قالت مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقدته قبل بضعة أيام إن بلادها جمعت أدلة دامغة على أن الصاروخ الذي أطلقته جماعة "أنصار الله"- الحوثي ضد الرياض سابقاً يحمل بصمات إيران، وأكدت أنّ تجميع وتحليل الأجزاء التي تم العثور عليها توصل الى استنتاج واحد مفاده أن إيران قامت بتزويد الحوثيين بالصاروخ لاستهداف السعودية، وأنه ما من شك في هذا الأمر.
وأنكرت إيران هذا الاتهام ونفت أن تكون قد زودت الحوثيين بصواريخ، واتهمت بعثة إيران في الأمم واشنطن بفبركة أدلة، وقام وزير الخارجية الايراني جواد ظريف بعدها باستخدام صورة لنيكي هيلي في تغريدة له الى جانب صورة لوزير الخارجية الامريكية السابق كولن باول وهو يشرح للعالم حينها بأن هناك أدلة على امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، في محاولة للإيحاء كذلك بأن واشنطن تحاول تكرار نفس الأمر الذي جرى في العراق مع إيران.
بغض النظر عما قيل أعلاه، هناك اعتقاد راسخ بأن النظام الإيراني قام بالفعل بتزويد الحوثيين بهذه الأسلحة، لكن أساس النقاش لا يجب أن يرتبط بهذه النقطة بالتحديد، وإنما بمسائل أخرى يراد تشتيت الانتباه عنها، والمسألة الأولى تتعلق بمحاولة استخدام إيران للتاريخ من أجل تزوير وعي الناس حاليا.
وزير الخارجية جواد ظريف يريد أن يذكّر الناس بأنّ واشنطن كاذبة ومراوغة وأنّها تحضّر ربما للإيقاع بإيران، لكنه لا يريد منهم أن يتذكّروا أنّ طهران قامت بمساعدة واشنطن على غزو العراق، وأنّها ساهمت في توحيد المعارضة الشيعية آنذاك في اجتماعات متعددة تمهيدا لاستلام السلطة، وأنّها دفعت بميليشيات بدر التي أنشأتها ودربتها وسلحتها من أجل الدخول إلى بغداد مع المحتّلين، والأهم من كل ذلك، أنّ ظريف لا يريد تذكير الناس بأنّ نظام الولي الفقيه ورث العراق بالكامل منذ ذلك الوقت وحتى اليوم بسبب هذا الموقف الأمريكي.
النقطة الأخرى تتعلق بموقف إدارة ترمب من النظام الإيراني، إذا كانت مندوبة الولايات المتّحدة في الأمم المتحدة تعتقد حقّاً بأنّ لدى إدارة ترمب أدلة دامغة على تزويد طهران للحوثيين بالسلاح وعلى أن طهران تخرق القرارات الأممية والأمريكية، ليس على مستوى الصواريخ والتسلح فحسب، وإنما على مستويات متعددة أخرى، فما الذي يمنع واشنطن من اتخاذ قرار بمواجهة إيران؟
من المؤشرات السلبية التي توحي أن إدارة ترمب قد تظل تراوح مكانها على المستوى العملي، وأنه باستثناء بعض التصريحات، وبعض الخطوات التقليدية المعروفة كالعقوبات، لن تقوم على الأرجح بعمل فعلي مؤثر ضد إيران، وهو مضمون المؤتمر الصحفي لنيكي هيلي والذي دعت فيه إلى تعاون العالم من أجل هزيمة الخطر الايراني وإلى تشكيل تحالف دولي من أجل مواجهة إيران.
ما الذي يمنع واشنطن من أن تأخذ زمام المبادرة وتواجه إيران بكل السبل المتاحة؟ لقد أثبت ترمب قبل أيام قليلة فقط من هذا المؤتمر، أن الولايات المتّحدة عندما تريد أن تفعل شيئا بمعزل عن رأي العالم أجمع به تستطيع أن تفعله لوحدها، بدليل القرار المتعلق بالقدس، والذي حذرت معظم دول العالم من عواقبه إذا ما اتخذته الإدارة الأمريكية، وبالرغم من ذلك مضى ترمب في طريقة غير آبه بأحد.
إيران ليس بريئة بالتأكيد، وهي تستغل كل يوم الأخطاء التي ترتكب من قبل خصومها والمساحة الفارغة التي يتركها انسحابهم أو انكفاؤهم لتعزز من نفوذها ودورها في المنطقة، وبالرغم من الضجيج الذي نسمعه هنا أو هناك عن الاستعداد لمواجهتها، فإن هذا الأمر سيبقى على الأرجح مجرد كلام ما لم نشهد تغيرا جذريا في سلوك واشنطن وحلفائها العاجزين.
عارض سوريون ترويج فيلم "الصرخة المكبوتة" الذي أنجزته وعرضته القناة التلفزية الفرنسية الحكومية (الثانية)، عن عمليات اغتصاب تعرّضت لها نساء سوريات من أجهزة نظام بشار الأسد. ويرى أصحاب هذا الموقف أن الفيلم ذو مفعول سلبي على صورة المرأة السورية، ولن يكون له أي دورٍ في تحريك العدالة الدولية، من أجل محاكمة الجناة والاقتصاص منهم. ويقول هؤلاء إن هذه الجريمة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة لنظامٍ مكون من فريق محترفٍ للجرائم ضد الإنسانية، وهو يمارسها بدون حرج أو خوف، ليس اليوم فقط، وإنما منذ زمن طويل.
معروفٌ أن نظام الأسد قام على الجريمة، وعاش واستمر عليها. ومن جريمة إلى أخرى، صار لديه جهاز من القتلة المحترفين الذين تخصّصوا في فنون السيطرة على المجتمع السوري، وتطويعه كي لا يتحرّك. ولذلك استطاع، خلال أعوام الثورة، التكيف مع الانتفاضة العامة، بابتكار أساليب من العنف للدفاع عن نفسه، لم تكن في حساب أحد، حتى تفوّق في ممارسة الرعب على سائر الأنظمة التي حكمت شعوبها بالحديد والنار.
ويستدعي النقاش الدائر بشأن الشريط التلفزيوني عدة ملاحظات: الأولى، أن استباحة النساء سلاح قذر جرّبه النظام قبل مجازر حماة وحلب وبعدها، في أوائل الثمانينات، من أجل تحطيم البنية العامة للمجتمع، وإخماد الانتفاضة الشعبية في المدينتين. وهناك شهاداتٌ، القليل منها مسجّل، عن الاستخدام المنهجي لهذا الفعل المشين، من أجل إجبار المعارضين على إلقاء سلاحهم والاستسلام، وتقديم اعترافات عن عملهم السياسي وتنظيماتهم. ويروي عسكريون سابقون أنهم كانوا يتلقون أوامر من القيادات العليا بضرورة اغتصاب جميع النساء في البيوت التي تتعرّض للمداهمة، وأن تجري العمليات بحضور الأزواج والإخوة والأبناء والآباء.
والملاحظة الثانية، إن عمليات الاغتصاب التي شملت النساء يُراد، في جانبٍ منها، شطب المرأة السورية من الثورة التي لم تكن لتستمر إلى اليوم، لولا القدرة الهائلة على الصبر والعطاء والتحمل لدى النساء السوريات. وكل من سوف يقوم بدراسة الثورة ذات يوم، سيجد أنها لم تكن لتستمر، لولا الخط الدفاعي الذي وفرته النساء، لكي لا تنهزم الثورة في أشهرها الأولى. الأمهات والزوجات والأخوات والصديقات كنَّ مع الرجال في كل موقع، ولعبن دوراً كبيراً في تماسك مجتمع الثورة، وحمايته من الانهيار، سواء في الداخل أو بلدان الهجرة. وتتحمل النساء الأرامل مسؤولية مئات آلاف الأطفال الذين استشهد آباؤهم، ولم يعد لهم من معيل غير أمهاتهم اللاتي اضطر قسم كبير منهن إلى الهرب إلى الخارج من أجل حماية الأطفال.
الملاحظة الثالثة، إن الشهادة على هذا الوضع الصعب تساعد بعض الضحايا على تجاوز ما هو مكتوم من حمل ثقيل، ووضعه أمام الآخرين، بهدف رؤية الضحية داخل محيط شرطها القاسي. ويمكن إدراك أهمية هذه النقطة من خلال ردود الفعل التي عبر عنها رجالٌ تهيبوا مشاهدة الشريط، ثم عادوا لمشاهدته أكثر من مرة، لأنه وضعهم أمام صورةٍ عاريةٍ للوضع السوري اليوم.
