تعتقد قطاعات واسعة من السوريين أن النظام الدولي تراجع إلى درجة خطيرة، ما يعود إلى سلوكه الملتبس، ثم الرافض ثورتهم من أجل الحرية، على الرغم من أنها تبنّت قيما وأهدافا تتفق وتأسيس نظام ديمقراطي يصون السلام العالمي، ومصالح منظمات الشرعية الدولية وقيمها، ويتكفل بحماية حقوق الأفراد والجماعات والشعوب، ويفتح أبواب العالم أمام التجارة وتبادل المنافع، ويلتزم بقوانين إنسانية، يعطيها الأولوية.
ويؤمن سوريون كثيرون أن العالم سيسقط بين يدي نظام دولي مجاف للنظام الذي تم إنشاؤه بعيد الحرب العالمية الثانية، وأن النظام الجديد سيقلص دور السياسة، ويعتمد القوة أداة لتحقق الدول الكبرى مصالحها، والدليل ما يفعله الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في سورية اليوم، وما فعله في أوكرانيا وأبخازيا أمس، وما بدأ ترامب يفعله في سورية والعراق وأفغانستان، وكذلك ما أبدته الولايات المتحدة وروسيا من تساهل ثقيل الكلفة، وغير أخلاقي حيال بشار الأسد الذي تعرفان جيدا دوره الموثق في تشكيل تنظيمات إرهابية، وما ارتكبه من جرائم ضد شعب"ه" الأعزل، واستقدامه مرتزقة محترفين لقتل مواطني"ه" الآمنين. ودعاه إلى احتلال سورية من حرس إيران الثوري، بينما رفض أي مصالحة وطنية أو حل سياسي، وأصر على حل عسكري، واستخدم جميع أنواع الأسلحة لتحقيقه، وفي مقدمها المحرّمة دوليا، وقتل مئات آلاف الأطفال والنساء بدم بارد، ثم عقد اتفاقيات تفرّط بالسيادة الوطنية وتعيد الاستعمار إلى سورية، طرفاها الآخران، روسيا وإيران اللتان سيرابط جيشاهما فيها إلى نصف قرن، على الرغم مما يثيره وجودهما في مناطق استراتيجية من البحر المتوسط، وعلى حدود العراق والأردن وتركيا، من مشكلاتٍ تتحدّى السيطرة عليها قدرات شعب تعرّض لمئات المجازر، وقتل ودمر عمرانه، فضلا عن الأزمات الدولية المشحونة بمخاطر تهدّد الشرق الأوسط بأسره، وحوض المتوسط وأوروبا.
واليوم، يقال إن العالم يريد أن يقبل السوريون بقاء بشار الأسد رئيسا لهم، على الرغم من أنه لم يترك جريمة سياسية أو إنسانية إلا وارتكبها ضدهم، وفعل بهم ما لم يفعله أحد قبله. هناك من يريد إبقاء الأسد، ضاربا عرض الحائط بملايين السوريين الذين تظاهروا سلميا عاما ونيفا من العام، للمطالبة بإخراجه من حياتهم، وربطوا حريتهم برحيله عنهم. ويعتبرون اليوم أيضا وجوده في وطنهم اعتداء صارخا على حقهم في الحياة، وحق أطفالهم في سقف فوق رؤوسهم، ومدرسة تعلمهم، وفرصة عمل يتعيشون منها، بعد إنهاء دراستهم، وحياةٍ آمنةٍ في وطن تحميهم قوانينه، وتقدّم لهم ما يليق بإنسانيتهم من احترام وعدالة وكرامة.
هذه الرغبة الشيطانية في الإبقاء على الأسد، يسوّغها أصحابها بعدم وجود بديل له! هل يصدّق عاقل أنه ليس هناك بديل لسفاح يقتل شعبا يحمل مئات الآلاف من بناته وأبنائه شهادات دراسية عليا، وتعجّ صفوفه بإداريين متميزين، ومثقفين مبدعين، وقانونيين مفوهين، بينما تبلغ نسبة فئاته البينية، المنتجة والمتعلمة، بين ستين وسبعين بالمائة من أبنائه؟ وهل يصدّق عاقل أن شعبا شارك في تأسيس الحضارة البشرية، تعداده 24 مليون مواطن، يخلو من بديل لمستبد قاتل، وعد السوريين بإصلاح أوضاعهم، قبل تسليمه الرئاسة وبعيده، وعندما ذكّروه بوعوده، انقضّ عليهم بكل ما في ترسانته من سلاح، وهدم بيوتهم على رؤوسهم؟
لنفترض أنه لا يوجد حقا بديل للأسد، هل يعطيه هذا الحق في رئاسة شعبٍ يرفضه، وقدم مليون شهيد خلال سبعة أعوام، كي يتخلص منه؟ أليس الحل المنطقي أن يتم البحث عن حل لمشكلته، بدل جعله المشكلة هو الحل؟ ألم يسبق للعالم أن وجد حلولا لمشكلةٍ كهذه في أكثر من مكان، خصوصا أن النظام الرئاسي الأسدي، الاستبدادي ألف بالمائة، لن يستمر كما يقال لنا؟ ألا يثير الاستغراب والإدانة أن يكون نظامه راحلا وهو باق، وأن يبقى بعد أن قتل وجرح وشوه واعتقل وعذب ملايين السوريين، دفاعا عن نظامه الاستبدادي، ولمنع قيام بديله الديمقراطي على انقاضه؟
من غير الجائز أن تكون هناك شرعية لقاتل، ومن غير المقبول ثوريا الامتناع عن فعل كل ما هو ضروري لتوفير مستلزمات رحيله التي لا بد أن تتعدّى، من الآن فصاعدا، المطالبة الكلامية به، إلى إقامة ظروف وأوضاع تجعل رحيله حتميا. هذا ما علينا فعله، لمنع العالم من أن يستمر في الاستهانه بنا.
لا تترك الخطوات الأميركية الجديدة، في ما يخص إيران وكوريا الشمالية، مجالاً للشك بأن الأوضاع في العالم عموماً، وفي منطقتنا خصوصاً، مقدمة على مرحلة جديدة من الغليان والتوترات، وربما الحروب، الداخلية والخارجية. فما أعلنه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في خطابه الخاص بإيران، أول من أمس، يوحي بأن الأمور في طريقها للعودة إلى المربع الأول، أي مرحلة ما قبل الاتفاق النووي، وهو ما أوضحته طهران، بإعلانها أنها ستعود إلى ممارسة "أنشطتها النووية السلمية". لم يستمع ترامب إلى كل الأصوات الأوروبية المؤيدة للاتفاق، والتي تطلب تعديلات عليه، وأصر على فتح باب المواجهة مع إيران، وهي مواجهة ستكون المنطقة العربية تحديداً ساحة لها، سواء في لبنان أو سورية أو اليمن أو العراق. ولعل البلد الأخير هو المرشح الأوفر حظاً ليكون باكورة ساحات المواجهة، خصوصاً في ظل التوتر القائم حالياً بين بغداد وأربيل، ودخول الحشد الشعبي، الذراع الإيرانية في العراق، بقوة في التحضيرات للمعركة، والتي لن يكون قرارها عراقياً صرفاً.
فعلى الرغم من التطمينات الحكومية العراقية أنه لا نية للدخول في معركة مع الأكراد، إلا أن الأوضاع في محيط كركوك لا توحي بذلك، خصوصاً في ظل وجود قوات الحشد التي استولت على مواقع للبشمركة جنوبي المدينة. وعلى هذا الأساس، قد لا يكون قرار تفجير المواجهة بيد الحكومة العراقية، والتي تمتلك نفوذاً قليلاً على قوات الحشد، فالمعركة قد تندلع في حال جاءت كلمة السر من الحرس الثوري الإيراني، الذي وضعته إجراءات ترامب في مقدمة أولوياتها.
لا يعني هذا أن المعركة ستكون وشيكة، بانتظار الإجراءات الأميركية اللاحقة، سواء من وزارة الخزانة أو من الكونغرس، والتي قد تساهم في تفجير المواجهة، رغم محاولات الاحتواء التي تبذلها عواصم غربية عديدة. كذلك الأمر مرتبط بإيران التي تتوجس من العودة إلى المربع الأول، والدخول تحت نير العقوبات مجدداً بعد المتنفس الذي وجدته من الانفتاح الغربي عليها اقتصادياً، وتسلمها جزءاً كبيراً من الأموال المجمدة في الولايات المتحدة، وهي بالتالي ستكون منفتحةً على محاولات الاحتواء، لكن من دون تقديم تنازلات كبيرة، على غرار ما تريده بعض الدول الغربية، خصوصاً في ما يتعلق بإعادة فتح الاتفاق النووي، وإدخال تعديلاتٍ عليه تشمل حظراً على تطوير الصواريخ البالستية.
كذلك فإن حدود الرد الإيراني لن تقتصر على العراق، خصوصاً أن طهران وحلفاءها ينظرون إلى دور لبعض الدول في المنطقة، خصوصاً السعودية، بأنه كان أساسياً في الانقلاب الأميركي على الاتفاق النووي، وهو ما توضح من الترحيب المباشر الذي أبدته كل من الرياض وأبوظبي بعد خطاب ترامب. ترحيب ستكون له تداعيات أيضاً، مسرحها المنطقة العربية، خصوصاً في اليمن ولبنان، ولا سيما بعد الخطاب الناري الذي وجهه الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، ضد السعودية الأسبوع الماضي، مستبقاً الخطوات الأميركية، والتي استهدفت أيضاً قياديين في الحزب.
بين العقوبات الأميركية المرتقبة والرد الإيراني المتوقع، لن تكون فترة الانتظار في المنطقة هادئة، إذ تبدو مفتوحة على مناوشات بين الحين والآخر.
