ذهاب قيس الخزعلي، من قادة ميليشيا الحشد الشعبي العراقية، إلى الحدود اللبنانية مع إسرائيل تطور خطير في إطار الصراع الإقليمي. زعيم ميليشيا عراقية يتورط في مهمة إيرانية لفتح قتال بين لبنان وإسرائيل!
الاثنان: «حزب الله» اللبناني و«الحشد الشعبي» العراقي، من الميليشيات التابعة لقوات الحرس الثوري الإيراني التي تدار من قبل الجنرال قاسم سليماني. ونحن ندرك أنه لا توجد لحسن نصر الله، ولا لقيس الخزعلي، أي سلطة حقيقية رغم الخطب الرنانة على شاشات التلفزيون، وميليشياتهم ليست قوات لبنانية ولا عراقية. فالجميع يعلم أنها تحارب، ضمن قوات إيران في سوريا، منذ أكثر من ثلاث سنوات.
لماذا ذهب زعيم الميليشيا العراقية، الخزعلي، ببزة عسكرية إلى كفركلا على الحدود اللبنانية مع إسرائيل، في حين أن الحدود السورية مع إسرائيل أقرب له، حيث توجد ميليشياته مع بقية الحشد الشعبي في سوريا؟ هذه ليست رسالة تهديد بل عمل استفزازي هدفه توسيع دائرة الحرب وإدخال لبنان فيها.
الخزعلي يدرك أنه لو زار الجولان السورية المحتلة، وأطل من هناك، وتوعد إسرائيل، فالأرجح أن يكون هدفاً للقوات الإسرائيلية، على اعتبار أن سوريا ساحة حرب مفتوحة لكل القوى. إيران أرسلت الخزعلي إلى لبنان رغبة في توريطه في حرب جديدة مع الإسرائيليين الذين سبق أن هددوا «حزب الله» في لبنان بهجوم مماثل لعام 2006. حرب تلك السنة، كانت هي الأخرى، عملية مدبرة من قبل إيران التي خطفت جندياً إسرائيلياً ورفضت إطلاق سراحه وسط توتر مع إيران. و«حماس» مثل «حزب الله» مجرد جماعة تديرها إيران. وعندما نجح حسني مبارك، الرئيس المصري الأسبق، في مقايضة الأسير الإسرائيلي شاليط بألف فلسطيني مسجونين عند إسرائيل أجهضها السوريون الذين يمثلون إيران. ثم قام «حزب الله» بمحاولة خطف لإسرائيليين بالقرب من الحدود اللبنانية ونجم عنها قتلهم. هنا شنت إسرائيل حربها، وكانت هي غاية إيران، التي دمرت الكثير من البنى التحتية اللبنانية وقضت على آمال اللبنانيين بالخلاص من الحرب في حين اختفت قوات الحزب تحت الأرض.
إيران تعيد الكرة، تحاول منذ فترة فتح جبهة حرب عبر لبنان، تحاشياً لمواجهة الإسرائيليين في سوريا بعد أن قُصفت ميليشياتها هناك عدة مرات. إيران ترى لبنان أرضاً رخوة، دولة بلا حكومة مركزية حقيقية. وما كلمة وزير الخارجية اللبناني الأخيرة إلا ترديد لخطاب إيران، الذي يستحيل أن يرضى عنه غالبية اللبنانيين، وفيها يهدد ويتوعد إسرائيل والولايات المتحدة! والخطاب صار محل سخرية العالم. يقول فيه: «نحن في لبنان لا نتهرب من قدرنا في المواجهة والمقاومة حتى الشهادة. نحن من هوية القدس لا نعيش إلا أحراراً وننتفض بوجه كل غاصب ومحتل». ومن المؤكد أنه ليس لغة ولا حبر الوزير المسيحي، بل خرج من مكتب حسن نصر الله. إلى هذه الدرجة من الخضوع والانحطاط بلغت الحكومة اللبنانية الحالية! هانت عليها التضحية بسيادتها، وصارت تقبل التضحية بمواطنيها لصالح أجندة تملى عليها!
هذه دولة مخطوفة ولا تقوى على الاعتراف بحقيقة وضعها. وبعد هيمنة إيران على سوريا أصبح لبنان ملحقاً بنتائج الحرب وتفاهماته. وزادت هيمنة طهران التي أصبحت تتجرأ على إرسال ميليشياتها وقياداتها إلى خط التماس مع إسرائيل تستدرجها لحرب جديدة.
ولأن القيادات الحكومية والحزبية اللبنانية لا تعبر عن رفضها لتصرفات الحزب، فإننا أمام مرحلة جديدة في حياة لبنان السياسية، حيث تدير الجمهورية الإسلامية الإيرانية شؤون الجمهورية اللبنانية من حدودها الجنوبية إلى خطاب وزير خارجيتها، وستنتهي عند مذبح الصراعات الإقليمية.
كان إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عزمه الترشح لفترة رئاسية رابعة أمراً متوقعاً منذ فترة طويلة، وإن كان بدا لبعض المراقبين الروس (على نحو جانبه الصواب) أنه انتظر هذه المرة لفترة أطول من المعتاد كي يصدر هذا الإعلان. أما الأمر الأقل وضوحاً الآن فهو كيف سيعمل النظام الذي بناه بوتين على ضمان استدامته في أعقاب نهاية فترة بوتين الرئاسية التالية عام 2024، التي يحظر عليه الدستور الترشح للرئاسة بعدها.
الملاحظ أن الفترة الرئاسية الثالثة لبوتين كانت أهم من فترته الأولى (2000 - 2004) التي اتسمت بإصلاحات اقتصادية على غرار إصلاحات الجمهوريين الاقتصادية داخل الولايات المتحدة، وإقرار ضريبة دخل ثابتة، وجهود التطويع القاسي لكبار أثرياء عقد التسعينات، وإعادة تركيز السلطة خلال الفترة 2012 - 2018. تخلى بوتين عن أي تظاهر بأنه يتماشى مع سياسات واشنطن وحلفائها الأوروبيين، وسعى لأن يوضح للعالم أن «باكس أميركانا» تحتضر. وفي هذا الأمر تحديداً، صادف بوتين نجاحاً كبيراً. إلا أنه في الوقت ذاته أهمل القاعدة التي تعتمد عليها إنجازاته الجيوسياسية - روسيا، تلك البلاد المترامية الأطراف التي لا تزال تعاني الفقر، ويخالجها شعور بغضب قوي من أن بوتين ربما لم يعد يمثلها، أو حتى يدير شؤونها.
من ناحيته، يقول بوتين إن نجاحاته الكبرى تقع خارج روسيا. وقد تشبث بالقرم التي ضمها إلى بلاده، في الوقت الذي أبقى الكرملين على سيطرته العملية على «الجمهوريات الشعبية» شرق أوكرانيا التي تشهد حركة غوغائية تسعى للانفصال. وقد امتنع بوتين عن السعي وراء مزيد من المكاسب الإقليمية بسبب اعتبارات التكلفة - ويبدو أنه يرى أهمية وراء إبقاء أعداد الضحايا العسكريين ضئيلة في الوقت الذي يدفع مجموعات تعمل بالوكالة نحو تحمل العبء الأكبر - لكن يبدو أن الحد الأدنى من أهدافه تحقق بالفعل. ويبدو جلياً حتى أمام أكثر المراقبين تحيزاً أنه رغم الدعم الغربي الهائل، فإن أوكرانيا الحديثة ليست سوى كتلة فوضوية، لم تزدد النزعات الأوروبية داخلها عن الفترة التي قررت خلالها الانفصال عن مجال النفوذ الروسي في بداية فترة رئاسة بوتين الثالثة.
من ناحية أخرى، فإنه رغم مقاومة واشنطن، تمكن بوتين من معاونة حليفه السوري، بشار الأسد، على الانتصار في الحرب الأهلية في بلاده. وبحلول نهاية 2017 يبدو واضحاً أن الأسد حتى لو رحل عن منصبه ذات يوم، فإن هذا الرحيل سيأتي بصورة بعيدة تماماً عن الأسلوب الذي أسقطت الولايات المتحدة وحلفاؤها به صدام حسين ومعمر القذافي. الحقيقة أن تدخل بوتين الناجح في سوريا أعاد رسم خريطة العلاقات على مستوى الشرق الأوسط، وساعد فعلياً في انتزاع تركيا من التحالف الغربي، وإقامة علاقة عمل ناجحة بين المملكة العربية السعودية وموسكو، الأمر الذي تعزز بإقرار تحالف بين الجانبين على صعيد السياسات النفطية. كما منح بوتين الأمل للقوى غير الليبرالية عبر أرجاء أوروبا، التي أخفقت في الفوز في انتخابات محورية هذا العام، لكن تبقى حليفاً مفيداً لموسكو. وسواء كان ذلك عن حق، ترسخت صورة روسيا في أذهان النخبة الغربية باعتبارها قوة قرصنة إلكترونية عظمى. والواضح أن بوتين من جهته يسعى لتعزيز هذه السمعة عبر إقرار تكنولوجيا العملات المشفرة كبديل للنظام المالي الذي يهيمن عليه الغرب.
بيد أن ما سبق كبد روسيا مكانها داخل مجموعة الثمانية وطموحاتها نحو نيل عضوية في أوروبا كبرى، تمتد من لشبونة البرتغالية إلى فالديفوستوك في روسيا الاتحادية. ومع هذا، لم تتحول روسيا إلى دولة منبوذة بالنسبة لباقي دول العالم، خصوصاً الصين التي سمحت لبوتين بزعزعة دعائم النظام العالمي الذي يقوده الغرب. والمعتقد أن الفترة الرئاسية الثالثة سيجري تذكرها باعتبارها السنوات الأربع التي جعلت فكرة وجود عالم متعدد الأقطاب، إن لم تكن واقعاً، فعلى الأقل إمكانية قائمة.
في المقابل نجد أنه في الوقت الذي كرس بوتين جل مهاراته للقضايا الجيو- سياسية، غاب دوره داخلياً على نحو متزايد. في الواقع، خلال فترتي الرئاسة الأولى والثانية، أبدى بوتين كفاءة كبيرة على مستوى الإدارة التفصيلية؛ ذلك أنه تولى اتخاذ جميع القرارات المهمة ودراسة جميع الصراعات المؤثرة، لكن يبدو اليوم أن بوتين بدأ يفقد هذه القدرة.
من أبرز الأمثلة على ذلك، المحاكمة الجارية اليوم لوزير الاقتصاد أليكسي أوليوكايف الذي تقدم ضده أحد المقربين من بوتين، إيغور سيشين، رئيس شركة «روزنفت» النفطية العملاقة المملوكة للدولة، الذي اتهمه بطلب رشوة بقيمة مليوني دولار. وقد جرى افتتاح المحاكمة أمام وسائل الإعلام، وعانى رئيس شركة «روزنفت» من مذلة الاستدعاء أمام المحكمة على نحو متكرر، واضطر لاختراع أعذار لتجنب ذلك. ولم يكن بوتين ليسمح بظهور مثل هذا النمط من الصراعات في العلن خلال الأيام الأولى له في السلطة - على الأقل ليس لفترة طويلة.
ويكمن مثال آخر في الاستقلالية التي تنطوي على بعض السياسات التي يبديها رمضان قديروف، رئيس الشيشان الذي عينه بوتين. ويشكل إصرار قديروف على الالتزام بالقيم الإسلامية المحافظة داخل بلد علماني، تحدياً مستمراً لسلطة موسكو. كما أن قوة قديروف تبقي سلطات إنفاذ القانون بعيداً عنه. ومن جديد، لم يتدخل بوتين.
وعلى مدار فترة رئاسته الثالثة، انحرف بوتين كذلك عن مساره المعهود فيما يخص السياسات الاقتصادية، ذلك أنه لم يتخذ إجراءات تذكر لإعداد روسيا لمواجهة تراجع أسعار النفط. وبدا بوتين متردداً على نحو متكرر حيال إجراء أي تغيير جريء يوضح أن أمام الروسي مستقبلاً أكثر أملاً.
ومع أن بوتين يبقى السياسي صاحب الشعبية الأكبر داخل روسيا، فإن الروس بوجه عام يبدون فتوراً إزاء انتخابات مارس (آذار). وتبعاً لأحدث استطلاع رأي أجراه مركز «ليفادا»، فإن 58 في المائة فقط من الناخبين ينوون الإدلاء بأصواتهم. وجدير بالذكر أن نسبة المشاركة في انتخابات 2012 بلغت 65.3 في المائة، كما أن أليكسي نافالني الناشط المناهض للفساد، والخصم الوحيد الحقيقي أمام بوتين، ربما لن يترشح في الانتخابات، رغم قضائه شهوراً في إدارة حملة انتخابية، وحصوله على دعم واضح داخل المناطق النائية بروسيا، خصوصاً في أوساط الشباب.
