بينما تمر المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية اليوم بمراحلها الأخيرة، يزداد تعقيد المشهد السياسي بشكل كبير، خصوصا أن الأطراف التي تحارب "داعش" اليوم في سورية كثيرة، وعلى عداء فيما بينها، حيث تحاصر قوات الحماية الكردية مدينة الرقة، العاصمة الرئيسية لداعش في سورية، بتعاون وتغطية جوية كاملة من الولايات المتحدة، بينما تحاصر قوات النظام السوري، بتعاون وتغطية جوية كاملة من روسيا، "داعش" في مدينة دير الزور، وتمكّنت، أخيرا، من عبور نهر الفرات، لتستكمل حصار "داعش" في دير الزور التي يطلق عليها "داعش" ولاية الخير، لأنها تمثل مصدرا لموارد زراعية ونفطية كثيرة لـ "داعش" خلال سيطرتها على المدينة.
انتهى هذا الأسبوع في نيويورك، وعلى هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، لقاء ما يسمى أصدقاء الشعب السوري على المستوى الوزاري، وكان لافتا قول وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، عقب الاجتماع، إن بريطانيا والدول الغربية "لن تساهم في عملية إعادة إعمار سورية ما دام الأسد في السلطة، وأنها تسعى إلى تحقيق عملية انتقالية بدونه".
يبدو الموقف البريطاني، ومن خلفه الغربي، ثابتاً في عدم قبول الأسد. لكن، وفي الوقت نفسه، يبقى الموقف الغربي ثابتاً أيضا في عدم اتخاذ أي إجراء يجبر الأسد على التنحّي، ويسمح بالبدء بمرحلة انتقالية. وبالتالي، يبدو موقف "مجموعة أصدقاء سورية" مكرّراً على مدى السنوات السبع الماضية، من دون أن يكون له تأثير على الأرض، أو على المسار السياسي الآخر الذي تقوده روسيا، ويسعى بشكل رئيسي إلى إعادة الاعتبار للأسد، وتقويته سياسيا وعسكريا، عبر قضم المناطق الخارجة عن سيطرته رويداً رويداً. عسكريا، بفضل القوة العسكرية المتفوقة. وسياسياً، عبر ما يسمى فرض خفض مناطق التصعيد، بما يفتح الباب لما تسمى المصالحات المحلية التي تعني، أولاً وأخيرا، إعادة بسط سيطرة خدمات النظام السوري على هذه المناطق بحكم عدم قدرة المعارضة على تأمين الاحتياجات الأساسية لها، أو توفير الخدمات الضرورية من ماء وكهرباء وغيرها.
ويترافق ذلك مع الرغبة الروسية في تنحية مفاوضات جنيف، تحت مظلة الأمم المتحدة، وتقوية مسار أستانة الذي يهدف إلى تنفيذ مناطق خفض التصعيد في سورية. وكانت النتيجة واضحة، فاجتماعات جنيف السبعة لم تسفر عن أي تقدم على المستوى السياسي، أو حتى الإنساني، وغالبا ما كانت تقود إلى فشل ذريع، بسبب رفض النظام السوري بحث أي من السلال الأربع التي تحدث عنها المبعوث الأممي، ستيفان دي مستورا، مراراً، وهي: تشكيل حكومة غير طائفية خلال ستة أشهر، صياغة الدستور، انتخابات خلال 18 شهراً بإشراف أممي. وأعلن دي ميستورا أنه تم الاتفاق على سلة رابعة تركز على محاربة الإرهاب، والعمل على إجراءات بناء الثقة بين الطرفين. لم يتحقق تقدم في أي من هذه السلال، وغالبا ما انتهت الاجتماعات في جنيف بشكل عدائي أكثر مما تشير إلى اقتراب الأطراف إلى حلول وسط، ما كان يكشف باستمرار عدم جدية نظام الأسد في الدخول في عملية سياسية في جنيف، تقود إلى حل سياسي.
وبديلا عن ذلك، ضغطت روسيا على نظام الأسد، من أجل إنجاح مسار أستانة الذي أصبحت لقاءاته تعقد بانتظام. وكان لافتاً تصريح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل آخر جولات مفاوضات أستانة "أن الأزمة السورية في مراحلها الأخيرة"، ما يدل، بشكل كبير، على أن تركيا أيضا، وليس روسيا فحسب، أصبحت تضع كل ثقلها في مسار أستانة، ولا ترى في مسار جنيف أملا قد يقود إلى حل سياسي قريب للأزمة السورية.
كان لافتاً جداً، على مدى الشهر الماضي، تطور الأمور في سورية، وفي الحرب ضد "داعش" هو تقدم قوات النظام وعبورها نهر الفرات من أجل استكمال حصار مدينة دير الزور، وطرد "داعش" منها. وكانت لافتةً الوجهة بحد ذاتها، فعلى مدى السنوات السبع الماضية كانت أولوية الجيش النظامي السوري القضاء على المعارضة السورية المسلحة، بأي شكل، وأي ثمن، ومهما كانت التكلفة من المدنيين. ولذلك شنت القوات النظامية فظائع وجرائم لا تحصى في المدن السورية التي خرجت عن سيطرة النظام، فأخضعتها لحصار خانق، منع خلاله الماء وإدخال أية مساعدات إنسانية، كما جرى في مضايا وداريا والمعضمية وحمص وغيرها، ما أدى إلى مقتل آلاف المدنيين، فضلا عن إمطار هذه المناطق ببراميل متفجرة فتكت بألوف المدنيين، وفقا لإحصاءات الأمم المتحدة. ولم يكترث النظام السوري لتمدّد "داعش" في الأراضي السورية سنوات، بل كان مصدر التمويل الرئيسي للنظام، فعائدات حقول النفط التي كان يسيطر عليها "داعش" كانت تباع في مناطق النظام، وتبدو معركة تدمر الاستثناء الوحيد تقريبا في تاريخ الاصطدام العسكري بين النظام السوري و"داعش" خلال السنوات الخمس الماضية، والتي كانت أولوية "روسية" بشكل رئيسي، لتبرير تدخلها العسكري في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015.
لذلك، ظهرت فجأة قوات النظام التي بدت منهكة تماماً في حصار المدن السورية المختلفة وقصفها، وهي قادرة على عبور نهر الفرات السوري، من أجل فك الحصار عن القوات النظامية المحاصرة في مطار دير الزور العسكري. ولم يكن ذلك ليحدث، لولا الإسناد الجوي للقوات الروسية، ورغبة النظام في وقت تمدّد الكرد على حساب مناطقه، والمناطق التي يسيطر عليها "داعش"، فقد بدأ النظام يستشعر أن "سورية الموحدة" انتهت، وبدون رجعة، وأن الولايات المتحدة وروسيا لن تسمحا بسورية القديمة، كما كانت قبل عام 2011.
اجتاز الدخول العسكري الروسي المباشر على خط الأزمة السورية عتبة عامه الثالث، محققاً جملة طويلة من المكاسب الحربية والسياسية، كانت ذروتها معركة حلب الكبرى، وما ترتب على هذه المعركة من تداعياتٍ واسعة، خاطبت مختلف الأطراف المحلية والإقليمية المنخرطة في الصراع المديد. وشكلت، في حد ذاتها، خطوة نوعية في مسار المواجهة على الجهة الأكثر أهمية بين جبهات الثورة السورية على نظام بشار الأسد، ونعني بها الجبهة الشمالية، ذات الثقل العسكري الراجح، والتداخل الجغرافي المعقد، والحضور الإقليمي المتنوع، وهو ما أدى إلى نقطة تحول فارقة في مجريات الحرب السورية.
بدأ التدخل الروسي بضربات جوية كثيفة، مركزة على مواقع كتائب المعارضة السورية المسلحة، مع أن ذريعة هذا التدخل كانت الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وغيره من المجموعات المصنفة دولياً منظمات إرهابية، وحددت موسكو أجل تدخلها الزمني بفترة تتراوح من ثلاثة أشهر إلى أربعة، استدراكاً لأي التزامٍ بحرب طويلة قد تورط روسيا في أفغانستان جديدة، إذا أتت العواقب الأولية على غير ما تشتهي سفن الكرملين، وربما لتلافي حدة ردود الفعل الغربية على عودة الدب السيبيري إلى الشرق الأوسط، بعد غياب طويل عن المنطقة الواقعة تحت النفوذ الأميركي وحده.
طوال السنة الأولى من هذا التدخل، الذي كان يزداد اتساعاً ووحشية مع مرور الوقت، أخفقت الضربات الجوية الروسية الكثيفة في قلب المعادلة، أو حتى تغيير موازين القوى على الأرض، وإن كانت قد نجحت في إيقاف تقدم فصائل المعارضة نحو المواقع الأخيرة لقوات النظام المتهالكة، لا سيما في المناطق والمحافظات الشمالية، الأمر الذي تطلب زيادة مضطردة في كثافة الطلعات الجوية التي راحت تعمل على تأمين التغطية المتزايدة، بدورها، لأعداد إضافية من مليشيات إيرانية تضاعف قوامها، وانفتحت شهيتها أكثر من ذي قبل، للانخراط أعمق، بفضل الغطاء الجوي الروسي.
كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يسعى، منذ بداية مغامرته الحربية هذه، إلى التقاط صورة نصر في الميدان، يبرّر فيها لنفسه هذا التدخل المحفوف بمخاطر لا يمكن التنبؤ بها سلفاً، وتعطيه هامشاً للمناورة السياسية في نطاق أوسع من حدود الرقعة السورية، وهي صورة ظلت بعيدة المنال إلى أن وقعت معركة حلب، وأسفرت، في جملة ما أسفرت عنه، تدشين أول مسعى دبلوماسي روسي من نوعه، لتحويل النتائج الحربية في الميدان إلى مكاسب سياسية حول المائدة التفاوضية، على نحو ما عبر عنه مسار أستانة، الذي رسمته موسكو بعناية فائقة، للانفراد بأوراق اللعبة السورية، وإملاء رؤيتها على جميع المتورطين في اللعبة الدامية.
بدا المسعى الروسي في أستانة بالغ التعثر أول الأمر، وعديم الجدوى من وجهة نظر مراقبين كانوا يرون أن هذا المسار ذا الأهداف العسكرية التكتيكية، المتمثلة في الهدن الجزئية ومناطق خفض التصعيد، بديل ملفق، أو قل خيارا لا يشكل بديلاً لمؤتمر جنيف، المخصص لإيجاد تسوية سياسية مبنية على قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة بالأزمة السورية، غير أن عدم الاكتراث الأميركي، حتى لا نقول إدارة الظهر لهذه الأزمة التي بدت كأنها في عهدة موسكو حصرياً، قد مكّن الدبلوماسية الروسية من تطويع قوى المعارضة، ناهيك عن اللاعبين الإقليميين، بمن فيهم الأتراك على وجه الخصوص.
وهكذا حققت روسيا في العام الثاني من تدخلها في الأزمة، ما لم تتمكن من بلوغه في السنة الأولى، لا سيما عندما استطاعت أن تجلب إلى مائدة أستانة فصائل معارضة خسرت جولة حلب، وراحت (هذه الفصائل) تبحث عن فتات مكاسب شبه مستحيلة، وفق ما كانت تشير إليه الوقائع السلبية على الأرض، وما تؤكد عليه التحولات السياسية المتعاقبة في المحيط المجاور، الأمر الذي أسس لمرحلة جديدة من الوجود الروسي في سورية، قوامه قواعد جوية وبحرية، وتقاسم نفوذ مع الولايات المتحدة، وحضور عسكري متزايد في الميدان الذي أصبح حقل رماية مثاليا لتجريب الأسلحة الحديثة.
