مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٩ نوفمبر ٢٠١٤
بشار الأسد والمحكمة الدولية

من أمر بقتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري؟ هو نفسه الذي أمر بقتل جبران تويني وسمير قصير وبيار الجميل وحاول قتل مروان حمادة واللائحة طويلة وتطول الآن مع ما يجري على الارض السورية مع ٢٠٠ ألف قتيل وملايين النازحين. إن كل ما يحدث في سورية حالياً ما كان ليحدث لو تم وضع حد دولياً وإقليمياً لسلسلة الجرائم في لبنان. فالغرب مسؤول، وفي الطليعة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، الذي اعتقد انه اذكى من سلفه جاك شيراك في التعامل مع بشار الأسد، فأعاد العلاقات الفرنسية السورية الطبيعية ثم بعد سنتين من اعادتها ندم وأدرك انه لا يمكن التعامل مع النظام السوري.

شهادة الوزير اللبناني السابق النائب والزميل مروان حمادة أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري أعادت الى الذاكرة ألم الاستاذ الراحل غسان تويني وابنه الشهيد جبران لتدخل بشار الأسد في المؤسسات الاعلامية اللبنانية في طليعتها جريدة «النهار» ثم محطة «أم تي في» وتلفزيون «المستقبل». وروى حمادة كيف طلب الاسد من رفيق الحريري بيع أسهمه في جريدة «النهار» التي اعتبرها معادية لسورية لأنها كانت صوت السيادة والاستقلال، واعتبر هذا عداء لسورية، فلم يكتف الأسد بمحاولة إفلاس «النهار» بل حاول تجريدها من الأقلام الحرة التي كانت تطالب بالاستقلال وحرية القلم، فرغب بتصفية صحافييها اللامعين مثل الشهيد جبران تويني، الذي وجه في احدى افتتاحيته في «النهار» عام ٢٠٠٠ كتاباً مفتوحاً الى بشار الاسد، في حين ان الشهيد سمير قصير كان يكتب مقالات عن ربيع دمشق.

من عرف مِن قُرْب غسان تويني ونجله جبران كان يعرف مدى تحمل الوالد الرصين وصموده بذكاء للضغوطات والتهديدات من نظام بشار الاسد. وذكّر حمادة بافتتاحية صهره الراحل غسان «لبنان يحكم مع دمشق ولا يحكم من دمشق». وكان غسان من أشد منتقدي وكيل بشار الاسد في لبنان الرئيس السابق اميل لحود، فـ «النهار» كانت رمز الحرية والاستقلال في لبنان وكانت تهدد مصالح سورية فيه لأنها كانت تفضح ممارسات النظام السوري في حياة البلد اليومية.

إن أحداث سورية ورفض الأسد التعاطي مع مطالب شعبه منذ البداية بشكل مسالم واعتباره أن تظاهرات شعبه هي حركات إرهابية، تشبه تماماً ما قاله عن الرئيس رفيق الحريري والشهداء الآخرين أنهم كانوا يهددون مصالح سورية في لبنان. إن شهادة مروان حمادة برهان قاطع عما كان معروفاً جيداً في الاوساط التي كانت مقربة من الرئيس الحريري ومن الزملاء الاصدقاء الشهداء جبران تويني وسمير قصير ومن الراحل غسان تويني، فكان الحريري يزعج دمشق بحجمه الدولي وعلاقاته مع الجميع من الغرب الى الشرق. وحاول الحريري الحكم مع دمشق، معتقداً أن سورية تستفيد من انتعاش لبنان الاقتصادي والسياسي. أما بالنسبة إلى صحيفة «النهار»، فكان غسان تويني يطلب دائماً من نجله جبران الحذر من تهديد سورية، لأن خبرته الطويلة مع نظام الأب والابن علمته أن هذا النظام لا يفهم إلا لغة التهديد والقتل. ورغم ذلك لم يطلب غسان من نجله الوحيد تغيير نهجه في وجه ممارسات النظام السوري في لبنان، وكان فخوراً بشجاعة جبران على رغم التهديدات التي كان يتلقاها. إن شهادة حمادة أمام المحكمة الدولية تقدم العناصر التي تكرس قناعة من يعرف تاريخ سورية في لبنان وفي سورية الآن، بأن النظام السوري الحالي هو الذي أعطى الأمر باغتيال الرئيس الحريري وبعده كل شهداء لبنان، والآن شهداء سورية. إن وحشية «داعش» وما يرتكبه من مجازر وقتل ما كانت ستظهر في المنطقة كما هي الآن لو تم منذ البداية وقف ممارسات النظام الذي يقتل منذ قيامه في سورية، سواء في حماة أو اغتيال كبار رجال لبنان مثل كمال جنبلاط. ولكن هذا النظام كان يخدم منذ البداية مصالح إسرائيل وأميركا والسؤال اليوم هو ما إذا استمر هذا النظام في خدمة هذه المصالح أو أن مهمته انتهت. الأحداث وتردد أوباما في سياسته السورية تطرح السؤال.

