في توقيت لم يكن متوقعاً، أعلنت مصادر رسمية روسية أن الرئيس فلاديمير بوتين سيزور أنقرة، يوم الاثنين 11 كانون الأول / ديسمبر، ثم يتجه بعدها إلى القاهرة في زيارة رسمية لكل من تركيا ومصر. المصادر الدبلوماسية الروسية ذاتها أكدت أن الملف السوري سوف يحتل المرتبة الأولى في سلم أولويات الزيارتين، حيث يسعى بوتين لحشد تأييد كل من تركيا ومصر لمؤتمر سوتشي.
وكالة انترفاكس الروسية نقلت عن مصدر دبلوماسي روسي؛ أن الجولة القادمة من مفاوضات أستانا ستعقد في يومي 21و22 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، وستتناول التحضيرات لمؤتمر سوتشي!
اللافت للانتباه أن وزارة الدفاع الروسية، وليس الخارجية، هي من تشرف على مؤتمر سوتشي! وهذا يدل دلالة واضحة على أن التصور الروسي لطبيعة الحل في سوريا لا يبتعد كثيرا عن طريقتهم (موديلهم) الشهيرة "غروزني".. أي الحسم العسكري.
وبحسب وزارة الدفاع الروسية، فإن مؤتمر سوتشي يهدف إلى تشكيل لجنة للدستور ولجنة للانتخابات. ولا يوجد أي حديث عن عملية انتقال سياسي!
توقيت التحرك الروسي مثير للحيرة والشكوك أيضا. حيث يأتي في وقت تسير فيه مباحثات جنيف بين النظام والمعارضة برعاية الأمم المتحدة، ولا تبدو أنها في حالة تعثر. بالرغم من مراوغة وفد النظام ومحاولاته التعطيلية. لكنه جميع الأطراف حتى الآن متمسكة باستحقاق جنيف، أو هكذا تبدو. فلماذا إصرار الروس على مؤتمر سوتشي؟!
من الواضح للعيان بأن الروس يتحركون بعقلية أن نظام بشار الأسد قد انتصر، ومن الواجب رسم الخطوات التالية بناء على ذلك. من هذا المنطلق، بادروا إلى الدعوة لمؤتمر موسع يضم جميع "الشعوب السورية" يعقد في القاعدة الروسية في حميميم. لكن وتيرة الاعتراضات على المكان وعلى مصطلح "الشعوب السورية"؛ اضطر الدبلوماسية الروسية إلى العدول عن حميميم واستبدالها بمدينة سوتشي الروسية. لكن بنفس الهدف والمضمون، أي أن يكون مؤتمرا موسعا يضم جميع مكونات الشعب السوري!
المعركة في سوريا بحسب الروس انتهت، وعلى المعارضة السورية الرضوخ لشروطهم، وكل ما تستطيع المعارضة فعله هو الحصول على بضعة مقاعد في حكومة وطنية مشتركة مع نظام بشار الأسد! وهذا يدل دلالة صريحة على أن قرارات مؤتمر سوتشي ومخرجاته قد تم إعدادها مسبقا، وربما تكون لجانه كذلك قد تم تشكيلها واختيار أعضائها مسبقاً، قبل انعقاد المؤتمر!
يبقى السؤال الأهم هنا: ما هو موقف الأمريكان من مؤتمر سوتشي؟.. وهل هو جزء من التفاهمات التي جرت بين الرئيسين ترامب وبوتين في فيينا وفيتنام؟
بالرغم من أن الروس قد حققوا بعض الانتصارات العسكرية على الأرض السورية، بواسطة سياسة الأرض المحروقة التي اتبعوها، إلا أنهم ما يزالون عاجزين عن الحسم الكامل، ووضع نهاية للأزمة السورية، ولو بقوة السلاح، حيث ما يزال الأمريكان يمسكون بكثير من خيوط اللعبة، مما يمكنهم من إفشال مخططات الروس بسهولة وبكلفة رخيصة. صحيح أن الروس متفوقون عسكريا على الأراضي السورية، لكنهم عاجزون عن بناء النظام من جديد. كما أنهم لا يملكون القدرة على إعادة الإعمار التي تكلف مليارات الدولارات.
من ناحية أخرى.. الرئيس الروسي بوتين في عجلة من أمره، فهو يريد تحقيق تقدم في الميدان السياسي في سوريا قبيل الانتخابات الروسية التي باتت على الأبواب. لذلك سارع إلى التفاهم من كل من إيران وتركيا، الدولتان الضامنتان والشريكتان معه في مؤتمر أستانا، لعقده خلال فترة قصيرة، وليمارس ضغوطا كبيرة على النظام لدفعه لحضور مؤتمر جنيف، بالرغم من الضغوط الإيرانية في الاتجاه المعاكس.
الأمريكان حتى اليوم ما زالوا متمسكين بجنيف، ويرون أنها المكان الصحيح والطريقة الأمثل لحل الأزمة السورية.. ما يميز جنيف بشكل رئيسي عن بقية المؤتمرات؛ هو بند الانتقال السياسي، الذي يعني بالضرورة نهاية حكم الأسد، وبداية مرحلة جديدة في حكم سوريا. من حيث المبدأ، لا اعتراض كبيرا لدى الروس على رحيل بشار الأسد، لكنهم مقابل ذلك يطلبون من الأمريكان ثمنا استراتيجيا محرزا، بينما الأمريكان ليسو مستعدين، ولا نية لديهم، لدفع ثمن ما مقابل رحيل بشار الأسد، لذلك بدأوا يلمحون إلى إمكانية بقاء بشار الأسد في المرحلة الانتقالية فقط لفترة ما؛ تحددها المفاوضات بينه وبين المعارضة، بالرغم من استمرار اعتراضهم على شرعية حكمه أساسا!
الناطق الرسمي باسم الوفد المفاوض للمعارضة السورية في جنيف، د. يحيى العريضي، قال إن الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص وفريقه وبعض الدول "جادون بإيجاد حل للقضية السورية"، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن تلك الدول تنفذ مصالحها في سوريا.
من الواضح أن مسار الحل في سوريا بات على مفترق طريقين، أحدهما يسير نحو "عملية جنيف"، والآخر باتجاه مؤتمر سوتشي. الرئيس الروسي بوتين يبدو مصرا، ويبذل قصارى جهده في سبيل توجيه بوصلة الحل نحو سوتشي. فهل سينجح في ذلك؟
نجاح بوتين في عقد مؤتمر سوتشي متوقف على الفيتو الأمريكي، والموافقة الإيرانية، والتعاون التركي.. والأهم من ذلك كله، تماسك المعارضة السورية وثباتها، وصمودها في وجه الضغوط الدولية، وتمسكها بثوابت الثورة السورية في بندها الأول: خلاص الشعب السوري من حكم عائلة الأسد.
يفتح الغياب الأميركي عن أجواء التحركات السياسية المرتبطة بالمسألة السورية، سواء الجارية برعاية روسية أو برعاية سعودية أو غيرهما، الباب أمام تباينات في تحليل الموقف الأميركي، وبالتالي في مدى واقعية هذه الاجتماعات التي تشهد الغياب الأميركي ونجاعتها، انطلاقاً من قناعة غالبية المفكرين والمحللين العرب باستحالة تطبيق أي اتفاق دولي، أو إقليمي في سورية، من دون قبول ومباركة أميركيين. تحاول هذه المقالة المساهمة في تحديد أبعاد الموقف الأميركي، من دون المبالغة في ربطه بالوضع السوري، حيث يبقى لموقف الشعب السوري ورأيه الكلمة الفصل والحسم الحقيقية بشأن أي حل سياسي في بلده، كما تبقى استعادة نبض الشارع السوري وفعاليته الطريقة الوحيدة لتحقيق أهداف أهداف هذا الشعب وثورته.
ولتكن البداية بتفنيد المزاعم والآمال المغلوطة بعد الضربة الأميركية لمطار الشعيرات العسكري في سورية، رداً على هجوم النظام بالغاز السام على مدينة خان شيخون منتصف العام الجاري، وهي الضربة التي اعتبرها بعضهم تعبيراً عن تغيير جذري في موقف إدارة الرئيس دونالد ترامب مقارنة بموقف سابقه باراك أوباما، وهو ما عزّزته تصريحات ومواقف أميركية لاحقة للضربة، سواء المعبرة عن نجاح الضربة في إخراج المطار عن الخدمة أو المعبرة عن نفاد الصبر الأميركي من بشار الأسد وإجرامه. لتنكشف الحقائق سريعاً بداية من خلال عودة المطار إلى الخدمة وللإجرام في غضون يومين فقط! الأمر الذي يعكس هامشية الضربة ومحدوديتها، خصوصاً إذا ما أخذ في الاعتبار بطء النظام السوري وبيروقراطيته في التعامل مع التبعات الميدانية لأي خلل، طبيعيا كان أو مفتعلا، حيث يحتاج تبديل مصباح ضوئي أكثر من أسبوعين في ظل نظام الأسد. كما طالعتنا التقارير والأخبار المسربة من الإدارتين، الأميركية والروسية، عن شكلية الضربة وهزالها بعد الكشف عن إلغاء طابعها المفاجئ، في إطلاع القيادة الروسية على جميع تفاصيلها قبل حدوثها بمدة كافية لإطلاع نظام الأسد عليها، ولترتيب الأوضاع داخل المطار، ما يحد من حجم الخسائر، ومن تأثيراتها المستقبلية.
