عدد كبير من الناس في الغرب مقتنع بأن التهديد الأساسي الآتي من سورية ومنطقة الشرق الأوسط هو من «داعش». لكن قناعات هذه الغالبية تنبع من لا مبالاة أو عدم اهتمام بالتطورات وبما يحصل في الشرق الأوسط بسبب هيمنة «الحرس الثوري» الإيراني ووحشية نظام بشار الأسد التي أدت إلى إنشاء «داعش». الغريب أنك عندما تتحدث مع الرجل العادي في أوروبا تجد أن هناك نوعاً من خلط التراث الثقافي الإيراني الفارسي القديم بالنظام الكارثي الحالي مع خامنئي وجنراله الشهير قاسم سليماني الذي يتجول بين سورية والعراق ولبنان كأنه في بلده لإعطاء التوجيهات العسكرية والمكافآت عند اللزوم.
استطاع بشار الأسد أن يقنع بعض السذج في الغرب بأنه المدافع عن مسيحيي الشرق، إذ إنه يحميهم وأن لا علاقة له بظهور «داعش»، وأن حليفته إيران هي دولة ذات نفوذ واسع وذات تاريخ وثقافة عريقة كأن خامنئي و «حرسه الثوري» لا علاقة لهما بثقافة حافظ وبالشاهنامة. فهذه الصورة المشوهة في الغرب مردها إلى عدم اهتمام الخارج في الغرب بما كان وما زال يحدث في البلد ذاته منذ قرون وعائلة الأسد الأب والابن تحكم سورية. فالمجازر والقتل والتعذيب التي كان يتعرض لها أي مواطن سوري يعارض النظام كانت نموذجاً عن نهج «داعش» الذي هو نسخة عن مخابرات النظام التي يعرفها لبنان واللبنانيون المستقلون والوطنيون الأحرار. فقبل القتل الذي تعرض له الشعب السوري منذ بدأت التظاهرات في درعا، كان لبنان الاختبار الأول للأسد الأب ثم الابن حيث كانت تصفية المعارضين أو خطفهم وتعذيبهم الطريقة السهلة للهيمنة والبقاء بالتخويف. أما إيران التي أصبحت الآن تسيطر في العراق عبر الميليشيات الشيعية وفي سورية بفضل قواتها العسكرية ووكيلها «حزب الله»، فهي أيضاً أصبحت في نظر الرأي العام الغربي الدولة الكبرى التي لها تاريخ عريق مستقر، وأن لا علاقة لها بوحشية «داعش». فهذه التقويمات المغلوطة سببها عدم اهتمام المواطن العادي في الغرب بما يحدث في البلدين من انتهاكات واعتقالات وتعذيب وجرائم. فصحيح أن إيران سوق كبيرة تهم أوروبا التي لم تحصل إلا على القليل من دول الخليج، ولكن هل نسيت أوروبا وبالتحديد باريس العمليات الإرهابية التي استهدفت قواتها في لبنان ومن كان وراءها؟ إن ما يحصل حالياً في العراق ومساعدة إيران في طرد مقاتلي «البيشميركة من كركوك هدفهما الاستقواء على نظام العبادي الضعيف الذي أضعفته خطوة بارزاني بتنظيم الاستفتاء. وبارزاني كان حذّر الرئيس السابق هولاند من خطوات تعتزم إيران أن تقوم بها في العراق لإنشاء طريق يربط بغداد ودمشق وبيروت كي لا يكون أي عائق لتمرير كل الأسلحة وما يحتاجه «حزب الله» على الأرض في لبنان وسورية. فهذه الأنظمة الديكتاتورية نجحت في فرض فكرة أنها ضامنة الأمن والاستقرار، في حين أنها ضامنة الكوارث والخراب. ومنذ جاء الخميني إلى الحكم في إيران عام ١٩٧٩، زادت الطائفية والتشنج وعدم الاستقرار في المنطقة. ولا شك في أن بارزاني أخطأ التقدير في تنظيم الاستفتاء، لكنه على حق في أن إيران تريد تأمين الطريق من العراق إلى دمشق ولبنان.
ومع كل المآخذ على شخصية ترامب وكل ما يصدر عنه من تصريحات غريبة، فهو على حق بالنسبة إلى كل ما تقوم به إيران والملف النووي ليس وحده الأهم، بل إن سياسة إيران في المنطقة هي أيضاً على المحك والكل مستعجل للعمل مع بلد غني ومسايرة إيران التي ليست بعيدة من «داعش» وممارسته في العراق ولا في سورية ولا في لبنان. فالمطلوب تصويب الصورة لأن تاريخ إيران وسورية وثقافتاهما لا علاقة لهما بالأنظمة الحاكمة فيهما اليوم.
في مناوشات متكررة مع منظمة الأمم المتحدة، أصرّ وزير الخارجية اللبناني على إسقاط نعت «الطوعية» المضاف، عرفاً، الى «الآمنة» لدى الحديث عن عودة السوريين الذين هجّروا من بلادهم أو فرّوا منها. لم يحدّد الجهة التي تقرر متى تكون العودة آمنة، ولم نعرف منه كيف تتحقّق العودة إن كانت غير طوعية، أي قسرية.
غير أنه، وفي المدة الأخيرة، أكّد تكراراً أن مناطق واسعة في سورية باتت آمنة وأن العودة اليها ممكنة بل ضرورية. لكنه تجاهل الإقرار بأن إعادة السوريين القسرية ليست في متناوله، وأنها انتهاك لأبسط الحقوق الإنسانية.
زاد تشديده على العودة بعدما غيّر التدخل الروسي موازين القوى العسكرية في سورية، وأطلق عملية آستانا التفاوضية والمقتصرة على خفض التصعيد في مناطق محددة. ومال أصدقاؤه وبعض أنصار النظام السوري اللبنانيين الى اعتبار تلك المناطق، المحدودة العدد والحجم، بمثابة مناطق آمنة. وأسرعوا في دعوة لبنان الرسمي الى التفاوض مع النظام السوري في شأن عودة اللاجئين الى ديارهم. غير أن أحدهم لم يشر، لا تصريحاً ولا تلميحاً، الى استعداد حكّام دمشق لاستقبال من اضطروا للجوء الى لبنان في المناطق التي باتوا يسيطرون عليها مع حلفائهم.
أكثر من ذلك، لفّ الصمت اللبناني ما يعرفه السوريون، وسواهم من المعنيين، عن انعدام الرغبة لدى النظام في مجرد البحث الجاد في هذه المسألة.
وحين بادر وزير الخارجية اللبناني الى لقاء نظيره السوري، وضع اجتماعهما تحت علامة سعيه من أجل عودة السوريين الذين لجأوا الى لبنان، بخلاف منتقديه المتهمين بأنهم لا يريدون تلك العودة. لم يقل كلمة واحدة تعوّض عن صمت زميله أو تشي باتفاقهما على متابعة القضية التي تشغله.
كل ذلك يعني أن العودة مؤجلة مهما علت أصوات مستعجليها. ونجدنا أمام اصطناع توقعات لدى المتذمرين من ثقل الوجود السوري. ويبدو لنا أن هذا الاصطناع يؤول الى استثمار مزدوج، في العمل على التقرّب من النظام السوري بحجة تيسير العودة وفي توظيف المشاعر الحادة، بعد تأجيجها، والمخاوف، بعد تضخيمها، في حسابات السياسة المحلية. لكنه، ككل اصطناع، يجر الخيبة والمرارة ويزيد احتمالات الجنوح الى العنف.
صحيح أن لبنان يواجه مشكلات نتيجة اللجوء السوري لا مجال لإنكارها، وأن السياسات الوطنية والدولية قاصرة في معالجتها. لكنه صحيح أيضاً أن تعبئة اللبنانيين ضد السوريين، وتوسّل المبالغات في تعدادهم ووصف أحوالهم وإنزال العقوبات الجماعية بهم وتحويل المطالبة بعودتهم الى ما يشبه الدعوة الى ترحيلهم، سلوكيات غير أخلاقية تنذر بأخطار كبيرة. وهي لا تيسّر العودة الآمنة بل تلحق الأذى الكبير، المادي والمعنوي، باللبنانيين والسوريين معاً.
باتت معركة إعادة الإعمار في سورية آخر المعارك الكبرى المنتظرة في الصراع السوري المعقّد، وهي المعركة التي تتكثّف فيها رهانات الأطراف المختلفة، وتشكّل الاختبار الحقيقي لإراداتهم السياسية ورؤاهم الجيوسياسية بعد أن جرى توضيب عناصر الصراع الأخرى بطرق مختلفة، تفاوضية وتهادنية، بما يتناسب ومقاربة الأطراف الفاعلة ميدانياً، روسيا، وإيران بدرجة أقل.
في مقابل ذلك، تنازل الغرب والعرب عن متابعة تفاصيل الصراع وطرق تسويته وعملية إخراجه النهائية، وفضلوا عدم مزاحمة روسيا بالحل، ربما لقناعة هذه الأطراف أن أي محاولة للصدام مع روسيا سياسياً وعسكرياً لن يكون لها جدوى بعد ان حقّقت الاخيرة سيطرة شاملة في سورية، حتى أميركا الطرف الغربي الأكثر انخراطاً في الصراع اقتصر اهتمامها على جزئيات محدّدة ومناطق ترتبط بأمن حلفائها في المنطقة.