باختصار، لا يمكن الإبقاء على أداء بوتين الراهن إلى الأبد، دون وجود سياسات داخلية متناغمة وناجحة. والتساؤل الذي يفرض نفسه اليوم: ما شكل المستقبل الذي ستحظى به روسيا بعد إعادة انتخاب بوتين، والذي لن يكون لبوتين بالضرورة قول كبير في رسم ملامحه؟
رغم أن قلة قليلة من المواطنين الأميركيين يقبلون أو يرغبون في استعمال كلمة إمبراطورية ليصفوا بها بلدهم، فإن المؤرخين المعاصرين يقبلون ولو على مضض هذه الصفة، وفي المقدمة منهم المؤرخ الأميركي بول كيندي الذي يرى أن الولايات المتحدة قد بلغت حدود «الإمبراطورية المنفلتة»، وفي الوقت ذاته تعيّن عليها دفع تكاليف «فرط الامتداد الإمبراطوري».
من هذا المنطلق يمكن القول إن حاكم أميركا هو الإمبراطور، سيما أن واشنطن مثلت من دون منازع البلد المهيمن على العالم على الصُّعد العسكرية والاقتصادية والثقافية منذ مشاركتها في الحرب العالمية الثانية في عام 1941.
والشاهد أن المراقبين للشأن الأميركي قد اعتبروا أن جورج بوش الابن، ونائبه ديك تشيني، هما اللذان دمّرا بسياستهما وبملء إرادتهما الكثير من الأسس الأخلاقية التي تحلت بها القيادة الأميركية في العصر الحديث، إلا أن الأقدار كانت تخبئ لهما رئيساً يكاد ينسف ما تبقى للولايات المتحدة من نفوذ، ويمحو من القلوب والصدور أي أثر خلاّق زرعه النموذج الأميركي البراق الذي عبّر عنه وودرو ويلسون عبر مبادئه الأربعة عشر للسلام حول العالم.
حين أقدم دونالد ترمب على إعلان القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ونيته نقل سفارة بلاده إليها، ربما كان يمهر بتوقيعه الشهير نهاية حقبة أميركية في الشرق الأوسط بنوع خاص، ليفتح الباب واسعاً أمام مناوئه الأكبر وغريمه الأمهر... القيصر الذي أعلن عن ترشحه لولاية رابعة منذ أيام قليلة.
الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، حديث لا يعتقد ترمب فيه كثيراً، وخير دليل على صدقية ما نقول به أنه يرفض الاستماع إلى كبار مستشاريه الذين أنكروا عليه قراراته الأخيرة، وفاتته مراجعة وصية ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر لسلفه باراك أوباما الرجل الذي تجرأ على الأمل الواهي والأحلام الضائعة، حين نصحه باليقظة وعدم خسارة حلفائه، سيما أن كل مربع نفوذ تفقده أميركا سوف يملأه تلقائياً فلاديمير بوتين، بطرس الأكبر الجديد العائد كالعنقاء ببلاده من الرماد.
بوتين لا يتأخر، إنه رجل استخبارات ماهر يعرف أين ومتى وكيف يفعّل أدواته ويشرع آلياته، وليس أفضل من الوقت الراهن للتحرك ما بين تركيا ومصر، والأولى العضو المتململ في الأطلسي الذي تنتابه الهواجس في علاقته مع بروكسل، والثانية حليف تقليدي لواشنطن التي هناك من يزعم أنها عادةً ما تتنكر لحلفائها.
يصنع بوتين تاريخاً جديداً في الخليج العربي والشرق الأوسط، وبحذاقة غير مسبوقة يجمع الأضداد والمتنافسين، ويكسب جولة وربما جولات، بينما الإمبراطور يخسر من جراء انحيازه إلى إسرائيل، ودون أدنى اعتبار أو التفاتة إلى بقية مصالح إمبراطوريته في الشرق الأوسط.
زيارة القيصر لمصر أمر مربك للولايات المتحدة بنوع خاص، ذلك أن ما يربط القاهرة بموسكو عميق ومتين، وتقتضي المصارحة والصدق مع الذات الإشارة إليه، فقد عَبَر المصريون خط بارليف بسلاح روسي، وبنى الروس السد العالي، وأنشأوا غالبية البنية التحتية الصناعية في زمن الثورة الصناعية المصرية، ولهذا لم يكن غريباً أن ترتفع صور بوتين في ميادين مصر خلال السنوات الثورية المنصرمة.
دون مزايدة أو مبالغة، وبلا شوفينية، يمكن القطع بأن مصر تبقى بوابة لأفريقيا من جهة، ومنفذاً على أوروبا من جهة ثانية، وما بينهما يستطيع الدب الروسي، الذي تحول إلى ثعلب رشيق الحركة سريع القفز، تحقيق انتصارات في صراعاته القائمة والقادمة مع النسر الأميركي المحتاج إلى تجديد شبابه.
دون أدنى شك يجد بوتين اليوم أرضية عربية خصبة لإعادة العلاقات الوثيقة مع موسكو، الأمر الذي حذرت منه صحيفة «ناشيونال إنترست» الأميركية، إدارة ترمب، حين أشارت إلى أن بوتين بات اليوم حليفاً محتملاً موثوقاً بالنسبة إلى عدد من الدول العربية في مقدمها المملكة العربية السعودية ومصر والمغرب والجزائر، دون أن تنسى الإشارة إلى الدور الروسي في ليبيا ودعم المشير حفتر بنوع خاص.
من مصر إلى عمق القارة الأفريقية يتطلع بوتين إلى بسط نفوذه ليرث الإمبراطور، والحديث عن قواعد عسكرية روسية في السودان حاضر على طاولة البحث بين الخرطوم وموسكو، بينما التسارع والتنازع هناك على أشده بين بكين وواشنطن، فهل يُعقل أن تترك موسكو الميدان خلواً من منافسة؟
يعبر بوتين نهر «الروبيكون الشرق أوسطي»، والعبارة للمحلل الروسي القدير ألكسندر فيدروسوف، يعبره بجدارة من تعلم الحفاظ على موقف الحياد، وبناء علاقات براغماتية لا تعتمد على أسس آيديولوجية، ولا تتحكم في قراراته رؤى دوغمائية، كما الحال مع الإمبراطور الذي رضخ لمزاعم اليمين الأميركي الدينية المنحولة بشأن القدس.
تكاد روسيا تقترب الهوينى من إعلانها سيدة الشرق الأوسط من دون منازع، وهو دور قابل لمزيد من النفوذ حال تفعيل جهود «الرباعية الدولية» فيما يخص عملية السلام في الشرق الأوسط، ما يعني أن القيصر قد ورث الإمبراطور قولاً وفعلاً.
يتفق وجود قيس الخزعلي زعيم ميليشيات «عصائب أهل الحق» العراقية في جنوب لبنان مع ما وعد به الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله في حزيران (يونيو) الماضي من أنه في أية حرب مقبلة ستفتح الحدود لمقاتلين من العراق واليمن وأفغانستان وباكستان وإيران لمقاتلة إسرائيل. والحال أن الحزب سرّب عن عمد فيديوات عن وجود عناصر عراقية وأفغانية لاختبار ردّ الفعل اللبناني كما العربي والدولي على هذا الأمر الواقع الجديد.
وما يراد منه أن يكون تجريبياً هو ما تروم إيران تثبيته داخل «هلالها» الذي (يريده الخزعلي «بدراً») يمتد من طهران إلى بيروت. فلا حدود ولا سيادة بين البلدان التي تخترقها سلطة الولي الفقيه، ولا سلطة لدولة تتجاوز سلطة الميليشيات. فإذا ما كان رواد «النأي بالنفس» في لبنان يجربون الادعاء أمام العرب كما أمام العالم بأن في بيروت دولة وحكومة تقرران وجه لبنان ووجهته، فإن طهران لا تكترث لضجيج العواصم والحكومات والبرلمانات وتبني «امبراطوريتها» الطموحة في المنطقة وفق حراك ميليشياتها الشيعية الهوية والمتعددة الجنسيات.
وإذا ما كان الوجود الميليشياوي الإيراني المتجوّل في جنوب لبنان يتذرع بالاستعداد لمقاتلة إسرائيل، فطهران التي اعتادت اتباع سياسات حافة الهاوية منذ قيام الجمهورية الإسلامية، تعمل بدأب على استدعاء حرب ميليشياتها مع إسرائيل سواء في لبنان أو سورية، توسلاً لمآلات ما بعد أي حرب تجعلها شريكاً مفصلياً في مصير المنطقة برمتها.
على هذا فإيران تخوض حروبها من خلال بلدان الآخرين وتدفع بجماعاتها الشيعية الموالية من أفغانستان إلى لبنان لحماية جماعاتها الحاكمة حول الولي الفقيه. وعلى هذا أيضاً، فهي تجتهد في مبدأ تخريب مفهوم الدولة لمصلحة مفهوم الجراحات التي تقوم بها الجماعات. فإذا ما فقدت إيران بعد هزيمة تنظيم «داعش» مسوّغ تمددها الميليشياوي، فإن العودة إلى النفخ بمزامير مقاتلة إسرائيل هي العصب الأساس الذي ستعمل على الترويج له من أجل هزم الدولة وتفتيتها والترويج لفوضى وعبث دائمين يقيان نظام الحكم في طهران «شرور» أي استقرار متوخى في كافة دول المنطقة.
ولا تختلف عقيدة التفتيت هذه في اليمن، ذلك أن ميليشيات الحوثيين المدعومة من إيران تعمل كما تعمل كافة ميليشيات طهران على تعزيز ديناميات هدم الدولة والفتك بوحـــدة البلاد. والحال أن الدول المهيمنة في التاريخ الحديث كالولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وما ظهر بعد الحرب العالمية الثانيــة، عملت على بسط نفوذها داخل بلدان سهرت على تقوية دولها والتحكم بنخبها الحـــاكمة والإمساك بمفاتيحها الاقتصادية والعسكــرية والثقافية، فيما تدرك طهران عجزها عــن ذلك واستحالة سيطرتها على دول بعينها، بالتالي فأقصى طموحها انصب على سلوك ما تسلكه المافيات في الدول المتقدمة من بلطجة تمارس على هامش البناء الدويلاتي وقواعده.
والمؤكد أن الورشة الإيرانية تقوم على قاعدة أن جماعات الحرس الثوري في المنطقة تتغذى من حروب يجب أن تكون دائمة في بلدان المنطقة. فإذا ما انطفأت حرب أو مواجهة وجب إشعال معارك جديدة لأسباب لا تنتهي، لإقامة «الدولة العادلة» المزعومة أو لرد العدوان الدائم على «الأمة».
وغياب الحرب المباشرة ضد إيران وغياب أي استراتيجية عسكرية أو أمنية ضدها من قبل خصومها في العالم، يطلقان لطهران العنان للتفرّغ الكامل لتصدير العبث نحو الخارج لرفع مناعة الداخل ضد أي عبث يأتي من هذا الخارج.
وإذا ما كانت إيران تدفع الحرب عنها بنشر الحروب لدى الآخرين، فحري أن يكون الرد بنقل تلك الحروب إلى داخلها. وليس في ذلك عدوانية انفعالية، بل معالجة واقعية لعلّة واقعية. والظاهر أن طهران تدرك أن حروبها الداخلية آتية لا محالة بين مجتمع الحداثة ومنظومة الحكم المتقادم وبين إرادة التغيير وسطوة مصالح الممسكين بتلابيب السلطة. وإيران مدركة أيضاً أن هزائمها في اليمن البعيد أو العراق وسورية ولبنان مرادف لانهيار نظام الولي الفقيه برمته أمام أعين، وربما بيد، الإيرانيين أنفسهم.
ستستفيد إيران كثيراً من الموسم الذي أثاره قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. سترى في التظاهرات التي اندلعت في الشوارع كما في المواقف الرافضة التي اتخذتها العواصم ملاذاً تنشط تحت سقوفه تأجيلاً لضغوط ما برح يمارسها المجتمع الدولي على طهران بما يمنع تطبيع العلاقات مع إيران. ستنشط ميليشياتها «دفاعاً عن القدس» وسيصبح حراكها علنياً خارقاً للحدود بين الدول على منوال حراك قائد فيلق قاسم سليماني بصفته غيفارا العصر المتفاني في أمميته.
يبقى أن العالم بات متنبّهاً لميليشيات إيران وليس فقط لبرامجها النووية والصاروخية، وأن إيران نفسها باتت قلقة من أن الاتفاق الدولي السابق حول برنامجها النووي، كما أي اتفاق لاحق حول برنامجها الصاروخي، لن يوقف الضغط الدولي لوقف تمدد ميليشياتها ومواجهة سلوكها في المنطقة. باتت العواصم الكبرى تطالب بحل ميليشيات «الحشد الشعبي» في العراق وبخروج كافة الميليشيات من سورية بعد هزيمة «داعش»، وبات المجتمع الدولي يؤكد في مؤتمر باريس الأخير لمجموعة الدعم الدولية للبنان على تنفيذ القرار الأممي 1559 الداعي إلى حلّ الميليشيات في لبنان، بما يستهدف «حزب الله». الحزب يدرك أن الأمر جدي بما احتاج استدعاء الخزعلي وصحبه لالتقاط الصور علّها تردع الدولة في بيروت كما مزاج العالم في الخارج.