الملاحظة الرابعة، إن كل جرائم نظام الأسد الأب والابن حصلت على تغطيةٍ دولية، ولم تخضع للحساب الذي تستحقه وفق القانون الدولي، ولو لم يسكت العالم عن جريمتي حلب وحماة في الثمانينات، لما تجرّأ النظام على ارتكاب جرائم اليوم. ولو لم يتكفّل الروس بتخليص النظام من تبعات استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية في أغسطس/ آب عام 2013 لما كان النظام على قيد الحياة، لكن عدم محاسبته لا يعني سقوط حقوق الضحايا، ودور الفيلم أساسي في هذا المضمار.
بعد هذا الشريط، لم تعد صرخة الضحايا من السوريات والسوريين مكتومةً، بل باتت مدويةً في كل مكان، ولن يقلل من ثقلها إفلات النظام المجرم من العقاب حتى إشعار آخر.
أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في لقاء سوتشي الذي جمعه بالرئيسين التركي أردوغان والإيراني حسن روحاني، أن مستلزمات الحل السياسي السلمي في سورية غدت متوفرةً، بعد قضاء جيش بلاده على "داعش"، وخفض التصعيد في أربع مناطق. ويبين هذا الإعلان ثقة بوتين بأن جميع خيوط الصراع غدت في يده، بما في ذلك خيط أميركا التي حذّرها سياسي روسي من أن قوة جويةً رادعةً ستبقى في سورية، لمنع واشنطن من تهديد نظام الأسد.
هل سينجح الرئيس الروسي في فرض حلوله المخالفة لوثيقة جنيف التي كانت بلاده قد وافقت عليها، وشاركت في صياغتها ووافقت عليها في مجلس الأمن. ثم أخذت روسيا ترى الحل انطلاقا من هذه الصراعات التي بلورت استراتيجية جديدة للانخراط فيه، عبر إعادة بناء قواتها المسلحة واستخدامها لتحقيق أهداف سياستها الخارجية في الساحة الدولية، ردعت بها جارتها جورجيا، وتوسعت في أوكرانيا، حيث استولت على شبه جزيرة القرم، وغزت سورية، من ضمن خطةٍ أعلنها بوتين، لاستعادة مناطق نفوذ الاتحاد السوفييتي السابقة، وإجراء تسوياتٍ مع أميركا، تضع حدا لخلافاتٍ كبرى معها، تستعيد روسيا من خلالها مكانتها دولة عظمى في نظام دولي جديد هي قطبه الثاني.
منذ الغزو الروسي لسورية، تركزت سياسات موسكو على بلورة قراءة للقرارات الدولية، تقوّض ما أعطته للشعب السوري من حقوق، وفي مقدمها التخلص من الأسدية، شخوصا ونظاما، وتستبدلها بقراءة مجافية لها نصا وروحا، تفرضها قوة متفوّقة ترابط في قواعد عسكرية سورية، تساعدها لاحقا على بناء نظام أمن إقليمي، لن يكون من السهل إقامته، في حال نافستها دول أخرى، اقليمية أو عظمى، على سورية، أو تمكنت من تقييد دورها فيها.
والحال إن هذه المنافسة قائمة، وتمارسها إيران وأميركا: الأولى بما تنتهجه من سياسات توسع إقليمي، سورية أهم حلقاته، وتمتلكه من قوات عسكرية كبيرة فيها، جيدة التسليح والتدريب، تتوضع في مناطق واسعة منها وبجوارها، وتتوسع نحو مقربةٍ من حدود الجولان. والثانية بوجودها العسكري البري والجوي في الشمال السوري الذي يعادل الوجود الروسي في سورية، إن لم يتفوق عليه.
لا تكفي ثقة بوتين الكلامية بقدرته على اللعب بخيوط إيران وأميركا، والانفراد بالغنيمة السورية. هناك وقائع ميدانية تؤكد أن التطور لن يذهب في الاتجاه الذي يريده، وأن عقد لقاءاتٍ مع قيادات إيرانية لا يعني أنها استسلمت له، والدليل تدفق قوات من الجيش الإيراني على سورية، بعد نهاية الحرب ضد "داعش"، وصدور تصريحاتٍ عن أعلى المستويات الأمنية في طهران، تؤكد أنها التي هزمت "داعش"، ولن تفرّط بانتصارها ودلالاته المذهبية فوق السياسية، ولن تتخلى عنها أو تفرط في حمايتها، بصفتيها الدينية والدنيوية، المتجسدتين في منجز سورية الذي يعد حلقة حاسمة في معركة تاريخية، حلقتها القادمة ضد الصهاينة الذين يستحقون العقاب، لأنهم يحولون دون عودة صاحب الزمان!
في الشمال، احتلت واشنطن قرابة 30% من أرض سورية، وأقامت في جنوبها الشرقي قواعد أقامت فيها وجودا عسكريا، قال أحد جنرالاتها إنه سيستمر من عشرين إلى ثلاثين سنة. لم تضايق واشنطن موسكو في فترة الصراع العسكري، لكنها لن تسهل مهمتها في مرحلة الحل السياسي، إن كانت تريد الانفراد بها. وبالفعل، فقد أعلنت أنه لن تتم إعادة إعمار سورية، ما دام بشار الأسد في السلطة، لن تنسحب من سورية إذا لم يتفق الحل الروسي مع مصالحها.
بهذه التطورات، ينتقل الصراع من المجال السوري، ويتحول إلى مشكلة إقليمية/ دولية تختلف حساباتها جذريا عن حسابات الغزو الروسي لسورية، وأنماط الصراع التي ستشهدها، بينما يميل الأسد مرة إلى موسكو ليرفع ثمنه إيرانيا، ومرات إلى طهران، ليرغم روسيا على التمسك به في جميع الأحوال والظروف.
كيف سيخرج بوتين من وضع يضمر فخاخا ستستخدم ضده: إيرانيا، إذا حاول إخراج طهران من سورية، أو انحاز إلى سياسات واشنطن ضدها، وأميركيا عندما سيتفاوض بوتين مع واشنطن، ويكتشف أنه لم يمسك بخيوطها، وما لديه من خيوط تعتمد على قوته العسكرية لا تمكّنه من الانفراد بحلٍّ ليست تعقيداته وتشابكاته طوع بنانه، وأن عليه تقديم تنازلاتٍ كي لا تنهار خطته في المنطقة والعالم، بينما لن تتنازل واشنطن عن شيء، أو تدعوه إلى تسوياتٍ، تجعل منه ندّا لها، أو قوة عظمى، بموافقتها.
كانت مرحلة الحرب الأسهل لروسيا. مع الحل السياسي ستبدأ متاعبه التي ستكشف ما إذا كان قادرا على القفز حقا عن خياله، كما يحاول إيهامنا.
ربما لم يكن المسؤولون اليونانيون يتوقعون عندما زارهم رجب طيب أردوغان قبل أيام أن الأخير سيطالب بإعادة النظر في اتفاقية لوزان عام 1923، فالاتفاقية التي رسمت حدود تركيا الحالية ووقعت عليها 11 دولة، مضى عليها قرن من الزمن، ولعل طرح أردوغان هذه الاتفاقية، في شكل متكرر خلال السنوات الأخيرة، يثير السؤال التالي: هل الهدف هو التطلع إلى استعادة أراض خسرتها تركيا عقب الحرب العالمية الأولى؟ أم لتحسين شروط تركيا في الخلافات الجارية مع الدول المعنية أو حتى لمنع تكرار لوزان ثانية؟ بداية، لا بد من الإشارة إلى أن طرح أردوغان لإعادة النظر في اتفاقية لوزان جاء على وقع التطورات التي شهدها العراق وسورية خلال السنوات الماضية، وسط تلميحات تركية صريحة إلى حقوق تاريخية في الموصل العراقية وشمال سورية، مقروناً بالحديث عن العثمانية الجديدة، حيث لسان حاله يقول إن هذه الاتفاقية لم تكن انتصاراً لتركيا كما كان يقول أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، إذ إن الأخير وأنصاره من بعده، كانوا يقولون إن اتفاقية لوزان هي التي أنقذت تركيا من اتفاقية سيفر التي أقرت في بنودها 62- 63 – 64 على إقامة دولة كردية في جنوب شرقي البلاد، وكذلك على إقامة دولة أرمنية في المنطقة التي تعرف بأرمينيا الغربية والواقعة داخل الأراضي التركية حالياً، فيما يقول أردوغان إن هذه الاتفاقية أدت الى خسارة تركيا مساحات هائلة من الأراضي.