تطورت حدة المواجهة بين السعودية وحزب الله، إثر اشتعال التراشق الكلامي بين وزير الدولة لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان وزعيم الحزب حسن نصرالله، ووصل إلى حد التجريح الشخصي. وواضح أن هذا السجال العنيف هو انعكاس لما يجري من تطورات إقليمية متسارعة ومتشابكة على أكثر من صعيد وفي غير اتجاه. إذ كان نصرالله يترقب بقلق، على ما يبدو، المواقف التي أعلنها لاحقا الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وتحديدا ما يخص زيادة العقوبات المالية، وتشديدها على حزبه، وفي ما يتعلق بالاتفاق النووي مع إيران. فيما تبدو السعودية غير متأكدة من جذرية خطوات الإدارة الأميركية، وتعتبر الإجراءات ضد حزب الله غير كافية. وترافقت هذه الشكوك مع زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز، وهي الأولى التي يقوم بها ملك سعودي إلى موسكو.
وقبل أن يبدأ نصرالله خطابه بشن هجوم على أميركا والسعودية، وهي خطابات تتكرر بشكل لافت هذه الأيام، غرد السبهان على حسابه على "تويتر" إن "العقوبات الأميركية ضد الحزب المليشياوي الإرهابي في لبنان جيدة، لكن الحل بتحالف دولي صارم لمواجهته، ومن يعمل معه لتحقيق الأمن الإقليمي". وكان السبهان قد كلف بالملف اللبناني، وزار بيروت مرات، والتقى عددا من السياسيين، في محاولة لشد العصب ضد حزب الله، وإعادة تقريب وجهات النظر بين قوى "14 آذار" سابقا. وقد سبق تغريدته هذه بأخرى، وصف فيها حزب الله بأنه "حزب الشيطان". وجاءه الرد سريعا من نصرالله الذي قال إن "حزب الله أكبر من أن يواجهه السبهان وقادته بتحالف محلي. ولهذا هو يدعو إلى تحالف دولي لمواجهة حزب الله". ما بدا أنه تنويه وتباه من نصرالله بقوة حزب الله، وبدوره الإقليمي. ثم أردف واصفا السبهان بالزعطوط.
وانهالت التساؤلات مستفسرةً عن المعنى الذي يعكس، بطبيعة الحال، استخفافا بالشخص. وقد عثرنا في القاموس على تفسيرين متقاربين، الأول باللغة الآرامية يعني الشخص الراشد الذي يتصرف مثل طفل، وتصدر عنه سلوكيات غير مقبولة. والثاني باللهجة المغربية، ويعني قردا صغيرا يتمتع بوبر كثيف وحجم صغير. وقد بدا نصرالله في بداية الخطاب منفعلا ومتوترا بعض الشيء، فقد صب غضبه على الإدارة الأميركية "أصل كل الشرور، وهي مع السعودية صاحبة مشروع التآمر على المنطقة، والآخرون ملحقون". وأطال نصرالله الحديث عن الوضع اللبناني الداخلي، معلنا ومؤكدا أن لبنان سيبقى في مأمن عن أي تطورات سلبية في المنطقة. وكانت لافتةً إشادته بالحكومة، وبكل ما تقوم به من إجراءات اقتصادية ومعيشية، وتحسين أجور الموظفين والمتقاعدين ورواتبهم، وتصميمه وتأكيده على إجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها (مايو/ أيار 2018). وأشاد برئيس الجمهورية، ميشال عون، من باب الرد أيضا على ما تسرب عن الإدارة الأميركية أن واشنطن تعتبره عميلا لحزب الله. وقد نفى نصرالله التهمة قائلا إن "الأميركان يريدونه عميلا لهم وتابعا لسفارتهم". وقد فسر مراقبون هذه الإشادة وهذا "الاحتماء" بالوضع الداخلي بأنه يعكس ريبة الحزب من التطورات المقبلة التي يمكن أن تعني عودة المواجهة والتوتر بين أميركا وإيران، وربما عودة العقوبات مجددا على طهران. في الوقت الذي يبدو فيه قرار تشديد العقوبات على حزب الله ومضاعفتها مؤكدا، بهدف تجفيف كل منابع (وقنوات) تمويله، عبر منع أي متمول أو رجل أعمال له مصالح أو متعاطف مع الحزب، في أي دولة أو قارة وجد. ترافقها إجراءات لوجستية وتهديد بعقوبات على أي مصرف أو مؤسسة مالية تتجرأ بتحويل (أو نقل) أموال للحزب، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
ويبدو نصرالله غير مرتاح جدا لتطور الميدان في سورية، على الرغم من تظاهره وإعلانه عكس ذلك، فها هي تركيا أصبحت في إدلب، ورجاله غارقون في صحراء البادية السورية، وقتلاهم بالعشرات. وهو يحاول في المقابل أن يضغط على الحكومة اللبنانية، لكي تفتح حوارا رسميا مع النظام السوري، بحجة تأمين عودة النازحين السوريين، وإذ بهؤلاء يرفضون حتى من هم موالون للنظام، والحكومة اللبنانية ترفض، لأن رئيسها سعد الحريري لم يتبقّ له إلا هذا الملف، لكي يشد به عصبيته، ويحافظ على شعبيته المعادية لبشار الأسد. كما أن الانتخابات باتت على الأبواب والخصوم في الشارع السني كثيرون.
ما ينتظر طهران وحزب الله إذا حصار خانق. وقد اعترف نصرالله بأن العقوبات ستكون قاسية ومؤلمة، وسترهب أصدقاء ومتبرعين كثيرين، لكنه أكد أنها "لن تدفعنا إلى تغيير موقفنا مهما كلف الأمر". ولكن هل ترامب جاد فعلا في ما يقول أو يخطط له أم أنه يشيع مجرد تهويل، و"فشة خلق" هنا وهناك، كما فعل إلى الآن تجاه كوريا الشمالية وتجاه بشار الأسد؟ تجاه موسكو أم بالتواطؤ معها؟ أو حتى مع إيران؟ وربما هذه الأسباب وغيرها ما يجعل السعودية غير واثقة أو غير مرتاحة لطريقة الإدارة الأميركية بشأن الأزمة السورية، وموقفها المتراخي وترددها في دعم المعارضة، ما يسهل انتشار إيران وتوسعها عراقياً وسورياً ولبنانياً، وغزلها مع تركيا. وقد تعانقت الطورانية والفارسية في أول زيارة يقوم بها رئيس تركي لطهران. وهي السياسة نفسها التي دفعت أنقرة إلى أحضان موسكو. هل يمكن القول إن السعودية قد خدعتها سياسة ترامب، على الرغم من كل ما أغدقته عليه من دعم مالي وسياسي واقتصادي؟ أم أن رزانة الملك سلمان، وبعد نظره كما يقول العارفون، يدفعانه إلى التمهيد لخلافة ولي العهد محمد بن سلمان، وهو من جيل العائلة المالكة الثالث، عبر السعي إلى ترتيب الأمور الخليجية أمامه، ثم العربية، بالتصدّي للتوسع الإيراني في المنطقة العربية. ثم ينفتح شرقا على الخصم التاريخي، بحثا عن توازن في العلاقات مع "الدب الروسي" الذي يمسك بزمام أمور الساحة السورية، وبالتالي الإقليمية؟ وهل تحمل هذه الخطوة، في طياتها أيضا، رسالة امتعاض إلى الحليف الأميركي؟
أثبت النظام السوري أنه ذو بنية استبدادية، وقادر على أن يلعب لعبته البهلوانية الخبيثة والذكية والمراوغة في آن، سواء في تعامله مع القضايا الداخلية السورية، بتأجيل كل الاستحقاقات الوطنية للشعب السوري، وربط هذا التأجيل وهذه الاستحقاقات، أكثر من نصف قرن، بقضايا إقليمية عربية الطابع، كقضية فلسطين والأراضي العربية المحتلة. واستطاع أن يتقن لعبة التواطؤ من تحت الطاولة مع القوى الغربية، الولايات المتحدة وأوروبا. من خلال الإعلام، أظهر أنه نظام معاد لإسرائيل ومدافع عن القضايا العربية، ولكنه استطاع، في العمق، أن يضرب النظام العربي ضرباتٍ بنيوية قاتلة، فأجهض الجهود الوطنية اللبنانية، عندما مارس القتل بحق المناضل كمال جنبلاط، وارتكب مجازر تل الزعتر بحق الفلسطينيين في لبنان وغيرها من المجازر.
كان شعار النظام السوري تحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة، لكنه لم يطلق رصاصة في جبهة الجولان. وعندما اجتاحت إسرائيل بيروت عام 1982 لم تطلق القوات السورية طلقة تجاه الطائرات الإسرائيلية. وقد رفع شعار جبهة الصمود والتصدي، بالتحالف مع اليمن وليبيا والجزائر، وقبله أعلن شراكات مع الأردن ومصر وليبيا. ثم أرسل قواته إلى الخليج ضد عراق صدام حسين عام 1990، وتحالف مع ايران في الحرب العراقية الإيرانية 1980- 1988. وكان دوما يرفع شعار لا للتدخل الخارجي، بوجه المعارضة السورية، قبل انطلاق الثورة وبعده، غير أنه تحالف مع إيران وروسيا، وتدخلت البلدان في الأزمة السورية أبشع تدخل. ورفع شعار الممانعة والمقاومة، قبل الثورة وبعدها، وخدع به كثيرين.