وزاد من فرص نجاح الجهد الروسي المكثف على الأرض، وحول المائدة السياسية، إخفاق قوى الثورة والمعارضة السورية في تنظيم نفسها بصورة أفضل، لمقابلة الأخطار الساحقة الجديدة، إن لم نقل إن هذه القوى تشتتت أكثر فأكثر، على الرغم من جسامة التحديات المضافة إلى جبل تحدياتها السابقة، ناهيك عن احتدام المنافسات الداخلية على حضور هذا المؤتمر، وتصدر واجهة ذاك الاجتماع، فضلاً عن تفاقم النزاعات الحادة بينها، ووصول المواجهات البينية حداً لا سابق له طوال السنوات الست السابقة، على نحو ما حدث، ولا يزال يحدث، في الغوطة الشرقية، وفي مناطق شمالية عديدة، بما في ذلك إدلب.
ومن سوء طالع قوى الثورة والمعارضة السورية، وقوع الأزمة الخليجية المؤسفة والمؤلمة في أوائل يونيو/ حزيران الماضي، حيث كانت أول ارتدادات هذه الأزمة قد تمثلت في انعكاسها على الأوضاع السورية، خصوصاً وأن دول الخليج العربي كانت تشكل قاعدة الإسناد الأخيرة لثورة خسرت حاضنتها الرئيسة، إثر الاستدارات التركية، وتدهورت أحوالها الذاتية بشدة، في وقت كانت تشتد فيه الحاجة للدعم السخي أكثر من ذي قبل، وتتطلب معه التبدلات في الواقع الإقليمي وجود ثقل سياسي يوازي كثافة الحضور الإيراني، وموازنة تغوله على أقل تقدير.
وفي المحصلة غير النهائية لعامين صاخبين من التدخل الروسي في الأزمة السورية، نجد أن موسكو انفردت بمفاتيح الحل السياسي السوري المرتقب، ولو بعد لأي شديد، وأنها قد صعدت درجة أو أكثر على منصة التتويج دولة كبرى تزاحم الدولة العظمى الوحيدة في واحدةٍ من أهم المناطق المحسوبة على الولايات المتحدة تقليدياً، وتمكّنت من عرض نفسها لاعبا دوليا مسلّما بدوره العالمي، واستعرضت أسلحتها الحديثة واختبرتها بكثافة منقطعة النظير. وفوق ذلك كله، همّشت المعارضة، ولعبت بها ببراعة، ومنعت سقوط نظام بشار الأسد في المدى المنظور.
غير أن كل هذه المكاسب الروسية التي تراكمت في السنة الثانية من تدخل موسكو، المقدر له أن يطول، لم تتمكن من وضع نهاية لهذه الأزمة المعقدة، ولم تنه تنظيم الدولة الإسلامية بصورة حاسمة، أو تحتوي القوى الكردية الصاعدة، ولا الجماعات الجهادية المؤثرة، فضلاً عن الفصائل الثورية التي لا تزال ترابط في مناطق جغرافية متفرقة عديدة، بكامل عدتها وعتادها ونزعتها القتالية المحصنة، الأمر الذي يعني، على طول الخط المستقيم، أننا لا نزال بعيدين عن خط النهاية المؤكدة، وأن على موسكو أن تبذل مزيدا من المال والدماء، كي تدعي النصر، وتزعم أن مقارباتها كانت ناجحة، وأن سياستها السورية كانت صائبة.
(1)
مع بدء وصول طلائع قوات الاحتلال الفرنسي إلى دمشق، قرر العقيد يوسف العظمة، مع عدد من رفاقه، خوض معركة استقلال الوطن، فكانت معركة ميسلون التي استشهد فيها العظمة ورفاقه. وفي الوقت نفسه، رفض بطريرك الروم وسائر المشرق، غريغوريوس حداد، طلب القائد الفرنسي غورو في لقاء بينهما، بينما كان بعض مؤيدي صبحي بركات الذي عينه الانتداب رئيسا لحكومة سورية يضعون أنفسهم مكان البغال التي تسحب عربة غورو، تعبيرا منهم عن الترحاب الحار بقوات الانتداب الفرنسي، وعن "الواقعية السياسية" التي تستند إلى قاعدة "العين لا تقاوم المخرز". اليوم، بعد مئة عام، لا يزال اسم معركة ميسلون خالدا، ويعيش يوسف العظمة ورفاقه الأبطال في جوارح السوريين، على اختلاف طوائفهم واحدا من رموز الاستقلال، بينما إذا سئل سوريون كثيرون عن معرفتهم بصبحي بركات ربما لن يذكره أحد.
(2)
في إبريل/ نيسان 2011، وبعد أحداث الجمعة العظيمة التي التهبت فيها شوارع محافظات سورية، باحتجاجات مدنية سلمية تطالب برحيل الأسد ونظامه الأمني، بدأ النظام يطلق مبادرات الحوار السوري، محاولا احتواء ثورة السوريين، ثورة ملايين من الشباب الطامح إلى بلد متطور حر وكريم، وثورة المظلومين المقهورين على الجلاد، وثورة من ابتدأوا الكفاح قبل آذار بعشرات السنين، وقضوا في معتقلات الأسد الأب سنين طويلة، ليخرجوا إلى الحرية، بعد تنصيب الأسد الابن على كرسي الدم. وقد حدثني الأستاذ جورج صبرة أنه، قبيل إطلاق سراحه من سجن القلعة التابع للمخابرات العسكرية في دمشق، كانت مخابرات الأسد قد أتت بعشرات من شباب كفرسوسة ودوما كانت قد اعتقلتهم بسبب المظاهرات. نادى أحدهم، وهو مضرج بدمائه نتيجة التعذيب الوحشي، جورج صبرة قائلاً: أستاذ جورج دير بالك... لا حوار مع الأسد.
في يوم السبت 21/5/2011، تلقيت اتصالا من يحيى شربجي، أبلغني فيه أن قيادات بعثية في مدينة داريا طلبت منه أن يحضر ناشطين من داريا إلى لقاء في مقر اتحاد الفلاحين في المدينة بين وجهاء داريا ومسؤولين من نظام الأسد، لحل قضية المعتقلين والمداهمات الأمنية. وبعد اجتماع مطول في أحد بساتين داريا مع مجموعة من نشطاء داريا، بينهم يحيى وغياث مطر وإسلام دباس ومجد خولاني، قررنا حضور الاجتماع بوفد من خمسة أشخاص، كنت أحدهم. وتم اللقاء في اليوم التالي، وكان الضابط الدمشقي في القصر الجمهوري، حسام سكر، ممثل الأسد. وبعد سرد طويل من الأكاذيب، مغلف بوعيد مفاده بأن الجيش الذي دخل درعا بإمكانه متى شاء دخول داريا، أنهى سكر حديثه بدعوتنا إلى زيارة بشار في قصره، لبحث طموحات شباب داريا.
من دون مداولات أو بحث، كان جوابنا أن داريا ليس فيها مشكلة اقتصادية أو اجتماعية، وأن مشكلتها هي ما يجري بحق أهلنا في حوران وبانياس، وأنه لا داعي لحوار أو لقاء حتى ينفذ مطلب الأهل هناك. وأرفقنا الجواب بأسطوانة ليزرية تتضمن فيديو لاقتحام المخابرات الجوية مدينة داريا يوم جمعة أزادي وعملية قتل الشهيد أحمد زهير العزب وإطلاق النار المباشر على المتظاهرين.
انتهى اللقاء بابتسامة باردة من سكر الذي دهم هو وزملاؤه، بعد أيام، منازلنا واقتادونا جميعا إلى مطار المزة.. ولا يزال الرفاق كلهم في السجن، بينما خرجت على قدميً، وخرج غياث مطر جثة.
(3)
على وقع المظاهرات الثائرة من حوران، وصولا إلى داريا والمعضمية والميدان وكفرسوسة إلى جوبر والغوطة الشرقية إلى حمص وبانياس وإدلب وجبل الزاوية وجبلة الأدهمية. وعلى وقع زج مئات من شباب سورية ورجالها وأطفالها في أقبية السجون، وتسبيح كثيرين من خطباء المساجد والكنائس بحمد بشار، أطلق النظام مؤتمر الحوار مع المعارضة في فندق سميراميس في دمشق، وطغت فيه شعارات "البعث" بأبدية حكم الأسد، وتم فيه الاعتداء على من رفع صوته بتبني مطلب المتظاهرين بإسقاط النظام، واعتقل بعده من شاركوا في المؤتمر من أصحاب القضية الثورية.
في الثامن من يوليو/ تموز 2011، قرّر الشعب السوري أن يرد على دعوات الأسد ومخابراته إلى الحوار السوري السوري، حيث ارتفعت أصوات مئات آلاف المتظاهرين في حماة ودير الزور والقامشلي ودمشق وحمص ودرعا وريف دمشق، تحت شعار: "لا حوار مع الأسد". وعلى الرغم من حملة أمنية دموية، شنها الأمن الأسدي، استشهد فيها أكثر من 26 متظاهراً من أبناء حماة التي كان قد وصل إليها السفيران الأميركي والفرنسي، خرجت واحدة من أكبر المظاهرات هناك على ضفاف العاصي، لتعلن بصوت هادر قرار كل السوريين من أقصى جنوب حوران إلى أقصى شمال دير الزور والقامشلي: بدكم بشار؟... لا والله. بدكم إيران ؟… لا والله.
في أثناء وجودي في سجن المخابرات الجوية في بداية إبريل/ نيسان 2011، كانت المخابرات الجوية، وقبل إخلاء سبيل أي معتقل، تتأكد من عدم وجود علامات تعذيب شديد على جسمه. وكان واضحاً أنهم مازالوا يجهلون طبيعة الرد الدولي على مجريات الأحداث في سورية. أخلي سبيلي بعد أيام من الاعتقال. وبعد أقل من شهرين، اعتقلت للمرة الثالثة التي طالت حتى منتصف 2012، وكانت أيضا في المخابرات الجوية. والعلامة الفارقة أن التعذيب يفوق ما شهدته سابقا بمراحل مهولة، وكان من الطبيعي أن يقتل أي معتقل تحت التعذيب، بل شهدت تعذيب أحد علماء الشام، وكان يتجاوز السبعين عاما، حتى فارق الحياة نازفاً.. سألت نفسي: ما الذي تغير خارج السجن حتى صاروا بهذه الشراسة واللامبالاة بأرواح المعتقلين؟
وجدت إجابتي عندما خرجت: ما حصل باختصار أن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، أندرياس فوغ راسموسن، صرح ثلاث مرات بأن لا نية للحلف للتدخل في سورية. ما حصل أن سفراء ولجان مراقبة أممية وعربية دخلت إلى المدن، وشهدت سحل المتظاهرين، وخرجت وكأن على رؤوسها الطير من دون أي إجراء. ما حصل أن سفراء ست دول، بينهم سفير أميركا، زاروا عزاء ناشط سلمي بارز في داريا، هو غياث مطر، وشهدوا اقتحام الأمن مكان العزاء في أثناء مغادرتهم، من دون أي حراك. ما حصل أنهم شهدوا أقبح مجزرة في العصر الحديث بحق المدنيين القاطنين بجوار أقدم عاصمة في التاريخ، واكتفوا بسرقة جزء من سلاح الجريمة، وتركوا البقية للمجرم، ليستمر بالعربدة على شعبه، ويستمروا هم في لعبة الأعمى.. والضحية. ما حصل أنهم قالوا له: اقتل اقتل اقتل، وسنبذل جهدنا في ألا نرى جرائمك والأدلة عليها. سنكذب على الضحايا بالتحقيقات وعدم كفاية الأدلة، ونتحجج باستعمال روسيا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، ونبرر مشاركتنا في قتلهم بمحاربة الاٍرهاب. .. اقتل، إننا معك من القاتلين.
