بدأت معركة فرض «منطقة خفض التوتر» الرابعة في إدلب وريفها. كانت مقررة منتصف الشهر الماضي، لكنها تأخرت لأسباب كثيرة. تقررت ساعة الصفر في قمة الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان. وأعقبتها لقاءات بين وفد رسمي من دمشق مع مسؤولين أتراك برعاية السفارة الروسية في أنقرة. لم يعد بمقدور موسكو إهدار مزيد من الوقت. منيت قواتها في الأسابيع الأخيرة بخسائر لم تكن تتوقعها. وهي تخشى مزيداً من الانزلاق العسكري البري. لذلك ستقدم الدعم الجوي إلى فصائل «الجيش الحر» في مقابل دعم بري تقدمه تركيا لإنهاء سيطرة «هيئة تحرير الشام» على شمال غربي سورية. أي إنهاء سيطرة «جبهة النصرة» أكبر تنظيم في الهيئة. بعد ترسيخ «المناطق الأربع» تدخل الأزمة في بلاد الشام مرحلة جديدة عنوانها البحث عن تسوية سياسية انتقالية تتويجاً لوقف الحرب، بانتظار حل سياسي دائم.
لا جدال في أن موسكو رسّخت أقدام النظام في دمشق. لكنها بعد عامين على تدخلها العسكري انتزعت ورقة التصرّف في سورية. ولم يكن أمام جميع اللاعبين سوى الإقرار بهذا الواقع. وهكذا نجحت في فرض رؤيتها إلى التسوية. فرضت مفهومها للفصائل الإرهابية وتلك المعتدلة. وبعدما كانت تركز على ضرب مجاميع المقاتلين بلا تمييز في بداية انخراطها ميدانياً، اعترفت بـ «الجيش الحر» وفصائل أخرى «معتدلة». وكانت هذه طرفاً في اتفاقات إقامة المناطق الآمنة التي تقررت في آستانة. وانصرفت أخيراً إلى حرب «داعش» و «النصرة». لكنها لن تصل بعد إلى خاتمة تقيها التورط الميداني، بعد الجوي. أفلحت سياسياً في فرض نفسها حكماً في الاصطفافات المتناقضة في الأزمة السورية. عززت تحالفها مع إيران. واستمالت تركيا التي تحولت ورقة المعارضة بيدها «إشكالية». وتعمل على إعادة ما انقطع بينها وبين النظام في دمشق. وراع الرئيس بوتين في قمم متتالية بينه وبين الملك عبدالله الثاني هواجس الأردن. فعمان لم تشأ منذ اندلاع النار في بلاد الشام التورط المباشر. قدمت إلى الأميركيين وقوى محسوبة على «أصدقاء الشعب السوري» تسهيلات لتدريب فصائل معتدلة ساهمت في إبعاد المتطرفين والمتشددين عن حدودها. وهي تحاول اليوم مع سعيها إلى إعادة الحرارة إلى علاقاتها مع دمشق، إيجاد صيغة لتسليمها معبر نصيب الحيوي. مع علمها أن إقامة المنطقة الآمنة في جنوب سورية أنشئت بالاعتراف «الدولي» بالفصائل المقيمة في منطقة الحدود. وبالتالي لا يمكن تجاهلها وكفّ يدها عن هذا المعبر.
أما الدولة العبرية فواظبت على استهداف ما تسميه شحنات أسلحة من إيران إلى «حزب الله»، أو مواقع لتخزين أو صناعة صواريخ للحزب. ولم تعترض القيادة الروسية. أبدت استياءها لكن الخط المفتوح بين قوات البلدين من بدايات التدخل الروسي ظل مفتوحاً! مثلما ظل مفتوحاً باب اللقاءات بين المسؤولين الروس والإسرائيليين على أعلى المستويات. ولم تقف الديبلوماسية الروسية عند حدود دول الطوق السوري. دفعت مصر إلى أداء دور في التفاهم على بعض «مناطق خفض التوتر». وعولت ولا تزال تعول على دور المملكة العربية السعودية، خصوصاً بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الملك سلمان بن عبد العزيز لموسكو، في العمل على توحيد أطياف المعارضة لتكون جاهزة لجولة جديدة من المفاوضات في جنيف بعد أسابيع. أفادت من توجه القيادة السعودية خصوصاً نحو توسيع رقعة علاقاتها الإستراتيجية، نحو الشرق، من الصين إلى اليابان والدول الإسلامية الكبرى في آسيا، بعد النتائج الكارثية التي خلفتها سياسات الرئيس باراك أوباما في المنطقة العربية. وهكذا ضمنت إلى حين مروحة واسعة من التفاهمات التي أتاحت لها التحكم بورقة سورية.
لكن تحويل موسكو بلاد شام منطلقاً أو قاعدة نحو «الشرق الأوسط الكبير» دونه عقبات ومحطات صعبة. أولها السياسة الجديدة التي سيعلنها الرئيس دونالد ترامب بعد أيام، خصوصاً حيال إيران. فقد كرر اتهامها بعدم «احترام روحية» الاتفاق النووي، وبـ «دعم الإرهاب وتصدير العنف والدم والفوضى في الشرق الأوسط». وأكد وجوب «وضع حد لعدوانها المستمر». وأشار بعد عشاء مع جنرالاته إلى «هدوء يسبق العاصفة». ولا تزال واشنطن تصر على وجوب إقفال الحدود بين سورية والعراق، انطلاقاً من «المنطقة الجنوبية» وقاعدة التنف، إلى المناطق التي يسيطر عليها الكرد في الشمال الشرقي. وتسعى كل من موسكو وواشنطن إلى خفض منسوب التوتر بينهما انطلاقاً من الصراع الذي قد ينفجر بعد الانتهاء من تحرير الرقة ودير الزور من «داعش».
من العقبات أمام موسكو قضية إعادة الإعمار، إذ لا يمكن ترسيخ الهدوء في بلد دمرت الحرب حواضره وقراه وأريافه وشردت أهلها في الداخل والخارج. وقد بدأت قضية اللاجئين تطرح بشدة في كل من الأردن ولبنان. ومنذ بدأ الحديث عن مشاريع الإعمار وكلفتها التي تربو على 300 بليون دولار، راح النظام يلوح بأنه لن يسمح لـ «أصدقاء الشعب السوري» من الدول الغربية والعربية بالمساهمة في هذه الورشة الكبيرة. بل سيدعو «أصدقاءه» إلى تولي هذه المهمة! والواقع أن الصناديق الدولية وكل الدول المعنية تحجم حتى الآن عن التحرك. بل لا تضع في برامجها سورية. حتى «أصدقاء» النظام من الصين وغيرها. كأن إعادة الحياة إلى هذه المدن والقرى المدمرة مؤجلة. ويخشى أن تنضم إلى لاحقة «المدن المنسية» وقراها التي يبلغ تعدادها نحو 800. هذه «المدن الميتة» التي ازدهرت في القرون المسيحية الأولى، في أرياف حماة وإدلب وحلب، باتت اليوم من أهم المعالم السياحية في العالم. هجرها أهلها ودمر معظمها. ويعزو المؤرخون والباحثون الأسباب إلى جملة من العوامل. أهمها الغزوات الفارسية في القرنين السادس والسابع والزلالزل والأوبئة وغزو الأمويين القسطنطينية من البحر وانقطاع تجارة هذه المدن مع أوروبا. ثم جاء الصليبيون الذين حولوا مبانيها وكنائسها قلاعاً. كلها عوامل ساهمت في «نسيان» هذه المعالم التاريخية.
نجح الرئيس بوتين في الإمساك بالورقة السورية حتى الآن. لكن المهمة لن تكتمل بقيام «مناطق التهدئة». لن يستطيع تحريك ورشة الإعمار قبل البحث في مستقبل رأس النظام في دمشق، ومستقبل الوجود الإيراني في سورية. لقد ارتضى خصوم النظام بقاء الرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية. فضلوا مواجهة التنظيمات الإرهابية بعد استفحال فظائعها في الشرق والغرب. لكن أحداً من هؤلاء لن يكون مستعداً لفتح خزائنه وتمويل الإعمار والمساهمة في «تأبيد» بقاء النظام. كما أن السعودية وشريكاتها لن تستكين لنفوذ الجمهورية الإسلامية في المشرق العربي. ولا شك في أن نتائج زيارة الملك سلمان التاريخية موسكو وما أثمرت من اتفاقات وعقود في حقول شتى تنبىء بأن روسيا حريصة على علاقاتها بالعالم العربي، والمملكة خصوصاً لدورها المحوري والريادي في الإقليم كله. وثمة من يرى أنها قد تجد نفسها في نهاية المطاف مرغمة على تغليب خيار العالم العربي على إيران. بل لا بديل من تقليص نفوذ هذه والبحث في مستقبل الرئيس السوري، إذا كان على موسكو أن ترعى تسوية سياسية نهائية تسهّل عليها التفرغ لترسيخ نفوذها ودورها في المشرق العربي.
قسّمت روسيا حتى الآن سورية مناطق نفوذ للاعبين الرئيسيين في هذا البلد. مثلما قسّمتها مناطق بين النظام وخصومه. صحيح أن الرئيس الأسد ضمن بقاءه بعد النجاحات التي تحققت بدعم من حلفائه. ولا معنى للقول إنه استعاد السيطرة على البلاد. فالكرد عملياً يبنون بمساعدة الأميركيين حكمهم الذاتي في إطار فيديرالي. و «مناطق خفض التوتر» الأربع تتمتع باعتراف شبه دولي. أي أن ثمة اعترافاً بالفصائل التي ترعى الهدوء فيها والتي ستقيم إدارتها المدنية الخاصة بكل منطقة. ولعل هذه الخريطة ترجمة ميدانية لما نصّ عليه مشروع الدستور الذي اقترحته الديبلوماسية الروسية العام الماضي، وأثار حفيظة جميع الأطراف السوريين. لكن استعادة بعض ما تضمنه المشروع يؤشر إلى ما يمكن أن تذهب إليه موسكو بعد المرحلة الانتقالية. أدخل المشروع تعديلات جوهرية على الدستور الحالي: يسلب الرئيس جزءاً كبيراً من صلاحياته، لم تعد له سلطة اشتراعية. ويحرمه من حق تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا وحاكم المصرف المركزي. ويجعل ولايته سبع سنوات تجدّد مرة واحدة فقط. ويمنح جمعيات المناطق (الإدارات المحلية) ومجلس الوزراء سلطات واسعة. أي أنه ينص على «لا مركزية السلطات». ويوزع مناصب وزارية على كل الكيانات مع حفظ مواقع للأقليات. ويضع القوات العسكرية تحت رقابة المجتمع ولا يحق لها التدخل في السياسة أو أداء دور في عملية انتقال السلطة... خلاصة القول إن المشروع يشكل قطعاً كبيراً مع الدستور القائم. يغير شكل النظام كلياً.
المرحلة الجديدة بعد إدلب ستفرض على الرئيس بوتين إعادة النظر في حساباته. لن يكون بمقدوره إدارة سياسات متصارعين متخاصمين على سورية وترسيخ مشروعه في سورية. لا بد من صرف أثمان وتقديم تنازلات وسلوك خيارات مؤلمة على طريق التسوية النهائية المعقولة. فهل يقدم ويجازف؟ وهل يملك النظام وحليفه الإيراني قدرة الوقوف بوجه رغبة موسكو إذا اندفعت نحو فرض مسودة «دستورها» الجاهز؟ وهل يلبي هذا بعض طموحات المعارضة والشعب عموماً ويرضي الداعين إلى رحيل الأسد بعد المرحلة الانتقالية وتقليص نفوذ طهران؟
في أواخر الثلاثينات، وتحديداً بعد آذار (مارس) ١٩٣٨، شق قطار طريقه من ألمانيا والنمسا، باتجاه منافي الأرض كلها. قطار توالت رحلاته، وتزايدت فيه أعداد الفارين، الذين سيغدون لاجئين في شتى بقاع الأرض. ألمان يفرون من ألمانيا، ونمساويون يهربون من النمسا، وبولنديون من بولندا.
وكان من جملة هؤلاء أديب ألمانيا العظيم الألماني الكاثوليكي توماس مان، وأديب اللغة الألمانية الأبرز اليهودي النمساوي شتيفان تسفايغ الذي كتب: «ولما اجتاز القطار حدود النمسا عرفتُ، كما عرف لوط، في الكتاب المقدس، أن ما خلفته ورائي كان غباراً ورماداً ماضياً تحوّل إلى عمود من الملح».
وسيحدثنا كيف أنه بعد مغادرته بفترة وجيزة لن يُصدم، ولن يتفجع عندما سيبلغه خبر وفاة أمه، بل على العكس سيشعر بما يشبه السكينة، لأنها أصبحت في مأمن من المعاناة والخطر. ففي سنها المتقدمة (الرابعة والثمانين) كانت مضطربة السير، معتادة في تمشّيها اليومي المجهد أن ترتاح على مقعد في الشارع، أو في الحديقة كل بضع دقائق، غير أن النازيين أصدروا في فيينا قانوناً يمنع اليهود من الجلوس على المقاعد العامة، «ومن حسن الحظ أن أمي جُنّبت معاناة هذه القسوة والهوان إلى الأبد».