في الواقع، ينبغي القول إن مرحلة ما بعد لوزان انتهت إلى ثلاث قضايا مهمة، على صعيد الحدود الجغرافية للدولة التركية. الأولى: اتفاقية أنقرة عام 1926 بين تركيا وبريطانيا والعراق، والتي قضت بتبعية الموصل لسيادة العراق الذي كان تحت سلطة الانتداب البريطاني. والثانية: سلخ منطقة لواء الإسكندرون عن سورية عام 1939، وضمها إلى تركيا باتفاق مع سلطة الانتداب الفرنسي. والثالثة: جملة الاتفاقيات التي نظمت الخلافات التي تشوب الحدود التركية – اليونانية ولا سيما في بحر ايجه وحدود المياه الإقليمية وغيرها. وعلى رغم هذه القضايا الشائكة في علاقة تركيا بكل من سورية والعراق واليونان، إلا أنه لم يسبق للمسؤولين الأتراك أن فتحوا باب المطالبة بإعادة النظر في اتفاقية لوزان، إلا في السنوات الأخيرة من حكم حزب العدالة والتنمية وتحديداً عقب وصول أردوغان إلى رئاسة الجمهورية عام 2014.
ولعل حديث أردوغان هذا يحمل دلالات كثيرة،
من أهمها:بغ
1- أن هذا الحديث جاء في ظل تطورات مهمة على الأرض في سورية أوحت في لحظة ما بإمكان إسقاط النظام عسكرياً، قبل أن تنقلب الموازين عقب معركة حلب. ومع أن تركيا خرجت من هذه المعركة خالية الوفاض، إلا أن عملية درع الفرات قبل أكثر من سنتين واليوم عملية إدلب، أعطتا جرعة قوية لأردوغان في فتح باب الوجود التركي في شمال سورية وربما التفكير في ما حصل في شمال قبرص.
2- أن تركيا وبحكم تطور قدراتها وصناعاتها العسكرية، ترى أن جملة التطورات والظروف الجارية في المنطقة تسمح لها بالتحرك لصوغ مستقبل المنطقة من جديد؛ ففي الحالة العراقية طرحت المشاركة في معركة الموصل وأصرت على قاعدتها في بعشيقة على رغم رفض بغداد. وفي قطر، أقامت قاعدة عسكرية على وقع الأزمة الخليجية، وفي الصومال أقامت قاعدة عسكرية. ومع أن الدوافع مختلفة، إلا أنها في الحالة العراقية كثيراً ما اقترنت بالحديث عن إعادة النظر في اتفاقية انقرة عام 1926 بوصفها امتداداً لاتفاقية لوزان وألحقت أراضيَ تركية بالعراق.
3- في الحالة اليونانية تبدو الأمور مختلفة، إذ إن العلاقات بين البلدين تعوم على بحر من العداء التاريخي والخلافات المزمنة، فمن لحظة طرد العثمانيين البيزنطيين من اسطنبول (القسطنطينية) إلى حرب اليونانيين، من أجل الاستقلال عن الدولة العثمانية، وصولاً إلى الخلافات الكثيرة على المياه الإقليمية والقضية القبرصية، ثمة عداء تاريخي وخلافات مزمنة عجزت كل المبادرات التي أجريت حتى الآن عن إقامة علاقات دافئة بحجم الجوار الجغرافي والمصالح المشتركة. وعليه، فإن الأمر هنا يأخذ طابع الصدام الحضاري. وقد بدا هذا الأمر واضحاً، عندما تحدث أردوغان خلال زيارته إلى تراقيا عن التمييز الذي تتعرض له الأقلية المسلمة في اليونان.
4- أن التحركات العسكرية والسياسية التركية هذه تتزامن مع دعوة أردوغان المؤرخين الأتراك مراراً إلى إعادة كتابة التاريخ التركي، خلال حقبة الحرب العالمية الأولى ودراسة الاتفاقيات التي أجريت من جديد، ولعله يريد من وراء دعوته هذه مسح الغبار عن تاريخ تلك المرحلة والخروج بأجندة سياسية لمصلحة رؤيته عام 2023، تلك الرؤية التي تمهد لتركيا جديدة على إرث جمهورية أتاتورك، ومثل هذه الرؤية الجديدة تحمل مقومات (العثمانية الجديدة) كهوية لتركيا بدلاً من الهوية العلمانية الوطنية التي أسسها أتاتورك.
مع إصرار أردوغان على وضع المطالبة بإعادة النظر في اتفاقية لوزان على الأجندة على رغم رفض الدول المعنية، ثمة من يرى أنه يدرك أن التطلع إلى خارج الحدود وإعادة رسم الحدود الجغرافية التي رسمتها الاتفاقيات الدولية أكبر من قدرة تركيا وحجمها؛ فعلى الأقل، إن مثل هذه التطلعات ستقابل برفض روسي وأميركي وأوروبي وإيراني ويوناني وعربي ... وعليه، فإن حديث أردوغان عن لوزان يندرج في إطار سعيه إلى بناء الداخل التركي وفق منظومته الأيديولوجية من جديد، وربما وسيلته إلى ذلك هي رفع شعار منع تكرار لوزان ثانية من بوابة الحديث عن المؤامرة الدائمة ضده.
قال الرئيس الأمريكي الراحل إبراهام لينكولن: «تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وبعض الناس كل الوقت، لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت». لكن مع الاحترام للينكولن، فإن مقولته التاريخية لا تنطبق أبداً على الأقليات في العالم العربي. لماذا؟ لأن التاريخ أثبت أنك تستطيع أن تخدعها، وتضحك عليها، وتستخدمها لأغراضك الرخيصة كل الوقت، وهي مستعدة أن تصدقك، وتتحالف مع الخادعين دائماً وأبداً.
لو عدنا إلى التاريخ قليلاً لوجدنا كيف كان الاستعمار يتاجر بموضوع الأقليات، ويستخدمها كمخلب قط، ومسوغات لتدخله في البلدان التي كان يريد أن يستعمرها. لقد أخبرنا التاريخ بأن المستعمرين كانوا بالإضافة إلى استخدام أكاذيب حقوق الإنسان، وهمروجة عبء الرجل الأبيض، ونشر الحرية والديمقراطية، وتحرير الشعوب من العبودية، والتنوير، كانوا أيضاً يبررون تدخلهم في هذا البلد أو ذاك بأنهم قادمون لحماية الأقليات من ظلم الأكثرية. ولطالما تشدقت روسيا بحماية المسيحيين الأرثوذوكس، وتشدق غيرها من المستعمرين الغربيين كفرنسا بحماية هذه الأقلية أو تلك. والمحزن في الأمر أن ألاعيب الاستعمار كانت تمر بسهولة في أوساط الأقليات، فبدل أن تتعايش تلك الأقليات مع الأكثريات كانت تقع فريسة سهلة في شباك المستعمرين، وتتحول إلى شوكة في خاصرة أبناء جلدتها من الأكثريات بحجة أن المستعمر جاء لحمايتها، مع العلم أن المستعمرين كانوا على الدوام يستخدمون الأقليات كحصان طروادة للهيمنة على هذا البلد أو ذاك ونهب خيراته واضطهاد أكثريته.
ورغم أن الأكثريات في عالمنا العربي عانت كثيراً من تصرفات الأقليات وقبولها بأن تكون أدوات في أيدي المستعمرين لتحقيق مخططاتهم الشيطانية في بلداننا، إلا أنها عادت واستوعبتها في المجتمعات العربية، وضمنت حقوقها رغم خيانة بعضها لأوطانها وسقوطها في الحضن الاستعماري.
ومن الواضح أن الكثير من الأقليات في عالمنا العربي لم يتعلم من التجربة الاستعمارية الحقيرة، بل ظل يطمح للعب دور الخنجر المسموم في صدر البلدان العربية بعد تحررها من الاستعمار. فما أن خرج الاستعمار من بلادنا وحل محله أذنابه من الطواغيت والجنرالات، حتى راح الكثير من الأقليات يعيد نفس الاسطوانة، وذلك بالتحالف مع الطغاة ضد الأكثريات. لقد تمكن أذناب المستعمر من الأنظمة القومجية وغيرها من تمرير نفس اللعبة مع الأقليات، فراح بعض الأنظمة يقدم نفسه للعالم على أنه حامي الأقليات، وذلك كي يدغدغ عواطف المستعمر القديم. لم لا، وقد أثبتت لعبة حماية الأقليات أنها لعبة ناجحة، وبإمكان من يلعبها أن يحقق الكثير من الأهداف من خلالها.