عمليّاً، تولى المجتمع الدولي مهمة تحديد حجم القتل المسموح به ووسائله، ولا يعنيني كضحية البحث في أن ذلك متعمّد أم غير متعمد.
.. بعد وصول جثمان غياث مطر الذي اهتزت داريا لاستشهاده، وكان منكلا به من عناصر مدير إدارة المخابرات الجوية، جميل حسن، إلى منزل أهله، أرسل النظام تعزيزات أمنية وعسكرية ضخمة، لمنع تشييع الشهيد الذي اقتصر على أهل الشهيد فقط، لتبقى قوات الأمن محاصرة خيمة العزاء التي وصل إليها سفراء خمس دول، بينهم سفراء أميركا وفرنسا وألمانيا، سريعاً ما تبدل طغيان عناصر الأمن إلى خوف، فمنهم من اختبأ في حاوية القمامة، ومنهم من اختبأ تحت السيارات، فقط حتى لا يرى سفراء دول عظمى جرائمهم التي وصلت إلى حد التضييق على خيمة عزاء. لم يدم ذلك الخوف طويلاً، فمع مغادرة السفراء، عادت قوات الأمن لتقتحم العزاء، وتعتقل أقارب للشهيد، وناشطين ما زالوا في سجون الأسد، وليس معلوما ما إذا كانوا من بين من صوّرهم سيزر أم ما زالوا أحياء في قبور المخابرات. وقد قال لي أحد أقارب من اعتقلوا ذلك اليوم: ما الفائدة من زيارة السفراء سوى أن من تم اعتقالهم اتهموا بالتخابر مع جهات أجنبية، وهذه الجهات الأجنبية (العظمى) لم تستطع أن تنجد الثورة، ولا حتى أنجدت من جرّت عليهم حقداً إضافيا لحقد النظام على كل منطقة ثائرة، بل حتى عجزت الدول التي حضر سفراؤها إلى العزاء عن أن تخرج معتقلاً واحداً؟
في القانون، ليست الجريمة فقط هي عندما تقدم على فعل يخالف القانون. الجريمة تكون أحيانا بامتناعك عن القيام بواجباتٍ يفرضها القانون ومبادئ الإنسانية... هكذا قتلنا العالم، وترك دمنا المستباح لسلاح الأسد وحلفائه.
هذه الوحشية التي أمعن النظام في إنزالها بأبناء الشعب السوري، قابلها إمعان من المجتمع الدولي بتجاهل الجرائم تارة، وبالتسليم بها تارة أخرى، مع قليل من التنديد والشجب. ولكن بالقدر الذي لا يؤثر على سير الجرائم، وفق مسار يحقق المآل المطلوب في إضعاف المعارضة قبيل إطلاق مفاوضات جنيف، وتحويل الحرب في سورية من حرب ضد الاستبداد والدكتاتورية إلى حربٍ ضد الإرهاب، ما أدى إلى بروز اتفاقيات هدنة وتهدئة في عدة مناطق وتهجير قسري في مناطق أخرى.
(4)
بدأت مرحلة جديدة من الصراع، تصاعدت فيها حدة جرائم الأسد بحق المناطق الثائرة، لتصل إلى ذروة وحشيتها بارتكاب مجازر الذبح بالسكاكين، في كل من ريف حماة وحمص ودير الزور، وصولاً إلى مجزرة الكيميائي في الغوطة، إلى إطباق الحصار على مناطق حمص وريفها وريف دمشق، ووضع المدنيين فيها بين خياري الموت جوعا أو الموت بقصف البراميل والكيميائي.
لعل أخطر الرسائل الدولية على الشعب السوري، وأكثرها خدمة لمشروع قتل السوريين الذي قاده الأسد، الخط الأحمر الذي رسمه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، والذي كان في حقيقة الأمر هامشاً واسعاً للقتل وأدواته المرّخص للأسد استعمالها. وعندما تجاوز الأسد ذلك الهامش بمجزرةٍ تعد من أكبر مجازر القرن الواحد والعشرين، اكتفى أوباما بسحب سلاح الجريمة، في تأكيدٍ منه أنه في وسعك القتل كيفما شئت، وقدر ما شئت، لكن لا تتجاوز قائمة أدوات القتل المحدّدة.
وعلى الرغم من استمرار فارق التسليح والدعم بين ما قدمه حلفاء الأسد للمجرم، بالمقارنة مع ما قدمه حلفاء الثورة لأصحاب القضية الحق، وتراجع دول كثيرة عن مواقفها الداعمة لقضية الشعب السوري في تغيير ديمقراطي، وتحقيق سورية مدنية ديمقراطية تعددية، ودخول روسيا وإيران وخليط إجرامي من مليشيات طائفية متعدّدة الجنسيات، في مقدمتها تنظيم حزب الله، على الرغم من ذلك كله، استمرت عمليات الثوار في المقاومة والتصدي ومعارك التحرير والدفاع، الأمر الذي دفع الأسد وحلفاءه إلى بدء استراتيجية تدمير المدن السورية فوق رؤوس أهلها، وإطباق الحصار الكامل عليها، لدفع الثوار وإجبارهم على الانسحاب منها.
(5)
طموح الثورة في إسقاط الأسد، وإحداث التغيير الحقيقي في نظام الحكم، وتحقيق الحرية والعدالة لكل السوريين من خلال حكومة ديمقراطية، لم ولن يكون محلا للتفاوض، لكن بعد أن واجه الشعب الثائر، وحيداً طوال سنين، المذبحة الأكثر دمويةً في القرن الواحد والعشرين، انخرطت المعارضة السياسية والعسكرية في مسارات تفاوض تنظر إليها على أنها بشأن كيفية رحيل الأسد، بما يؤمن تحقيق هذه الغاية مع أقل قدر ممكن من الخسائر، لكن الواضح أن العالم يستثمر قبول السوريين مبدأ المفاوضات بدفعهم إلى التنازل عن جذر القضية، وهو رحيل الأسد. وربما سيجد كثيرون في الموت خياراً أكثر منطقية، وربما سيجد آخرون من حملة الهمّ الوطني في الهزيمة خياراً.. لكن بالتأكيد لن تكون الخيانة خيار أي ثائر.
قبل أكثر من ثلاث سنوات تقريباً وقبل أن يتضح مخطط التهجير المنظم للسوريين من بلدهم، قال لي أحد الباحثين السوريين المرموقين إننا مقبلون على ما أسماه بهندسة سكانية ديمغرافية مبرمجة يشارك فيها النظام السوري نفسه لإفراغ سوريا من سكانها المسلمين وإعادة رسم الخارطة السكانية في سوريا خدمة لمصالح داخلية وخارجية متشابكة. لكن بصراحة ظننت وقتها أن الأخ جورج يهرف بما لا يعرف، أو أنه غارق حتى أذنيه في نظرية المؤأمرة، إلا أن الأيام أثبتت أن ما قاله جورج قبل أكثر من ثلاث سنوات أصبح حقيقة تفقأ العيون بشهادة رأس النظام السوري نفسه، وفيما بعد على لسان أحد أشهر ضباط الحرس الجمهوري العميد عصام زهر الدين.
لم نعد بحاجة لبراهين وأدلة كثيرة كي نتأكد من أن جهات عديدة تعمل معاً على تهجير السوريين من بلدهم بتواطؤ لا تخطئه عين من رأس النظام وكبار مسؤوليه. لقد كان أول تلميح صريح للقصة على لسان بشار الأسد نفسه عندما قالها صراحة: إن سوريا ليست لمن يحمل جنسيتها بل لمن يدافع عنها. وبما أن ملايين السوريين نزحوا داخلياً أو لجأوا إلى الخارج خوفاً من البراميل والقصف الأسدي والروسي والإيراني، فهذا يعني في عرف رأس النظام أنهم خونة وعملاء، وبالتالي لم يعد لهم مكان في سوريا لسبب بسيط، وهو أنهم لم يتحملوا براميل الأسد، أو أنه كان لزاماً عليهم أن يبقوا في سوريا لحماية عرش النظام المتداعي في دمشق، وبما أنهم تركوا سوريا للحفاظ على حياتهم، فقد أصبحوا غير مرغوب بهم الآن في سوريا، وصارت بيوتهم وأملاكهم حلالاً زلالاً على الميليشيات الأجنبية التي تحمي النظام القادمة من إيران ولبنان والعراق وأفغانستان وكوريا الشمالية وباكستان. وقد لاحظنا أن النظام أوعز لشبيحته وكلابه منذ اليوم الأول بالاستيلاء على أملاك وأرزاق السوريين المعارضين أو حتى الهاربين من جحيم الحرب، فهو لم يكتف بتهجيرهم وتدمير أملاكهم أو مصادرتها، بل عاقبهم بالمنع من العودة إلى وطنهم.
ولمن ظن أن تصريح الأسد الأول بأن سوريا لمن يدافع عنها كان عابراً فهو مخطئ، فقد تحدث الأسد لاحقاً إلى صحيفة صربية قائلاً إن سوريا غدت أكثر صفاء، وهو يقصد أن سوريا أصبحت أفضل بعد تهجير نصف سكانها من المسلمين حصراً. ثم وضع الأسد النقاط على الحروف دون أن يرمش له جفن عندما قال إننا ربحنا من الحرب مجتمعاً متجانساً، وهو يقصد بذلك أنه يريد لسوريا الجديدة أن تكون من الموالين فقط، وخاصة أبناء الأقليات، وليذهب نصف الشعب السوري من اللاجئين والنازحين إلى الجحيم.
ولم يتأخر الضابط الكبير في الحرس الجمهوري عصام زهر الدين حتى كرر حرفياً وبلغة ليس فيها أي لبس بأن النظام لا يرحب بعودة أي لاجئ سوري. وقد أثار تصريح زهر الدين جدلاً كبيراً عندما هدد ملايين اللاجئين بالقتل إذا فكروا بالعودة إلى سوريا، وبأنه والشبيحة سيحاسبون اللاجئين حتى لو قبلت الدولة بعودتهم. ولو لم يكن لدى زهر الدين الضوء الأخضر لما قال ما قال بشكل صارخ. وحتى عندما تراجع عن تصريحه لاحقاً، فإن السوريين جميعاً باتوا يعرفون أن زهر الدين يمثل وجهة نظر النظام الذي يرفض عودة اللاجئين السوريين كما رفضت إسرائيل عودة اللاجئين الفلسطينيين.
والغريب في الأمر أن تصريحات بشار الأسد وزهر الدين تتلاقى بطريقة عجيبة مع تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما طلب من الدول التي تستضيف ملايين اللاجئين السوريين بأن تقوم بتوطينهم، مما يعني أن عملية تهجيرهم من سوريا كانت منظمة وممنهجة بالاتفاق مع النظام لتفريغ سوريا من سكانها المسلمين.
