادا ومعزِّزا لتحكُّمها في بغداد، وإن تعذَّر هذا الهدف، فهي ستعمل بجديَّة على إبعاد النفوذ الإيراني إلى أقصى ما يمكن عن الحدود الشمالية، ولا سيما أن ثمَّة موقعا لإيران ودورا، معترفا بهما، صراحة من موسكو، ومسكوتا عنهما من واشنطن. (وكانت هيئة الاستخبارات الوطنية الأميركية، في عام 2015 قد حذفت إيران وحزب الله من قائمة التهديدات الإرهابية التي تُهدِّد الولايات المتحدة، مشيرةً إلى دور إيران في محاربة "المُتطرِّفين السُّنة"، وإن بقيتا تهديدا إرهابيا في هيئات أميركية أخرى)
غير أن السكوت الأميركي عن شَغْل إيران موقعًا غيرَ هامشيٍّ، في خريطة المنطقة الجديدة، لا بدَّ أن تصحبَه، آلياتٌ لضبط هذا النفوذ الإيراني، كي لا يتَّسع أكثر مما يُسمَح به، ولا سيما أن في طهران قوى مهمَّة، كالحرس الثوري، ذات تطلُّعات توسُّعية مندفعة، وفي صُلْب دوافع هذا الضبط الأميركي، المخاوفُ الإسرائيلية، من تعاظم نفوذ طهران، ومن تعاظم قوَّة حزب الله الحليف الأخطر لها؛ تعاظما عسكريا، وتعاظما سياسيا، عسكريا بالتطوُّر النوعي في أسلحة الحزب، في امتلاك الصواريخ الأكثر دقَّة، وتهديدا، (حيث يمكنها أن تصل إلى أيِّ نقطة في الأراضي المحتلة، وأنْ تستهدف مرافق حساسة في إسرائيل)، بل في تصنيعه بعض تلك الأسلحة والصواريخ على أرض لبنان، وسياسيا بزيادة التنسيق بينه وبين النظام السوري من جهة، وبين الجيش اللبناني، ومِن ورائِه الدولةُ في لبنان، من جهة أخرى. وقد أضاف الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، في خطاب له أخيرا إلى معادلة "الشعب والجيش والمقاومة" (الجيشَ السوري !)؛ فلا بدَّ من "نقطة نظام" تستجيب إلى ترتيبات ما بعد الحرب في سورية، حيث العودةُ الضرورية، ولو في حدِّها الأدنى، إلى تهذيب الحُجُوم التي تزايدتْ للمليشيات الطائفية، لصالح الدول وجيوشها، ومنها حزب الله الذي لا يحظى دورُه وأولويَّاتُه بإجماعٍ في لبنان، كما لا يحظى بشرعيةٍ دولية، وهو المصنَّف إرهابيا.
ولذلك، مثلا، كان الحرص على أن تكون المعركة التي خِيضتْ ضدَّ "داعش" في جرود عرسال، وجوارها، معركة الجيش اللبناني، وحده، رسميًّا، وليس بالتعاون المعلن مع حزب الله، وهذا يصبّ في استبقاء حدود ضرورية، تريدها واشنطن بالدرجة الأولى؛ من أجل كبح الاندفاعة الإيرانية، متجسِّدة، لبنانيا، في حزب الله.
وهنا، وعلى هامش هذا المُحدِّد، لا تنسجم مبادرة إيران، أو حزب الله، إلى مواجهة عسكرية مع إسرائيل، في هذه المرحلة، مع الرغبة في تحصيل هذا الدور والنفوذ الموشك على التكريس، في كلٍّ من سورية ولبنان، وإن كان ذلك التوسُّع الإيراني الذي تخشاه إسرائيل، يستحضر، عند الأخيرة، ولو نظريًّا، خيارَ الحرب، لتفعيل صورة إيران وحزب الله، المُهدِّدة، ولتوظيف ذلك من أجل الدفع نحو مزيد من تحجيم النفوذ الإيراني، وعزله.
أما دلائل الضبط الأميركي لإيران، فمنها حديثُ المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي عن النشاط "غير الفعّال" لقوات "يونيفيل" في لبنان التي ينتهي التفويض الممنوح لها، الشهر الحالي، والتي أصبحت، هي والجيش اللبناني، المشرفة على تطبيق قرار مجلس الأمن 1701 الذي ينصُّ على إخلاء المنطقة من الخطِّ الأزرق، وحتى نهر الليطاني، شمالا، من أيِّ أسلحة أو مُسلَّحين، عدا الجيش اللبناني و"يونيفيل". وقد يؤشر هذا الهجوم الأميركي على قوات "يونيفيل"، أو قائدها الجنرال الإيرلندي، مايكل بيري، واتهام قوَّاته بأنها لا تقدِّم عملًا فعّالًا ضدّ جماعات مُتشدِّدة، مثل حزب الله، قد يؤشِّر إلى مساعٍ لاحقة نحو تعزيز النفوذ الدولي والأميركي؛ بما يجعله قادرا على مضاهاة القوة التي اكتسبها حزب الله في لبنان، وفي ظلِّ إحكام السيطرة تقريبا، إيرانيا، على لبنان.
وكذلك يمكن أن يصبَّ استيقاظُ الحديث عن المشروع النووي الإيراني في تقييد الاندفاعة الإيرانية، بقدر ما يقترب من المطالب الإسرائيلية. مع استبعاد رجوع واشنطن عن الاتفاق النووي مع طهران. ويحاول رئيسُ الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الإيحاءَ بجدية خياره العسكري، ومن أجل إضفاء صدقية على التهديدات بتنفيذ هذا الخيار، أعلن ديوانه إنه ينوي تمرير تشريع في البرلمان يُعفيه من الحصول على موافقة الحكومة بكامل هيئتها، عند اتخاذ قرار بشنِّ حرب، وأنْ يكتفي فقط بموافقة المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن.
مع أنَّ خيار الحرب، إسرائيليا، ليس سهلا، ولا في طاقة إسرائيل أنْ تنفرد في حرب شاملة في المنطقة، فإنها في هذه المرحلة الحسَّاسة، تبادر إلى فرض ترتيبات تُفضّلها، أمام خطط دولية، تحظى بتنسيق حثيث بين أميركا وروسيا، وتشترك فيها أطراف إقليمية، كإيران، وتركيا، وعربية كالأردن.
وكلّ هذه المعطيات، والمساعي الإسرائيلية الديبلوماسية والإعلامية الحثيثة، تهدف إلى إحداث مزيد من الضغط؛ لتحقيق ما يمكن تحقيقه من ضمانات، ومحاولة استبقاء أكبر قدر من (التوازن) الذي يحول دون تعظيم دور إيران ومليشياتها، في سورية وحزب الله في لبنان.
تتسابق التحضيرات العسكرية بين القوى المتصارعة في الساحة السورية لإطلاق معركة دير الزور، التي تعتبر -بالمقاييس العسكرية والجغرافية والاقتصادية وحتى الأيديولوجية- أم المعارك بعد معركة حلب. وأهمية معركة دير الزور لا تكمن في كونها المعركة الأخيرة الرئيسية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا فحسب، بل بسبب خصوصية المحافظة والتعقيدات المرافقة للعملية العسكرية فيها.
ولذلك فإن الإشكالية التي تواجه المعركة تكمن في القوى التي ستطلق المعركة، وفي الحدود الجغرافية المتاحة لكل طرف، فالمحور الأميركي الُممثل بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) و"مغاوير الثورة" أضعفُ من أن يُطلِق معركة دير الزور، في حين يبدو المحور الروسي الممثل بالجيش السوري والقوات التابعة لإيران قويا وقادرا على إطلاق هذه المعركة.