لقد جاء الربيع العربي ليكشف أن الأقليات لم تتعلم أبداً من الحقبة الاستعمارية، لا بل هي متشوقة لتعيد كافة فصولها، لكن هذه المرة بالقبول أن تكون مجرد ألعوبة في أيدي الطواغيت الذين ثارت عليهم شعوبهم بعد عقود من الطغيان. فبدل أن تنضم الأقليات إلى ثورات الأكثرية من أجل الحرية والكرامة، راح الكثير منها يتحالف مع الأنظمة الساقطة والمتساقطة بطريقة تذكرنا بتحالفاتها الوضيعة مع المستعمر ضد أبناء جلدتها. لم تع الأقليات أن الزمن الأول تحول، وأن الأكثريات ستنال حقوقها من الطواغيت أذناب المستعمر عاجلاً أو آجلاً، وأنه من الأفضل للأقليات أن تتحالف مع الأكثريات لا مع من كان يدوسها ويضطهدها، لأن المستقبل للأكثريات مهما طال الزمن.
والمؤلم أكثر أن بعض الأقليات أكل الطعم، وصدق أن الطواغيت الذين ثارت عليهم الشعوب هم حماة للأقليات. لا أدري لماذا لا يرى زعماء الأقليات كيف يتم التلاعب بالأقليات واستغلالها بطريقة مفضوحة رخيصة من قبل الأنظمة الساقطة والمتساقطة، ليس من أجل خير الأقليات، بل فقط من أجل إطالة عمر هذا النظام المتداعي أو ذاك لا أكثر ولا أقل. مغفل من يعتقد أن الأنظمة المحاصرة بالثورات تحمي الأقليات، لا بل هي تحتمي بالأقليات، وتستخدمها كفزاعة لاجترار عواطف المستعمر القديم لعله يساعدها في البقاء في السلطة. لقد نجح بعض الطواغيت في الإيقاع بين الأكثريات والأقليات، وذلك باقتراف الكثير من الجرائم بحق الأقليات، وتحميل المسؤولية للأكثريات. ليس هناك أدنى شك بأن معظم الجرائم التي وقعت ضد الأقليات هي من صنع مخابرات الأنظمة الساقطة والمتساقطة. ولو كنت مكان أي أقلية الآن لوجهت أصابع الاتهام بعد أي تفجير هنا وهناك لا للأكثرية الثائرة، بل للأنظمة المحاصرة بالثورات، فهي تقوم بمجازر مروعة من خلال السيارات المفخخة بحق الأقليات، وتنسبها للعناصر التكفيرية، كي تقول للعالم: لسنا وحدنا المستهدفين من قبل التكفيريين، بل أيضاً الأقليات. وللأسف الشديد أن هذه الألاعيب الوسخة والمفضوحة ما زالت تمر على الأقليات، مما يزيد في ارتمائها في أحضان المجرمين الذين يستخدمونها كعتلة قذرة لتحقيق غاياتهم الإجرامية.
أما آن الأوان لأن تدرك الأقليات في العالم العربي أن مستقبلها ليس مع هذا الطاغية أو ذاك الجنرال، بل مع الأكثريات من أبناء جلدتها؟ متى تدرك أنهم يستخدمونها للظهور بمظهر حسن أمام العالم الخارجي فقط لا غير، بينما هم ينظرون إليها في أعماق أعماقهم كأدوات قذرة وخناجر مسمومة لمواجهة الأكثريات بها؟
متى تعلم الأقليات أنها ستكون الخاسرة حتى لو بقيت الأنظمة التي تحالفت معها، وهو كحلم إبليس بالجنة طبعاً؟ فتلك الأنظمة ستحاول (إذا) بقيت إرضاء الذين ثاروا عليها، وإهمال الذين وضعتهم في جيبها كالأقليات؟ والمثل الإنكليزي يقول: «غالباً ما يعطون الحليب للأطفال الذين يصرخون». وبما أن الأقليات صمتت وتواطئت ضد الثورات، فإنها في كل الأحوال ستخرج من المولد بلا حمص، لا مع كفلائها بخير، ولا مع الأكثريات بخير.
لم يفاجئنا انسداد الأفق أمام الجولة الثامنة من المفاوضات، فقد تكرر هذا الأمر في سبع جولات سابقة، كان النظام فيها يلاعب المعارضة، بينما هو يمضي سريعاً في الحسم العسكري معتمداً على قوى روسيا وإيران والميليشيات الطائفية وعلى الشبيحة الذين بالغوا في الإجرام. ولم يظهر المجتمع الدولي اهتماماً جاداً في دفع المسار السياسي، رغم ما كان يبديه بعض سفراء الدول الصديقة من تعاطف مع قضيتنا، وكان إبطال روسيا لقرارات مجلس الأمن قد بلغ حداً غير مسبوق في عدد المرات التي استخدمت فيها «الفيتو»، ولم يبد أعضاء مجلس الأمن الباقون أكثر من التعبير عن الأسف!
وأما الولايات المتحدة، وهي الدولة الأقوى في العالم، فقد أبدت لفترات طويلة حالة من التخلي عن القضية السورية مفوضة روسيا باتخاذ ما تراه من إجراءات، وقبل أول جولة قامت بها الهيئة العليا للمفاوضات تردد الزملاء أعضاء الهيئة في الذهاب إلى جنيف، حيث لا شيء يوحي بإمكانية إيجاد حل سياسي مع النظام الذي صعد يومها هجومه الوحشي على الشعب، ولم يبد أية استجابة نحو التفاوض. يومها تدخل جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، بتقديم ما يشبه الضمانات في رسالة دعم وتعهد أرسلها إلى الهيئة، وهو يحثنا على المشاركة، ولم نلحظ أي دعم يذكر! وحين كنا نوقف التفاوض احتجاجاً على تصاعد العدوان والحصار -كما حدث يومها في مضايا- كانت تهرع إلينا دول الأصدقاء تطالبنا بألا نضيع الفرصة! وكان النظام لا يقبل بأي حديث سوى مكافحة الإرهاب، وقد تمكن من أن يقنع العالم بأن القضية هي صراع بين نظام شرعي وبين تنظيم «داعش» وما يشبهه! وكان يقول إن وفد المعارضة لا يمثل كل أطيافها.
كان الروس يومها ينظرون إلى الجيش الحر وإلى المعارضة على أنهم إرهابيون، وتمكنا عبر الفائدة الوحيدة من الذهاب إلى جنيف من أن نري العالم أن المعارضة ليست إرهابية، وأن القضية هي مطالب الشعب بالحرية والكرامة وبناء دولة ديمقراطية، وكانت الإفادة من ساحة جنيف الإعلامية كبيرة لأنها حظيت باهتمام شعبي عالمي.
وأذكر في لقائنا الأول مع دي مستورا قوله لنا: «إن تشكيل الوفد المفاوض هو امتيازكم وحدكم» وبعد حين قال: «لا بد من إشراك منصتي القاهرة وموسكو»، ودرسنا الأمر بإيجابية لسد الذرائع، ووافق دي مستورا على أن يضم الوفد ممثلاً واحداً عن موسكو وآخر عن القاهرة. وأجرينا حوارات مع المنصتين، ولم يوافق الطرفان رغم ما أبداه فريق القاهرة من استجابة مبدئية، ثم فوجئنا بطلب ضم المنصتين بتمثيل أوسع. وكان لقاؤنا معهما في الرياض جاداً، حيث وضعنا القبول ببيان الرياض1 أساساً لتوحيد المعارضة، ورفض وفد موسكو، واعتبرنا متشددين، وعقد مؤتمر الرياض الثاني وفوجئ الجميع بأن أكثرية الوفد الجديد تتمسك بمطالب الشعب. وربما كان دي مستورا ينتظر أن يقابل وفداً مائعاً يفتتح الجلسات بترديد شعارات النظام، ويعلن التمسك به، ولهذا طالب وفد النظام بالتخلي عن بيان الرياض2، ولم يقبل مناقشة سلال دي مستورا. وأصر على أن يناقش موضوع الإرهاب، وأعلن أن سوريا ما تزال مهددة بالإرهاب. والحقيقة أن الإرهاب موجود تحت الطلب، فهو الذي مكن النظام من أن يبيد شعبه بذريعة مكافحة الإرهاب، وحقاً «داعش» اليوم تزحف نحو إدلب مع قوات النظام، وما تزال لها جيوب في أطراف دمشق وأطراف درعا أو في البادية، حيث سمح لها بالتمدد خفية بعد أن تبخرت دون قتلى أو أسرى أو معتقلين.