وبالتالي، باتت للضربة اعتبارات أميركية منفصلة عن الموقف الأميركي تجاه سورية، ما يعبر عن تماثل وتطابق في الأداء تجاه سورية بين الإدارتين الأميركيتين، السابقة والحالية. وفي هذا رد على بعض الأوهام المعبرة عن استقراء حدوث تدخلٍ أميركي واضح وحاسم في المسألة السورية، ما يتيح المجال إلى الالتفات نحو المبالغين في قراءة التفويض الأميركي للروس بحل المسألة السورية. وهو تفويضٌ قد يعتبره بعضهم بمثابة صك انتداب جديد، يعكس إعادة توزيع مناطق النفوذ والسيطرة بين الأقطاب الإمبريالية والاستعمارية، ما يقود إلى خلل في فهم التوافقات والصراعات الدولية إجمالاً.
لا بد من تحديد حجم التفويض الأميركي وطبيعته بدقة، لفهم أسبابه ومعانيه. فمن ناحيةٍ، تزامن التفويض السياسي والتراجع الأميركي سياسياً في سورية مع الوجود العسكري الأميركي المباشر والعلني داخل سورية، فضلاً عن دعم وسيطرة وتحكم أميركي بالقوات الكردية المعروفة باسم قوات سورية الديمقراطية (قسد)، ما يشير إلى حجم النفوذ والتحكم الأميركي المباشر في سورية، والمدعوم بنفوذ وتحكم أميركي غير مباشر، عبر ربط أميركي لأهم القوى والجهات الإقليمية الفاعلة في سورية، بداية بدول الخليج العربي، وليس انتهاء بتركيا، أو حتى إيران اللتين تعيشان علاقة مع أميركا مليئة بالتناقضات والتناحرات والتوافقات. وبالطبع من دون تناسي التحكّم الأميركي في ملفاتٍ عديدة مهمة للروس كذلك. كما لا بد من التمييز بين الاتفاقات الدولية العلنية أو السرية من أجل توزيع مواقع السيطرة والنفوذ وتقاسمها والتفويض الأميركي للروس في الشأن السوري، حيث يغرد التفويض خارج سرب الخلافات الأميركية الروسية العديدة في القضايا الدولية، ما يعبر عن استمرار الصراع والتناقض بينهما، كما يعبر عن عدم شمول التفويض عملية توزيع السيطرة وتقاسمها بين الإمبرياليتين، الأميركية والروسية.
وعليه، يمكن القول إن الأميركان لم ينطلقوا، في تفويضهم الروس لحل المسألة السورية، من هامشية هذه المسألة، ومن عدم مبالاة بمسار الوضع السوري، أو جزء من اتفاق روسي أميركي على مجمل القضايا الدولية، بل انطلاقاً من إدراك عجزهم الذاتي في التحكم بمجمل المسائل والقضايا الدولية، لا سيما بعد الأزمة المالية العالمية، والأميركية خصوصاً، ما دفع الولايات المتحدة إلى الحفاظ على أوراق قوة مباشرة وغير مباشرة في سورية، من أجل الحد من قوة روسيا ونفوذها داخل سورية التي قد تتحول إلى قدرة وقوة إقليمية، بأقل التكاليف الممكنة، فضلاً عن الرغبة الأميركية في استثمار الحاجة الروسية لاسترجاع نفوذها في سورية من أجل تحقيق مكاسب دولية في بعض المسائل الدولية، لا سيما في موضوع العلاقة مع الاتحاد الأوروبي والمسألة الأوكرانية.
إذا، ينطلق التراجع أو الابتعاد الأميركي عن المسار السياسي المعني بالمسألة السورية من رغبة أميركية في إدارة مصادر قوتها ونفوذها نحو المناطق الأكثر أهميةً وتأثيرا على مصالح الولايات المتحدة، على الرغم من التأثيرات السورية على بعض المصالح الأميركية الاستراتيجية، كأمن الابن الأميركي غير الشرعي واستقراره، أي الكيان الصهيوني، وتبعات المسألة السورية على مجمل منطقة الخليج العربي التي ما زالت الإدارات الأميركية المتعدّدة تعبر عن أهميتها وتأثيرها على مجمل المصالح الأميركية، كما ترتبط المسألة السورية بمصالح قوى إقليمية حليفة تاريخيا للولايات المتحدة مثل تركيا، على الرغم من حجم التباعد والتناحر الحالي بينهما. وأخيراً ترغب الولايات المتحدة في استخدام الورقة السورية، لابتزاز الروس وبعض القوى الإقليمية بشأن باقي المسائل الدولية الأكثر أهمية للسياسة الأميركية.
لذا لا بد من الانطلاق، في فهم مجمل العلاقات الدولية الراهنة، من إدراك حجم التناقضات والتصارعات والخلافات الدولية في الوقت الراهن، حيث تدور الخلافات الدولية على حجم مصالح كل منها وطبيعتها، من دون أي اعتبار لمصالح شعوب العالم إجمالاً، والشعب السوري خصوصاً، الأمر الذي يجب إدراكه جيداً للانطلاق من هذا الواقع العالمي، ومن واقع الثورة السورية محلياً، من أجل بلورة حركة وطنية سورية، تلبي مطامح السوريين، وتحقق أهداف ثورتهم، بعيداً عن التعلق بالأوهام الدولية، الأميركية وغيرها.
عندما تمتد الأزمات والصراعات تتصدع تحالفاتُها الأوليّة. تتشكّل خرائط مصالح جديدة، وتتآكل أخرى. ومن يتأخر عن اللحاق بالتحوُّلات والحقائق الجديدة على الأرض، يُترَك. لا عواطفَ في الأمر، ولا فسحة من الوقت لدى الحلفاء المتقدمين للوقوف، وانتظار وصول الصديق المتأخر.
أنهى جنرالات روسيا الاتحادية مهمتهم في سوريا. روسيا باتت قريبة جداً من الوصول إلى السيناريو الأمثل الذي كانت موسكو تتوخاه. ومجمل أهداف فلاديمير بوتين الاستراتيجية تحققت بنجاح؛ أعاد الرجل الاعتبار لمكانة روسيا الدولية. نجح في مواجهة الولايات المتحدة. حصّن الموقع الجيوسياسي لروسيا، وتوّج إنجازاتها الجيوعسكرية في جورجيا عام 2008، وأوكرانيا في 2014، بمناطق نفوذ مستدامة في الشرق الأوسط، وعلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط. تحقق أخيراً طموح روسيا الاستراتيجي القديم. شعبية الرئيس بوتين، وقوته في الداخل الروسي، لم تعُد موضع شكّ.
استراتيجياً، باتت المعادلة واضحة: أمن البحر المتوسط مقابل أمن البحر الأسود. ومحاولات الاحتواء الأميركية السابقة، سواء الاقتراب الجيوعسكري من حوض البحر الأسود، أو نشر الدرع الصاروخية في القوقاز وتركيا، كلُّها باتت بلا مفاعيل حقيقية. يُفاخر الرئيس بوتين اليوم بأنّه أبعد شبح «الإرهاب» عن المحيط الأمني الروسي، وتعاملَ مع الإرهابيين القادمين إلى سوريا من جمهورية الشيشان، والدول الأعضاء في رابطة الدول المستقلة، بعيداً عن الأرض الروسية.
الاقتصاد الروسي أيضاً مدينٌ للرئيس بوتين، وجنرالاته؛ شجّعت مكاسب روسيا الاستراتيجية دولاً كثيرة في الشرق الأوسط، وأماكن أخرى من العالم، على التقارب والتحالف مع موسكو. زاد نفوذ روسيا في المنطقة، وتعاظمت فرصها الاقتصادية. استعراض القوة العسكرية الروسية، واختبار الأسلحة الروسية الجديدة، لم يذهب أدراج الرياح؛ صفقات الأسلحة بدأت تتوالى على موسكو. وبات من الممكن التحكُّم باحتياطات الغاز الضخمة في شرق المتوسط، بما يحمي أسعار الغاز الروسي في السوق العالمية.
في الإطار المحلي السوري، حقَّق التدخل الروسي مقداراً من الاستقرار للنظام السوري، بما يُفضي إلى إجبار المعارضة على القبول بالحلّ السياسي، وفق الرؤية الروسية. واستتباعُ سوريا، بغض النظر عمَّن سيحكُمها، لتسهيل تحقيق الأهداف السابقة، باتَ في متناول اليد.
في الجانب الآخر، تُواجهُ إيران ووكلاؤها من الميليشيات الطائفية، وهم الحليف الثاني للنظام السوري، كثيراً من المشكلات في تثبيت أيّة مكاسب استراتيجية لهم في سوريا، فلا تزال هناك شكوك حول قدرة إيران على فرض نفوذ طويل الأمد لها في سوريا. هناك موقف أميركي، وعربي، وإسرائيلي، وشعبي سوري، مناهض لتثبيت هذا النفوذ.
يدرك الرئيس بوتين، وجنرالاته الكبار، أنّ تحقُّق السيناريوهات المُثلى مَحْض ومضةٍ تاريخيّة عمرُها قصير جدّاً. فرصةٌ يتعيّنُ اقتناصُها، أو خسرانُها. ليس في الأمر مُتَّسع لانتظار وصول الشريك المتأخر عن قاطرة الأهداف الاستراتيجية، لا بُدّ من المضي قدماً في تثبيت المكاسب. والانتقال إلى حل سياسي سريع. صفةُ الاستعجال هنا ضرورية، فروسيا لا يمكنها أن تأمن جانب الولايات المتحدة، لناحية قيام الأخيرة بعمل قد يفضي إلى تغيير الوضع القائم. وهناك طبول مواجهات متعدّدة، خشنة وناعمة، تُقرع في المنطقة. من الأنسب لروسيا الخروج بحل سياسي قبل اندلاع مواجهة محتملة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وإيران ووكلائها من جهة أخرى.