خصوصية المحافظة
محافظة دير الزور هي ثانية كبريات المحافظات من حيث المساحة، إذ تبلغ نحو 33 ألف كيلومتر مربع، وتلاصق محافظة الحسكة من الشمال ومحافظة الرقة من الشمال الغربي ومحافظة حمص من الجنوب الغربي، مما يجعلها منفتحة على وسط سوريا (البادية والقلمون الشرقي)، وعلى الشمال الشرقي والشمال الأوسط.
ولا تقتصر الأهمية الجغرافية لدير الزور على الداخل السوري، فهي ملاصقة لمحافظتين عراقيتين (نينوى والأنبار)، الأمر الذي يضفي عليها أهمية كبرى، إذ أنها المعبر الجغرافي الأهم بين سوريا والعراق، بسبب توافر البنى التحتية والكثافة السكانية والقرب الجغرافي للعاصمتين.
وذلك على خلاف الحسكة التي تعتبر بعيدة جغرافياً، وريف حمص الشرقي المتاخم للعراق النائي والمقفر من الحياة. وعليه فقد شكلت محافظة دير الزور امتدادا طبيعيا للأنبار، بقدر ما كانت محافظة الأنبار امتدادا طبيعيا وديمغرافياً لدير الزور.
تضاف إلى ذلك الثروات الطبيعية في المحافظة من الزراعة (القمح والقطن والسمسم وصخور وعروق يستخرج منها الملح الصخري عبر منجم التبني)، إلى الثروة النفطية (حقول العمر والتنك والجفرة والورد والتيم)، فضلا عن محطات النفط ("تي تو" T2 والخراطة) ومعامل الغاز.
أمام هذه المعطيات؛ تتجه أعين المتحاربين إلى دير الزور:
ـ بالنسبة للمحور الروسي، تعني استعادة السيطرة على المحافظة إعادة تأهيل النظام السوري اقتصاديا على المستوى النفطي والزراعي والحيواني، في وقت هو بأمس الحاجة إلى الدعم المالي. كما أن المحافظة ستشكل بالنسبة للنظام خزانا بشريا كبيرا لإمداد الجيش، مستفيدا من الوضع السيكولوجي للسكان بسبب الحياة المأساوية التي عاشوها تحت حكم تنظيم الدولة الإسلامية.
ومن الناحية العسكرية، تعني السيطرة على المحافظة تشكيل سد جغرافي يمتد إلى حماة غربا مرورا بريف حمص الشمالي الشرقي وريف الرقة الجنوبي، ومن شأن هذا الشريط الجغرافي أن يكون بمثابة الحاجز أمام "وحدات الحماية الكردية" لمنعها من التوجه نحو الجنوب إن قررت فعل ذلك، ولحصارها في الشمال.
وأخيرا ستمنح المحافظة للنظام إعادة فتح الممرات الاقتصادية والعسكرية مع العراق وإيران، ولن يكون بحاجة -لإتمام ذلك- إلى موافقة "قوات سوريا الديمقراطية" كما هو الحال في الحسكة.
عند هذه النقطة يلتقي النظام مع إيران إستراتيجياً، ذلك أن استعادة الطريق الدولي الرابط بين بغداد ودمشق، يعني عمليا نشوء ممر جغرافي مستدام ينطلق من طهران إلى لبنان، ومن شأن هذا التطور أن يمنح طهران سيطرة على شرق سوريا وغرب العراق.
ـ أما بالنسبة للمحور الأميركي، فلا توجد لديه أهداف إستراتيجية طويلة الأمد في المحافظة، وكل ما يصبو إليه هو أن يعزز وجوده في منطقة جغرافية حدودية مع العراق، وإن كان الأمر مقتصرا على نقاط جغرافية ضيقة ومحدودة، إضافة إلى الحصول على حصة من الثروة النفطية.
وعند هذه النقطة تتقاطع المصالح الأميركية مع فصائل المعارضة السورية التواقة إلى وضع يدها على حقول نفطية.
ارتباك المحور الأميركي
يعاني المحور الأميركي من تعقيدات وثغرات عديدة، فقوات "قسد" مثلا ليست لديها أهداف إستراتيجية في محافظة دير الزور، وهي إن شاركت في العملية العسكرية فإنها تقوم بذلك بطلب أميركي.
ورغم قوتها الكبيرة ونجاعتها في المعارك ضد التنظيم، فإنها تعاني من مشكلة السيطرة على مساحات واسعة تضاف إلى مناطق سيطرتها، فهي لا تمتلك العدد البشري الكافي لذلك.
وعليه يبدو أن دورها العسكري سيكون لوجستياً، أو على الأقل العودة إلى مناطق سيطرتها بُعيد الانتهاء من معركة دير الزور، كما أنها مثقلة بمعركة الرقةوالترتيبات العسكرية/المدنية التالية للمعركة.
أما القوى العسكرية العربية (مجلس دير الزور العسكري وقوات النخبة وجيش المغاوير) فهي أضعف من أن تطلق هذه المعركة بمفردها، أو أن تحقق انتصارات عسكرية.
و"مجلس دير الزور العسكري" لا يمتلك سوى مئات من المقاتلين، ومعظمهم لم يخبر تجارب عسكرية كافية، في حين يعاني "مغاوير الثورة" من تشتت في عناصره المنتشرين في الحسكة شمال محافظة دير الزور، وفي شرقي محافظة حمص جنوب محافظة دير الزور.
والأمر ذاته ينطبق على "قوات النخبة" بعد انضمام جزء من عناصرها إلى "قسد" على خلفية استبعادها من المشاركة في معركة دير الزور، خوفا من حدوث صراع عشائري سني/سني ينعكس سلبا على سير المعارك، ذلك أن معظم عناصر "قوات النخبة" التي تنتمي إلى عشيرة الشعيطات، لديها ثأر مع عشيرتيْ البوكامل والبكير اللتين تحالفتا مع التنظيم الذي قام بقتل عدد كبير من أبناء الشعيطات.
كل هذه المعطيات تجعل أميركا متشككة في نجاح العملية العسكرية بالمحافظة، وهذا ما يفسر إلى الآن تأخير انطلاق المعركة، لكن الوقت يسير على عكس صالح واشنطن، إذ أن أي تأخير سيمنح المحور الروسي القدرة على تحقيق انتصارات، خصوصا مع اقتراب قوات النظام من الحدود الإدارية للمحافظة.
وأغلب الظن أن الولايات المتحدة تربط معركة دير الزور بالمعارك غرب العراق في نينوى والأنبار، فانتشار القوات الحليفة لها في مدينة الشدادي جنوبي الحسكة يوحي بأن الهدف الأميركي هو شمالي محافظة دير الزور وجزء من شريطها الحدودي مع العراق، لكن من دون فتح معركة الحويجة ومحيطها في العراق ستتعرض القوات الحليفة لواشنطن لهجوم عنيف من التنظيم.
وبناء على ذلك؛ يمكن الوقوف عند ثلاث مسائل: الأولى أن الإدارة الأميركية ليست بصدد السيطرة على كامل المحافظة، فهذا الأمر خارج المخططات الأميركية، والثانية هي أن واشنطن تسعى إلى الابتعاد عن قوات النظام بحيث لا تكون محصورة من قبلها، وهذا يعني أن الاهتمام الأميركي منصب على الريف الشرقي للمحافظة.
والثالثة تتمثل في القوى الحليفة لأميركا التي ستناط بها مهمة الانتشار في المحافظة، وأغلب الظن أنها ستكون القوات العربية سواء تلك المنفصلة عن "قسد" أو تلك المنضوية في إمرتها، خوفا من استياء المكون العشائري العربي في المحافظة من دخول الأكراد إليها.