يتركز الرهان الغربي- العربي على أن روسيا، الطامحة ليس فقط إلى اعتراف هؤلاء بها قوة أساسية في سورية، بل والإفادة من عملية إعادة الإعمار مالياً عبر شركاتها التي ستتولى جزءاً من تنفيذ العملية، ستضطر إلى تقديم تنازلات سياسية تقترب خلالها مع مقاربتهم التي تدعو إلى تصميم عملية سياسية تلحظ مشاركة المعارضة في الترتيبات السورية القادمة وإعادة صياغة نظام الحكم بطريقة جديدة تؤدي إلى تعديل الحياة السياسية في سورية وأن لا تتم إعادة إنتاج نظام الحكم القديم، وهو ما تحاول روسيا الالتفاف عليه عبر تعديلات دستورية محددة تبقي على هيكل نظام الحكم مع خفض صلاحيات رأسه.
وانطلاقاً من حقيقة أن روسيا هي صاحبة الدور الأكثر تأثيراً في سورية، فإن التقديرات يجب أن تنطلق من معرفة الأولويات الروسية وحساباتها للربح والخسارة، وقراءة المعطيات بشكل واقعي وليس عاطفي ورغبوي لصياغة موقف سليم من قضية الإعمار في سورية وموقف روسيا منها.
لا تشكل عملية إعادة الإعمار بحد ذاتها أولوية روسيّة، لا شك في أن روسيا ترغب في إنجاز مهتمها السورية بنحو أفضل وترغب أن يشار إليها على أنها نجحت في إنهاء الحرب وتحقيق السلام وإعادة إعمار البلد، وهي ما انفكت تتباهى بإعمارها غروزني. لكن ذلك، على أهميته، لا يشكل أولوية مطلقة، على الأقل في الوقت الراهن والمدى المنظور، وترى روسيا أن إعادة الإعمار فرصة لمكاسب سياسية واقتصادية ما دامت روسيا قد ربحت من مختلف مراحل الحرب، ويكفي التذكير بأنها في مرحلة القتال كسبت عقود بيع سلاح كثيرة، وفي مرحلة التفاوض على السلم أصبحت مركز الاهتمام لدول الشرق الأوسط، وهي تريد استثمار كل مرحلة إلى أقصاها، ومرحلة إعادة الإعمار لا زالت تنطوي على فرص كثيرة يستلزم استثمارها. بالإضافة إلى لذلك، لم يمر وقت طويل على عودة روسيا إلى الفاعلية الدولية وقد وفرت لها الساحة السورية هذه الفرصة، وبالتالي فهي لا تزال في طور اختبار الممكنات والفرص التي تتولد عن هذا الوضع بعد غياب دام عقوداً.
في سبيل ذلك، سوف تناور ورسيا في هذه المرحلة في مواجهة الغرب والعرب، وسوف تطرح إجراءاتها باعتبارها تنازلات أو مقدمات للحل في سورية، مع إيصال رسالة بأن هذه الإجراءات ستكون مفتوحة على آفاق كثيرة شرط عدم مطالبتها بضمانات خطية ولا استعجال بهذه الإجراءات. الاستعجال المطلوب هو الانفتاح على الأفكار الروسية والتعامل الإيجابي لها لأن ذلك سيشكل المفتاح لفتح الآفاق المرغوبة.
على الأرض ستحاول روسيا إثبات أن إعادة الإعمار مصلحة غربية وعربية أكثر منها روسية سورية، فهي عدا عن كونها ستجعل هؤلاء شركاء في صنع مسارات الأمور في المنطقة، فإنها بلا شك ستفيدهم اقتصادياً، كما أن الغرب والعرب، على السواء، الذين لا يريدون وقوع سورية تحت سيطرة إيران، عليهم ترجمة ذلك في مشروع إعادة الإعمار وبإجراءات عملانية تؤدي إلى تقوية مواقعهم وتقوية الدولة السورية وليس فقط عبر الضغط على روسيا لتحجيم نفوذ إيران والذي يبدو أنه طلب غير واقعي في هذه الظروف.
غير أن المناورة الأكبر والتي بدأت روسيا بالقيام بها، تتمثل في إيصال رسالة إلى الغرب والعرب أن لديها بدائل عن مساهمتهم في هذا المجال، وهذه البدائل تتمثل في شركاتها وشركات إيران والصين. صحيح أن العملية ستتأخر نظراً لنقص حجم التمويلات وستنطوي على مشكلات فنية لكنها في النهاية ستنجز.
من جهة أخرى بدأت روسيا السماح لبعض المناطق التي عقدت مصالحات بإدخال مواد البناء لترميمها ما يعني أن جزءاً من العملية سيضطر السوريين إلى القيام به وإنجازه كيفما اتفق ليستطيعوا ممارسة حياتهم ولو بحدودها الدنيا، وهو شكل تلفيقي لإعادة الإعمار.
في ظل هذه الوقائع، بالإضافة إلى ظهور مؤشرات عن تسابق الشركات وبعض رجال الأعمال في المنطقة على الفوز بحصة من كعكة إعادة الإعمار، الخوف أن لا تجد روسيا نفسها مضطرة لتقديم تنازلات جوهرية في الحل السياسي المرتقب بما يؤدي إلى تبخر الرهانات على عملية إعادة الإعمار لإعادة التوازن المفقود في سورية.
رغم كل ما بذله الرئيس الإيراني روحاني في تلميع صورة إيران الخارجية؛ فإن هذا التداخل الإقليمي المعقد لقضايا المنطقة التي تفككت جيوسياسياً على أنقاض الربيع العربي، وسمح ذلك بأن يطالها العبث الإيراني طولاً وعرضاً، بعد أن قامت إدارة أوباما بأكثر القرارات براغماتية على مبدأ «دعه يمر دعه يعمل»، ليتحول إلى «دعه يعبث» أيضاً، فبلغ السلوك الإيراني مداه في التدخل السافر في العراق وسوريا واليمن ولبنان وأفريقيا.
اليوم الإدارة الأميركية الجديدة تعمل بطريقة مغايرة، فهي رأت ابتداء أن الالتزام بالسلوك السياسي هو المعيار الوحيد لتقييم الالتزام بالاتفاق النووي، ولا يمكن الفصل بين أن تمر طهران إلى مربع الاعتدال دون أن تعمل بشكل مضن لإثبات ذلك، بما يضمن مصالح الأمن القومي الأميركي بالدرجة الأولى، ومن ضمنها حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة.
الكونغرس اليوم أمام اختبار بعد أن رمى الرئيس الأميركي ترمب الكرة في ملعبه بتصريحاته النارية، التي يبدو أن ردة الفعل الإيرانية لم تنظر إليها بجدية كبيرة بسبب إدراكها للصعوبات التشريعية وآلياتها في أميركا فيما يخص فرض العقوبات؛ فإعادة النظر في التعاملات مع القطاعات المالية وتوجيه ضربة اقتصادية كبيرة لإيران لا يبدوان محتملين مع التعنت والتململ الأوروبي قدر أنه محاولة لضبط السلوك الإيراني عبر التلويح بنقض الاتفاق برمته.
الأكيد أن نظام طهران يعي تلك الصعوبات، إضافة إلى كونه سيلعب على طرح كارت المظلومية السياسية، والاستعداء ضد إدارة ترمب، واستغلال الثغرات الكبيرة في الموقف الأوروبي القائم على الشره والانفتاح غير المسبوق باتجاه السوق الإيرانية.
كان خطاب الرئيس الأميركي ترمب ذكياً بتكثيف نقده للحرس الثوري الذراع الإيرانية للفوضى في المنطقة، وأحد أهم مفاعلات الإمداد الآيديولوجي والعقائدي والتدريبي لـ«حزب الله» في لبنان و«أنصار الله» في اليمن (الحوثيين)، وحتى الميليشيات العسكرية المتشددة في العراق، ومجموعات المعارضات للإسلام السياسي الشيعي في الخليج ودول العالم، وتفكيك بنية اقتصاد الحرس الثوري، وإيقاف الشركات التابعة له، رغم صعوبة تصور ذلك، سيلقي بظلاله على امتداد إيران في الخارج، وإعادة تنشيط حالة التململ في الداخل الإيراني، وتقوية الفئات المعتدلة في الشارع الإيراني والرافضين لسلوك الملالي، وإن كانوا يشكلون أقلية ليس لها ذلك التأثير، كما هو الحال في معارضات الخارج التي لا تزال لا تشكل قوة ضاغطة.
ويمكن القول إنه على رغم الأصداء اللامبالية تماماً لخطاب ترمب المهدد لإيران ولوضعية الاتفاق النووي؛ فإنه إيذان جديد بمرحلة انتقالية تعبر عن إعلان وفاة لسياسة أوباما القائمة على الفصل بين ملف الاتفاق النووي والسلوك الإيراني في المنطقة بدعم الميليشيات وتصدير السلاح والتدخل السيادي في سوريا ولبنان واليمن، لكن ذلك لن يؤتي ثماره قبل تصنيف «الحرس الثوري» كمنظمة إرهابية، في حين يصفه وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف بأنه «مصدر فخر لإيران».