واضح تماماً أن صمود الأسد حتى الآن ليس بقوة نظامه، بل لأنه على ما يبدو ينفذ مهمة دولية تتمثل في إعادة رسم الخارطة السكانية لسوريا خدمة لمشاريع خارجية كبرى.
يقولون في واشنطن إن طالما الثلاثي العسكري Military trio يمسك زمام السياسة الخارجية الأميركية، ليس مهماً ما يقوله الرئيس دونالد ترامب عن وزير خارجيته ريكس تيلرسون ولا ما ينفي تيلرسون أنه قاله عن ترامب. البعض يصر على أن الرئيس عازم على تولية سفيرته لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، منصب وزير الخارجية ليس فقط لأنها تشبهه في مواقفها المتشددة نحو كوريا الشمالية أو الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بل لأن في باله إرسال مستشارة البيت الأبيض ونائبة مستشار الأمن القومي دينا باول، إلى الأمم المتحدة لإنقاذها من التحقيقات الفيدرالية في خلفية الاتصالات المشبوهة مع روسيا. والبعض الآخر يجزم بأن ترامب مستاء من هايلي ويعتبرها من «العيار الخفيف» ولن تصبح وزير خارجية. كلام الترحيل والعزل والإقالة والاستقالة بات يشبه مسرحية كوميدية– تراجيدية لكنه لن يهدد الأمن القومي الأميركي لأن «التريو العسكري» يدير الأمور، والرئيس مرتاح إلى ذلك طالما الأسس متفق عليها. هذه الأسس هي، بحسب مصدر مطلع، أولاً، حماية الوضع الراهن في السياسة الأميركية الخارجية بما في ذلك الاحتفاظ بالاتفاق النووي مع إيران مع محاولة تجميله أو إصلاحه. ثانياً، التفاهم مع روسيا بالذات في سورية ثم في أماكن أخرى. ثالثاً، احتواء المفاجآت.
هناك في واشنطن مَن يعتقد أن صمام الأمان الذي يحمي السياسة الخارجية الأميركية من الفوضى هو ريكس تيلرسون. يقول هؤلاء إن دونالد ترامب ليس عاقلاً ولا متماسكاً وإنما هو بطبيعته فوضوي واعتباطي وخطير، وإن تيلرسون يجب أن يبقى وزيراً للخارجية لأنه صمام الأمان.
بعض الذين يحترمون ويقدّرون ريكس تيلرسون يطالبونه بالتنحي عن المنصب لأنه بات «معطوباً»، بعدما هزّأه ترامب علناً أكثر من مرة آخرها عندما قال ساخراً: «قلت لريكس تيلرسون، وزير خارجيتنا الرائع، إنه يضيّع وقته وهو يحاول أن يتفاوض مع الرجل الصاروخ الصغير»، إشارة الى زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون. سبق وقطع الرئيس الطريق على وزير خارجيته في أكثر من مناسبة وحجّم المواقف التي يتبناها مثل تلك المعنية بالأزمة القطرية حين وافق ترامب رأي السعودية والإمارات ومصر والبحرين فيما اتخذ تيلرسون مواقف وسطية.
هذا الأسبوع، اضطر تيلرسون أن يتأقلم مع الواقع. فضّل الاحتفاظ بالمنصب بشروط تم إملاؤها عليه. «استسلم. كتبوا له النص الذي عليه الالتزام به، وخضع»، قال أحد المراقبين في واشنطن، مشيراً إلى الثلاثي صانع القرار الأساسي للسياسة الخارجية. تيلرسون نفى قطعاً أنه وصف الرئيس بأنه «مغفل»، وأكد أنه لم ينوِ أبداً الاستقالة كما ذكرت التقارير الصحافية، وقال: «لم تخطر ببالي أبداً فكرة الرحيل. عيّنني الرئيس وأنا باقٍ طالما أن الرئيس يعتقد أنني يمكن أن أكون مفيداً من أجل تحقيق أهدافه».
هذا يعني أنه قد تم احتواء الأزمة مع تيلرسون طبقاً لما يريده دونالد ترامب، أي على أساس شروط صارمة خلاصتها أن على ريكس تيلرسون الالتزام بالنص وعدم الخروج عنه تحت أي ظرف كان. يعني أيضاً أن طموحات نيكي هايلي بأن تحل في منصب وزير الخارجية ارتطمت بالحائط، أقله هذه الفترة.
هناك رأيان في ما يخص نيكي هايلي وما يريده دونالد ترامب لها. رأي يقول إن ترامب يكنّ لها بالغ الإعجاب والتقدير وهو سيختلق المشاكل مع تيلرسون لأنه عازم على تعيينها خليفة له. الرأي الآخر، وهو لمصدر مقرّب جداً من البيت الأبيض يصر على خطأ معلومات أصحاب الرأي الأول، وهم أيضاً مطّلعون على أجواء واشنطن. يقول المصدر المقرب من البيت الأبيض إن الرئيس ترامب منزعج من نيكي هايلي بمقدار انزعاجه من ريكس تيلرسون «لأن كليهما يتصرف على هواه وهما يتنافسان أحدهما ضد الآخر فيما عليهما تنفيذ سياسة الرئيس حصراً». يضيف المصدر أن «الرئيس ترامب يرى أن نيكي هايلي تسوّق إعلامياً لنفسها وتتصرف وكأنها شخصية سياسية، فيما يفترض أن تقوم بمهمات السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة ولا تسرق الأضواء من الرئيس».
الرئيس ترامب، يقول المصدر، وكذلك كثيرون في البيت الأبيض ينظرون إلى نيكي هايلي بأنها «ليست جوهرية» (not Substantive) وأنها تستخدم المنصب لتسويق طموحاتها بأن تترشح للرئاسة، وهذا يضايقهم كثيراً، لذلك يتحدى أصحاب هذا الرأي الحكمة السائدة بأن دونالد ترامب بالغ الإعجاب بسفيرته وأنه يعتزم بعد بضعة أشهر تعيينها مكان ريكس تيلرسون وزيرة للخارجية. يتحدون أيضاً ما يُشاع عن أن دينا باول مرشحة لأن تصبح السفيرة في الأمم المتحدة في حال عيّن الرئيس نيكي هايلي وزيرة للخارجية، ويقولون إن «ستيفن بانون لن يسمح بذلك»، إشارة الى استمرار بانون في التأثير في البيت الأبيض حتى بعدما غادره أخيراً.
هذه البلبلة وهذا التضارب ليس غير اعتيادي في زمن إدارة ترامب التي تتخبط في إقالات واستقالات: ثم إن الرئيس «معطوب» في رأي نصف الأميركيين «يمشي على عكازتين»، وفق تعبير أحدهم. إنه الرئيس المثير للجدل، وكذلك للانقسام الداخلي ليس بين جمهوريين وبين ديموقراطيين فحسب، بل داخل الحزب الجمهوري الذي أجبره دونالد ترامب على القيام بترشيحه للرئاسة، فالداخل الأميركي ليس بخير. لكنه ليس على وشك الانهيار.
السياسة الخارجية في عهد دونالد ترامب، كما أقرها العسكريون في السلطة، هي استمرار لسياسات سلفه باراك أوباما، باستثناء العلاقات الودية مع دول الخليج ومصر، وبالذات السعودية، باراك أوباما وضع الأولوية الإيرانية فوق كل اعتبار وارتأى الجفاء مع الدول الخليجية ومصر لصيانة اندفاعه لتحقيق النقلة النوعية في العلاقات الأميركية– الإيرانية وتوقيع الاتفاق النووي مع طهران. أغمض عينيه عن كل التجاوزات الإقليمية الإيرانية في سورية والعراق واليمن ولبنان، باسم الاتفاق النووي، بل شرّع هذه التجاوزات عملياً، لأنه وافق على فصل الطموحات الإيرانية الإقليمية عن المفاوضات النووية.
دونالد ترامب تعهد بإصلاح العطب والخطأ في سياسات باراك أوباما نحو التجاوزات الإيرانية في الجغرافيا العربية، لكنّه فعلياً ينفذ «الفصل الثاني» من هذه السياسات. لذلك لا تقوم إدارته بأي إجراءات لمنع إيران من تسلّم الأراضي المحررة من «داعش» في سورية على أيادي «الحرس الثوري» الإيراني والميليشيات التي بإمرته، وفي العراق عبر «الحشد الشعبي». نيكي هايلي تتوعَّد في مزايدات لفظية وخطابات رنانة في مجلس الأمن. الواقع على الأرض يفيد بأن التفاهمات مع روسيا، بما في ذلك مكافأة إيران ميدانياً في سورية، هي من أهم ركائز السياسة الخارجية الأميركية. وهذا ما أقره الرئيس ورجاله العسكريون، وعلى رأسهم وزير الدفاع جيمس ماتيس ومستشار الأمن القومي أتش آر ماكماستر، ووزير الأمن القومي الداخلي دونالد كيللي.
دونالد ترامب يعتمد على الثلاثي العسكري وهو لا يريد المفاجآت. يريد حماية الوضع الراهن. الآن، تم احتواء الأزمة مع وزير الخارجية الذي لن يستمر بأي نوع من الارتجالية أو الاستقلالية، وبالتالي قد تكون السياسة الخارجية أقل تخبّطاً في الساحة العلنية. والأرجح أن تكبح نيكي هايلي أسلوبها الإعلامي بعدما بدا واضحاً أن ريكس تيلرسون باقٍ في المنصب لفترة ما.
أولى محطات الواقعية البراغماتية ستكون واضحة عندما تتحدث إدارة ترامب بصوتٍ واحد لدى مراجعة الاتفاق النووي مع إيران الأسبوع المقبل. وزير الدفاع خاطب مجلس الشيخ هذا الأسبوع بلغة الدعم القوي للاتفاق النووي، وقال: «النقطة التي أود توضيحها هي أنه إذا استطعنا التأكد من التزام إيران الاتفاق وتحديد ما إذا كان هذا يصب في مصلحتنا، فينبغي لنا الاستمرار به». وأضاف أن في غياب مؤشرات على عدم التزام إيران الاتفاق، فإن على الرئيس أن «يدرس الاستمرار فيه». هذا كلام لا يشابه التوعّدات السابقة لإدارة ترامب.
إنها سياسة أوباما في فصلها الثاني بغض النظر عن تخبط الشخصيات في إدارة ترامب.
من المنطقي أن مكانة ما يُسمى الاعتبارات «الجغراسية»، أي الرغبة في تعزيز مواقف الدول في ساحة العلاقات الدولية، تأتي ضمن أولويات هذه الدول في رسم سياساتها الخارجية. ولأهمية المنطقة العربية، والشرق الأوسط عموماً، سياسياً واقتصادياً، بالنسبة إلى القوى الكبرى، تأتي المنطقة في ترتيب متقدم لأولويات هذه القوى، ومن بينها روسيا. إذ ان ضغوط الجغرافيا فرضت على الأخيرة الاهتمام بهذه المنطقة من العالم. ومن حيث أن روسيا تشغل الحيّز الأكبر من منطقة أوراسيا، فإن أهمية تلك الاعتبارات الجغراسية تأتي في قمة مصالحها في الشرق الأوسط. ومن ثم، تعتمد روسيا على الصفقات العسكرية وتقنياتها، إضافة إلى التبادل التجاري، مع دول المنطقة. فهي تمكَّنت من عقد الكثير من هذه الصفقات مع دول عربية بعشرات بلايين الدولارات. وعلى رغم أهمية البعد المادي لهذه الصفقات، فإن أهميتها قد تتجاوز ذلك إلى التنسيق بينها وبين بعض دول المنطقة حول ملفات ساخنة.