الخلاصة أن النظام السوري ماهر جدا في اللعب بالشعارات، والقدرة على التحول من شعار إلى آخر، حسب المرحلة والظرف وتوازن القوى السائد. ويبدو أن لدى هذا النظام مخططين أذكياء من داخله وخارجه، فكلما شعر الشعب، ومعه المراقبون والمحللون، بقرب دنو أجله، عاد تدريجيا إلى أن يستعيد قوته، وإن لم يستطع، بقواته ومخابراته، فبتدخل خارجي يراه حراما وجريمة للمعارضة والشعب، بينما يحلله لنفسه، ويمارسه وكأن شيئا لم يكن، فقد توقع كثيرون سقوط النظام، إثر مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، في 15نوفمبر/ شباط 2005، مع تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، إلا أن المحكمة ميعت، على الرغم من أنها اتهمت عناصر من حزب الله، سرعان ما تخلص الأخير منهم، بدفعهم إلى معارك سورية، بعد أن رفض تسليمهم للمحكمة. وها هي الثورة السورية التي ظننا أنها ستقضي على النظام، يواجهها هذا بمختلف أنواع السلاح، وأيضا ببروباغندا إعلامية تتهم المعارضة بالإرهاب، الأمر الذي لاقى صدى مصلحيا ودعائيا غربيا، توافق مع الخبث والدهاء للنظام الذي استطاع إيجاد نقاط الضعف لدى الخصوم، واستعطف الغرب الذي يدرك هذه الألاعيب، لكن الإخراج المسرحي للنظام وجد صدى لدى الغرب، وتوافقا مع مصلحة مشتركة، وها هو النظام مستمر، على الرغم من أن جيشه تفكك إلى درجة كبيرة.
إنه نظام المراوغة والانتهازية والمخاتلة، ولعل كثيرين من الشعب والمراقبين قد انطلت عليهم لعب النظام السياسية والإعلامية، ولازالت تنطلي على كثيرين الآن، على الرغم من أن الثورة السورية كشفت كل ألاعيبه ومراوغاته وممارساته البشعة بحق الشعب السوري.
شهدت مباريات المنتخب السوري، أخيرا، أجواء جماهيرية متباينة ومتناقضة، انطلاقاً من نظرة السوريين لهذا المنتخب، والتي تنقسم إلى قسمين رئيسيين، إذا ما استثنينا بعض الأصوات الشاذة من مشجعي المنتخب الذين اعتبروه منتخب الأسد، لا منتخب سورية. وعليه فهم يشجعون الأسد وفقط. القسم الأول هو من يراه منتخب الطاغية والديكتاتور والمجرم، ما يفرض عدم تشجيعه ودعمه، إن لم نقل بوجوب دعم (ومؤازرة) المنتخب المقابل له، أما القسم الثاني فيراه منتخب الوطن، لا منتخب النظام، وعلينا دعمه وتشجيعه، كما علينا استثمار هذه الفرصة الرياضية، لإعادة شيء من تراص المجتمع السوري ووحدته، الأمر الذي يعكس، في أحد جوانبه، محاولة أصحاب هذه الرؤية للفصل بين الرياضة والسياسية، أو بالأصح الفصل بين تشجيع المنتخب وتشجيع النظام أو دعمه، وإن أخطأوا في تقديرهم، إذ يشير إلى تناقض بسيط في رؤيتهم، لكنه جوهري في التعامل مع هذه المسألة، فمن ناحية هم يدعون إلى فصل الرياضة عن السياسة، وتشجيع المنتخب على اعتباره منتخب كل السوريين، وكل الأراضي السورية، وفي الوقت نفسه، يأملون في أن يلعب المنتخب الدور السياسي الذي فشل النظام والمعارضة به، وهو توحيد المجتمع السوري.
لذا، وعلى خلفية هذا الكم من التباين والتناقض في الآراء والمواقف، لابد من تلمس حجم فشل المنتخب في تجاوز حالة الانقسام السورية، أي حجم فشله السياسي، وهو ما يدفع إلى التفكير في أسباب هذا الفشل ومقوماته، ولتكن البداية من بنية المنتخب ومن البيئة الناظمة له. وبمعنى آخر، هل فعلاً كان المنتخب السوري منتخبا لسائر أبناء الشعب السوري، أم كانت البيئة المسيرة له، والمكونة له، ذات لون سياسي واضح وفج، ألم يتم ربط التحاق الكادر الإداري والفني واللاعبين في المنتخب بموقفهم السياسي وبتصريحاتهم الإعلامية، أم تمت إدارة المنتخب، وتم إنتقاء عناصره وأفراده وفقاً لمبادئ ومقومات رياضية بحتة، على قاعدة الكفاءة والفعالية والالتزام و مستوى الأداء، من دون أي اعتبار للموقف السياسي؟ ألم يشترط النظام على بعض اللاعبين وبعض الإداريين الإدلاء ببعض التصريحات والمواقف السياسية المحدّدة والمذلة أيضاً في مقابل الالتحاق بالمنتخب، وكذلك ألم يتعامل إعلام النظام مع المنتخب على اعتباره أولاً منتخب الأسد، ومن ثم منتخباً لسورية، كيف لا والأسد هو راعي الرياضة الأول وربما الأخير أيضاً. وعليه، ماذا لو تمت إدارة المنتخب وإدارة الرياضة السورية عموماً من تكنوقراط، متحلين بالموثوقية والإجماع السوري، وبسلطات رياضية وفنية ومالية مطلقة، ليتم اختيار أفراد المنتخب وكوادره، وصهرهم وتطويرهم معا على قاعدة تمثيل جميع السوريين، وجميع الأراضي السورية؟ أكنا سنشهد تباين الآراء سابقة الذكر وتناقضها، أم كنا سنعيش جميعاً أجواء الفرح والحماس والاندفاع لمنتخب السوريين ومنتخب سورية الحقيقي.
لكن، وللأسف تم التعامل مع الرياضة ومع المنتخب سياسياً، كما كان متوقعا منذ البداية، على اعتباره نصرا للأسد وللنظام وفشلا للثورة السورية عموماً، ما فرض على جزء كبير من السوريين الرد بشكل واضح وحاسم، انطلاقاً من إيمانهم باستمرار الثورة السورية، حتى تحقيق أهدافها الوطنية كاملةً. ومتشبثين برفضهم الاعتراف بالنظام، أو بمنتخبه ممثلا لسورية وللسوريين. وهو ما أدى إلى فشل المنتخب في مهمته السياسية، أولاً نتيجة طريقة إدارته والتعامل معه من النظام كما ذكرنا سابقاً، كما فشل رياضياً في بلوغ نهائيات كأس العالم المقبلة، نتيجة جملة من العوامل والأسباب التي بدأ إعلام النظام السوري في تسليط الضوء عليها، من قبيل حرمان المنتخب السوري من خوض مبارياته داخل ملاعب سورية، كملعب الحمدانية في حلب أو ملعب العباسيين في دمشق، والتي تعني فقدانه الدعم والتشجيع المباشر من الجماهير السورية الغفيرة، والمشهورة بحفاوة تشجيعها ودعمها، فضلاً عن عدم تمتع المنتخب بالحد الأدنى من ظروف التجمع والتدريب والانصهار الطبيعية والعادية، والتي ترفع من كفاءة أي منتخب، وانسجامه وتعاونه، ويمكننا إضافة أسباب أخرى، لا يجرؤ إعلام النظام السوري والإعلام المقرب منه على ذكرها، من قبيل عجز عديدين، من لاعبي سورية عن رفد المنتخب بمهاراتهم وإمكاناتهم نتيجة قتلهم واستشهادهم، أو اعتقالهم، أو نتيجة نهاية مسيرتهم الكروية، بفعل صواريخ النظام السوري وقذائفه، وأحياناً قليلة، نتيجة قصف المعارضة، فضلاً عن تشرد وهجرة بعض الكفاءات والمهارات الرياضية، وخسارة المنتخب فرص التحاقهم أو متابعتهم، وانتقاء المناسب منهم. قد لا نكون قادرين على ذكر جميع الأسباب الرياضية واللوجستية التي أدت إلى فشل المنتخب في تحقيق مراده الرياضي، إلا أننا قادرون على تحديد مسبباتها وتحديد المسؤول عنها، من دون الاكتفاء بتعداد بعض هذه الأسباب، وتجنب الحديث عن فاعليها ومسببيها، كما يفعل إعلام النظام السوري، والتي تعيدنا إلى سياسات راعي الرياضة السورية الأول وممارساته الإجرامية والاستبدادية والإقصائية تجاه الثورة الشعبية السورية، هذه الممارسات التي حملت الويلات لسورية وللسوريين.
وليس غريبا على الإعلام النظامي السوري أن يمارس سياسته المعتادة، المنطلقة من نسب أي إنجاز فردي أو جماعي سوري إلى قائد مسيرة السوريين، وراعيهم الأول، وفي أي مجال من مجالات الحياة، بينما يحيل أي إخفاق أو فشل أو قصور إلى جملة من العوامل والأسباب الخارجة عن إرادة رأس النظام، والتي قد تتحول إلى مؤامرة كونية على سورية، وقائدها المفدى. وفي أحسن الحالات، يتم تحميل هذه الإخفاقات والممارسات المدانة إلى أي دائرة أو مؤسسة من مؤسسات النظام، ممثلة بمسؤولها أو وزيرها أو بكليتها، وبتجاهل كامل لأي دور أو أي مسؤولية لرأس النظام الذي كان، قبل لحظات أو أيام، الراعي الأول لها، تماما كاعتباره راعي الرياضة الأول اليوم وأمس وغداً، عند الحديث عن احتمال تحقيق أي إنجاز، ولو كان وهمياً، أو اعتباره راعي وحدة سورية والسوريين وضامنها، بينما يتم تناسي دوره التخريبي والتدميري والإجرامي، عند الحديث عن الإخفاقات الرياضية أو الفنية أو الثقافية أو السياسية، مثل دوره ومسؤوليته في استباحة حرمة الدماء و الأراضي السورية التي باتت خاضعةً لشتى أشكال وأنواع قوى الاحتلال الخارجية والداخلية، وفي تدمير وحدة الوطن والشعب.
إذن، لابد من الانطلاق من اعتبار الأسد، فردا ومنظومة حكم، الراعي الأول لتخلف سورية، وراعي النهب الاقتصادي والدمار العمراني وتفتيت المجتمع قبل الثورة وبعدها، من أجل أن ننطلق نحو بناء جميع مكونات الشعب السوري لسورية التي نريد، سورية العدالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، سورية الحضارة والتطور الاجتماعي والعلمي والاقتصادي، سورية الشعب السوري، لا سورية الأسد.