لقد وثّق لنا الأرشيف السينمائي، والنصوص الأدبية، والمذكرات والشهادات عن تلك الفترة حال ركّاب هذا القطار ومآلهم، وسبب ركوبهم إياه. ولن أجد أفضل من تسفايغ نفسه يقصّ علينا خبر هؤلاء الفارين، ويسرد لنا دواعي رحلتهم وبواعثها:
«أُرغم أساتذة الجامعات على تنظيف الشوارع بأيديهم العارية، وجُرّ متدينون يهود بيض اللحى إلى المعبد وسط صيحات الاستهزاء، وأجبروا على ممارسة تمارين الركبة، وعلا الهتاف معاً: «سلاماً هتلر». وفي الشوارع أُوقع الناس الأبرياء في الأشراك مثل الأرانب، وسيقوا كالقطيع لتنظيف مراحيض ثكنات وحدات العاصفة».
وهكذا بدأ الناس الأكثر رهافة باستشعار الخطر، وبحس تقدير الموقف بالهروب والفرار:
«كانت كل مجموعة تبدو تعيسة ومذعورة أكثر من سابقتها، فالمجموعات الأولى التي أسرعت في مغادرة ألمانيا والنمسا أفلحت في إنقاذ الملابس والأمتعة وأثاث المنزل، بل إن بعضها كان معه بعض المال، وأما الذين وضعوا ثقتهم في ألمانيا، وصعب عليهم انتزاع أنفسهم من وطنهم الحبيب، فقد عوقبوا أشد العقاب.
جُرّد اليهود أولاً من وظائفهم، ومنعوا من ارتياد المسارح ودور السينما والمتاحف، وحُرم الأساتذة من استعمال المكاتب، ومع ذلك لم يغادروا البلد إما إخلاصاً أو تراخياً، وإما جبناً أو كبرياء. لقد آثروا الذل في الوطن على ذل التسوّل خارجه، ومنعوا من استخدام أحد، وأخذت أجهزة الراديو والهواتف من منازلهم، ثم أخذت المنازل ذاتها، وفرضت عليهم نجمة داود علامة يعرفون بها، وجرى تجنبهم والهزء منهم كالمجذومين، ثم طُردوا وجُرّدوا من حقوقهم القانونية. لقد سحبت منهم الحقوق كلها، ومورست عليهم كل أنواع القسوة الروحية والجسدية بكل سادية عابثة (...) ومن لم يغادر ألقي به في معسكر اعتقال حيث كان الضابط الألماني يسحق حتى أشد الناس إباء، ثم كان يُدفع إلى الحدود بعد سلبه كل شيء سوى حقيبة ظهره، وعشرة ماركات في جيبه».
على أن هذه الحالة المفجعة ستشهد انحداراً مهولاً، في تسارع زمني ساحق، وسيغدو قطار الرحيل قطار ترحيل، ترحيل كائنات تشبه البشر، شاحبة السحنات، متسخة الوجوه، غائرة العيون، زائغة النظرات، مشقّقة الشفاه، مذعورة مقهورة، حائرة خائرة، تساق في أرتال، وهي بكامل الاستسلام والإحباط، كقطيع من البقر المهزول، إلى العربات... «.
وسينعم القدر على تسفايغ، كما أنعم على أمه، بألا يشهد هذا التحوّل الرهيب، وسيكتب التاريخ أن الأديب الأصدق والأروع بين أدباء عصره لم يحتمل العيش شريداً في المنافي، فانتحر هو وزوجته إليزابيث شارلوت تسفايغ في مدينة تبروبوليس البرازيلية في 23 شباط (فبراير) 1942.
أما الحزب النازي فكان في تلك الآونة يظن أنه يعيش لحظة من أهم لحظات الفكرة والتنفيذ، والخيار والقرار. لحظة إحلال «التجانس» الخالص الصافي بين أفراد المجتمع الألماني الطاهر، ذي الأرومة النقية المصفّاة تكويناً وتلويناً من بين كل الشعوب، وكرمى عيون هذا «التجانس» كان لا بدّ لـ «شعب الأرض المصطفى» أن يبيد «شعب الله المختار».
ولكن! هل كان المواطن الألماني في فترة «قطار هتلر»، يدرك، ولو تخيلاً، أنّ هذا القطار سيغدو قطاراً يحتضن المترقّب الخائف، المختلف ديناً وعرقاً ولساناً وهوية، القادم من خارج أوروبا إلى قلب ألمانيا، فيكون قطار أمل وبشرى؟
هذا ما حدث حين أوعزت المستشارة الألمانية مركل في 2015 لكل الدول المحيطة بألمانيا أن تسخّر قطاراتها في خدمة جموع هؤلاء الفارين من أتون بلدانهم، كما فرّ يهود ألمانيا في لحظة غفلة من الضمير الألماني، وفي لحظة عمى أخلاقي مطبِق.
ورصدت الكاميرات مرة أخرى ذلك القطار المكتظ بالأطفال والنساء والشيوخ والشباب القادمين من سورية، والطافح بالقادمين باسمهم من بقية الدول المحيطة بها.
كان هؤلاء الفارين منهكين، ملابسهم رثة، ملطخة، مبقّعة، أحذيتهم مثقّبة مشلّعة، وكان معظمهم يعرجون بأقدامهم الملتهبة المتقيحة، وكانت معظم الوجوه قد لفحتها الشمس وضربتها الرياح فغدت مسمرّة تعلوها غبرة وقترة، ولكن العيون فقط كانت ترسل بريقاً يشع أملاً، وإشعاعاً يلمع رجاء.
لقد فرّ هذا السوري للأسباب نفسها التي فر من أجلها الألماني قبلاً. فالنظام الأسدي البعثي لم يجد من بين كل القمصان أليق به من القميص النازي فتقمصه، ولا أجدر منه نسخة فتناسخ، بل تفاسخ، بل تواسخ من خلاله.
كلاهما مبني على حزب قومي اشتراكي. كلاهما يسعى إلى فرض «التجانس». كلاهما يملك محرقة. كلاهما مؤسس على عبادة الزعيم وتأليهه.
أما أتباع هتلر فكانوا يردّدون بالحرف الواحد: «هتلر أعظم من المسيح».
وأما أتباع حافظ فكانوا يدبكون وينشدون: «حيّدوا نحن البعثية حيّدوا/ حافظ أسد قبل ألله منعبدو». وأما أتباع الابن بشار فكانت حمائمهم تهدل: «الله... سورية... بشار وبس»، فيما كانت هراوات صقورهم تتكسر على أجساد ضحاياهم، وهم يزعقون بكل غضب الدنيا والآخرة: «مين ربك ولاك؟»، وكان يفترض بالضحية التي تعالج سكرات الموت أن تنطق شهادتها الأخيرة قبل أن تغادر الحياة: «بشار ربي، ولا أشرك به أحداً».
ومثلما فرّ المضطهدون الألمان من أمام غول النازية، فرّ المضطهدون السوريون من أمام ضبع الأسدية البعثية. ركبوا البحر، ولم يخشوا من الغرق، فما عاد أمامهم من خيار سوى الفرار، واستوى لديهم في شكل مطلق اليأس والأمل، الموت والحياة.
ركبوا البحر وهم موقنون أن فرصة النجاة والحياة لا تزيد عن فرصة الغرق والموت شروى نقير، ومع هذا رأوها قسمة عادلة، مقارنة ببقائهم تحت رحمة نظام لا يعرف الرحمة.
وإذا كان هتلر هو الرجل الذي أحدث في العالم من الشر ما لم يحدثه رجل آخر عبر العصور السابقة، فإن بشار الأسد هو الذي أحدث في سورية من الشر ما لم يحدثه رجل آخر عبر العصور السابقة واللاحقة.
وكما أن أوروبا راحت ضحية شهوة رجل فرد للسلطة، فإن سورية راحت ضحية شهوة رجل واحد للسلطة، وضحية شهوة أفراد عائلته لكل ما يتفرّع عن هذه السلطة بلا استثناء مهما بدا تافهاً أو حقيراً.
لقد كان الضمير الألماني في ذروة درجات صحوه، وكانت عينه الأخلاقية في أوج تفتحها وإبصارها يوم قدّرت أن هذا اللاجئ السوري الهارب من بطش نظامه هو صنو اللاجئ الألماني، وأنه لا يمحو عار ذلك القطار السابق الذي كان تابوتاً وقبراً، إلا قطار لاحق يغدو رحم حياة، وبوابة أمل ورجاء لفاقدي الأمل والرجاء. قطار عناق بين الشعوب، وتعارف وتعاضد ومواساة.
وهذا ما حصل. فعلى طول طريقه ومحطاته بين الدول والبلدان والبلدات كانت الجموع البشرية من المسعفين والمتطوعين في المنظمات الإنسانية والخيرية إضافة إلى عموم أفراد الشعب الأوروبيين ينثرون التحيات، والابتسامات، والعناق، والاحتضان، وعبوات المياه، ووجبات الطعام، والفواكه، والحلوى، والملابس، والأحذية، ولعب الأطفال، وكانت فرحة هؤلاء الأوروبيين تضاهي فرحة الأسرة بمولود قادم جديد! وكأن لسان حالهم يقول: لئن كانت الإنسانية تحشرج في مكان فإنها تتبرعم وتزدهر في مكان آخر.
لقد شهدت البشرية في زمنين متقاربين قطارين: قطار التياع، وقطار ارتياح. قطار هتلر، وقطار مركل، وعسى أن يمحو القطار الثاني عار الأول.
بأي مقياس، لا يعتبر يوم الأربعاء الفائت يوماً عادياً في وزارة الخارجية الأميركية، أن يظهر وزير الخارجية ريكس تيلرسون في إيجاز صحافي لتأكيد أنه وزير بالفعل، من دون أن ينفي وصفه الرئيسَ دونالد ترامب بـ «المغفل»، مخرباً بدل أن يصلح العلاقة المسمومة بين الرجلين.
إيجاز تيلرسون جاء رداً على تقرير لشبكة «أن. بي. سي» أن الوزير اقترب من الاستقالة في نهاية الصيف الفائت، وأنه وصف ترامب بـ ”المغفل” خلال اجتماع في وزارة الدفاع (البنتاغون) في ٢٠ تموز (يوليو) الفائت. تيلرسون أراد تهدئة العاصفة في مؤتمره، إنما لم ينجح وبفعل ارتباكه وعدم نفيه بأنه استخدم العبارة المهينة لترامب، أطلق أزمة جديدة مع البيت الأبيض.
ترامب الذي لم يعلم بمؤتمر تيلرسون وكان في جولة في لاس فيغاس بعد المجزرة الدموية، استشاط غضباً لدى عودته إلى واشنطن ولسببين. الأول أن إيجاز تيلرسون هيمن، بدل جولة الرئيس، على التغطية الإعلامية، وثانياً بسبب هفوة الوزير وعدم نفيه صراحة أنه وصف الرئيس بـ «المغفل». وعلى الرغم من تغريدات ترامب بوضع ثقته «الكاملة» في تيلرسون، فالتسريبات حول الأسماء المحتملة لخلافته بدأت في الإعلام الأميركي وتتمحور حول شخصيتين هما: سفيرة الأمم المتحدة نيكي هايلي ومدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي.آي.أي) مايك بومبيو.
إقالة تيلرسون وهي مرجحة اليوم ولو انتظرت أول العام لحفظ ماء الوجه وعدم إثارة خضة كبيرة في الإدارة، ليست فقط بسبب غياب التجانس بين ترامب والوزير، بل مصدرها خلافات جذرية في الرؤية الخارجية وبتشعب من ملفات شرق أوسطية إلى كوريا الشمالية إلى المكسيك. فتيلرسون مثلاً عارض بشدة فكرة عدم المصادقة على الاتفاق النووي الإيراني في تموز (يوليو) الفائت، وهو اضطر الآن إلى تعديل موقفه مع حسم ترامب قراره بعدم المصادقة هذا الأسبوع. كما تضارب الرجلان في قضية الخلاف مع قطر، وإصدار بيانات مختلفة بين البيت الأبيض والخارجية قوضت الدور الأميركي وأفشلت الوساطة الديبلوماسية. وفي كوريا الشمالية، اختار ترامب أن يذل وزير خارجيته علناً الأسبوع الماضي بتأكيد أن أي محادثة لن تجدي نفعاً بعد ساعات من إعلان تيلرسون أن هناك قناة ديبلوماسية مفتوحة مع بيونغيانع.
الخلافات بين ترامب وتيلرسون تشمل أيضاً انسحاب ترامب من اتفاق باريس للمناخ، مواقف الرئيس حول التجارة الحرة والتبادل التجاري مع المكسيك، والعلاقة مع مصر حيث كان للوزير الدور الأساسي في قطع جزء من المساعدات الشهر الفائت وبسبب قضايا حقوق الإنسان وإغلاق منظمات غير حكومية.