والسؤال الآن: هل حقاً تخلى أصدقاء الشعب السوري عنه؟ وهل سيقبلون بأن تبقى القضية السورية معلقة كما علقت قضية فلسطين؟؟ فالجميع يعلمون أن سوتشي قد تقدم حل إذعان، وربما مراضاة مؤقتة ببضعة مناصب وزارية في حكومة موسعة يقودها الأسد، والسوريون يعلمون أن هذا فخ للإيقاع بالمعارضة التي ستلقى عقاباً قد يدوم عشرات السنين، وقد يضطر النظام لبناء عشرات السجون في تصفية معارضيه، ولا توجد أية بارقة ثقة تدعو المشردين واللاجئين للعودة إلى فروع الأمن لتسوية أوضاعهم كما يخطط النظام.
وحتى لو عقد سوتشي وجاء بأفضل من التوقعات المتشائمة، هل سينسى السوريون ما ذاقوه من عذابات مريعة على يد النظام فيقبلون يده من جديد؟ وهل ستطلق سوتشي مثلاً أحكام الغفران نيابة عن الشعب على جرائم قتل مليون شهيد وإصابة مليوني معاق، فضلاً عن الجرائم التي ترتكب بحق المعتقلين، وفوق ذلك كله جرائم التهجير القسري وتدمير المدن والأرياف وهدم ملايين المنازل والمدارس؟ وهل ستنتهي مأساة العصر الكبرى بعد سبع سنين من شلالات الدم المستباح دون محاسبة للمجرمين ودون الخلاص من الديكتاتورية؟
نظمت عصابات الأسد وشبيحتها وجمهور الموالين بالأمس الخميس، مهرجاناً كبيراً في ساحة سعد الله الجابري وسط مدينة حلب المحتلة، تفاخراً بانتصارهم على إرادة الحرية والخلاص من الاستبداد، وتأكيداً على عبوديتهم التي لايزال الأسد يمارسها بحق طائفته المناصرة له رغم كل ماشاهدوه من قتل وتدمير فعله بأبناء مدينتهم التي شردوا وهجروا منها قبل عام.
احتفال بالانتصار على حساب أشلاء ودماء أبناء مدينة حلب لاسيما الأحياء الشرقية التي دفعت ثمناً باهظاً لقاء صرخات الحرية التي طالبت بها، وواجهت ماواجهته طيلة سنوات من الحصار والقتل والتجويع، لم يركعها كل ذلك فكان خيار الإبادة الشاملة الذي انتهجته روسيا والنظام ضد أكثر من 350 ألف محاصرين في بقعة جغرافية صغيرة ضمن أحياء الشعار والسكري والفردوس وجسر الحج وسيف الدولة وغيرها"، حتى تآمر كل العالم والمجتمع الدولي ضدهم وخذلهم الجميع.
لم يخلوا يوم طيلة أشهر طويلة من الحصار بعد قطع طريق الكاستيلوا من المجازر التي أزهقت مئات الأرواح، ودمرت البنية التحتية والمرافق العامة والخاصة ومنازل المدنيين، حولت الأحياء الشرقية على بعد أمتار من ساحة سعد الله الجابري لكومة من ركام، بعد أن هجر أهلها وباتت خاوية على عروشها، تسابقت شبيحة الأسد والمؤيدين لسرقة ماتبقى من أثاث وممتلكات تركها أهلها ورائهم.
يحتفلون اليوم بالانتصار على أشلاء الأطفال وصرخات المستضعفين، تعلوا صيحات التبجيل للأسد وحلفائه، فهم من هجروا أبناء مدينتهم التي جمعتهم أحياؤها لعقود طويلة، فرحين بانتصارهم على صوت الحرية وصوت الحق، مؤكدين مرة أخرى نصرتهم للمجرم وتأييدهم لما قام به من قتل وتهجير وتدمير.
حلب لم تسقط ولن تسقط بل انتصرت "حلب الحرية" وقاومت لأكثر من عامين كل قوى العدوان التي تآمرت على قضية الشعب السوري ورغبته بالخلاص والحرية التي طلبها، انتصرت "حلب الثورة" بأسلحة فردية ومعدات بسيطة وصبر وثبات أبنائها بمواجهة أحدث الطائرات والمدافع والصواريخ والبوارج الحربية، انتصرت "حلب الكرامة" رغم تخاذل المجتمع الدولي الذي سقط قناعة تحت أقدام أطفال حلب ممن عانوا المرارة والحصار والقتل اليومي، وخرجوا من مدينتهم رافعين شعار النصر، فما سلب سيعود ولو بعد زمن، وستعود حلب لتعيد مجد الصالح وأبو فرات وسلسلة طويلة من الثوار الأوائل ممن سطروا أروع البطولات على ثرى حلب الأبية التي رفضت الإنكسار وقاومت حتى آخر رمق ولم تركع كما ركع حكام وزعامات العرب الذين خذلوا حلب ومن قبلها القدس وقضايا كل الشعوب المتطلعة للحرية والخلاص.
مرت على الثورة السورية منذ انطلاقتها وحتى اليوم العشرات بل المئات من الكيانات التي تبنت حراك الشارع الثائر ضد نظام الأسد، وفي كل تغير في خارطة الساسة والعسكر تتغير هذه المكونات دون ثبات، كلاً منها يدعي أنه الشرعي والممثل الوحيد للشعب الثائر المعذب المشرد داخل وخارج سوريا، لم تقدم أي من هذه الكيانات أي شيء يخفف عن هذا الشعب إلا الشعارات البراقة والوعود والتطمينات والاجتماعات لا أكثر.
الحرية التي خرج الثائرين لأجل أن ينالوها بعيداً عن تسلط العسكر وقوى الأمن المسلطة على رقابه وأن يكون صاحب القرار في اتخاذ من يمثله في أي مجال كان سياسياً أو مديناً أو عسكرياً دون أي التفاف وتزوير لم تتحقق رغم كل هذه الكيانات التي شكلت، فكل فصيل تقوى شوكته لابد ان يشكل لنفسه قيادة عسكرية ومدنية ويبني حوله هالة إعلامية تطبل وتزمر له، مكررة نهج البعث بل أكثر.
ما الذي فعله الشعب السوري طوال سنوات الحراك ليصل لهذه المرحلة من اللامبالاة بقراره والدماء التي يقدمها بشكل يومي، فتشكل الحكومات وتتصارع الفصائل على حساب معاناته وتشرده، في الوقت الذي تضيق فيه مساحة الهروب يوماً بعد يوم، وكلا يدعي تمثيله سواء في المحافل الدولية والمؤتمرات أو في الداخل وضمن الكيانات التي تبنى بتبعية فصائلية عسكرية أمنية بحتة، لم يستشار هذا الشعب المقهور ولو لمرة في تشكيل أي منها.
خلقت التطورات العسكرية الأخيرة في إدلب بدءاً من شهر تموز وحتى اليوم تغيرات كبيرة طرأت على الجانب المدني بعد صراع لسنوات بين مؤسسات أحرار الشام من جهة وتحرير الشام في الجهة المقابلة، حتى تمكنت الأخيرة من إحكام السيطرة على مفاصل القرار وتملك كل ماهو مدني وعسكري.
خطوات سريعة بدأت فور إنهاء أحرار الشام لتشكل كيانات مدنية جديدة في الظاهر أنها مبادرات لإنقاذ إدلب من القصف والتدمير، ولكن الحقيقة المرة كانت هي الالتفاف على مؤسسات الثورة وإنهاء كل مايخالف توجه العسكر، وفرض سلطة الأمر الواقع من خلال تصدير شخصيات لاتملك من القرار شيء، فكان ما سمي المؤتمر السوري العام الذي جمع شخصيات من مختلف المجالات والعشائر وصدرتهم تحرير الشام على أنهم يمثلون الشعب السوري في كل أطيافه، ولما لا فهم أصحاب القرار اليوم.
شكلت حكومة الإنقاذ واعتبرت نفسها الوصي الشرعي الوحيد على المناطق المحررة، وادعت تمثيلها لكل المناطق المحررة في عموم سوريا، في الوقت الذي لم يسمع بها أحد إلا في إدلب، لم تتأخر في إعلان حقائب وزرائها التي تسلمت من تحرير الشام مقاليد الإدارة والحكم، البعض استبشر بها خيراً وقال لعلها تكون أفضل من المؤقتة التي لم تقدم إلا الوعود والوعود، فتطلع بعين الأمل لتغير الحال وانهاء التشرد.
ولكن المفاجئة كانت في القرارات التي بدأت فيها الحكومة والتي لاحقت البسطاء والتجار وقاطني المخيمات ومؤسسات التعليم والصحة التي تخدم المدنيين كونها تابعة للحكومة المؤقتة، ولم تترك أيضاَ الأيتام والأرامل في المخيمات إلا وفرضت عليهم قراراتها، ومجالس جردت من مصادر دعمها، ومنظمات ضيق على عملها، وفي كل قرار تتكشف الفاجعة في البعد بين الوزراء عن حقائبهم وكيف أن منبع القرارات تصدر عن قيادات وشخصيات متحكمة هي بالأساس ذاتها التي كانت تدير مؤسسات تحرير الشام، وكأن الوزراء بلا حقيقة لا قرار لهم، جعلوا واجهة مدنية ليس أكثر لتنفذ الهيئة مخططها وتحقق مرادها.