الإدارة الإيرانية سبقت أي تهديد للحرس الثوري بإطلاق جملة من التصريحات لموضعته كمنظمة خلصت العالم من خطر «داعش»، في محاولة ذكية لتمرير الخطأ الكبير اليوم في النظر إلى الإرهاب الداعشي باعتباره صورة مكبرة للفوضى العنيفة، وإهمال الإرهاب السياسي المنظم الذي تمارسه الميليشيات الشيعية بإدارة الحرس الثوري، وهو جزء من إشكالية التعامل المزدوج مع ملف الإرهاب في العالم.
الإشكالية الحقيقية في إعادة ضبط ترمب لمبدأ «دعه يمر» على أساس عدم فصل السياسة عن المصالح الاقتصادية والسلوك على الأرض هي أنه متفائل، فالحرس الثوري لنظام طهران هو هويّة تعبر عن بنية النظام لا يمكن تصوره من دونه، كما هو الحال في كل الدول القائمة على نزعة الثورة وليس منطق الدولة، ومنها كوريا الشمالية التي ربما تكون نموذجاً ملهماً للسلوك الإيراني في الأيام القادمة متى ما انهار الاتفاق النووي بشكل ضعيف، ومن جانب الولايات المتحدة فقط دون الأوروبيين، وهو ما سينعكس سلباً على المنطقة، وسيعطي ذريعة للنظام الإيراني برفع مستوى التدخل، وإشعال الحروب، ومستوى حالة العسكرة لميليشياته كتعبير عن تأثيرات نقض الاتفاق عليه.
والحال أنه كما لم تكن دول الاعتدال في المنطقة، وعلى رأسها السعودية، تنظر إلى الاتفاق النووي على أنه هدية أوباما الثمينة لها، بسبب إدراكها بأن عمق الأزمة هو في السلوك الإيراني، فإن نقضه من قبل ترمب يجب ألا يعد إنجازاً تاريخياً، فما فعلته إدارة أوباما السابقة جاء في سياق رؤية سياسية نفعية تفكر في تحقيق مصالحها في المنطقة، مع ضمانة منع إيران من امتلاك السلاح النووي طيلة فترة الاتفاق المقدرة بـ15سنة وبرقابة دولية، عبر إعادة فتح أسواق إيران أمام الشركات العملاقة وما تمثله من إنعاش للاقتصاد الإيراني، وبالتالي الضغط على المحافظين والمتشددين، وهو أمر يتردد عادة في تبرير تغير الموقف الأميركي، في محاولة لتضخيم تأثيرات انتعاش الأسواق الإيرانية على خنق تيار الصقور، إلا أن المسكوت عنه هو أن الاتفاق النووي من جهة أخرى اعتراف بحجم إيران وتأثيرها في المنطقة، ورغبة أميركية حفزها تولي أوباما في التخفف من ضغط ملفات المنطقة، وتقليص حجم التدخل العسكري الأميركي إلى أقصى حدوده.
واليوم يريد ترمب نقض الاتفاق لكن بقدرة أقل على كسب تأييد أوروبي في حال تمرير القرار عبر الكونغرس، لكن تبقى الإشكالية ذاتها مع دول الخليج وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، فالمسألة لا تخص قضية الاتفاق النووي.
جوهر الأزمة هو أن اشتراطات الولايات المتحدة أقل بكثير من متطلبات حلفائها في المنطقة بضبط السلوك الإيراني بحزم، وعلى رأسها إيقاف العبث والتدخلات المعادية في دول تتمتع بسيادة كاملة، كما أن جزءاً من أزمة الدبلوماسية الأميركية والصحافة الأميركية هو التركيز على استدعاء التحالف مع المعتدلين في إيران، وهو حديث يهمل جزءاً مهماً من القصة نفسها المتمثل في أن طموحات معظم المعتدلين، لو صحت التسمية، لا يمكن لها أن تؤثر على قرار الحرس الثوري بفيالقه التي تشكل سلطة مستقلة وهويّة ثورية راسخة على مستوى الداخل والخارج.
يتطلع الأميركيون إلى الحد الأدنى السياسي، وهو القدرة على اختراق جدار الصمت السياسي بينهم وبين إيران، لكن هذا الحد الأدنى لا يكفي اللاعبين الأساسيين في المنطقة: دول الخليج والاعتدال العربي التي تملك هواجس أمنية تتصل بالتدخل الإيراني في المنطقة، وتركيا التي لا تريد أن تواجه منافساً إقليمياً معيقاً لمشروعها، في حين أن كرة الثلج بينها وبين الولايات المتحد تتضخم، في ظل عودة روسيا للمنطقة بقوة أكبر وبقدرة على بناء تحالفات وإحداث تغيير في الملفات عبر الضغوطات الجادة على حلفائها، وهو ما يعني أن القضية اليوم أكبر من «تصريحات نارية».
مرحلة جديدة افتتحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب الغاضب من سلفه باراك أوباما والساعي إلى تقويض ما أمكنه من اتفاقيات أبرمها الأخير وإدارته مع إيران. لم يستطع الرئيس الأميركي الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ولم يبرمه أيضا وأعاده إلى الكونغرس في خطوة تعكس انزعاجا شخصيا حيال هذه الاتفاقية وتفلت من الضغوط الداخلية الداعية إلى توقيعها، وفي جانب آخر دعوة غير مباشرة إلى الكونغرس للمبادرة من أجل فتح أبواب التعديل أو ما تصفه وزارة الخارجية الأميركية تطوير الاتفاقية لتصل إلى ضم ملف الصواريخ الباليستية الإيرانية إلى صلب الاتفاق النووي، وهو ما كان مدار حديث بين وزيري الخارجية الأميركي والإيراني، ريكس تيلرسون ومحمد جواد ظريف، قبل ساعات من إعلان ترامب استراتيجيته تجاه إيران السبت الماضي.
ترامب تخفف من اتخاذ قرارات مباشرة من البيت الأبيض تجاه الاتفاق النووي ولم يصدر قرار إدراج الحرس الثوري على لائحة الإرهاب، وأحال أمر العقوبات المالية إلى الخزانة الأميركية التي أعلنت فرض إجراءات عقابية مالية على الحرس الثوري بعد إدراجه على لائحة المنظمات الإرهابية.
وهذه الخطوة تدشن مرحلة جديدة في العلاقة الأميركية-الإيرانية، تتسم باستراتيجية أميركية غايتها محاصرة نفوذ إيران في المنطقة العربية وتحجيم دورها، والضغط الاقتصادي من خلال التصويب المالي والأمني على منظمة الحرس الثوري الجهاز الأقوى في إيران بل الحاكم الفعلي أيديولوجيا وعسكريا واقتصاديا. فالحرس الثوري يتحكم بسلطات لا تقاربها أي سلطة في البلاد، إلى حد أن البعض من المتابعين للشأن الإيراني يعتبر ولي الفقيه ليس إلا الرجل الذي يلائم تطلعات الحرس وسلطته، والذي يستجيب لتوسع هذه السلطة وتمددها في السياسة والاقتصاد فضلا عن الأمن والوظيفة العسكرية، بحيث أن الجيش الإيراني، كما رئاسة الجمهورية ومجلس الشورى، كلها مؤسسات لا يبرز حضورها ولا نفوذها إلا تحت سقف سلطة الحرس الثوري الذي يحكم إيران اليوم فعليا.
الاستراتيجية الأميركية التي تهدف إلى محاصرة نفوذ إيران في المنطقة العربية، تبدأ حسب خطة ترامب من السعي إلى تعديل الاتفاق النووي إذا لم يكن من الممكن الانسحاب منه، وتعمد إلى مواجهة تستند إلى العقوبات المباشرة للحرس الثوري ولأذرعه الميليشيوية وفي مقدمتها حزب الله، إذ تستعد واشنطن لإصدار قانون جديد مشدد يهدف إلى التضييق على النشاط المالي لحزب الله ومؤسساته لن تنجو منه الدولة اللبنانية بطبيعة الحال، فضلا عن الجهات الحليفة لحزب الله في هذا البلد أو القريبة منه، وهذا مؤشر على أن الاستراتيجية الأميركية ليست في وارد التورط مجددا في مواجهات عسكرية في المنطقة بعد تجربة احتلال العراق، من دون أن تلغي احتمالات حصول حروب بالواسطة أو استخدام التفاهمات مع روسيا في المنطقة لتحقيق الأهداف التي باتت أهدافا مشتركة لمعظم الحكومات العربية والإدارة الأميركية.
ويمكن القول بأسف إن مشكلة إيران لم تعد مع بعض الحكومات، بل ثمة شرخ بنيوي على مستوى الشعوب العربية وإيران أمكن لواشنطن أن تدخل في هذا المضمار الذي يجعل من سياسة العداء لإيران سياسة تحظى بتأييد واسع على مستوى المجتمعات العربية رغم العداء الذي تحمله الشعوب العربية لأميركا، لكنه بات بعد التورط الإيراني في سوريا وفي العراق وفي غيرهما أقل بكثير من العداء لإيران، بل بات العداء العربي للسياسة الإيرانية ولدورها في المنطقة العربية، مدخلا مثاليا لإسرائيل إلى المنطقة وللدور الأميركي الذي بات يحظى بشرعية بل بات طلبا ملحا إذا كان البديل إيران.