تريد موسكو ضمان قبول إيران بالحل السياسي، وتلزيمها بمحتواه. لكنّ مشروع إيران في المنطقة يتغذى من استمرار الفوضى. لا مصلحة لطهران في الحل قبل تثبيت قدميها على الأرض السورية. يُذكِّر القادة الأمنيون في طهران الحليفَ الروسي بـ«تضحياتهم». تذكيرٌ أشبه بنداء استغاثة، يقول أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني: «علينا ألا ننسى أن الأزمة بدأت في عام 2011، والتدخل الروسي جاء في 2015. أما إيران ومحور المقاومة، فكانا حاضرين طيلة تلك المدة». بات واضحاً أن أبرز ما يعرقل تحقُّق الحل السياسي في سوريا اليوم، هو حضور الميليشيات المتحالفة مع طهران، والمحاولات الإيرانية للهيمنة على قرار النظام السوري. وبات واضحاً أن روسيا أحوج ما تكون اليوم للحل. فهل يفترق المتحالفون؟
القرار الأمريكي حول القدس لا يمثل عدوانا سافرا على المدينة وتاريخها، وحاضرها ومستقبلها فحسب، بل يشكل صفعة من العيار الثقيل لحلفاء واشنطن في المنطقة الموصوفين بأعداء أو خصوم إيران.
وستكون لهذا القرار تداعيات وارتدادات جيواستراتيجية، منها ما يرفع شأن طهران ويزيد من نفوذها المتصاعد أصلا في الإقليم والمنطقة، وفي المقابل يهوي بشأن خصومها إلى الهاوية، بعد أن وصل تحالفهم مع الولايات المتحدة الأمريكية إلى مرحلة في غاية الخطورة، تمس العالمين العربي والإسلامي في معتقداته وتاريخه وحضارته.
ولم تعد تسعفهم "الشماعة الإيرانية" التي يتم توظيفها في التغطية على الفشل وأهداف شخصية وتبرير عملية التطبيع، وليس في مواجهة ما يعتبرونه الخطر الإيراني.
لا شك في أن الموقف الأمريكي الجديد حول القدس يشفع لقراءة إيران حول مجمل الأوضاع في المنطقة منذ عام 2011، التي سمعناها مرارا وتكرارا، وهذا ما يركز عليه الإعلام الإيراني المحلي والخارجي هذه الأيام، إذ يرى في الموقف انتصارا لقرائتها هذه وسياساتها الإقليمية.
وهذا يخدم محورها ونفوذها، ما دفع "استيفان والت" استاذ جامعة هارفارد، يتساؤل مستغربا في تغريدة له، عن جدوى قرار نقل السفارة للقدس، وأنه كيف يقلّل من نفوذ إيران ويزيد من نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط؟
بطبيعة الحال، القرار والضعف العربي الرسمي في مواجهته، سيحقق مزيدا من التقارب بين إيران وفصائل المقاومة الفلسطينية، وحتى مع أحزاب وجماعات أخرى في العالمين العربي والإسلامي، تكّن العداء للكيان الصهيوني، أحدثت حوادث المنطقة شرخا كبيرا بينها وبين طهران.
لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك، بل أن القرار أيضا سيضع خصوم إيران في المنطقة في موقف لا يحسدون عليه، بعد أن أصبحوا يتلقون ضربات واحدة تلو الأخرى في ساحات عدة بسبب سياسة تغييب الشعوب ومحاربة قواها الفاعلة.
ميوعة موقف الدول والقوى العربية الوازنة، وعدم حسمه مقابل هذا الحدث الجلل، يضعها في موقف محرج أمام إيران التي ستسعى إلى توظيف ذلك في خدمة خطها الإقليمي وإسناده بموقفها المتقدم في الوقوف ضد القرار الأمريكي. هذا في حال لم نسلم لروايات الإعلام الغربي والإسرائيلي حول علم دول وقوى بالقرار ومشاركتها في صياغته، إما إن كانت تلك التقارير صحيحة فالمصيبة أعظم.
وفي هذا السياق، ومن الملفت والطريف تأكيد إيران اليوم على لسان وزير خارجيتها محمد جواد ظريف على "عروبة القدس" في تغريدة له على توييتر، التي حملت دلالات سياسية ورسائل لاذعة في كل حد وصوب، ذلك بعيد القرار العدواني الأمريكي بشأن هذه المدينة المقدسة، بينما مصر المعروفة بعاصمة العروبة، يتجنب رئيسها في أول ظهور إعلامي له بعد صدور القرار الأمريكي، أدنى إشارة للقدس.
فأسهب عبدالفتاح السيسي في حديثه في جلسة افتتاح منتدى رواد الأعمال بإفريقيا بشرم الشيخ، دون أي ذكر أو تلميح لهذا القرار، كأن الموضوع لا يعنيه ومصر، لا من بعيد ولا من قريب.
كما أن الموقف السعودي أيضا، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، لم يرتق إلى مستوى الحدث، فاكتفاء الرياض ببيان وتصريحات باهتة دون إجراء عملي، لا ينجسم مع الموقف التاريخي والمشرّف للملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز عام 1973، الذي قدم حياته لأجل القدس.
أقل ما يمكن أن تفعله السعودية، هو استدعاء السفير الأمريكي، كما فعل ذلك كل من العراق، وتونس والمغرب، وهو موقف يشكرون عليه، رغم أنه يلبي أدنى مطالب الشارع العربي والإسلامي اليوم فقط، أما بقاء الموقف السعودي بهذا المستوى فإن هذا يتعارض مع شرعية الجغرافيا التي تمثلها المملكة، إذ أن خلو بيانها وتصريحات مسؤوليها من أدنى إشارة لإسلامية الحرم الإسلامي الثالث، يعرضها لتساؤل منطقي أمام الرأي العام الإسلامي.
في مثل هذه النوازل التي تبتلى بها الأمة، الأنظار في الوهلة الأولى تتجه نحو السعودية وعلمائها بحكم الموقع الديني للمملكة، واحتضانها الحرمين الشريفين، قبل أي دولة أخرى. لكن المؤسف جدا أنه لم يحتل قرار ترامب بشأن القدس حيزا يستحقه في خطبة الجمعة اليوم 8 تشرين الأول في الحرمين الشريفين، بينما تصدّر الموضوع خطب الجمعة في العالم الإسلامي كافة، بما فيه إيران، وبينما أطلق كبار علماء الشيعة في المنطقة مواقف رافضة، لم نسمع ما يشفي الصدور ويسمن ويغني من الجوع من علماء السعودية.
وليس غريبا اليوم أن تركز إيران باعتبارها دولة إسلامية على عروبة القدس، ولكن الغريب هو هرولة قوى ودول في المنطقة العربية نحو التطبيع مع "إسرائيل"، والمسعى لإقناع الرئيس محمود عباس باستبدال أبوديس كعاصمة بالقدس، فلولا هذا الخذلان لما تجرأ الرئيس الأمريكي أن يقدم على فعلته الشنيعة هذه، وهذا ما زايد به وزير الخارجية الإيراني على خصوم بلده، بقوله أنه لو لا تلك السياسات الخاطئة لبعض الحكام في المنطقة لما كنا نواجه اليوم هذا الصلف الأمريكي الذي يحاول وعد من لا يملك لمن لايستحق، كما يقول.
لذلك مهما كانت الخلافات مع إيران على القضايا الإقليمية، فموقفها الداعم لفلسطين، محل تقدير، والمطلوب اليوم أن تتوحد كلمة الجميع مسلمين ومسيحيين في مواجهة العنجهية الترامبية لما تحمل القدس من رمزية لدى الكل، وفي حال ظل الإصرار على وضعية العداء، فذلك أيضا يستدعي من هذه القوى أقوى المواقف لنصرة القدس وفلسطين، وليس التخلي عن ذلك وترك الساحة.
الخلاصة أن الإدارة الأمريكية سحبت بقرار رئيسها حول القدس، البساط من تحت أقدام أعداء إيران، وزادت من أوراق الأخيرة الإقليمية، بعد أن قبرت بهذا القرار عملية التسوية والمبادرة العربية للسلام المرفوضة إيرانيا، وجعلت المقاومة الخيار الأوحد في مواجهة التحديات، فجملة هذه التطورات تُفقد خصوم إيران أوراقها واحدة تلو الأخرى، وتشكل فرصة ثمينة للمحور الإيراني لتغزيز نفوذه، وتحسين صورته المتضررة بفعل الأحداث في المنطقة، ولاسيما سوريا خلال الأعوام الماضية.
ثم على القوى المتحالفة مع الإدارة الأمريكية، والتي تتعرض لإهانات بهذه الطريقة الفجة، مراجعة سياساتها بعد استخلاص دروس وعبر من سلوك واشنطن وسياساتها الشرق أوسطية، التي بقدر ما حصدت منها هذه القوى الخيبات والفشل، حصت إيران الانجازات والنجاح بفعل تحرير سياساتها من المؤثر الأمريكي.
ولعل هنا من الجدير النظر إلى رسالة بعثها مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية "مايك بومبيو" إلى الجنرال الإيراني الأكثر نفوذا في المنطقة "قاسيم سليماني" قبل فترة، استجدى فيها الأخير عدم اقتراب القوات الإيرانية من القوات الأمريكية في العراق وسوريا، لكي لا يشكل ذلك حرجا للولايات المتحدة الأمريكية أمام العالم، بسبب عجز الأخيرة عن المواجهة، أقله في الوقت الحاضر.