الفيديو الذي انتشر لمسؤول ميليشيا عصائب أهل الحق العراقية، أثار موجة استنكار شعبية في لبنان، موجة الاستنكار والاستهجان، تأتت من الاستعراض الذي مارسه مسؤول هذه الميليشيا قيس الخزعلي على الحدود اللبنانية مع إسرائيل.
استعراض قال فيه وهو يرتدي البزة العسكرية أنه يريد أن يدعم حزب الله واللبنانيين في مواجهة إسرائيل. الفيديو انتشر بعد ستة أيام من حصول الزيارة غير المعلنة كما صرحت مصادر رئاسة الحكومة اللبنانية، جاء توقيته بعد يوم على خطاب أمين عام حزب الله الذي اتسم بالهدوء غير المعهود، حيال موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
لا بدّ من الإشارة إلى أن زيارة الخزعلي وكشفها عبر تسريب الفيديو المدروس، هو عمل مدروس لا يمكن أن يتمّ من دون إشراف حزب الله وموافقته، فعصائب أهل الحق، هي ميليشيا توالي ولي الفقيه، وتأتمر بقائد فيلق القدس قاسم سليماني ممثل ولي الفقيه في قيادة “فتوحاته في المنطقة العربية”.
وكان الخزعلي قد أعلن قبل شهر في بيان أنه سيقف إلى جانب حزب الله في مواجهة أي عدوان إسرائيلي سيتعرض له حزب الله سواء في سوريا أو في لبنان، وتجوال الخزعلي على بعض المناطق الحدودية اللبنانية، والذي يعتبر تجاوزا للقرار الدولي رقم 1701 الذي يحظر أيّ وجود عسكري خارج قوات الأمم المتحدة والجيش اللبناني، هو رسالة مقصودة سواء من حزب الله أو سليماني، تنطوي على تلويح بالاستعداد لتجاوز هذا القرار، ويستحضر في نفس الوقت ما قاله أمين عام حزب الله حسن نصرالله قبل أشهر، من أنّ استهداف الحزب من قبل إسرائيل سيفتح الباب لقدوم عشرات الآلاف من المقاتلين لإسرائيل من دول مختلفة.
من هنا لا يمكن إدراج جولة قيس الخزعلي على الحدود مع إسرائيل، إلا في سياق سياسي وضمن سياق يتصل بالدور الإيراني على مستوى المنطقة، ولا ينفصل بالضرورة عن المسارات الجاري رسمها على المستوى السوري، ولا سيما بعد الانتهاء من الحرب على تنظيم داعـش في سـوريا والعراق.
رسالة قاسم سليماني عبر الخزعلي، تنطوي على الربط بين أذرع إيران، ولا سيما أن مرحلة الانتهاء من محاربة ما يسمى التطرف السني المتمثل في داعش وجبهة النصرة، فرضت دوليا وإقليميا عنوان التخلص مما يسمى الإرهاب الشيعي، باعتبار أن بقاء الميليشيات الشيعية في المنطقة العربية سواء في العراق أو سوريا أو العراق واليمن، كفيل بإعادة إنتاج ما هو أسوأ من تنظيم داعش، وبالتالي فإن البحث في إنهاء دور الميليشيات الشيعية أمر تفرضه إعادة بناء المكونات الوطنية والدولية في الدول المشار إليها.
تدرك إيران هذه الحقيقة، والجنرال سليماني الراعي لهذه الأذرع الإيرانية الشيعية يدرك في المقابل أن الموقف الدولي والإقليمي يبحث اليوم كيفية التعامل مع هذه الميليشيات، إما بالمواجهة العسكرية، وإمّا بمحاولة استيعابها ضمن الأطر العسكرية الرسمية. وليس خافيا على سليماني أن ثمة تنازعا بين وجهتين واحدة تريد القضاء على هذه الأذرع، وأخرى تحاول تفادي المواجهة العسكرية معها، انطلاقا من أن القوى الشيعية تحظى بنوع من الحاضنة الشعبية، ما يجعل من القضاء عليها أمرا دونه صعوبات، ويساعد على عدم حسم الخيار بين القضاء على هذه الميليشيا من عدمه، عدم تبلور اتفاق أميركي- روسي نهائي بشأن سوريا، رغم وجود تفاهمات حققت خطوات متقدمة على صعيد خفض التوتر وإنهاء تنظيم داعش.
الميليشيات الشيعية وضعت على طاولة الحل الإقليمي، ولكن عوامل عدم نضوج الحل تتيح حسب بعض المراقبين محاولة إيران ضمان ما تعتبره حقوقا من أي تسويات على هذا الصعيد، فالتلويح بربط الميليشيات هذه في ما بينها هي أداة من أدوات الضغط، خاصة وأن ثمة من يؤكد أن أي تسوية في المنطقة تستهدف وقف القتال والعنف، ستعني خسارة لإيران، انطلاقا من أن القيادة الإيرانية تفتقد القدرة على ترجمة النفوذ العسكري الذي تحوزه سواء في العراق أو في سوريا وحتى في اليمن، إلى نفوذ سياسي، ولا سيما في سوريا التي تفتقد إيران فيها أي حاضنة اجتماعية لنفوذها ولمشاريعها.
ما يتخوّف منه بعض اللبنانيين أن تكون الاستعراضات الإيرانية الأخيرة على الحدود مع إسرائيل عبر عصائب أهل الحق العراقية، ليست إلا محاولة دفاعية عن الوجود الاستراتيجي الذي يمثله حزب الله، ولا سيما أن الاستقرار الذي تشهده الحدود مع إسرائيل هو الورقة الأهم التي تمتلكها إيران في سياق ابتزاز المجتمع الدولي منذ أكثر من عشر سنوات، وبالتالي فإن التهديد بالإخلال بهذا الاستقرار عبر ميليشيا عراقية وليس عبر حزب الله، ينطوي على تلويح بخيارات غير لبنانية، ما يجعل سلاح حزب الله بمنأى عن السجال المحلي والخارجي.
ما أثار المخاوف الإضافية وربما دفع حزب الله إلى تسريب فيديو الخزعلي، هو أن مؤتمر المجموعة الدولية لدعم لبنان الذي انعقد في باريس يوم الجمعة، أعاد التأكيد على سياسة النأي بالنفس وعلى تنفيذ القرارين الدوليين 1559 و1701 اللذين يرفض حزب الله الالتزام بموجباتهما منذ صدورهما حتى اليوم.
وما يزيد من قلق حزب الله وإحراج السياسة الإيرانية على هذا الصعيد، أن حزب الله تفاءل بموقف فرنسا التي حمته نسبيا من التصعيد السعودي ضد السياسة اللبنانية بعد الإفراط في تورّطه في الحرب في اليمن، بدت أنها متمسكة بالقرارات الدولية التي تستهدفه بالدرجة الأولى كما كان يؤكد منذ أن صدرت عن مجلس الأمن.
بين خيار التسويات أو استمرار اشتعال المنطقة عبر حروب متنقلة، يتأرجح النفوذ الإيراني في المنطقة العربية، وفيما توجّه إسرائيل ضربات عسكرية متكررة لقواعد إيرانية في سوريا، من دون ردّ إيراني عسكري، يأتي الاستعراض العراقي على الحدود اللبنانية الجنوبية مع إسرائيل، كنوع من إعادة تذكير الإسرائيليين والمجتمع الدولي بمن يؤمن الاستقرار على هذه الحدود، وللقول إن أي تجاوز لهذا الواقع سيجعل من إعادة التوتر لهذه الحدود أمرا في يد إيران.
مثّل المعارضة السورية في الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف وفد تفاوضي جديد، بعد أن غيّر المجتمعون في مؤتمر الرياض 2 "الهيئة العليا للمفاوضات" والوفد التفاوضي الذي شكلته، من دون أن تقدم الهيئة الجديدة المنبثقة عنه أي توضيحات للسوريين، في الداخل أو في بلدان المهجر، بشأن حيثيات هذا التغيير وأسبابه، والذي يبدو أنه جاء استجابة لضغوط إقليمية ودولية، قدمت على شاكلة "نصائح" و"إرشادات"، تفيد بضرورة الامتثال لـ "الواقعية السياسية" التي تقضي الأخذ بالحسبان جملة المتغيرات على الأرض السورية، بعد التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانب النظام ومليشيات نظام الملالي الإيراني الطائفية، وتغير مواقف دول ما كانت تسمى "مجموعة أصدقاء الشعب السوري" أو "أصدقاء سورية"، التي انزاحت استجابةً لمصالحها إلى مسعى النظام الروسي الهادف إلى القبول بنظام الأسد، أقله في المرحلة الانتقالية، والدخول معه في تسوية، يحضر لها الساسة الروس من خلال اجتراح مسارات تسويةٍ في كل من أستانة وسوتشي، تهدف إلى إعادة الشرعية لنظام الأسد المجرم، وتطويع المعارضة السورية، وتمييع مواقفها، كي تقبل بحوار معه على جملة إصلاحات دستورية وانتخابات في ظل استمراره في نهج القتل والتدمير الذي اتبعه منذ بداية الثورة السورية.
اللافت في كل ما جرى في الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف أن الوفد التفاوضي للمعارضة السورية لا يمتلك مرجعية واحدة ومحدّدة، يعود إليها لاتخاذ المواقف ومراجعتها وتقييم الأداء، أو تقويم الإعوجاج إن حصل، والسبب أن وفد التفاوض تشكل من أعضاء هيئة المفاوضات أنفسهم، ورئيس الهيئة هو نفسه رئيس الوفد، وبالتالي بات التفاوض بلا رأس أو مرجعية. وعند النظر في أي مسألة تفاوضية يؤخذ بالحسبان التفاهم ما بين المنصات مراعاة للتوازنات القلقة فيما بينها، واختلافات الرؤى والتوجهات التي تختلف باختلاف أجندات الدول التي تحتضن المنصات وأصحابها، فمنصة موسكو معروف مرجعيتها التي لا تحيد عما يخطط له ساسة النظام الروسي، أو بالأحرى النظام البوتيني، الذي يدافع عن نظام الأسد المجرم بكل إمكاناته العسكرية والسياسية وسواهما، ويعتبره الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري، ولا يعترف بمطالب السوريين وتطلعاتهم، ولا بالثورة السورية، ويريد إيجاد حلّ يعيد تأهيل النظام الأسدي. كما أن منصة القاهرة أيضاً معروفة مرجعيتها ومواقفها التي لا تبتعد كثيراً عن مواقف النظام المصري، أما مرجعية "هيئة التنسيق" التي تضع قدماً في ملعب النظام وأخرى في ملعب المعارضة، فهي معروفة كذلك، ويحدّدها الدعم الذي تتلقاه من موسكو وحمايتها لها. ويبقى الإشكال في مواقف ممثلي الائتلاف السوري المعارض، والتي تختلف باختلاف الكتلة التي يمثلونها دخل الائتلاف نفسه، ولا تبتعد عن مواقف مسؤولي الملف السوري في تركيا ودول الخليج والدول الغربية.
ولا شك في أن تشكيل وفد تفاوضي للمعارضة، لا يمتلك مرجعية موحدة، جاء استجابة لمطالب موسكو التي تسعى إلى تمييع المعارضة السورية وتطويعها، كي تستجيب لمخططاتها ومساعيها، ولم تكتفِ بإدخال أعضاء من منصتها ضمن هيئة التفاوض ووفدها، بل تسعى أيضاً إلى ضم ممثلين عن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD)، ومنصتي حميميم وأستانة ومجموعات أخرى، بحجة أن القرار الأممي 2254 طالب بتمثيل واسع لأطياف المعارضة، في حين أن ساسة موسكو لا يقرّون بأن القرار نفسه اعتبر الهيئة العليا للتفاوض التي انبثقت عن مؤتمر الرياض1 الأساس في مسار جنيف التفاوضي، وهم لم يأخذوا من هذا القرار سوى جزئية صغيرة فيه، في حين أن القرار نفسه يؤكد على أن هدف العملية السياسية هو التنفيذ الكامل لبيان جنيف المؤرخ في 30 يونيو/ حزيران 2012، الهادف إلى "إنشاء هيئة حكم انتقالي جامعة تخوّل سلطات تنفيذية كاملة"، ويطلب "الدخول على وجه السرعة في مفاوضات رسمية بشأن عملية انتقال سياسي"، إضافة إلى أنه يحدّد مرحلتين، تفاوضية محددة بستة أشهر تنتهي بتشكيل حكم ذي مصداقية، وانتقالية محددة بثمانية عشر شهراً تنتهي بكتابة دستور جديد، وانتخابات حرة ونزيهة".