خلال الأيام الماضية لم تكن حكومة الإنقاذ هي من أغلقت مكاتب المؤقتة والتربية والصحة وصولاً لجامعة حلب بل عناصر وأمني هيئة تحرير الشام ذاتهم هم من أوصل الإنذارات وتواصل وهدد وتوعد واقتحم وصادر، في الوقت الذي يقف فيه وزراء الحكومة عاجزين حتى عن إبداء الرأي، و يا ليت الحكومة بدأت بما ينفع المدنيين وعملت في صالحهم وخففت من معاناتهم بدل فرض القيود والرسوم والتضييق والمتاجرة بقضيتهم.
وفي خضم كل هذا الحراك تبقى المعضلة في أن حكومة الإنقاذ باتت تعتبر نفسها الحكومة الشرعية الوحيدة التي تمثل حراك الجماهير، لم ينتخبها أحد ولم تمثل إلا بقعة جغرافية تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، ولكن تبقى هي الشرعية وهي صاحبة القرار والسياسية فهي "الحكومة المنصورة" بنظرهم ومن غيرها ....
لم يكن اختيار نظام الأسد لتقديم عرض عسكري وسط مدينة حلب، عبثيا، تزامنا مع الذكرى السنوية الأولى لإعادة احتلاله المدينة بعد محرقة كبرى فتكت بالمدنيين في الأحياء الشرقية، فهو يوجه رسالة للموالين قبل المعارضين أن قبضته الأمنية عادت بقوة للتحكم برقاب العباد هنا.
في ساحة سعد الله الجابري الذي ارتبط اسمه بزمن الديمقراطية والانتخابات الحرة في تاريخ سوريا المعاصر، أقيم الحفل وتحولت إلى ساحة عسكرية أشبه بساحات القطع العسكرية، ليعبر مئات العناصر من جنود النظام فيما يعرف بحركات النظام المنضم، أمام منصة يتصدرها قادة من نظام الأسد ومخابراته في حلب، مؤكدين على ولائهم وطاعتهم لـ "القائد المفدى".
وعلى بعد مئات الأمتار من الاحتفال، لازال الدمار والخراب شاهدا على إجرام آلة الحرب الأسدية في حق أحياء حلب القديمة، التي طالما تغنى نظام الأسد بجمالها وأهميتها التاريخية قبل أن تحولها صواريخ طائراته ونيران مدفعيته إلى حطام، لا بل إنها تحولت مقصدا للمجرمين والمعتوهين لالتقاط الصور التذكارية أمام الخراب والدمار وكأن شيئا لايعنيهم فيما حدث وسوف يحدث طالما بقوا كذلك.
لقد عمد نظام الأسد منذ بداية الثورة السورية إلى قسم مدينة حلب إلى شرقية وغربية، ولم يكن أمراً من قبيل الصدفة على الإطلاق، فالفكرة التي روج لها، ونجح بذلك، أن أهالي الأحياء الشرقية هم مسلحون إرهابيون بلحى طويلة وعقلية إقصائية يجب القضاء عليهم، في المقابل تمترس بقوته العسكرية والأمنية في الأحياء الغربية على مدى أكثر من أربعة أعوام مما ساعد في هيمنة تلك الفكرة.
وبعد مرور عام على إعادة الاحتلال، لا تزال الأحياء الشرقية من المدينة تدفع ثمن الخروج عن طاعة الأسد وحرق صوره والدعس عليها وعلى صور أبيه، ثم السيطرة العسكرية من قبل فصائل الجيش الحر على تلك الأحياء.
هذه الضريبة هي نسبة الدمار المريع الذي يمكن مشاهدته في أحياء "الشعار والسكري والفردوس وجسر الحج وسيف الدولة..."، هذا الدمار الذي لم يحرك نظام الأسد وأزلامه ساكنا لتغييره أو حتى العمل على تجميله، بل على العكس فإنه كرس بقاءه كعقوبة جماعية لأصحابه.
أما الخدمات من ماء وكهرباء فهي لا تصل إلى تلك الأحياء إلا ما ندر، وخلال جولة مسائية يُخيل إليك أنك تمشي في مدينة أشباح كأنها لم تعرف الحياة يوما، فيما تتعالى من بعيد أصوات شبيحة الأسد على الحواجز التي تطوق تلك الأحياء، حينها يصبح البقاء على قيد الحياة يبدو مغامرة كبيرة.
تقف المعارضة السورية، في دراسة خياراتها من مؤتمر سوتشي، على مفترق طرق، أحدها يهمّشها، وآخر يحدث شرخاً في علاقة أطياف المعارضة المشاركة في الوفد الموحد لها، وثالث يمكنه أن يكون سبباً في غضب شعبي بين أوساط حاضنة الثورة، من المتشددين في رفض الدور الروسي كملاذ لحل الصراع السوري.
وبين الخيارات الثلاثة المؤلمة، في العمل الديبلوماسي والسياسي، لوفد يشقّ أولى خطواته في العمل الوطني المشترك، لفرض خريطة طريق، يفترض أن تؤسّس للانتقال السياسي إلى ما بعد النظام الاستبدادي، يمكن مناقشة معطيات وتحولات الصراع السوري من خلال الوقائع الميدانية على الأرض، ومن خلال الاصطفافات الدولية المتحركة تبعاً للمعطى الأول، والظروف المحلية الخاصة بهذه الدول، وآثار استمرار هذا الصراع على المنطقة والعالم، الذي قطف الثمار، أو التداعيات، المرّة لتأخير الحلّ في سورية، من خلال موجات اللاجئين، أو من خلال انتشار الإرهاب والتـطرف، وتعميم وحشيته حيث أمكن له ذلك. هكذا، وفي مناقشة الخيارات المذكورة، يمكن ملاحظة الآتي:
أولاً، إن تخلي المعارضة عن دورها رسمياً، عبر المشاركة في مؤتمر سوتشي، المزمع عقده في مطلع العام القادم، يعني الانكفاء إلى دور المتفرج، على حدث يمكنه قلب الموازين داخل منظومة المعارضة نفسها، بحيث يصبح خيارها محدداً بالالتزام بمخرجات منصّة جديدة («سوتشي»)، والتي قد تُفرض لاحقا على المعارضة، ضمن مساع دولية تشبه ماحدث قبيل الاجماع على القرار2254، الذي يعتبر اليوم مرجعية رئيسة في العملية التفاوضية. ومعلوم أن مؤتمر القاهرة الذي انتج منصة القاهرة، واجتماع موسكو الذي أنتج ما سمي منصّة موسكو، على رغم رفض المعارضة، المتمثّلة بالائتلاف الوطني آنذاك المشاركة بكلا الحدثين، أديا إلى النص عليهما في القرار الأممي ليصبح ضم هاتين المنصتين إلى وفد المعارضة التفاوضي، بمثابة محور للقرار 2254، وهو ما أنتج اليوم مؤتمر الرياض 2، الذي عقد مؤخراً، ومن ثم الوفد الموحد المشارك في الجولة الثامنة من جنيف. وأقصد هنا أن تجاهل الوفد السوري المعارض للمؤتمر («سوتشي») لا يعني بالضرورة امكانية تجاهل نتائجه، وهو الأمر الذي يجب أن تتنبه له الهيئة العليا بإحداث بدائل مقنعة، وليس بخطابات إعلامية شهدنا مثيلاتها في السنوات السابقة على أحداث متشابهة، من دون أن تفيد شيئاً.
ثانياً، في حال انقسام المعارضة بين مؤيد للمشاركة في مؤتمر سوتشي ورافض له، على رغم أنهما شريكان في وفد واحد، فإن ذلك يعني أننا أمام سيناريو مكرر لمؤتمر آستانة، الذي رعته كل من روسيا وتركيا وإيران، والذي رفضته أطياف كثيرة من المعارضة السياسية، واعتبرته مؤامرة روسية للتشويش على مسار جنيف الأممي، إلا أنه على رغم ذلك أصبح اليوم متمماً، وفي كثير من الأوقات قائداً في نتائجه الميدانية لمسار جنيف السياسي، وأحيانا متقدماً عليه في الطروحات والتنفيذ. ومع كل هذا فإن تخصصه في الجانب العسكري والميداني/ المتعلق بالإرهاب والحرب عليه جعله، على رغم التجاهل الأميركي له، جزءاً أساسياً في العملية التفاوضية الكلية، إذ بات يتم البناء على مخرجاته داخل جنيف وخارجها، من خلال الاتفاقات الثنائية الروسية الأميركية، أو الروسية مع الأطراف المحلية، وكان يمكنه أن يتطور ليأخذ دوراً سياسياً، بيد أن التدخل الأميركي حال دون ذلك، لأسباب منها: واقع الوجود الأميركي، وشراكاته مع الطرف الكردي غير المشارك حتى اليوم بالمسارات التفاوضية جميعها.