الدور الروسي أيضا ورغم الارتكابات التي قام بها في سوريا، بات مطلبا سوريا شعبيا إذا كان بديلا عن الدور الإيراني، ولهذا تدرك روسيا أن إيران التي ساعدت في تمدد روسيا في المنطقة العربية وأن واشنطن باركت هذا النفوذ والدور المتنامي في سوريا، إلا أن استقرار النفوذ الروسي ودوامه يتطلب غطاء عربيا ليبقى ويستمر، بهذا المعنى يمكن فهم العلاقة الروسية السعودية حيث سعت روسيا، من خلال الزيارة الأخيرة للملك سلمان بن عبدالعزيز بوفد تاريخي، إلى الإشارة إلى مسلميها وأنها على علاقة متينة مع رموز المسلمين السنة، وأن الصورة الدموية التي وصلت إليهم من سوريا لا تعكس الحقيقة الكاملة، إذ ليس خافيا أن روسيا مهتمة باستقرار العلاقة الإيجابية مع البيئات الإسلامية في الدولة الروسية والجمهوريات المحيطة بها وهي بيئات سنية في غالبيتها. تدرك القيادة الروسية أن مدخلها الاستراتيجي إلى العالم العربي والإسلامي هو السعودية وليس إيران.
من هنا يمكن القول إن تشكل النظام الإقليمي العربي اليوم يقوم على مواجهة النفوذ الإيراني وتمدده في القضايا المحورية، وتأتي التطورات الفلسطينية على صعيد المصالحة بين حركتي فتح وحماس، لتظهر بوضوح تراجع الدور الإيراني بحيث لم يسبق أن شهد تطور استراتيجي على الصعيد الفلسطيني منذ ربع قرن على الأقل مثل هذه الهامشية الإيرانية بل الغياب عن مثل هذا الحدث الفلسطيني، وكشف هذا التطور الفلسطيني غيابا لا يقل أهمية هو الغياب السوري، فيما ستكون الأيام المقبلة بما تحمله من نتائج هذا الاتفاق مدخلا لتطور سياسي واستراتيجي لا يقل أهمية على صعيد العلاقات العربية الإسرائيلية ودائما كنتيجة موضوعية لمخلفات الدور الإيراني في المنطقة العربية.
الاستراتيجية الأميركية ستزيد الحصار على الدور الإيراني لكن ماذا لدى القيادة الإيرانية وأذرعها في المنطقة العربية لتقدمه في المرحلة المقبلة؟ مع انحسار الإرهاب بمعناه الجغرافي تبدو فرص استثمار إيران في تمدده تتراجع، والأزمة الكردية التي انفجرت على حدودها من جهة العراق، تحولت إلى عنصر تهديد لها لا سيما أن إيران التي كررت أنها موجودة على حدود إسرائيل من خلال حزب الله، فإن إسرائيل تقول، بطريقة غير مباشرة، إنها موجودة على حدود إيران من خلال كردستان، خاصة بعدما أعلنت أنها مؤيدة للاستفتاء على استقلال هذا الإقليم، وأبدت استعدادها لمد المزيد من يد العون له.
ترامب يطلق استراتيجية المواجهة مع إيران وأذرعها في أسوأ مرحلة من مراحل العداء لإيران على امتداد المنطقة العربية، مرحلة ستدفع إيران إلى المزيد من التنازلات للدول العظمى على حساب علاقاتها مع المنطقة العربية.
لم يختلف سيناريو مقتل ضابط نظام الأسد، "عصام زهر الدين"، عن مقتل قيادات بارزة في حزب الله اللبناني في السنوات الماضية، لكن غاية النظام أن تكون العملية الجديدة (زهر الدين)، لإيهام الناس أن مقتل ركن من أركانه على يديه، هو لخروجه عن النظام بعد أن هدد اللاجئين السوريين وحذرهم من العودة إلى الوطن.
وما مقتل النظام السوري لزهر الدين، إلا إعادة لنموذج مقتل قيادي حزب الله اللبناني، "مصطفى بدر الدين"، مع اختلاف المسببات التي استخدمها الحزب بنسب مقتله لغارة إسرائيلية في مايو/ أيار عام 2016، وسبقه مقتل في قيادي الحزب، "عماد مغنية"، قائد العمليات الدولية في "حزب الله"، في 12 شباط 2008، في دمشق ونسب قتله إلى إسرائيل.
من يعرف الكثير عن ذاك الثعبان "ايران" وأذياله، ستكون نهايته كنهاية زهر الدين وبدر الدين ومغنية، فمثل هؤلاء القادة هم وقود لإشعال الحروب ووقود لزرع الخوف في نفوس كل من يفكر بالخروج عن زوبعة تدعى ايران.
المعلومات التي يعرفها زهر الدين عن نظام الأسد وعن حزب الله، هي أكثر مما ينبغي معرفته، وقد يكون خلافاً معهما جعلت منه عبرة ليعكس النظام ردة فعله العنيفة تجاه من يقترب من الشعب، ولكن الحقيقة أن زهر الدين عرف أكثر مما ينبغي، وانتهت مهمته في الحرب السورية، ولربما حان الوقت لتصفية من تلطخت يدهم بالدماء من القادة في النظام السوري وسيتبعهم قادة في حزب الله كما سبقهم قادة كانوا في سوريا الشهر الماضي.
ولم يكن لمقتل زهر الدين، فائدة باتجاه واحد، ففي مقتله استثارة للطائفة الدرزية، التي تعتبر نفسها من الأقليات، سواء كانت مؤيدة للنظام أو معارضة له، إلا أن نزعة الانتماء ستتحرك داخلهم، في الوقت الذي تشهد السويداء حراكا رافضا لدعم الأسد و الانضمام لقواته.
وثارت آنفاً أن الكثير من الخلافات داخل النظام بعد اتفاق أستانة، وبات ينبغي على النظام أن يحاول أن يظهر نفسه بمظهر "الوديع" كي يستمر في المماطلة في اجتماعات جنيف وأستانة المقبلان، ومهما تكن النتيجة والتبعات، فإن ما بعد أستانة وجنيف المقبلين ليس كما قبلها.
الحقيقة فاجأتنا التحولات بسرعتها. فمنذ إعلان واشنطن قرارها ضد حكومة إيران، بدلت بريطانيا وألمانيا موقفهما، من الإصرار على الوفاء بالتزامات الاتفاق النووي إلى الإعلان عن تأييد مشروع ترمب بمواجهة نظام طهران في منطقة الشرق الأوسط.
ويبدو الأمر واضحاً، فالمشكلة ليست في الاتفاق على النشاط النووي بقدر ما هي في الحروب التي تديرها إيران إقليمياً. لا يعقل ترك النظام طليقاً في المنطقة ينشر الفوضى ويهدد الأنظمة، ويهيمن على العراق وسوريا ولبنان واليمن، وذلك مكافأة له على تقليص تخصيب اليورانيوم!
بريطانيا وألمانيا انتقدتا الممارسات الإيرانية، وأعلنتا انضمامهما إلى الولايات المتحدة في مواجهة سياسة طهران. موقف يفشل مسعى إيران التي حاولت وضع الاتفاق كحزمة واحدة، وفرضه على الجميع دون التمييز بين منع النشاط النووي الذي يؤهلها للتفوق العسكري، وبين ممارسات النظام الخطيرة المستفيدة من الاتفاق النووي نفسه.
ولا بد أن نعترف بأن البيت الأبيض أدار المعركة بذكاء مع حلفائه الأوروبيين الذين كانوا يرفضون تماماً التراجع عن الاتفاق، وكل ما يؤدي إلى توتر العلاقة مع طهران. لكن الرئيس دونالد ترمب وضعهم أمام خيارين؛ تصحيح الأخطاء التي صاحبت الاتفاق أو إلغائه كله، مصراً على رفض الاستمرار في الوضع السابق. وهو موقف ينسجم مع موقف الحزب الجمهوري، وبالطبع أيده أركان حكومته.
وستبدأ العجلة تدور من جديد في الضغط على نظام طهران الذي سيكون مسؤولاً عن الأزمة المقبلة التي ستلحق به، اقتصادياً وسياسياً، وذلك في حال رفض تعديل سلوكه والتوقف عن نشاطاته العسكرية والميليشياوية في المنطقة. الولايات المتحدة، والحكومات المتضامنة معها، لا تعارض حق إيران في بناء مشروعها النووي المدني، لكن تتوقع منها أن تلجم الحرس الثوري وأجهزتها الاستخبارية المنتشرة في المنطقة. عليها أن تسحب ميليشياتها، التي بناها الحرس الثوري الإيراني وقام بتربيتها، من اللاجئين المغلوبين على أمرهم، من أفغان وباكستانيين وعراقيين وغيرهم، كما طورت وظيفة ميليشيا «حزب الله»، التي حولها إلى مرتزقة تشن لها الحروب في المنطقة، وهي تجهز «أنصار الله» الحوثي في اليمن للهدف نفسه. أيضاً، قامت باستخدام شبكة بحرية لتهريب السلاح إلى مناطق القتال في اليمن وسوريا ولبنان. وقد نجحت سفن التهريب في تمويل الحرب اليمنية واستمرارها، وحاولت مد أشرعتها إلى موانئ سوريا على البحر المتوسط. ولإيران نشاطات في أفغانستان بدعم الحرب منذ الغزو الأميركي لأفغانستان بعد هجمات الحادي عشر سبتمبر (أيلول).