وقد حاول الساسة الروس إفراغ كل القرارات الأممية الخاصة بالمسألة السورية من مضمونها، وساعدهم بذلك الممثل الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، الذي راح يوزع قضايا التفاوض إلى سلال، وضع فيها ما يشاء في خلطة عجيبة، وركز على تشكيل المعارضة وفداً واحداً، وساعده في ذلك معارضون سوريون، وذلك بقبولهم السلال الأربع، والدخول ضمن وفد واحد في جلسة افتتاج الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف، وهو أمر أفضى إلى دمج المنصات في هيئة واحدة ووفد واحد، وليس موحدا، في مؤتمر الرياض 2، وباتت جلسات التشاور، وليس التفاوض، مع المبعوث الأممي تجري بلا رأس ولا مرجعية، لأن الأمر قام على أساس المحاصصة بين المنصات والعسكريين والمستقلين، وليس على أساس توحيد المواقف والرؤى وتجييرها خدمة للشعب السوري، والوقوف في وجه نظام الأسد.
ويعود ذلك كله إلى حيثيات مؤتمر الرياض2 ومجرياته، حيث إنه لم يتم تحديد مرجعية للهيئة الجديدة ووفدها، واستدرك بعضهم بالقول إن البيان الختامي هو المرجعية، وهو أمر غير صحيح، لأن ممثل منصة موسكو اعتبر، في المؤتمر الصحافي الختامي للمؤتمر، أن الوفد المشكل واحد وليس موحداً، وسجل تحفظ منصته على الفقرة المتعلقة بتأكيد المجتمعين" رفضهم التدخلات الإقليمية والدولية، وخاصة الدور الإيراني في زعزعة أمن واستقرار المنطقة، وإحداث تغييرات ديمغرافية فيها، ونشر الإرهاب بما في ذلك إرهاب الدولة ومليشياتها الأجنبية والطائفية"، والأهم هو رفضه الفقرة المتعلقة برحيل الأسد في بداية المرحلة الانتقالية، مع أن البيان أفرغ هذه الفقرة من محتواها، حين أكد "أن المفاوضات المباشرة غير المشروطة تعني أن كافة المواضيع تُطرح وتناقش على طاولة المفاوضات، ولا يحق لأي طرفٍ أن يضع شروطاً مسبقة، ولا تعتبر المطالبة بتنفيذ ما ورد في القرارات الدولية شروطاً مسبقة، أو يمنع طرح ومناقشة جميع المواضيع، بما فيها شكل الحكم ونظامه وصلاحيات سلطاته ومسؤوليه، بما فيها موقع رئاسة الجمهورية، والحكومة وغيرها"، أي أنه جعل منصب رئاسة الجمهورية مسألة تفاوضية، وبالتالي حوّل رحيل الأسد إلى مجرد وجهة نظر.
واللافت أن عدم امتلاك الوفد التفاوضي للمعارضة السورية مرجعية محدّدة، يأتي في وقتٍ لا تبدو في الأفق أي إمكانية للتفاوض حول التغيير السياسي المطلوب، من خلال حصر التفاوض حول نقطتين فقط، إصلاحات دستورية وانتخابات، وهذا يعني نسف عملية الانتقال السياسي، أو بالأحرى جعلها محصورة عبر الإصلاحات الدستور والانتخابات، وليس الدخول في مرحلة انتقالية وتشكيل هيئة حكم، وهو أمر مرفوض من غالبية السوريين، وخصوصاً من قوى الحراك السوري الثوري، كونه لا يلبي طموحاتها وأهدافها، بل يلبي رغبة الطرف الروسي الذي يحضر لمؤتمر شوتسي لما يسمى "الحوار الوطني السوري"، والذي أعلنت منصتا موسكو والقاهرة المشاركة فيه، وستشارك فيه أيضاً هيئة التنسيق. وبالتالي ما الموقف الذي ستتخذه هيئة التفاوض الجديدة من هذا المؤتمر الذي يريد تمرير ما يخطط له ساسة الكرملين؟ وهل ستحضر الهيئة المؤتمر أم سترفضه كما رفضته الهيئة العليا للمفاوضات؟ وما موقف الهيئة الجديدة من مشاركة منصاتها فيه؟.
كما جولات التفاوض غير المباشرة السابقة بين وفدي النظام والمعارضة السوريين، فإن محادثات جنيف 8 لا تبدو مختلفة عن سابقاتها التي ظهر فيها أن الثابت الوحيد هو استمرار بشار الجعفري ممثلاً للنظام، على الرغم من التغيّر الكبير في وفد المعارضة الذي خضع لضغوط وتعديلات أدت، أخيرا، إلى تمثيل كل المنصات، بما في ذلك منصة موسكو، وهو الأمر الذي كان يفضي إلى خروجها بلا نتائج.
ما يبرر به وفد النظام موقفه المعيق أن وفد المعارضة جاء بشروط مسبقة، وردت في بيان الرياض 2، وهو هنا يشير إلى الفقرة التي تؤكد على رحيل بشار الأسد مع بداية المرحلة الانتقالية. وكانت منصة موسكو قد وثقت الاعتراض نفسه، الأمر الذي جعلها تشارك مراقبا في اجتماع المعارضة في الرياض، على الرغم من أنها شاركت في وفد المعارضة، بعد تبرير ذلك بالقول إن تأكيد المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، على أنه لا شروط مسبقة في جولة التفاوض هذه يعني شطب الفقرة من بيان الرياض2، ولا شك في أن ذلك تبرير سطحي، لكنه دعّم موقف وفد النظام الذي انسحب اعتماداً على هذه المسألة.
منصة موسكو كما وفد النظام يؤكدان على الانطلاق فقط من القرار 2254 الصادر عن الأمم المتحدة، ويرفض وفد النظام أي تطرُّقٍ لمسألة الرئاسة. لكن القرار الأممي يستند إلى بيان جنيف1، وإلى قرارات أخرى استندت بدورها إلى هذا البيان. بمعنى أن بيان جنيف1 ما زال أساس التفاوض، وأن كل القرارات الأخرى جاءت لاستكمال الخطوات العملية التي توصل إلى تحقيق ما ورد فيه. وإذا كان لم يرد ذكر في البيان لـ "مقام الرئاسة" فقد ورد فيه، وبشكل واضح، تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، ما يعني أن هيئة حكم تتشكل عبر التفاوض هي التي ستقود البلاد في المرحلة الانتقالية، وليس بشار الأسد. وهيئة حكم لا تعني حكومة، وهي تتشكل للقطع مع النظام القائم، والتهيئة لتشكيل نظام جديد متوافق عليه بين أطراف متصارعة، وتتشكل من هذه الأطراف بتوافق بينها. وفي هذه الحالة، ينتهي دور الرئيس الحالي، فيسلّم سلطاته لهذه الهيئة، ما دام هو الذي يمتلك كل الصلاحيات التنفيذية، حسب الدستور المقرّر سنة 1973، والذي جرى تعديله سنة 2012 عبر "استفتاء" لم يشارك فيه أكثر من 10% ممن يحق لهم التصويت. وفي هذه الحالة، تحكم هيئة الحكم وفق أحكام دستورية، يجري التوافق عليها، تخصّ المرحلة الانتقالية.
يعني ذلك كله أن جوهر عملية التفاوض هو "هيئة الحكم"، وغير ذلك هو تفاصيل تكميلية لتنفيذها مهامها. ولا شك في أن نص بيان جنيف1، والقرار الأممي 2254 وغيرها من القرارات ذات الصلة تشمل خطوات عملية عديدة تحظى بموافقة دولية، ومن وفد المعارضة من دون أن تلقى موافقة النظام، كما بيان جنيف1 الذي يرفضه بتاتاً. بهذا ليس مستغربا أن تفشل كل جلسات التفاوض، فالنظام يريد وفداً من المعارضة، يقبل المشاركة في "حكومة وحدة وطنية"، وهو لا يعتقد أن صراعاً كبيراً نشأ في سورية يفرض الوصول إلى "حل وسط"، بل يرى أن "مجموعات إرهابية" ودولا إقليمية "افتعلت" مشكلة في سورية ضده، وأن الوضع بات يقتضي أن تتراجع هذه القوى والدول عن تدخلاتها و"حربها"، على أن تُقبل ضمن حكومة يشكّلها هو. بمعنى أنه يريد إنهاء الصراع بدمج المعارضة في بنية السلطة فقط.
هذا يعني اختلافا كبيراً في النظر لما جرى ويجري، وأن تناقضاً يقوم بين الأطراف المتفاوضة حول ذلك. فالتفاوض يجري بين طرفين على ضوء "حربٍ أهلية"، أو تمرّد أو ثورة، حين تكون هناك حاجة إلى حل وسط، حيث يقدم كل طرف تنازلات لمصلحة الطرف الآخر من أجل أن يتحقق الحل، أو يستمر الصراع إلى أن يُحسم بطريقة ما. ولا شك في أن ما جرى في سورية ثورة طرحت إسقاط النظام من دون أن تستطيع (إلى الآن) تحقيق ذلك. وحيث دخل الصراع في استعصاء (أشار إليه نائب الرئيس السوري فاروق الشرع منذ نهاية سنة 2012)، وجرت تدخلات متعدّدة ليتحوّل الصراع إقليميا دوليا، فإن هدف التفاوض هو إنهاء الصراع، بما يحقق بعضاً من مطالب الثورة التي تطرحها المعارضة، والتي باتت تتحدَّد في إزاحة بشار الأسد، على الرغم أن ذلك لا يحلّ المشكلات التي صنعت الثورة، من دون أن يعني ذلك "إسقاط النظام"، حيث ستبقى بنية الدولة (مع تعديل شكلي في أجهزتها الأمنية)، وبالتالي لم يعد التفاوض يتعلق بإسقاط النظام، بل بإزاحة الرئيس وتعديلات في بنية الدولة.
وكان صاحب هذه السطور قد أشار إلى رواية النظام التي تقوم على اعتبار ما جرى من عمل مجموعات إرهابية، ومؤامرة، وتدخل إقليمي. وهو هنا لا يضع شرعيته محلّ تساؤل، بل ينطلق من أن هناك اعتداء عليه، وأن "بعضاً من السوريين" (وهم ملايين كما أشار بشار الأسد مرة) قد مارس الإرهاب. وهذا منظور يقرُّ أصلاً بشرعية ما للمعارضة التي يتفاوض معها، ولا يعترف بأنها تطرح مطالب، بل يريدها أن تذعن لسيطرته من جديد، فهو ينظر إليها باعتبارها متمردين يمكن العفو عنهم شرط قبولهم الحل الذي يطرحه، وهو هنا المشاركة في "حكومة وحدة وطنية" فقط، ربما مع تعديلات شكلية في الدستور والصلاحيات.
لهذا، فإن أساس التفاوض ليس قائماً، بل الأمر يتعلق بـ "تقطيع الوقت" تحت مسمى التفاوض. ولا شك في أن الدعم الروسي للنظام هو الذي يؤسس لهذا المأزق، لأن روسيا التي تضغط من أجل تغيير مطالب المعارضة، وفرض قبولها بمنظور النظام، لا تفرض على النظام سوى التصرّف كما يريد، على الرغم من أنها باتت صاحبة القرار. وهذا يؤشر إلى ما تريد روسيا التي تسعى إلى فرض تصورها المطابق لتصور النظام، ولهذا فتحت مسار أستانة، وها هي تفتح مسار سوتشي، وتريد في الأخير ترويض المعارضة، أو بعض أطرافها، أو فرْض معارضة مزيفة تقبل باستمرار وجود رئيس النظام عبر إشراكها في وفد المعارضة، لكي تصبح هي المعارضة بعدئذ.
إذن، الخلاف الذي يعقد التفاوض ليس على تفاصيل، بل هو خلاف على أسس فهم طبيعة الصراع، الأمر الذي يفرض أن يسعى "الأقوى" (وهو الآن روسيا) إلى فرض شروطه وصيغته. ما يمكن أن يعدّل في ذلك هو المنظور الأميركي الذي ما زال لا يسعى إلى نهاية للصراع في سورية، فلا يضغط على روسيا للتوصل إلى حل مشترك. وما يهم أميركا أكثر هو وجود أدوات إيران في سورية، وربما ليس من خلاف هنا بين الطرفين. بالتالي، لا بد من مراقبة المسار الروسي، على الرغم من تصريح أميركا ودول أخرى أن جنيف هو المسار الشرعي الوحيد للحل في سورية. ربما فقط أن الإجهاد الروسي هو الذي سيفرض حلاً يبدأ من "هيئة حكم انتقالية"، فهذا الأمر وحده يمكن أن يهدئ من الصراع، ويسمح بـ "لملمة" الوضع. العقدة ليست في دمشق بل في موسكو، عاصمة الدولة التي باتت تحتلّ سورية.