يبدو هذا في العلاقات بين روسيا وتركيا التي تشهد في هذه الآونة «نقلة» استراتيجية، بعد مراحل سابقة لم تكن فيها على ما يرام. ولعل أهم ملامح هذه العلاقة الجديدة بين الجانبين تلك «الصفقة – المفاجأة» التي تم الإعلان عن إتمامها أخيراً، صفقة منظومة صواريخ «إس 400» الدفاعية المتطورة.
وبصرف النظر عن تصريح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أثناء زيارته الأخيرة لموسكو، بأن «بإمكان البلدين تغيير مصير المنطقة»، خاصة أنه لا يعبر عن حقيقة واقعية، فإن ملامح المفاجأة تبدو عبر تصريح إردوغان أن بلاده «دفعت وديعة لروسيا مقابل شراء منظومة الصواريخ». وإذا كان لنا أن نصدّق الرئيس التركي، فإن موسكو ستدفع بنفسها، بواسطة القرض، ثمن هذه الصفقة، لتزويد بلد عضو في حلف شمال الأطلسي النظام الدفاعي الجوي الروسي. بل، ما يزيد عمق هذه المفاجأة، أن روسيا نفسها كانت قد أعادت المنظومة نفسها إلى الصين قبل سنوات، بعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات. واليوم، وبعد مفاوضات لم تستغرق سوى بضعة أشهر، تموّل روسيا بيع المنظومة إلى تركيا.
ولأن الأسلحة ليست كغيرها من السلع التجارية، فإن إنجاز هذه الصفقة بين روسيا وتركيا يعني إدماج منظومة دفاعية روسية داخل حلف الأطلسي، كما يعني، من جانب آخر، التلويح التركي لدول الحلف بإمكان إقامة علاقة موازية مع روسيا، والصين أيضاً. وبالتالي، يبدو أن الصفقة تأتي بمثابة «اختبار» للمعسكر الغربي، الذي إما أن يكف عن التلاعب بتركيا والاستخفاف بها، أو أن يفقدها، خصوصاً بعدما اتخذت دول أوروبية عدة موقفاً رافضاً للعضوية الكاملة لتركيا في الاتحاد الأوروبي.
بيد أن هذه الصفقة التي تناهز قيمتها بليوني دولار، لا تتوقف قيمتها الجغراسية عند حدود اختبار الغرب، أو إدماج المنظومة داخل حلف «ناتو»، رغم الأهمية الكبرى لكل منهما، بل تبدو أهميتها في تجاوز الحدود الروسية، ومن ثم التركية، لتصل إلى الساحة السورية. وهنا بيت القصيد الذي يتمحور حول التفاهمات السياسية التي نشأت بين موسكو وأنقرة حول هذا الملف. إذ، ليس من المصادفة أن تتمكن تركيا من تنفيذ تدخلاتها الحازمة ضد قوات الحماية الكردية في غرب الفرات.
فالضوء الأخضر الذي منحته روسيا، التي تملك- واقعياً - الأرض والجو السوريين بوضع اليد، ساهم في إنجاح «درع الفرات»، ومنع مشروع الفيديرالية في سورية أو تعطيله، ربما إلى حين، نقول إلى حين بناءً على الانتخابات التي تمكن أكراد سورية من إجرائها في مناطق سيطرتهم شمال البلاد، في ظل الفترة التي تركزت فيها أنظار الجميع، ولا تزال، على استفتاء إقليم كرستان العراق.
أضف إلى ذلك، أن ما يهم تركيا، ليس مصير الرئيس السوري، بقدر ما يهمها مصير حزب العمال الكردستاني، ومصير الكيان الكردي الحدودي الذي يبدو مدعوماً من الغرب، وتحديداً من الولايات المتحدة الأميركية. وإذا كانت هذه الأخيرة، وهي الحليف المفترض لتركيا، جادة في دعم قوات حماية الشعب الكردي، الفصيل الرئيس في قوات «سورية الديمقراطية»، فإن هذا سوف يخلط الأوراق ويبعثرها في شكل قد يجعل عدو الأمس حليفاً.
أما روسيا، فإنه ليس من مصلحتها بقاء الحال كما هي عليه راهناً في سورية، فهي من يدفع الفاتورة الأكبر سياسياً واقتصادياً. ولذا تسعى إلى إيجاد حل سياسي يكون كفيلاً بحماية مصالحها الاقتصادية المتمثلة في المنفذ البحري، والأمنية المتعلقة بتطويق الجماعات المتطرفة وقطع الطريق عليها قبل أن تصل إلى العمق الروسي. ولعل هذا ما يبدو من تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال زيارته الأخيرة لتركيا قبل أيام، بأن «الشروط اللازمة» لإنهاء الحرب في سورية الدائرة منذ ست سنوات، «أصبحت متوافرة».
لنا أن نلاحظ في هذا السياق، أن اتفاق «أستانة 4» الذي تم التوصل إليه في أوائل أيار (مايو) الماضي، لإنشاء مناطق وقف التصعيد العسكري، أو مناطق «خفض التوتر»، هو أساساً اتفاق روسي تركي، قبل أن تنضم إليه إيران. إذ ان هذا الاتفاق يعتبر، حتى الآن، أول اتفاق سياسي له أثر على أرض الواقع في سورية.
صفقة «إس 400» بين تركيا وروسيا ليست، إذاً، مجرد صفقة عسكرية، بقدر ما هي تلاقي مصالح بينهما حول مستقبل سورية، وربما العراق أيضاً. وهذا ما يجعل مستقبل المنطقة مفتوحاً على كل الاحتمالات التي لن تأتي بالتأكيد في مصلحة الدول العربية.
لطالما شكلت الجغرافيا بالنسبة إلى لبنان عاملاً سياسياً مؤثراً في مسار الأحداث. ولطالما اعتبرت سورية لبنان خطأً تاريخياً لا بد من تصحيحه، وهي التي لم تعترف باستقلاله إلا على مضض بفعل موازين القوى العربية والدولية. لقد لعب السُنّة والموارنة، عرّابا الصيغة اللبنانية، أدواراً متكاملة لكن غير متكافئة سياسياً، حتى الإعلان عن اتفاق الطائف: السُنّة كممثلين للمسلمين ببعدهم العربي والاسلامي الواسع، والموارنة كممثلين لمسيحيي لبنان بعلاقاتهم المميزة والخاصة، اقتصادياً وثقافياً، مع الغرب.
منذ الاستقلال حتى الطائف، قاد السُنة مطالب المسلمين في لبنان، وتصدوا لقضيتين أساسيتين: الأولى، رفض هيمنة المارونية السياسية المطلقة على مركز القرار في الدولة التي أصرت على رفض إصلاح النظام السياسي، بحيث رفعوا شعار المطالبة بـ «المشاركة» بين المسلمين والمسيحيين. والثانية، كانت تمكيناً للتعويض من الخلل والغبن الداخلي، ما عبّد الطريق إلى أخذ لبنان إلى البعد القومي الثوري بعد هزيمة ٦٧، والذي تُرجم باتفاق القاهرة وتعديل نسبي في موازين القوى وتحويل لبنان دولة مواجهة بعدما كان دولة مساندة.
وعلى رغم موقف السُنّة القومي، فالنظام العربي الذي كان سائداً بين الخمسينات وأوائل التسعينات، بما فيه موقف المقاومة الفلسطينية، لَم يساعدهم على بلورة حالة سياسية لبنانية عربية مستقلة عنهم، بل جرى إجهاض حالة كهذه في أحيان كثيرة، نتيجة الظروف والتناقضات العربية الإقليمية والدولية السائدة. فحين وُقّع الطائف، اعترف بنهائية حدود الكيان اللبناني، كما قضى بوضع دستور جديد يراعي التوازنات بين مكونات المجتمع. وكان للرئيس الشهيد رفيق الحريري دور محوري في إخراج هذا الاتفاق مدعوما عربياً، الأمر الذي أنتج لاحقاً ما عرف بالحريرية السياسية التي لعبت دوراً مهما في الحياة السياسية والاقتصادية للبنان، وفي إبراز دور السُنّة الحداثوي في تجديد وإعادة تحصين الكيان اللبناني التعددي والمتميز في هذا الشرق، بعدما حاول النظام السوري طوال عقود وجوده الأمني احتواء لبنان وإلحاقه قسراً. كذلك ساهمت الحريرية السياسية في تعبيد الطريق أمام العمق العربي والإسلامي باتجاه الكيان اللبناني لدعمه كدولة وطنية بحدودها النهائية، وذلك بعكس المسار الذي كان سلكه سُنَّة لبنان قبل الطائف. لقد شكل اغتيال الحريري زلزالاً إقليمياً ووطنياً شعر فيه السُنّة بالخسارة المدوية وبأنهم أصبحوا مستهدفين بدورهم وموقعهم، خاصة من النظامين السوري والإيراني، واللذين يملكان مشروعاً للهيمنة من خلال أدواتهم التنفيذية في دول المشرق واعتمادهم سياسة تحالف الأقليات.
لكن اندلاع ما عرف بالربيع العربي جعل الصراع يشتد بين محورين، عربي وإيراني، ما حدا بحزب الله إلى محاولة الإطباق البطيء على الواقع اللبناني، من دون التمكن من الإمساك الحاسم به، نتيجة حالات الاعتراض الداخلية الجدية على مشروعه، واحتمال أن يضع مصير لبنان بصيغته التعددية على حافة الهاوية.
لم تتمكن الحريرية السياسية لاحقاً من ردم كامل الفجوة الضخمة التي خلفها غياب المؤسس، نتيجة للهجمة الشرسة عليها وجنينية الحالة التنظيمية لتيار المستقبل. وبتراجع الإمكانات المالية والخدمات الاجتماعية لديها، وفي ظل غياب المشروع العربي الواضح والداعم للدول الوطنية العربية وفي مقدمها لبنان، في مواجهة المشروع الإيراني المتمذهب، لم يتمكن تيار المستقبل من تأطير منظم شامل للبيئة السنية الحاضنة له، والتي تعرضت لمظلومية تلو الأخرى على يد الشيعية السياسية المتمذهبة والمسلحة، والتي تحاول بوعيها الممنهج وسعيها الدوؤب تفتيت هذه البيئة.
إن مصير الدولة الوطنية المستقلة في لبنان برئيسها المسيحي، أصبح مرتبطاً حكماً باستمرار الشراكة الكاملة مع السُنّة الملتزمين بمشروع الدولة المدنية، وبالشراكة مع بقية المكونات التي تلتزم شكلاً ومضموناً بحدود الكيان ونهائيته، والمناقضة لمسار الشيعيّة السياسية المتمذهبة والمسلحة والملتزمة ايديولوجية دينية مذهبية تعتبر نفسها جزءاً من الدولة الإسلامية المذهبية في إيران. والتحديات الكبيرة والخطيرة التي تواجه السُنّة تطرح عليهم سؤالاً: «ما العمل وإلى أين»؟ وهذا يوجب على القيادات والمرجعيات والفعاليات السنية التوحد والتعاضد لبلورة ميثاق عمل موحد من منطلق وطني تعددي غير ديني أو مذهبي، والإعداد لبرنامج عمل نضالي سياسي وطني وسلمي ديموقراطي لتعطيل محاولات الهيمنة والإلغاء التي لن توفر أحداً من القوى الوطنية ومن رموز السُنّة، وبالتالي ضرورة تجاوز الخلافات بينهم.