ثبات المحور الروسي
من الواضح أن المحور الروسي أكثر قوة وتماسكا من المحور الأميركي، حيث يجري التحضير لمعركة دير الزور بهدوء وروية، ووفق أهداف عسكرية محددة مسبقا وتقاسم دقيق للمهام. هكذا يقوم الطيران الروسي بضربات جوية مكثفة ضد تنظيم الدولة في الريف الجنوبي الشرقي لمحافظة الرقة، وفي ريف حماة الشرقي، وريف حمص الشرقي، لتعبيد الطريق أمام النظام للمضي قدما نحو دير الزور.
وفي حين يعمل الإيرانيون بهدوء على تشكيل صحوات عربية في الحسكة تكون يدا للنظام للمشاركة في المعركة إن اقتضت الظروف ذلك؛ تنتشر "حركة النجباء" العراقية على بعد 60 كيلومترا جنوب البوكمال استعدادا للتحرك باتجاهها.
هذا الواقع سمح لقوات النظام بالتقدم في الريف الغربي لدير الزور من محور الرقة ومحور السخنة في ريف حمص الشرقي، لينتهي الأمر بوصول قوات النظام إلى مشارف مدينة دير الزور.
وقد تمت العملية عبر محورين رئيسيين:
ـ الريف الجنوبي الشرقي للرقة، حيث عمل النظام على دفع تنظيم الدولة لمغادرة المحافظة باتجاه دير الزور، كمقدمة لجعل الجغرافية الجنوبية لنهر الفرات في دير الزور هدفا عسكريا. الأمر الذي مكنه من الوصول إلى مقر الفوج 137 غربي المدينة.
ـ ريف حمص الشرقي، انطلاقا من بلدة السخنة باتجاه مدينة دير الزور، حيث استطاعت قوات النظام التموضع على بعد نحو 12 كيلومتراً من المطار العسكري جنوب غرب المدينة.
وبناء على هذه الصورة؛ تبدو الغلبة في المحافظة للمحور الروسي، لكن الأميركيين الذين يسعون إلى تعبيد طريق عسكري بري يمتد من الشمال الشرقي (الحسكة) إلى الجنوب الشرقي (السويداء)، مضطرون إلى السيطرة على الشريط الجغرافي في المحافظة على طول الحدود العراقية، لمنع حدوث أسفين جغرافي بين مناطق وجودهم في الشمال ونظيرتها في الجنوب.
والمشكلة التي تواجه هذا الهدف هي انتشار بعض القوى المحسوبة على إيران -وفي مقدمتهم "النجباء"- في المنطقة الواقعة بين قاعدة الزكف في ريف حمص الشرقي، والحدود الإدارية لمحافظة دير الزور من جهتها الجنوبية الشرقية.
وليس معروفا إلى الآن كيف ستكون التسوية الجغرافية بين روسيا والولايات المتحدة، لكن يبدو من سير الأمور أن محافظة دير الزور لن تكون خالصة لأي طرف كما هو الأمر في الحسكة، ولن تكون ثمة غلبة لطرف على طرف كما هو الحال في الرقة وحلب؛ على الأقل الآن في ضوء المعطيات المتوافرة.
تصاعدت، أخيرا، حدة تصريحات المسؤولين الإسرائيليين وتهديداتهم بضرب أهداف لنظام الملالي الإيراني ولحزب الله اللبناني في سورية، وخصوصا بعد أن توصل الروس مع الأميركيين إلى اتفاق على وقف إطلاق النار في المنطقة الجنوبية، وضمها إلى مناطق "خفض التوتر".
ولم يخف ساسة إسرائيل وجنرالاتها معارضتهم اتفاق المنطقة الجنوبية في سورية، حيث هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأنه لن يسمح لنظام الملالي الإيراني بتعزيز نفوذه ونفوذ وكيله اللبناني حزب الله داخل سورية، خصوصاً في المنطقة الجنوبية المحاذية لإسرائيل، بل واعتبر تعزيز وجود مليشياتهما على الحدود الفلسطينية قد يفضي إلى اندلاع حرب إقليمية في المنطقة، الأمر الذي دفع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى إطلاق تحذيراتٍ ضمنية لإسرائيل، معتبراً "أي شخص في الشرق الأوسط، يخطط لانتهاك القانون الدولي بتقويض سيادة أي دولة أخرى، أو سلامة أراضيها، بما في ذلك أي دولة في الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا، مُدان ومرفوض". وهذا الكلام المبطن والمخفف ممن يُعرف بأنه ثعلب الدبلوماسية الروسية جاء كذلك، لأنه موجه إلى ساسة إسرائيل فقط، ولم يظهر لهم صلافته وصلابته المعهودتين حيال ساسة دولٍ أخرى، وفي مناسبات مماثلة.
واللافت أن ساسة الكيان الإسرائيلي وجنرالاته لم يظهروا أي اعتراضٍ على وجود المليشيات الإيرانية ومليشيات حزب الله اللبناني من قبل، عندما دخلت لخوض معركة الدفاع عن نظام الأسد، حامي حدودهم التاريخي، بل كانوا، وما زالوا، مسرورين، حينما كانت هذه المليشيات تقتل السوريين، وفي الوقت نفسه كانت مقاتلاتهم تستهدف، بالتنسيق الكامل مع الروس، أي تحرّك قد يشكل تهديداً لأمن كيانهم. لكن حينما وصل الأمر إلى محاولة شرعنة وجود مليشيات نظام الملالي بالقرب من حدودهم، ثارت حفيظتهم، وراحوا يطلقون التهديدات باندلاع حرب إقليمية.
ويبدو أن الساسة الروس يدركون ما يعنيه ساسة إسرائيل بتهديداتهم، وقد لخصه نتنياهو في ختام زيارته إلى روسيا أخيرا، حيث قال بعد لقائه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، "يعرف المجتمع الدولي أننا حين نقول شيئاً ننفذه أيضاً". لذلك سارعت وزارة الدفاع الروسية إلى إعلان أن "الخبراء العسكريين الروس والسوريين أنشأوا نظام دفاع جوي موحد ومتكامل يغطي كل الأراضي السورية"، ما يعني وضع المعدات الاستخباراتية الجوية الروسية والسورية في نظام موحد فنياً ومعلوماتياً، وبقيادة عسكرية روسية في قاعدة حميميم الروسية في محافظة اللاذقية التي توجد فيها كتيبة الهندسة الراديوية ومنظومة (بانتسير – أس) الصاروخية الروسية، ومدافع مضادة للطائرات، ومنظومات الصواريخ (أس – 400). وهذا يعني أن القوات الروسية باتت صاحب اليد الطولى المسيطرة على السماء السورية.
ويبدو أن التفاهمات ما بين الساسة الروس والإسرائيليين في سورية لم تتطور إلى الدرجة التي يريدها الإسرائيليون، خصوصاً بعد أن حسمت القيادات العسكرية الإسرائيلية تقديراتها أن الحرب في سورية تقترب من نقطة النهاية، وأن تحالف النظام الروسي مع نظام الملالي الإيراني والأسد قد حسمها لصالحه، الأمر الذي ينذر بخطر حدوث تغيير استراتيجي سلبي حيال إسرائيل. وهنا يكمن مصدر قلق ساسة الكيان الإسرائيلي. لذلك راح ساسته يطلقون التهديدات بأنهم لن ينتظروا أي طرفٍ لإبعاد التهديد عنهم، وأنهم لن يقبلوا بمحاولات نظام الملالي الإيراني في إنشاء واقع جديد، وأطلقوا تهديداتهم بأن كل الاحتمالات مطروحة على الطاولة، بما فيها احتمال حدوث مواجهات عسكرية، وأنهم لن يعتمدوا على الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، بل سيحتفظون بحقهم في "الدفاع عن النفس"، وكأنهم في حال خطر محدق.