قال الرئيس ترامب يوم الجمعة انه لن يصادق على التزام إيران بالاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، على اساس تقييم واضح للديكتاتورية الايرانية ورعايتها للإرهاب وعدوانها المستمر في العالم والشرق الاوسط بشكل خاص. ولكننا نريد الحديث عن أساليب أخرى تتبعها إيران لزعزع الأمن في المنطقة.
تتسابق إيران وميليشياتها لفرض واقع عسكري جديد في سوريا من شأنه أن يغير جذريا توازن القوى في الشرق الأوسط لعقود قادمة ويخلق تحديات أمنية لا تعد ولا تحصى. ومنذ دخول خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي مع إيران) حيز النفاذ، أرسلت إيران آلاف مقاتليها من الحرس الثوري الإسلامي وميليشياتهم إلى سوريا. إلا أن توسع إيران في سوريا قد وصل في الأشهر القليلة الماضية إلى مستويات غير مسبوقة، حيث أن مناطق تخفيض الصراع التي تفاوضت عليها الولايات المتحدة وروسيا قد أوجدت حقائق على أرض الواقع سيكون من الصعب جدا عكسها، وبتكلفة باهظة جدا.
على الرغم من حديث إدارة ترامب الصريح حول إيران بأنها "نظام مارق"، توسعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بسرعة، حتى أرسلت قواتها النظامية للقتال في سوريا. وقد وصلت القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها الآن إلى الخطوط الأمامية للعديد من الدول المتحالفة في المنطقة. ولم يعد بإمكاننا التعامل مع مخاطر التوسع الإيراني من خلال السياسات التقليدية. هناك ما يقرب من 100،000 مقاتل من الميليشيات الشيعية في سوريا، وقد أغرقت طهران الحدود العراقية السورية بالآلاف من مقاتلي ميليشيا الحشد الشعبي. ومع ذلك، فإن إدارة ترامب حتى الآن كانت سلبية ردا على هذا التهديد، الذي سيترك المنطقة بأكملها قريبا تحت سيطرة القوات الروسية والإيرانية.
وتشعر المعارضة السورية والعديد من دول المنطقة بالخذلان نتيجة السماح لإيران بالهيمنة على المسار التفاوضي وعلى ترتيبات إنشاء مناطق خفض التصعيد بالتعاون مع موسكو، وبدلا من الضغط على إيران لوقف الإرهاب، يضغط المجتمع الدولي على المعارضة لتقديم تنازلات كبيرة في المفاوضات. وعلينا أن نخلص الوهم بأن روسيا قد تتخلى في نهاية المطاف عن إيران. وتقدم روسيا الدعم الجوي وتنشر قوات برية مع إرهابيي حزب الله والحرس الثوري الإيراني. وقد ساعدت روسيا إيران على المضي قدما في غضون بضعة كيلومترات من المناطق الحدودية في جنوب غرب سوريا، وهو أقرب ما وصل إليه الإيرانيون إلى مرتفعات الجولان.
في آب / أغسطس، استغلت إيران الرغبة الدولية في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية لإقامة منطقة نفوذ إيرانية على الحدود السورية اللبنانية. وعلى الرغم من مشاركة الجيش اللبناني والقوات الخاصة الأمريكية في عملية لإزالة تنظيم الدولة الإسلامية من الحدود اللبنانية، استغل حزب الله التابع لإيران وزعيمه حسن نصر الله الفرصة للتفاوض على اتفاق مع الدولة الإسلامية. وكان هذا الاتفاق انتصارا كبيرا للنظام وإيران وربط الحدود اللبنانية في القلمون الغربي مع الزبداني ودمشق للمرة الأولى منذ سنوات.
إن إضفاء الطابع الشرعي على الوجود العسكري الإيراني في جنوب غرب سوريا هو واحد من أبرز المشاكل في الاتفاق الأمريكي الروسي الذي تم التوصل إليه في يوليو. وفي المفاوضات سمحت الولايات المتحدة بالتوسع الإيراني بالتنازل عن مطالبة الميليشيات المدعومة من إيران بسحبها لمسافة 50 كيلومترا من الحدود الجنوبية الغربية.
وفي شرق سوريا، تبذل إيران جهودا حثيثة لإضعاف الوجود الأمريكي وتسريع العمل للسيطرة على الحدود السورية العراقية، والاستفادة من الانهيار السريع للدولة الإسلامية. وفي الوقت نفسه، هناك تقارير تفيد بأن القوات الأمريكية تنسحب من قواعد التنف والزكف، حيث كانت تدرب قوات المعارضة السورية، والعودة إلى قاعدة الأزرق داخل الأردن. وفي حال تمكنت الميليشيات المدعومة من إيران في سوريا من الربط مع الميليشيات العراقية المدعومة من إيران والتي شاركت في معارك تلعفر، سيتم إنشاء جسر بري مع توسيع رقعة إيران على طول الحدود السورية العراقية التي يبلغ طولها 600 كيلومتر، ممر مفتوح من العراق إلى سوريا إلى البحر الأبيض المتوسط.
إن تردد الإدارة الأمريكية في مواجهة روسيا وإيران في سوريا أكثر وضوحا في شرق سوريا، حيث رحبت واشنطن بجهود النظام وإيران وميليشياتها الطائفية بمساعدة روسية للسيطرة على دير الزور. ومن خلال اتخاذ دير الزور، ستمدد إيران سيطرتها على موارد الطاقة في تلك المنطقة الاستراتيجية.
ويتمثل ردنا على الضغوط التي تمارس علينا للقبول ببقاء بشار الأسد في المرحلة الانتقالية بالتأكيد على أن القضية لم تعد تتعلق بشخص الرئيس (الذي فقد شرعيته وسيادته وقدرته على اتخاذ القرار)، وإنما في مخاطر الاستجابة لرغبة إيران في توظيف ضعف بشار للإمعان في إضعاف المؤسسات المدنية والعسكرية السورية وإخضاعها للهيمنة الإيرانية.
إن مطالبنا برحيل بشار وزمرته ممن تورطوا بارتكاب جرائم في حق السوريين هي جزء من استراتيجية شاملة لحماية مؤسسات الدولة التي كنا على رأس مناصبها الإدارية والسياسية لسنوات مضت، ونحن في وضع أفضل لحماية هذه المؤسسات من محاولات تجييرها لهيمنة إيران التي عملت على تفكيك مؤسسات الدولة في كل من العراق واليمن ولبنان.
وفي حين تعمل روسيا على إدارة مناطق "خفض التوتر" بالتعاون مع إيران، تمعن واشنطن في إضعاف فصائل المعارضة المعتدلة معززة بذلك جهود موسكو في تخفيف الضغط العسكري على قوات النظام ودفع المعارضة لإبرام اتفاقيات مصالحة محلية تعيد سيطرة النظام على مناطق شاسعة دون أي قتال، وفي ظل هذه السياسة بات من الواضح أن المكان الذي يتم إخراج داعش منه ستحل فيه إيران.
والآن، بينما أكد ترامب في خطابه يوم الجمعة أن إدارته لن تصادق الآن على خطة العمل الشاملة (الاتفاق الإيراني)؛ يجب عليه أيضا أن يضع استراتيجية إقليمية لمواجهة التدخل الإيراني في سوريا. إن دعم المعارضة السورية المعتدلة في شرق سوريا لملء الفراغ الناجم عن سقوط الدولة الإسلامية يجب أن يكون عنصرا أساسيا في هذه الاستراتيجية، كما يجب أن يصنف الحرس الثوري الإيراني وميليشياته في سوريا كمنظمات إرهابية. ولا بد من التفاوض على مناطق خفض التوتر من أجل ردع الميليشيات الإيرانية - وليس كوسيلة لإضفاء الشرعية على توسعها وتعزيز الأسد. يجب على الولايات المتحدة أن تقيم حقائق جديدة في سوريا بدلا التسليم بالهيمنة الإيرانية وتقديم سوريا هدية لإيران على طبق من ذهب.
وكأن السوريين كانوا بحاجة لمزيد من المحرضات كي يزدادوا فرقة وتشرذماً وتشظياً وانقساماً. ألا يكفيهم أن النظام استخدم السلاح الطائفي والمناطقي منذ الأيام الأولى للثورة كي يزيد الشروخ الداخلية، ويعّمق التناقضات بين مكونات الشعب ليحكم السوريين على مبدأ: فرق تسد.
غالبية السوريين باتوا متأكدين أن شعار «المسيحي على التابوت، والعلوي على بيوت» في الأيام الأولى للثورة كان من صناعة المخابرات السورية حصراً لتحشيد الأقليات كي تلتف حول النظام، فراح يخوّفها من المسلمين السنة، ويدق الأسافين بين السوريين كي يتفرقوا ويتقاتلوا فيما بينهم بدل أن يواجهوا النظام. وكيف ننسى كيف نشرت المخابرات السورية شريطاً وزعته على نطاق واسع في ذلك الوقت لشيخ مسلم يُدعى الخليلي ادّعى فيه أنه من مدينة درعا، وراح يهاجم في الشريط أهل السويداء جيرانه الموحدين الدروز، ويشتم نساءهم كي يستفزهم ضد جيرانهم أهل درعا المسلمين. وقد عمل النظام المستحيل كي يزرع الضغينة والبغضاء في المنطقة الجنوبية بين أهل السويداء وأهل درعا، فلجأ إلى عمليات الخطف التي كان يرعاها وفيق ناصر شخصياً في السويداء ودرعا، فكان يخطف من درعا، ويخطف من السويداء، كي يشتبك أهالي المدينتين فيما بينهم وينسوا الثورة.