إن بديل التسوية التاريخية التي تمت قبل ٢٨ عاماً، هي حرب داخلية مستدامة نعلم متى تبدأ لكن لا نعلم متى تنتهي. وهذا ما سيُحتّم على الرئيس سعد الحريري السير على خطى ونهج والده الشهيد رفيق الحريري داخلياً وعربياً ودولياً، وما فعله في ظرف كان من دون شك أكثر تعقيداً.
من كردستان الغربية إلى الموصل وكركوك والأنبار... ومن دير الزور والرقة إلى إدلب بعد حلب... إلى جرود عرسال ورأس بعلبك والبقاع، وقبل ذلك «التسوية» السياسية التي أنهت الشغور الرئاسي في لبنان، وأقامت ائتلافاً حكومياً جمع معظم الطبقة السياسية، قيل في حينه إنها (التسوية) خشبة خلاص وقف الانهيار المتسارع، واستعادة حياد عن حرائق المنطقة... تعيش المنطقة على خط زلازل مخيف.
السواد في أكثر من مكان، تمّ فرضُه مع ابتداع تركيبة قتل ودمار كانت «داعش» آخر تجلياتها، استفادت هذه الظاهرة من نسيج أرهقه الظلم والقهر والتمييز والتجويع والمعتقلات فتعمق وجودها. تشاركت ديكتاتوريات المنطقة وأبعد منها في ابتداعها، لأنها ورقة اليانصيب الرابحة التي استدرجت كل هذا التدخل والدمار، وتحويل كل المشرق العربي لمناطق نفوذ إقليمي ودولي، وأي قراءة متأنية في المشهد تقود فوراً لرؤية الغطرسة الإيرانية ومخططاتها للهيمنة، لأن الساعين أبداً لإقامة إمبراطورية ساسانية جديدة، يدركون بالتجربة، أنه لا نفوذ لهم، إلاّ على أنقاض عمران واقتلاع أعراق، ويكفي للتأكد والتبصر إلقاء نظرة واحدة على البلدان التي ادعت طهران أنها تسيطر على عواصمها.
بالتأكيد لم يكن العراق بلداً موحداً يوم 24 سبتمبر (أيلول) الماضي ليضعه الاستفتاء التاريخي يوم 25 منه على سكة الانفصال، بل إن إقامة حكم مذهبي في بغداد بعد العام 2003، ترأسه نوري المالكي وأدارته طهران ضد سائر مكونات البلد، وأساساً المكون العربي السني، هو الذي أخرج المكون الكردي، بعدما فُقد الأمل في إقامة دولة مدنية عصرية تضمن حقوق كل مكوناتها وأفرادها، وهذا المكون كان قد انحازَ لوحدة العراق منذ العام 1921. ورغم كل الصراعات والجور ضده، فكل الأنظمة التي حكمت العراق ملكية أو جمهورية أو ديكتاتورية، حاذرت المنحى الذي ساد بعد العام 2003. وراعت ولو بحدٍ أدنى متطلبات وهموم أهل البلد. اليوم من المؤسف الوصول لهذا التدهور المريع فالكي سيف ذو حدين، وإذا كان الكل أمام حائط مسدود، فمن الثابت أن وصاية طهران الشاملة على كل العراق تصدعت وتراجعت كثيراً.
«خفض التصعيد» في سوريا أمر بالغ الأهمية نجم عنه وقف للنار يتمُّ احترامه بنسبة عالية، ما أوقف الموت المجاني للسوريين، كما توقفت عمليات التهجير والاقتلاع والتغيير الديموغرافي، وتُتيح هذه الاتفاقات تباعاً عودة ولو مشروطة إلى بعض الأمكنة، كما أنها المدخل لفتح ملف المعتقلين والمخفيين قسراً. هذا الوضع لم يكن متاحاً لأن موسكو أرادت ذلك في اجتماعات «أستانة»، وأخذت دعماً تركياً وانتزعت موافقة إيرانية، بل هو الترجمة لعجزٍ عن حسمٍ عسكري ضد الشعب السوري، نتيجة لصمود أسطوري للناس الذين تحدوا البراميل والكيماوي والصواريخ الذكية. واليوم مع بلوغ السيطرة الروسية على نحوٍ 50 في المائة من مساحة سوريا، والتقدم اللافت في دير الزور المحافظة الغنية بثرواتها، والاستراتيجية جداً، شهدنا السيد دي ميستورا يدعو النظام والمعارضة إلى «جنيف 8»، ما يعني أنه إذا لم تتم عملية سياسية بموازاة «خفض التصعيد»، فعودة العنف ستكون أحد الاحتمالات، وإذ ذاك تكون اتفاقات «أستانة» مهددة بالانهيار، وتتلاشى قيمة الانتصارات المحققة ضد «داعش» والإرهاب. لا بل إن الحل الوحيد لإنهاء العنف، وهذا دون شك مطلب روسي لتكريس المصالح الروسية قبل أن يكون مطلب الآخرين، لن يكون ممكناً إلاّ من خلال عملية انتقال سياسي، لكن دون أي توهم بأن سوريا أمام الحل العادل والمثالي. رغم ذلك يستحيل عندها تأبيد سلطة الأسد، أو حلول النفوذ الإيراني محلّ «داعش» و«النصرة»... ومرة أخرى ليس أمام النفوذ الإيراني في سوريا إلاّ التراجع.
لبنان الذي دخل «التسوية» المفروضة، مكّنت حكومة «استعادة الثقة» (حزب الله) من أن يصبح الفئة الأقوى المسيطرة على القرار السياسي والأمني وأكثر مؤسسات الدولة. و«التسوية» التي قيل زوراً إنها صُنعت في لبنان، هي اليوم مجرد غطاء لعملية الاستيلاء على القرار اللبناني، مؤخراً برز ذلك عندما مُنع الجيش من إكمال انتصارٍ كان باليد في حرب «فجر الجرود»، ثمّ في منع اللبنانيين من الاحتفاء بجيشهم المنتصر. ومن بيروت إلى القاهرة ونيويورك وباريس، كل لبناني شاهدٌ على مواقف سياسية، تستخف بالقرارات الدولية التي تحمي لبنان ولا تستجيبُ إلاّ لمتطلبات الأجندة التي رسمتها طهران للمنطقة.
في ظلِّ هذه «التسوية» والضغوط لأخذ لبنان إلى المحور المعادي لمصالحه ومصالح الشرعية العربية، يتهدد الخطر وثيقة الوفاق الوطني والدستور واستمرار الجمهورية. الجيش السوري في زمن سيطرته التي استمرت أكثر من ثلاثة عقود، عمل على تحطيم الأحزاب السياسية وتهشيم النقابات العمالية والمهنية فبات المجتمع المدني من دون أسنان، لكن البنية التي مثلها في حينه «لقاء قرنة شهوان» و«المنبر الديمقراطي»، وفّرت رافعة في العام 2005، ساهمت في هزِّ نظامين أمنيين وأخرجت الجيش السوري من لبنان. التطييف بعد العام 2005 من جهة، واستنساخ تجربة الثنائي الشيعي مسيحياً، صبَّ في خدمة الحزب المسلح، الذي يستقوي بالأمر الواقع وبلحظة إقليمية شديدة الالتباس، لكن ذلك لم ينسحب شعبياً بدليل إحصاءات نشرت مؤخراً أظهرت هُزال تمثيل أحزاب السلطة، وجاءت معركة الأجور والضرائب لتظهر اتساع الهوة بين الناس والطبقة السياسية الحاكمة، وقرعَ تكرارُ الانزلاقات التي استهدفت الحريات جرس إنذار، بحيث بدا البلد على طريق إقامة نظام أمني يحاكي مرحلة احتلال النظام السوري.
في لبنان هناك حالة انتقال من الاحتجاج الصامت إلى مرحلة التكتل لإنقاذ الجمهورية والسعي لتسجيل خرقٍ واسع في التركيبة النيابية، رغم سوء قانون الانتخاب الذي يفتقرُ لوحدة المعايير بين الناخبين. بهذا السياق أُطلقت في بيروت في 21 أيلول وفي لقاء سياسي مبادرة لاستنهاض الحريصين على الجمهورية، أعلنت رفضها لأي سيطرة فئوية على صيغة الاجتماع اللبناني ودولته، وأكدت أن طهران لن تنجح في كسر ما استعصى على غيرها. وفي الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) ينعقد اللقاء الوطني، وأهميته أنه يضم حيثيات مدنية شيعية ترفض هيمنة الثنائي الشيعي وتتمسك بشرعية وثيقة الوفاق الوطني والشرعيتين العربية والدولية. وفي العاشر منه يُطلقُ «التجمع اللبناني» كحركة اعتراض، من عناوينها استعادة السيادة كاملة غير منقوصة ورفض السلاح الفئوي والدويلة، كما استعادة المؤسسات والمال العام، وتقديم الفاسدين المرتكبين إلى القضاء، لأنه دون ذلك سيدفع الشعب اللبناني كلفة انهيار نقدي ومالي حتمي.
هذه التجمعات وسواها سيضعها الغليان الشعبي أمام تحدي التشبيك فيما بينها، كي تتحول انتخابات العام 2018 إلى فرصة لبدء مسيرة التغيير، مسيرة إعادة تكوين السلطة، واستعادة لبنان لدوره ومكانته. نعم المؤشرات الشعبية تشي أن لبنان آخر خارج السيطرة والاستتباع ما زال ممكناً.
تتواتر الأخبار عن حشود عسكرية عند حدود إقليم كردستان العراق من كل جوانبه، في إيران وتركيا والعراق، وعن مناورات مشتركة تجريها جيوش هذه الدول، وكذلك الأنباء عن استعدادات تتخذها ميليشيات عراقية موالية لإيران بقيادة «الحرس الثوري»، بما يثير الشك في رغبة هذه الدول في الحوار مع الأكراد أصلاً، ويوحي بأن الاستفتاء شكّل الذريعة المناسبة لتصفية حساباتها مع الإقليم.
وتتصرف أنقرة وطهران وبغداد، كأنها تناست الخلافات وتضارب المصالح والتنافس على النفوذ بينها، و «توحدت» ضد «العدو الكردي» المشترك، وأنها وضعت تبايناتها على الرف، موقتاً بالطبع، إلى حين الانتهاء من «التهديد» الذي تمثله نتائج الاستفتاء على الاستقلال. وهي في هذا تخوض «مزايدة» على من يرفع الصوت أعلى، ومن يهدد بتدابير أقسى ومن يحشد أكثر.
لكن ثمة فوارق واضحة في دوافع وأهداف الأطراف الثلاثة. فالتركي ينطلق من حجة دائمة تقوم على أولوية الأمن القومي ووحدة الأراضي التركية وأهمية الحرب المتقطعة التي يخوضها، لإخضاع أكراد الداخل وردع أكراد الخارج، في تثبيت هذين الأمن والوحدة، ويؤكد أن لديه مخاوف مبرّرة من امتداد مفاعيل استقلال أكراد العراق إلى مناطقه الجنوبية الشرقية، بما ينهي حال الاستقرار النسبي السائدة هناك.