اقرأ المزيد
١٩ نوفمبر ٢٠١٤
خطة دي ميتسورا لتصفية القضية السورية

أثار المبعوث الدولي، ستيفان دي ميتسورا، بفكرة المناطق المجمدة آمال سوريين كثيرين بإمكانية فتح ثغرة في جدار الحرب الوحشية، والتقدم، ولو خطوة صغيرة، في اتجاه التهدئة، على طريق إيجاد حل سياسي للمحنة السورية المستعصية.  ومن الطبيعي أن يثير هذا العرض خيال أبنائنا الذين يتعرضون في المناطق المحاصرة، أو الخارجة عن سلطة نظام الأسد، بمقدار ما يلوح لهم بالخلاص، على الأقل من حرب الجوع والبراميل المتفجرة والحارقة، ومن القنص والتشبيح من كل الأشكال. لكن، ليس في مخطط وقف إطلاق النار، بدءاً من حلب أي مشروع حل سياسي. بالعكس، هدفه مساعدة النظام من قبل حلفائه، الروس والإيرانيين، على قطف ثمار حرب التجويع والتركيع والقتل العشوائي والتهجير المنهجي للسكان، وقتل أي حياة مدنية طبيعية في المناطق التي يسيطر عليها المقاتلون المعارضون. ولا يعني، في النهاية، إلا قبول السوريين بوضع حد للصراع، من دون أن يضمنوا أي تغيير، أو تحول في نظام الحكم وفي الحاكمين، بل، فقط، لقاء السماح لهم بعدم الموت تحت البراميل المتفجرة، وبتلقي المعونات الغذائية الدولية، أي الاعتراف في النهاية والإقرار بالأمر الواقع.

يعرف الإيرانيون الذين يقودون العمليات العسكرية والسياسية في سورية أن الاستنزاف أصاب جميع القوى، وفي مقدمها النظام، وأن الأسد ليس في حاجة إلى أكثر من تجميد المواقع، ووقف إطلاق النار، حتى يستمر، ويوقف تدهور موقفه العسكري والسياسي، فوقف إطلاق النار، من دون شروط، سوى تأمين الغذاء للمناطق المحاصرة، يعني، ببساطة، تحرير الأسد من كل الضغوط العسكرية والدولية، وتكريس سلطته من جديد في المناطق التي يسيطر عليها، وهي الأهم سياسياً في سورية، وتركه المناطق الأخرى الخاضعة للمعارضة تكتوي بنار الفوضى والصراعات الداخلية، والتسول على المساعدات الدولية.
مثل هذا الوضع لا يشكل ضماناً لبقاء الأسد، كما يريد الإيرانيون فحسب، وإنما يريح، أيضاً، المجتمع الدولي الذي يريد أن يتخلص من عبء المأساة السورية، ولا يبقي من القضية السورية، أعني قضية تغيير نظام حكم جائر وقاتل، إلا بُعدها الإنساني. سيقدم المجتمع الدولي المساعدات لمناطق المعارضة، حتى تستمر في الحياة، لكنه شيئا فشيئاً سوف يتعامل مع دمشق كعاصمة للدولة السورية المتبقية، في حين سينظر إلى مناطق المعارضة المتفرقة كفراطة وفرق حساب.

" ليس من قبيل المصادفة أن يختار دي ميتسورا مدينة حلب، والتركيز عليها، فبتجميد القتال في حلب يسمح لنظام الأسد الإيراني أن يستجمع قواه من أجل القضاء على معاقل الثوار في الغوطة الشامية، وينظف منطقته من المعارضة نهائياً. "

من الطبيعي أن يتحمس الأسد لمثل هذا المخطط الذي يأتي ليكمل عمله التدميري، ويؤمن استمراره، بتكريس تقسيم الأمر الواقع للبلاد بينه وبين المعارضة، مع احتفاظه بالجزء الأساسي من الدولة، ومواردها ورموزها، وتركه سائر المناطق هدية مسمومة للمعارضة تتنازع عليها مع داعش والقوى المتطرفة الأخرى، وتأكل بعضها فيها.
وليس من قبيل المصادفة أن يختار دي ميتسورا مدينة حلب، والتركيز عليها، فبتجميد القتال في حلب يسمح لنظام الأسد الإيراني أن يستجمع قواه من أجل القضاء على معاقل الثوار في الغوطة الشامية، وينظف منطقته من المعارضة نهائياً. هذا أفضل تتويج يمكن أن يحلم به الأسد لسياسة عقد الهدن الكثيرة التي وقعها مع مقاتلي الأحياء والقرى، والتي حيد من خلالها آلاف المقاتلين، وخفف العبء عنه، ليعزز مواقعه في دمشق والوسط والساحل، ويجعل منها دولته الخاصة المعترف بها.
مشروع دي ميتسورا هو طوق النجاة لنظام الأسد المتهاوي والمهدد، الذي يأتي في اللحظة المناسبة، وهو الضربة القاضية التي يريدها حلفاؤه للثورة وأهدافها. سيتمترس الأسد والإيرانيون في دمشق وملحقاتها، وهذا يكفيهم، ويتحدوا المعارضة في إقامة النظام التعددي الديمقراطي الذي قامت من أجله الثورة في مناطقها المبعثرة. بعكس ما يشاع تماماً، لا يفتح المشروع أي أفق للحل أو للتسوية أو للمفاوضات، ولا للانتقال السياسي، ولا لحكومة شراكة، حتى من نوع لا وطني، لكنه بتقسيمه سورية بين المعارضة وداعش والنظام، يلغي الحاجة إلى المفاوضات والتسويات والمطالب الديمقراطية من الأساس، ويمكّن كل طرف من تطبيق النظام الذي يريده في منطقته. وفي الحقيقة، ينهي وجود سورية نفسها كدولة.
ولا أعتقد أن الدول ستعارض ذلك، بل ربما وجد كثير منها، بما فيها من يدّعي الصداقة للشعب السوري حتى الآن، أفضل وسيلة للتملص من المسؤولية، كما سيجد في وجود دولة إسلامية متطرفة في شرق سورية أفضل وسيلة لدفع المسلمين السنة، وإغراقهم في شلالات دماء حرب أهلية داخلية.