ثالثاً، يبقى خيار المشاركة في «سوتشي»، وهذا ربما يضفي عليه بعضاً من «الشرعية» التي تبحث عنها موسكو من جهة، بيد أن وفد المعارضة في هذا الخيار يواجه احتمالية فقدان حاضنته الشعبية التي يمتلكها من جهة مقابلة، وهذه هي المعادلة الصعبة التي تواجهها المعارضة في اتخاذ قرارات مصيرية، بعيداً من حال التهييج الشعبي التي تمارسها أطراف خارج الوفد. والقصد أن هكذا قرار يفترض أن يتم تحصينه بنوع من الاجماع، في المعارضة، وبالتمسك بالسقف التفاوضي، ضمن رؤيا واضحة تجرى باتقان شديد فوائد المشاركة من عدمها، وتبقي القرار النهائي بيد جهة تمثل فعليا هيكلية جديدة لآلية اتخاذ القرار الشعبي، بعيداً عن المحاصصات، وضمن خيارات مصلحة السوريين وحاجتهم إلى الإنتقال من الفعل الإعلامي إلى الحل الميداني بقرار شعبي مسؤول.
ولتحديد هكذا رؤيا لا بد من وضع السوريين بصورة جدول أعمال أو أجندة سوتشي وفق رؤية موسكو التي تفترض، أو تعتزم:
- إنشاء لجنة لصياغة مسودة دستور يتوقع أن تقلص صلاحيات الرئيس، وأن تضبط عدد مرات الترشح لهذا المنصب، بمرتين متتاليتين بمفعول رجعي، وهو ما يعني استبعاد الأسد من التسوية الجديدة تكتيكياً، وفق النصوص الدستورية الجديدة الذي يجرى عليها استفتاء شعبي خلال مدة أقصاها ثمانية أشهر.
- إنشاء لجنة حوار وطني متعددة المناطق تتبادل المشورات والمعطيات والمشتركات مع اللجنة السابقة، وتفيد بالوصول إلى تفاهمات شعبية مع السوريين داخل سورية وخارجها.
- تبلور المفاوضات، في مسار جنيف، آلية للعمل على تفاصيل الملفات العسكرية والسياسية والقضائية.
وضمن هذه الأجندة فإن النجاح في هذه البنود يعني، على الأرجح، الوصول إلى تفاهمات حول شخصية سورية لقيادة المرحلة الإنتقالية، من داخل النظام ولكن ضمن شروط المعارضة، التي تفرض ألا تكون هذه الشخصية شاركت بسفك دم السوريين، قراراً او فعلاً، وهذا تحديداً ما جعل من فاروق الشرع الشخصية الأكثر قبولاً من غيرها، وهيأ لبروز اسمها كشخصية توافقية شعبية ودولية، من دون أن يعني ذلك أن الأسد أو رموز حكمه وافقوا على هذا الخيار، أو أن «الشرع» طرف في اتفاق حصل بين الروس والدول الراعية «لسوتشي» المقبل على مهل.
وعلى هذا يمكن البحث في مشاركة المعارضة من عدمها في المؤتمر، من خلال السؤال عن إمكان المشاركين في كسب معركة التفاوض في سوتشي، وإمكان صياغة مخرجاته بما يخدم تنفيذ القرارات الدولية من جنيف 1 و2118 و2254، بما يفرض التنفيذ الفعلي وخاصة مايتعلق بالفقرات 13و14 و15 من القرار 2254 المتعلقة باجراءات بناء الثقة، التي تتحدث عن إطلاق سراح المعتقلين وفك الحصار عن جميع المناطق ووقف العمليات القتالية؟
وهذا يقود إلى سؤال آخر عن نقاط القوة في رفض المشاركة، وانتظار ما ستؤول إليه النتائج، التي يتم إقرارها بعيداً من المعارضة وفي غيابها، وبما لايضمن مصالح الثورة في إنهاء النظام الحالي، والانتقال إلى مرحلة بناء سوريا جديدة، وفق الأسس التي قامت عليها القرارات الدولية المشار إليها، للبدء في عملية إعمارها وهو الشرط اللازم لذلك؟
إن البحث في خيارات المعارضة في هذه المرحلة يحتاج من الوفد، ومن رئيسه نصر الحريري من موقعه في المسؤولية، إلى أكثر من قبوله الرؤية المحاصصية، والتي تجعله على شفا حفرة من الانهيار المحتوم، بسبب آلية تجميعه القسرية من جهة، والقرارات الضمنية المسبقة حول المؤتمر، لكل مكون من مكونات الوفد المعارض من جهة أخرى، ما يسمح لنا بالعودة إلى الحديث عن ضرورة انعقاد مؤتمر وطني سوري، يتيح مشاركة كل الشرائح السورية المعارضة باتخاذ قرار يقوي الوفد، ويدعم مواقفه سواء الرافض للمشاركة أم القابل بها، بعد أن أصبح هذا من الوفد دون أي مساندة دولية حقيقية تذكر، وأصبح لا يملك ترف الاختيار أصلاً، لأن كل ما يتعرض له اليوم يصب في خانة إما أن يكون موجوداً، أو يتم تصنيع البديل، وعن أي بديل نتحدث؟
أثارت طريقة معاملة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، المهينة لرأس النظام السوري؛ موجة تساؤلات عن الاحتقار الذي تلقاه الديكتاتوريات العربية، حتى من قبل أنظمة تتشارك معها نمط الحكم اللاديمقراطي. ولماذا هناك نظم مستبدة في آسيا وأمريكا اللاتينية، لكنها تعامل في المجال الدولي باحترام أكبر؟
يعتبر فلاديمير بوتين أستاذ مدرسة الطغاة في العصر الحديث، فهو لم يكتف بقهر شعبه وإخضاعه، بل طالت يده شعوب دول الجوار التي هدّم وحدتها، وخرب نسائجها الاجتماعية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد أيضا، بل تبنى كل طاغية ينفر منه شعبه، وكل مستبد أثبت انه يكره الحرية، وسعى إلى تصدير خبرته في هذا المجال للطغاة الجدد.
وكان من الطبيعي أن يظهر بوتين تعاطفه مع هذه الفئة من الحكام التي تسير على نفس دربه في الاستبداد، أقله للمساعدة في تعويم سلطة هؤلاء الحكام، أو إظهار أنهم يتمتعون بالاحترام، وفي الحقيقة؛ بوتين فعل ذلك مع حكام دول آسيا، كازاخستان وطاجيكستان، فضلاً عن حكام إيران، كما أنه يكن بالغ التقدير لكيم جونغ إيل، ديكتاتور كوريا الشمالية.. فلماذا لا يحظى بشار الأسد بهذه الدرجة من المعاملة، وخاصة وأنه يعتبر نفسه سليل عائلة استبدادية بامتياز، كما ان إنجازاته في هذا المجال، وعلى صعيد القتل والتهجير، تجعل من الطغاة الآخرين مجرد هواة، وترشحه ليحتل منصب عميد الديكتاتورين في العصر الحالي.. فلماذا يجري احتقاره وتهميشه؟
جواب هذا السؤال موجود في سيرة الديكتاتوريين العرب.. فهم مدرسة قائمة بذاتها في هذا المجال، فقد بنت الديكتاتورية العالمية حكمها وهيبتها على قاعدة مشاريع استراتيجية كبرى، سواء على صعيد تحديث الداخل، كما فعلت ديكتاتوريات شرق آسيا في النصف الثاني من القرن العشرين، وكما فعل أتاتورك في تركيا، أو توحيد البلاد، كما فعلت بعض ديكتاتوريات أفريقيا، أو القيام بمشروع عسكري ضخم، كما فعلت الأسرة الحاكمة في كوريا الشمالية، أو حتى بناء هيبة وسطوة خارجية، كما تفعل روسيا بوتين في الوقت الحالي.