ومن أخطر الوسائل التي اتبعتها المخابرات السورية أنها كانت تقول لشبان مدينة السويداء كي تقنعهم بالقتال ضد الثوار في درعا المجاورة: «يجب أن تذهبوا إلى درعا لتقاتلوا الإرهابيين الإسلاميين الدرعاويين الذين يريدون أن يهاجموا السويداء ويحتلوها». وكيف ننسى تصريحات بثينة شعبان في الأيام الأولى عندما وصفت مجموعات من الشباب الثائر الأعزل في الساحل السوري بأنهم إسلاميون إرهابيون، والهدف طبعاً تأليب الطوائف على بعضها البعض هناك وتخويف الأقليات كي تقف مع النظام.
لقد كانت سياسة شيطانية بامتياز لم يلجأ إليها حتى الاستعمار الفرنسي القذر كي يفرق السوريين. لقد تفوق النظام «القومجي الوحدوي» بين قوسين طبعاً حتى المستعمر في استخدام سلاح التفرقة ضد السوريين كي يسيطر عليهم، ويلعب على تناقضاتهم من أجل التحكم بهم والتلاعب بمصيرهم.
لا عجب إذاً أن النظام استخدم كرة القدم كي يزيد من الشروخات بين السوريين ويفرقهم على أسس جديدة. إن من استغل السلاح الطائفي القذر لتمزيق سوريا وتشتيت شعبها وضربه بعضه ببعض لن يتوانى عن استغلال سلاح الرياضة كي يستمر في تعميق الأحقاد والضغائن ودق الأسافين بين الشعب السوري. لقد لاحظ الصغار قبل الكبار كيف استثمر النظام مبارة الفريق السوري مع فريق استراليا كي يفرق السوريين ويثيرهم على بعضهم البعض. بين ليلة وضحاها صار نظام القتل والإجرام الذي قتل مئات الرياضيين وسجن الآلاف منهم، صار فجأة راعياً للرياضة والرياضيين، فنسي كارثة الحرب وراح ينصب الشاشات العملاقة في الساحات والميادين، ويستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتحشيد مؤيديه كي يشجعوا الفريق الأسدي أولاً لإلهاء السوريين عن كارثتهم الرهيبة، وثانياً كي يوهمهم بأنه بات مسيطراً، وثالثاً وهو الأهم كي يستثير ملايين السوريين المعارضين على المؤيدين الذين سيشجعون الفريق الأسدي والعكس صحيح. وقد نجح في ذلك نجاحاً باهراً، فقد تحولت مبارتا الفريق الأسدي مع إستراليا إلى حرب داحس والغبراء بين المؤيدين والمعارضين، وصارت عنواناً لسوريا الجديدة المنقسمة على ذاتها. فبينما ناصر مؤيدو الأسد الفريق الأسدي، ناصر الكثير من المعارضين الفريق الاسترالي، وتمنوا أن يفوز على فريق الأسد. وبينما فرح الكثير من المعارضين بهزيمة الفريق الأسدي، سادت حالة من الحزن الشديد في أوساط المؤيدين الذين ذرفوا دموعاً غزيرة على هزيمة الفريق الأسدي، أبكتهم خسارة فريق الأسد لكرة القدم ولم يُبكهم 1500 طفل استشهدوا على مسافة لا تبعد عنهم عشرة كيلومترات بِالسلاح الكيماوي، ولم يُبكهم ملايين المُهجرين والمُشردين ومئات الآلاف من الشُهداء والمُعتقلين والجرحى.. يا هيك اللحمة الوطنية يا بلاش.
وكي يزيد الطين بلة ضغطت المخابرات السورية على بعض اللاعبين أن يرفعوا صور الأسد ويمتدحوه على الشاشات، مما جعل الفريق يبدو في عيون بقية السوريين أنه ليس فريق سوريا الوطن بل فريق الأسد القاتل. وقد ارتكب رئيس الفريق غلطة فادحة عندما خرج على الهواء ليقول إن الفريق الذي لعب مع استراليا هو فريق ما يسمى بالسيد الرئيس، مع العلم أن هذا الرئيس لا يمثل إلا مؤيديه، بينما يعارضه أكثر من ثلثي السوريين، وخاصة الاثني عشر مليوناً الذين صاروا إما نازحين أو لاجئين. وهذا من شأنه طبعاً أن يرش الملح على جروح السوريين المكلومين بدل مداواتها. بعبارة أخرى بدل أن يستخدم النظام هذه المناسبة الوطنية لجمع السوريين على كلمة سواء استغل كرة القدم كي يزيد في أحقادهم وصراعاتهم وضغائنهم.
من المعروف أن كل فرق كرة القدم في العالم تلعب باسم أوطانها باستثناء فريق كرة القدم السوري، فقد لعب باسم بشار الاسد، مما جعل الكثير من السوريين يقول له: «أي طز فيكم وطز بفريق الاسد». لماذا من حق رئيس فريق كرة القدم السوري ولاعبيه أن يقولوا إنهم فريق السيد الرئيس بشار الاسد، وليس من حق ملايين المعارضين أن يقولوا له: «طز فيك وبالأسد وفريقه وطز تلحق بكل واحد شايف الوطن بفريق الاسد»، يصيح معلق سوري؟
ألا تعلمون أن المنتخبات الرياضية تلعب دائماً لترفع اسم أوطانها وليست مؤسسة لتلميع صورة فلان وعلان، يجادل معلق سوري: «أظن وليس كل الظن اثماً أن المنتخب السوري لعب بقلب مليء بحب الوطن، لكن نظام البعث السخيف قزّم دوره، وجعله مؤسسة كطلائع البعث أو شبيبة الثورة أو اتحاد الطلبة، وزعزع ثقة اللاعبين بين إنجازهم للوطن أو خدمة لتلميع الاشخاص…
وبين التلميع والتمييع فقدنا فرصة كان يمكن أن تُستثمر لإعادة بناء وطن منهك».
عندما يلعب فريق كرة قدم باسم الوطن سيسانده بلا شك كل أبناء الوطن، وعندما يلعب باسم شخص، حتى لو كان رئيساً، فسوف يقسّم الوطن إلى أقسام، وهذا، على ما يبدو، ما يريده بشار الاسد ونظام التفرقة الطائفية والمناطقية. لقد كانت مشاركة فريق الأسد في تصفيات التأهل لكأس العالم مناسبة كارثية زادت من الفرقة والتشظي بين السوريين تماماً كما خطط له النظام «القومي» في دمشق الذي كان يرفع دائماً شعار الوحدة العربية ظاهرياً، بينما يدق الأسافين بين أفراد العائلة السورية الواحدة. وسلامتكم.
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمس خطته الاستراتيجية الجديدة حول إيران.
الخطة، لم تكن «عاصفة»، كما سبق أن قال في وصفها، فهي لا تمزق الاتفاق النووي مع طهران (كما كان قد وعد خلال دعاياته الانتخابية كمرشح للرئاسة) بل تبقي عليه وتحوّله إلى مجلس النواب الأمريكي لإضافة شروط عليه، ولم يطلب ترامب من الكونغرس أن يعيد العقوبات المفروضة على طهران لأن ذلك كان يساوي إلغاء الاتفاق النووي أصلا.
وعلى عكس ما أشيع سابقا حول إمكانية إعلان ترامب الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية فإن الذي حصل هو إعلان الرئيس الأمريكي عقوبات إضافية تستهدف الحرس الثوري. لقد تغلّبت العقلانية على التطرّف، فحسب وزير الخارجية الأمريكية ريكس تيلرسون نفسه فهناك «مخاطر وتعقيدات ترتبط بتصنيف جيش كامل لبلد ما» على أنه منظمة إرهابية. وبدلا من تصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية ستتكفل وزارة المالية الأمريكية بإعلان بعض العقوبات عليه.
حسب ترامب، فالاتفاق النووي كان مليئا بالثغرات، وخطته تقوم على سحب مصادقته عليه كرئيس، لكن ترامب، من جهة أخرى، لم يطلب من الكونغرس فرض عقوبات سريعة على إيران، وهي خطوة تعني أنه غير قادر، عمليّاً، على الانسحاب المفاجئ من هكذا اتفاق، كما أنها تعني أن الرئيس المشاكس استمع إلى غالبية مستشاريه الذين نصحوه بعدم الانسحاب من الاتفاق.
خطاب ترامب تضمن أيضاً اتهامات لإيران بدعم أنشطة إرهابية وبتطوير برنامج الصواريخ الباليستية، وأن هذا التطوير على علاقة بالمشروع النووي الذي تنكر طهران أنها مهتمة بتحقيقه، بالإضافة إلى اتهام طهران بخلخلة الاستقرار في بلدان الشرق الأوسط عبر تعزيز نفوذها وإدارتها لأنشطة ميليشيات محلّية في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، غير أن المطلوب فعليّاً، سيتعلّق بمحاولة تقييد برنامج الصواريخ الباليستية، وهو أمر، يبدو أن الأمريكيين والإيرانيين بدأوا العمل عليه فعليا.
ورغم عدم إظهار ترامب اكتراثا بالموقف الأوروبي المعارض لوقف الاتفاق النووي مع إيران فإن اتجاه القادة الأوروبيين يزداد لإعلان الاختلاف عن أجندة ترامب، فهناك قلق أوروبي واضح من أن يؤدي التشدد الأمريكي مع إيران إلى عودتها للعمل على صنع قنابل نووية، إضافة إلى أن هذا التوجّه المتشدد ضد إيران سيزيد موقف كوريا الشمالية تصلّباً ويبعدها عن طاولة المفاوضات.
المواقف الأمريكية العقلانية من إيران، لا يقف وراءها «لوبي» إيراني (رغم أن هذا اللوبي موجود) بل تستند إلى الحكمة المتولدة من الحصيلة المخيفة لكوارث التدخلات الأمريكية في المنطقة، وخصوصاً في العراق، الذي لم يكن يملك أسلحة نووية، ولا أسلحة دمار شامل، لكنّ إدارة جورج دبليو بوش، وفريق المحافظين الجدد الذي كان مسيطراً عليها، قرّروا زجّه عنوة في موضوع «الحرب على الإرهاب»، واستطاعوا بالفعل تدميره و»إعادته إلى العصر الحجري»، لكنّهم، من جهة أخرى، خسروا قرابة تريليون دولار، وأرواح آلاف الجنود، وحوّلوا مستقبل المنطقة العربية بأكملها إلى دمار شامل.