كل هذه الخلافات كان يمكن أن تكون ضمن النطاق المعتاد والتقليدي بين البيت الأبيض والخارجية كما كانت بين باراك أوباما وهيلاري كلينتون أو جورج بوش وكولن باول قبلاً. إلا أن إضافتها لأداء تيلرسون الميؤوس منه في الوزارة إدارياً ولوجيستياً بات يستعجل اليوم خروجه. فحتى الساعة تبقى مقاعد مساعد الشرق الأدنى ونائبي الوزير وسفارات حيوية فارغة. ديفيد ساترفيلد تمّ تعيينه في شكل موقت، ومايكل راتني يتولى اليوم حقائب سورية والعراق و«داعش» وعملية السلام ولبنان بسبب الفراغ الحاصل. أما الديبلوماسية الأميركية الفذة فهي غائبة في المنطقة وتيلرسون بعد جولته اليتيمة في الخليج، يفضل مزاولة مكتبه والتركيز على ملف واحد في آن فيما يتولى صهر الرئيس جاريد كوشنير ووزير الدفاع جايمس ماتيس الملفات الأخرى.
تسريب اسم بومبيو للمنصب يعكس جدية كبيرة لدى ترامب في استبدال تيلرسون. فمدير الـ «سي.آي.أي» مقرب من نائب الرئيس مايك بنس ومن النخبة الدفاعية وله خبرة طويلة تسهل المصادقة على تعيينه في الكونغرس. والأهم أن علاقته جيدة بترامب، وأقرب إلى وجهة نظر الرئيس الأميركي حول إيران وسورية والحرب ضد «داعش». أما تيلرسون، فالسؤال حول استقالته بات في خانة متى وليس هل، بعد تسعة أشهر من التهميش والفراغ في أروقة الديبلوماسية الأميركية.
فرضت الدول الثلاث التي تحتل سورية، مع اختلاف في طبيعة هذا الاحتلال وحجمه، لغاتِها التركية والفارسية والروسية على المواطنين السوريين في الأماكن الخاضعة لسيطرتها. وبذلك صار على الأطفال في هذا البلد العربي المنكوب، أن يتعلموا لغة أجنبية مفروضة عليهم، على حساب لغتهم العربية. وقد يُرغم هؤلاء الأطفال على تعلم لغتين على الأقل من اللغات الثلاث التي باتت اليوم هي السائدة في المناطق الخاضعة للهيمنة الشاملة من طرف الدول الثلاث. والمسألة إلى هنا ليست تقديم خدمات تربوية لقطاع واسع من الشعب السوري حرم من فرص التربية والتعليم، التي من المفترض أن تتيحها له حكومة بلاده، لو أنها كانت حرة، وليست تابعة للنفوذ الأجنبي، خصوصاً النفوذ الروسي والإيراني، ولكنها مسألة استقلال مغصوب ووطن منهوب، وتمهيد لفرض الهيمنة الأجنبية بالكامل على سورية لأطول فترة ممكنة.
حتى الاستعمار الفرنسي الذي فرض على سورية عقب الحرب العالمية الأولى، تحت مسمى الانتداب، لم يفلح في إلغاء اللغة العربية، وفي فرض اللغة الفرنسية بدلاً منها بالإكراه. وكانت قبله الدولة العثمانية تبسط نفوذها على الشام والعراق، مع استمرار اللغة العربية في النماء والانتشار بين الشعوب العربية في تلك المناطق أو «الولايات العربية»، كما كان يطلق عليها، على رغم مزاحمة اللغة التركية لها، فاحتفظت بأصالتها في حدود الإمكان، وظلت لغة الثقافة والفكر والأدب والشعر، وإنْ في حدود ضيقة، وتدرَّس بها العلوم الدينية، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأ تدريس العلوم العصرية بها. ولعل مكتب عنبر، وهو المؤسسة التعليمية الرائدة والشهيرة في دمشق، خير مثال للحفاظ على اللغة العربية في سورية. ففي هذه المؤسسة درس وتخرج شخصيات كان لها حضور مؤثر في تاريخ سورية وقامت بأدوار متميزة في النهضة العلمية والثقافية.
إن إجبار الأطفال السوريين على تعلم اللغات التركية والفارسية والروسية فوق ترابهم الوطني، مع الضعف الملحوظ في تعليمهم اللغة العربية، هو بكل المقاييس، استلاب ثقافي كامل الأركان، وانتهاك صارخ لحق أصيل من حقوق الإنسان، بقدر ما هو إيذان بأن الوجود الأجنبي فوق الأراضي السورية، ليس له من نهاية في المديين المتوسط والطويل. الأمر الذي يؤكد أن الأزمة السورية لن تعرف انفراجاً، حتى وإن زعمت روسيا أنها في سبيلها إلى إيجاد «تسوية سياسية» لها. فما تلك التسوية السياسية المزعومة سوى شكل مبتكر من ترسيخ الوجود الروسي في سورية. ويقابل هذا الخطرَ الذي يهدد شخصية الفرد والمجتمع في سورية، عمليةُ التوطين التي تقوم على قدم وساق من طرف إيران، بإحلال جماعات أفغانية وباكستانية وأخرى إيرانية محل المواطنين السوريين الذين اقتلعوا من مواطنهم وأرغموا على النزوح إلى مناطق أخرى، خصوصاً إدلب التي باتت اليوم مستودعاً للنازحين من مدنهم وقراهم، وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من الانفجار المفضي إلى الدمار، لتتكرر مأساة حلب التي دمرت بالكامل، بإخراج جديد.
إن إفراغ سورية من شعبها وإخضاع مَن تبقى منه لعملية تشويه لهويته، إلى جانب إهدار كرامته، هما الخطر الحقيقي المحدق بهذا الشعب العربي الذي حمل لواء الحضارة العربية الإسلامية عقوداً متطاولة من الزمن، وكان أعلامُه الروادُ من أبرز البناة للنهضة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين. ويتحمل النظام الطائفي الاستبدادي، المسؤولية الرئيسَة في تدمير سورية وإفراغ شخصيتها من مضمونها الحضاري العربي الإسلامي، إلى جانب المسؤولية التي تتحملها روسيا الاتحادية وإيران، في هذه المأساة الإنسانية التي لا يعرف العالم اليوم شبيهاً لها. أما تركيا، فهي وإن كانت تعلن عن انحيازها إلى انتفاضة الشعب السوري، إلا أنها انخرطت في تفاهمات غير واضحة مع روسيا يخشى أن تكون في الاتجاه المعاكس لإرادة الشعب السوري، وإن كان يقدّر لها أنها تأوي فوق أراضيها نحواً من ثلاثة ملايين من اللاجئين السوريين.
فإذا كان الاحتلال اللغوي يوازي، من وجوه كثيرة، الاحتلال العسكري، فإنه بطبيعته يساهم في تعزيز هذا الاحتلال، وفي إطالة أمده، حتى يصبح أمراً واقعياً.
الأدهى من هذا كله، أن جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، واليونيسكو، بل مجلس الأمن الدولي، في منأى مما يجري اليوم على الأراضي السورية من جرائم ضد الإنسانية.
قالت لي سلاف وهي صديقة سورية نازحة من ريف دير الزور إلى مدينة عينتاب التركية، هرباً من «داعش»، أنها شعرت بمرارة مضاعفة حين استعاد النظام قريتها من «داعش»، ذاك أن «داعش»، بحسبها، عارض طارئ لن يقوى على البقاء، فيما عودة النظام إلى القرية ستكون امتداداً لخمسين عاماً حكم فيها سورية، ومنها مضارب عشيرة الصديقة السورية.
والحال أن شعور سلاف ظاهرة تستحق التوقف عندها، فهي هربت من «داعش» إلى تركيا، على رغم أنها منقبة، وإذ تشعر بأن عودة النظام إلى القرية سيُمثل استعصاء جديداً قد يمتد عقوداً، فإن «داعش» يحكم من غير منظومة السلطة المستدامة. وشعورها هذا ينطوي على حقيقة يهرب منها الجميع، وتتمثل في أن هذا «الشيطان الرجيم» المدعوّ «داعش»، تُخاطب سلطته البشعة شيئاً من بشاعتـ«نا»، فيما بشاعة سلطة النظام السوري بشاعة احتلالية لا عمق نفسياً واجتماعياً محلياً لها.
التعامل مع «داعش» بصفته شيطاناً غريباً سقط علينا من السماء، فيه هرب من حقيقة لا يجدي الهرب منها. «داعش» شيطان في حديقة شياطين أهلية. فهم هذه الحقيقة يساعد على تجاوزه. والقول أننا حررنا الناس من «داعش» حين حررنا المدن منه، ينطوي على حقيقة وعلى هرب من الحقيقة في آن واحد، ذاك أن التنظيم حين تلبس المدن واحتل القرى والبوادي مثل لحظة استجابة لنداء أهلي، ولا يُعرف عن الأهل في لحظات الاحتقان غير الغريزة يواجهون مصائبهم بها.
اليوم يجرى أيضاً صقل جديد للغرائز. اليوم يشعر «داعش» بأن هزائمه في المدن ليست سوى محطة لولادات جديدة له. هذا الهرب إلى الأمام، في ظل منتصر أهلي يُعلي انتصاره فوق رؤوس مهزومين أهليين، هو تماماً ما يجعلنا نشيح بأسماعنا عما قالته الصديقة السورية، الهاربة من «داعش» إلى تركيا، والتي تشعر بمرارة «تحرير النظام قريتها» من التنظيم المسخي.
الأمر شديد التعقيد ولا تستوعبه عقول انتصارية. «داعش» قتل ألفين من عشيرة العجيلات في ريف دير الزور. النصر عليه لم يمثل انتصاراً للعشيرة، إذ الأخيرة تنتظر أن تنتقم لنفسها على نحو مختلف. القتل الذي مارسه التنظيم هناك يتطلب محوه ضغينة مختلفة، والانتقام لا يتولاه الأغيار.
سلاف قالت أيضاً أن أقارب لها قتلوا أثناء معارك بين «داعش» والجيش الحر. بعضهم كان يقاتل مع التنظيم، وآخرون مع فصائل المعارضة. لم يُقتل أحد من أقاربها أثناء قتاله إلى جانب النظام، فالأخير صار في السنوات الأخيرة قوة من خارج بنية الجماعة الأهلية. «داعش» تنظيم بشع ونكل بالسكان، لكنه استدرج شباناً وشيوخ عشائر وأدمجهم في غريزته وفي خرافاته وعنفه. ابن شقيق صديقتنا كان عنصراً في التنظيم، وهنا ثمة قابلية لمغفرة، ذاك أنها تروي عن عنفه بموازاة «طيبته»، وعن خطورة أفكاره التي تنكسر في لحظة عائلية حميمة. وكم تبدو صورته مختلفة عن صورة عنصر «داعش» الذي في مخيلتنا، ليس لأنه غير قاتل وغير مستجيب لنداء الدم، إنما لأنه يُشعرنا بأننا عرضة أيضاً لاحتمالات إصابته، وللحظات كنا فيها قريبين من مشاعره ومن صوره وقناعاته.
«النصر» المتوهم على التنظيم يقتضي استحضار «داعش» بصفته الغريبة هذه. أهل الموصل فرحون بالقضاء عليه، وهم فعلاً فرحون، لكن الاستنتاج يجب ألّا يذهب إلى خرافة أن التنظيم سقط على السكان من خارجهم. التنظيم مثل استجابة عنيفة للحظة ولد فيها ما يُمكن أن يلاقي «داعش» في منتصف الطريق. الاعتقاد بأن هذه القناعة هجاء للسكان، فيه هرب غير مجد من الحقيقة. فلكل جماعة «داعشها»، وصور الحشد الشعبي لا تبعد مسافة طويلة من تلك التي جاد علينا بها التنظيم الإرهابي. لا أحد بريء. الضحية كانت جلاداً قبل أيام، والجلاد عرضة لمصير الضحية بعد أيام.
«النظام» حرر القرية في ريف دير الزور من «داعش»! لن يُمثل ذلك سوى دوران لدولاب الموت. وأن ننصت لأنين الحائرين في اختيار قاتليهم، فذلك يضعنا أمام سؤال نور. قاتل عمره خمسون عاماً من القتل، وآخر جديد عليه وما زال في صدد تحصيل خبرات واجتراح صور ومشاهد يُباهي بها نظيره، وهو نجح في مباهاته.
لـ «داعش» صوره الكثيرة بيننا، وها نحن نحاول الهرب منها، والقول أنه طائر غريب. العالم كله يريده غريباً. المنتصرون عليه يريدون أن يقولوا أنهم انتصروا على احتلال، لا على أهلٍ وجماعةٍ وعشائر. ومن هزمهم التنظيم يهربون من حقيقة أن من هزمهم هم أولادهم وجيرانهم وعشائرهم. الجميع يواصل الهرب إلى الأمام. الأم التي أرسلت ابنها إلى الرقة نسيت أنها هي من فعل ذلك، وقالت أن شيطاناً لبسه فغادر من تلقائه، والمسجد الذي كان يصلي فيه قال إمامه أن القذيفة التي أصابت مئذنته لم تكن بوصلة ولا وجهة. ونور التي اصطحبتها حماتها إلى المطار لتغادر إلى تركيا ومنها إلى سورية لكي تلتحق بزوجها هناك، عادت حماتها ونفت أنها هي من فعل ذلك، وأخبرت والد نور أن ابنته هربت من المنزل من دون معرفتها.