فجاء رد سليماني الصاعق على الرسالة، بتجاهلها، وإعادتها عبر الوسيط دون أن يفتحها، وهذا ما اعترف به بومبيو بقوله إنه لم يحزن على ما فعله الجنرال سليماني.
توجد قوات "فيلق القدس" التابعة للحرس الثوري الإيراني على أصعب الجبهات، في سورية والعراق واليمن ولبنان، فقط لدينا استثناء صغير: القدس.
لقائد الفيلق، الجنرال قاسم سليماني، أساطير عديدة، كرسالته المتفاخرة إلى هاتف القائد الأميركي باتريوس، أو تركه رسالة اعتذار في منزل مهجور أقام فيه، وله ظهورات عديدة تمتد من حلب إلى الموصل إلى حمص، لكن كل أساطيره وظهوراته غابت عن مكان واحد: القدس.
يرفع الحوثيون في كل لحظة شعاراتهم "الموت الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود"، لكن هذا يحدث على كل حجر في اليمن، لا القدس. أما السيد مقتدى الصدر فقد دعا السعودية إلى "توجيه التحالف الإسلامي إلى القدس فوراً"، لكنه في المقابل لم يخبرنا لماذا لا توجه إيران تحالفها أيضاً إلى القدس؟
على الجانب الآخر، تحدث "خليفة المسلمين"، أبو بكر البغدادي، للمرة الأولى والأخيرة عن فلسطين في 2015، "قريباً باسم الله تسمعون دبيب المجرمين.. وستكون فلسطين مقبرة لكم"، لكن جيوشه وذئابه ظلت تضرب في كل مكان في العالم من فرنسا إلى بلجيكا، ومن أميركا إلى أستراليا، من دون أن تصل إلى القدس.
ينتهي إصدار لتنظيم القاعدة في اليمن بوعد القدس والأقصى بأننا "قادمون"، على الرغم من أن كل أحداث الإصدار تظهر أنهم قادمون إلى تعز أو البيضاء أو عدن، لكن بالتأكيد ليس القدس.
الظاهرة ليست جديدة. دعا معمر القذافي الحجاج المسلمين عام 2000 إلى الزحف نحو القدس، من دون أن يزحف هو معهم بالطبع. أنشأ صدام حسين أيضاً "جيش القدس" في 2001، ونظم استعراضات عسكرية مهيبة لآلاف الجنود الذين لم يحاربوا في القدس أبداً. ما أكثر رافعي قميص القضية. الوصفة سهلة: قُل فلسطين ثم وجه بندقيتك إلى أي اتجاه آخر. الطريق إلى القدس التفافي دائماً، يجب أن يمر عبر بغداد أو القاهرة أو دمشق، لكنه أبداً لا يتبع الطريق المستقيم بزعمهم.
سابقاً كان يُقال إنه لا شعب أو تنظيم يمكنه تحمل الكلفة الفادحة لصدام حقيقي مع إسرائيل، لكن اليوم في ضوء سقوط مئات آلاف القتلى وخراب الدول بالفعل، يتساءل المرء عن سبب الاستعداد لتقبل الثمن الهائل هنا بكل جنون وعبث، بينما يُرفع صوت العقل هناك.
قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس يأتي في إطار السياقات نفسها. صحيح أن السياسة، في التحليل الأخير، هي تعبير عن موازين القوى، والتي تشهد اختلالاً فادحاً بين كل الدول العربية والولايات المتحدة وإسرائيل، وذلك يشمل القوى العلمية والاقتصادية أيضاً، لكن على جانب آخر مازال بيد جانبنا أوراق ضغط ليست هينة. لكن هذه الأوراق تصاب بالشلل، إذا كان المتحكّم بها يدين بسلطته لأسباب أخرى غير شعبه، أو للخوف من عدو أقرب. هكذا تتردد بلا توقف عبارة "كذا أخطر من إسرائيل"، وهذا الـ "كذا" قد يكون الطائفة المقابلة (الشيعة أو السنة)، أو الدولة المنافسة (السعودية أو إيران)، أو المعارضة السياسية الداخلية، وهكذا تنشغل كل فيالق القدس بأولويات أخرى غير القدس.
ذات يوم، كانت لدينا بذرة لفيالق قدس مختلفة. شباب الربيع العربي الذين تواصلوا من دون تخطيط، وتوحدت مشاعرهم من دون أوامر فوقية وقرارات رئاسية. كان الشباب المصري والسوري واليمني والتونسي يتضامنون ويحلمون. وشهدت مصر في 2011 مظاهراتٍ أدت إلى غلق السفارة الإسرائيلية وغياب السفير عن مصر بعدها نحو أربع سنوات.
كان حلم الديموقراطية العربية كفيلاً بإشراك الشعوب في إيجاد حلول أو أوراق ضغط يُدفع ثمنها تشاركياً، وكانت قدسية الإنسان ستطغى على قدسية الجمادات والشعارات. المنظومة متكاملة ومترابطة، يؤدي الاستبداد إلى الفساد والضعف الاقتصادي والعلمي والعسكري، وبالتالي الضعف السياسي، والعكس صحيح.
وإذا كنا وصلنا إلى هذه المرحلة الفجة من عبث فيالق القدس الرسمية، فهذا دافع أكبر للتمسك بفيالقنا الشعبية، ومحاولة بث الروح فيها، على الرغم من الهزيمة الأليمة للربيع.
وإذا كانت طرق القدس التفافية حقاً، فهي يجب أن تمر عبر الديموقراطية والكرامة الإنسانية. هذا هو طريق فيالق قدسنا الخاصة.
سيكون من السذاجة الاعتقاد أن لبنان عاد إلى ما قبل الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، يوم أعلن رئيس الوزراء سعد الحريري من الرياض استقالته، وذلك بمجرد عودة الحريري عن هذه الاستقالة.
بذلك نكون أمام افتراض يجعل الاستقالة بحد ذاتها هي الأزمة وليست تعبيراً عن أزمة وطنية مستمرة أدت إلى الاستقالة، وتجعل المأزوم هو الحريري بشخصه المعنوي والسياسي وليس لبنان كوطن ودولة بعلاقاته بالعالم.
وبذلك نحوّل «قرار النأي بالنفس» الذي أصدره مجلس الوزراء ونص على «التزام الحكومة اللبنانية بكل مكوناتها السياسية النأي بنفسها عن أي نزاعات أو صراعات أو حروب أو عن الشؤون الداخلية للدول العربية»، إلى مجرد مخرج لغوي لأزمة، لم تنتهِ بقدر ما أنها دخلت طوراً جديداً.
ولكن ماذا في القرار سوى كلام سبق أن قيل بأشكال أخرى ولم يلتزم «حزب الله» به؟ هل نذكر القرارات الدولية منذ القرار 1559 وصولاً إلى القرار 1701 مروراً بقرار إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، مضافاً إلى كل ذلك عشرات البيانات والإعلانات والقرارات السياسية، ونصوص الاتفاقيات، والتفاهمات؟ هنا أيضاً سيكون من السذاجة الاعتقاد أن أسطراً عشرة أعادت تدوير كلام سابق بصيغة قرار وزاري ستحمي لبنان في الحد الأدنى من تبعات مسألة «حزب الله»، دعك عن عجز الأسطر الأكيد عن معالجة هذه المسألة!
فالخطر الذي يواجهه لبنان وتواجهه المنطقة، ممثلاً باستنفار الدور الإيراني التخريبي عبر ميليشيات وعصابات شديدة البأس، عبّر عن نفسه عشية اتفاق اللبنانيين بجثة الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح. هل ننتبه أن صالح هو ثالث رئيس عربي تصفيه ميليشيات الولي الفقيه؟ ألم يُعدم صدام حسين، على يد عصابة جيش المهدي فجر عيد الأضحى وعلى وقع هتافات مذهبية، بددت كل المسار القضائي المحاكماتي الذي رجاه العراقيون والعالم معهم لطي صفحة عراق صدام وافتتاح صفحة عراق جديد؟ ألم تقتل عصابات طهران الرئيس رفيق الحريري في قلب بيروت في اللحظة التي بدأ فيها الرجل متهيئاً لأن يزيد جرعة استقلال لبنان عن المحور السوري الإيراني؟
الحريري، صدام، صالح، ثلاثة رؤساء عرب، يفترقون في كل شيء تقريباً، ويلتقون عند كونهم ضحايا مباشرين لعسف الميليشيات التي تربيها وتمولها وتسلحها وتأمرها دولة الولي الفقيه.
خطر بهذا الحجم لا يواجهه قرار وزاري ما لم يقترن بإقرار آليات تنفيذية لبنانية ضمن خطة إقليمية ودولية لمحاصرة «حزب الله» وتطويعه.
فتطبيق النأي بالنفس يعني ضبط الحدود اللبنانية والسورية لمنع تهريب أي أسلحة ثقيلة أو متوسطة أو مقاتلين، والتفاهم مع «حزب الله» على جدول زمني قصير ومحكم لسحب قواته من هناك والاكتفاء بتزويده ما يلزم لهذا الغرض فقط وبإشراف مخابرات الجيش اللبناني ومراقبين دوليين إن أمكن. وتطبيق النأي بالنفس يعني استعادة السيادة اللبنانية كاملة على مطار رفيق الحريري الدولي ومرفأ بيروت وتحريرهما من خروقات «حزب الله» التي أوضح تفاصيلها غير مسؤول لبناني.
من الطبيعي الافتراض أن التوازن السياسي والأمني في لبنان لا يسمح للحكومة وحدها أن تقوم بهذا الأمر. من هنا ضرورة وضع إطار إقليمي دولي لتحييد لبنان تقوده المجموعة العربية بقيادة السعودية وبالشراكة مع فرنسا والولايات المتحدة، بالاستناد إلى المشروع الباهر الذي كان يعمل عليه الوزير الشهيد محمد شطح، وتصدف ذكراه الرابعة بعد أسابيع قليلة.