غير أن الساسة الإسرائيليين يدركون تماماً أن حزب الله اللبناني غير معني بمواجهة مع كيانهم، وأنه بعد قبوله قرار مجلس الأمن 1701 تحول إلى حام للحدود مع دولة إسرائيل في لبنان، حيث لم يطلق طلقة واحدة ضد إسرائيل منذ 2006، بل سخّر، بأوامر من نظام الملالي الإيراني، كل طاقاته المليشياوية الطائفية لخوض معركة الدفاع عن نظام الأسد الإجرامي. ومع ذلك، يروّج الساسة الإسرائيليون أن مليشيا هذه الحزب ستنتشر على طول مرتفعات الجولان عند الحدود، ما يعني السيطرة على جنوب سورية، بالتالي سيشمل امتداد مليشيات نظام الملالي الإيراني مئات الكيلومترات، بدءاً من رأس الناقورة في الغرب، وصولاً إلى جنوب شرقي هضبة الجولان، وهذا الوجود المبالغ فيه، وغير الواقعي، هو ما يثير حفظية ساسة إسرائيل وجنرالاتها، ويبنون عليه تهديداتهم بحربٍ إقليمية شاملة، تبدأ في سورية وقد تمتد إلى إيران.
لكن السؤال هو، ماذا ستفعل منظومة الدفاع الجوية الروسية، إذا استهدفت إحدى المقاتلات الإسرائيلية مواقع لنظام الملالي الإيراني أو لحزب الله اللبناني في سورية؟ هل ستجرؤ روسيا وتسقطها؟
لا أعتقد، لأن ذلك يعني حدوث مواجهة مباشرة بين الروس والإسرائيليين، الأمر الذي سيعقد الأوضاع في الشرق الأوسط، وربما تكون تكلفته باهظة على الروس وعلى الإسرائيليين. والأرجح أن الساسة الروس سيلجأون إلى طمأنة رصفائهم الإسرائيليين من أنهم يمسكون بزمام المبادرة في سورية، ولن يسمحوا لمليشيات نظام الملالي أو لمليشيات حزب الله بتشكيل أي خطر على أمن إسرائيل، وسبق لهم السماح للمقاتلات الإسرائيلية في استهداف أي مكان يحتمل أن يشكل تهديداً لإسرائيل في سورية، لكنهم في الوضع الراهن في أيامنا هذه لا يريدون لإسرائيل أو سواها أن تعرّض ما أنجزته قواتهم في سورية للخطر. لذلك لا يريد الساسة الروس حدوث تصعيد عسكري جديد في سورية، خصوصا وأنهم استطاعوا أن يغيروا ميزان القوى العسكري لصالحهم، وبدأوا مرحلة تبريد الجبهات، من خلال إنشاء مناطق "خفض التصعيد" أو التوتر، تمهيداً لفرض حلّ يضمن مصالحهم في سورية ويصونها، وفي مقدمتها يبقي وجودهم العسكري إلى أجل غير مسمى.
تتجه الأنظار إلى محافظة دير الزور التي تتحول تدريجيا إلى معقل لتنظيم داعش في سورية، بعد خسارته قرابة 70% من الرقة. ومع هذا التطور، تبدو معركة دير الزور أقرب إلى لوحة شطرنج، تتسابق إليها مجموعة من القوى المتنافسة، ولعل هذا دليل على أهمية هذه المعركة، باعتبارها حاسمة لرسم مصير المنطقة الشرقية في سورية وطبيعة العلاقات التي ستترتب مع كل من العراق وإيران، لطالما كانت دير الزور عبر التاريخ الجسر بين بغداد ودمشق. على المستوى الاستراتيجي، يحرص كل من التحالفين الأميركي والروسي على السيطرة على دير الزور لأسباب أمنية واقتصادية (تعد مناطق دير الزور الأكثر غنى في سورية بالنفط والغاز) تتيح له فرض رؤيته على مستقبل سورية، وإن لم يكن ذلك متاحا، فالتوافق مطلوب للحفاظ على المصالح والنفوذ وأوراق القوة.
في السباق إلى دير الزور، تتنافس ثلاث قوى للفوز بها، وإن تبدو المؤشرات لصالح الجيش السوري وحلفائه من الروس والإيرانيين وباقي المجموعات المقاتلة إلى جانبه. واللافت أن هذا المحور سرّع، أخيرا، زحفه باتجاه دير الزور من ثلاثة محاور، السخنة والتنف والرقة، في محاولةٍ لفرض شروطه على ميدان المعركة، وهو بتقدّمه هذا نجح في قطع الطريق أمام فصائل الجيش الحر في التنف للتوجه نحو دير الزور. والواضح أن العقل المخطط لهذه المحور هو اللاعب الروسي الذي أدرك مبكرا أهمية معركة دير الزور إلى درجةٍ يقال إنه طرح أهمية التوجه إلى دير الزور حتى قبل معركة حلب، فيما تحظى هذه المعركة باهتمام إيراني وعراقي، نظرا لأن الجسر البري بين الدولتين وسورية سيصبح مفتوحا، خصوصا بعد تحرير تلعفر من داعش.
الفريق الثاني الذي يتطلع إلى معركة دير الزور هو قوات سوريا الديمقراطية، ومن معه من الفصائل العربية، ولا سيما جيش الصناديد، وكان لافتا مسارعة هذا الفريق إلى إعلان تشكيل المجلس العسكري لدير الزور، وتأكيد استعداده لتحرير المحافظة من "داعش"، على الرغم من صعوبة ذلك، لا بسبب انشغاله بمعركة الرّقة ومحدودية قواته وقدراته، بل لوجود معارضة قوية من قبائل عربية كثيرة تشكل النسيح الاجتماعي لهذه المنطقة لدخول هذه القوات إلى المدينة. أما الفريق الثالث، فيتألف من فصائل من الجيش الحر المتمركزة في قاعدة التنف الأميركية، (مغاوير الثورة، أسود الشرقية، قوات أحمد العبدو، أحرار الشرقية... )، وهي فصائل انبثقت من حل الجيش السوري الجديد الذي تشكل قبل سنوات بدعم أميركي وبريطاني وأردني. وعلى الرغم من الحديث عن مساع أميركية لدمج هذه القوات في جيش موحد تحت اسم الجيش الوطني، ونقل عناصره إلى الشدادة في محافظة الحسكة، لجعلها مقرا له لخوض معركة دير الزور، إلا أن من الواضح أن ثمة مشكلات كبيرة تواجه هذه الفصائل، بعد قطع الجيش السوري وحلفائه الطريق أمامها من دون تحرك أميركي، بعد أن قالت واشنطن، في السابق، إن هذا خط أحمر، وكذلك رفض قوات سورية الديمقراطية التخلي عن الشدادة لصالحها، فضلا عن رفض هذه الفصائل التعاون مع قوات سورية الديمقراطية.
هذه الخريطة المتداخلة والمتشابكة للقوى المتنافسة تجعل من معركة ديرالزور معركة أولويات لكل طرف أو محور. وعليه، السؤال الأساسي هنا، هو على من سترسو هذه المعركة؟ وكيف ستكون العلاقة بين هذه الأطراف بعد تحرير المدينة؟ إذا كان من الصعب تخيل مواجهة أميركية – روسية في دير الزور، فإن التوافق على تقاسم هذه المعركة ربما يطرح نفسه سيناريو، خصوصا وأن حسمها قد يتطلب جهود معظم هذه القوات، إن لم نقل جميعها، لكن الثابت هنا أن معركة دير الزور ستفرز واقعا جديدا على صعيد التحالفات بين القوى على الأرض، لا سيما في ظل القناعة بأن التحالف الأميركي – الكردي في مرحلة ما بعد تحرير الرقة لن يبقى على حاله، وأن الكرد قد يجدون نفسهم أمام اللاعب الروسي والشراكة معه للحفاظ على مكاسبهم.