الجميع بريء، على رغم أن الهزيمة مرتسمة على وجوه كثيرة، فيما النصر تحول شعيرة مذهبية تستدرج وافدين جدداً إلى المذهب والحزب والحشد. والحال أن المرء إذا ما تخيل اليوم أن «داعش» نفذ عملية انتحارية في ثكنة لجيش النظام السوري أو في حاجز للحشد الشعبي، وسأل نفسه عما إذا كانت هذه الفعلة تخاطب مشاعر أحد، فسيجد ملايين المغتبطين، وعلى رغم ذلك سيبقى «داعش» غريباً وستبقى فعلته في منأى من المشاعر المعلنة. فالفاجعة تقيم تماماً في موازاة النصر، والمأساة لم تستثن مدينة في حزام المنكوبين، والأبرياء أكثر الناس انزلاقاً نحو الرغبة في الانتقام.
ما أصعب أن تجد نفسك بين نصر النظام واندحار «داعش»! فأنت هنا تعيش على شفير موتين وفي صحرائهما. هذا تماماً ما حصل لصديقتنا المنقبة حين غادرت قريتها هرباً من منقبة أخرى جاءت من تونس إلى دير الزور. غادرت منقبتنا تاركة أقارب لها يقاتلون مع «داعش» وآخرين ضد «داعش»، تفصل بينهما بئر نفط شحيح، ونظام كيماوي وتنظيم مسخي.
جاهَرَ الإيرانيون منذ مدة بأنهم لا يريدون أن يكون عنوان المنطقة: المشرق العربي. وفي مناطق نفوذهم بالعراق وسوريا ولبنان، لا يتحدث أحد عن العرب إلا على سبيل التعيير والذمّ، لأنّ القومية شرٌّ أساساً، ولأن العرب استسلموا لأميركا وإسرائيل! لكنهم أيضاً لا يُحبّذون تعبير «الشرق الأوسط» الذي يستخدمه الغربيون، لأنه مشروع أميركي للمنطقة لا يجوز قبوله وأساسه تبرير إقامة الدولة الصهيونية على أرض فلسطين. لكن ما هي التسمية أو العنوان الذي يختارونه؟ هم لا يتحدثون عن ذلك عَلَناً، لكنهم لا يحبون أيضاً العنوان الإسلامي، مع أنهم «ثورة إسلامية»، وذلك لأن معظم سكّان المنطقة من العرب السّنّة، وإيران اليوم في نظامها دولة طائفية ومذهبية حتى في دستورها. وكلامهم الرسمي عن «المحور» الممتد من طهران إلى بيروت عبر العراق وسوريا. واعتماده في امتداده على الميليشيات الشيعية التي شكلتها وسلحتها طهران، وقد استجلبت بعضها من أفغانستان وباكستان والعراق خلال النزاع السوري. وهناك أحد تكتيكين في نشر الدعوة والسيطرة في المحور وعلى أطرافه: إما الاستيلاء بالقوة المسلّحة على السلطة مثلما يحدث في لبنان، أو التغلغل في أوصال البلاد كما يحدث في العراق وسوريا، وبخاصة في مناطق الكثافة السنية (الأنبار وديالى ونينوى بالعراق ودمشق وضواحيها وإلى القلمون وحمص والشمال والشرق، كما في سوريا). وخلال ذلك، ولأن يد إيران طليقة في البلدان الثلاثة، لا مانع من تعديل ديموغرافي بالوسيلتين معاً: التهجير والإحلال والاستيلاء على طريقة إسرائيل في فلسطين المحتلة، وفرض التشيع على السكان الفقراء الباقين في منازلهم وبلداتهم أو العائدين إليها.
سياسات إيران هذه تجاه البلاد العربية (حتى في البحرين والكويت واليمن)، سابقة على الاضطراب العربي خلال السنوات الست الماضية. لكنها تزايدت خلال الاضطراب، وذلك إمّا لإفشال التغيير الذي اعتبرته ضدّها كما في العراق وسوريا واليمن، وإمّا لفرض نظام سياسي آخر يكون عميلاً لها وداخلاً في المحور كما في حالتي اليمن وغزة. لكنها وهي تلعب وتقسّم وتشرذِم وتُمذْهِب، تتذاكى بوساطة «حزب الله» وسليماني إلى حدود المآل إلى عكس أهدافها الأصلية. وهذا ما حصل في كردستان العراق. فقد استقطبت حزب جلال الطالباني في السليمانية (الأقرب لحدودها)، وشجعّت الانقسام بينه وبين حزب مسعود البارزاني. وعندما هجم تنظيم «داعش» على منطقة البارزاني عام 2014، تغلبت عليه في الشهور الأولى اعتبارات التصارُع مع تركيا، لأنّها اعتبرت أنّ الأخيرة وراء «داعش». وامتد هذا التصارُع إلى سوريا، فوقفت مع الأكراد هناك، وسهّلت دخول مليشيا «حزب العمال» الذي يقاتل منذ ثلاثة عقود ضد تركيا بالداخل وفي الجوار العراقي والإيراني. لذا أيضاً سمحت لحزب العمال بإقامة قواعد في منطقة سنجار العراقية لوقوعها في موقع متوسط بين الحدود التركية والسورية.
كل ذلك جرى عليه اضطرابٌ كبير، عندما تقدم لديها كما لدى تركيا الخطر الكردي، وفي العراق كما في سوريا. حاولت تركيا منذ عام 2004 مدّ نفوذها إلى سوريا عبر النظام السوري. إنما مع بداية الاضطراب العربي، صار لديها تكتيكان بديلان: ركوب حركة «الإخوان المسلمين» الإرهابية في الدواخل العربية، ومنها سوريا ومصر والعراق وتونس وغزة، ومنع بروز الأكراد على حدودها ككيانات مستقلة في سوريا وفي العراق. وعلى هذا فقد أقامت علاقات متميزة مع البارزاني من جهة، وما انزعجت كثيراً لظهور «داعش»، لأنه هجم على المناطق الكردية في سوريا والعراق. واستمر الصراع أو التنافُس مع إيران لثلاث سنوات على خطوط التماس بين سوريا والعراق وتركيا والدائرة الكردية المبرقشة على خط تلعفر كركوك سنجار سوريا تركيا. وعلى هذه الدائرة وخطوطها وجد السنة العرب بعض الراحة لوقوعهم لسنوات في خضم الحرب الإيرانية العراقية الأسدية عليهم.
وما انجلى غبار المعارك بعد. لكنْ ظهر عاملان جديدان في منطقة الجزيرة الفراتية ومن حولها في العامين الآخرين: الولايات المتحدة وروسيا. فقد تدخلت الولايات المتحدة لصالح الأكراد وضد «داعش» في العراق وسوريا، وهمّشت مؤقتاً إيران وتركيا. وتدخلت روسيا لنُصرة النظام السوري، وتركت مكافحة الإرهاب للآخِر. وجعل ذلك كلاً من إيران وتركيا تقتربان من روسيا، حتى برز تحالُفٌ واضحٌ مع بداية عام 2017 ترعاه موسكو، وتريد تحويله لغير صالح الولايات المتحدة. لذلك حدث الالتقاء بين إيران وتركيا في نقطتين: ضد قيام كيانات كردية على حدودهما، واستخدام المظلة الروسية لمواجهة الخطط الأميركية في المنطقة.
ما انجلى المشهد عن أفق واضح، وهو يمر بمخاضٍ كبير بعد قُرب الإعلان عن سياسات أميركية جديدة ضد إيران.
صدر في سبتمبر/ أيلول من عام 2013 القرار 2118 عن مجلس الأمن، وتناول استعمال الأسلحة الكيميائية في سورية، بعد مجزرة الغوطة الشرقية، وضم بيان جنيف1 (صدر في 5 يوليو/ تموز 2012)، والذي وضع أسس الحل والانتقال السياسي في سورية، بدءا بتشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات، ما يعني أن رحيل بشار الأسد هو الخطوة المؤسسة لانطلاق المرحلة الانتقالية. ووفق هذا الفهم لبيان جنيف، كان المسار التفاوضي سيفضي إلى وقف إبادة السوريين، وتحقيق طموحهم في تغيير نظام الحكم، لو أنه اقترن بإرادة دولية جادة وحاسمة في ضرورة وقف الجريمة التاريخية المعلنة بحق السوريين والقيم الإنسانية من الأسد وحلفائه، لكن ذلك لم يحصل.
ومع انطلاق الجولة الأولى من مفاوضات جنيف في يناير/ كانون الثاني لعام 2014، شهدت المعارضة السورية تبايناً في الرأي بشأن المشاركة في مفاوضات جنيف من عدمها، حيث امتنعت عدة فصائل من الجيش الحر والجبهة الإسلامية عن المشاركة، باعتبار أن المؤتمر يؤسس لخفض سقف تطلعات الثوار، بينما شارك الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، مدعوماً من بعض فصائل الجيش الحر في مقدمتها جبهة ثوار سورية.
بيان فيينا
حال الفيتو الروسي، وأولوية الاتفاق النووي الإيراني لدى الرئيس الأميركي، باراك أوباما، دون تحقيق مفاوضات جدية، فسرعان ما بدأت عملية تمييع موقف المعارضة، وتكسير حدة بيان جنيف، وهو ما تحقق لها لاحقاً بعد التدخل الروسي في سورية (30 /9 /2015)، من خلال مؤتمر فيينا (نوفمبر/ تشرين الثاني 2015) الذي أسس للقبول بدور إيراني في الحل.
وكانت هذه من نتائج الرغبة الأميركية في التراجع عن دور فعال في الملف السوري، وهو الذي أضعف مجموعة أصدقاء سورية، وساهم في فقدان المعارضة السورية قرارها لصالح القوى الإقليمية والدولية، ما أوجد فراغاً شجع موسكو للعمل على استثماره والانقلاب على بيان جنيف، لتعيد تأويله من خلال التوافقات مع الدول المؤثرة على المعارضة، ليصدر استنادا إلى ذلك البيان الختامي لاجتماع فيينا، والذي ارتكز على بيان جنيف. وفي حقيقة الأمر، تضمن بيان فيينا تجاوزا لفكرة جوهرية متعلقة بشكل الحكم الانتقالي، كان بيان جنيف قد نص عليها، وهي ضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة. بينما دعا بيان فيينا إلى تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية، الأمر الذي أسّس لتمييع مفصلية رحيل الأسد في بداية المرحلة الانتقالية، لكون كل الصلاحيات التنفيذية ستكون محصورة بهيئة الحكم الانتقالي بحسب جنيف، وهو ما نقضه بيان فيينا.
القرار 2254 وضمّ المنصات
بعد مؤتمر الرياض الذي تشكلت بموجبه الهيئة العليا للمفاوضات (ديسمبر/ كانون الأول)، والذي نالت الفصائل الثورية تمثيلاً داخلها، إضافة إلى الائتلاف الوطني وهيئة التنسيق وشخصيات مستقلة، اعتقدت المعارضة أنها قد سدّت الثغرة التي لطالما أشارت إليها روسيا وإيران، وأحيانا دول من أصدقاء الشعب السوري، وهي قضية التمثيل الحقيقي. لكن سرعان ما عقدت مجموعات من الأشخاص وأحزاب "السوشيال ميديا" لقاءات في القاهرة وموسكو وأستانة، لتؤسس منصات معارضة، سيشير قرار مجلس الأمن 2254 إليها إلى جانب الهيئة العليا للمفاوضات.
بعد تفاهمات وزيري الخارجية، الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، وليس بعيداً عن تفاهمات كيري ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف، وبداية التدخل الروسي الذي ركز على قصف مقرات الجيش الحر ومعسكراته، فضلاً عن المدنيين، وعلى الرغم من تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات قبل أيام، تحقق التراجع المفصلي المطلوب ليصدر قرار مجلس الأمن 2245 (18 /12 /2015) الذي أسس لوجود ما تسمى منصات معارضة تحت مسمى منصتا القاهرة وموسكو، وأسس لمرجعية جديدة، بدأت تطغى على قرار مجلس الأمن 2118 وبيان جنيف.
وبعد شهرين فقط من صدور قرار مجلس الأمن 2254، وفي مؤتمر ميونيخ للأمن، بدأت الدندنة الأميركية على وقع بيان فيينا وهذا القرار بشأن إمكانية بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، وهو ما دفع رئيس الهيئة العليا للمفاوضات، رياض حجاب، إلى إبلاغ الوزير كيري استعداده لقطع أصابعه، بدلا من توقيع اتفاق يسمح ببقاء الأسد في المرحلة الانتقالية.