اقرأ المزيد
١٩ نوفمبر ٢٠١٤
داعش تعود إلى مالكها

يظهر، الآن، بشكل واضح، أن "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، أو "دولة الخلافة"، عادت جزءاً من التكتيك الأميركي للتدخل في المنطقة، بعد أن ظهر، في السنتين الأخيرتين، أنها تخضع لسياسات النظامين في إيران وسورية، بحيث جرى توظيفها في مواجهة الثورات. هذا تحوّل "كبير"، لكنه يزيد في توضيح طبيعة هذا التنظيم الذي لعب أدواراً متعددة، منذ أنشأه أبو مصعب الزرقاوي، تحت مسمى تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين سنة 2005 امتداداً لتنظيم القاعدة. وحيث لعب أدواراً مهمة في إيصال الوضع العراقي إلى ما وصل إليه من صراع طائفي، وتدمير للمقاومة التي واجهت الاحتلال الأميركي، والضغط على "السنّة" من منظور ديني متشدد، لدفعهم للتكيف مع "العملية السياسية" وقبول الاحتلال الأميركي.

إذا كانت جبهة النصرة قد تشكلت من عناصر "جهادية"، كانت معتقلة في سجون السلطة السورية، وبالتفاعل مع تنظيم دولة العراق الذي كانت قد انخرطت فيه قبل اعتقالها، فقد أصبحت داعش محور الصراع ضد الثورة السورية، بعد أن "بلعت" جبهة النصرة التي استمر جزء منها ينشط تحت المسمى نفسه. فقد كانت معظم معارك داعش مع الكتائب المسلحة التي تقاتل السلطة السورية، ومع الشعب الذي أرادت أن تفرض عليه نظاماً مغرقاً في الأصولية والتخلف، وحيث لاحقت الكادرات العسكرية والإعلامية والإغاثية، فاعتقلتها أو قتلتها. في وقتٍ كان يبدو واضحاً تنسيقها مع السلطة، ودعم السلطة لتقدمها، أو قصف المناطق التي تُطرد منها. وفي المواقع التي كان يبدو أن اشتباكاً فيها مع قوات السلطة، كان يظهر أن الأمر منسّق. لهذا كانت، كما جبهة النصرة، تعتبر قوة مساعدة للسلطة، بغرض تشتيت الثورة وتدمير البيئة الاجتماعية لها، ومن ثم استخدامها في تشويه الثورة (خصوصاً أن عباقرة المعارضة كانوا يدافعون عنهما). وكان ذلك كله ناجحاً إلى حدّ كبير، على الرغم من أن الكتائب المسلحة تصدّت لها، واشتبكت معها في أكثر من منطقة، وطردتها من الشمال في مرحلة سابقة، وواجهتها في دير الزور والبوكمال، وهو أمر كان يخلق عبئاً على الثورة التي باتت تقاتل على جبهتين.

في العراق، كان تنظيم دولة العراق الذي بدا أنه انتهى بعد الحرب التي شنتها "العشائر" العراقية ضده سنوات 2007- 2009، ليظهر بعد أن بدأ الحراك على ضوء الثورات العربية، وليعمل على تشويه الحراك، وليكون مدخل سلطة المالكي للقمع العنيف لهذا الحراك. وكذلك ظهر أن التنظيم ينسّق مع سلطة المالكي، ولقد صدر أكثر من تصريح من مسؤولين في سلطة نوري المالكي يشير إلى دور الأخير في دعم التنظيم، منها إطلاق سراح مئات العناصر التي كانت معتقلة في سجن أبو غريب وإرسالها إلى سورية. وحين بدأت الاعتصامات في ست محافظات ضد السلطة، استخدم التنظيم في التشويش عليها، وفي استغلال وجوده لإرباكها، وفي تبرير سحقها عسكرياً، على الرغم من أن العشائر اشتبكت مع التنظيم مرات عديدة.
"
معظم معارك داعش مع الكتائب المسلحة التي تقاتل السلطة السورية، ومع الشعب الذي أرادت أن تفرض عليه نظاماً مغرقاً في الأصولية والتخلف
"

بالتالي، كان واضحاً، في السنتين الأخيرتين، أن التنظيم يوضع في خدمة النظامين، السوري والعراقي، في مواجهة حراك شعبي تفجّر من أجل إسقاط النظامين. ولا شك في أن وجوده أثّر كثيراً على الثورة السورية، وشتت قواها وشلّ قدرتها في مناطق عديدة، كما أربك الحراك العراقي، وسهّل سحقه من قوات المالكي التي فضّت الاعتصامات في ست محافظات بالقوة. لكن، كان الأخطر ما قام به في أثناء الحراك العسكري الذي بدأ في يونيو/حزيران الفائت، حيث انقلب على الحراك، بعد أن كان قد "عقد تحالفاً" مع أطراف فيه (مع البعث تحديداً)، فأخذ يمارس ما شوه الحراك، وأربكه كذلك، بعد أن سيطر وحده على الموصل، وفرض تهجير المسيحيين، وأعلن الخلافة. ثم تقدّم نحو أربيل للسيطرة على كردستان، ومارس أبشع الجرائم ضد الأزيديين بعد المسيحيين.