كتب الروائي السوري، مصطفى خليفة، في عام 2012، مقالاً تحليليّاً واستشرافيّاً للواقع السوري، وفيه بعدُ نظرٍ كبير، حيث خَبٍرَ الكاتب النظام والمعارضة، وكان سجيناً سنواتٍ طويلة في الثمانينيات، وروايته "القوقعة" عن سجن تدمر أكثر من مرعبة عن تلك الحقبة. المقال هو "ماذا لو انتصر بشار الأسد؟". الرجل لم تأخذه الأحلام ولا الأوهام، ووضع سيناريو لمرحلتنا هذه، أي مرحلة انتصار النظام وإخفاق الثورة والمعارضة. يقول أخيرا، السفير الأميركي السابق في سورية، روبرت فورد، وفي أكثر من تصريح: إن النظام انتصر، وعلى المعارضة أن تتعاطى مع الواقع الجديد، وهو ما يُلاحظ من التصريحات الدولية والإقليمية بصدد التصالح مع النظام.
هناك تطورات كبرى على استنتاجات خليفة، والتي أكدّ فيها أنّ نهاية الثورة ستكون بتغيير المجتمع مذهبياً، وانتصار الحلف الرباعي في كل من إيران والعراق ولبنان وسورية، أي الحلف "الشيعي". الجديد هو السيطرة الروسية على سورية واقتسام الأميركان لأنفسهم مساحات واسعة من شمال سورية وشرقها وجنوبها، مع ملاحظة أن هذه السيطرة الثنائية لا تُنهي النظام، لكنها بالتأكيد تؤسس لتغييرٍ فيه، بما يتوافق مع مصالح هذه الدول. وهنا لا يتفق صاحب هذه السطور مع الكاتب زياد ماجد، في دراسته "نحو تصفية تقنيّة روسية- أميركية للقضية السورية"، في أن روسيا أصبحت المتحكم الوحيد، وستصبح كل المقررات الدولية لاغية، ولا سيما "جنيف 1" وقرار مجلس الأمن 2254.
سيحاول النظام، وقد استقر الوضع، العمل وفق احتمالين: التحرّك بعيداً عن المحتل الروسي، وذلك لإعادة أجزاء من سلطته المنهارة. وهنا قد يحدث تناقض معين معه، يودي بتصفياتٍ معينةٍ في النظام ذاته. الاحتمال الثاني، أن يتقبل النظام شروط السيطرة الروسية والأميركية وينصاع لها. ويرجح هذا الاحتمال نظراً لبراغماتية النظام. والبراغماتية هذه يمكن متابعتها عبر كيفية تعامله مع السيطرة الروسية، وكذلك مع الأميركان، حيث حَرِصَ على عدم إغضابهم بأيّة أفعالٍ قد تُصعّد من ضغوطهم عليه، وهذا لا يتناقض مع محاولته الدائمة لإعادة تثبيت نفسه لاعبا أساسيا في السيطرة على سورية من خلال ادعائه محاربة الإرهاب أو صمته على القواعد العسكرية الأميركية في شمال سورية وشرقها.
كان القصد من التوكيل الأميركي للروس بقيادة التغيير في سورية إنهاء الثورة، والتفرّد بتشكيل نظام سياسي يناسب مصالح الدولتين، فلهذا وجدنا الروس يسحقون المناطق الثائرة، وبعد الإضعاف الشديد تمّ تركُ مناطقٍ محدّدة، وهي مناطق خفض التوتر، والتي افتتحت روسيا الحديث عنها عبر مسار أستانة، لتكون عوناً للروس في مساوماتهم مع الإيرانيين على تخفيض وجودهم في سورية. وهذا يخالف رؤية مصطفى خليفة في أن الحلف الرباعي سيفرض سيطرته الكاملة على سورية ولبنان والعراق.
لم يعد من الثورة التي تعنينا أي شيءٍ؛ فالشعب مهجرٌ وبقايا الجيش "الحر" ستكون جزءًا من النظام المقبل، وفق المخطط الروسي. الأنكى أنّه سيتم توظيف هذه البقايا مع جيش النظام في الحرب على الإرهاب، وتحت السيطرة الروسية، وبقصد تعزيز الأخيرة. الفصائل تلك، وبعد أن أصبحت مصدّرة أمراء حرب ليست لديهم مشكلة كبيرة في هذا الالتحاق، سيما وأن الثورة وأهلها صاروا خارج المعادلة لأسباب متعدّدة.
صحيح أن الثورة في طور الانهزام، ويتم تشكيل النظام وفقاً لمصالح الاحتلال الروسي وضمان مصالح الأميركان، لكن ذلك سيكون على حساب المصالح الإيرانية، وستستفيد إسرائيل من ذلك، حيث لم تتوقف زيارة مسؤوليها إلى أميركا وروسيا، من أجل هذا الهدف تحديدا، وكذلك ما يجري من نقاشاتٍ متكرّرة في القيادة الأميركية بخصوص تحجيم إيران وإعادة "احتلال" العراق، وهو ما سيؤدي إلى "قصقصة" أجنحة إيران في العراق وسورية واليمن بشكل رئيسي. وبالتالي، ستكون قوة النظام بمقدار مطواعيته للسياسة الروسية بالتحديد.
سيكون السؤال الطبيعي هنا: النظام انتصر، فكيف سيتم الإعمار، ومن سيقوم به؟ معرفتنا لغياب الموارد الروسية ستدفع بالروس للاستعانة بأوروبا وأميركا والخليج، وهذا سيكون ثمنه سياسياً، أي مصالح سياسية وليست فقط اقتصادية/ وفي إعادة تشكيل نظام الحكم، وبالتالي لا يمكن إبقاء نظام الحكم في سورية على حاله.
نصل هنا إلى تسريباتٍ انتشرت أخيراً، وتقول إن تنظيم داعش سينتهي في أواخر 2017، وسيكون هناك نظام جديد، يحافظ فيه على رأس النظام الحالي لسنواتٍ مقبلة. التسريبات مستمرة بهذا الخصوص وضمن السياق ذاته. أي ضمن إطار انتصار النظام مع تعديله، وإدخال جزء من المعارضة وإعطاء بعض الحقوق للناس، بما يشكل نظاماً جديداً وبداية مرحلة جديدة في سورية.
الإدارة المحلية، أو المجالس المحلية، ستكون ممثلة لمناطقها بالمعنى الخدمي، وستكون المعارضة ممثلة سياسيّةً لها في العاصمة، وبقايا الجيش الحر ستندمج بجيش النظام. هذه النتائج هي ما عملت له روسيا عبر تدمير المناطق الثائرة، ومن خلال مناطق خفض التوتر وإشراك الأميركان فيها، وسيستمر ذلك حتى الانتهاء من الرقة ودير الزور وإدلب، والبدء بمرحلة إعادة الإعمار، وهذا سيخضع لشروطٍ سياسيّةٍ إقليمية ودولية كما أوضحت.
ينصح فورد هذا، بخبث، المعارضة والأكراد مجدّداً، بأن يعترفوا بانتصار النظام الكامل. يريد القول إن الثورة انتهت ولن تتجدّد، وستعود الأوضاع إلى ما قبل 2011، ويدفع المعارضة السورية إلى الاعتراف بذلك، وبذلك يساهم بدوره في فك العزلة عن النظام وروسيا وإيران، ورفع العقوبات، وبالتالي تأمين بيئة مستقرة للمصالح الأميركية في كل من سورية والعراق؛ هذا هدفه المركزي، وستكون هذه بداية لتحجيم إيران بالضرورة.