"لا تكترثوا، الهيئة هي الأساس، والكلام عن منصات القاهرة وموسكو مجرد إشارة لن تعطيهم أي وزن.."، رسالة رددها سابقاً معظم المبعوثين من دول أصدقاء سورية، في محاولة إلى دفع المعارضة إلى أن تتجاوز هذه السقطة المتعمدة في القرار الأممي الذي أسس، بكل وضوح، لتفتيت المعارضة بما يتماشى مع رغبات روسيا. والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه: ما هي عواقب عدم قبول ضم منصات القاهرة وموسكو إلى وفد المعارضة السورية، في غياب الحاضنة الشعبية لهذه المنصات؟ بل ينظر الشعب الثائر في عمومه إلى هذه المنصات على أنها من أشكال الاختراق الذي تحاول روسيا وحلفاؤها فرضه على المعارضة لإضعافها من الداخل، وما الذي تخشاه الهيئة العليا للمفاوضات، فيما لو أعلنت رفضها هذه المنصات، ورفضها تقديم أي تنازل في هذا الصدد، خصوصاً وأنه في اجتماع الرياض الذي كان مراداً منه أن يشكل وفداً موحداً للمعارضة، يضم منصتي القاهرة وموسكو، والذي تزامن مع الذكرى الرابعة لمجزرة الكيميائي البشعة في الغوطة الشرقية، جددت منصة موسكو "المعارضة" تمسكها ببقاء بشار الأسد على سدة الحكم في سورية!
جنيف 4
بعد إعادة هيكلة وفد الهيئة العليا للمفاوضات في الرياض، ليضم مزيداً من ممثلي الفصائل الثورية، وتحديداً المشاركة في مفاوضات أستانة، قرّرت الهيئة العليا المشاركة في الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف. ولاحقاً، وبعد دموع من مبعوثة دولة صديقة، ورجاء وضغط من مبعوثي دولة أخرى (يفترض أنها صديقة)، وبطريقة غير مفهومة، تضاربت حولها الروايات، أبلغ رئيس بعثة الهيئة العليا حينها إلى جنيف يحيى قضماني الوفد المفاوض، برئاسة نصر الحريري، بموافقة الهيئة على مشاركة الوفد في افتتاح الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف، إلى جانب المنصات الأخرى، الأمر الذي شكل إقراراً وقبولاً بوجود تلك المنصات.
وكان مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، والذي كان يعمل بشكل دؤوب ليوحي للمجتمع الدولي أن مفاوضات جنيف مستمرة، يواجه تحديا كبيرا، بفعل رفض النظام الانخراط في مفاوضات جدية وفق قرار مجلس الأمن 2254، وبحث الانتقال السياسي، وبالتالي فإن خيارات دي ميستورا كانت محدودة، بسبب تعنت النظام تجاه سلة الحكم والانتقال السياسي، ما دفعه إلى تجاوز توازي بحث السلال، وبدء الهروب إلى الأمام، بالتركيز على سلال الانتخابات والدستور. ولم تمر هذه المحاولة على وفد الهيئة العليا الذي وافق على بحث القضايا الدستورية المتعلقة بالانتقال السياسي، ليجد دي ميستورا نفسه أمام خيار وحيد: تحويل المفاوضات من مفاوضات بين النظام والمعارضة إلى مفاوضات بين المعارضة والمعارضة.
السلال الأربع ومسألة الدستور
بات واضحا، في الجولتين الأخيرتين من مفاوضات جنيف، أن ما يجري في قاعات الأمم المتحدة يشكل الانعكاس التام لتعاطي المجتمع الدولي مع القضية السورية، نفوذ روسي يدير تقريبا مسار جنيف كما مسار أستانة، وإن كان ظاهر الحال في جنيف يوحي بوجود رعاية دولية، إلا أن الوقائع تثبت أن هذه الرعاية غائبة بشكل شبه كلي، فالتركيز على "سلة الدستور" في موازاة بحث ملف المعتقلين والمختطفين وتقليص أيام الجولات واستبعاد المضي في "سلة الحكم" التي تستند إلى الانتقال السياسي، وتناول إعادة هيكلة الجيش والمخابرات ... إلخ، يشير بوضوح الى تماهٍ كامل بين مساري جنيف وأستانة الذي تساهم روسيا في صياغة معظم تفاصيله.
طرح المبعوث الأممي، دي ميستورا، مقترحه حول "آلية التشاور" الخاصة بالدستور، ليتبين لاحقا أن هذا المقترح يجسد توجهاً شخصياً من دي ميستورا نفسه، مستنداً في ذلك إلى الرؤية الروسية التي عبر عنها رئيس وفد روسيا، الأميرال إيغور، في أول لقاءاته مع وفد الفصائل الثورية في أنقرة قبل اتفاق حلب، حيث أبدى عدم تمسك بلاده ببشار الأسد، لكنها تعارض رؤية المعارضة السورية في تغييره، وهي ترى (روسيا) أن التغيير الذي يمكن لها أن تقبله وتدعمه أيضاً هو الدعوة إلى مؤتمر وطني عام، يفرز لجنة دستورية، تضع مسودة لدستور تجري، بالاستناد له، انتخابات تحت إشراف دولي، ثم قال "العرب السنة هم الأغلبية، وبالتالي لن ينجح بشار، وعندها لن نقف في وجه إزاحته". وأكدت هذا الطرح محاولة رئيس الوفد الروسي إلى أستانة 1، ليفرنتيف، تقديم مسودة للدستور إلى وفد القوى العسكرية الثورية، وهو المقترح الذي واجه رفضاً تركياً.
السعي الروسي في مسألة الدستور مستمد من استراتيجية الالتفاف على مسألة رحيل الأسد في بداية المرحلة الانتقالية، بجعل الدستور الجديد ناظما لانطلاق المرحلة الانتقالية وآليات الحكم، وبالتالي جعل الحكم، من حيث التوزيع والشكل، محكوما بالمرجعية الدستورية، وليس بصيغة اتفاق الانتقال السياسي الذي يراد من مفاوضات جنيف الوصول إليه.
من جهة أخرى، سيتحقق الانخراط في مسألة الدستور قبل الانتهاء من البت بقضية الانتقال السياسي (سلة الحكم) تفتيتاً كلياً، ليس فقط للمعارضة السورية المتهمة بنقص التمثيل، بل سيمتد هذا الصراع إلى أبعد من ذلك، إلى المجتمع السوري، وبالتالي تحويل وجهة الصراع بين معارضة وثورة مع نظام مستبد ومحتلين للأرض السورية إلى صراع بين العرب والأكراد والمسيحيين والمسلمين، وصراع أكبر بين الطوائف. وفي ظل هذه الفوضى المعقدة التي قد تمهد لحرب أهلية واسعة، سيكون وارداً جداً ارتفاع أسهم الأسد حلا لضبط هذه الصراعات.
ويبدو أن سحب دي ميستورا "آلية التشاور" الخاصة بالدستور لم يكن بسبب اعتراضات المعارضة وحسب، وإنما أيضا بسبب اعتراضات دولية، خصوصاً من واشنطن التي تتابع المفاوضات بطريقة غير مباشرة. ذلك أن التركيز على الدستور، والحديث عن مؤتمر للحوار الوطني، يمثلان إرادة روسية خالصة في الانقلاب على التراتبية المذكورة في الفقرة الرابعة من قرار مجلس الأمن 2254.
يترتب على وفد الهيئة العليا للمفاوضات التمسك الكامل بمناقشة السلال بالتوازي، انطلاقا من سلة الحكم بشكل رئيسي، ورفض المضي في بحث تفاصيل سلة واحدة بمعزل عن الأخرى، استناداً إلى التراتبية التي حددتها الفقرة الرابعة من القرار 2254، وهو ما يفرض البدء في تطبيق السلة الأولى (الحكم) على أرض الواقع، وهو ما أكده دي ميستورا لوفد المعارضة في "جنيف 5".
ولم تكن مصادفةً وضع أولوية الحكم في الجدول الزمني، إذ لا يُعقل وضع الدستور أو قانون الانتخابات قبيل البدء في تنفيذ المرحلة الانتقالية.
كيف... أيها العالم الأحمق؟
لا يزال التعنت سمة تعاطي نظام الأسد مع مسار جنيف، انطلاقا من رفضه القاطع المضي في أي حل يجرده من السلطة أو حتى يقلص سلطاته، مستنداً في ذلك إلى نفوذ روسي إيراني في مواجهة مواقف متراجعة لحلفاء الثورة السورية، وهو ما يجعل الوصول إلى حل سياسي حقيقي أمراً مستبعداً في المدى المنظور. وليس على المعارضة، في ظل هذا الاستعصاء، أن تستجيب لدعوات إبداء المرونة والواقعية السياسية، وتقديم تنازلات تسهم في دفع العملية السياسية في جنيف، بل عليها أن تجدّد التزامها الكامل بتطلعات الشعب السوري، ودعواته التي كان أكثرها وضوحاً دعوة المتظاهرين في معرّة النعمان قبل أيام، حين رفع المتظاهرون لافتة تسأل: كيف يبقى رئيساً من قتل مليوناً من الشعب.. أيها العالم الأحمق؟
فعلاً.. كيف أيها العالم الأحمق؟
تواجه فصائل الجيش السوري الحر المنضوية ضمن غرفة عمليات "درع الفرات" بريف حلب الشمالي، حملات إعلامية متلاحقة لتشويه صورة هذه الفصائل وتعميم صورة "الفساد والعمالة والارتزاق" المطلق، والتي باتت تطغى على نظرة المدنيين وتؤثر بشكل كبير في النظر لهذه الفصائل التي تسيطر على مساحة كبيرة بريف حلب الشمالي.
هذه الحملات التي تديرها ماكينات إعلامية كبيرة تتشارك فيها عدة جهات منها داخلية في الطرف المقابل لهذه القوات المتمثلة بمناصري الفصائل الإسلامية التي حاربت هذه الفصائل وطردتها من ريف إدلب وفق عمليات استئصال متلاحقة، بتهم الفساد والعمالة حتى تفردت في الساحة وباتت هي القوة المتحكمة، حتى أنها لم تكتف بقتال فصائل الجيش الحر بهذه التهمة بل تعداها لتطال فصائل قريبة منها كأحرار الشام والتي نالت نفس الحملات من التشويه وملاحقة العثرات وتضخيمها.
فصائل "درع الفرات" تتكون من أكثر من 30 فصيلاً من الجيش السوري الحر، بينها فيلق الشام وجيش الإسلام وأحرار الشام والجبهة الشامية وجيش المجاهدين وفرق عدة، إضافة لمكونات الفصائل التي انهت وجودها تحرير الشام في إدلب منها حركة حزم وجبهة ثوار سوريا، والتي شكلت عناصرها وبعض قياداتها مكونات عسكرية جديدة بأسماء متنوعة، وانضوت ضمن غرفة العمليات، بعد أن تم ملاحقتها في إدلب بتهم الانتماء للفصيل الفلاني، فكان خيارها إما سجون العقاب أو الخروج من إدلب والانضواء مع فصائل الجيش الحر في شمال حلب، إضافة لأبناء الريف الحلبي الشمالي الذين انضوا في صفوف هذه الفصائل وهم من خيرة الثوار.
شكلت غرفة عمليات درع الفرات بقيادة القوات التركية في 24 آب 2016 حيث أعلنت حينها تركيا دعم فصائل الجيش السوري الحر في ريف حلب الشمالي والفصائل التي شكلت من عناصر الفصائل التي خرجت من إدلب، ودربت في معسكرات ضمن الحدود التركية، اطلاق معركة لتحرير الريف الشمالي لحلب بعد أن غدت المنطقة محط أنظار قوات قسد وتنظيم الدولة اللذان تشاركا بدعم روسي في السيطرة على غالبية مناطق الريف الشمالي، بالتوازي مع تضييق نظام الأسد الخناق على مدينة حلب.
عملية "درع الفرات" التي بدأت بتحرير مدينة جرابلس ثم توسعت بشكل كبير باتجاه دابق وصولاً حتى مدينة الباب ومناطق شاسعة تقدر مساحتها بـ 5000 كيلومتر مربع، باتت منطقة آمنة بتفاهمات دولية تقودها تركيا التي قدمت الدعم الكامل لفصائل الجيش السوري الحر وساندته جواً وأرضاَ في عملية تحرير المنطقة من قبضة تنظيم الدولة، وقطعت الطريق على توسع قوات قسد في النيل من ريف حلب الشمالي والتي حاولت جاهدة السيطرة على إعزاز قبل انطلاق الحملة.
لا يمكن إنكار التجاوزات الكبيرة التي طالت فصائل "درع الفرات" وانضمام شخصيات فاسدة ضمن صفوفها شوهت مسيرة هذه الفصائل التي قدمت مئات الشهداء في معارك التحرير في إدلب وحماة وحلب والرقة وآخرها في ريف حلب الشمالي ضد تنظيم الدولة، كما أنه لا يمكن إنكار وجود فصائل باتت مستعدة للتعاون مع أي طرف بدافع الانتقام من تحرير الشام التي طردتها من أرضها التي حررتها وكان لها بصمة كبيرة في إخراج قوات الأسد وحلفائها منها ودفعت دماء كبيرة لذلك، إلا أن هذا الفساد المستشري والارتباط الخارجي موجود لدى جميع الفصائل على تنوعه ولعل التطورات الأخيرة أثبتت ذلك لدى الجميع أنه مرهون بطرف خارجي يدعمه ويتحكم في قراره وكل الشعارات عن الاستقلالية والقرار الداخلي والحر ما هي إلا شعارات براقة قدمت للشعب المعذب للحصول على دعمه.