حينها، كان يبدو أن نوري المالكي يستخدم التنظيم لفرض إعادة تعيينه رئيساً للوزراء. لهذا، سمح بسيطرة داعش على قواعد عسكرية، وعبر دور التنظيم أربك الحراك العسكري المضاد له (الذي يبدو أنه توهم أنه يمكن أن يستغلّ دور داعش من أجل السيطرة على بغداد)، وحين لمس تعاطف الأكراد مع الحراك، ورفضهم انتخابه رئيساً للوزراء، دُفع بالتنظيم نحو أربيل. لكن، ما توضّح بعد ذلك يشير إلى أن"المالك الرئيسي" للتنظيم ليس إيران ولا المالكي ولا النظام السوري، بل أميركا التي يبدو أنها كانت تحضّر لتدخّل يغيّر من معادلات المنطقة. فقد استغلت تقدّم داعش إلى أربيل، لكي تعتبر أن من واجبها "حماية قنصليتها" هناك، ومن ثم توسعت في القصف الجوي، وهي تساوم على إبعاد المالكي عن رئاسة الوزراء، ونجحت في ذلك. ثم تقدمت أكثر، وهي تضغط من أجل قبول شروط "الطرف السني" والطرف الكردي، ونجحت بعض الشيء. لكن، لازال الوضع غير مستقرّ تماماً. ثم شكلت "التحالف الدولي" لكي تقبض الثمن المالي من السعودية وباقي بلدان الخليج. وبالتالي، توسعت أكثر فبدأت القصف في سورية، طبعاً ضد داعش فقط. فاندفعت داعش نحو عين العرب، أي نحو الحدود التركية، وها هي تساوم الأتراك لجرّهم إلى التحالف، على الرغم من أن ما يريدونه هو "إسقاط النظام" في دمشق. وهذا ما استثار الأكراد في تركيا، وبدأ يسبب مشكلات لتركيا. ومع تعثّر الحكومة الجديدة في بغداد، عادت داعش لكي "تتقدم نحو بغداد". وهكذا، ليبدو أن كل الهدف من التدخل سياسي، ويتعلق بإيران أكثر مما يتعلق بسورية والعراق، أو يبدو أن الهدف منه، ومن "الزحف الدولي" "ترتيب العلاقة مع إيران" وفق شروط تناسب أميركا التي تريدها في ضمان استقرار الخليج وفي "حصار الصين"، لكنها تريد، كذلك، إعادة التوازن في السلطة في بغداد، بعد أن سيطرت إيران تماماً، بتعزيز دور "الطرف السني" تحديداً، وكذلك الطرف الكردي. وربما يصل التفاهم إلى سورية، بحيث يجري إعادة ترتيب السلطة بالتوافق (وربما لمصلحة إيران أكثر). وبالتالي، التوافق على ترتيب وضع لبنان.

حين يتحقق ذلك كله، سنلمس كيف ستتلاشى داعش، وتغيب عن المشهد، ليظهر شكل جديد لتنظيم القاعدة في مكان آخر. ربما في المرحلة المقبلة في مناطق آسيا، بعد أن شكّل أيمن الظواهري فرعاً هناك. لكن، وفي ضوء تطور الأوضاع في ليبيا والمغرب العربي، يمكن أن نشهد تصاعداً هناك باسم جديد. فهذه هي "الفزاعة" التي تبرر التدخلات، هكذا صنعتها أميركا، وهكذا تمارس من خلالها. وعلى الرغم من "الاختراقات" من دول عديدة للتنظيم، ومحاولة توظيفه في سياسات "خاصة" بهذه الدولة أو تلك، كما فعل النظامان، الإيراني والسوري، فذلك كله يجري بموافقة "المركز" الذي يعود إلى توظيفه في استراتيجيته حينما يبلور استراتيجية تفترض هذا الدور. فقد وظفه النظام السوري لسحق الثورة، ولم تكن أميركا تعارض. ووظفه المالكي ضد الحراك في العراق، ولم تعارض كذلك. لكنها حينما قررت تغيير التوازنات أعادت توظيفه ضمن استراتيجيتها.

لهذا، وجدنا أن كل الهجمات الجوية لا تغيّر من وضع داعش، بل تزيد من قدرتها، وكأن دور الطيران الأميركي هو حماية تقدمها، وليس وقفه، ودفعها إلى مواقع تفيد مساوماتها هنا وهناك. ويبدو الأمر في سورية وكأن المطلوب سحق الكتائب المسلحة أكثر مما هو سحق داعش، ولهذا، تحركت جبهة النصرة، لكي تنهي جبهة ثوار سورية التي كانت المراهنة على دورها في مواجهة داعش، بعد أن واجهتها، مرة سابقة، وطردتها من الشمال السوري. أصبح دور جبهة النصرة تصفية "الكتائب المعتدلة"، لكي يتوسع دور داعش، وتبرر أميركا عدم تسليح الكتائب "المعتدلة"، وتظل ممسكة بورقة التفاوض للوصول إلى هدفها.

إذا كنا في خضم ثورات كبيرة، فقد بتنا، الآن، في "مسخرة" اسمها "الحرب على داعش"، لكنها في الواقع هي الحرب على الثورة، حيث المطلوب تدمير الثورات، وسحق كل إمكانية لنشوبها من جديد. أميركا الآن تتدخل مباشرة من أجل ذلك.

اقرأ المزيد
١٨ نوفمبر ٢٠١٤
كَسْرُ العقد و كَسْرُ القيد: إنها سنة الطبيعة

في محن الدول، تجد أي منظومة قيادية نفسها أمام جملة من الخيارات التي يمكن حصرها في اتجاهين: تحصين الوطن أو تحصين الذات. الأول يقوم على تحصين الوطن والمواطن وتعزيز الذات القيادية والرابط بينهما؛ والثاني يتمثل بتحصين وتصليب الذات القيادية حتى ولو كان ذلك على حساب الاتجاه الأول. يستلزم الأول الصدق والشفافية في مخاطبة الرعية إضافة إلى زرع الثقة وتعزيز القوة وتزخيم المعنويات لدى المكونات الشعبية وتفعيل دورها في مواجهة الخطر الداهم وتأمين مستلزمات الصمود اقتصادياً وثقافياً ونفسياً.