بعض الدول العربية التي ساهمت في التحريض ضد العراق تحرّض ضد إيران بالطريقة نفسها، وهي مفارقة غريبة، لأن مساهمة تلك الدول العربية في تدمير العراق هو الذي سمح بتحوّل إيران إلى قوة إقليمية عظمى وأمن لها استفرادها بالعراق.
وكما نزل ترامب عن الشجرة فلم يعلن «عاصفة» فإن إيران أيضاً نزلت بدورها ولم تعد مضطرة لـ»رد ساحق».
فهل تجد تلك الدول العربية طريقها للهبوط؟
وفق مقالة المعلق الإسرائيلي أليكس فيشمان قبل أيام في «يديعوت أحرونوت» إن الصراع الإيراني– الإسرائيلي في سورية ولبنان قد «بلغ نقطة اللاعودة». نهاية الأعياد اليهودية هذا الأسبوع وزيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو تل أبيب، موعدان للقرار الإسرائيلي النهائي بالحرب واتساعها وساحاتها ومداها، يقول فيشمان.
وقبل أكثر من عام، أعلنت إسرائيل أن استراتيجيتها الجديدة ستضع مؤسسات الدولة اللبنانية كأهداف لضرباتها في أي حرب مقبلة التي لن تقتصر على مواقع «حزب الله» ومنشآته وقواته. التهديدات المتبادلة بين إسرائيل والحزب تعطي انطباعاً بأن الجولة المقبلة من القتال ستكون على مستوى لم تشهده المنطقة من قبل من نواحي التدمير المتبادل وأعداد القتلى والخسائر الاقتصادية. وسيان كانت الأقوال هذه تهويلاً أم استشرافاً مبنياً على وقائع ملموسة، فالواضح أن القتال متى بدأ، لن يأخذ المنخرطون فيه اعتبارات الآثار التي قد يتركها على صميم الوضع اللبناني واجتماعه السياسي.
عودة إلى الماضي تكشف أن كل حرب مع إسرائيل دارت في لبنان، أفضت إلى تعميق الشقاق اللبناني– اللبناني. من الاعتداءات الإسرائيلية مطالع السبعينات بعد تمركز مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان وصولاً إلى حرب تموز (يوليو) 2006 مروراً باجتياح 1982، كان الاستقطاب بين مؤيد للحرب ضد إسرائيل وبين معارض لها يتفاقم، بغض النظر عن أطراف الاستقطاب التي تبدلت أثناء هذه الفترة الزمنية المديدة. وحدهما عدوانا 1993 («عملية تصفية الحساب») و1996 («عناقيد الغضب») تمت السيطرة على تفاعلاتهما اللبنانية الداخلية بوساطة القبضة السورية الحديدية وكمّ أفواه المعارضين خصوصاً المسيحيين منهم.
في المقابل، شكّلت نتائج حرب تموز بـ «نصرها الإلهي» نقلة خطيرة في تسعير الانقسام الوطني ابتداء من الاعتصام الذي نظمه «حزب الله» في وسط بيروت لإسقاط حكومة فؤاد السنيورة، بعد أسابيع قليلة على وقف إطلاق النار، صعوداً إلى الصدام المسلح في شوارع بيروت وبعض قرى الجبل والبقاع في أيار (مايو) 2008. يشير ذلك إلى أن غياب الضبط الإقليمي للداخل اللبناني بعد انسحاب القوات السورية في 2005، جعل من الحرب ضد إسرائيل مادة انقسام داخلي ملتهبة، لا تشمل الاتهامات المعتادة بالتخوين والتعامل مع العدو، بل أيضاً محفزاً شديد القوة للخلافات الداخلية التي ارتدت رداء العداء للمحكمة الدولية الناظرة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري والسياسة الاقتصادية للحكومة والتصدي لكل محاولات السلطة السياسية فرض رقابة على نشاط «حزب الله» ولو ضمن مندرجات القرار الدولي 1701.
القياس على ما تقدم يوضح أن الجولة المقبلة من القتال بين إسرائيل وبين طرف أهلي لبناني، إن وقعت، ستكون عواقبها أعمق كثيراً على الداخل. يتساوى أمام ذلك أكان سبب الحرب التزام «حزب الله» الأجندة الإيرانية واستراتيجية التمدد في سورية والعراق ولبنان أو رد عدوان إسرائيلي صارخ. دعاة الكرامة والعزة والانتصارات المخضبة، يمكنهم الاستراحة هذه المرة فالحرب ستدور في مناخ دولي وعربي لا يلقي بالاً إلى وضع لبنان ولا إلى التعويض عن أضراره ودماره.
وفي حال انتصرت إيران أو هُزمت، فإن التركيبة السياسية اللبنانية ستتعرض إلى هزة قد لا تقوم لها بعدها قائمة، في ظل التشنج المذهبي الحاد الذي سيغري الطرف المسلح على المزيد من استخدام العنف في الداخل لمواجهة التململ والاحتجاج المتوقعين.
عندما تزعم إدارة الرئيس السابق باراك أوباما أنها رضخت مضطرة لإصرار إيران على الفصل التام بين المفاوضات على الاتفاق النووي وطموحات طهران الإقليمية، فإنها تتناسى عمداً أنها هي التي مكّنت «الحرس الثوري» من التدخل في سورية والعراق علناً، لأن واشنطن وافقت على إلغاء قرارات مجلس الأمن التي كانت منعت إيران من تصدير السلاح والرجال خارج حدودها أو استخدام ميليشيات ودعمها. وافقت إدارة أوباما على محو هذه القرارات المهمة لكبح ولجم «الحرس الثوري»، ولم تكن مجبرة وإنما برضاها الكامل، بذريعة ضرورة إبرام الاتفاق النووي كأولوية في اعتبارات المصلحة القومية الأميركية وبأي ثمن إقليمي. ومع رفع العقوبات عن إيران –في أعقاب إبطال قرارات مجلس الأمن التي منعتها من التوغل عسكرياً خارج أراضيها– استفاد «الحرس الثوري» من ضخ أموال غزيرة عليه نتيجة فك تجميد بلايين الدولارات التي أطلقتها واشنطن كجزء من الاتفاق النووي.
لهذه الأسباب، إن الإدعاء بأن التوسّعات الإيرانية في العراق وسورية لم يكن لها علاقة بالاتفاق النووي، إنما هي ادعاءات غير نزيهة، لأن إدارة أوباما كانت تعرف تماماً ماذا تفعل من خلال تمكين إيران من التوسع في سورية والعراق عبر «الحرس الثوري»، الذي هو جزء من النظام في طهران –بل جزء أساسي. وهكذا، لم يغمض الرئيس السابق عينيه كي لا يرى المجازر التي ساعد فيها «الحرس الثوري» في سورية لحماية بشار الأسد وإنقاذه من المصير الذي توعّد به باراك أوباما نفسه بأن عليه أن يرحل، فحسب، بل قامت إدارته بتمويل الأمر الواقع لنشاطات «الحرس الثوري» في سورية والعراق عندما كان في أشد الحاجة للأموال، وشرعنت إدارة أوباما العمل العسكري الذي قام به «الحرس الثوري» في سورية والعراق واليمن ولبنان، عندما وافقت على إبطال قرارات مجلس الأمن التي اعتبرت أي تدخل عسكري غير شرعي يستدعي إنزال العقوبات ضد طهران. هذا الكلام مهم اليوم لتذكير أولئك الذين يتباكون على «حكمة» باراك أوباما مقارنة بـ «تهوّر» خلفه دونالد ترامب إزاء مصير الاتفاق النووي مع إيران، بأن حبر التاريخ لم ينشف وعليهم مسؤولية أخلاقية للاطلاع على التاريخ بدلاً من جرفه تحت البساط لغاياتهم الضيقة. فصعود قوة «الحرس الثوري» ونجمه، وتعاظم قدراته العسكرية في الجغرافيا العربية، وازدياد قدراته على التحكّم داخلياً في إيران ليقمع الاعتدال ويتسلط على الحكم، إنما حصل لأن إدارة أوباما سمحت له بأن يحصل. ولا يصح أن يقال إن ذلك حدث سهواً أو كإفراز اضطراري. إنه تحوّل تاريخي في منطقة الشرق الأوسط بقرار أميركي مدروس. فماذا يجري الآن، إذاً، مع ارتفاع وتيرة الكلام الصادر عن إدارة ترامب وفي الكونغرس بخصوص تصنيف «الحرس الثوري» منظمة إرهابية وبشأن مصير الاتفاق النووي بعدما يعلن دونالد ترامب أنه سيسلب منها (de–certify) المصادقة التلقائية أمام الكونغرس؟
ردود الفعل الإيرانية التي سبقت أي تحرك جدي من قبل الرئيس الأميركي والكونغرس لتصنيف «الحرس الثوري» إرهابياً، كانت سريعة وحازمة وحاسمة وانطوت عمداً على لغة التهديد الواضحة والتعهد بتلقين الدروس. فريق ما يسمى بالإصلاحيين والمعتدلين أسرع إلى المزايدة خوفاً، فقال وزير الخارجية محمد جواد ظريف في أعقاب لقائه قائد «الحرس الثوري» الجنرال محمد علي جعفري: «الحرس مصدر فخر لبلادنا وهو ضامن أمننا واستمرار ثورتنا. إذا أقدمت أميركا على مثل هذا الخطأ الإستراتيجي، فسترد إيران بقسوة في الوقت المناسب».
جعفري كان صادقاً عندما وضع النقاط على الحروف، إذ دعا دونالد ترامب إلى أن «يكون واثقاً من أن الحرس الثوري والحكومة ووزارة الخارجية في إيران موحّدون» و «نحن على وفاق تام، وهناك تنسيق بين كل مؤسسات البلاد في إعلان المواقف ضد الأعداء»، وإيران «تحوّلت قوة إقليمية وعالمية كبرى».