لعل البعض يقول أن فصائل "درع الفرات" لا تملك أي قرار ولا تستطيع فتح أي جبهة لاستعادة القرى التي سيطرت عليها قسد في ريف حلب الشمالي، وأن القرار في كل أمر لتركيا، كذلك هو الحال اليوم في إدلب فمنذ سقوط حلب لم تبادر الفصائل كافة في إدلب لفتح جبهات حقيقية في حلب او حماة أو الساحل ومن يمنعها من ضرب عقر الأسد في الساحل إلا بضع معارك في مناطق ليست ذات تأثير تكشفت دوافعها في إسقاط البعض والارتباط بأجندات كبيرة لايمكن أن ننكرها، وبالتالي بات الحال واحداً مع اختلاف التبعية والتوجه والأجندات.
تعميم الفساد على فصائل الجيش السوري الحر، حتى بات اسم "درع الفرات" مرتبط كمتلازمة مع "المفسدون في الأرض" والتي دأبت الماكينات الإعلامية على الترويج لها وإقناع الحاضنة الشعبية بفسادهم، مستغلة سلسلة التجاوزات التي تقوم بها عناصر هذه الفصائل وتضخيمها ونشرها بشكل واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي واستغلال أي حادثة للطعن والإساءة لهذه المكونات، في الوقت الذي تغفل فيه متابعة التجاوزات التي لاتقل بل تزيد من طرف عناصرها بحق المدنيين والحاضنة الشعبية.
استغلت في ذلك الشعارات البراقة والتستر بعباءة الدين في محاربة الخصوم، وتبييض صورة فصيل معين على حساب الجميع ليغدو هو "الخير المطلق والحامي والناصر والمحرر والحق الكامل" في الوقت الذي تعمم صورة "الفساد والعمالة والارتزاق" على غيرها من المكونات العسكرية، بهدف تشويه صورتها ودفع الحاضنة الشعبية للتخلي عنها ثم إنهاؤها والسيطرة على مقراتها وسلاحها والظهور أمام الشعب بأنها تحميهم وتدافع عنهم وتبعد الفساد الأكبر.
فكما للجيش الحر أخطاء وعثرات وفساد في بعض قادتها وعناصرها كذلك هو الأمر لدى الفصائل الإسلامية وفي مقدمتها تحرير الشام من فساد وتجاوزات في الكثير من قادتها وعناصرها بحق المدنيين والحاضنة الشعبية، أما التبعية فقد كشف الغطاء عن كل هذه الشعارات الزائفة التي تستر البعض خلفها، فيما تبقى المعضلة الأكبر هي تعميم الفساد ما يضيع صورة الصادقين في كل الفصائل ويغلب الصورة السيئة على الصورة المشرقة الساطعة التي لا تخدم إلا أعدائنا.
من بين الدول المعنية بنتائج الاستفتاء في إقليم كردستان على الانفصال أو الاستقلال تبدو إيران رغم تصريحاتها ومواقفها أكثر هدوءا في ردات فعلها من تركيا والعراق. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زار طهران على رأس وفد رفيع المستوى والتقى الرئيس الإيراني حسن روحاني، ثم المرشد علي خامنئي الذي وصف الأكراد في الإقليم بالخونة الذين يعرّضون استقرار المنطقة إلى الخطر دون أن يخصص القيادة الكردية بمفردة الخيانة، إنما أطلق تعميمه في رسالة لا تخلو من التحذير والتهديد إلى كل كردي ومنهم الأكراد في إيران.
تم تداول قضايا الاقتصاد وحجم التبادل التجاري والتطمينات المسبقة بتعويض الخسائر التركية من احتمال غلق المعابر أو قطع صادرات النفط من كردستان إلى ميناء جيهان، بزيادة حركة البضائع وتعدد مراكز تدفق المصالح بين إيران وتركيا. دول أخرى بعيدة وقريبة أبدت قلقها من نتائج الاستفتاء على صادرات النفط العالمية، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان في مقدمتها.
تركيا وإيران تتقاسمان المخاوف من الاستفتاء لأنه فتيل يذكي شعلة الثورة والحرية في الأمة الكردية داخل حدودهما الجغرافية. الحديث عن مخاطر المتغيرات داخل الإقليم مفتعلة بل العكس صحيح تماما، لأن الدولة الكردية ستكون أكثر رغبة وحرصا على التعاون وبكافة المجالات السياسية والتنموية وذلك يعود بالفائدة الكبيرة على الواقع التركي والإيراني.
كما أن الانفصال سيضعف الدولة العراقية ويلغي تماماً أي قلق محتمل في الذاكرة الإيرانية من الماضي القريب للعراق العربي القوي بتجربة حرب الثماني سنوات في ثمانينات القرن الماضي. تركيا يساورها القلق على التركمان في العراق وبما يتعلق بمدينة كركوك ولا تخفي ذلك بتصريحات مسؤوليها النارية على توقعات الصراع للسيطرة على المدينة.
الاستفتاء فتح الباب لتفاهمات أكثر علنية بين تركيا وإيران بعد مستجدات الداخل التركي والواقع الروسي على الأرض السورية، وموقف الولايات المتحدة الأميركية الداعم لقوات سوريا الديمقراطية الكردية بما أدى إلى تراجع الود القديم مع أميركا أو مع الاتحاد الأوروبي.
مباحثات أستانة لم تنحصر في مردوداتها على الحصاد الروسي في سوريا بل تعدتها إلى تقريب المسافة بين تركيا وإيران والعبور فوق توجهات حلف الناتو، متجاوزة تواجد أكبر قاعدة عسكرية على الأراضي التركية.
لماذا كانت إيران على غير عادتها وبما لا يتناسب مع نهجها التصعيدي للأزمات حتى أن تركيا تفوقت عليها بردات فعلها ضد الاستفتاء. زيارة أردوغان إلى إيران كأنها حث وتشجيع تركي لمواقف إيرانية أكثر تشدداً وفعالية. أهم ما كسبه أردوغان سياسيا من زيارته هو ما جاء على لسان المرشد خامنئي بتخوين الأكراد. خامنئي أوصل إلى أردوغان ما يحب أن يستمع إليه ليطمئنه في قضية حساسة جداً لتركيا، وهي عدم قيام دولة كردية مجاورة في العراق أو في سوريا.
إيران بمناوراتها العسكرية على الحدود مع إقليم كردستان وجهت رسائل لتركيا وللداخل الإيراني، لأن وجودها الحقيقي يعتمد على ما تنفذه أدواتها من ميليشيات الحشد الشعبي التابع للحرس الثوري الإيراني وأوامر قاسم سليماني قائد فيلق القدس الذي كان نشطا ودؤوبا في التواصل مع إقليم كردستان لثني الإقليم عن الاستفتاء، أو ربما لتحفيز الأكراد على الاستفتاء بتهديدهم وإيصالهم إلى نقطة اللاعودة عن قرارهم وتلك رغبة إيرانية ننتظر أن تفصح عنها الأيام.
25 سبتمبر لن يبتعد سوى 20 يوماً عن موعد مراجعة ملف الاتفاق النووي مع إيران في الكونغرس الأميركي وهي مراجعة دورية كل 3 أشهر، لكنها تختلف تماما هذه المرة بعد خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الجمعية العامة للأمم المتحدة وانتقاده الشديد للاتفاق والسلوك الشائن لإيران وتمددها في أكثر من دولة ودعمها للإرهاب في العالم واصفاً نظامها بالدكتاتوري الفاسد.
الرئيس ترامب رغم أنه اتخذ قراره بما يخص الاتفاق النووي إلا أنه لم يصرح به ونعتقد أنه ترك الأمر لمنتصف شهر أكتوبر الجاري، ولجلسة الكونغرس ليحظى بالدعم في حالة تأكيد الرئيس عدم التزام إيران ببنود الاتفاق. هذا التأخير في الإعلان عن قراره فيه نسبة كبيرة من الإيضاحات عن موقف الرئيس في نيته إعادة العقوبات كلياً أو جزئيا، والتي رفعت بعد توقيع الاتفاق، أو ربما يتجه إلى إلغاء الاتفاق تماماً، وهو الاتفاق الأسوأ على حد قول ترامب.
قد يفسر لنا انتظار جلسة الكونغرس لماذا تأخرت إيران في إعلان مواقفها الصارمة من استفتاء كردستان، ولماذا مهدت الطريق أمام ميليشياتها في العراق للبوح بمكنوناتها واستعدادها للمواجهة العسكرية مع الإقليم. خلال الأيام القادمة سنتابع إيران بوجه آخر وردات فعل مختلفة ربما غير محسوبة بما فيها موقفها من استفتاء إقليم كردستان.
لقاء حيدر العبادي رئيس وزراء العراق والقائد العام للقوات المسلحة بزعيم ميليشيا بعد يوم واحد من الاستفتاء كان بمثابة إنذار خطير بعواقب وخيمة لا يمكن أن يقدم عليها رئيس وزراء لدولة في حالة حرب مع الإرهاب ولديه وزير دفاع ورئيس أركان وقادة نظاميون في الجيش بإمكانه استشارتهم أو لقاؤهم لغايات ومهمات وواجبات الدولة.
لكن أن يلتقي زعيم ميليشيا في ظرف حرج يؤكد لنا لماذا إيران ليست على صفيح ساخن. إيران تعبّر من خلال العراق عن سياستها ضد نتائج الاستفتاء وعيناها على الملف النووي ونتائج مراجعته في الكونغرس.
نحن في حرب مؤجلة مع الإقليم تعتمد خيانة إيرانية جديدة تضحي بدم العراقيين وباستقرار المنطقة، وفداحتها تتوقف على الموقف الأميركي الذي سيفصّل لنا الإستراتيجية الأميركية تجاه الإرهاب الإيراني.
الإصرار على الاستفتاء من قبل إقليم كردستان وطبخه على نار من الأعصاب الهادئة وبحضور شخصيات بعينها في الإقليم يوضح لنا البعد الدولي الراصد لتطورات الأحداث القادمة في المنطقة.
نهاية إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، وجرأة الإقليم في إجراء الاستفتاء أو مداخلات الأرض في كركوك ومقتربات معركة الحويجة وجبال حمرين تبين لنا مقدمات الفوضى الخلاقة على المقاسات الدولية بعد نهاية مرحلة صادمة في المنطقة استهلكت تماماً أسبابها، وصار لزاماً عليها تنظيم وترتيب مستجداتها.
مساعٍ إيرانية تستهدف الإبقاء على الاتفاق النووي مع الدول الأوروبية الموقعة عليه وهي بريطانيا وفرنسا وألمانيا إضافة إلى الموقفين الروسي والصيني المعلومَيْن من الجانب الإيراني.
مع ذلك فإن أوروبا رغم ميلها إلى استثمار الاتفاق في المنافع الاقتصادية مع إيران، إلا أنها لا تتجاهل كلياً تجاوزات إيران على نص وروح الاتفاق في دعمها للإرهاب أو تجارب إطلاق صواريخها الباليستية، ولذلك فإن الدول الأوروبية الثلاث مع تطبيق الاتفاق والتوجيه بإضافة بعض البنود التي تحجم الطموحات الإيرانية.
ما صدر عن وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس قبل إشهار قرار الرئيس ترامب بشأن الاتفاق النووي؛ بالمحافظة على الاتفاق في حالة عدم تعارضه مع مصالح الولايات المتحدة، يأتي في سياق تصاعد التهديدات النووية الخطيرة مع كوريا الشمالية وما ينتج عنها من استباق لحل أزمة التسلح النووي الإيراني المحتمل في سنوات قليلة مع أن الاتفاق في جوهره لا يلغي رغبة إيران في امتلاك السلاح النووي، إنما يؤجلها لثماني سنوات فقط من تاريخ عامنا هذا. ماتيس يدعم مراجعة اتفاق يبعث بتطمينات تضامن مع حلفاء أميركا في الناتو ويترك أيضاً للرئيس قراره في حماية الشعب الأميركي.
العراق وإقليم كردستان وسط غابة من بنادق الصيد الجائر، وأي استفزاز أو حركة مباغتة مقصودة أو غير مقصودة ستوقد ألف سبب وسببا لحرب أخرى وإرهاب آخر.
هذا السؤال المفجع يحتمل العديد من الإجابات، فقد يقول قائل إن روسيا هي التي تحكم سوريا، ويقول آخر، بل إيران هي التي تحكم الأرض بينما روسيا تحكم سماءها، ويقول ثالث لا تنسوا اليد الخفية لإسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة التي أنشأت قواعد عسكرية في سوريا وتوقفت عن دعم المعارضة. وقد يذكرنا أحدهم بوجود قوات عسكرية لعدة دول تشارك في الحكم من وراء ستار بذريعة كونها تشارك في مكافحة الإرهاب. ولن ننسى الحضور القوي للميليشيات الطائفية والعرقية التي جاءت من كل أصقاع الأرض، وبخاصة من لبنان والعراق، وتقاسمت النفوذ مع الآخرين بحسب قوتها العسكرية. وسيقول الموالون بل يحكم الثوار (وكانوا يسمونهم إرهابيين قبل الاتفاقيات الدولية معهم بخفض التصعيد، ولا أدري ماذا سيسمونهم الآن)! وفضلاً عن ذلك كله يقتطع بعض الأكراد (البي يي دي) مساحات شاسعة من شمال سوريا وشرقها ويحكمونها بدعم أميركي. بينما لا يزال تنظيم «داعش» الإرهابي يسيطر على مساحات واسعة من المنطقة الشرقية والبادية، وله حضور في الجنوب، والمفارقة أن هذا التنظيم موجود بحُرية مطلقة في دمشق وبعض ريفها المجاور، ولا أحد من النظام يهدد حضوره لأنه يهاجم ذات الأهداف التي يهاجمها النظام. وأما في إدلب وبعض ريفي حلب وحماه فما يزال الحكم لـ«هيئة تحرير الشام» (النصرة) المصنفة إرهابية، والحرب الدولية قائمة ضدها كما هي ضد «داعش»، وثمة مواقع عديدة تسيطر عليها فصائل من «الجيش الحر»، تمتد حتى ريف اللاذقية.