ما كان لإيران أن تنتشر بهذا الحجم المخيف في المنطقة لولا أن الموقعين على الاتفاق رضخوا لشروطها، ورفعوا كل العقوبات من دون تمييز أو انتقاء. وهي ما كان لها أن تتمدد في سوريا لولا أن إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، تساهلت معها خشية أن تتراجع عن توقيع الاتفاق.
التحدي سيكون في طرح مشروع جديد يعرض على طهران، رفع للعقوبات مقابل الاستمرار في الاتفاق، وإضافة التزامها بسحب كل ميليشياتها الأجنبية من مناطق القتال، والتعهد بوقف دعم ميليشياتها الحليفة المحلية، مثل الحوثي و«عصائب الحق» و«حزب الله - العراق» وغيرها.
واشنطن، من باب الضغط على طهران، قالت إنها ستعيد إحياء دعمها للمعارضة الإيرانية التي تعمل على إسقاط النظام، الذي كانت قد أوقفته إدارة أوباما، وعطلت دعم النشاطات الأكاديمية والإعلامية والسياسية الموجهة ضد طهران، وذلك إرضاء لحكومة روحاني.
وبعودة المواجهة السياسية أصبحت المعادلة الجديدة أمام نظام طهران، إما وقف الحروب وإما عودة العقوبات. ومعها سيتشكل تكتل جديد هدفه الضغط عليها وضمان تنفيذ العقوبات.
أهمّ ما في خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني انه يعالج موضوع إيران ككل ويضع الملف النووي في إطاره الصحيح. إنّه إطار السلوك الإيراني على الصعيديْن الدولي والإقليمي. لا يختزل الملف النووي، بأيّ شكل، مشكلة حقيقية اسمها النظام في إيران ما بعد سقوط الشاه. أي إيران التي تستثمر في كل ما من شأنه زرع حال من عدم الاستقرار في المنطقة العربية بشكل خاص، وفي كل المناطق الإسلامية بشكل عام.
لم تنسحب الولايات المتحدة من الاتفاق الموقع صيف العام 2015 بين إيران ومجموعة الخمسة زائدا واحدا، أي البلدان الخمسة ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن وألمانيا. من الواضح أن الإدارة الأميركية قررت مسايرة حلفاءها الأوروبيين. تفادى ترامب الانسحاب من الاتفاق الذي كان الوصول إليه هدفا بحدّ ذاته لإدارة باراك أوباما ولإيران نفسها. أرادت إدارة أوباما القول إنّها حققت إنجازا ما على الصعيد الخارجي.
وفرت لإيران الغطاء الذي تحتاجه كي تتابع سياستها العدوانية على كلّ صعيد، من منطلق أن لا وجود سوى لـ“الإرهاب السنّي” في الشرق الأوسط والعالم. لم تسأل إدارة أوباما يوما من أين جاء “داعش”، ومن وفّر الحاضنة لـ”داعش” ومن على شاكلته.
هناك للمرّة الأولى، منذ إعلان “الجمهورية الإسلامية” في إيران، في العام 1979، إدارة أميركية تعرف تماما ما هي إيران. هناك وصف متكامل ورصد دقيق من الرئيس الأميركي لكلّ النشاطات التي تقوم بها إيران داخل حدودها وخارجها. يمكن القول إن أميركا اكتشفت أخيرا إيران وذلك عندما ربط ترامب بين الملف النووي من جهة، وبين سلوك إيران من جهة أخرى. لم تكن المشكلة يوما في الملف النووي الإيراني. المشكلة في السلوك الإيراني بغض النظر عن هذا الملف الذي استخدمته إيران لتغطية ما تقوم به الآن، بل ما قامت به في الماضي أيضا.
لذلك ليس صدفة أن يكون ترامب فتح في خطابه كل الملفات الإيرانية بدءا باحتجاز الدبلوماسيين في السفارة الأميركية في طهران رهائن لمدة أربعمئة وأربعة وأربعين يوما ابتداء من تشرين الثاني – نوفمبر 1979.
لم تطلق الرهائن إلا بعد الانتخابات الأميركية التي تغلّب فيها رونالد ريغان على جيمي كارتر الذي وضع الأسس للتراجع الأميركي أمام العدوانية الإيرانية عندما امتنع عن الإقدام على أي خطوة جدْية ردّا على احتجاز الدبلوماسيين الأميركيين، باستثناء عملية إنقاذ فاشلة انتهت بكارثة سقوط هليكوبتر أميركية في صحراء طبس الإيرانية.
بات معروفا إلى أين أوصلت إدارة كارتر الولايات المتحدة التي لم تستطع في أي وقت الرد على الاستفزازات الأميركية، حتى في عهد ريغان الذي شهد تفجير مقرّ المارينز في بيروت يوم الثالث والعشرين من تشرين الأول – أكتوبر 1983 وقبله بأشهر قليلة تفجير السفارة الأميركية في العاصمة اللبنانية.
قتل في عملية تفجير السفارة التي كانت في منطقة عين المريسة البيروتية عدد كبير من ضباط وكالة الاستخبارات المركزية (سي. آي. أي). على رأس هؤلاء بوب إيمز الذي كان أوّل من حذر إيران من احتمال تعرّضها لهجوم عراقي في عهد صدّام حسين (الرواية الكاملة عن تحذير إيمز للمسؤولين الإيرانيين من الهجوم العراقي في كتاب “الجاسوس الطيّب” للكاتب كاي بيرد).
لم يعد سرا بالنسبة إلى الإدارة الأميركية ما الذي فعلته إيران منذ العام 1979 وصولا إلى اعتبارها “دولة مارقة” حسب تعبير دونالد ترامب. لم يفوّت الرئيس الأميركي ذكر أي دور قامت به إيران على أي صعيد كان، وذلك لتبرير تحوّلها إلى رمز لـ“الإرهاب”. لم يتردد في الإشارة إلى التعاون بين إيران و“القاعدة”، ولم يفوت أيضا الفرصة كي يشير مرات عدة إلى الدور الذي تلعبه الميليشيات المذهبية التابعة لإيران، بما في ذلك ميليشيا “حزب الله”. أكثر من ذلك، لم يتردد في التركيز على الدور الإيراني في دعم بشّار الأسد في الحرب التي يشنّها على الشعب السوري.
من الناحية النظرية، كان خطاب ترامب خطابا شاملا وضعه له أشخاص يعرفون تماما وبالتفاصيل المملة ما هي إيران وكيف شاركت في عملية الخبر للعام 1996 التي قتل فيها عسكريون أميركيون في المملكة العربية السعودية.
ما قاله ترامب يمكن أن يصدر عن أيّ سياسي لبناني أو عربي يعرف تماما ما ارتكبته إيران في بلد مثل لبنان صار رهينة لدى “حزب الله”، خصوصا بعد انتقاله، بشكل تدريجي، من الوصاية السورية إلى الوصاية الإيرانية إثر اغتيال رفيق الحريري في شباط – فبراير من العام 2005.
لا غبار على خطاب ترامب من الناحية النظرية، خصوصا أنّه جاء نتيجة لمراجعة للسياسة الأميركية استمرّت نحو تسعة أشهر. ولكن ماذا عن الناحية العملية؟
ثمة أمور عدّة تحتاج إلى التوقّف عندها. من بين هذه الأمور عدم وضع “الحرس الثوري” الإيراني في مصاف المنظمات الإرهابية. ما الذي جعل الإدارة الأميركية تتراجع عن ذلك وتكتفي بالكلام عن عقوبات على “الحرس الثوري”.
مثل هذا السؤال لا يزال يحتاج إلى جواب، أقله إلى توضيحات ما تساعد في فهم مدى جدّية ترامب في الدخول في مواجهة مع إيران ومع مشروعها التوسّعي. ما يطمئن إلى أن الرئيس الأميركي يعي تماما ما الذي يفعله إشارته إلى ضرورة رص الصف بين الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
هذا الكلام يعني، بكل بساطة، أن أميركا غيّرت استراتيجيتها الشرق أوسطية ولم تعد في وارد استرضاء إيران من أجل المحافظة على الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني. بكلام أوضح، لن تنسحب أميركا من الاتفاق، لكنها لن تفصل بينه وبين سلوك إيران على الرغم من كلّ الاعتراضات الأوروبية على هذه المقاربة المختلفة كليا عن مقاربة إدارة باراك أوباما.
حسنا، قال الرئيس الأميركي ما يريد قوله. هناك اعتراضات أوروبية وروسية، وهناك اعتراضات أخرى من داخل الإدارة نفسها حيث لا وجود لحماسة لدى وزير الخارجية ركس تيلرسون لأي مواجهة من أيّ نوع مع إيران. هناك جناح في الإدارة يفضّل اعتماد التهدئة والعمل على متابعة استرضاء إيران. وهذا يدل على قوة اللوبي الإيراني في واشنطن ومدى فاعليته.
يبقى في نهاية المطاف، كيف يمكن لترامب الانتقال من التنظير إلى التنفيذ. سيعتمد الكثير على ما إذا كانت هناك خطط عسكرية لتقطيع أوصال الوجود العسكري الإيراني في المنطقة، خصوصا في منطقة الحدود السورية – العراقية.
