
الساروت مصيب ولو كان مخطئاً
لعلَّ أكثر موروثاتنا الجدليّة نشأت إشكالياتها من (مكانة الأشخاص وسحْبِها على قداسة المبدأ)، أو من الخلط بين هذين (الأشخاص والمبادئ)، حيث أول ما يبدأ الجدل في تصرفٍ ما للشخص تطغى مكانته، ويصبح الجدل اتهامًا لمخالفيه قبل قياس تصرفه على معايير الحق والباطل، ولستُ هنا في مورد عرض تفاصيل الحادثة الأخيرة التي جرت مع البطل "عبد الباسط ساروت" لا دفاعًا ولا اتهامًا، ولكني هنا في مورد عرض الطروحات التي ناقشت القضية، وخاصةً تلك التي استثنت كل ما يجري وقالت: "وقت كان الساروت يغنّي للثورة وين كانو هدول اللي محاصرينو" ـ أو ما شابهها ـ وإني أظن أن "الساروت" نفسه لا يقبلُ كلامًا كهذا بعيدًا عن الحق وعن صيغه وعن أساليب تحقيقه.
إن طغيان مكانة الأشخاص في القضايا ـ وخاصةً في الأوقات الحرجة كهذه ـ طغيانها على القضيّة ذاتها إنما تُسيء للأشخاص أنفسهم ولكل أطراف القضية ولمتابعيها، فمن قال لأولئك أن الطرف الآخر في قضية "الساروت" الأخيرة لم يقدموا ولم يكونوا في بداية الثوار؟، ليست القضية إبرازٌ لعضلات التاريخ، ولكن القضية هي ماذا يجري الآن؟ ولابد من الحفاظ على الشخص وعلى مكانته ولكن دون جعلها "غافرةً" لأخطائه وعثراته، لأنه إنْ لم يكن مخطئًا فصوابه في القضية الإشكالية أولى من تاريخه المُشرِّف، وإنما سيُضاف عمله هذا إلى تاريخه فيكون ذخيرةً في قضية شعبه كلها، وإنْ كان مخطئًا فالحق أولى أن يقف عنده، ونزوله عند الحق تشريفٌ له ورفعٌ لمكانته.
من المفارقات الغريبة، أن الذين طعنوا في "الساروت" عند انتشار خبر مبايعته لـ "داعش" ولاموا على الناس جعل الأحياء رموزًا للثورة ـ لأنهم لا يدرون ماذا يُحْدِثون بعد ذلك ـ واتّهموا اللِّحى بسرقة الثورة، كثيرٌ من أولئك اتّهم من حاصر "الساروت" بالاعتداء على "الثورة" وعلى أحد "رموزها" ولاموا أيضًا من يؤيّد الحركات الإسلامية واستدلّوا بهذه القضية على تسلطهم وسرقتهم للثورة، وردد بعضهم (وين كانوا لما الساروت عمل ..) ـ أو ما شابه ذلك ـ، غير واقفين على القضية وإشكالياتها، ومن الممكن أن يكون فيها "الساروت" مُحقًّا غير محتاجٍ إلى تاريخه لإثبات أحقيّته، أو من الممكن أن يكون مُخطئًا، ولا يجوز أن يبرر له ذلك تاريخه الثوري الذين نفتخر فيه.
إن خروج "الساروت" من منطقته وانتقاله إلى أخرى، ولعل مطلب خروجه كان أحد جوانب القضية، قد ردّ بهذا كثيرًا من الخيارات السيئة الأخيرة التي لم تكن لتُحمَدَ عواقبها في حالٍ من الأحوال، وقد أضاف إلى تاريخه المليء بالبطولة، بطولةً أخرى.