ومباهاة النظام بالانتصار على شعبه هي تعبير عن امتنانه لما اقترف حلفاؤه من مجازر ضد الشعب بهدف الحفاظ الشكلي على وجوده، ولكن للأسف لم يعد للسيادة السورية حضور يذكر.
لقد رفض النظام مشاركة الشعب في الحكم، ولكنه استدعى إيران وروسيا و«زعران» الأرض لحكم سوريا مقابل أن يبقى صورياً حاكماً مستبداً، وتجاهل أنه جلب الدب لكرمه، وأطلق مارد التطرف من عنق فوهات الزنازين، ولكنه لم يعد قادراً على إعادته، وخسر شعبه. وأنا أقول للتاريخ وللحقيقة التي عشتها قبل أن أغادر دمشق، إن أولى التظاهرات لم تكن تحمل شعارات ضد النظام، ولا طالبت برحيل الأسد، وما تزال الوثائق شاهدة، وإنما طالبت أولاها بإصلاح النظام، ولم يكن فيها أي نفَس طائفي أو إسلامي متشدد أو متطرف، وأغلب المتظاهرين الأوائل كانوا يطالبون بالحرية والكرامة وهتافهم «الشعب السوري واحد» تعبيراً عن وحدة وطنية. وكان من السهل أن يستجيب النظام لحد أدنى من مطالبهم، ولكنه خشي من تقديم أي تنازل يفضي إلى رفع متصاعد لتلك المطالب، وكان سيد الموقف الرسمي هو العناد والغرور، ووهم الظن بأن قتل عشرات من المتظاهرين كل يوم سيجعل الآخرين يفرون هاربين مذعورين، ولكن شعلة الثورة توهجت بعد العنف الشديد الذي استخدمه النظام الأمني العسكري، وكنت يومها أقول «إن الثورة السورية وجدت مبرراتها الكبرى بعد الثورة أكثر بكثير مما وجدته قبلها». وقد يقول قائل: ما فائدة هذا الكلام الآن وقد ضاع البلد وفقد جميع السوريين وطنهم موالين ومعارضين ورماديين، ولم يخرج أحد من السوريين رابحاً، وإن ظن النظام أنه قد انتصر فهو انتصار وهمي يمكن أن يحتفل به خامنئي وبوتين وحسن نصر الله الذي صنع له مجده شعبنا السوري، ولم يخطر قط على بال أحد من السوريين، إلا ما ندر، أنه عدو حاقد على هذا الشعب العربي السوري، وأن ولاءه خالص لإيران وحدها.
وكذلك لم تنتصر الثورة عسكرياً، لأنها قامت ضد فروع الأمن المحلية المستبدة المتسلطة على رقاب الناس، ولكنها لم تقم ضد إيران وروسيا العظمى ونصف الكرة الأرضية، وعدة دول لم تفهم القضية وظنت أن إرهابيين هم الذين خرجوا متمردين على النظام ومن حق النظام أن يقتلهم ويشردهم. ولكن حضور السوريين المشردين في العالم كان أقوى من كل السياسات الداعمة للنظام علناً أو سراً، حين رأت الشعوب أن غالبية المشردين واللاجئين السوريين هم شعب حضاري متعلم ومثقف وكل جريمته أنه قد طالب بحريته، وحلم بالديموقراطية التي تنعم بها أغلب شعوب الأرض، وبات محرجاً لأوربا وأميركا مثلاً وهما تدعوان إلى الديمقراطية، أن تناصرا نظاماً مستبداً قتل شعبه حتى بالغازات السامة والأسلحة الكيماوية، ولم يبق في دول العالم نظير له إلا في بلد أو بلدين في العالم اليوم.
والمتنورون من شعوب العالم يقولون: أما كان يكفي الأسد أن يحكم سوريا سبعة عشر عاماً؟ والمفارقة أننا نسمع عن توجهات دولية تسعى للإبقاء على الأسد رغماً عن أنف الشعب الذي دفع أضخم التضحيات كي يبني دولة مدنية ديمقراطية غير طائفية، وثمة من يقول «حسناً، أهزموه بالديموقراطية» أي بالانتخابات وهو يعرف أن الشعب السوري في المهاجر بات في شتات يصعب جمعه! وأن الباقين في سوريا يدركون أن من يقول «لا» سيلقى عذاباً يكون الموت أهون منه، حتى لو حضرت الأمم المتحدة كلها لرقابة الانتخابات. ومن المحال أن ترشح جبهة النظام سوى مرشح واحد، كما أنه من المحال أن تتفق المعارضة أيضاً على مرشح واحد ينافسه.
إننا ندرك أن من يصرون على بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية إنما يريدون بقاء سلطة (إيران) تخصيصاً، فقد تكتفي موسكو بمصالحها وقد يتم التفاهم معها حولها، ولكن إيران ترنو إلى مشروع إمبراطوري توسعي يصعب أن تحققه إذا انتهت سلطتها على النظام.
حتى مارس/ آذار من عام 2011، كانت تسيطر على الأوساط الثقافية والسياسية فكرة ترى أن النظام في سورية قوي والمجتمع ضعيف. وكان من الوعي السائد أن النظام نجح في تسطيح عقل السوريين، وتدمير قيمهم ونواظم عيشهم، وخصوصا الوطنية منها، ومزق مجتمعهم إلى مجموعاتٍ لا رابط بينها غير الخلاف، وحفر هوة واسعة بين نخبه المتناحرة وكتلته الكبرى غير المسيسة، التي تشترك في سكوتها المطبق على الاستبداد، الذي تتعرّض له وهي مكتوفة اليدين، على الرغم مما تعانيه من تدهور في معاشها، وانهيار في مكانتها، وغربة عن الشؤون العامة. في المقابل، كانت السلطة تبدو متماسكةً وقادرة على احتواء أي ظاهرة تبرز عند قاع المجتمع، فهي موحدة، تنصاع لشخصٍ لا يخرج أحد من منتسبيها على ما يراه ويقرّره، ومن الذي يمكن أن يفكر، ولو مجرد تفكير، بالخروج عليه قائدا مطاعا لدولة عميقة تضم ملايين الموظفين والمخبرين، يساندها جيش جرّار يؤمر فيطيع، تربطه عصبيات مركبة، همّ قيادته الرئيس إثارة الشقاق في جسد الهيئة المجتمعية العامة، وتنظيم وحدة القلة المؤيدة له، واعتبار المواطنين سكان مستعمرة يمسك بخناقها.
بعد شهر الثورة في مارس/ آذار من عام 2011، تأكد أن هذه الصورة ليست صحيحة، وأن المجتمع ليس فقط غير ضعيف، بل هو أقوى من السلطة، وإلا لما حرّر، خلال أقل من عامين، قرابة ثلثي سورية، وطرد جيش النظام "القوي"، وشبيحته وأجهزته القمعية، منها، وتصدّى بنجاح لمن يساندونه من مرتزقة متعددي الجنسيات، انضموا إلى صفوفه، بينما كان جيشه "الوطني" يتصرف باعتباره قوة استعمارية داخلية، وليس مؤسسة عسكرية وطنية، منظمة وتحمي شعبها ودولتها.
بهذا الدور الاستعماري الداخلي، الذي استفز أعدادا كبيرة من مواطني سورية، ممن يمضون خدمتهم فيه، وبما أبداه الشعب من تصميمٍ على التمسّك بحريته هدفا لا يحيد عنه، تبيّن أن الجيش الذي كان يبدو متماسكا وموحدا لم يكن كذلك في حقيقة الأمر، وأنّ النظام الذي خطط، منذ سنوات، لمعركة شاملة يقتلع خلالها الشعب السوري من جذوره، بمجرد أن تصدر عنه صرخة احتجاج واحدة، لم يكن قويا بالقدر الذي حاول إيهام السوريين به، ولو كان قويا حقا لما استنجد بإيران وحزب الله عام 2012 وبالروس عام 2015، ودعاهم، في الحالتين، إلى النهوض بأعباء الحرب، عوضا عن عسكره الذين افتضحوا طائفيين، لا وطن لهم، لكنهم تهشموا وفقدوا القدرة على كسب أي معركةٍ، طوال نيف وعام في التاريخ الأول، وأيقنوا أنّ دمشق ساقطة لا محالة خلال شهرين في التاريخ الثاني، بينما لم يطلب الجيش الحر أي تدخل خارجي من أي طرف، وواجه، بقواه الذاتية، التصعيد الاستثنائي الذي تعرّض له في التاريخين، على الرغم مما وقع من تبدل في ظروف المعارك، نتيجة استخدام أسلحة حديثة ضده لم تعرفها أي حرب من قبل، وما تكبده الشعب الأعزل من خسائر جسيمة بسببها، وعاناه من حصار وتجويع وقصف عشوائي وأسلحة كيميائية، لو انصب عشر ما استهدفه من صواريخ على مليشيا الأسد لما بقي منها صافر نار.
واليوم، لا يستطيع أحد القول إن مجتمع سورية هزم، لأنه لم ولن يهزم، وإن النظام انتصر لأنه هزم مرتين في ثلاثة أعوام. فضلا عن أنّ هناك شهادات دولية تتحدث عن استحالة حله العسكري، والسبب: استحالة أن يتمكن جيشٌ لم يعد موجودا من كسب حرب، عجز عن خوض معاركها عندما كانت أوضاعه أفضل بكثير من وضعه المزري الراهن، بدليل نجاح قبضة "داعشيين" من الوصول خلال ساعات من مناطق ادّعى أنّه طردهم منها إلى مشارف حمص!
أثبت المجتمع السوري أنه قوي بذاته، لكنه ليس قويا بمن يمثلونه، ويعتقدون أنهم قادته، وأثبتوا، خلال نيف وسبعة أعوام، أنهم لم يكونوا في مستوى ثورته وتضحياته، ولو كانوا لسقط الأسد ونظامه منذ سنوات، ولما تكبد السوريون الخسائر الهائلة التي تعرّضوا لها. لذلك، يصح قولي مع القائلين: عندما أنظر إلى الشعب أقول هناك ثورة، وحين أنظر إلى النخب السياسية والعسكرية، أهز رأسي حسرة وأسفا.
ترى: أما حان الوقت كي نرتفع، نحن النخب، إلى مستوى شعب عصي على الهزيمة، ونوقف ما نبذله من جهود لخدمة أعدائه: عن وعي أو تفاهة؟
(1)
فشلت المعركة الثانية لكسر الحصار عن حلب (نوفمبر/ تشرين الثاني 2016)، والتي واجهت فيها فصائل الثورة السورية سلاح الجو الروسي، بكامل طاقته، وآلافا من مليشيات شيعية متعدّدة الجنسيات، لتبدأ مرحلة إطباق الحصار وتدمير الأحياء الشرقية لحلب، وكل ملامح الحياة فيها، في مشهد إجرامي شابه، إن لم يتجاوز، مشاهد التدمير في الحرب العالمية الثانية.
وعلى الرغم من وحشية العدوان الروسي الإيراني، والضغط العسكري الهائل على خطوط المواجهة، قرّرت جبهة النصرة، مع حركة الزنكي وسرية أبو عمارة، مهاجمة "تجمع فاستقم" من الجيش الحر داخل مدينة حلب المحاصرة، والذي كان واحداً من أهم الفصائل المحاصرة وأكثرها تنظيماً، كما أنه الفصيل الحلبي الوحيد الذي كان قائده العام داخل حلب المحاصرة، ما ساهم، إلى جانب القصف وأسباب أخرى، في اختلال الخطوط الدفاعية وانكسارها في عدة جبهات، ما جعل شبح المذبحة بحق أكثر من مائة وخمسين ألف محاصر يخيّم على أجواء الأحياء المحاصرة.
غادرتُ تحت جنح الظلام منطقة سوق الجبس، أحد أسخن خطوط المواجهة مع الإيرانيين والقناصين الروس، لأعود مع المقاتلين مسرعين إلى بابسقا المجاورة للحدود التركية، لمنع رتل الزنكي من الوصول والاستيلاء على مقر قيادة الريف في "تجمع فاستقم" في جبل بابسقا، على وقع انقضاض قاذفات السوخوي وقصفها قرى ريف حلب الغربي بالعنقودي والنابالم. انتشرنا على قمة جبل بابسقا بعد منتصف الليل، مع قوات من جيش الإسلام وصقور الشام وتجمع فاستقم، لحماية مقر القيادة.