لا يمكن فصل اغتيال علي عبدالله صالح بالطريقة التي اغتيل بها عن الهجمة الإيرانية في المنطقة. هناك محاولة واضحة لتأكيد أن صنعاء مدينة تحت السيطرة الإيرانية وأن ما حصل يوم الواحد والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2014، عندما اجتاح الحوثيون (أنصار الله) العاصمة اليمنية، ليس مجرّد حدث عابر. الرسالة، التي اسمها رسالة صنعاء، واضحة كلّ الوضوح. إيران موجودة في العاصمة اليمنية كي تبقى فيها إلى الأبد حتّى لو كان معنى ذلك في المدى المنظور تحويل المدينة والمنطقة المحيطة بها إلى قطاع غزة آخر.
لماذا الإصرار على اغتيال الرئيس اليمني السابق في بيته بالطريقة التي حصلت، في حين أنه كان معروفا تماما أنّه لا يمتلك أي مصدر قوّة باستثناء حراسه الشخصيين؟
المطلوب بثّ الرعب في صنعاء وفي كل أنحاء اليمن. المطلوب ترويع اليمنيين والقول لكل يمني إن مصير من يتجرأ على “أنصار الله”… هو مصير علي عبدالله صالح الذي أُسر اثنان من أبنائه هما صلاح ومدين وابن شقيقه محمد محمّد عبدالله صالح وآخرون من القريبين منه. لم يكتف الحوثيون بقتل علي عبدالله صالح. لجأوا قبل ذلك إلى تعذيبه مدة ساعة ونصف ساعة قطعوا خلالها أحد أصابعه قبل أن يصدر أمر من عبدالملك الحوثي بتصفيته. بعد ذلك، غيّر عبدالملك الحوثي الجنبية التي يرتديها. وضع مكانها جنبية أخرى هي التي ورثها أخوه حسين بدرالدين الحوثي عن والده. أراد أن يقول أنه أخذ أخيرا بثأره من علي عبدالله صالح…
رسالة صنعاء واضحة كل الوضوح. إيران موجودة في العاصمة اليمنية كي تبقى فيها إلى الأبد حتى لو كان معنى ذلك في المدى المنظور تحويل المدينة والمنطقة المحيطة بها إلى قطاع غزة آخر
كان كافيا أن يتجرّأ الرئيس اليمني السابق على إيران وعلى الحوثيين، الذين هم أحد ارتكاباته منتصف تسعينات القرن الماضي، كي يلقى المصير الذي لقيه مع أولئك الذين ينتمون إلى محيطه المباشر. ليس صحيحا أنه كان يريد الانقضاض على الحوثيين حتّى لو أعلن ذلك. كان يعرف تماما أنّه ليس في استطاعته الطلب من “قبائل الطوق” التي تتحكّم بمداخل صنعاء دعمه في وجه “أنصار الله”. عندما يتعلّق الأمر بموازين القوى، كانت هذه الموازين مختلّة كلّيا لمصلحة الحوثيين، الذين استفادوا من إعادة هيكلة القوات المسلّحة اليمنية التي قام بها الرئيس الانتقالي عبدربّه منصور هادي في العام 2012، فور تولّيه الرئاسة خلفا لعلي عبدالله صالح الذي غادر الرئاسة تلبية للمبادرة الخليجية. من دون قوات عسكرية ومن دون قبائل مساندة له، كان مصير علي عبدالله صالح معروفا، بل معروفا أكثر من اللزوم.
هناك منذ بضعة أسابيع عملية تجميع أوراق تقوم بها إيران وذلك منذ بدر عن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ما يوحي بأنّها تستوعب تماما، من الناحية النظرية فقط، أخطار المشروع التوسّعي الذي تقف خلفه طهران.
ليس سرّا أن إيران متورطة في كلّ حروب المنطقة، وفي كلّ ما من شأنه إثارة النعرات المذهبية والطائفية من المحيط إلى الخليج. من الواضح أن إيران تمتحن الإدارة الأميركية في غير مكان في وقت وضع دونالد ترامب نفسه في خدمتها عندما اتخذ قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، متجاهلا أن ذلك يقضي نهائيا على خيار الدولتين ويعزّز وجهة نظر المتطرفين، على رأسهم إيران من جهة أخرى. ما فعله ترامب كان أحسن هدية لإيران التي تتحيّن كل الفرص كي تتابع المتاجرة بالفلسطينيين وقضيّتهم وبالقدس تحديدا.
في عالم يسود فيه منطق اللامنطق، كان اغتيال علي عبدالله صالح رسالة إيرانية. كان في استطاعة الحوثيين الاكتفاء بمحاصرته في بيته. لم يكن ذلك ليغيّر شيئا في موازين القوى داخل العاصمة اليمنية ومحيطها، خصوصا أن “قبائل الطوق” انضمت إلى “أنصار الله”، وأن كلّ المعسكرات داخل صنعاء ومحيطها صارت خاضعة لهم.
فضلا عن ذلك، لم يعد هناك شيء اسمه الحرس الجمهوري. قادة الحرس إما قتلوا أو ذهبوا إلى بيوتهم وإمّا انضمّوا إلى الحوثيين. فعل الشيء ذاته عدد من كبار الضباط الذين ينتمون إلى سنحان والذين اكتشفوا أخيرا أن لديهم حسابات يريدون تصفيتها مع ابن منطقتهم!
يظل السؤال لماذا يريد الحوثيون إظهار كل هذه الشراسة في الوقت الحاضر؟ الجواب بكل بساطة أن إيران مهتمّة بالقول للأميركيين إنها اللاعب الأساسي في الشرق الأوسط. وأن لا أحد يستطيع إخراجها لا من سوريا ولا من العراق ولا من لبنان ولا من اليمن. لو لم يكن الأمر كذلك، لما استحضر “حزب الله” أحد قادة “الحشد الشعبي” في العراق ويدعى قيس الخزعلي إلى جنوب لبنان. ما معنى هذه الزيارة ذات الطابع الاستفزازي والكلام الذي صدر عن الخزعلي من أرض الجنوب عن “إقامة دولة صاحب الزمان”؟
المعنى الوحيد للزيارة والإعلان عنها وتصويرها يتمثل في أن إيران تريد القول في لبنان إن الأمر لي وليس للحكومة اللبنانية ولرئيسها سعد الحريري الذي يجتهد لتحييد البلد. لم يكتف سعد الحريري، قبل أيام قليلة، بالسعي إلى وضع الأمور في نصابها داخل الحكومة، بل عمل من خلال مؤتمر باريس على مساعدة لبنان وإنقاذ ما يمكن إنقاذه تفاديا لكارثة اقتصادية تهدّد البلد، خصوصا القطاعات الحيوية فيه. ما حصل في جنوب لبنان هو تحدّ للحكومة اللبنانية ولجهود سعد الحريري على كلّ المستويات.
جاء الخزعلي لتأكيد أن إيران لا تبالي بالسياسة الأميركية ولا بكلام ترامب. إيران التي أخرجت الأكراد من كركوك، بواسطة ميليشياتها العراقية، هي من أفشل الاستفتاء على الاستقلال الذي أصر عليه مسعود البارزاني. إيران استطاعت بعد ذلك السيطرة على معبر البوكمال على الحدود السورية – العراقية. كان التدخل الإيراني في كركوك إشارة أخرى إلى أن العراق تابع لإيران، وأن “الحشد الشعبي” هو اللاعب الأساسي في هذا البلد، وأن الرهان على حيدر العبادي لا يمكن أن يكون أكثر من رهان. أما السيطرة على البوكمال فهي تكريس لربط طهران ببيروت عن طريق بغداد ودمشق.
في المقابل، تكتفي الإدارة الأميركية التي تخلت عن المعارضة السورية منذ زمن على لعب دور المتفرّج. لم يعد من معنى للوجود العسكري الأميركي في سوريا ما دام البوكمال في يد إيران.
إلى أي حدّ ستذهب إيران في تحديها للإدارة الأميركية؟ تصعب الإجابة عن السؤال. لكن الثابت أن هناك ترابطا بين دور “الحشد الشعبي” في كركوك وفي محاصرة إقليم كردستان في العراق، وبين السيطرة على البوكمال وبين زيارة قيس الخزعلي لجنوب لبنان وبين رسالة صنعاء.
تتابع إيران سياستها الهجومية على كلّ صعيد وفي غير مكان مستفيدة إلى أبعد حدود من سياسة إدارة ترامب التي ثبت إلى اليوم أنّها تتكلم ولا تفعل وأنّها تسيء إلى حلفائها أكثر بكثير مما تفيدهم.
لو لم يكن الأمر كذلك، كيف تفسير موقف الرئيس الأميركي من القدس في هذا بالتوقيت بالذات وفي هذه الظروف الإقليمية؟
لا تفسير واضحا غير الرغبة في خدمة إسرائيل بشكل مباشر وخدمة إيران بشكل غير مباشر لا أكثر. جاءت رسالة صنعاء واضحة لكل من يعنيه الأمر. في غياب ضربة قوية توجّه إلى الحوثيين (أنصار الله)، سيكون لإيران وجود دائم في اليمن، وستكون صنعاء مدينة إيرانية أخرى… وسيكون العراق وسوريا ولبنان مستعمرات إيرانية ولا شيء آخر غير ذلك!
فقط لتذكير أصدقائنا وحلفائنا من الأمريكيين والبريطانيين والأوروبيين وبقية دول العالم المعنيين والمهتمين بأمن دول الخليج كعامل استقرار دولي لا إقليمي فحسب، إن أكبر مهدداتنا ليست هي الصواريخ الباليستية وبرنامجها الإيراني بحد ذاته، إذ حتى ما يأتينا منها لا تطلقه إيران علينا من قم أو من طهران، بل عبر عملائها العرب الثلاثة حزب الله والحوثيين وما يقوم به العميل الثالث وهو الحشد الشعبي فإنه مأوى للإرهابيين البحرينيين وتدريبهم مع حزب الله، هؤلاء الثلاثة ومعهم بعض السريات والكتائب والمليشيات المسلحة هم مهدداتنا الحقيقية الآنية، وأولوياتنا تنصب في وقف تمدد هذه الجيوش وقطع دابرها من المنطقة ومحاصرتها مالياً ومواجهتها عسكرياً، فالصورايخ إن اشترتها إيران وإن طورتها فستبقى في طهران ولن تستخدمها ضدنا، إيران أجبن من أن تواجهنا مباشرة ولا تجازف بأمن الإيرانيين والمدن الإيرانية وهي في هذا الوضع المزري أصلاً اقتصادياً وسياسياً، إنما إيران تستخدم حفنة من الخونة في عالمنا العربي ينطلقون من معتقدات دينية يظنون فيها أن على خامنئي قائد القوات المسلحة الإيرانية هو ظل الله في الأرض وهو مندوب إمامهم الغائب وهو إنسان لكنه معصوم من الخطأ أي أنه ليس من البشر الذين قال عنهم نبينا الكريم «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» والذي قال عنهم نبينا عيسى عليه السلام «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر» معتقد المؤمنين بولاية الفقيه الكلية يحول بين المنطق وبينهم؛ لذلك جيوش إيران العربية التي تؤمن بولاية خامنئي عليها ولاية كاملة لا يمكن التفاهم معها بالمنطق والعقل وحين تصنف الولايات المتحدة الأمريكية بعض تلك التنظيمات على أنها إرهابية فخامنئي (المعصوم) يقول لهم ذلك شرف!!
وحين نواجه هذه الجيوش عسكرياً فإنه لا يعنينا ولن ننتظر موافقتكم من أجل التعامل معها كما لن نلتفت إلى المنظمات الدولية المسيسة التي تصدر تقاريرها غير الموضوعية من أجل خدمة أغراض سياسية لدول معينة، ونحن نفرق جيداً بينهم وبين الشيعة العرب الأصليين الإخوة لنا في الدين وفي الأوطان.
صحيح أن دبلوماسيتنا ستعمل على حشد التأييد ولكن إن لم نحصل عليه فلن نقف، بل علينا أن نمضي قدماً في تأمين دولنا من المخاطر الإرهابية التي ترعاها إيران.
في كلمته في حوار المنامة المنعقد منذ يومين في عاصمتنا أشار وزير الخارجية الشيخ أحمد بن أحمد الخليفة إلى ثلاثة عملاء لإيران في المنطقة يجب أن نركز جهودنا لمنعهم من تنفيذ أنشطتهم الإرهابية الخادمة للمصلحة الإيرانية والماسة بأمننا واستقرارنا.
في كلمته خلال الجلسة الأولى من حوار المنامة أمس والتي حملت عنوان «إنشاء هيكل أمني إقليمي مستقر»، تحدث عن العميل الإيراني الأول وهم الحوثيون فقال:
«خانوا الشعب اليمني ويريدون أن يضعوا يدهم على اليمن من خلال تحويله إلى فرع لإيران، مؤكداً أننا لن نقبل بذلك ولا يمكن القبول بذلك، فتحالفنا مصمم على مكافحة الحوثيين وتحرير اليمن وتمهيد الطريق من أجل عودة الاستقرار والأمن إلى كل اليمنيين».