الاستقرار في سورية والمرافق لوجود روسيا وأميركا فيها سيعني إلغاء أيّ سببٍ أو مبررٍ لوجود إيران فيها، والتصريحات المتتالية بخصوص العراق، والمتعلقة بإنصاف السنة، ورفض استفتاء الكرد وتحجيم دور إيران، تدعم فكرتنا هذه.
تنطلق الوصفات الروسية والأميركية مما شكّلوه من واقعٍ جديدٍ في هذه البلدان، أي من خلال الطائفية بالتحديد، وربما يستفيد الأكراد من ذلك في إقرار حكمٍ ذاتي لهم في سورية؛ القضية هنا بالتحديد، ربما لن يُطرح الشكل الطائفي للحكم، كما حال العراق ولبنان، نظراً لمخاطر ذلك الأمر على المصالح الروسية والأميركية تحديداً، ولكنه سيكون الأرضية "المعرفية" لشكل النظام.
رفض السوريين هذا المآل وتسييس المجالس المحلية وإعادة تفعيل العمل الوطني وكيفيه النهوض بسورية، ورفض كل ما ستسقر عليه الأوضاع الاحتلالية، يجب أن يكون الأساس بالنسبة للفاعلين السياسيين.
لم تكن الحرب يوماً في إقليمنا على هذا القدر من الوضوح ومن الجلاء. إيران تخوض حربها من خلال جيوش غير إيرانية- بينها الجيش العراقي والجيش السوري- توازيها ثلاث ميليشيات، الحشد الشعبي العراقي و «حزب الله» اللبناني والميليشيات السورية المستحدثة.
تعقد طهران اتفاقاً مع «داعش» لمبادلة جثة جندي لها بسلامة مقاتلين للتنظيم، فيتولى «حزب الله» تنفيذ تفاصيل الاتفاق. وفيما يُدفع مقاتلو «داعش» من الحدود اللبنانية إلى الحدود العراقية، تتذمر حكومة بغداد، وتُسجل حكومة بيروت «نصراً» على الإرهاب. ويبقى «التذمر» و «النصر» ضمن دائرة الضبط الإيراني، ولا يخرجان عن الهامش الذي تتيحه طهران للأطراف التي تدير عبرها حروبها الإقليمية.
والحال أن قمة الانكشاف كانت هذا الأسبوع عبر الفصول الجديدة من اتفاق انسحاب عناصر «داعش» من القلمون اللبنانية- السورية إلى البوكمال السورية- العراقية، ذاك أن طائرات التحالف الدولي قررت أن تُنغص على طهران تنفيذ الاتفاق في نصفه الثاني، أي في مرحلة انتقال مقاتلي التنظيم وعائلاتهم إلى البوكمال. «حزب الله» رفع الصوت لـ «إنقاذ» المقاتلين وعائلاتهم من موت في الصحراء، فهالتنا خطوته ورفعنا الصوت مذهولين من حرصه على حياة عناصر التنظيم وعائلاتهم. والحال أن ذهولنا يشبه إلى حد كبير محاولة التحالف الدولي اعتراض الخطوة الإيرانية، ذاك أن خطوة التحالف كاشفة لعجزه عن الإتيان بأكثر من اعتراض قافلة لمئات من المقاتلين وعائلاتهم. ومثلما انطوى ذهولنا على سذاجة، انطوى صمتنا على حقيقة أن الخطوة الدولية لا قيمة لها، على سذاجة موازية.
طهران تسجل انتصاراً في أعقاب انتصار، وتمتص غضب خصومها بتذمر لا قيمة له لحكومة بغداد، أو بإتاحة رفع صوت لبناني كئيب استهوالاً لفعلتها، إلى أن انضم التحالف الدولي إلى حفلة الأصوات المختنقة، فكان انتقامه من طهران عبر حصار قافلة لـ «داعش»، واستجاب حزب الله لرغبتنا في سقطة له تمكّن عبرها من امتصاص غضبنا، فأصدر بيان القلق على مقاتلي «داعش»، وانطلق الصراخ، وشعرنا أننا أفرغنا ما في وجداناتنا من توتر واضطراب. أكمل «حزب الله» حياته، ونمنا جميعاً ملء جفوننا في تلك الليلة.
إيران انتصرت في الحرب على «داعش»، أما الحكومات التي تمارس نفوذاً عليها في بغداد ودمشق وبيروت، فليست في موقع من ينتصر أو ينهزم. وأن تنتهي الحرب بهذه النتيجة، أي بانتصار جلي لطهران، فعلينا أن ننتظر ولادة وشيكة لمسخ جديد. من الغباء والجهل انتظار شيء آخر. قوة مذهبية إقليمية انتصرت في الحرب على «داعش». تركيا لم تنتصر على «داعش»، والعرب لم يفعلوا ذلك. أما التحالف الدولي، فكان ملحقاً بالقوة الإيرانية تماماً كما كان الحشد والحزب ملحقين، وجل ما فعله كان اعتراض قافلة لـ «داعش» أرادتها طهران أن تصل إلى الحدود. «لا بأس أقصفوها وسنصدر بياناً يعبر عن قلقنا على المدنيين فيها»!
وأن تنتصر طهران في هذه الحرب فهذا يعرضنا إلى مصير أكثر بؤساً مما كابدناه مع «داعش». الأخير سيصبح ممثلاً لكل المهزومين، وما أكثرهم. والمسخ لا يموت، ذاك أنه عرضة لولادة جديدة. الشروط كلها مؤمنة له. عدوه المذهبي انتصر في الحرب عليه، المدن مدمرة بالكامل، ومخيمات البؤس والجوع والمرض تمتد من على مساحات شاسعة أينما اتجهت في دول الإقليم.
إيران مَن انتصر على «داعش»، وليس العقل ولا الاعتدال. في لبنان انتصر «حزب الله» وفي سورية انتصر بشار الأسد وفي العراق انتصر «الحشد الشعبي». هل من مشهد أشد دلالة على توقع ولادة المسخ مجدداً وقريباً جداً؟
لكن ما يجعل الإقامة في هذا العالم مخيفة، هو أن المسخ الجديد لا أحد بريء من ولادته. العرب الذين انكفأوا عن الحرب عليه، والأتراك الذين فتحوا حدودهم له، و «الامبراطورية الإيرانية» التي لطالما غبطها عدو مثل «داعش» فراحت تفتح له المدن والقصبات، تمهيداً لانتصارات سهلة عليه. أما الأب الرابع فهو ذلك الانكفاء الغربي والأميركي تحديداً. هذا الغرب لم يتعلم ما يعنيه أن تتحول الحرب على «داعش» إلى نصرٍ مذهبي. ولم يتعلم أيضاً أنه لن يكون في منأى عن هذا الاختلال الهائل.
فتح الاتفاق الأخير بين حزب الله وتنظيم داعش الباب لأسئلة طالما طُرِحت بثقة لكنها كانت عُرضة للتأويل أو اللامبالاة من جملة الاهتمامات الدولية وتركت إلى الفراغ بإرادة دول الصف الأول، وأهمها الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.
خلاصة الصفقة بين ميليشيا الحرس الثوري الإيراني في لبنان وعناصر داعش الإصرار على استمرار استغفال الشعوب التي تقع ضمن جغرافيا قريبة للمشروع الإيراني وإيهامها بالحرب المذهبية والإقفال بالشمع الأحمر على عقلها أو بقايا عقلها عند بعضهم.
بمعنى آخر إنهم يقدمون لنا النُصح بعدم التفكر والتفكير، لأننا في نظرهم “جهلة” وهذا ما عبر عنه رئيس كتلة دولة القانون في برلمان العراق وزعيم حزب الدعوة نوري المالكي.