قام مشروع شطح على تحييد لبنان بموجب قرارات أممية تصدر تحت الفصل السابع، لا تقوم فقط على إلزام لبنان بالنأي بنفسه عن أزمات المنطقة، بل تلزم اللاعبين الدوليين بحياد لبنان والامتناع عن استخدامه في سياسة «الحروب بالوكالة»، تحت طائلة التعرض لعقوبات محددة.
بيان وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بعد أيام من استقالة الحريري حذر بوضوح من التلاعب بلبنان على هذا النحو، وقد آن الأوان لتحويل هذا التحذير إلى سياسة دولية تجاه لبنان، تقوم على ضمان مصالح اللبنانيين والعرب.
من الواضح أن لفرنسا والولايات المتحدة مصالح استراتيجية في لبنان واستقراره. ففرنسا عبر شركة «توتال»، جزء من كونسورتيوم ثلاثي يضم «إيني» الإيطالية و«نوفاتيك» الروسية، مهتم بالحصول على تراخيص التنقيب عن الغاز والنفط على الشواطئ اللبنانية.
إلى ذلك، للولايات المتحدة وفرنسا نظرة أكثر استراتيجية تتصل باستقرار لبنان بوصفه أكبر مخيم للاجئين السوريين على بوابات أوروبا. فسلام وازدهار أوروبا ووحدتها، وهي الأقانيم الثلاثة لهندسة الأمن عبر ضفتي الأطلسي ما بعد الحرب العالمية الثانية، باتت مهددة اليوم بسبب أزمات المهاجرين والانتكاسات الاقتصادية واستيقاظ الهويات الفرعية الانفصالية وصعود القوميات التنافسية التي أشعلت حربين عالميتين خلال النصف الأول من القرن العشرين. هذا التهديد الاستراتيجي تفاقمه أي انتكاسة في لبنان ترمي لاجئيه السوريين في المتوسط نحو أوروبا.
من هنا الحاجة إلى تفاهم حقيقي لبناني عربي دولي، يجعل من استقرار لبنان عاملاً من عوامل الاستقرار في المنطقة، ولا يبقي لبنان المستقر شرطاً لاضطراب المنطقة. لبنان الأول دولة يستحق شعبها أن يعيش بسلام. لبنان الثاني غرفة عمليات لـ«حزب الله» لا يملك أحد شهية الدفاع عن سلامتها.
في بعض الأحيان، يخيّل إلي أن هناك قوة خفية وسحرية، قوة غالبة لا تقهر، تقف خلف النظام الإيراني، تحرسه وتسدد خطاه، وتدفعه دوما للأمام، لتحقيق المكاسب والانتصارات، بغض النظّر عما يقوم به أو يفعله، حتى وإن بدا أنّه يغرق، أو في كثير من الأحيان يخسر.
إذا ما أردنا تجسيد هذه القدرة أو القوّة في مصطلح لغوي، لا أعتقد بأنّنا سنجد مصطلحا أكثر ملاءمة في وصف هذه الحالة من مصطلح "الغباء".
غباء خصوم إيران هو أقوى الأسلحة الاستراتيجية التي يستمد النظام الإيراني منها قوته في المنطقة، وهو سلاح فتّاك لا يكلّفه أي شيء على الإطلاق.
ينجم عن هذا السلاح بصفة شبه دائمة ومستمرة تقييم خاطئ لواقع الحال، وإجراء خاطئ لمعالجة الوضع الذي ينجم عن التقييم، وقرارات خاطئة للدفاع عن الإجراءات الخاطئة السابقة، ولا تصبّ نتائج كل هذا العبث في النهاية إلا في صالح إيران.
هناك من يعتقد بالفعل أن خصوم إيران يعملون في حقيقة الأمر لصالحها! وسواء كان ذلك استهزاء كما فعل تريتا بارسي، - رأس حربة اللوبي الإيراني في واشنطن- عندما قال ما معناه ان من يتابع أفعال ترامب وولي عهد السعودية محمد بن سلمان يعتقد أنهما يعملان سرا لإيران، أو كان ذلك نابعا من تقييم حقيقي لنتائج قرارات هذه الأطراف على الأرض، لا فرق، فهو يصب في نفس الخانة في نهاية المطاف.
بالرغم من كل التنازلات التي قدّمتها إدارة أوباما للنظام الإيراني والتي أتاحت له السيطرة بشكل تام على أربع عواصم عربية، فقد كانت طهران وضع مزر جدا مع نهاية العام الماضي، على الأقل لناحية شعبيتها ومصداقيتها وشرعية تمددّها وسيطرتها.
لكن ومنذ مجيء ترامب في بداية العام والتحالف العلني بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، وإيران تحصد الانتصارات الإقليمية المجانيّة دون أدنى مجهود منها.
الأزمة المفتعلة مع قطر، أدّت إلى تحوّل كبير على الصعيد الإقليمي، وأتاحت لإيران أن تقدّم نفسها كشريان حياة ومخلّص.
ليس هذا فقط، بل إن الأزمة ذهبت أبعد من ذلك، لتفتيت وحدة الخليج، وتعطّل مجلس التعاون، إن لم نقل تدفنه، منهية بذلك أي قدرة جماعية للخليج للعمل على تحقيق التوازن مع إيران.
حصلت إيران على ذلك مجانا دون أي مقابل، وما كادت فصول هذه الأزمة تُفتح على نقاش للبحث عن حلول إلا وقامت السعودية بفتح أزمة جديدة على الجبهة اللبنانية دون سابق إنذار.
أدى إجبار الزعيم السني هناك إلى إعلان استقالته من الرياض إلى تآكل مصداقيته، وشعرت شريحة من السنّة بالإهانة والهوان، ومرة أخرى سمح ذلك لمليشيات إيران بالادعاء بأنهم في موقع الدفاع عن رئيس الوزراء السنّي، وانتهت الأزمة بفضيحة للمملكة بعد تدخل باريس وواشنطن وتحوّلت نتائج هذه الأزمة المفتعلة في النهاية إلى صالح حزب الله وإيران بعد تراجع الحريري عن استقالته.
أمّا في اليمن، فقد قاتل علي عبدالله صالح، رجل السعودية السابق، إلى جانب الحوثيين لثلاث سنوات تقريبا ضد المملكة والإمارات، وما أن أقنعوه أو ابتزّوه للإنقلاب على الحوثيين حتى مات بعد يومين فقط! ماذا قدموا له؟ ماذا كانت استراتيجيتهم؟ لا شيء.
مجرّد تغريدات ونشرات وتطبيل اعلامي مع استبدال لقبه من الرئيس المخلوع إلى الرئيس السابق. هناك إجماع الآن على أن الوضع في اليمن أصبح أصعب، وهذا يعني أن السعودية ستدفع المزيد من التكاليف هناك، وأن إيران تتقدّم مرّة أخرى.
آخر فصول المهزلة، قرار ترامب إعلان القدس عاصمة لإسرائيل. لا يوجد أدنى شك بأن السعودية والإمارات وربما عدد آخر من الدول مثل مصر كانت على علم تام بتفاصيل هذه الخطوة.
لم يكن هناك تقريبا أي رد فعل حقيقي لهذه الدول التي لطالما انتفضت على مواضيع تافهة مؤخرا، وعندما اشتد الضغط الإعلامي، أصدروا بيانات من دون طعم أو رائحة أو لون وحاولوا الترويج لها على أنها رد قوي.
من استفاد من هذا القرار؟ إذا ما استثنينا إسرائيل، فإن المستفيد الأول من القرار هو إيران التي تروج الآن على أنها المدافع عن المقدسات وفلسطين وحامي الحمى، فيما وزير الدولة لشؤون الخارجية في هذه الدولة او تلك، يشتكي من استغلال القضية الفلسطينية من أطراف خارجية!
من يترك فراغا بإرادته أو بغبائه فعليه أن لا يلوم الآخرين على ملئه، وعليه أن يتحمّل نتائج ذلك أو أن يعود إلى رشده.
لا أحد يمكنه تقدير مدى الانسحاب الروسي من سورية، وحجمه، وهو الذي أعلن عنه رئيس الأركان، فاليري غيراسيموف، ذلك أن روسيا سبق وأعلنت مرتين سابقتين عزمها الانسحاب ولم يحصل، بيد أن مؤشرات عديدة تجمعت تجعل تصديق هذا الأمر ممكناً، كما أن طرح هذه المسألة في هذا الوقت بالتحديد، وإن لم ينته بانسحاب روسيا فعلياً، هو رسالة منها أنها ليست مهتمة بكامل سورية.
ثمّة أسباب كثيرة تدفع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى اتخاذ هذا القرار، خصوصاً أنه ثبت أن الكرملين، وعلى عكس مما ورد في تحليلات وتقديرات كثيرة، كان قد درس كل خطوة بعناية واهتمام وتدقيق واسع، بل بالغ في الحسابات أحياناً، على الرغم من الجرأة التي ظهر عليها، وعلى الرغم من أن الأمور في سورية كادت أن تنزلق في محطات كثيرة نحو صراع إقليمي ودولي كبير.