أما عن العميل الثاني وهو حزب الله، فقال إنه « لا يمكننا أن نقف في حين أن منظمة إرهابية خطيرة ومسلحة تدخل إلى بلد بعد الآخر ونحن نستمر في حث أصدقائنا للاعتراف بأن حزب الله هو فعلاً منظمة إرهابية».
أما العميل الإيراني الثالث فهو الحشد الشعبي وفيه قال الشيخ خالد بن أحمد «فيما يخص الحشد الشعبي أكد وزير الخارجية أن آية الله السيستاني قام بإطلاق دعوى وجهها لشعب العراق للوقوف والدفاع عن بلدهم وكان هذا نداء نبيلاً لمكافحة داعش الإرهابية، ولم يكن النداء فقط للشيعة ولكن لكل العراق، ولكن آية الله السيستاني لم يطلب من قاسم سليماني الاهتمام بهذه المسألة ولم يطلب أن يكون هناك انقسام طائفي، مضيفاً أن الحشد الشعبي يأخذ الأوامر من قاسم سليماني وليس من الحكومة العراقية.
ولفت إلى أن هناك حوالي 20% فقط يأخذون الأوامر من الحكومة العراقية، إذاً هذه مسألة لا تتسبب فقط في المشاكل بالنسبة للعراق وإنما أيضاً للمنطقة برمتها والتأثير يصل إلى سوريا، لافتاً إلى أن الحشد الشعبي يتطور ليصبح منظمة إرهابية، وغالبيته يمكن اعتبارها منظمات إرهابية وأن ننظر إليها بكثير من الحذر ولا بد من فرض العقوبات عليها.
هؤلاء من ستتوجه لهم جيوشنا ودبلوماسيتنا معاً، ومصالحنا مع الدول العاجزة عن ردعهم ستكون مرتبطة بقدرتهم على لجمهم وكبح جماحهم وانفلاتهم من الضوابط الأمنية وعدم التزامهم بالحدود السيادية، ولن نجامل بعد اليوم.
اتخذت الإدارة الأميركية في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي قراراً بوقف شراء المواد النووية من إيران، بما في ذلك المياه الثقيل المنتج فيها. وهذا القرار الذي أصدره الرئيس الأميركي دونالد ترمب يُعتبر خطوة أخرى تبعث إلى طهران برسالة مفادها أن الرئيس الأميركي لا يميل إلى اعتبار خطة العمل الشاملة المشتركة من الصفقات الناجحة بأكثر من سلفه، وهو أمضى عزماً وتصميماً على ممارسة المزيد من الضغوط على إيران فيما يتعلق بأنشطتها في منطقة الشرق الأوسط.
وكان شراء الماء الثقيل من إيران بين قرارات الرئيس الأسبق باراك أوباما، ويهدف إلى ضمان التزام طهران مبادئ الاتفاق النووي، الذي تم التوصل إليه بين إيران ومجموعة من المفاوضين الدوليين عام 2015. وبحلول نهاية عام 2016، باعت طهران إلى الولايات المتحدة 32 طناً من الماء الثقيل، وتلقت في مقابل ذلك 8 ملايين دولار أميركي لهذا الغرض.
ونتيجة لذلك، لم يهدف قرار الرئيس أوباما إلى نقل كميات كبيرة من الماء الثقيل من إيران (وفقاً لبنود خطة العمل الشاملة المشتركة، لا يمكن لإيران الاحتفاظ بكمية تفوق 130 طناً من الماء الثقيل في مخازنها الاحتياطية)، وكان من تدابير حفظ ماء الوجه للنظام الإيراني (إذ كانت إيران تبيع الماء الثقيل، ولم تكن تتخلى عن هذه المواد للأطراف الأجنبية طواعية كما يطالب المجتمع الدولي)، وإنما يعتبر من الحوافز المالية الأكيدة للقيادة الإيرانية يدفعها إلى الالتزام بالاتفاق المبرم. وبحلول عام 2017 الحالي، عانت إيران من مشكلات اقتصادية كبيرة جاءت نتيجة مركبة للآثار الارتدادية لتنفيذ حزمة العقوبات الدولية المفروضة عليها، ومشكلات هيكلية أخرى تتعلق باقتصاد البلاد.
ووفق تقييم بعض المحللين الإيرانيين، في عام 2017، عانت البلاد من تباطؤ كبير في النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي (من 12.5 في المائة في عام 2016 إلى 3.3 في المائة في العام الحالي) حيث ارتفع معدل التضخم من 8.9 في المائة في عام 2016 إلى 11.2 في المائة في العام الحالي (ما أدى إلى ارتفاع كبير في الأسعار بلغ 10 نقاط مئوية كاملة) مع ارتفاع معدلات البطالة من 11 في المائة إلى 12.4 في المائة عن الفترة نفسها. ويُعتَبر نقص تمويل المشاريع الهادفة إلى تنشيط الاقتصاد الإيراني من أبرز المشكلات الرئيسية التي تواجهها طهران.
وفي ظل هذه الظروف، كان مبلغ 8 ملايين دولار التي تتلقاها طهران من واشنطن، مقابل مبيعات الماء الثقيل، من المبالغ القليلة، ولكنه من الحاجات المهمة للاقتصاد الإيراني وإشارة إيجابية للمجتمع الدولي بأنه يمكنه زيادة مستوى التعاون التجاري والاستثمار مع طهران.
وكان من المفترض لقرار الرئيس ترمب وقف مشتريات الماء الثقيل الإيراني أن يحقق أهدافاً تتعارض مع خطط الرئيس الأسبق أوباما، إذ أراد الرئيس الأميركي أن يُظهر عزمه الأكيد على وفاء وعوده الانتخابية ذات الصلة بالاتفاق النووي مع إيران. ولا يمكن للرئيس ترمب الإعلان عن إلغاء خطة العمل الشاملة المشتركة بشكل فوري ومباشر بعد انتخابه، إذ من شأن خطوة كهذه أن تعود بآثار سلبية على العلاقات الأميركية مع الشركاء الأوروبيين الذين يساورهم القلق بشأن تصريحات الإدارة الأميركية، حول ضرورة إلغاء الاتفاق النووي بالكامل. كما أن عواقب إلغاء الاتفاق النووي غير واضحة تماماً: إذ لن يكون من الممكن إعادة فرض العقوبات الدولية على إيران بشكل فوري (إذ إن ذلك يستلزم بالضرورة موافقة من مجلس الأمن الدولي) ولن يكون من الممكن أيضاً ضمان أن يُبرم اتفاق جديد وأفضل من الاتفاق الحالي.
وفي ظل هذه الظروف كذلك، ارتأت الإدارة الأميركية الإبقاء على خطة العمل الشاملة المشتركة الحالية (حتى الآن على أقل تقدير). وبدلاً من ذلك، تخيرت واشنطن اعتماد مجموعة من التكتيكات التي لا تسمح بتوجيه الاتهامات المباشرة ضد واشنطن بالانسحاب الجزئي من خطة العمل الشاملة المشتركة، ومع ذلك، فهي خطوات تهدف إلى جعل الحياة في إيران أكثر مشقة وصعوبة.
إن إنهاء مشتريات الماء الثقيل الإيرانية من الإشارات الواضحة إلى اللاعبين الآخرين المعنيين وإلى طهران نفسها، مفادها أن عصر التنازلات المقدمة إلى إيران قد انقضى. ومن الناحية الرسمية، يمكن للإدارة الأميركية تفسير قرارها بأنه يستند إلى الحاجة لوقف توفير الأموال إلى إيران التي يمكن استخدامها لاحقاً في تمويل أنشطتها المثيرة للجدل في بلاد الشام والخليج العربي. ومع ذلك، ومن الناحية العملية، يعكس هذا القرار القدرات الأميركية الحالية لزيادة الضغوط على القيادة الإيرانية إن اقتضى الأمر.
وبطبيعة الحال، فإن نقص الأموال التي يمكن لإيران الحصول عليها، مع العجز الواضح عن ذلك، من مواصلة مبيعات الماء الثقيل إلى الولايات المتحدة ليست بالمبالغ الكبيرة والمهمة للاقتصاد الإيراني. ومع ذلك، فإن هذه الخطوة قد تجعل الشركات الدولية أقل ميلاً واهتماماً بالعمل المباشر مع طهران في ظل تصاعد التوترات الأميركية - الإيرانية الراهنة.
ورغم ذلك أيضاً، قد تغيب بعض العواقب الرئيسية المهمة عن مخيلة الرئيس ترمب التي تترتب، ولا بد، على تكتيكاته الحالية بالنسبة لمستقبل إيران ومستقبل خطة العمل الشاملة المشتركة كذلك: فمن شأن الخطوات الأميركية أن تضعف وبصورة خطرة من مواقف جماعات النخبة الإيرانية والموجهة بشكل طبيعي نحو الحوار مع المجتمع الدولي.
إن إيران من البلدان التي تتوقف تصرفاتها على الصعيد الدولي على الآيديولوجية والمكانة الوطنية. وفي ظل الظروف الحالية، فإن أحد التساؤلات الكبيرة المطروحة يتعلق بمدى قدرة الرئيس حسن روحاني على تفسير الأمر لقيادة البلاد ولقاعدته الانتخابية ومدى أهمية الاستمرار جزءاً من اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة، وتحمل المزيد من الخطوات الاستفزازية الأميركية مع مواصلة ممارسة الضغوط، التي قد تتصاعد، على إيران.
ومن المهم أن نأخذ في اعتبارنا أن إيران تفسر خطة العمل الشاملة المشتركة على نطاق أوسع: بعبارة أخرى، فإن الخطوات الأميركية الأخيرة، من وجهة نظر الإدارة الأميركية، لا تشكل انتهاكاً للاتفاق النووي كما يُفسر الأمر على هذا النحو في طهران. نتيجة لذلك، شرع المسؤولون الإيرانيون بالتهديد بالانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة.
أما بالنسبة إلى الرئيس روحاني، فقد تلقى الانتقادات الكثيرة من خصومه المحافظين للتوقيع على الاتفاق النووي الذي، كما هو مُعتقد لدى المعسكر المناوئ لروحاني، لم يمنح إيران الشيء الكثير، لكنه فرض عليها قيوداً تتعلق بوقف تطوير البرنامج النووي الوطني. ونتيجة لما تقدم، فإن إنهاء خطة العمل الشاملة المشتركة يعني، بصورة طبيعية، القضاء على المستقبل السياسي للرئيس روحاني، ويزيد من صعوبة الأمر كثيراً لضمان فوز إحدى الشخصيات السياسية المعتدلة في الانتخابات الرئاسية المقبلة في البلاد.
ومن العواقب المتوقعة التي قد تترتب على سياسة الرئيس ترمب تصاعد الدور الروسي في المحافظة على خطة العمل الشاملة المشتركة، إذ في عامي 2013 و2015، لعبت السلطات الروسية دوراً مهماً في تسوية المشكلة النووية الإيرانية. وساعدت موسكو في تسهيل مفاوضات طهران مع مجموعة المفاوضين الدوليين في حين أرست مقترحات الوزير سيرغي لافروف لعام 2012، بشأن تسوية القضية النووية الإيرانية، الدعائم اللازمة لاستئناف المحادثات.
وفي هذه الحال، كانت الدوافع الروسية تستند إلى عدد من العوامل. أولاً، حصول إيران على القنبلة النووية ليس من الأمور المرغوب فيها لدى موسكو، إذ إن ذلك سيغير تماماً من موازين القوى في المنطقة ويشجع أنظمة شرق أوسطية أخرى، ربما تكون أقل استقراراً من إيران، على الانضمام إلى النادي النووي. ثانياً، اعتقدت روسيا أن القضية النووية غير المستقرة من شأنها، على نحو افتراضي، أن تؤدي إلى زعزعة استقرار إيران نفسها من واقع إيجاد الذرائع المسوغة لاندلاع نزاع عسكري بين الولايات المتحدة وإيران. وفي ظل هذه الظروف لم يكن الكرملين يرغب في أن تتحول إيران إلى دولة فاشلة أخرى بالقرب من حدود فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي بالإضافة إلى سوريا، والعراق، وأفغانستان. ثالثاً، ساعَدَ الدور الروسي في المفاوضات الدولية متعددة الأطراف بشأن القضية النووية الإيرانية في تعزيز أهمية موسكو كلاعب دولي إيجابي وبناء. وهذا الدور من الأهمية بمكان مع اعتبار ردود الفعل السلبية لدى المجتمع الدولي حيال ضم شبه جزيرة القرم، وإسناد روسيا للقوات الانفصالية في شرق أوكرانيا.