ليس بعيدا اليوم الذي سيتبيّن فيه هل خطاب ترامب ثمرة مشاورات بين كبار العسكريين الذين يشغلون مواقع مهمّة في الإدارة مثل الجنرال هربرت مكماستر مستشار الأمن القومي ووزير الدفاع جيمس ماتيس ورئيس الأركان في البيت الأبيض الجنرال جون كيلي، أم انّه مجرد تسجيل لموقف؟
المهمّ أن أميركا أعادت اكتشاف إيران ما بعد الشاه، وأظهرت أنّها تعرف تماما ما هو الدور الذي تلعبه في المنطقة. بين الانتقال من النظري إلى العملي مسافة كبيرة ليس معروفا هل إدارة ترامب على استعداد لقطعها. الأكيد أن سوريا هي أحد الأمكنة التي سيظهر فيها هل من جدّية أميركية أم لا؟
تعاملت الولايات المتحدة الاميركية لفترة طويلة مع البرامج النووية في منطقة الخليج والشرق الاوسط كمعادلة استراتيجية، بمعنى انها لا تشكل تهديدا عسكريا مباشرا عليها ولكن قد تخفض من نفوذها وسطوتها في المنطقة كدولة محورية عالميا.
هذا ما دفعها في الدرجة الاولى لاحتلال العراق، وهذا ما دفع سلاح الجو الاسرائيلي عام 1981 للقيام بغارة استهدفت مفاعل "تموز1" النووي العراقي ما عرف وقتها بعملية "أوبرا"،حيث دمر المفاعل تدميرا كاملا في اول هجوم على منشأة نووية في العالم. كما العراق، كذلك ليبيا حيث قامت بالتخلي عن برنامجها النووي بعد سلسلة من الضغوطات الدولية عليها، وكان ذلك في عهد الرئيس الاميركي جورج بوش في كانون الاول عام 2004.
وهذا ما دفع ايضاً الرئيس الإيراني السابق أكبر هاشمي رفسنجاني في أب 2005 الى القول "إن بلاده لا يمكن معاملتها مثل العراق أو ليبيا". وأن قرار إيران باستئناف برنامجها النووي غير قابل للإلغاء"، وذلك اثر مطالبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية لبلده بتعليق نشاطاتها النووية آنذاك.
تحولت سياسة الولايات المتحدة مع الرئيس السابق باراك اوباما، حيث كانت له رؤية مختلفة في التعامل مع الدول وسياسة اميركا الخارجية، بالنسبة له أن قوة أميركا تنبع من تماسكها ونموها الداخلي وليس من علاقاتها الدولية وسطوتها الخارجية، ويمكن القول ان ولايته قد اطاحت بالكثير من الجهود الجبارة التي قامت بها الولايات المتحدة عبر عقود لتكريس نفسها كدولة عظمى.
جاء الاتفاق النووي الايراني بناءً لجهود اوباما الحثيثة، وجهوده تلك هي التي اعادت ايران الى الحظيرة الدولية، وهو الذي سمح لها وعلى امتداد ثماني سنوات ان تبسط نفوذها كدولة قوية في المنطقة من الصعب اقتلاعها لسنوات عدة.
استطاعت ايران وبدهائها ان تحقق انتصارا موصوفا بانتزاعها الاتفاق النووي، لكن هل حافظت ايران على انتصارها، وهل يستحق قرار الرئيس الاميركي الحالي دونالد ترامب عدم التصديق على أن إيران ملتزمة بالاتفاق النووي كل هذا التهليل؟
ما كان يوجع ايران بالمبدأ هو العقوبات الاقتصادية، اذ بلغت خسائرها قبل عام 2012 160 مليار دولار من عائدات النفط، ومع رفع تلك العقوبات يمكن لطهران الوصول إلى أكثر من 100 مليار دولار من الأصول المجمدة بالخارج.
رفعت العقوبات وافرجت الولايات المتحدة عن المليارات المجمدة ولكن الاموال المفرج عنها لم تذهب لتحسين الاوضاع الاقتصادية للمواطن الايراني، بل الى تمويل اهداف ايران وهي اكمال برنامجها النووي بالتوازي مع سياستها التوسعية في المنطقة، واحتلال ما تبقى من عواصم عربية لاكمال خريطة هلالها الشيعي.
اخطأ الاوروبيون والاميركيون عندما وثقوا بإيران، ذلك ان منهجيتها قائمة على السياسة التوسعية، ولا يمكن فصل السياسة النووية الايرانية عن مخططها الاستراتيجي، هدف الثورة الاسلامية الايرانية ومنذ قيامها عام 1979 كانت محددة تجاه المنطقة التخريب، بذر الفتن، نشر الارهاب والفوضى لاحكام السيطرة عليها.
لذا هي بحاجة للوفر المادي كي يذهب للحرس الثوري شريان النظام الحيوي، واذرعها في المنطقة من حزب الله في لبنان، الحشد الشعبي في العراق، انصار الله الحوثيين في اليمن، وما تراه مناسبا لمخططاتها من مؤسسات وانظمة في الاقليم.
جاء قرار الرئيس الاميركي ترامب، ولكن هذا القرار لا يكفي لقطع اذرع الاخطبوط الايراني، لا يزال لايران هوامش كثيرة للتحرك:
اولا ان الحرس الثوري وعلى لسان وزير الخارجية الاميركي ريكس تيلرسون لن يصنف منظمة ارهابية: "ترمب سيفرض عقوبات محددة الأهداف على مسؤولين من الحرس الثوري الإيراني، إلا أنه لن يصنفه منظمة إرهابية".
ثانياً يمكن لايران الاتكال على الاعضاء الآخرون في مجموعة الدول 5+1 وهذا ما حصل فعلاً وفي بيان مشترك صادر عن رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون افادوا: "ما زلنا ملتزمين بالاتفاق وتطبيقه الكامل من قبل جميع الأطراف"، وهذا يدل على ان الاتفاقات الاقتصادية الاوروبية لا زالت سارية المفعول، كما ان أوروبا تعالج مشاكلها الداخلية وهي بغنى الان عن مشاكل اضافية مع طهران.
ثالثا النظام الايراني وعلى الصعيد الداخلي لا يزال قويا وهو يحكم السيطرة على مؤسساته ويأتي في هذا الاطار تعليق قائد "الحرس الثوري" محمد علي جعفري في رده على قرار ترامب الاخير ، إلى أن "يكون واثقاً من أن الحرس الثوري والحكومة ووزارة الخارجية في إيران موحّدون" و "نحن على وفاق تام"، ويكفي التذكير كيف قمعت ثورة "التحرك الاخضر" عام 2009 بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية اثر اعتراض متظاهرين على فوز احمدي نجاد انذاك وكان يتزعم المظاهرات مير حسين موسوي زعيم المعارضة، حيث قام النظام بسجن موسوي في بيته من 2009 وهو لا يزال يعيش تحت الإقامة الجبرية حتى الان، بكلام آخر اذا ما اعيد تفعيل العقوبات يستطيع "نظام الملالي" ان يصمد لسنين طويلة.
مع ذلك، يأتي قرار دونالد ترامب في مرحلة خطيرة وصعبة من تاريخ المنطقة ومن المواجهة مع ايران، وقد يكون ترامب جاد وحازم في قراره، لكن الادارات الاميركية تتبدل وتتغير، وايران ثابتة ولا تتحول عن اهدافها، يجب خلق قوة عربية توازيها قوة استراتيجيا وعسكريا كي تستطيع قطع اياديها، اي التحرك بخط موازِ لتحركها واسترداد الموقع العربي في ملفات المنطقة وبالتالي السيطرة على النفوذ الايراني.
وهو ما تقوم به المملكة العربية السعودية الآن، باستراتيجيتها الجديدة وبانفتاحها على اطراف كانوا حتى حين بعيدين عنها في السياسة، الانفتاح على الروس، استقبال اطراف عراقية معتدلة، مد اليد لاطراف ووفعاليات لبنانية من كل الاطياف، المحاولات الحثيثة لتوحيد المعارضة السورية ولحل سياسي بعيدا عن الاقتتال، وفي هذا الاطار ما جاء على لسان وزير الدولة لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان بأن المملكة تؤيد جميع السياسات المحاربة للارهاب ومصدره واذرعه وعلى دول المنطقة جميعا ان تتوحد في مواجهه قتل الشعوب وتدمير السلم الاهلي"، هو بداية لتشكيل تحالف عربي استراتيجي موسع طال انتظاره بوجه التوسع الايراني.
على هذا التحالف ان يعمل بجهد حثيث امام المجتمع الدولي كي يضع:
اولا الحرس الثوري الايراني على قائمة الارهاب.
ثانيا محاولة عزل ايران مجددا اي اعادتها الى ما كانت عليه قبل الاتفاق النووي، وذلك عبر العمل مع المجتمع الدولي لكشف ايران وتعريتها كدولة راعية للارهاب.
