ما وراء الضربة الأميركية؟
على الرغم من محدوديتها، وبعدها عمَّا كان متوقعاً، وعلى الرغم من الإعلان المسبق عنها الذي أتاح للنظام وحلفائه الاستعداد التام لها، حققت الضربة الأميركية الأوروبية على مواقع للنظام في سورية بعض غاياتها، خصوصا فيما يتعلّق بموضوع الأسلحة الكيميائية. لكنها، من جهة أخرى، أعادت مجدداً وضع النقاط على الحروف، فيما يتعلق بالوضع الدولي وموازين القوى ومفاعيلها السياسية، ولعل هذا الجانب هو سببها الرئيس. ومن يهمهم الأمر، سيقرأون الرسالة التي هدفت إليها الضربة بإمعان، خصوصا الذين ذهبوا بعيداً في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وعشية الحدث السوري الأكثر عمقاً وتأثيراً في منطقتنا، وهم يضعون تصوراتهم الجديدة عن عالم اليوم، وعن الانتهاء من مرحلة القطب الواحد، وعودة الحرب الباردة، وأنَّ قطباً جديداً قيد التكوّن لن يترك للأميركان مجالاً للتفرُّد بقيادة العالم. وبالطبع، لا أعني بالذين ذهبوا بعيداً الصبية الصغار التابعين الذين يعيشون، ويعيِّشون شعوبهم على وهم الشعارات فقراً وتخلفاً وهزائم متلاحقة على غير صعيد، بل الروس والإيرانيين الذين يلعبون بتلك الشعارات التي دخلوا المنطقة على أجنحتها، لا ليساهموا في حلِّ مشكلات المنطقة، وينصروا قضاياها، بل ليزيدوا الطين بلة، فعلى هؤلاء وأولئك أن يفهموا عنوان الرسالة العريض الذي قالته الضربة، وهو بالضبط:
الكلمة الفصل، والفعل المؤثر في عصرنا المتقدم علماً وتكنولوجيا رفيعة، وبالتالي إنتاجاً متميزاً يحقق نمواً متزايداً للبشرية، هما لمن يمتلك في العمق مفردات ذلك التفوق، وزمام توجيهه، لا لمن يمتلك سلاحاً واحداً مخصّصاً للقتل والتدمير، مستغلاً ضعف الشعوب وفقرها. والفكرة معروفة للجميع، ولكن فشل مجلس الأمن أخيرا في التصويت على مشروع قرار قدمته روسيا إدانة للضربة إياها، فلم يحظ بأكثر من ثلاثة أصوات، يشير إلى عزلة روسيا الدولية اليوم، على عكس ما كانت عليه أيام الاتحاد السوفييتي، وفي ذلك كثير مما على روسيا أن تفهمه من مواقفها السياسية والعسكرية، ولعلَّ صمتها تجاه هذا الحدث، وهي الغائصة عميقاً في وحل المقتلة السورية، واكتفاءها بالقول إنها سترُدُّ إذا ما ضُربت قواعدها، وأنها أبلغت النظام وساعدته في أخذ حذره، وإخفاء ما يجب إخفاؤه. وهذا يعني أنَّ الرسالة وصلت إلى الرئيس الروسي بوتين قبل الضربة، وفهمها على أنها ليست "لعبة جودو!". وكذلك جرى الأمر بالنسبة للإيرانيين الذين على الرغم من حجم تصريحاتهم، ظلوا مكتوفي الأيدي ومعقودي الألسن، وكأنَّ الأمر لا يعنيهم بالمطلق، وهم المعنيون أكثر من غيرهم، لا بالشأن السوري فحسب، بل بالملف النووي الأكثر أهمية وتأثيراً عليهم.
فهم الكل الرسالة في بعدها السياسي، وتأكيدها حقائق قائمة على الأرض. ومع ذلك، ما قالته تلك الرسالة لا يلغي حق الجميع في اللعب، وكلٌّ ضمن حدوده وإمكاناته والبهلوانيات التي يتقنها. لكن الرسالة تعني، بالوضوح كلِّه، أنَّ روسيا التي استلمت الملف السوري، بموافقة الأميركان، ووفق تفاهمات دولية محددة، لم تكن أمينة له، إذ عبثت به ميلاً نحو مصالحها، وتجاهلاً للآخرين، ناهيكم بإبراز عضلات بوتين الرياضية، وبمنطقه المخابراتي، وإعلانه أنَّ هزيمة الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة التي استمرت أربعين عاماً قد انتهت، وأن أفغانستان لن تتكرّر في سورية، لا بل إنه اليوم يسعى إلى التمدد باتجاه بعض أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي قضم له أوروبا الشرقية، فتركيا الدولة التي تعادل تلك البلدان بعدد سكانها وتفوقها مساحة، وهي الصاعدة اقتصادياً، وعلى أسس ديمقراطية، ووجه مدني علماني، وهي لا تزال، في المخيال الغربي، الإمبراطورية العثمانية، قد تكون حليفاً مناسباً وقوياً لموسكو، وقد تشكل ثقلاً إذا ما انتقمت لنفسها من مواقف الغرب تجاهها في المسألة السورية ذاتها، وانضمت إلى محور بوتين! وربما يرى بوتين في التاريخ القريب نسبياً سنداً لمساعيه، إذ هُزِمَت التكنولوجيا المتفرِّدة أمام الكثرة الأقل تطوراً (الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا الأكثر تقدماً في ذلك الوقت).
قد لا يهم السوريين كلّ ما سبق في كثير أو قليل. لكن الضربة بحد ذاتها أشارت إلى أنَّ عدالة القضية السورية لا تزال قائمة، وأن الوقت قد حان لإنصاف الشعب السوري، والعمل الجدِّي لتخليصه من مآسيه، بمساهمة القوى الدولية الأكثر قدرة على الفعل، ولإعادة الوطن السوري إلى أهله وعودتهم إليه، وذلك بوضع المسألة السورية برمتها على مسارها الصحيح الذي كان، أي العودة إلى مسار المفاوضات السياسية، وفق معطيات جنيف1، وما تلاه من قرارات، فهل تنجح فرنسا التي يبدو أنها تعود إلى لعب دور في هذا المجال، وهي التي استعادت من بشار الأسد الوسام الذي كانت قد منحته إياه قبل أن يصبح قاتلاً وشريكاً في الجرائم المرتكبة بحق سورية والسوريين كلها، وهل تجد الدعم الدولي المناسب لمشروع قرارها المزمع تقديمه إلى مجلس الأمن في الأيام المقبلة؟ وهل تجد الدعم من شركائها في الضربة ذاتها لإعطاء الضربة معناها المطلوب، فهذا ما يطمح إليه السوريون؟