في الحالة السورية، ساد المذهب الأول؛ فانحصر الهاجس بتحصين الذات السلطوية على حساب أي أمر آخر؛ حتى ولو اقتضى ذلك تدمير الوطن والمواطن، وحتى ولو استلزم الأمر مد اليد لخارج الوطن والاستعانة بأعداء الوطن والمواطن.

كان المواطن الذي لم يتمكن من التحوّل إلى عبد أو آلة مطواعة منزوعة الكيان والشخصية والكرامة هو العدو وهو المستهدف بالقتل والدمار والاعتقال والإلغاء عبر تشريده نزوحاً أو لجوءاً خارج الوطن. وكان ذلك الذي لم يكن أمامهأي خيار إلا التحوّل إلى حالة منزوعة الإنسانية تأكل وتشرب وتتوالد بالكفاف وتستظل بسطوة سلاح الرعب والخوف الذي يشهره النظام .

كان استقواء النظام باعداء الوطن؛ وكان الانتحار وبيع الوطن والمواطن مقابل بقاء الكرسي. وكان شراء الوقت على طريقة “فاوستس”.

من يقول إن النظام لا يعرف ما يفعل واهم جداً. إنه يعرف أنه مقدم على الانتحار من اجل بعض سويعات إضافية في كرسي السلطة، علّ معجزة ما تحصل وتذهب الأمور باتجاه آخر بعد أن نجا مما لا يمكن لأي نظام أن يهرب منه؛ ليس بقوة ذاتيه بل بإرادة اقتضت ان يعيش كل هذا الوقت.

لقد كُسر ذلك العقد بين الحاكم والمحكوم؛ وعلى أحدهما ان يغادر الساحة. المسالة بين خمسمائة مخلوق يمكن لطائرة واحدة أن تحتويهم جميعاً وترمي بهم خارج جغرافيا الوطن، وبين ملايين لا بد من رميهم خارج الجغرافيا وحتى التاريخ كي يعيش النظام؛ وهذه معادلة مستحيلة.

لم يقم النظام بأي إجراء يحصن الوطن وسيادته. والسيادة التي لا يتوقف عن الحديث فيها مستباحة بامتياز؛ وهو يعرف ذلك تماماً. فرجاؤه أن يُعلَم أو يُخبَر فقط بقصف طائرات الحلفاء للأراضي السورية كان أقصى ما قام به لما دعاه سيادة. إنه يعرف أن لا سيطرة له على أي معبر من معابر الحدود السورية إلا ما تمكن به حزب الله من الجانب اللبناني؛ وحتى ذلك المعبر يتم تحديه من قبل مجموعات أذاقت حزب الله الويلات.

كُسر العقد عند أول كذبة وردت على لسان هرمه وألسنة مستشاريه حول ما يجري في سورية

كُسر عندما استنفر جيشاً إلكترونيا بتدريب إيراني-لبناني ليشوّه صرخة أهل سورية بالحرية

كُسر العقد بالمطلق عندما توجه النظام بسلاح الى صدور السوريين… سلاح دفعوا ثمنه دمهم ودموعهم بذريعة استرداد أرضهم المحتلة.

كُسر عندما نُصبت أول خيمة سورية لاستقبال لاجئين سوريين في بلاد الجوار

كُسر عند اغتصاب أول معتقل أو معتقلة في سجون لا إسم لها إلا مقابر الأحياء.

كُسر عندما نقل شخص صور 11 ألف معتقل قضوا تعذيباً في تلك المقابر

كُسر العقد بالمطلق عندما استخدم أسلحة محرمة دولياً كي يُخضع من خرج على طاعته

كُسر عندما أضحى لافروف الناطق باسمه؛ وعندما كان يصف لافروف السوريين بالإرهابيين ، ولا يرف للنظام جفن.

كُسر عندما أصبح قرار قتل الإنسان السوري وتدمير حياته بيد الإيراني الذي أخذ سورية رهينة ليصافق على ملفات مستعصية تعيشها بلاده.

لا؛ لم تكسر العقد صرخة حرية خرجت من أحزمة الفقرالتي سوّرت حياة الرفاهية لسلطة ما رأت في مواطنيها إلا جراثيم وفضلات يجب أن يتم التخلّص منها.

لا؛ لم ينكسر عندما طلب شباب سورية فسحة حرية فيها نسبة ضرورية من الأوكسجين للبقاء.

أمانة لم يحافظ النظام عليها معتقداً أنه بكسرها يمكن أن يحسم الأمور ويبقى؛ وهذا أمر استحالته مثبته. وما تبقى ليس إلا استعصاء قهري انتقامي يذهب الوطن ثمناً له؛ والنظام يدرك أن هناك من يريحه ذلك، فيبقى على أمل أن يستمر جشع الآخرين وأهدافهم الإجرامية السقيمة. ويبقى الأمل في أن يضجر هؤلاء من لعبتهم الدموية أو يستشعروا امتداد اللهب إلى جنباتهم؛ وهذا قادم إن لم يشبعوا. كسر العقد لا بد أن يتبعه كسر القيد. إنها سنة الطبيعة.

اقرأ المزيد
١٨ نوفمبر ٢٠١٤
سورية.. التجريب والتخريب

لا يعدو الحراك السياسي الذي تقوم به بعض القوى ذات العلاقة بالملف السوري، أن يكون جولة تسخين لإنضاج ثمار بدأت تينع على غصون ملفات أخرى، أو نوع من غزل تفاوضي، تجريه تلك الأطراف على (قاعدة الطبل هنا والعرس في مكان آخر)، وفي هذا تأكيد على وظيفية الملف السوري في واقع العلاقات الدولية الراهن.