ويمكن القول إن مشروعية ذرائع تركيا مشكوك فيها، لأنها تنطلق أساساً من خلل تاريخي في التعامل مع الأكراد بصفتهم مواطنين من الدرجة الثانية، ممنوع عليهم التعبير عن قوميتهم أو التحدث بلغتهم، على رغم التصحيح الشكلي والجزئي عام 1991، عندما سمحت باستخدام اللغة الكردية في شكل محدود. لكن التوجّس من الأكراد بقي قائماً والطوق الأمني مفعّلاً والحصار السياسي مشدّداً.
ولأن أكراد العراق يدركون عمق هواجس الأتراك واستخداماتها الداخلية، بادروا إلى نزع الذرائع من يد أنقرة، فساندوها في الحد من خطر «حزب العمال» على جيشها، ونسجوا علاقات اقتصادية وسياسية وأمنية مطمئنة معها. وهم كانوا يخدمون بالطبع مصالحهم، لا سيما بعد تدهور علاقتهم ببغداد في السنوات الأخيرة. غير أن السند التركي بقي واهياً، ورهن التقلبات السياسية الداخلية والصراعات بين أجنحة الحزب الحاكم في أنقرة.
ومع ذلك فإن الأتراك قد يحسبون ألف حساب، قبل أن يقدموا على عمل عسكري، فهم يعرفون أن الحرب مع الأكراد لن تكون نزهة، حتى لو كانوا يتفوقّون عدداً وعدة، لكن قواتهم لن تصمد أمام حرب عصابات يتقنها البيشمركة، وسيدفعون غالياً ثمن احتلال أي جزء من أرض الإقليم. ويدركون أيضاً أن الخيار العسكري سيفتح عليهم أبواباً مغلقة، ويحرّك أكراد تركيا الذين ينتظرون الفرصة للانتفاض وانتزاع حقوق إضافية.
أما بالنسبة إلى إيران، فلم يشكّل الأكراد العراقيون يوماً تهديداً أمنياً لها، ولم يبادروها بالعداء، باستثناء أنهم أدركوا بعيد الغزو الأميركي في 2003، أن الطريقة التي تدير بها واشنطن الأمور في بغداد تعزّز دور حلفاء إيران على حساب العرب السنة، وتزيد إلى حد كبير نفوذ طهران في بلاد الرافدين. وعندما حاولوا النأي بأنفسهم عن المعادلة الجديدة والسعي نحو حكم ذاتي واسع، تمهيداً لاستقلال لاحق، وُوجهوا بعداء واضح من إيران التي تريد وضع اليد على العراق كاملاً، وشهدوا محاولات إيرانية لشقّ صفوفهم عبر تأليب معارضي قيادة الإقليم وتسليح جماعات موالية لهم في المناطق المحاذية لحدودهم.
واليوم تضغط إيران بقوة على حكومة بغداد، وتدفع في اتجاه تشديد مواقفها من الاستفتاء الكردي ومنعها من أي مساومة أو مهادنة، وتلجأ إلى حلفائها الآخرين في «التحالف الشيعي»، للمزايدة على العبادي ودفعه نحو الخيار العسكري، فيما تحضّر في الوقت نفسه ميليشيا «الحشد الشعبي» للحرب.
وبالتأكيد، لا ضيرَ على إيران من حرب جديدة في العراق، طالما أن الذين يتقاتلون هم العراقيون والأكراد. وهي فعلت الأمر نفسه في سورية حيث تقاتل باللبنانيين والأفغان والباكستانيين، والسوريين بالطبع.
خلافا للاعتقاد السائد لدى بعض الناس، وهو اعتقاد فحواه أن إيران انتصرت في سوريا، هناك واقع آخر على الأرض يتمثّل في أن إيران ساهمت في تدمير سوريا، وليس في إعادة الحياة إليها. إنها جزء من مشروع تفتيت سوريا ولا شيء آخر غير ذلك.
يشير الواقع على الأرض إلى أن أزمة إيران تتجاوز سوريا. إنها أزمة تراجع المشروع التوسّعي الإيراني الذي يسعى حاليا إلى استغلال الاستفتاء الذي أُجري في كردستان العراق لتحقيق انطلاقة جديدة له. كلّ ما في الأمر أن إيران تراهن على هذا الاستفتاء من أجل تبرير عودتها القوية إلى الإمساك أكثر بالعراق حيث لديها قاعدة ثابتة هي الميليشيات المذهبية المنضوية تحت شعار “الحشد الشعبي”.
هذه الميليشيات التي أرادت إيران تحويلها إلى مستقبل المنطقة، ومستقبل كلّ دولة عربية، صارت لعبة مكشوفة على الرغم من إضفاء حكومة حيدر العبادي صفة شرعية عليها. كانت الحكومة العراقية التي تعاني من الضغوط الإيرانية في وضع “مكره أخاك لا بطل” عندما قبلت بشرعنة مجلس النوّاب لـ“الحشد الشعبي” بحجة أنه وسيلة من وسائل مواجهة تنظيم “داعش”.
لم يكن تنظيم “داعش” الإرهابي في أيّ وقت سوى أداة من أدوات الأجهزة الإيرانية والسورية. استُخدم “داعش” من أجل تحقيق هدفين. الأوّل إظهار النظام السوري في مظهر من يحارب الإرهاب، علما أنه جزء لا يتجزّأ منه، والآخر إيجاد وظيفة لـ“الحشد الشعبي” كبديل من القوات النظامية العراقية، خصوصا الجيش العراقي. هذا ما يفسّر تقديم حكومة نوري المالكي، الذي كان تحت السيطرة الإيرانية كليا، مدينة الموصل على صحن من فضة إلى “داعش” في حزيران – يونيو 2014. حصل ذلك تماما كما قدّمت أميركا العراق إلى إيران هديّة في ربيع العام 2003، معطية إشارة عودة الحياة إلى المشروع التوسّعي الإيراني الذي يسعى حاليا إلى تجديد شبابه معتمدا على الاستفتاء الكردي وتفاعلاته في البلدان المجاورة للعراق.
ليس لدى إيران من نموذج تقدّمه للدول التي تطمح إلى جعلها تدور في فلكها سوى “الحرس الثوري” الذي تحوّل إلى بديل من الجيش الإيراني الذي لم يثق النظام به يوما وذلك منذ سقوط الشاه في العام 1979. من بين الأخطاء الضخمة التي ارتكبها صدّام حسين حين دخل في مواجهة شاملة مع إيران في العام 1980 توفيره فرصة للنظام الجديد الذي أسّسه آية الله الخميني من أجل إرسال الجيش إلى الجبهات وإبعاده عن المدن. كان الخميني يخشى الجيش، وقد وجد في الحرب التي شنها صدام والتي فعلت إيران كل شيء من أجل جرّه إليها، فرصة لا تفوت من أجل التخلص من الجيش وإحلال “الحرس الثوري” مكانه. كان الجيش يشكّل تهديدا للنظام الجديد، فيما “الحرس الثوري” أداة من أدوات هذا النظام، بل تعبير عن طموحاته التي تتلخّص بالإمساك بالسلطة و“تصدير الثورة”.
تعتبر كل الميليشيات التي أقامتها إيران في المنطقة نسخة عن “الحرس الثوري”. تعتبر إيران نجاح مشروعها الإقليمي مرتبطا بنشر نموذج “الحرس الثوري” في كلّ مكان. لذلك كان “حزب الله” الذي يعمل من أجل فرض إرادته على الدولة اللبنانية بعدما استطاع تغيير طبيعة المجتمع الشيعي في لبنان، في أكثريته طبعا. هناك عدد كبير من أبناء الطائفة ما زال يتصدّى للنموذج الذي يعمل الحزب، ومن خلفه إيران، على بنائه، كي تعمّ ثقافة الموت كلّ لبنان. على الرغم من ذلك كلّه، لا يزال لبنان يقاوم، ولا تزال ثقافة الحياة شعار معظم اللبنانيين.
لم تعمل إيران في سوريا سوى على نشر ميليشياتها المذهبية في كلّ مكان. شاركت النظام السوري في حملته على المدن الكبرى، وهي حملة تستهدف هذه المدن بصفة كونها مدنا سنّية أوّلا. وشاركت النظام أيضا في السعي إلى تغيير طبيعة دمشق على نحو جذري. هل مثل هذا المشروع القائم على فكرة التخلص من المدن السورية الكبرى، وتهجير أكبر عدد من السوريين مشروع قابل للحياة بأي شكل، أم أنّه مشروع حرب مستمرة تكلف مليارات الدولارات اضطرت خلالها إيران إلى الاستعانة بروسيا في مثل هذه الأيّام من العام 2015 كي لا تجتاح المعارضة الساحل السوري ودمشق نفسها؟
استغلت إيران الاستفتاء الكردي كي تستعيد المبادرة في العراق، خصوصا بعد إظهار رئيس الوزراء، والشخصيتين الشيعيتين مقتدى الصدر وعمّار الحكيم، نوعا من التذمرّ منها. عبّرت عن هذا التذمّر القنوات التي فتحتها بغداد مع دول عربية، على رأسها المملكـة العربية السعـودية. أعلنت إيران حالا من الاستنفار في وجه كردستان العراق، خصوصا بعدما احتفل أكرادها بإجراء الاستفتاء في ذلك الإقليم العراقي. الأكيد أنّ إيران لن تنتصر على الأكراد، بما في ذلك أكرادها. ليس تظاهر هؤلاء فرحا بما فعله أكراد العراق سوى دليل على أنها عجزت عن أن يكون نظام “الجمهورية الإسلامية” ضمانة لكل الإيرانيين، وأنه ليس سوى نظام قمعي لا مستقبل له. هل من يضمن أن يكون هناك “مرشد” جديد للجمهورية في حال غياب علي خامنئي؟
لن تنتصر إيران في سوريا، ولن تنتصر حتّى في اليمن حيث حاولت نقل تجربتها عبر الحوثيين، أي “أنصار الله”، الذين ليس لديهم ما يفعلونه حاليا غير التضييق على حليفهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي فقد حرية التحرك بأمان في صنعاء.
في النهاية، يحتاج مشروع توسّعي مثل ذلك الذي تنادي به إيران إلى أكثر من ميليشيات مذهبية تنشر البؤس وثقافة الموت في العراق وسوريا ولبنان واليمن. يحتاج إلى أكثر من تواطؤ أميركي، كما حصل في العراق بعد العام 2003 أو في أثناء التفاوض في شأن الملفّ النووي الإيراني. يحتاج إلى أكثر من التحالف مع روسيا كي يبقى بشّار الأسد في دمشق.
لا يمكن لدولة، مهما امتلك قادتها من دهاء وحقد على العرب، يعيش أكثر من نصف شعبها تحت خطّ الفقر تقديم نموذج والترويج له عن طريق الميليشيات. تستطيع إيران أن تدمّر ولا تستطيع أن تبني. لا يمكن لمشروعها إلا أن يكون في حال تراجع. لا لشيء سوى لأنّ ليس لديها ما تطرحه غير ثقافة الموت والشعارات والمزايدات. هل من دليل على الفشل الإيراني أكثر من الخطاب الأخير للأمين العام لـ“حزب الله” السيّد حسن نصرالله الذي قال فيه “أدعو اليهود إلى أن يغادروا فلسطين المحتلة إلى الدول التي جاؤوا منها، كي لا يكونوا وقودا في الحرب المقبلة، فقد لا يكون لهم الوقت الكافي للمغادرة”.