ومن شأن الأسباب ذاتها أن تشكل حافزاً للمشاركة الروسية الفعالة في قضية خطة العمل الشاملة المشتركة مرة أخرى. وعلى أدنى تقدير، فإن الولايات المتحدة الأميركية ليست المشتري الوحيد للماء الثقيل الإيراني. وبحلول نهاية عام 2016، تلقت روسيا 38 طناً من الماء الثقيل الإيراني، وإن لزم الأمر، يمكن لموسكو مواصلة شراء المواد النووية من طهران بغية تهدئة مخاوفها بشأن مستقبل خطة العمل الشاملة المشتركة. وإن قررت موسكو ملء الفراغ القائم سيكون لهذا القرار نتائجه المهمة بالنسبة للكرملين، إذ سيتعمق دخول إيران في مجال النفوذ الروسي. وهذا، بدوره، سيجعل من طهران أكثر مرونة واستعداداً للوصول إلى حلول توافقية مع روسيا تتعلق ببنود أخرى ذات أهمية في الأجندة الروسية على الصعيد الدولي.
على بعد آلاف الكيلو مترات تعمل على التحكم بالعالم بأسره وليس منطقة الشرق الأوسط فحسب. من منطلق القوة وليس لأنها على حق. وهي حامية المصطلح المسمى بالديمقراطية، وكذلك الحرية أيضًا..
تمنح الدرجات للجميع، فتعرف البعض بأنهم "ديمقراطية ناقصة" والآخرين على أنهم "ديمقراطية كاملة"، وتقول عن البعض إنهم "أحرار"، والبعض الآخر إنهم "أحرار جزئيًّا".
تقيم تعاونًا مع الإرهابيين من جهة، وتقرر بنفسها من هو "الإرهابي" من جهة أخرى.
قضت على الثقة بالديمقراطية بأفاعيلها التي قامت بها بحجة أنها تصدر الديمقراطية إلى الكثير من بقاع العالم، وعلى الإيمان بالقانون بسلوكياتها التي اتبعتها تحت ستار حقوق الإنسان.
تبيع أسلحة بمليارات الدولارات بحجة "جلب الديمقراطية".
عندما تضع هدفًا نصب عينيها لا تخطر على بالها حقوق الإنسان ولا الديمقراطية ولا القانون والحرية. أرادت احتلال العراق، فأشعلت حربًا سقط فيها ملايين البشر بذريعة كاذبة عن أسلحة كيميائية وتعاون مع تنظيم القاعدة"، عبر إعلامها.
تمارس التعذيب على متن الطائرات إذا شاءت، وتؤسس سجون التعذيب كما فعلت في العراق إذا رغبت، وترمي بمن تقبض عليه في غياهب السجون بطروف لا إنسانية على مدى سنين.
لا تفتأ تردد عبارة "مكافحة الإرهاب" غير إنها تقيم تعاونًا مع التنظيمات الإرهابية على مرأى ومسمع العالم.
وكما هو الحال بالنسبة للعراق، هي من تقرر إلى كم جزء سوف تُقسم سوريا.
تعتزم إنشاء دولة من أجل ذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا (حزب الاتحاد الديمقراطي)، ولا تتورع عن تقديم آلاف الشاحنات المحملة بالأسلحة له.
إذا كان من مصلحتها يمكن أن تسمح لمقاتلي تنظيم داعش بالخروج بسلام من المنطقة، وهو تنظيم خرج من عباءة القاعدة، التي قتلت الآلاف من مواطنيها في 11 سبتمبر.
والآن تقول إنها تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فيما يخالف جميع القرارات الدولية، وعلى مرأى العالم بأسره.
الجميع يعارضون، المسلمون، المسيحيون، الاتحاد الأوروبي، آسيا، لكنها لا تتردد، وهي على بعد آلاف الكيلومترات، في اتخاذ مثل هذا القرار، الذي سيشعل النار في الشرق الأوسط.
تعترف بقرارات الأمم المتحدة عندما تكون لمصلحتها وتنتهكها عندما تشاء.
لا يهم من الحاكم فيها، أحيانًا يكون "جمهوريًّا"، وأخرى "ديمقراطيًّا"، تارة يكون اسمه بوش، وتارة أخرى يكون أوباما، وثالثة يكون ترامب. حتى وإن تغيرت الحكومة والأسماء، هي دائمًا "على حق"، لأنها "قوية".
فهل عرفتم من هي يا سادة؟
إنها الولايات المتحدة الأمريكية.
الشيء الوحيد الذي تملكه هو منطق القوة، تمام كما رعاة البقر. قانونها ورغباتها ومصالحها فوق كل شيء. لكن هناك شيء لا تعرفه ولا تفهمه حتى الآن.. إنه الشرق الأوسط..
ذكرت لي إحدى المشاركات في فيلم وثائقي فرنسي عن اغتصاب الفتيات والنساء السوريات، المعتقلات أو المختطفات، سوف يُعرض في 7 ديسمبر/كانون الأول الجاري على قناة فرنسا 2، أن الطريقة الوحيدة لإقناع الضحايا بالبوح بما عانينه على يد الوحوش الضارية كانت تذكيرهن بأن هناك محاولات عديدة لإعادة تأهيل الأسد، وأن أحاديثهن سوف تساهم في العمل ضد هذا الاتجاه. وقد اعتبرن الإدلاء بشهادتهن على قناة تلفزيونية استمرارا لكفاحهن الطويل من أجل تحرير شعبهن من نظام الإرهاب والطغيان. وما من شكّ في أن فكرة إعادة تأهيل الأسد التي أصبح واضحا أنها الأكثر تداولا في الأوساط الدولية، حتى التي لا تتردّد في وصفه مجرماً، تثير مشاعر من غير الممكن ضبطها من الألم والبؤس والاحتجاج عند غالبية السوريين الذين فقدوا كل شيء، بسبب سياساته وخياراته الخرقاء والإجرامية، أبناءهم ووطنهم. وينظر إليها كثيرون على أنها إمعان في احتقار القيم الإنسانية، وتجديد الحرب ضد السوريين.
1
وبالفعل، لا أدري كيف يمكن لرجال دولةٍ وديمقراطيين أن يفكروا لحظة في أن من الممكن المراهنة من جديد على الشخص الذي كان السبب الأول في إطلاق شرارة الحرب ضد شعبه، منذ الأيام الأولى للثورة، من أجل إعادة السلم الأهلي، وتدشين حقبة جديدة في تاريخ سورية، من المفروض أن أساس جدّتها هو قطعها مع حقبة الأسد السوداء وتاريخها وقيمها ومؤسساتها وطرق إدارتها، وقبل أي شيء رموزها. والغريب أننا عندما نتحدّث عن ذلك مع الدبلوماسيين والسياسيين الغربيين، لا نجد أحدا منهم يجد ذريعةً واحدةً تخفف من مسؤوليته، أو تبرّر سلوكه. بالعكس، إنهم يعترفون جميعا، بما في ذلك الروس في بعض اللقاءات، بأنه المسؤول الأول عن الكارثة الإنسانية والحضارية التي تشهدها سورية، وأن ما قام به من أعمال القتل المنظم والقصف الأعمى واستخدام الأسلحة المحرمة دوليا لا يمكن أن يصدر عن رجلٍ لديه الحد الأدنى من النضج والاتزان. وبعض المسؤولين الدوليين الكبار، إن لم يكن معظمهم، ينظرون إليه إنسانا أحمق ومجرما خطيرا، قادرا على ارتكاب أبشع الجرائم للاحتفاظ بالحكم.
لكن في كل مرة يطرح هذا الموضوع، وبعد التأكيد على عدم صلاحية الأسد للقيادة، لا قبل الثورة ولا بعدها، يخرج السؤال الذي رافق المعارضة والثوار منذ بداية المشاورات مع من أطلقوا على أنفسهم اسم أصدقاء الشعب السوري: ما هو البديل؟
ليس هذا الطرح جديدا، فقد كان يطرح علينا منذ الأيام الأولى لتشكيل المجلس الوطني. ومع بدء عملية بناء علاقاتنا الدولية مع المجتمع الدولي، تحت تأثير انقسام المعارضة، أو بالأحرى الأصوات النشاز التي كانت تشوش على قيادة المجلس الوطني، ليس لخلافاتٍ سياسية في الواقع، وإنما لحساسيات شخصية على الأغلب. وكان جوابي الدائم على هذا السؤال أن المعارضة ليست هي، ولا تطلب أن تكون البديل عن بشار الأسد ونظامه، وليس من المهم كثيرا انقسامها. فليس المطلوب استبدال حكم طغمةٍ بحكم طغمة أخرى، ولا ديكتاتورية الأسد بديكتاتورية غليون أو أي شخص آخر، ولكن إقامة حكم يقرر فيه الشعب مصيره، وينتخب هو نفسه ممثليه، ويمكن له أن يغيرهم في أي وقتٍ يدرك أنهم لا يخدمون مصالحه، ولا يلبون طموحاته. بمعنى آخر، البديل هو من طبيعة مؤسسية، يقوم على تغيير بنية السلطة وممارستها، لا على تغيير رجالها. ولو افترضنا أن الشعب مال إلى انتخاب رجالٍ كانوا من النظام القديم، فهو حر في ذلك. وهذا ما حصل في البلدان التي كانت تابعةً للاتحاد السوفييتي السابق، حيث حصل الحزب الشيوعي في بعضها على الأغلبية في مراحل الانتقال الأولى. لكن المهم أن ذلك حصل ضمن بنيةٍ ديمقراطيةٍ وتعدّدية للسلطة، تسمح بتغييرهم هم أيضا في دورةٍ لاحقة.
وكنت أصر على أن المفاوضات بشأن المرحلة الانتقالية لا ينبغي أن تكون مفاوضاتٍ على تفاصيل الحكم ودقائقه، لأن المعارضة ليست ممثلةً للشعب، وإن مثلت، في أحسن الأحوال، الثائرين في صفوفه، ولكن على شروط التعاون من أجل إيصال السوريين إلى مرحلةٍ يستطيع فيها الشعب نفسه أن يقرّر مصيره، وأن ينتخب ممثليه، ويشكل الحكومة التي يريدها، والتي يستطيع هو أيضا إقالتها، وسحب الثقة عنها وتبديلها، في انتخاباتٍ نزيهة وحرة. وهذا يعني أن البديل ليس المعارضة، وإنما مجلس شعب منتخبٍ وممثل للشعب. وهذا المجلس هو الذي سيقود سورية ما بعد الأسد، لا المجلس الوطني، ولا المعارضة، ولا شركاؤها من أنصار النظام في المرحلة الانتقالية. وكل ما يطرحه المبعوث الأممي اليوم من نقاشٍ بشأن الدستور ورؤية سورية المستقبل من وثائق نهائية لا معنى له، وهو يستجيب لمطالب الروس الذين يريدون أن يلغوا المرحلة الانتقالية بموازاة إلغائهم تغيير النظام، واستبدالها بتفاهمٍ نهائيٍّ بين المعارضة والسلطة على الحكم القادم من وراء الشعب، وضد مصالحه. المطلوب مبادئ دستورية لقيادة المرحلة الانتقالية فحسب، قبل إيصال الحكم إلى الشعب وجمعيته الوطنية التي لها وحدها الحق في أن تصوغ الدستور النهائي، وتتفق على المبادئ فوق الدستورية أيضا.
لكن هذا الطرح الذي يركّز على إيصال الحقوق إلى أصحابها، أي إلى تطبيق مبدأ ممارسة الشعب حقه في تقرير مصيره في انتخاباتٍ حرّة ونزيهة، وما يريد الروس قطع الطريق عليه بتكريس اتفاقاتٍ مسبقة ونهائية بين المعارضة والنظام، لم يستطع أن يقاوم للأسف طويلا متطلبات الدبلوماسية الدولية التي لا تريد أن تسمع كثيرا، وربما لا تؤمن بأن فرضية الحل الديمقراطي، المقبول والمطلوب في كل مجتمعات الأرض، يصلح لسورية. وبعد استقالتي من رئاسة المجلس، ومع إصرار الغرب والشرق، بما في ذلك الدول الصديقة، على فكرة البديل الجاهز، دخل السوس إلى فكر المعارضة التي أضعفت موقفها بالاعتراف بأنها لا يمكن أن تكون بديلا، ولا تملك البديل، بدل أن تؤكد أنها لا هي ولا الأسد ونظامه البديل، وإنما الشعب وجمعيته الوطنية المنتخبة. وهذا ما كانت تحتاجه الدبلوماسية الدولية، لقطع الطريق على المرحلة الانتقالية، والاتجاه إلى فكرة المشاركة في حكومةٍ واحدة، أو ما تسمى وحدة وطنية.
2
الواقع أن المطالبة المسبقة والشاملة ببديل، بمعنى بطاقم حكومي جاهز ومؤسسات بديلة، يحل محل طاقم الأسد ومؤسساته، لم تطرح على أي ثورة أو حركة احتجاج في العالم، فهي تستبطن أمورا عديدة.