في تلك الأثناء، نفذت طائرة سوخوي روسية غارة جوية على خان العسل في ريف حلب الغربي، أضاءت واهتزت لها كلّ إدلب وريفها، بما في ذلك الجبل الذي رابطنا عليه. حينها لعنت قادة الفصائل وجبهة النصرة التي دفعت ثوارا كثيرين لترك نقاط المواجهة مع هذا الإجرام الروسي وجموع المليشيات الطائفية، لتغزو مخازن سلاح لفصيل يرابط معهم، ودفعت آخرين إلى ترك نقاط الاشتباك مع جموع المليشيات الطائفية القذرة لتدافع عن مقارها وسلاحها. ولم يكن في تلك الفصائل من المروءة ما يجعلها تحترم أشلاء المدنيين ومنازلهم التي كانت تحترق بفعل النابالم والعنقودي الروسي.
أحدث هذا المشهد إحباطاً وقهرا دمّرا همة ثوار كثيرين ومعنوياتهم. وساهم، إلى حد كبير، بفقدان الثقة بالنفس وبالفصائل وقادتها، إن لم يكن بالقضية. حطم هذا المشهد معنويات (وإمكانات) شباب غاضب يريد الثأر للمقهورين في حلب، فأخرجهم من معادلة المعركة التي لم يكن في الوسع الانتصار فيها إلا بروح قتالية، تستمد بركان غضبها من تراكم القهر والظلم والتكالب على قضية السوريين، وتستمد إرادتها وتماسكها من الثقة المشتركة بين رفاق الثورة والسلاح، وبين هؤلاء الثوار المقتتلين وشعبهم المقهور.
(2)
في بداية نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، وأنا غارق في إحباط فشل معركة كسر حصار حلب، وقهري من الفصائل التي أمعنتْ في إذلالنا وتحطيمنا، على الرغم من شناعة المواجهة مع عدوٍّ أمعن في الإجرام بحق شعبنا، توجهت إلى أنقرة إلى جانب مجموعة من قادة الفصائل، لمناقشة عرض روسي لوقف إطلاق النار في حلب.
كانت المفاوضات مع وفد من وزارة الدفاع وهيئة الأركان الروسية، حاول في مستهلها إظهار رغبة روسيا في المساهمة بحل القضية السورية، وأن روسيا ليست متمسّكة حالياً ببقاء الأسد على رأس السلطة، لكنها ترى أن الطريق المناسب لتغيير الأسد عقد مؤتمر لمختلف فعاليات المجتمع السوري وشرائحه، ويشكل المؤتمر لجنةً لتضع مسودة الدستور، ويتم إجراء انتخابات بمراقبة أممية، استنادا إلى الدستور الجديد. ويشبه هذا كله، إلى حد كبير، المسار الذي يعمل وفقه مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، ويسيّر من خلاله مفاوضات جنيف. هذا الكلام المعسول كانت تبدده أشلاء ممزقة، بفعل قاذفات السوخوي، وانعدام الثقة بدولةٍ صرّح وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، في مستهلّ الثورة السورية، بكلام يقطر حقداً وطائفية، حين قال إنه لا يمكن لروسيا السماح للسنّة بأن يحكموا سورية.. ليقترن التصريح لاحقاً بجسر جوي وجنود وقنابل عنقودية لم تفرق بين مركز للدفاع المدني ومدرسة ومقاتل.
كان وفد القوى العسكرية في أنقرة، والذي كان يمثل كل الفصائل، بما فيها أحرار الشام وجيش الإسلام، باستثناء جبهة النصرة، يدرك المعطيات المؤسفة داخل أحياء حلب الشرقية المحاصرة. لذلك، حاول مراراً المناورة لإنجاز اتفاقٍ يوقف اجتياح حلب، بعد أن باتت مهدّدة، إلى حد كبير، بشبح المذبحة، الأمر الذي دفعه إلى قبول مبدأ التفاوض، وبحث مشروع وقف إطلاق نارٍ شامل، لكن بعد إنجاز اتفاقٍ ينقذ المحاصرين في حلب.
كانت جولات التفاوض الأولى متعثرة للغاية، بسبب انعدام الثقة، واستمرار الروس في المراوغة في نطاق الهدنة الجغرافي، حيث برز المطلب الروسي في ألا يخصّ الاتفاق المناطق المحاصرة للمعارضة فقط. ولم يكن هذا المطلب مقبولاً لوفد الثوار، بسبب عدم الرغبة بإجراء تفاهماتٍ مباشرة مع روسيا التي كنا نقاتلها قبل أيام فقط، إلا في حدود الحاجة الملحة، والتي كانت تتمثل في إنقاذ حلب من شبح المذبحة. ومن جهةٍ ثانية، كان المطلب الرئيس للروس أن تخرج جبهة النصرة من أي منطقةٍ يشملها الاتفاق، وكان هذا الشرط قابلاً للتنفيذ في حلب، باعتبار العدد القليل لمقاتلي "النصرة"، والضغط الإنساني الشعبي الذي كان ممكنا أن يكون عاملا مساهما في إجبار مسلحي جبهة النصرة على الانسحاب هناك. أما في منطقة إدلب التي ذكرها الروس، فالأمر معقد جدًا، والإشكالية الرئيسية أصلاً أن "النصرة" قد يكون ممكنا أن نجبرها على الانسحاب من حلب إلى إدلب، لكنها تالياً إلى أين ستنسحب، وتعقيدات كثيرة لم يشأ وفد الثوار ربطها بملف حلب المحاصرة.
في الأسبوع الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، توصّل وفد الثوار والوفد الروسي إلى مسودة اتفاقٍ يقضي بوقف إطلاق النار والضغط العسكري على كل من حلب والوعر والتل، وكلاهما كانتا مهدّدتين بالتهجير القسري، وتم توقيع الاتفاق بالأحرف الأولى بضمانة تركيا وروسيا، وكان يشبه، إلى حد كبير، الاتفاق الذي وقع أخيرا في القاهرة لوقف إطلاق النار في الغوطة، حيث كان سيبقي المناطق الثلاث تحت سيطرة الثوار، والسماح بدخول المساعدات بأنواعها كافة، في مقابل انسحاب مقاتلي جبهة النصرة إلى الوجهة التي يختارونها، مع سلاحهم وعائلاتهم أو بدونهما.
سافر الوفد الروسي متوجها إلى دمشق، ليوقع الأسد على الاتفاق، لكن الوفد الروسي لم يعد إلى أنقرة في الوقت المتفق عليه، متذرعا بتصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إن الجيش التركي دخل إلى الأراضي السورية لإنهاء حكم الأسد. في ذلك الوقت، بدأت دفاعات الثوار تنهار داخل حلب الشرقية، ليخسروا لاحقاً مساكن هنانو التي كانت بداية الانهيار السريع لأحياء المدينة المحاصرة، وفي الوقت نفسه وقع ثوار التل اتفاقاً يقضي بخروجهم إلى إدلب، ما جعل الصيغة التي تم التوصل إليها ملغية.
في بداية ديسمبر/ كانون الأول، وعلى وقع الانهيار السريع للثوار في حلب ومحاصرتهم مع عشرات آلاف من المدنيين في عدة أحياء فقط تبقت من القسم المحاصر، عاد الوفد الروسي ليطرح سيناريو وحيداً للاتفاق، وهو خروج جميع الثوار من حلب الشرقية إلى إدلب. كان كلام الضابط الروسي واضحاً، وكان في حقيقة الأمر تهديداً صريحاً، حيث قال: تغير الوضع في الميدان، وهذا العرض هو لمنع استمرار إراقة الدماء.
لم يكن هذا الخيار الذي نطمح إليه، لكنه كان خيارنا الوحيد لإنقاذ المدنيين، ومن تبقوا من ثوار. وتحت ذلك الضغط الإنساني وهول التطورات داخل حلب الشرقية، وافقت الفصائل، لتبدأ عملية تهجير أهالي حلب وثوارها إلى ريف حلب الغربي وإدلب.
أول الخارجين من حلب كان مسلحي جبهة النصرة الذين لو كان لديهم من الشرف والاكتراث لأمر السوريين ذرة لقتلوا أنفسهم، في بث مباشر، داخل أحياء حلب الشرقية، منعاً لتهجير أهلها، لكنهم كانوا كزعيمهم، الجولاني، بلا شرف ولا ضمير.
بعد وصول مقاتليها إلى إدلب، بدأت جبهة النصرة بممارسة هوايتها في ابتزاز الثورة والعالم، ليبدأ المدعو أبو بلال قدس، الذي كان مسؤول جبهة النصرة في نقطة العبور في الراشدين، بتعطيل عبور الحافلات، وبدأ يحاول فرض شكل جديد لآلية العبور.
في أثناء ابتزاز جبهة النصرة تركيا والوفد التفاوضي، لأجل أن تثبت قوتها على الأرض، وأن على الدول التفاوض معها، كان آلاف من الشباب والنساء والأطفال قد تجمعوا في منطقة الراموسة المدمرة، في انتظار الخروج من حلب، في درجات حرارة اقتربت من الصفر، وتحت هطول الثلج والبرد، ومن دون بيوت، ولا حتى دورات مياه، باتوا ليلتين ينتظرون جبهة النصرة الهاربة أن تقبل المقايضة عليهم. ومن دون وجود خطوط دفاعية حقيقية خلفهم، فيما لو قرّرت المليشيات الإيرانية والأسدية أن ترشّ عليهم النار، أو تقتحم المنطقة. كان المشهد سوريالياً، حسب ما نقلت لنا الصور من داخل حلب، أطفال يبكون حقاً من البرد ونساء بلا مأوى في الثلوج، وآلاف المدنيين متجمعون في مشهد أشبه بالقيامة المصغرة، وبالتيه الكبير للثورة اليتيمة، بينما يتاجر بآلامهم وأرواحهم تنظيم الجولاني، بعدما كان أهم أسباب معاناتهم وتشريدهم وهزيمتهم، وعلى الجانب الآخر كانت حافلات الخارجين من الفوعة وكفريا في وضع مشابهٍ أيضاً، وكثيرون ممن فيها من المدنيين كذلك، إلى أن استجابت جبهة النصرة والمليشيات الإيرانية، وخرجت آخر قوافل المهجرين من حلب في 21/12/2017.
(3)
بعد سقوط حلب، عاود الجانب الروسي طرح وقف إطلاق نارٍ يشمل كل الأراضي السورية، والدخول في مفاوضات مع النظام، لأجل حلحلة القضايا الإنسانية العالقة، مثل المساعدات الإنسانية والمعتقلين والمناطق المحاصرة. وبعد اجتماع قادة الفصائل في أنقرة، أجمع الحضور على أن هدنةً شاملةً أمر محل قبول، لكن الإشكالية في المفاوضات التي ستليها، لأن روسيا راعية لها.
تم الرد على المقترح الروسي بخطة لوقف إطلاق النار، قدّمها وفد الفصائل الثورية الذي غادر أنقرة إلى الشمال السوري، بعد تقديمه هذا المقترح. وبعد يومين، توصلت تركيا وروسيا إلى مسودة اتفاق حول وقف إطلاق نار شامل، وإطلاق مسار مفاوضات في العاصمة الكازاخية أستانة. عرضت المسودة على قادة فصائل من الجيش السوري الحر، ليقرروا التوقيع على الاتفاقية في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2016.
قمت في أنقرة، مفوضا من 14 فصيلاً ثوريا في شمال سورية وحمص وريف دمشق وحماة بالتوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار، يتبعه مفاوضات لأجل القضايا الإنسانية العالقة، وفي مقدمتها المعتقلون والمناطق المحاصرة، وبعدها بأيام وقعت الجبهة الجنوبية الاتفاقية.
بعد توقيع الاتفاق، سعت الفصائل الموقعة إلى التشاور مع طيفٍ واسع من الفاعلين في الثورة السورية، من نشطاء وقادة للرأي العام في الداخل. وبمساعدة الحكومة التركية، تمت الدعوة إلى لقاء كبير في أنقرة، شارك فيه أكثر من خمسين شخصية فاعلة في المعارضة من ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية والهيئة العليا للمفاوضات، وأيضاً في الميدان. وقد جرت في الاجتماع، وعلى مدار يومين، مداولات ونقاشاتٌ قررت بعدها الفصائل الثورية الموافقة على المشاركة في مفاوضات أستانة بوفد ضم كل الفصائل السورية، بما فيها الجبهة الجنوبية، عدا حركة أحرار الشام.
وكان قرار الموافقة على المشاركة في المفاوضات يستند إلى عامل جوهري، وهو أن عدم الذهاب يعني عودة السلاح الروسي إلى المواجهة العسكرية المباشرة وعودة الطيران الروسي إلى ممارسة ما يتقنه من قتل للسوريين بالنابالم والفوسفور الأبيض، ليبدأ بعد ذلك مسار أستانة بتفاصيله الإشكالية جداً.
(4)
كان واضحاً أنه بعد حلب بدأ فصل آخر من تغريبة السوري المتروك إلا من الأعداء، ولتبدأ الثورة السورية مرحلة جديدة وخطيرة، على المستويات كافة.