تكتيكية هذا الحراك تظهر بوضوح في السلوك السياسي الضّحل لأطرافه، والذي يثبت، بدرجة كبيرة، هامشية السلام السوري في إستراتيجيات الكبار، وقد ذهبت الإدارة الأميركية في مزاوداتها المكشوفة بعيداً، حينما سرّبت أنها بصدد تعديل إستراتيجيتها في الحرب على داعش، بإضافة بعد جديد لها، وهو إسقاط نظام الأسد، بوصفه يشكل مغناطيساً جاذباً للإرهاب، فما الذي فعلته واشنطن لتسند إستراتيجيتها تلك على أرض الميدان، غير المساهمة في إسناد قوة الأسد بالنيران؟، أما موسكو فقد أعلنت أنها بصدد تأليف تحالف أصدقاء دي مستورا، لدعم المبعوث الأممي في مهمته الجديدة في سورية، والتي يبدو أنها أسوأ مهام الأمم المتحدة وأكثرها تواطؤاً مع نظام القتل؟، في حين تعمل إيران على إنشاء جيش مواز لها في سورية، قوامه مئة ألف عنصر!

لا شيء، باستثناءات الكلام، يوحي بتعديل تلك الأطراف سياساتها ومواقفها تجاه الحدث السوري، وبعد أربعة أعوام من الثورة، وما جرى على هامشها من مؤتمرات ومبادرات، صار الجميع يعرف، بالضبط، ما هو الجدي وما هو الفقاعة. باتت المشكلة واضحة ومعلومة ومحدّدة بدقة، ومعلوم أين تقع مفاتيح حلها، ويفترض بأي مقاربة لها أن تكون خالية من التشّوش واللّبس، وشغوفة بالهم الإنساني الذي يليق بمهنية الدبلوماسية العالمية في القرن الحادي والعشرين، بوصفها انعكاساً لمنظومة القيم العالمية، وما تنطوي عليه من احترام لحقوق الإنسان والعقل البشري عموماً.

التفسير الأقرب للواقع أن المقصود بكل هذا الحراك ملفان بعينهما، العقوبات الغربية على روسيا، والنووي الإيراني. في الأصل، كان الملف السوري استثمر هاتين الدولتين في حقل العلاقات الدولية، وطبيعي أن يجري استخدامه ورقة في أي محاولة لتحريك ملفاتهما، واليوم، تقف روسيا وإيران على عتبة إعادة صياغة علاقاتهما ضمن النظام الدولي، وهما لا يملكان أوراقاً كثيرة باستثناء الملف السوري.

" قد تكون سورية أكثر أهمية لإيران، من النواحي المادية والرمزية، لكن إيران بظروفها وواقعها الحالي ربّما يكفيها السيطرة على جزء من العراق "

ثمّة من يذهب إلى القول إن نتيجة تخفيض أسعار النفط بدأت تؤتي ثمارها، وإن البلدين سارعا إلى فتح نوافذ للحلول في سورية، بعد إدراكهما أن الأمور تعقّدت بطريقةٍ لا يمكن تحمّلها، ربّما يكون ذلك صحيحاً، لكن ذلك لا يعني أن الأمور ستجري لمصلحة الشعب السوري وثورته، ذلك أن موسكو وطهران تعتقدان أن مجرد التفاوض، بحد ذاته، يشكل تنازلاً، ثم إن هناك محددات تعلن الدولتان تأكيدها، وأنهما بصدد التمسك بها، ومنها المحافظة على نظام الأسد، ليس كما يشاع، الاحتفاظ بالمؤسسات من دون رأس النظام، على ما يحاول بعضهم استنتاجه عنوة، وبشكل تفاؤلي ساذج، هما يعتقدان أن ذلك سيكون خديعة، ولا يصلح لأن يكون أساساً للتفاوض، كيف يمكن الحفاظ على أوضاعهما في سورية؟، بالأصل ليست لكل منهما مصالح بعيدة المدى في سورية، تستحق كل هذا الصراع، ولا معنى إستراتيجياً مهماً لسورية، إلا بمقدار ما يريدانه من النظام الدولي الآن. قد تكون سورية أكثر أهمية لإيران من النواحي المادية والرمزية، لكن إيران بظروفها وواقعها الحالي ربّما يكفيها السيطرة على جزء من العراق.

ويكشف تاريخ علاقة موسكو وطهران بالأزمة السورية أنهما اشتغلا على أهداف أبعد من سورية، فالإصرار على إيصال البلد إلى هاوية الفشل والدمار ينطوي على حقيقة أن مستقبل هذا البلد لم يكن في لحظةٍ من ضمن اهتماماتهما، وبالتالي، لا يمكن فهم تحركهما الحالي سوى أنه محاولة لاستكمال هذا النهج بطرائق جديدة، أكثرها وضوحاً محاولة تصنيع معارضة سورية، يمكن من خلالها تمرير هذا النهج.

الخطورة في ذلك كله قبول جزء من المعارضة السورية الدخول في اللعبة، بذريعة الواقعية وضرورة إنقاذ الشعب السوري. الاستمرار بهذا النهج من شأنه تحويل المعنى الأساسي من الثورة السورية، بوصفها تحولاً تاريخياً، إلى مجرد تمرد لمكون أو مناطق بعينها، ولا يلغي هذه الحقيقة كون أن للنظام مؤيديه وبيئته، وطبيعي أن يكون ذلك الأمر موجوداً بعد استمرار 45 سنة في الحكم، كل الأنظمة التي حصلت ضدها ثورات كان لها مؤيدون، ولم يكن ذلك عائقاً، أو نقيصة، للثورات.