نجحت ايران في انشاء مجموعات قوية موالية لها في الدول العربية بلعبها على الوتر المذهبي حينا والقضية الفلسطنية احيانا والمهمشين والمستضعفين احيانا اخرى، استطاعت ان تحمي نفسها وحدودها بدماء العرب ايضا، دماء شباب حزب الله في سوريا وشباب الحشد الشعبي في العراق والحوثيين اليمنيين، تغلغلت في النفوس والاعلام والمؤسسسات مستغلة اعتدال بعض الدول العربية كالمملكة السعودية والتهاء مصر بمشاكلها الداخلية وتفتت العراق وحرب سوريا، ولكن قد تواجه في المستقبل القريب حلفا واستراتيجية عربية قد تستطيع ان تسيطر على اطماعها التوسعية.
تقدّم واشنطن رؤاها في السياسة الخارجية من خلال إطلالات رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب. الأمر عادي ويجب أن يكون كذلك، لكن في الشكل الذي يتولى فيه رجل البيت الأبيض تقديم روايته، وهنا نتحدث عن إستراتيجية واشنطن إزاء إيران، ما يشبه نزقا شخصيا يتولاه المرشح ترامب لحصد أصوات الناخبين على الرغم من أن الرجل بات رئيسا كامل الصلاحيات منذ بداية العام.
والمشكلة أنه في السعي للاطلاع على الموقف الأميركي وكواليسه من خلال متابعة الصحافة الأميركية سهو عن حقيقة أن تسعين بالمئة من هذه الصحافة تكره ترامب وتعمل على تفريغ قراراته، وبالتالي فإن محاولة فهم إستراتيجية الولايات المتحدة في تناول شؤون العالم من خلال سطور صحافييها، تصبح مشوّهة مرتبكة حين تصدر عن ترامب وتفسرّها واشنطن بوست ونيويورك تايمز وأخواتهما.
وما أعلنه ترامب بشأن مقاربة الحالة الإيرانية قد يعدّ انقلابا جذريا في رؤى واشنطن السابقة، لا سيما في عهد الرئيس باراك أوباما، ويمثّل إعادة تعريف لوظيفة الولايات المتحدة على رأس هذا العالم. ففيما كانت الولايات المتحدة تتمتع في لملمة تراثها الشرق أوسطي وتمعن في الانسحاب من تقاليدها في المنطقة، تعيد إدارة ترامب توجيه دفة إستراتيجيتها في هذا الشرق إلى ما يعيد لها زعامة القرار والرعاية داخل كافة ملفات هذه المنطقة، وربما العالم أجمع.
غير أن ترامبية الخطاب الأميركي الجديد حيال إيران تطرح أسئلة حقيقية حول ما إذا كان الرئيس الأميركي ينطق بما يتماشى صوريا مع وعوده الانتخابية أم أن الأمر يمثّل الفكر الإستراتيجي العميق للولايات المتحدة. كما يلقي شكوكا أخرى حول ما إذا كان ترامب يسعى للإطاحة بـ”إنجازات” سلفه فقط، لمجرد الخضوع لنزوع شخصي انتقامي أهوج دون نضج خيارات بديلة على منوال تعجّله بالإطاحة بالنظام الصحي المسمّى “أوباما كير” دون التوصّل حتى الآن إلى بديل ناجع يرضي الكونغرس.
بدا موقف ترامب من الاتفاق النووي “انتخابيا” لا يغيّر كثيرا من موقف الولايات المتحدة المقبل حيال الاتفاق، كما لا يهدد موقع هذا الاتفاق بالنسبة لباقي الموقّعين. يرضي ترامب غروره بتأكيد اتساقه كرئيس مع تبرّمه كمرشح من “اتفاق أوباما” النووي، وبارتباط مصير تركة أوباما بمزاجه.
سحب ترامب بلاده من اتفاقية المناخ دون أن يكون ذلك وليد ضغوط داخلية من لوبيات صناعية، وهو قبل ذلك أصدر مراسيمه المقيّدة لدخول مواطني بعض الدول الإسلامية إلى بلاده دون أن يكون ذلك نتاج ضغط من أجهزة الأمن والمخابرات في الولايات المتحدة. ويقفز ترامب حاليا صوب موقف ملتبس مرتجل من البرنامج النووي الإيراني على الرغم من تحذيرات، حتى من داخل الحزب الجمهوري ومن إسرائيل نفسها، بضرورة الإبقاء على هذا الاتفاق.
للرئيس الكلمة الأولى والأخيرة في الولايات المتحدة. وحين يقذف ترامب بإستراتيجيته لمواجهة إيران فإن كافة شخوص الإدارة تعيد التموضع وفق قرار الرئيس. هكذا تجتمع كلمة نيكي هايلي مندوبة واشنطن في الأمم المتحدة، الترامبية الهوى، مع كلمة وزير الخارجية ريكس تيلرسون، الذي قيل إنه وصف رئيسه بالأحمق قبل أسبوع، بكلمة وزير الدفاع جيمس ماتيس، الذي كان يدافع عن ضرورة عدم انسحاب بلاده من اتفاق فيينا لعام 2015 الشهير.
ظهر أن موقف ترامب من الاتفاق النووي تفصيل هامشي أضيف إرضاء لسيّد البيت الأبيض على خطة عمل ميدانية أمنية عسكرية دبلوماسية تروم وقف تضخّم الظاهرة الإيرانية في الشرق الأوسط. لم تعد إسرائيل معنية بالجعجعة التي كان يطلقها رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو في عهد أوباما في مواكبة المفاوضات التي أفضت إلى ذلك الاتفاق.
باتت تل أبيب تتحدث عن خطر إيراني في الشمال يمتد من سوريا إلى لبنان لا علاقة له بأي برنامج نووي. وباتت السعودية، التي أيّدت الاتفاق النووي رغم تحفظها على الظروف التي أحاطت بإبرامه، لا سيما في إهمال إشراكها في مداولاته، تنتهج سياستها الخاصة (في موسكو وبغداد وبيروت… إلخ) لمواجهة التمدّد الإيراني في أحزابه وتياراته ومنظماته وخلاياه، وهو أمر لا علاقة له ببرنامج طهران النووي. بمعنى آخر، بدا أن إيران أقفلت ملف برنامجها النووي ممنية النفس بأن “الحذاقة” التي أسكتت بها المجتمع الدولي تتيح لها فجورا في رسم سياستها بشراسة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وما يتداعاه ذلك على الخليج والمنطقة برمتها.
تمثّل الإستراتجية الأميركية الجديدة ضد إيران عملية متعددة الأبعاد لا تستهدف طهران فقط، بل تضع حدودا ومحددات لمناورات موسكو، وربما بكين، في المنطقة. تعود الولايات المتحدة بقوة، من خلال تدابيرها المعلنة والمقبلة ضد الحرس الثوري الإيراني، لوضع أسس وقواعد للمحافظة على المصالح الأميركية في المنطقة. فإذا ما كان حراك إيران وحرسها وميليشياتها أساسا حيويا في إستراتيجية روسيا في الأتون السوري، فإن التخطيط لضرب الأخطبوط الإيراني الذي يغذّيه الحرس الثوري وفيلق النخبة المسمّى “فيلق القدس” بقيادة اللواء قاسم سليماني، يضرب الإستراتيجية الروسية نفسها، على الأقل بالشروط التي أطلق من خلالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العملية العسكرية الروسية في سوريا في سبتمبر 2015.
صدر عن حلفاء واشنطن عشية إعلان ترامب عن إستراتيجيته ما يفهم منه ابتعاد علني عن خيار واشنطن الانسحاب من الاتفاق النووي. لندن وبرلين متمسكتان بالاتفاق، فيما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فوق ذلك، أعلن أنه ينوي زيارة طهران في سابقة تاريخية صادمة. لكن هذه العواصم نفسها لن تعترض على خيارات الولايات المتحدة في التصدي للحرس الثوري المسؤول تاريخيا عن أعمال إرهابية طالت هذه العواصم كما مصالحها في العالم. على هذا، وبعد 24 ساعة على إعلان ترامب إستراتيجيته، تكشف لندن أن ما كانت تعتقده من تورّط روسي في هجمات إلكترونية طالت مجلس العموم البريطاني وبرلمانيه في يونيو الماضي، اكتشفت أنه إيراني مصدره قراصنة تحركهم طهران.
في ذلك أن التحوّل الأميركي في مسألة مكافحة نفوذ إيران في الشرق الأوسط بما في ذلك أدواته الإرهابية، سيحظى بإجماع غربي لا يمكن معارضته. وفي ذلك أيضا أن موسكو التي تسعى لاختراق الشرق الأوسط دون كثير استفزاز واستعداء للولايات المتحدة، ستأخذ جيدا بعين الاعتبار، وربما بعين الرضى، تدابير واشنطن ضد الحرس الثوري بصفتها مصلحة مشتركة ترفع من شأن الشراكة الروسية الأميركية في ميادين تتقاطع داخلها أجندات موسكو بأجندات طهران.
ربما ما زال مبكّرا استشراف مفاعيل الاستدارة الأميركية على مستقبل الشرق الأوسط. طرُب ترامب لمسألة أن مستقبل الاتفاق النووي بات مرتبطا بمزاجه ورضاه، لكن الحضور الأميركي في مياه المنطقة وبراريها بات، وفق تلك الإستراتيجية، في مواجهة علنية مع الحضور الإيراني، مع ما يعنيه ذلك من احتمالات الاحتكاك والمواجهة. وقد لا يكون مستبعدا أن هذا الصدام، على الأقل في ما أفاض به وزير الدفاع الإسرائيلي عن حرب إسرائيلية ضد الشمال اللبناني السوري، بات مطلوبا، ولو بجرعات مدروسة، في السعي لإطلاق استدارات كبرى للتعامل مع حالة “كوريا الشمالية” وأعراضها الروسية الصينية المقلقة.