التهديد أتى على لسان الناطق باسم الحكومة الإيرانية محمد باقر نوبخت، الذي طالب العالم بأن يكون «ممتناً» لحرب «الحرس الثوري» على الإرهابيين، خصوصاً «داعش». وزاد: «من هذا المنطلق، فإن أي دولة تريد اتخاذ موقف مشابه حيال الحرس، ستكون مشتركة مع الإرهابيين والدواعش، وستلتحق بصفوفهم. إذا أرادت أميركا تصنيف الحرس الثوري على أنه تنظيم إرهابي، فستجعل نفسها في خندق واحد مع الإرهابيين».
الفورة في الصفوف الإيرانية الرسمية تفيد بأن طهران قلقة من احتمال تصنيف واشنطن «الحرس الثوري» إرهابياً، لأن ما يترتب على ذلك هو اهتزاز جذري لتركيبة النظام في طهران وكذلك تداعيات على الأنظمة التي تتعاون وتتعامل وتستضيف نشاطات «الحرس الثوري» على أراضيها.
ما تراهن عليه المؤسسة الإيرانية الحاكمة هو أن تكون التوعّدات التي تصدر عن إدارة ترامب هزلية لا جدية، وأن يتم إحباطها على أيدي حلفاء طهران في الاتفاقية النووية وعلى رأسهم منسقة السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، موغريني، والمستشارة الألمانية انغيلا مركل، إلى جانب روسيا والصين، بطبيعة الحال. إنما قلقها جدي، لا سيما أن ما ينوي عليه دونالد ترامب هو الاعتماد على إعفاء الكونغرس الذي لطالما بحث عن وسيلة لتقليم أظافر إيران، بالذات من ناحية الاتهامات لها برعاية الإرهاب، وليس فقط من ناحية توسعاتها الإقليمية وتوطيد قدراتها على الهيمنة في منطقة الشرق الأوسط.
«الحرس الثوري» أهم لطهران من الاتفاق النووي بكثير. إنه عمود فقري للنظام الحاكم وللثورة الإيرانية، وأي إجراءات ضد «الحرس» ستؤثر جذرياً في السياسات الإيرانية الخارجية والداخلية. لذلك، تريد طهران الآن ربط الأمر الواقع بين الاتفاق النووي ورفضها القاطع أن تتطرق واشنطن إلى «الحرس»، بما يحمي الاثنين من الإجراءات.
قد توافق طهران على إدخال عنصر الصواريخ الباليستية على الاتفاق النووي بصورة جدية إذا ضمن لها ذلك حماية «الحرس الثوري» من إجراءات فعلية عبر تصنيفه إرهابياً. إنها تعي أهمية تحدي الرئيس الأميركي مسألة التصديق التلقائي على تنفيذها ما هو مطلوب منها، في إطار الاتفاق النووي، ليس لاعتقادها أن هذا سيؤدي إلى تمزيق الاتفاقية –والتمزيق ليس وارداً الآن– بل لأن إلغاء التلقائية أو الأوتوماتيكية يعني أن دونالد ترامب يرمي الكرة في ملعب الكونغرس. وهذا خطِر على إيران.
ما يعنيه تعبير سحب التصديق أن طهران تلتزم تنفيذ الاتفاقية كل 90 يوماً، هو أن دونالد ترامب لا يريد أن يوقّع شهادة بأن إيران تنفّذ ما يتوافق مع انتقاداته لصلب وفحوى الاتفاق النووي الذي يعتبره من أسوأ الاتفاقات. هذا لا يعني أبداً أنه في صدد تمزيقه. فلو أراد فتح ذلك الباب، من حقه كرئيس أن يعلن أن الاتفاق ليس في المصلحة القومية للولايات المتحدة بغض النظر عما إذا نفذته طهران أو لم تنفذه.
ما قد يريده دونالد ترامب هو أن يعيد فتح المفاوضات في مسألة الصواريخ، لكنه لا يطرح فكرة توسيع المفاوضات لتشمل التوسعات الإيرانية الإقليمية. لعل في ذهنه فتح ذلك الملف يكون عبر تصنيف «الحرس الثوري» إرهابياً. لكنه ليس في صدد تمزيق الاتفاق.
السؤال هو، ما هي الإجراءات التي ستترتب على الأمرين: تصنيف «الحرس» إرهابياً، وسحب تصديق الرئيس الأميركي على قيام طهران بتنفيذ الاتفاق النووي كل 90 يوماً؟ فالمسألتان معقدتان. ثم إن إعلان مثل هذين الموقفين من دون اتخاذ إجراءات فعلية وجدية، سيسلب الصدقية من دونالد ترامب، وكذلك من الكونغرس.
الاندفاع الإعلامي في التمسك الصارم بالاتفاق النووي مع إيران لافت في أنه يعكس بدوره استعداد هذا الإعلام لغض النظر عن التوسعات الإيرانية في الجغرافيا العربية على أيدي «الحرس الثوري»، بل استعداده لرفض التصنيف الإرهابي لـ «الحرس» مهما فعل أينما كان.
هناك نوع من الرضوخ في صفوف الإعلام الأميركي الليبرالي لفكرة «لا خيار آخر سوى» الرضوخ أمام الطموحات النووية لكل من إيران وكوريا الشمالية. النغمة «الدارجة» هي التلويح بأن التصدي لإيران والاتفاق النووي معها سيعزز عناد كوريا الشمالية على أساس أن أميركا لا تحترم الاتفاقيات. واقع الأمر أن زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ اون يتذكر مصير العقيد الليبي معمر القذافي كمثال على ما تفعله أميركا بالذين يتخلون عن السلاح النووي، ومصير صدام حسين كمثال عن الذين يوافقون على إخضاع بلادهم لتفتيش جدي على أيدي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
اللافت أن الليبراليين في الإعلام الأميركي قرروا الرضوخ أمام الأمر الواقع والإقرار بأن لا رجعة عن امتلاك كوريا الشمالية القدرات النووية المسلحة، تماماً كما إيران. إنهم يوافقون عملياً على نسف المبدأ الذي تحكم بالمسألة النووية لسنوات، وهو «عدم السماح بانتشار الأسلحة النووية» (nonproliferation)K وهذا بحد ذاته أخطر الأخطار.
المعركة مع دونالد ترامب شيء، والتعامل مع الملف النووي لكل من إيران وكوريا الشمالية شيء آخر. من حق الإعلام الأميركي أن يدق ناقوس الرعب من رئيس يتهمه بأنه «متهوّر» و «جاهل» و «اعتباطي» و «غير سليم للحكم». إنما ليس من حقه أن يتجاهل إفرازات مرعبة لسياسات سكت عنها ثم استفاق لينتقدها، مثل حرب جورج دبليو بوش في العراق، ولسياسات أميركية مكّنت تنظيماً عسكرياً إيرانياً خارجاً عن الجيش الوطني من فرض سيطرته في العراق والدخول طرفاً في الحرب السورية لسحق المعارضة المعتدلة التي زعمت إدارة أوباما أنها تدعمها.
تأخذ الحرب الباردة الروسية- الأميركية منحى متصاعداً على رغم المراهنات المتفائلة التي رافقت دخول دونالد ترامب البيت الأبيض، وعلى رغم حصول بعض التفاهمات بين الدولتين الكبريين، ومنها قيام مناطق خفض التوتر في سورية الذي كرسه اجتماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الأميركي في شهر تموز (يوليو) الماضي.
وعلى تواضع هذا التفاهم في الميدان السوري، أمل المراقبون بأن يكون فاتحة لتفاهمات أخرى تتخطاه نحو خطة للحل السياسي في سورية نفسها، وإلى بحث الجبارين خفض التوتر في مناطق أخرى من العالم، لا سيما في أوروبا، حيث تعتبر موسكو أن السياسة الأميركية تمس مجالها الحيوي ومصالحها التاريخية. بدلاً من ذلك، نشبت أزمة طرد الديبلوماسيين الروس من الولايات المتحدة والإجراءات الروسية المقابلة، وظهرت الاتهامات الروسية لواشنطن بأنها تدعم «داعش» وتحول دون القضاء عليه في الميدان السوري، وتحديداً في دير الزور. وأمس، هاجمت وزارة الدفاع الروسية تعزيز الجيش الأميركي قواته بطريقة سرية في دول البلطيق وفي بولندا، في إطار انتشار قوات الحلف الأطلسي على حدود الاتحاد الروسي. وهذا الانتشار هو السبب الجوهري لإثارة حفيظة الكرملين منذ رئاسة باراك أوباما، والدافع الأساس لدى القيصر لاعتماد «مبدأ بوتين» القاضي بتوسع قواته في أنحاء العالم حيث تستدعي مصالح بلاده، وحسابات التواجد في الساحة السورية محكومة بهذا المبدأ الدفاعي.
في سورية وغيرها يتبادل الجباران اللكمات، من دون أن يخوضا المواجهة المباشرة. وهما يقومان بمناورات وتكتيكات تبدو أحياناً غير مفهومة، لمخالفتها سياستيهما المعلنتين، ولتناقضها مع مصالح حلفائهما الإقليميين. ولطالما أعلنت موسكو وواشنطن أن أولويتهما هي محاربة «داعش»، ثم تناوبتا على استهداف مجموعات مسلحة أخرى، كأن تقصف الطائرات الروسية «الجيش السوري الحر»، وتنهك المعارضة المعتدلة بدلاً من التركيز على التنظيم المتطرف، وأن تستهدف الطائرات الأميركية جيش النظام والميليشيات التابعة له، بدلاً من «داعش». إنهما تتناوبان على الإفادة من استمرار وجود «داعش» لأغراض ظرفية وآنية. ومثلما استثمر فرقاء كثر في التنظيم الإرهابي منذ بداية الحرب السورية، وأولهم النظام السوري نفسه، يتفرج تحالف روسيا- إيران- النظام على الأميركي وهو يلعب اللعبة ذاتها. فواشنطن أيضاً تبغي الشراكة في تحديد هوية من يحل مكان التنظيم الشرير بعد طرده من هذه الرقعة أو تلك.