ولعل من أهم الأسباب أن بوتين صنع ما يعتقد أنها مهمة كبيرة جداً، وهي تثبيت حليفه في الحكم وإنهاك قوى المعارضة، وربطه الكثير من المكونات العسكرية والسياسية السورية المعارضة بعلاقات مع موسكو، وهذا الوضع يطمئنه إلى استحالة ظهور تهديدات محتملة ضد النظام، أقله في المديين القريب والمتوسط، بعد ان استخدم سياسة تجميد الصراع، وتحويل الفعالية والمبادرة إلى مقلب نظام الأسد وحلفائه، كما أن بوتين ضمن قطع خطوط الإمداد الخارجية للمعارضة، وأصبح من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إعادة الديناميات السابقة إلى وضعها.
ومن بين الأسباب الدافعة لانسحاب روسيا إدراك قياداتها أن البقاء في سورية سيرتب عليهم تكاليف وأعباء لا داعي لها، أو بمنطق الحسابات السياسية والاقتصادية غير مجدية، بعد أن أمنت روسيا قواعدها في الساحل السوري وسيطرة شركاتها على حصص النفط والغاز، كما أن سورية ستكون بحاجة لإعادة إعمار، وربما يدفع بقاء روسيا أطرافاً دولية وإقليمية كثيرة إلى الامتناع عن المساهمة في تمويل إعادة الإعمار، وهذا من شأنه إحراج روسيا سياسياً وتوريطها بالتزاماتٍ لا تقدر عليها، بالإضافة إلى أن روسيا تسعى إلى إدخال الأمم المتحدة، بالشروط الروسية طبعاً، لكن ذلك من شأنه إظهارها عاملاً مساعداً في صنع السلام، وطرفاً فاعلاً في النظام الدولي.
بيد أن أحد أهم الأسباب التي تدفع روسيا إلى اتخاذ هذه الخطوة قناعتها، وربما وجود معطيات لديها، عن احتمال نشوب صراع إقليمي، لا تريد أن تكون طرفاً فيه، خصوصاً أن قدرتها في التأثير على أطرافه منخفضة، وهي ترى وتسمع طبول الحرب تقرع بين إسرائيل وإيران، كما راقبت روسيا تعقّد الأزمة إقليمياً، ونفاذ جميع فرص الحل، وما يهمها أن تبقى الحرب بعيدة عن قواعدها ومصالحها الإستراتيجية. وفي هذا الإطار، هي مطمئنة على نظام الأسد، لأنه العنوان الوحيد الذي تتفق عليه إيران وإسرائيل وأميركا، تجنباً لما تقول تقديراتهم، حصول الفوضى جرّاء رحيله.
باتت إيران متشجّعة لتقليص الوجود الروسي، وانكفائه إلى الساحل السوري، بعد أن أنجزت المهمة، وزالت المخاطر المحدقة، ولعل كلام المسؤولين الإيرانيين عن عزمهم تحرير الرقة وإدلب، على الرغم من أنهما تدخلان في معادلات إقليمية ودولية، شاركت روسيا في صنعها، دليل على أن إيران تسعى إلى صياغة معادلات جديدة لمرحلة ما بعد السيطرة الروسية، وتثبيت ركائز السيطرة الإيرانية.
وتتوجّس إيران من احتمالات إقدام روسيا على عقد صفقاتٍ على حساب المصالح الإيرانية في سورية، سواء مع تركيا أو إسرائيل وأميركا، بغرض المقايضة على ملفاتٍ تهم روسيا في أوكرانيا، أو فيما يخص العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية.
لا يختلف هذا السيناريو، في حال تحقّقه، عن السلوك الأميركي في العراق وأفغانستان، حين دمّرت القوّة الأميركية القوى المعادية لإيران، وسلمتها البلدين على طبق من فضة، مع فارق بسيط، هو أن إيران في سورية جهّزت بنية قوية على مدار سنوات من الصراع، وباتت لديها جيوش وقواعد وخطوط إمداد علنية، في بلدٍ بات أغلب سكانه بين نازح ومهاجر ومعتقل ومخفي، ولا يملكون ما يسد رمقهم لليوم التالي. وصار تأمين خبز الوجبة التالية أكبر همهم، فيما إيران تغدق على مقاتليها ومناصريها الأموال الطائلة، ليتفرغوا لإخضاع السوريين، والسيطرة على بلادهم.
ومن نكد الدنيا على السوريين أنهم باتوا يركنون إلى الرهانات، بعد أن قطع الصديق والشقيق كل أسباب الدعم عنهم، وتركهم في مواجهة قوىً لا ترحم، والرهان اليوم على أن تنقلب المقادير، وتأتي الرياح بحربٍ إقليمية تغير الواقع، وتنسفه من جذوره وتعيد المعادلات إلى ما كانت عليه، أو أن تضغط أميركا باتجاه إخراج إيران من سورية، ألم يقل الأميركيون أنهم بصدد تصميم استراتيجية مواجهة لإيران في سورية؟.
لكن تجاربنا في التاريخ المعاصر تكشف خُدَعَ مثل تلك الرهانات، فالحروب الكلاسيكية صارت أمراً بعيد الحصول، بدليل أن أميركا منذ سنوات تحارب بطائرات الدرون والعمليات الخاصة والوكلاء، وإسرائيل تتبع نمط الضربات الجراحية، ولدى إيران قدرة هائلة على التظاهر بالتراجع أمام الخصم وعدم منحه المبرر الكافي لشن الحروب عليها، أكثر من مئة غارة إسرائيلية على حزب الله والأسد لم تلاقِ الاهتمام والرد.
وبعد، السوريون لن يكونوا إلا همّاً عربياً، وإن نامت الأمة، فمن يستيقظ لنصرتهم.. يا ملح الأرض؟.
من الظلم الشديد أن نصف «الرأي العام» بالبغل، كما يفعل بعض العاملين في الإعلام. ففي ذلك إساءة بالغة ليس للرأي العام، بل للبغل، فمن المعروف أن البغل، ابن الحمار والفرس، حيوان مشهور بالعناد وكبر الرأس وصعوبة المراس، أي أنه ليس من السهل التحكم به وقيادته حيث تريد، فغالباً ما يحرن بسرعة، وفي أحيان كثيرةً يركل صاحبه ركلات موجعة ودامية. وكل هذه الصفات البغلية ليست من خصال الإنسان.
وإذا أراد أحدكم التعرف على سهولة التحكم بالناس وسوقهم كقطعان فعليكم بكتابي «سيكولوجية الجماهير» للمفكر الفرنسي الشهير غوستاف لوبون، وكتاب «بروبوغاندا» للداهية الأمريكي الشهير إيدوارد بيرنيس. وبالمناسبة كلا الكتابين كانا الكتابين المفضلين للزعيم النازي أدولف هتلر ووزير إعلامه الشهير جوزيف غوبلز. فقد كان هتلر يضع الكتابين المذكورين وراء مكتبه لشدة تعلقه بهما.
لقد كشف لنا لوبون في كتابه كيف بإمكانك التحكم بالحشود في الشوارع، وكيف بإمكانك سوقها حيث تريد ببساطة متناهية. وجاء بيرنيس ليؤطر ذلك إعلامياً من خلال كتابه الشهير الذي أصبح المرجع الأول والأخير لوسائل الإعلام الأمريكية خاصة، والغربية عامة. ولا ننسى أيضاً كتاب «المتلاعبون بالعقول» لهيربيرت شيلر».
الكثير منا يعتقد أن الديمقراطيات الغربية محكومة بالرأي العام، وأن الحكومات هناك لا تستطيع أن تقوم بشيء إلا إذا كان الرأي العام موافقاً وقابلاً بالسياسات والاستراتيجيات المطروحة. وهذه طبعاً كذبة كبيرة لا أساس لها من الصحة. فالأصل ليس رأي الشعب، بل من يصنع رأي الشعب، ويوجهه في الاتجاه الذي يريد. وقد سخر أحد الإعلاميين قبل فترة عندما برر أحد المتحدثين تقاعس الرئيس الأمريكي على مدى أكثر من عامين عن القيام بإجراء حازم ضد النظام السوري بأنه نتيجة لرفض الرأي العام الأمريكي لأي حروب أمريكية خارجية جديدة بعد أفغانستان والعراق. ليس صحيحاً أبداً أن الإدارة الأمريكية تخشى ردة فعل الشعب فيما لو كانت تريد القيام بإجراء عسكري ضد النظام السوري، بل هي في هذه الحالة، كما يقول معارضوها من الصقور، تبرر تقاعسها وترددها بإلقاء اللوم على الشارع الأمريكي. وهي كاذبة في ذلك حسب رأيهم، فمن عادة الحكومات الديمقراطية وغير الديمقراطية أن تفعل ما تريد عندما يكون لها مصلحة في تحرك ما، وعندما لا يكون لها مصلحة تبرر صمتها بأكذوبة الرأي العام.