كل من لا يستوعب أو ينتقد أو يعترض مهما كانت مكانته فهو “جاهل” بنظر المالكي. لِمن توجه بكلامه ولماذا؟ فالعراق بمعظمه توحد في رفض الصفقة، وحتى رئيس الوزراء حيدر العبادي، وهو من حزب الدعوة، لم يستطع التملص ربما لأول مرة رغم سياسة أضعف الإيمان من القول إن الاتفاق غير مقبول. وهذا يحسب له.
لماذا لم يتجاهل نوري المالكي الاتفاق ويترك المأزق في ملعب العبادي؟ هل اضطر إلى هذا التصريح وتوجيه الإهانة ونعت المنتقدين بـ”الجهلة” ومنهم طبعا رئيس وزراء العراق الذي من كتلته وحزبه؟
ربما نجد عذرا للمالكي إذا وصف الشعب العراقي بما يشاء، فالشعب في ذيل قائمة اهتماماته، لكن كيف وموسم الانتخابات على الأبواب؟ هل يراهن المالكي بكل قوته على المعسكر الإيراني الذي ينتمي إليه مع حزب الله ويستند إلى الحشد الشعبي بميليشياته الأكثر قربا أو صلة بالحرس الثوري وقاعدتها الانتخابية بما أنه، أي المالكي، يستعرض نفسه كعراب للحشد.
أكيد أن مفردة “الجهلة” لم تكن زلة لسان، قد تكون استجابة برضا لأوامر أو رغبات المرشد خامنئي وحرسه الثوري اللذين لديهما قناعة بأن حيدر العبادي غير مقبول أو مرضي عنه رغم ما يقدمه من تنازلات مخجلة أحيانا وتضعه في مواقف محرجة بصفته رئيسا للوزراء وقائدا عاما للقوات المسلحة. يبدو أن حماسته في الدفاع عن الحشد الميليشاوي لم تنفع أو لم تشفع لصقله إلى قيادة مرحلة أزمات قادمة في العراق والمنطقة.
إيران متطلِبة في العراق ولن يكفيها حاكم بوجه معلن كدولة عراقية ذات سيادة في تعاملها مع السياسة والعلاقات الدولية ووجه خفي معها وإن قلبا وقالبا. إيران تريد حاكما على طريقة التبليغات وأداء الواجبات كفرد في الحرس الثوري وبهيئة قاسم سليماني في المهمات الداخلية أو أي مسؤول إيراني آخر بما يتعلق بإدارة شؤون العراق مع العالم.
ما قاله نوري المالكي كسر القشرة الخارجية التي منعت طويلا المجاهرة بموقف العداء الصريح لأي تقارب عربي مع العراق وخاصة مع المملكة العربية السعودية وبما خرجت به قمة الرياض في محاربة التطرف وإدانة المشروع التوسعي لنظام ولاية الفقيه واعتباره الداعم والراعي الأول للإرهاب في العالم.
المالكي ردّ بفظاظة شملت الجميع، لكنه أراد مهاجمة الأصوات الأعلى الرافضة للاتفاق المشين وهي أصوات مؤثرة في المشهد العراقي وتحديدا منها أصوات كتلة الأحرار الصدرية في البرلمان، بما ينذر بكارثة صراع عام ومفتوح في العراق يستهدف أي شخصية تبتعد عن المشروع الإيراني ولو بمسافة تمليها المأساة التي تعرض لها شعب العراق من تمزيق في نسيجه الاجتماعي ووحدته الوطنية وبحربه على الإرهاب، وهي حقائق تستدعي عودة وإعادة بل وانتزاع العراق من ويلات المشروع الإيراني وما يمكن أن نتوقعه من حروب بالإنابة دفاعا عن أمن إيران وإبعاد الأذى عن حدودها، مع الاستفتاء في إقليم كردستان على الانفصال والشحن السياسي والمجتمعي في قضية كركوك وما يتبعها من مخاطر أمنية محتملة.
الاتفاق على ترحيل تنظيم داعش من الحدود اللبنانية السورية له حسابات في الداخل اللبناني لن نخوض فيها لكنها أيضا على صلة بالإرادة الإيرانية والمناورة داخل الأراضي السورية. وكما قيل إن انتقال عناصر داعش تم من أرض سورية إلى أرض سورية وإن كان ترحيلهم إلى البوكمال القريبة من الحدود العراقية أو إلى دير الزور المحاذية كذلك للعراق. فلماذا هذه الضجة المفتعلة وردود الفعل في العراق؟
الاتفاق المذكور دون شك سحق تماما فكرة توازن الرعب التي تبناها داعش في سياسته التي ترتكز على الترويع والصدمة والعزلة واستحالة الحوار معه والتوحش واللامبالاة بالحياة وليس له إلا الموت بالقتال أو الانتحار بالسيارات المفخخة أو الأحزمة الناسفة. لكننا رأيناهم يتواصلون ويتفقون ويبتسمون للكاميرات ويشربون الماء باردا وبرفقتهم عوائل من نساء وأبناء وأمهات وآباء. ومع من يتفقون، أليست هذه أكبر المفاجآت؟
للمتتبع كان وقعها استكمالا لسياسة المشروع الإيراني واستباقا للأحداث وتقاطعا مع المستجدات. السؤال الأكثر وقعا في نفوسنا: لماذا لم يُفتح أي اتصال أو حوار مع مقاتلي داعش بعد أي صفحة من صفحات معركة الموصل؟ لماذا لم تفتح ثغرة لهروبهم إلى خارج الموصل القديمة واصطيادهم هناك أو إيقاعهم في الأسر بما أننا نتابع مصائر أعداد منهم في معركة تلعفر أو تركهم ليغادروا الحدود العراقية؟
ماذا كانت مهمة الحشد الميليشاوي إلا العزل والتطويق من جهة الواجبات المكلف بها غرب الموصل؟ ما هو الاستنتاج الذي نخرج به غير الإبادة الممنهجة والتشريد والإهانة والإذلال وتدمير الموصل؟
رأينا بفضل تواطؤ النظام السوري وحزب الله تنظيم داعش كيف يتحول إلى بعض عشيرة تائهة في الصحراء أعيدت إلى مضارب خيام أهلها الذين استقروا قرب الحدود العراقية. لماذا الحدود العراقية السورية أصبحت مركزا للتجمعات المسلحة من تنظيم داعش الذي أُخرِجَ من الموصل وتلعفر بالدم العراقي؟
الحشد الميليشاوي يحاول السيطرة على الحدود. هل كانت وظيفته مطاردة داعش وإلحاق الهزيمة به أم أن الاتفاق أو الصفقة المشبوهة نبهتنا إلى مضمون الاتفاق في إعادة احتلال المدن العراقية لما له من غايات أدرى بها نوري المالكي الذي سلم الموصل دون قتال ويصف اليوم شعب العراق وكل من يقف بوجه المشروع الإيراني بـ”الجهلة”؛ وهو قبل زيارته إلى موسكو كان يصرح متحمسا عن وحدة الموضوع بين العراق والنظام الحاكم في سوريا بما يخص الحرب على إرهاب داعش ولولا قتال “العراقيين” دفاعا عن سوريا لسقطت بغداد.
ما الذي تغير لتكون البوكمال بعيدة كل هذا البعد عن الحدود العراقية في رأي المالكي وأتباع المشروع الإيراني؟ هل هي فضيحة مقبلة لتعاون صريح لميليشيات الحشد مع داعش لمواجهة التوجهات الأميركية في العراق لفصل الهلال الطائفي ومنع التمدد الإيراني إلى البحر المتوسط.
القادة العراقيون غاضبون، وخصوصا ضباط الجيش العراقي، فقد اقترحوا الإبقاء على منفذ لفرار الدواعش إلى مدينة الرقة لإنقاذ مدينة الموصل التي تعتبر ثاني أهم حاضرة من حواضر العراق. والذي عطل الصفقة هو خطاب حسن نصرالله الشهير، حيث طالب العراقيين بعدم السماح للإرهابيين بالفرار وحث الميليشيات على قطع الطريق المؤدي إلى سوريا وجعل الموصل محرقة للجميع.