بعد هذا الكلام الذي لا يذكّر إلا بما كان يقوله أحمد الشقيري قبل حرب العام 1967 عن “رمي اليهود في البحر”، هل يجوز الكلام عن انتصار لإيران في أيّ مكان، بما في ذلك سوريا، باستثناء القدرة على الاستثمار في الميليشيات المذهبية؟ الجواب بكلّ بساطة أنّ الحديث الوحيد الممكن هو عن تراجع المشروع التوسّعي الإيراني الذي لم يعد لديه من مكان يعرض فيه عضلاته غير لبنان… لعلّ وعسى ينجح في تحويل البلد الصغير، عبر الانتخابات النيابية التي يصرّ حسن نصرالله عليها، إلى مستعمرة إيرانية قبل فوات الأوان.
عند سماعي خطاب الرئيس دونالد ترمب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، خصوصاً عندما وصف اتفاقية إيران النّوويّة بأنها أسوأ اتفاقيّة رآها ف حاته، وقفت متأملاً حيث صادق ترمب على استمرار تعليق العقوبات ضد طهران، حتى يقرّر البيت الأبيض في 15 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل حول وفاء إيران بالتزاماتها.
من المؤكد أنه ستكون هناك مناقشات ساخنة وحادّة في الشهر المقبل عن كيفية رد ترمب، ومن المرجح أن الرئيس الأميركي سيصادق على امتثال إيران للاتفاق النووي، وستستمر إيران في إنتاج 4.5 مليون برميل نفط يومياً، وفي هذه الحالة ستستمر سيطرة طهران على أربع عواصم عربية والتدخل في شؤون المنطقة. كما نصح مسؤولون في الخارجية والأمن القومي والدفاع الأميركي، الرئيس ترمب بأن يلتزم بالاتفاقية النّووية. بالمقابل هناك أصوات داعية للتشدد، منها ريتشارد غولدبيرغ المساعد السابق في الكونغرس الأميركي منذ فترة طويلة إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضدّ إيران، حيث يؤكد أن طهران غير ملتزمة بتعهداتها في الاتفاقيّة النّوويّة.
غولدبيرغ يرفض نظرية أن تقوم إيران بصنع القنبلة النووية في 12 شهراً ف حال خروجها من الاتفاقية، ويؤكد أن ذلك غير صحيح. ويرى أن إعادة العقوبات خصوصاً استهداف قطاعي المصارف والنفط الإيرانيين، ستؤدي إلى خنق طهران قبل وصولها إلى القنبلة النووية، حيث استهداف النفط والمصارف سيشل الاقتصاد الإيراني.
من جهة أخرى، هناك من يؤيد الاتفاقية، بمن فيهم كبار المسؤولين والدبلوماسيين السابقين في إدارة أوباما وبعض اللّيبراليين الآخرين المدعومين من اللوبي الإيراني، حيث يسعون إلى الضغط على ترمب لإبقاء الاتفاقية.
المشكلة هي أنه حتّى لو كانت الولايات المتّحدة أكدت عدم امتثال إيران في أكتوبر المقبل، لا يمكنها أن تعيد فرض العقوبات ضد إيران بسبب عدم تعاون الاتحاد الأوروبي والصّين وروسيا والهند واليابان وكوريا الجنوبيّة والأمم المتحدة. الأمر الذي يبقي طهران تهديداً للمنطقة.
الواقع أن العقوبات ضد إيران لن تنجح إلا إذا كانت تستهدف النفط والبنوك والخدمات المالية.
هنا يمكن للبلاد العربيّة المستهدفة إيجاد طريقة بديلة لفرض عقوباتها الإقليمية من خلال النفط والبنوك، حيث إنها قابلة للتنفيذ، ولا تنتظر لعبة القط والفأر بين الغرب وحكومة الملالي.
تواجه دول الخليج العربية تهديداً وجودياً، حيث قامت إيران بتثبيت الصواريخ الباليستية في اليمن، والتي يمكن أن تضرب دولاً عربية بسهولة. وتقوم إيران بصناعة الصّواريخ الذكية في سوريا، وتطور القذائف الخارقة (إي إف تي) في العراق، بعض منها قد تم استخدامه في البحرين. كما أن إيران مستمرة في مشروعها النّوويّ، وتقوم بشراء وبيع الموادّ النووية والماء الثّقيل من مراكز سرية في المنطقة وتهدد الملاحة في باب المندب، وتبني ممراً من حدوده الغربية إلى العراق وسوريا ولبنان. المشكلة تبدو حادة تتطلب من العرب اتخاذ تدابير دفاعية، فما التدابير لمواجهة طهران؟
اقتصادياً إيران تعتمد على تصدير النفط. وهذا يعني أنها تحتاج إلى النقل والتأمين والتسويق واستخدام المؤسسات المالية. وهناك طرق مختلفة لمواجهة تصدير نفط طهران أهمها انخفاض أسعار النفط، التي ستؤدي إلى إفلاس إيران.
خلال فترة بحوثي في أرشيف «أوبك» في فيينا حول أطروحتي للدكتوراه عن «دور إيران في منظمة أوبك»، تأكدت أن طهران فوضوية دائماً ومنذ البداية عملت ضد المصالح العربية في هذه المنظمة.
منظّمة أوبك المكونة من 14 دولة، ثلثا نفطها يتم إنتاجه من 6 بلاد شرق أوسطيّة عربيّة، 7 من أعضائها من العرب تنتج وتصدر أكثر من 25 مليون برميل يومياً مقابل 4.5 مليون برميل لإيران. من المهم انخفاض تصدير نفط إيران من المقدار الحالي إلى أقل من مليون برميل يومياً.
عندما انخفضت صادرات النفط الإيرانية في سبتمبر (أيلول) 2012 إلى 860 ألف برميل، أصبحت إيران على حافة الانهيار. وهو الأمر الذي أجبر خامنئي على أن يتوسل بالولايات المتّحدة عن طريق سلطنة عمان، ووافق على الاتفاقية لرفع العقوبات، إذ إن إيران وصلت إلى درجة لم تتمكن من الوفاء بالتزاماتها الأساسية تجاه شعبها، مثل دفع رواتب الموظفين الحكوميين، بمن فيهم المهندسون في منظّمة الطاقة الذرية.
من المهم أن يهتم مجلس التّعاون الخليجيّ بمشروع مواجهة إيران عن طريق النفط والمصارف. مجلس التّعاون الخليجي في سنواته الـ30، لم يعمل بكامل طاقاته، قياساً بالاتحاد الأوروبي، رغم أنه أكثر قدماً من الاتحاد الأوروبي، مع ذلك أسس بنية تحتية وتجارية كبيرة يمكن أن يستغلها للدفاع عن وجوده.
على هذه الدول أن تجرب الضغط على شركات التأمين لعدم التعامل مع أسطول ناقلات النفط الإيرانية.
خلال العقوبات الماضية، التخلي عن تأمين ناقلات البترول الإيرانية أثّر على 95 في المائة من أسطول ناقلة البترول، وأدى ذلك إلى زيادة التكاليف وتحديد تعاملات بيع وشراء النفط الإيراني.
في حال انخفضت أسعار النفط ستكسب الدول العربية زبائن النفط الإيراني في الغرب وفي آسيا مقابل الحصول على صفقات.
تقوم شركة الحماية الدولية في التأمين والتعويض (بي آند آي) بتأمين النفط الإيراني، ويمكن للدول العربية الخليجية الضغط على هذه الشركة بعدم التعامل مع إيران، إذ إن طهران دائماً ما تخفي هوية ناقلاتها، وهو ما يعارض قوانين البحرية الدولية.
الدول الخليجية لديها القدرة على تخفيض أسعار النفط بأقل الخسائر، حيث يمكن أن تعتمد على صناديقها السيادية الوطنية الضخمة، وهذه إحدى طرق مواجهة التهديد الإيراني.
قبل رفع العقوبات، كانت مصارف إيرانية ضمن القائمة السوداء العالمية، من بينها بنك سبه وبنك صادرات وبنك ملي وأريان. هذه المصارف لا تزال تنشط في بعض الدول الخليجية ويمكن الضغط عليها بسهولة.
بعد أن تخلت «سويفت» عن التعامل مع إيران، اضطرت طهران للاستعانة بالأموال النقدية والذهب، الأمر الذي جعل إيران تواجه صعوبات كبيرة بسبب اعتماد اقتصادها على تصدير النفط.
أخيراً أقول إنه لا يمكن لأي جهة اقتصادية دولية الاستغناء عن التعامل والتجارة مع دول مجلس التعاون الخليج العربي، مقابل التعاون والتعامل مع دولة مارقة مثل إيران.
مقال : أحمد نور
ترتفع يوماً بعد يوم حصيلة الضحايا المدنيين في محافظة دير الزور على يد القوى المتصارعة على أرض حولتها ل "هولوكوست" حقيقي، جراء ما ارتكبت من مجازر وقتل وشلالات من الدم النازف يومياً من جراح وعذابات مدنيي دير الزور، كأنها القيامة قد قامت ونزل الموت على أرض دير الزور الجريحة، والتي باتت تحت نير القصف الروسي والأمريكي وحلفائهم على الأرض.
هذه القوى التي باتت تتصارع على بقعة جغرافية هي الأغنى استراتيجياً في سوريا، صراع يدفع المدنيون دمائهم لأجل أن تتحقق مصالح هذه الدول، وسط صمت مخزي للعالم أجمع، وبيانات لاتتعدى الحبر الذي كتبت فيه لمؤسسات الثورة العاجزة عن تقديم أي شيء يخفف وطأة الموت والقصف الذي يلاحق مدنيي دير الزور في منازلهم ونزوحهم وفي كل مكان بات الموت يلاحقهم.
لم يترك سلاح لم يجرب فيها, تحت ذريعة مكافحة الإرهاب والحرب على تنظيم الدولة، دير الزور التي تبلغ مساحتها 33 ألف كم وتعتبر ضمن المدن الكبرى في سوريا تتعرض ومنذ أيام لعملية إبادة حقيقية لم يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية معدل النيران والقوة المفرطة التي استخدمت من كافة الأطراف لا تستطيع مدينة بهذه المساحة تحملها، هذا ما قاله نشطاء المحافظة.
خلال 60 يوم تعرضت دير الزور لأكثر من 1000 غارة بمعدل غارة كل ساعة ونصف وصاروخ لكل 33 كم مربع نتج عنها ما يقارب 600 شهيد وأكثر من 1500 جريح ومصاب نصفهم من الأطفال والنساء، إضافة لتدمير حوالي 500 منزل على رؤوس ساكنيها ونزوح ما يقارب 250 ألف مدني من منازلهم لينامو بالعراء.
كل ما بإمكانهم فعله اليوم من نشطاء وفعاليات مدنية هو وضع العالم أمام مسؤولياته في تطبيق أبسط حقوق الإنسان على الشعب السوري الذي يواجه هولوكست يومي، مر على حلب وإدلب ودرعا وحماة وحمص وريف دمشق وهو اليوم يحط رحاله في دير الزور الجريحة، والتي باتت لقمة سائغة تتصارع عليها قوى الاستعمار، كلاً يريد حصته من هذه الضحية التي تركت لتنهشها الوحوش الجائعة، وقوى الاستعمار المتعطشة لآبار النفط، حتى ولو نزفت جراح السوريين مايقابلها دماً.