من أسهل ما يكون أن تصنع رأياً عاماً في الديمقراطيات الغربية، خاصة في الزمن المعاصر حيث أصبحت وسائل الإعلام السلطة الأولى وليس الرابعة كما كانت في القرن التاسع عشر. العملية حسب تعليمات الداهية الكبير إيدوارد بيرنيس في غاية السهولة، فإذا كان بيرنيس قادراً بوسائله الإعلامية المتواضعة أن يوجه المجتمع الأمريكي في أي اتجاه تريده الحكومة في بداية القرن العشرين، فما بالك الآن، وقد أصبحت وسائل الإعلام وحشاً كاسراً أقوى من كل الترسانات الحربية، وهي التي تحسم المعارك الكبرى على الشاشات قبل أن تـُحسم على الأرض. عندما فكرت أمريكا بالمشاركة في الحرب العالمية الثانية ضد اليابان على نطاق واسع في العقد الرابع من القرن الماضي مثلاً، بدأت تبحث عن أعذار وحجج للالتحاق بالحرب، فطلبت من بيرنيس أن يضع لها استراتيجية إعلامية لإقناع الأمريكيين، وبعد أيام ظهرت الصحف وعلى صفحاتها الأولى كاريكاتير صممه بيرنيس. الكاريكاتير كان عبارة عن رسم لطائرات يابانية تقصف تمثال الحرية في نيويورك. وما أن شاهد الأمريكيون الصورة حتى ثارت ثائرتهم، وبدؤوا يتوعدون اليابان بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويدفعون حكومتهم للتدخل أكثر فأكثر في الحرب. لقد جاء الكاريكاتير كالقشة التي قصمت ظهر البعير، خاصة وأن الصراع احتد وقتها كثيراً بين الطرفين عسكرياً. من الخطأ الاعتقاد أن الشعوب الغربية أكثر ذكاء وفطنة من شعوب العالم الثالث، فعلى العكس من ذلك، فهي سهلة الانقياد، وبإمكانك أن توجهها بسهولة. ولو نظرنا إلى الطريقة التي أدار فيها الإعلام الأمريكي الحملة لغزو العراق لوجدنا كيف نجح بسهولة في توجيه الأمريكيين دفعة واحدة لتأييد القضاء على صدام حسين. وقد ذكرت الإعلامية الأمريكية الشهيرة أيمي غودمان أن بعض الصحف الأمريكية الكبرى مثلاً كانت يومياً تنشر ما نسبته خمسة وتسعون في المئة من الآراء المؤيدة للغزو على صفحاتها الأولى، وخمسة في المئة فقط من الآراء المعارضة في صفحات أخرى. ويحدثونك عن الموضوعية والمهنية. ولو نظرنا إلى تعامل وسائل الإعلام الغربية مع المسألة السورية لوجدنا أنها كانت تعكس فعلاً الموقف الغربي الرسمي البارد والمتردد. وبالرغم من البشاعات التي شهدها الوضع السوري من مجازر رهيبة، إلا أن الشعوب الغربية لم تتأثر كثيراً بما يحدث من الناحية الإنسانية، لأن وسائل الإعلام صانعة الرأي العام كانت تريد الشعوب الغربية بعيدة عن الشأن السوري كي تبرر تقاعس الحكومات الغربية، كما يرى منتقدوها. ولو كانت هناك رغبة غربية حقيقية في الدخول على خط الأزمة السورية لصنعت رأياً عاماً يبرر لها تدخلها خلال أيام فقط، كما يرون. ولعلنا شاهدنا كيف تحرك الشارع الغربي فجأة لمجرد نشر بعض صور ضحايا الهجوم الكيماوي على غوطة دمشق في ذلك الوقت. فعندما فكرت الحكومات الغربية بالتدخل في سوريا، غدا الخبر السوري فجأة الخبر الأول في نشرات الأخبار التلفزيونية الغربية، وبدأ الناس يدعون لوضع حد لمحنة الشعب السوري. لا أحد يحاول أن يضحك علينا بالرأي العام، فالرأي العام مجرد لعبة مفضوحة تلعبها الحكومات متى أرادت أن تفعل شيئاً، وتتحجج به عندما تريد أن تتهرب من فعل شيء. صحيح أن مواقع التواصل الاجتماعي تحولت إلى منابر وبرلمانات شعبية يمكن أن تنافس الرأي العام الرسمي، لكن الحكومات في السنوات القليلة الماضية بدأت تصنع جيوشها الالكترونية الجبارة لمواجهة الزخم الشعبي لمواقع التواصل. ولا شك أن الحكومات بإمكانياتها الضخمة تستطيع أن تنافس رواد المواقع الذي يعملون فرادى. بكل الأحوال المعركة بين الرأي العام الرسمي والرأي العام الشعبي في مواقع التواصل ما زالت في أولها. وسنعرف لاحقاً من ستكون له اليد الطولى في صناعة الرأي العام.
تشير الواقعية بشقيها "الميداني والسياسي"، أن زمن الثورة قد قارب على النهاية بشكل قد تكون العودة معه للوراء ضرب من ضروب المستحيل.
والواقعية تقول أيضاً إن هذه الفترة هي فترة التصفية شبه النهائية لجيوب المعارضة، أو على أقل تقدير تضييق النطاق عليها حتى الخنق بالمعنى الجغرافي، مع ضمان استمرار التشتيت الميداني والسياسي بالزج في مواجهات جانبية في ردهات الفنادق، والحرق في أتون معارك لا يعرف التكافؤ له طريق، كما هو حال طرق الإمداد التي باتت مهجورة.
وفي الواقعية دوماً، يبدو أن الدول على طرفي الحرب، قد توصلت لقناعة قريبة من التامة أن العبثية الدموية يجب أن تحسم بآخر القرابين، وأن ترسم حدود المصالح والمكاسب فيما بينها دون تحديد منتصر أو خاسر، فاللعب انتهى عند هذه النقطة.
وليس ببعيد عن الواقعية الحالية، فإن "الأسد" كشخص وهيكلية نظام باق، خلال فترة لا تقل عن 18 شهراً إذا ما بدأنا غداً بالمرحلة الانتقالية، وقد يبقى إلى ما لانهاية إذا استمرت عملية التأجيل التي يبرع بها النظام للأسف.
وفي ظل هذه الواقعية، وبعيداً عن الاستعراض السياسي لمسار القرارات الأممية والاتفاقات الجانبية بين الدول، لم لا نتساءل عن الإطار "البراغماتي" المتناسب مع هذه الواقعية، التي لا نملك حيالها للأسف أيضاً أي حول أو قوة.
الحقيقة أن هذا السؤال فيه من التعقيد الكثير، سيما أن "البراغماتية" المطلوبة بحاجة لوجوه جديدة بشكل كلي، وجوه لها حضور وقبول، لها ميزة اللعب على الأطراف، ولم يسبق لها الإيغال في الانتماء لهذا الطرف أو ذاك، هذا المطلب (إيجاد هذه الوجوه) هو ما يطيل الأمر، ففي وضع كسوريا لا يوجد من لم يصطف إلى جانب طرف فعلاً أو قولاً وحتى صمتاً.
سؤال بحاجة لمشاركة جمعية، وحالة من تبادل الأفكار والرؤى، قد تصطدم تتنافر تهاجم تتفق تسير بخط مواز، ففي النهاية حالة الحرب لا يمكن أن تستمر وحالة فرض السلم لن تكون أفضل.
إنه العام الرابع، وما يزال الناشطون الأربعة مختفين قسريًا بعد اختطافهم، وما تزال أيدي من اختطفهم تعيث فسادًا مروعًا، باذلة جلَّ جهدها في سبيل القضاء على ما تبقى من ثورةٍ، قدّم المؤمنون بها كل ما من شأنه الحفاظ على استمرارها وديمومتها، في سبيل انتصارها، بدءًا من مواقفهم الشخصية ورأيهم الحر وأعمالهم الثورية، ومرورًا بالملاحقات والاعتقال والتواري، وانتهاءً بحياتهم.
المفارقة الإنسانية، والثورية أيضًا؛ هي أن من اختطف هؤلاء الناشطين كانوا هدفًا إنسانيًا نبيلًا بالنسبة إلى المخطوفين ذاتهم، تجلى ذاك الهدف السامي في استماتة الناشطين الأربعة وآخرين غيرهم، في الدفاع عنهم أمام محاكم أعتى الطغم الحاكمة إجرامًا واستلابًا للحقوق، معرّضين أنفسهم لأخطار عديدة، ليس الاعتقال أولها، ولا السجن آخرها، فطغمة الأسد لا تحتاج إلى باحث أو متقصٍ يروي لنا مآثر إجرامها وتاريخها الحافل بالدماء.
كان “الاختلاف” -بالنسبة إلى أولئك الظلاميين- سببًا جوهريًا لخطفهم، بينما لم يكن كذلك بالنسبة إلى الناشطين الأربعة، حين كان المختَطفون يناضلون في سبيل حرية من اختطفهم، أمام محاكم الأسد العرفية، فضحايا هؤلاء المختطِفين كانوا يعتبرون خاطفيهم ضحايا طغمة لا بدّ من زوالها، كي يسود في سورية -آنذاك- مناخ حرية، يتعرّف كل مواطن فيه على حقوقه وحرياته، بدل مناخ الانغلاق وكم الأفواه والفساد والإجرام، الذي يهيئ تربة خصبة للتشدد والتطرف وصناعة المستبدين. معتقلو الرأي من “إسلاميين”، ومن انتماءات فكرية أخرى، في صيدنايا وغيره من المعتقلات، كانوا شغل هؤلاء الناشطين الشاغل، ونتيجة لذلك دفعوا أثمانًا باهظة، فمنهم من قضى سنوات عديدة في سجون الأسد، ومنهم من لوحق أو تخفّى أو تكررت استدعاءاته الأمنية، ومن أجلهم -أيضًا- كانت تُوثّق الانتهاكات المطبقة بحقهم، وتجهّز المرافعات، وكذلك الاعتصامات، وتُكتب المقالات، وهذا كله له ثمن باهظ، يعرفه كل السوريين.
في الثورة؛ كغيرهم من المخلصين لها، لم يتوانَ الناشطون الأربعة عن دعمها، بكل ما أوتوا من إمكانات، ومن قيم، ومن عمل، لكن ذلك لم يعجب أصحاب الأفق الضيق والمشاريع الفئوية، أولئك الذين رأوا الثورة فرصةً للتعبير عن مهارة صناعة الأسد، في استنساخ نفسه إجرامًا وقتلًا و”تشبيحًا”. بالتأكيد لن يعجبهم انتصارُ الثورة، بل سيتعدى “عدم الإعجاب” هذا إلى تهديد وجودي لهم، فالحرية هنا هي مقابل الاستبداد، والحقوق هي مقابل لمنتهكيها، وبجملة واحدة: مصالح المشاريع الوطنية هي عائق حتمي أمام المشاريع ما دون وطنية.