الآن جنرالات الجيش في حالة احتقان لأنه حين وصل الأمر إلى القلمون وجرود عرسال ومصير بعض الأسرى اللبنانيين تفاوض حسن نصرالله وسمح للدواعش بالانسحاب نحو دير الزُّور والبوكمال على الحدود العراقية. هذه رسالة لبنانية إلى ضباط العراق تقول إن الموصل كلها و650 ألف طفل عراقي مصاب بصدمة الحرب لا تساوي رفات جندي لبناني واحد.
البيان الذي أصدره حسن نصرالله لتهدئة الغضب العراقي كان تأثيره عكسيّا، فهو يقول “كانت لدينا في لبنان قضية إنسانية وطنية جامعة هي قضية العسكريين اللبنانيين المخطوفين من قبل داعش منذ عدة سنوات، وكان الإجماع اللبناني يطالب بكشف مصيرهم وإطلاق سراحهم إن كانوا أحياء أو استعادة أجسادهم إن كانوا شهداء، وكان الطريق الوحيد والحصري في نهاية المطاف هو التفاوض مع هؤلاء المسلحين لحسم هذه القضية الإنسانية الوطنية”، وهنا يلاحظ تسمية الدواعش بـ”المسلحين” للتخفيف. ويقول إن نقل 310 داعشي منهك ومهزوم بالباصات التي وفرها حزب الله إلى دير الزُّور لا مشكلة فيه.
الاحتجاج بالنسبة إلى العراقيين ليس هو نفسه بالنسبة إلى الولايات المتحدة. الكولونيل ريان ديلون متحدثا باسم التحالف قال إنه “لمنع القافلة من التقدم شرقا، أحدثنا فجوة في الطريق ودمّرنا جسرا صغيرا وأن داعش يشكل تهديدا عالميا، ونقل الإرهابيين من مكان إلى آخر كي يتعامل معهم طرف آخر ليس حلا دائما”. فالولايات المتحدة ضد عقد صفقات من أي نوع مع الإرهابيين، لهذا نفذت غارات جوية داخل سوريا لمنع الدواعش من الوصول إلى الحدود العراقية، بينما العراقيون غاضبون لتدخل حسن نصرالله واعتراضه على توفير أي منفذ لهروب الدواعش من الموصل.
هناك معلومات تشير إلى صفقة سابقة مع الدواعش في تحرير الفلوجة، حيث قاد حزب الله العراق المفاوضات معهم وتم انسحاب الدواعش إلى الصحراء. شهود عيان ذكروا خروج الدواعش حينها من مدينة الفلوجة وعبورهم عند سيطرة الرزازة التي تسيطر عليها ميليشيا حزب الله.
سيدة لبنانية تابعة لإعلام حزب الله تقول إن حسن نصرالله خط أحمر لا يحق للعراقيين أن ينتقدوه، فهو يفهم بأمور الحرب أكثر من الجميع. ولا نعرف هل يفهم حسن نصرالله بأمور الحرب أكثر من جنرالات العراق الذين فكروا بإنقاذ المدينة من خلال ترك منفذ للهرب وليس عقد صفقة كما فعل الغادر حزب الله؟ لا شك أن إنقاذ حياة مليون طفل عراقي ومدينة عظيمة بحجم الموصل يعتبر سببا إنسانيا أكبر بكثير من رفات جندي لبناني.
السيد مقتدى الصدر قال إن على الحكومة نشر قوات على الحدود السورية مع البوكمال وعرض المساعدة، في إشارة إلى استيائه من غدر حسن نصرالله بالعراقيين. فهو بنظرهم غادر مرتين: مرة حين أمر الميليشيات العراقية، لقطع الطريق وإفشال أي خطة لإنقاذ الموصل وأهلها، بتوفير طريق هروب للدواعش خارج المدينة التاريخية؛ ومرة ثانية لأنه في لبنان لم يسمح بفرار الدواعش فقط بل عقد معهم اتفاقا لنقلهم بالقرب من العراق.
العراقيون يشعرون بوجود خديعة. ولأول مرة نسمع من شيعة العراق لعنات وهجوما قويا ضد حزب الله والمشروع الإيراني. هناك شعور بالذنب بحق الموصل، فما كان يجب تدميرها بهذا الشكل الرهيب ولا كان يجب تشريد أطفالها بهذه القسوة. جنرالات العراق يشعرون بأنه كان من الممكن ترك الإرهابيين يهربون ومطاردتهم في الصحراء أو في مكان آخر بعيدا عن الناس والمدينة لولا أن حسن نصرالله قد خدعهم، فأيادي القادة العراقيين ملطخة بالدماء ويشعرون بالوجع فقد سقط الكثير من الأبرياء في تلك المعركة. يقولون لماذا دم العراقيين رخيص إلى هذه الدرجة بنظر حسن نصرالله؟
شيعي عراقي يقول لماذا لا يعجبنا كلام رجل على فراش الموت يقول “لئن سلمني الله لأدَعن أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي”، ويضيف “الكوفة جمجمة العرب وكنز الرجال”.
ويعجبنا بالمقابل كلام رجل يتمنى لو يصرفنا صرف الدينار بالدرهم، يستبدل عشرة من العراقيين برجل واحد من أهل الشام؟ من حق الناس أن تتساءل في كل شيء بعد خديعة حسن نصرالله للعراقيين.
فتح المسلمون العراق عام 14 هجرية وبعد 22 عاما فقد سقط 10 آلاف قتيل من البصريين في “معركة الجمل”، حيث قرر الصحابة نقل خلافاتهم العائلية إلى البصرة، وبعد عام من ذلك التاريخ سقط 40 ألف قتيل من العراقيين في “وقعة صفين” التي هي أبشع حرب أهلية في تاريخ العرب. منذ البداية والعراقيون حطب لصراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل. يبدو العراق اليوم نتيجة لصراع صفوي عثماني، فالإسلام السياسي معناه خضوع العراق لاحتلال إيراني أو تركي.
في مؤتمر صحافي مع نظيره الروسي سيرجي لافروف انتقد الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية الإماراتي ما أسماه “النظرة الاستعمارية” لدى كل من إيران وتركيا تجاه العرب. إن هذه الأعمال الاستعمارية أصبحت واضحة من خلال نقل الإرهابيين من مكان إلى آخر بشكل علني ودعمهم والتفاوض معهم لأغراض سياسية تخدم الهدف الاستعماري التركي والإيراني معا.
هناك ملامح انشقاق واضح بين العراقيين وحزب الله بعد فضيحة التفاوض مع الدواعش ونقلهم إلى العراق. لم يكن ممكنا لهذه الحقائق أن تكون مكشوفة لولا إبعاد قطر من قبل الدول العربية، فالدوحة كانت الطرف الرئيسي الذي يقوم بالوساطات ويشوّش الصورة القبيحة لتحالف إيران وعملائها مع الإرهابيين لتدمير العرب وسحق مدنهم.
يوسف العتيبة، سفير الإمارات العربية المتحدة في واشنطن، قال “الأمر ليس عزلا أو تهميشا لقطر بل هو لحماية أنفسنا منها”. دون اللاعب القطري تبدو إيران أضعف بكثير وكذلك الإرهاب وتحركاتهما مفضوحة. إن استبعاد قطر بهذا الشكل أربك جميع اللاعبين المعادين للسلام وأصبح العراق يضع ثقته أكثر بالعرب وبالسيد مقتدى الصدر وفضح خبث حسن نصرالله وعملاء طهران.