خصوصيات الوضعين التركي والسوري وتداخلاتهما كثيرة. بعضها ثابت، والآخر متحول، وهذا أمر يميز، في الشكل والمضمون، انخراط تركيا في الشأن السوري عن أي طرف إقليمي أو دولي آخر. وقبل كل شيء، هي جارة كانت تربطها علاقات جيدة مع نظام بشار الأسد قبل قيام الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، ومن ثم تحولت العلاقة الحميمة بين أنقرة ودمشق إلى عداوة حادة خلال فترة قصيرة جداً، بعد أن فشلت كل المساعي التركية في إقناع الرئيس السوري بشار الأسد بسلوك طريق الإصلاح.
ومنذ بداية الثورة السورية، بقيت أمام تركيا أربعة خطوط تتحكم بكل خطوة من خطوات أنقرة. الأول، ضبط الملف الكردي من داخل سورية، بعد أن تبين أن مشروع حزب الاتحاد الديموقراطي هو إقامة كانتون كردي، يشمل الشريط الحدودي السوري التركي الممتد من الحدود مع العراق، وصولاً إلى منطقة عفرين في ريف حلب. والثاني، منع أي تأثيرات للتطورات السورية من الانتقال إلى الأراضي التركية، في ظل موجة الهجرة الكبيرة، سواء التي استقرت وهي قرابة ثلاثة ملايين أو العابرة، وهي تجاوزت مليوناً، وهذه مسألة ترتبت عليها أعباء اقتصادية وأمنية واجتماعية كبيرة. والخط الثالث هو إيجاد حل سياسي، يقوم على أساس رحيل النظام السوري. أما الخط الرابع فيتمثل في مراعاة الموقف الأميركي، وقياس أي موقف أو تحرك على أساس حسابات واشنطن.
بعض هذه الخطوط صمد، وتمرد بعض آخر على الحسابات، ولم يكن في وسع أنقرة التحكم به. وبالتالي، نجحت في إدارة ملف، ولم تحقق حساباتها المنشودة في ملف آخر، والسبب أنها كانت من دون حليف إقليمي، يمكن الركون إليه بقوة، منذ تسلمت السعودية ملف الفصائل السورية المسلحة في صيف عام 2013، في وقت عولت فيه على موقف إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، الذي خذلها هو الآخر، وتركها في مواجهة قوتي إيران وروسيا، ولم يوفر لها أي غطاء عسكري أو دبلوماسي. وكانت أكبر طعنة تلقتها أنقرة من واشنطن تمييع مسألة إقامة منطقة آمنة في سورية، لاستيعاب اللاجئين ووقف نمو الحالة الكردية المتمثلة في حزب الاتحاد الديموقراطي الذي تصنفه أنقرة منظمة إرهابية.
تجد تركيا اليوم نفسها أمام معادلة سورية مختلفة، حيث بات مطلوباً منها أن تنخرط أكثر في الملف السوري، وفق مسار أستانة الذي رسمته مع كل من روسيا وإيران، وشكلُ الانخراط المطلوب هو نشرُ مراقبين من أجل التهدئة في محافظة إدلب، ووضع حد للوضع السائب هناك بسبب سيطرة الفصائل المسلحة، وخصوصاً "هيئة تحرير الشام" التي باتت القوة الأساسية في المحافظة.
تعتمد تركيا في عملية إدلب على قوات درع الفرات الباقية من الجيش الحر، والهدف المشترك بين الطرفين إقامة منطقة خالية من الفصائل المسلحة التي تحولت إلى أمراء حرب، وحماية المدنيين من القصف الروسي والنظام السوري، لكن الهدف التركي الفعلي من العملية هو مواجهة المشروع الكردي في سورية. ولهذا تحضرت أنقرة على مستوى التفاهمات مع موسكو وطهران.
لدى تركيا حساب خاص يتعلق بالوضع الكردي، فهي لم تبد إلى اليوم أي تهاون في ما يخص الوضع الجديد الذي فرضه حزب الاتحاد الديموقراطي بوسائل مختلفة، وذلك بالتعاون مع الولايات المتحدة التي اتخذته حليفاً أساسياً في الحرب ضد "داعش".
لم تتردد تركيا في إعلان نيتها أنها ستقوم بتدمير الكانتون الذي بناه حزب الاتحاد الديموقراطي، وهذا أمر سوف يزيد من عملية الفرز القائمة على الأرض السورية، ولن يكون سهلاً في كل الأحوال، لا سيما وأن واشنطن لن تقف متفرجة.
وجد السوريون أنفسهم بعد ستة أعوام من ثورتهم أمام عدة خيارات قاسية، فرضتها مجموعة التحالفات الأخيرة بين الدول الضامنة لخفض التصعيد، وكان لزاماً عليهم التفكير بطريقة أخرى ووضع جميع أحلامهم السابقة في سلة وتعليقها جانباً؛ لأن الأمور لا تجري بصالحهم.
شهدت محافظة إدلب في الشمال السوري تحوّلات جذرية نتيجة لتناوب السيطرة عليها من قبل مختلف الفصائل وتناحرها، لتتحوّل المحافظة المحررة الوحيدة من براثن الأسد إلى معضلة يصعب فكها بعد إضافتها لمناطق خفض التصعيد مؤخراً.
ساهمت عدة عوامل في تشكيل هذه المنطقة المناهضة للأسد المتاخمة للحدود التركية، دعمت ثباتها لتبقى خارج سيطرة الميليشيات الشيعية المقاتلة إلى جانب عصابات النظام، وأهمّ هذه العوامل:
– المعابر التركية المدنية المفتوحة مثل “باب الهوى” المعبر الإنساني والإغاثي الوحيد، إضافة للمعابر العسكرية التي تزوّد فصائل المعارضة من خلالها بالعتاد والسلاح لتثبت في وجوه أعداء الثورة المحيطة بها من كلّ جانب.
– احتواء المنطقة على أشدّ الفصائل مقاومة لنظام الأسد مع مجموعات مختلفة من السياسيين والناشطين في مجالات الإغاثة والإدارة والإعلام وغيرها.
– التهجير القسري للمعارضين والرافضين لأي تسوية مع الأسد وعصابته، لجأوا إليها لأنها الخيار الوحيد أمامهم للبقاء أحياء.
تممت تلك العوامل الصمود الأسطوري لتلك المنطقة في وجه عصابات الأسد والدول المجرمة المساندة له مثل روسيا وإيران كما حدّت من توسع ميليشيات قسد الكردية وتهجيرها للسنة العرب من مناطق سيطرتها.
جاءت بعدها سيطرة هيئة تحرير الشام على المنطقة بعد طردها لحركة أحرار الشام وفصائل الجيش الحر منها، ووجّهت لخصومها عدة تهم على رأسها التعامل مع تركيا، عمدت الهيئة لتفكيك ومحاربة منافسيها تدريجياً إثر حضور ممثليهم مؤتمرات مثل آستانا أو الرياض، أو اتهمت بعضهم بقبولهم الحل السياسي؛ الذي يضيّع ثمرة الجهاد الشامي وتضحيات الشعب السوري وفق زعمها، لكن لم تمض أشهر قليلة على قتالها لحركة أحرار الشام حتى بدأت الأرتال التركية تعبر الحدود بحماية الهيئة ذاتها بعد يوم واحد من بيان التصعيد الذي أصدرته جهاتها الإعلامية التي تدعو عناصرها للتصدي ومقاومة الاحتلال التركي.
هذا التناقض المريب بين القول والعمل أربك العناصر التابعة لها والأقلام المدافعة عنها؛ التي انقلبت على نفسها ورأت في تصرف قيادة الهيئة عملاً حكيماً تشكر عليه بعد أن كان خيانة يجب قتال من يقول به.
شنّت المعرفات المعادية للهيئة حملات من السخرية بحق المعرفات المتناقضة، وقارنت بين تصريحاتهم السابقة واللاحقة ليقع العناصر المقلدة التابعة لها فريسة الشك والريبة، جعلها تحجم عن التقليد الأعمى وكمّ الأفواه المدافعة عنها، وتحوّلت في نظر الكثيرين إلى فصيل ككل الفصائل التي قاتلتها، وخاصة بعد فشل معركة حماة التي استنفر الطيران الروسي فيها، ونجاح معركة أبو دالي التي غاب عنها مما أدّى لخلافات في الأوساط القيادية والشرعية لهيئة تحرير الشام، وانقسمت بين أصوات تطالب بقتال الأتراك، بوصفهم أعداء “المشروع الجهادي” في سوريا. وأصوات ترفض هذا الخيار، مذكرةً بأنّ الرأي العام المحلي والشعبي في إدلب، يفضّل سيناريوهات التوافق الذي سيؤدي إلى وقف القصف والقتال.
تبيّن فيما بعد أنّ الكفة الثانية رجحت وغلبت صوت الشارع الشعبي في إدلب، ممّا أدّى لدخول عدة أرتال تركية برفقة هيئة تحرير الشام، وصمتَ أصحاب الخيار الأول لينتظروا الخطوة الثانية من التدخل التركي.