واستطاعت هذه الديكتاتوريات الظهور بمظهر الأنظمة المبدئية التي تلتزم قضايا معينة حسب سلم أولويات تتبعه، كما أنها حازت على درجة من الشرعية. صحيح أنها بقيت أنظمة مكروهة، لكن بدرجة معينة صنعت إنجازات أدخلت دولها إلى نادي الحداثة الدولي، لدرجة أن الانظمة اللاحقة اعتبرتها جزءا من صيرورة التحديث التي مرّت بها دولها.
على العكس من ذلك، سلكت الديكتاتوريات العربية نهجا آخر، إذ أسست سلطتها على الفساد والمحسوبية والعائلية وهدر الأموال العامة. وعلى الصعيد الخارجي، سيّرت علاقاتها على قاعدة الإستكانة وأدرجت هذه الوضعية في إطار الحنكة والحكمة، فكلما استكانت للخارج كلما أمنت شروط بقاءها لأطول فترة في كرسي السلطة، ومقابل ذلك جرى كثيراً التنازل عن مصالح دولها وشعوبها وتقديمها هدايا للخارج، طالما يضمن ذلك رضا الخارج.. ألم تعتبر ديكتاتوريات سوريا ومصر أنها غير منهزمة في حرب 1967 طالما أنها لم تسقط؟ وكأنه لم يكن الأجدى بها أن تستقيل لمجرد هزيمتها المدوية!
جميع الديكتاتوريات العرب قرأت من كتاب واحد.. العدو في الداخل دائماً، والخطر يأتي من الداخل، والخارج لا يكون عدواً إلا في حال تبنى سياسة تتعاطف مع ضحايا الطاغية. وما دام العدو في الداخل، فإن كل أصناف الأسلحة والوسائل التخريبية مسموح ومباح استخدامها، بما فيها تدمير المجتمع وتحطيمه، بقدر ما تملك يد الحاكم من الوصول إليه من تدمير وتخريب. ألم تشوّه الأنظمة دين الأكثرية التي تحكمها لتبرير قتلها أمام العالم وحماية سلطاتها، في الوقت الذي يسعى بوتين إلى التناسق مع الكنيسة الأرثوذكسية في سياساته الخارجية؟
ويدخل في إطار هذه الحرب على المجتمعات استدعاء الخارج، عبر إغرائه بالثروات والمكاسب. وهنا ثمّة فرق بين الديكتاتور بوتين الذي يجلب لبلاده العقود التجارية والمكاسب الجيوسياسية، وبين السيسي والأسد اللذين يبذران ثروات بلادهما للحفاظ فقط على كراسي الحكم.
هذا النمط من الديكتاتوريات قد يقبله العالم ويتعايش معه.. في النهاية لا يوجد بلد أو مجموعة بلدان حارسة للديمقراطية وحريصة على حقوق الإنسان، على الأقل هذا ما أثبتته استجابة ديمقراطيات العالم لعذابات شعوب الربيع العربي. لكن في المقابل، لا أحد، على مستوى العالم، يحترم هذه الأنظمة أو يتعامل معها بجدية، حتى أمثالها من الديكتاتوريين، فهم مجرد قتلة محليين، لا يختلفون عن زعماء القبائل الأفريقية في عصر ما قبل الدولة والحداثة.
بين إعلان فلاديمير بوتين من سوتشي في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أثناء استقباله بشار الأسد، أن روسيا «تعوّل على مشاركة الأمم المتحدة بشكل فعال في المرحلة النهائية من التسوية في سورية»، وإعلانه من قاعدة حميميم العسكرية في سورية بعد أقل من 3 أسابيع، النصر على الإرهاب في بلاد الشام تمهيداً لسحب جزء من قواته، ثم قوله أمس إن «روسيا وسورية لن تتمكنا من حل أزمة اللاجئين بمفردهما، وهناك حاجة لجهود دولية»، يلعب الرئيس الروسي على حبال الأزمة السورية في ظل غموض البحث عن التسوية السياسية للحرب.
ولعل بوتين يتقصد إضافة الالتباسات إلى هذا الغموض الذي يحيط بالحاجة إلى إنهاء الحرب في سورية. وهو غموض تكرّس في إفشال مفاوضات جنيف8 بين الموفد الدولي ستيفان دي ميستورا ووفدي النظام والمعارضة، فعلى رغم أن القيصر كان يأمل بانتهاء تدخل قواته الذي بدأ في آخر شهر أيلول (سبتمبر) عام 2015 في الحرب، خلال بضعة أشهر، فإنه بات يبتدع أساليب التكيف مع امتداد القتال هناك، ويتقن المناورات التي تسمح له بأن يلائم تورطه فيها مع إطالة أمدها. مناسبة حديثه أمس للترويج لترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية في آذار (مارس) العام المقبل، كافية للإضاءة على أن هناك حيثيات داخلية تتعلق بالسياسة المحلية تلعب دوراً في المواقف التي أعلنها في الأسابيع الأخيرة، وتضيء على خلفيات المناورات التي يقوم بها في شأن الحرب في سورية.
طبعاً ليس بوتين وحده مَن لديه دوافع داخلية (تضاف إلى عوامل الصراع الأخرى)، في عملية إخضاع أزمات منطقتنا لمتطلبات السياسات المحلية في الدول الكبرى. فقرار دونالد ترامب الأخرق الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية خضع أيضاً لهذه الاعتبارات في توقيته، إذ أراد عبره إرضاء اللوبي الإسرائيلي في واشنطن كي يقف إلى جانبه، سواء في مواجهة التحقيقات حول الدعم الروسي الذي تلقاه عبر التدخل في الحرب الإلكترونية، أم في مواجهة تراجع شعبية حزبه الجمهوري في انتخابات حكام بعض الولايات التي استعادها الديموقراطيون، كمؤشر سلبي لما ستكون عليه نتائج الانتخابات النصفية لمجلسي الشيوخ والنواب في الولايات المتحدة خريف العام المقبل.
في الحالتين، أي الحرب في سورية ودور ترامب في ملاقاة اليمين الإسرائيلي في تصفية القضية الفلسطينية، دليل على الدرك الذي بلغه الضعف العربي في التأثير في السياسات الإقليمية والدولية وخضوع قضاياهم للمناورات الداخلية في الدول المؤثرة وتحولهم ألعوبة في أيدي الدول العظمى. وواحد من الأدلة على بئس حال المنظومة العربية أن الدولة الأضعف فيها، لبنان، باتت تتصدر الموقف المدافع عن الحق العربي بالقدس، وتدعو إلى مواجهة القرار الأميركي بخطوات عملية اقترحها الرئيس ميشال عون، يفترض بالدول القوية والمؤثرة في هذه المنظومة أن تتصدى لها. والفلسطينيون لم يجدوا إلا في تلك الدولة الصغيرة من يناصرهم قياساً إلى الأشقاء الكبار.
في حال سورية، تزيد مواقف بوتين المتناقضة من قناعة قلة تجرؤ على القول، على رغم كل المظاهر باقتراب الحل السياسي، إننا أمام التمهيد لمرحلة جديدة من الأزمة وليس التسوية، فليست المرة الأولى التي يعلن فيها الكرملين عن سحب قوات له من سورية. سبق أن فعل ذلك في ربيع عام 2016 حين أعاد العديد من المقاتلات والقاذفات ثم أعادها وضاعف العدد. وهو سبق أن دعا القوات الأجنبية إلى الانسحاب من الميدان السوري واتفق مع الأميركيين على أن تنكفئ قوات «الحرس الثوري» الإيراني والميليشيات التابعة له من الأراضي السورية، وتكرر الأمر بعد لقائه السريع مع ترامب، وجرى تسريب المعلومات عن قرب الانكفاء الإيراني بعد قمة سوتشي الروسية الإيرانية التركية، إلا أنه تبين أن الحاجة إلى وجود القوات الإيرانية في سورية تتفوق على الحاجة إلى المناورة الروسية بسحب جزء من القوة الجوية. بل على العكس، أخذ المسؤولون الروس يتحدثون عن أن المعني بانسحاب القوات الأجنبية هو انكفاء القوات الأميركية من الشمال السوري حيث تستظل حلفاءها في «قوات سورية الديموقراطية» (وتشكل مظلة دولية لهم في الوقت ذاته)، ومن منطقة التنف على الحدود العراقية السورية، لأن وجودها غير شرعي وليس بطلب من الحكومة السورية.
وأقصى المناورة في الموقف الروسي الذي لا يبشر ببدء العملية السياسية، هو تبرؤ بوتين من القدرة على إعادة النازحين، الذي كان أحد مبررات لإقامة مناطق خفض التصعيد في آستانة.
مقابل خذلان بعض القيادة الفلسطينية من دور واشنطن في السلام بعد قرارها الأخير، فإن الخيبة مصير الرهان على دور روسي في العملية السياسية في سورية.