في الوقت الذي كان فيه الناشطون الأربعة، مع آخرين، يقومون بتدريب غيرهم على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، كان خاطفوهم يقومون ببناء السجون والمعتقلات كالتوبة والباطون والكهف، وتدريب مرتزقتهم على الاغتيال والتعذيب. وحين عمل الناشطون على تنسيق الجهود المدنية لتأسيس عمل مؤسساتي وطني منظم، كان خاطفوهم يؤسسون لجهاز “الحسبة” لمراقبة اللباس والأسواق، والـبت في “المخالفات الشرعية”، كما تزامن عمل كل من الخاطفين والمخطوفين في عدة أعمال، ولكن في اتجاهين متعاكسين؛ فالخاطفون كانوا قد بدؤوا بإعداد لوائح تضم أسماء شخصيات بغية اغتيالها أو اختطافها أو اعتقالها، بينما المختَطفون كانوا قد شرعوا بإعداد لوائح بأسماء المعتقلين والمصابين وذوي الشهداء، بغية تقديم ما يلزم لهم من دعم إغاثي وصحي وتعليمي. نعم؛ هم لا يريدونكم بينهم، فأنتم أسميتموها، منذ البدء، ثورة في سبيل الحرية والكرامة، بينما أسماها قادتهم وشرعيوهن وأمنيوهم -في البدء- “خروجًا غير شرعي على السلطان”، ثم سمّوها لاحقًا “جهادًا”.
لقد رفضتم، أيها الناشطون الأربعة، أي دعمٍ يرتبط بأجندة غير وطنية، أو مال تصاحبه شروطٌ تحرف بوصلة أعمالكم في سبيل انتصار الثورة، بينما قبِل خاطفوكم كل دعم، وكل مال، وكل ما صاحبهما من شروط؛ ليصل بهم الحال إلى التخلي عن رايتهم. هؤلاء هم خاطفوكم، هؤلاء من بات يمثل ثورتنا أمام العالم في المحافل السياسية، أعرفتم سبب اختطافكم؟ أتبين لكم النهج الإبليسي الذي اتبعه الأسد وتلامذته؟ كي لا تكونوا أنتم من يمثلها بأهدافها وتطلعاتها، بقيمها الإنسانية والحضارية والجمالية أيضًا. فالأسد وتلامذته -كسائر حكومات هذا العالم القذر- لا يفضلون إلا القبح والقبيح. أردتموها تنوعًا واختلافًا وألوانًا متعددة، تليق بنا -السوريين- وأرادوها سوادًا كقلوبهم وأفكارهم ومشاريعهم.
رسائل قذرة عديدة أراد من اختطفكم توجيهها إلى كل منتمٍ إلى مبادئ الثورة ومخلص لها؛ لعل أكثرها عهرًا أن هذه المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، هي داخل سيطرتنا، وسنفرغ كل قذارتنا فيها، وسنكون الأقوى، ولن نسمح لآخرين من أمثالكم أن يلجؤوا إليها، ولن تكون ساحة لتجسيد طموحات الثورة في الحرية والكرامة والمواطنة.
أخيرًا؛ لكم، أيها الناشطون الأربعة، “آخرون”، ولأولئك الخاطفين “آخرون” أيضًا، والثورة مستمرة. الرسالة الأخطر: يا أصحاب الخط الوطني. المناطق “المحررة” ليس ملاذكم، وليست ساحة لعملكم.
بغض النظر عن الأسباب التي دفعت روسيا إلى تقديم الدعم الجوي لـ "قوات سوريا الديمقراطية" في ريف دير الزور الشمالي والشرقي، فإن رسالة الشكر التي وجهتها "وحدات حماية الشعب" الكردي لروسيا تحمل في طياتها رسائل سياسية تتجاوز مسألة العرفان بالجميل للدور الروسي.
لا يمكن فصل هذه الرسالة والصراحة المقصودة في شكر روسيا عن تطورين مهمين:
- الرئيس الأمريكي يخبر نظيره التركي عبر اتصال هاتفي، بأن البيت الأبيض أصدر أوامر بوقف إرسال شحنات إضافية من الأسلحة إلى المقاتلين الأكراد في سوريا.
- وزير الدفاع الأمريكي، جيم ماتيس، يعرب عن توقعه بأن يتحول التركيز إلى الاحتفاظ بالأراضي بدلا من تسليح المقاتلين الأكراد، مع دخول العمليات الهجومية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا مراحلها الأخيرة.
يعني التطور الأول أن الولايات المتحدة بدأت بإعادة ترتيب علاقتها مع حليفتها التقليدية (تركيا)، ويعني التطور الثاني أن العلاقة بين واشنطن والوحدات الكردية في مرحلة ما بعد داعش، تختلف كثيرا عن مرحلة محاربة التنظيم. وإذا كانت مرحلة محاربة التنظيم تفرض إعطاء أولوية أمريكية للوحدات الكردية، فإن مرحلة ما بعد التنظيم تتطلب انفتاحا على القوى الاجتماعية كافة، وما يفرضه ذلك من إعادة ضبط سياسات القوة.
فهمت الوحدات الكردية الرسائل الأمريكية، وردت عليها برسالة مماثلة لا تخلو من شعور بفائض القوة. لا يقتصر الأمر على شكر روسيا فحسب، بل تجاوز الأمر إلى حد حماية الوجود الروسي على الأرض في دير الزور، وإجراء تفاهمات سياسية - اجتماعية - اقتصادية بين الطرفين في الشمال السوري، حيث تشهد النقاشات الكردية - الروسية تطورا مهما في الفترة الماضية، لجهة تشكيل مجالس إدارة مدنية تضم رؤساء العشائر ووجهاء وشخصيات اعتبارية، للتمثيل المباشر للعرب والأكراد وبقية المكونات العرقية والدينية في المنطقة، وفق مبدأ "الديمقراطية والإدارة الذاتية".
من مصلحة الوحدات الكردية أن تنسج علاقات قوية مع الروس، ليس فقط لموازنة العلاقة مع الولايات المتحدة مستقبلا، بل أيضا لضبط إيقاع الأتراك، فموسكو الأقدر على لجم تركيا في الشمال السوري.
بالنسبة لروسيا، يشكل التعاون مع الوحدات الكردية فرصة للتوصل إلى تفاهمات بينهم وبين النظام. وتحاول موسكو منذ فترة إدخال "حزب الاتحاد الديمقراطي" في العملية السياسية، ومنحه ضمانات في الحصول على حقوقه وفق ما هو متاح، مقابل تقديم الوحدات تنازلات جغرافية لصالح النظام في الرقة وريف حلب الشمالي والغربي، وبعض المناطق في ريف دير الزور الشرقي والشمالي.
وقد عادت محافظة الرقة وإدلب ومنطقة عفرين إلى الواجهة من جديد، مع التصريحات التي أطلقت من دمشق وأنقرة تجاه الوحدات الكردية، قبل أن تضع المعارك أوزارها في دير الزور.
لكن المشكلة التي يواجهها النظام السوري وتركيا - على السواء - مع "قوات سوريا الديمقراطية"، هي أنهما لا يستطيعان شن هجوم عسكري ضد هذه القوات من دون غطاء روسي، لا يمكن توفيره من دون التفاهم مع الولايات المتحدة، ولا يستطيعان بالمقابل ترك الأمور على ما هي عليه ورؤية الأكراد يعززون وجودهم العسكري والسياسي والإداري والديمغرافي في الشمال السوري.
تدرك روسيا جيدا أن الولايات المتحدة لن تسمح للوحدات الكردية باستثمار انتصاراتهم العسكرية سياسيا، أي لن تسمح واشنطن بإقامة فدرالية كردية. وعليه، تعتقد موسكو أن التعاون مع الوحدات في المرحلة المقبلة سيحقق للطرفين مكاسب كبيرة، ويسمح للأكراد بالانفتاح على المحور الروسي.
وقد ظهرت بوادر الخلاف الأمريكي مع الأكراد جلية في الآونة الأخيرة، حين طلبت واشنطن تسليم الإدارات المحلية التي يسيطر عليها الأكراد إلى العرب والعشائر المحلية في حلب والرقة ودير الزور، وفي حال نفذ الأكراد ذلك سيجدون أنفسهم محاصرين في بقعة جغرافية ضيقة.
والحل الأفضل بالنسبة للوحدات الكردية يأتي من البوابة الروسية لا الأمريكية؛ لأن مناطق السيطرة الكردية محاصرة من قبل المحور الروسي (النظام في الجنوب، تركيا في الشمال)، وعقد صفقة مع موسكو تتخلى الوحدات بموجبها عن بعض الأراضي، مقابل حصولها على امتيازات اقتصادية في بعض المناطق يعد الحل الأمثل.
وعلى الرغم من كل ذلك، من المبكر الحديث عن تغيير في طبيعة التحالفات القائمة بين مختلف الفرقاء، في ضوء قرار الولايات المتحدة الإبقاء على حضورها العسكري في سوريا خلال المرحلة المقبلة، وهذا أمر يتطلب استمرار التحالف الأمريكي/ الكردي.
كما أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تتخلى عن الورقة الكردية، وكل ما تريده هو أن يغير الأكراد استراتيجيتهم بما يتناسب مع طبيعة المرحلة؛ التي سيكون لها قواعد عمل جديد من شأنها أن تعدل من التحالفات القائمة دون أن تلغيها.