والخطورة الثانية في هذا الأمر، إمكانية انعكاسه في الحلول المزمع الوصول إليها، وهو الخطر الذي تنطوي عليه مبادرة ستيفان دي مستورا نفسها، والتي في ظاهرها تبدو محاولة في الممكن وتتبع النهج العقلاني، لكن خطورتها تكمن في إمكانية تكريسها وقائع مستقبلية، يصعب تجاوزها أو الفكاك منها، فتتحول العملية إلى دينامية لتفكيك البلد، بدل تفكيك الأزمة وإيجاد حل لها.

يدرك الجميع أن قرار التفاوض غير جدي، وأنه لا يعدو أكثر من عملية فحص فروض معينة في المختبر السوري، الأفضل عدم الانسياق وراءها والحذر منها، أي خطأ قد ترتكبه المعارضة قد يكلف سورية الكثير، ويجري البناء عليه، أو في أسوأ الأحوال يكون مساهمة في إعادة إنتاج النظام لنفسه، وخصوصاً وأن الظروف الدولية مستعدّة لتمرير هذا الخيار، والتكيّف معه.

اقرأ المزيد
١٧ نوفمبر ٢٠١٤
النظام المرتزق

ليس هناك أدنى شك بأن الثورة السورية واحدة من أكثر الثورات المشروعة تاريخياً، فلم يتعرض شعب في القرن العشرين للقهر والفاشية والإذلال المنظم كما تعرض الشعب السوري على أيدي النظام الأسدي الطائفي الغاشم الذي لم يشهد له التاريخ مثيلاً. وبما أن ذلك النظام بات رمزاً لكل ما هو وحشي وهمجي قذر، لم يقبل حتى بتلبية أبسط مطالب السوريين، فاستبدل قوانين الطوارئ سيئة الصيت التي ثار السوريون عليها بقانون الإرهاب الذي راح يحاكم السوريين بموجبه، ويضعهم أمام محكمة الإرهاب لمجرد التلفظ بكلمة بسيطة. كل من يفتح فمه ضد النظام أصبح حسب القانون الجديد إرهابياً وجب اعتقاله إذا كان موجوداً، أو صدر قرار بحرق منزله أو مصادرة أملاكه إذا كان خارج البلاد. لقد أصبح السوريون بعد الثورة يترحمون على قوانين الطوارئ على بشاعتها بعد "الإصلاحات" الإرهابية التي قام بها النظام بعد الثورة. وعندما أراد بشار الأسد أن يضع دستوراً جديداً للبلاد على سبيل الإصلاح المزعوم، وضع مواد جديدة تجعل حتى سلاطين القرون الوسطى يحسدونه على السلطات التي منحها لنفسه بموجب الدستور الجديد، فهو راع لكل شيء في سوريا، حتى الزبالة والزبالين والقمامة والنخاسين، لم يترك شيئاً إلا ووضعه تحت رعايته.
وليت بشار الأسد اكتفى بوضع القوانين القراقوشية للانتقام من السوريين لأنهم ثاروا عليه، بل راح يستخدم كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً كي يثأر من الثورة. والأنكى من ذلك أنه عمل على تحويل سوريا إلى بؤرة تجتذب كل شذاذ الآفاق إليها لإفساد الثورة وجعلها تبدو في نظر العالم مجرد فوضى وحركات إرهابية. كلنا يتذكر كيف أخرج كل المتطرفين من سجونه بعد الثورة، وزودهم بالسلاح كي يقاتلوه، ويحولوا الثورة إلى صراع دموي. وقد لاحظنا كيف كان بشار الأسد في خطاب القسم السخيف يتلذذ ويتشفى وهو يتحدث عن إفشال الثورة وتحويل سوريا إلى ساحة صراع يعبث بها القاصي والداني.
وكي يحمي بشار الأسد نفسه ونظامه قدم كل أوراق اعتماده لإيران وروسيا وإسرائيل، وتعهد بأن يكون مجرد بيدق في المخططات الروسية والإيرانية والإسرائيلية، بشرط ألا يسقط نظامه تحت أقدام السوريين، ويكون مصيره كمصير بقية الطغاة الذين قضوا تحت نعال الشعوب. لقد تحول النظام السوري إلى مجرد أداة قذرة ضد سوريا والسوريين، لا بل أصبح حراس قصره من غير السوريين، فالأمر الناهي أمنياً وعسكرياً في سوريا هي إيران وميليشياتها العراقية واللبنانية باعتراف الميليشيات الشيعية نفسها. أما روسيا فقد سلمها بشار الأسد كل ثروات الغاز والنفط من خلال عقود طويلة الأمد مدة بعضها ربع قرن من الزمان.
لقد كان النظام السوري يهدف من خلال الارتماء الكامل في الحضنين الروسي والإيراني دفع خصومه أيضاً إلى الارتماء في أحضان القوى المنافسة لإيران وروسيا في سوريا، بحيث تضيع القضية السورية، وتتحول سوريا إلى سلعة دولية يسمسرون عليها من أجل منافع سلطوية حقيرة. فعندما وجدت جماعات المعارضة السورية أن النظام بات يحتمي بمنظومة عسكرية وأمنية واقتصادية روسية إيرانية مفضوحة، لم يجدوا بداً من الارتماء في أحضان المعسكر الآخر لمواجهة النظام. وقد أصبح بعض شرائح المعارضة السورية بدورها، كالعراقية سابقاً، مضرباً للمثل في التسول والسير وراء الآخرين. لا شك أن هناك بعض الجهات العربية والأجنبية التي وقفت إلى جانب المعارضة السورية لتمكينها من مواجهة أكثر الأنظمة فاشية في القرن العشرين، وعملت الكثير على مساعدة السوريين. لكن هناك جهات كثيرة أخرى لا يهمها في سوريا سوى تحقيق مصالحها الضيقة التي لا تمت لمصالح السوريين بصلة.
ولو نظرنا إلى الخارطة السورية الآن لوجدنا أن كل طرف خارجي منخرط في الأزمة يغني على ليلاه، ولا يهمه لا سوريا ولا السوريين. هل يعلم السوريون الآن أن كل القوى المتصارعة على سوريا والمتحالفة مع النظام أو بعض فصائل المعارضة لا يهمهما الشعب السوري قيد أنملة. الكل يبحث عن مصلحته في سوريا. إيران تستخدم بشار الأسد كأداة لتوسيع إمبراطوريتها الشيعية الفارسية والوصول عبر الأسد إلى شواطئ المتوسط. وروسيا تريد الحفاظ على قواعدها البحرية في سوريا، بالإضافة إلى نهب الثروات الغازية والنفطية السورية التي أعطاها إياها الأسد مقابل الحماية والسلاح والحفاظ على طرق الغاز والنفط الدولية. وتركيا لا تريد لإيران أن تصبح على حدودها السورية، وتعمل على تأمين الشمال السوري لصالحها. وأمريكا طبعاً تريد تأمين الحليف الإستراتيجي إسرائيل من الخطر السوري واستغلال الموقع الإستراتيجي لسوريا. مع ذلك، يستمر بشار الأسد، ويستمر معارضوه في السمسرة للقوى المتكالبة على سوريا كي تنهش في الجسد السوري، وتحقق مطامعها، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير الوطن وتهجير شعبه وتحويله إلى طعام للأسماك في عرض البحار والمحيطات.