أولا، أن من الممكن بناء قوة جاهزة ومنظمة سياسية، أو كتلة قادرة على الحكم وحدها منذ البداية. ولا أدري كيف يمكن لهذه القوة السياسية المنظمة والقادرة على استلام الحكم أن تتكون في ظل ديكتاتورية فاشية وهمجية، في الوقت نفسه، تُخضع الأفراد إلى مراقبةٍ يومية، وتحرّم أي شكل من التواصل بينهم، الفكري والسياسي، وتُخضعهم لمحاكمةٍ دائمةٍ وتجرّدهم من أي حماية سياسية أو قانونية. وأول برهان على ذلك روسيا المنتفضة على النظام السوفييتي نفسها.
وتستبطن ثانيا استبعاد أن يكون الشعب صاحب السيادة والصلاحية في اختيار ممثليه في انتخاباتٍ حرّة ونزيهة، أي أيضا الاعتقاد بأن الشعب السوري ليس على مستوى من النضج يسمح له بممارسة حقوقه السيادية. وهذه هي الفرضية وراء فكرة مؤتمر شعوب سورية الذي أعلن الروس عن عقده في حميميم، ثم نقلوا مكانه إلى سوتشي، ولا يزال غامض المصير. وبينما تهدف مفاوضات جنيف للتوصل إلى تفاهم بين الحكم والمعارضة على صيغةٍ للانتقال السياسي من سنة ونصف السنة إلى سنتين، تشكل مدخلا لتطبيع الحياة السياسية، والدخول في نظام الديمقراطية الذي يكرّس سيادة الشعب، وحقه في تقرير مصيره بحرية، يفترض مؤتمر شعوب سورية حوارا بين المكونات الإثنية والطائفية والعشائرية السورية، يلغي إشكالية الانتقال من جذورها، ويفتح باب الحوار بين جماعاتٍ مختلفةٍ ومتنابذةٍ على تقاسم المناصب، ويفضي، لا محالة، إلى تحييد الدولة، وإحلال إدارات محلية مكانها، تضمن لكل قوة احتلت جزءا من الأرض السورية الاحتفاظ بنفوذها ووصايتها في المنطقة التي بسطت سلطتها عليها. ولو حصل ذلك، لكانت طهران التي تتمتع بحضور أوسع وأكثر عمقا، سياسيا وعسكريا وبشريا، اليوم في البلاد، هي صاحبة الكلمة الأولى، والسيطرة الأكبر على الحكومة والإدارة وجميع المرافق الاقتصادية والخدمية في الدولة السورية القادمة.
ويستبطن هذا الطرح ثالثا أن ما يرمي إليه الحوار والمفاوضات ليس الانتقال الذي أعلنته الثورة نحو نظام ديمقراطي، يلبي مطالب الحرية والكرامة والتطلع إلى ملاقاة قيم العصر. وإنما التمثيل الشامل والميكانيكي لجماعات الهوية، وإلغاء مفهوم المواطنة التي تقوم على حكم القانون والمساواة بين الأفراد، وقبل ذلك حرية الفرد ومسؤوليته السياسية لصالح مفهوم العصبية الأهلية الجمعية، الطائفية والإتنية. وهو النظام الذي فرض، حسب المنطق نفسه، في لبنان، وبعده في العراق، والذي يكرّس إعادة تنصيب زعماء العشائر والقبائل ووجهاء المناطق والقوميات على الدولة والسياسة، وتوريث مناصبهم لأبنائهم، وإلغاء أي فرصةٍ لتكوين نخبة وطنية سياسية، تتناغم مع مفهوم الدولة، وهو ما يهدف إلى إجهاض أي حياة مدنية حقيقية، ودفع السوريين إلى الانشغال بصراعات هويةٍ وتنازع على مناصب الدولة والإدارة، لا تنتهي، بدل مساعدتهم في الارتفاع على الانقسامات العمودية، وتوسيع قاعدة التعاون بين الأفراد، بصرف النظر عن انتماءاتهم الأهلية، وتوحيد القوى والجهود من أجل تحديث المجتمع السوري، وتطوير مؤسساته المدنية والسياسية، وتعميق روح الوطنية والقيم الإنسانية الكونية.
ويستبطن رابعا أن الوظيفة الرئيسية لنظام سورية القادم ليس تجاوز النقائص والعيوب التي حالت دون تفاعل أبناء الشعب السوري، وتكون إرادة وطنية فعلية، وهو ما عبّرت عنه شعارات الثورة، وأولها "واحد واحد الشعب السوري واحد"، ولكن إقامة نظام من الطبيعة نفسها التي جسدها نظام الأسد، والتي لا تهدف إلا إلى تلبية المطالب والمصالح الخارجية، والاستقواء بأصحابها لعزل الشعب السوري سياسيا، وتقويض وحدته وإرادته الوطنية. ما يعني أن ما هو مطلوب للخروج من الحرب والدمار والخراب ليس مصالحة الشعب السوري مع نفسه وتاريخه، وحل الإشكالات التي دفعته إلى الثورة والحرب، وإنما زرع بذور نزاعاتٍ لا تنتهي، ولا يمكن السيطرة عليها. وأن وظيفة النظام المنشود ليست خدمة السوريين ورعاية شؤونهم، كما هي وظيفة النظم السياسية، أو أغلبها، وإنما خدمة الأطراف الخارجية التي تضمن بقاء النظام وحمايته واستمراره. وهذه كانت وظيفة نظام الأسد الذي استمد قوته ونفوذه وفرص استمراره من اشتغاله على ضبط السوريين وتحييدهم، وشل إرادتهم لحساب دول وحكومات ومصالح أجنبية. وهذا ما جعل من مسألة تغييره أو استبداله، عندما فشل في تحقيق مهامه، وانتفض السوريون ضد سياساته، مسألة إقليمية ودولية وعالمية خارجة عن إرادة السوريين.
لم تترك موسكو، التي تعمل صاحب تفويض دولي في المفاوضة مع المعارضة، فرصةً من دون أن تستغلها لقطع الطريق على خيار الانتقال السياسي الديمقراطي، والسعي إلى إغراق مسألة سيادة الشعب السوري بمسألة التعددية الإثنية والطائفية والسياسية، والدفع في اتجاه حلٍ يقوم على تقاسم السلطة بين الجماعات الأهلية وتقسيم البلاد إلى أقاليم ذاتية الإدارة بعد أن فشلت في فرض الفيدرالية.
3
لا ينبع التذكير الدائم بغياب البديل، كما قد يخطر إلى البال، من القلق على مستقبل سورية، أو على نجاح عملية الانتقال السياسي فيها، ولا من الاعتقاد بالفعل بغياب شخصيات قادرة على الحكم، أو عن الخوف من عقم المجتمع السوري وعجزه عن إنتاج "شخصية فذة" مثل بشار الأسد، ولا من عدم إمكانية الحؤول دون عمليات الانتقام الجماعي، أو انهيار مؤسسات الدولة، أو الدخول في الفوضى، كما يزعم بعضهم. ولكنها تنبع من الخوف من أن لا تتمكّن القوى التي كانت وراء الأسد، واستفادت من حكمه، وعقدت صفقاتٍ كبرى معه على حساب حرية الشعب السوري، وحقوقه وتقدمه وأمنه، من إيجاد البديل المطابق له. أي في الواقع من أن لا تتمكن هذه القوى من ضبط الأوضاع السورية في إطار نظام ديمقراطي، يعكس إرادة الشعب وتطلعاته، ويعمل لخدمة أهدافه والدفاع عن مصالحه، ويعمّم نشر روح الحرية والكرامة والاستقلال والسيادة في ربوعه. وهو ما كان سائدا قبل عهد الانقلابات العسكرية، والذي جعل من السوريين، في حقبة الخمسينيات، في طليعة حركة الكفاح التحرّري والاجتماعي الذي خاضته الشعوب حديثة الاستقلال في العالم. فالبديل المطلوب للأسد وحشٌ مثله مستعدٌّ، لقاء ضمان استمراره في السلطة وتوريث الحكم لأبنائه، لقتل شعبه وتحويل سورية إلى معتقل جماعي، وجاهز للقيام بجميع المهام القذرة، الداخلية والخارجية، التي قبل بتنفيذها نظام الأسد، غالبا بمبادرته الخاصة، خلال نصف قرن، وضمنت استقرار النظام الإقليمي والدولي القائم على تجميد الحياة في المنطقة، وحرمانها من أي فرصة للتعاون من أجل التقدم والتنمية والتطور الاجتماعي والسياسي والفكري، في سبيل الحصول على رضى الدول الكبرى وتلبية مصالح وكلائه، بصرف النظر عن مصالح السوريين، وعلى حسابها في أغلب الأوقات. ولأن هؤلاء الوكلاء ليسوا واثقين من قدرتهم على تدجين الشعب السوري، بعد تضحياته الهائلة، وسوقه إلى إنتاج نظامٍ شبيه بنظام الأسد، وقادر على أداء مهامه الداخلية والخارجية، كما فعلوا في بلدان الربيع العربي الأخرى، فليس لهم خيار سوى الدفاع حتى آخر نفسٍ عن إعادة تأهيل الأسد نفسه، حتى لو كانت قناعتهم بعدم صلاحيته، وربما بسبب ضعفه، بل موته السريري نفسه أيضا.
ليس المطلوب "دوليا" في سورية نظاما ديمقراطيا مدنيا، يضمن وحدة الشعب وتفاهمه على قواعد واضحة وثابتة وكونية للشرعية وتداول السلطة، ويمكن للشعب أن يختار ممثليه ويستبدلهم بحرية، كما الحال في الدول الديمقراطية جميعا، وإنما المطلوب، كما تبين في السنوات الست الماضية، العكس تماما، أي نظاما يجرّد الشعب السوري من سيادته، ويفرض عليه خياراتٍ لغير مصلحته، تضمن الأمن والاستقرار والتوسع والازدهار لدولٍ بعينها في الشرق الأوسط، وتحفظ هيمنة الغرب، وروسيا جزء منه، على عالم الشرق والإسلام والعرب الذي يبدو أكثر فأكثر مرتعا للقوى المتمرّدة والمتطرّفة والثائرة. وليس هناك بديل عن الديكتاتورية الفاشية المتهاوية تحت ضربات الثورات العربية، للحفاظ على هذه المصالح الكبرى والتوازنات، سوى نظم مقوّضة العزم والشرعية، ودول مفكّكة تلغي الشعب، وما له من قوة وكيان سياسيين، وتحل روابط المجتمعات، وتفتك بقيمها ورموزها، وتباعد بين أقاليمها وجماعاتها، أي سوى فرط عقدها وتحويلها إلى إثنيات وطوائف ومحليات، وتقسيم أراضيها إلى كانتونات ومناطق معزولة وعازلة، منطوية على نفسها، لا شاغل لها سوى التنازع على البقاء في منطقة محرومة وعاجزة عن إيجاد شروط التنمية، تعاني أكثر فأكثر من شحّ الموارد، ومن حروب أهلية دائمة، ونزاعات هوية، لا حل لها ولا تسوية فيها. هذا هو البديل الوحيد الذي يضمن، في الوقت نفسه، تحييد الشعوب، وإخراجها من معادلة القوة، والإبقاء على الأسد وأمثاله رؤساء وقادة لدولٍ لم يبق منها سوى الاسم، ومن وراء ذلك، تكريس المكاسب الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية الكبرى التي حقّقتها الشراكة المدنّسة بين طهران وموسكو وتل أبيب وواشنطن وأتباعهما، عوائد الحرب التي فجّرها الأسد على السوريين نيابة عن الجميع، وبمساعدتهم، لسحق ثورة الحرية والفتك بأبنائها، وتشريدهم في كل بلاد المعمورة.
ما أنتج عقدة الأسد التي عطلت مفاوضات الحل السياسي ست سنوات متواصلة، ليس وجود الأسد وشخصه، أو النزاع على دوره، ولكن تصميم الفاعلين الإقليميين والدوليين على رفض خيار التحول الديمقراطي الذي يلبي تطلعات السوريين، ويضمن حقوقهم بالتساوي، من خلال انتخابات حرّة ونزيهة لممثليهم وقادتهم، الحقيقيين والشرعيين، والإصرار على الإبقاء على نظم استبدادية ليست بحاجة إلى أي توجيهٍ، أو ضغوط استثنائية، كي تقوم بتنفيذ مهمتها التاريخية في الدوس على رقاب الشعوب وتفكيكها، وإخضاعها بالقوة، وإن لم تستطع تشتيت شملها بحروب الإبادة الجماعية، المادية والسياسية معا. لتحقيق هذه المهام، الإبقاء على كواسر أثبتت قدرتها على الفتك، من دون أن يرفّ لها جفن، بشعوبها، هو بالتأكيد الخيار الصحيح لدولٍ تتصرف هي نفسها كوحوش ضارية.