بات الميدان السوري ساحة لامتلاك الأوراق، ولإحباط نجاح الآخر في توظيف أوراقه، في انتظار المفاوضات الكبرى حول أوروبا وأوكرانيا ورفع العقوبات عن روسيا... إلا أن الانتظار الطويل لا يسمح بتجميد الميدان طويلاً تحت شعار «خفض التوتر». فالقوى الإقليمية لها طموحاتها وهواجسها أيضاً وقادرة على التسبب بخلط الأوراق، ما يفرض على الدولتين العظميين احتواء هذه الطموحات والهواجس أو التكيف معها.
نجحت موسكو في إدارة صراعات القوى الإقليمية نتيجة غياب السياسة الواضحة لدى واشنطن، على رغم أن الشكوك تحيط بقدرتها على قيادة بلاد الشام نحو الحلول، كما أمل بوتين خلال زيارته تركيا الأسبوع الماضي. هي استقطبت تركيا وتفهمت مخاوفها من التساهل الأميركي مع الاستفتاء على استقلال كردستان عن العراق، وتركت لها حرية تطويق الطموح الكردي نحو اقتطاع مناطق الاستقلال المفترض في سورية، ومنحتها حرية استعادة إدلب في الشمال من «هيئة تحرير الشام»، والتي منها يمكنها تقطيع أوصال المناطق التي قد تقع تحت سيطرة القوات الكردية. وأجازت لإسرائيل أن تقطع الطريق على التمدد الإيراني و «حزب الله» في الجنوب والشرق السوريين بحملات القصف المتقطع من الجو، وتلقفت انفتاح السعودية عليها في تحول تاريخي نادر في العلاقة بين المملكة وبين الكرملين، بصفقة صواريخ أس 400 ومشاريع استثمارية... خصوصاً أن واشنطن لم تفِ بوعودها لدول الخليج بالسعي إلى الحد من التوسع الإيراني.
انفتحت موسكو على المعارضة المعتدلة بالتعاون مع مصر، وبالاستناد إلى انفتاحها على السعودية، بعد أن سحبت واشنطن الأسلحة الثقيلة من المعارضة المعتدلة في عدد من المناطق. واستقدمت الشرطة الروسية لحماية وقف النار ومراقبته في مناطق عدة، مؤلفة من جنود روس مسلمين سنّة، بالتوازي مع تعاونها مع كل من الدول ذات الأكثرية السنية، مصر والسعودية وتركيا.
حتى الانزعاج الروسي من الجموح الإيراني نحو اقتطاع مناطق النفوذ، وتجاوز الدور الحاسم لموسكو في إدارة الصراع في سورية، لم يكن كافياً للالتقاء مع أولوية واشنطن الحد من توسع طهران، واتهامها برعاية الإرهاب.
هناك نقاش متزايد حول إعادة الإعمار في سورية في دوائر السياسة الغربية والإقليمية. وقد دأب الاتحاد الأوروبي على دراسة خيارات إعادة الإعمار عن كثب، في حين أن بعض الحكومات الغربية (وغير الغربية) تحضر نفسها لتلعب دوراً في عملية إعادة الإعمار. كما تعزز الدول الإقليمية أنشطتها في هذا الصدد، حيث لا يريد أحد أن يفوته القطار عندما يحين الوقت لكي تتخذ سورية خطوة تجاوز الصراع الحالي. ولكن يبدو أن هذا النقاش حول إعادة الإعمار يقوم على افتراض أن خطط إعادة الإعمار بعد الحرب ستستهدف بنفس القدر سورية بأكملها، وأن جميع السوريين سيعاملون بشكل منصف في هذه العملية، لكن الواقع يتناقض مع هذا الافتراض.
يجري الحديث عن إعادة الإعمار اليوم في الوقت الذي تشهد سورية، وفقاً لتقرير صدر أخيراً عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أعلى موجة من العنف منذ سقوط حلب الشرقية. كما يجري في الوقت الذي أعلنت فيه خطط مناطق خفض التصعيد بينما تواصل روسيا قصف المناطق نفسها التي يفترض أن تكون ضامنة لها. وفي الوقت نفسه، لا يزال المدنيون يشكلون «أضراراً جانبية» في الحملة الجوية للتحالف الدولي ضد «داعش» على الرقة. وتتشابه الاستراتيجية العسكرية للحملة مع تلك التي استخدمت لتحرير المدن العراقية من سيطرة «داعش»، ما أدى إلى تدمير واسع النطاق للبنى التحتية في تلك المدن. إن استمرار العنف على هذا النطاق سيؤدي حتماً إلى رفع كلفة إعادة الإعمار بعد الحرب إلى ما يتجاوز الرقم المقدر حالياً والذي يتراوح بين 200 و 350 بليون دولار.
وهناك قدر من الإجماع في دوائر السياسة الدولية على أن روسيا وإيران لا يمكن أن تتحملا هذا العبء المالي وحدهما، وأنه يتعين على المانحين الدوليين أن يشاركوا في تعزيز التمويل. إن دوافع هؤلاء المانحين وراء المشاركة في جهود إعادة الإعمار لا تتعلق فقط باهتمامهم بتقديم المساعدات الإنسانية بل أيضاً بالسياسة. فالتمويل هو أحد الطرق التي يمكن من خلالها الحفاظ على درجة من التأثير في سورية. ومع قيام روسيا بلعب دور الوسيط الرئيسي في إعادة إعمار سورية، اتخذت بعض الدول الإقليمية خطوات للحفاظ على خطوط مفتوحة للتواصل مع موسكو على رغم الخلافات السياسية حول سورية. كما أن الأفراد ذوي المصالح الخاصة من مختلف أنحاء الطيف السياسي في البلدان المجاورة لسورية يقرعون أبواب روسيا. وقد شملت الزيارات الأخيرة إلى موسكو من قبل السياسيين اللبنانيين أشخاصاً من معسكري 8 و14 آذار.
وسيكون لهذه المناورات السياسية تأثير مباشر على كيفية تنفيذ خطط إعادة الإعمار داخل سورية. وستسعى روسيا حتماً إلى جعل الحكومة السورية الموزع الرئيسي لأموال إعادة الإعمار. وعلى رغم أن المناطق التي يسيطر عليها النظام كانت أقل تأثراً من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من حيث الدمار المادي، فمن المرجح أن الحكومة السورية سوف توجه معظم التمويل إلى المناطق التي تعتبر موالية.
ومن المرجح أن يغض أولئك الذين لديهم مصالح خاصة الطرف عن عدم المساواة في توزيع الأموال ومشاريع إعادة الإعمار من أجل حماية مصالحهم التجارية. وستتبع الجهات الفاعلة الإقليمية مساراً مماثلاً من أجل الإبقاء على المصلحة السياسية في هذه العملية. كما بدأ رجال الأعمال السوريون الذين هم بالفعل جزء من النخبة السياسية تشكيل شركات جديدة حتى يتمكنوا من وضع أنفسهم في الصف الأول في عمليات تطبيق مشاريع إعادة الإعمار. ويعني كل ما سبق أن تنفيذ خطط إعادة الإعمار لن يكون منصفاً.
يريد النظام السوري مكافأة الموالين له من خلال استخدام أموال إعادة الإعمار لتحسين مناطقهم، لكنه يريد أيضاً معاقبة المناطق التي ثار سكانها ضد النظام. ومن المرجح أن يعقب استمرار قصف هذه المناطق منع السكان من الحصول على أموال إعادة الإعمار. ومع اضطرار الجهات المانحة والجهات الفاعلة الأجنبية إلى تعديل مواقفها السياسية في محاولة للبقاء داخل دائرة الشأن السوري الذي تديره الآن موسكو بالمرتبة الأولى، فمن المرجح أن تترك هذه المناطق المهملة من دون أن يدافع عنها أحد.
ومن المرجح أن يحافظ هذا على بقاء آلاف اللاجئين الذين فروا من هذه المناطق إلى لبنان والأردن وتركيا في الخارج، حيث لن تكون لديهم منازل للعودة إليها ولا توجد آفاق واقعية لاستعادة سبل عيشهم داخل سورية. وبغيابهم، يؤدي انخفاض عدد السكان في هذه المناطق إلى تسهيل السيطرة عليها من قبل الحكومة السورية، مما يوفر حافزاً آخر للحكومة لإبقاء هذه المناطق غير صالحة للعيش.
إن النقاش حول إعادة الإعمار في سورية قد هيمنت عليه مسألة ما إذا كان الغرب سيكون قادراً على استخدام إعادة الإعمار كوسيلة نفوذ على النظام السوري أم لا. لكن القضية الأساسية هي أنه مع الغرب أو من دونه، فإن النظام السوري ورعاته الروس والإيرانيين سيركزون فقط على إحياء المناطق الموالية وليس المناطق التي لا يسيطر عليها النظام حالياً.
وسوف تتأثر التركيبة الديموغرافية في سورية بهذه العملية، وكذلك حالة اللاجئين في البلدان المجاورة. ولكن مع قيام الدول الأوروبية بالنظر في تقديم حوافز لتركيا لإبقاء اللاجئين السوريين على أراضيها لردعهم عن العبور إلى أوروبا، ومع جهود أصحاب المصلحة اللبنانيين لتقديم لبنان كمنصة لإعادة الإعمار في سورية من أجل الإفادة من المساعدات الخارجية المرسلة إلى لبنان للتخفيف من ضغط وجود اللاجئين السوريين، فإن النخب السورية الموالية للنظام كما الجهات الفاعلة غير السورية ستستفيد من عدم المساواة في تنفيذ خطط إعادة الإعمار داخل سورية. أما الخاسر الأكبر فهو الشعب السوري مهما كانت توجهاته.