اقرأ المزيد
١٧ نوفمبر ٢٠١٤
بين أميركا وإيران… تعليق للعقوبات بدل رفعها

يصعب التكهن بما يمكن أن تسفر عنه المفاوضات المتعلقة بالملف النووي الإيراني التي استضافتها مسقط. لكنّ حضور وزير الخارجية الأميركي جون كيري ووزير الخارجية الإيراني محمّد جواد ظريف إلى سلطنة عُمان يعطي فكرة عن جدّية المفاوضات التي شارك فيها الاتحاد الأوروبي والتي تبعتها مفاوضات بين إيـران ومجموعة 5+1.

على الرغم من صعوبة التكهن، بات مرجّحا التوصل إلى ما يشبه الاتفاق بين الإدارة الأميركية والنظام الإيراني في شأن الملفّ النووي وذلك قبل الرابع والعشرين من نوفمبر الجاري. ليس مستبعدا أن يؤدي التفاهم المتوقع بين الجانبين إلى تعليق جزء من العقوبات الدولية المفروضة على إيران، بدل رفعها نهائيا.

ثمة حاجة إلى صيغة تحفظ ماء الوجه للجانبين الأميركي والإيراني، علما أنّ إيران تسعى إلى الاستفادة، إلى أبعد حدود، من عقدة باراك أوباما الذي يضع التوصل إلى اتفاق معها في أولوية أولوياته.

كانت الرسالة التي وجّها الرئيس الأميركي في أكتوبر الماضي إلى “المرشد” علي خامنئي في غاية الأهمّية وذلك من زاويتين.

الأولى إثارة أوباما لموضوع “داعش” والمصلحة المشتركة الأميركية ـ الإيرانية في مواجهته، والأخرى التطمينات غير المباشرة على أنّ الحرب على “داعش” لا تعني المسّ بالنظام السوري.

تسترضي الرسالة الرغبة الإيرانية في تجاوز المفاوضات مع الولايات المتحدة الملف النووي. تريد أيضا تفاهمـات في شأن مسائل أخرى، خصوصا أنّها تعتبر نفسها منذ البداية الشريك الفعلي في الحرب الأميركية على العراق التي أدّت إلى جعل هذا البلد، أو قسما منه تحت وصايتها المباشرة.

كان على الإدارة الأميركية أن تسرّب قبل أيّام أن ثمة بداية قناعة لدى أوباما ومستشاريه بأنّ الحرب على “داعش” لا يمكن أن تنجح من دون إسقاط النظام السوري. بدت تلك التسريبات، وهي بمثابة استدراك، أقرب إلى محاولة مكشوفة من أجل تصحيح خطأ الرئيس الأميركي. بدا أوباما وكأنّه ينفي إعطاء تطمينات لإيران في شأن النظام السوري الذي يعني لها الكثير من زوايا مختلفة.

في الواقع، أظهرت الرغبة الأميركية في التوصل إلى ما يشبه اتفاقا مع إيران في شأن ملفّها النووي، أن إدارة أوباما ليست في وارد تعلّم شيء عن الشرق الأوسط وتعقيداته من جهة والاستفادة من التجارب التي مرّت بها من جهة أخرى.

قبل كلّ شيء، لا أهمّية للبرنامج النووي الإيراني إلّا من الزاوية الإسرائيلية، فضلا عن المخاطر البيئية التي يشكلها مفاعل بوشهر على الضفة العربية من الخليج. ما كشفته الأحداث أن هناك دائما رغبة إسرائيلية في التصعيد مع إيران، ضمن حدود معيّنة، من منطلق أن مثل هذا التصعيد يمكّن إسرائيل من لعب دور الضحيّة المهدّدة من نظام توعّد مرارا بإزالتها عن خريطة الشرق الأوسط.

يسمح التصعيد المتبادل مع إيران لإسرائيل بممارسة هوايتها المفضّلة. تتمثّل هذه الهواية في اللجوء إلى إرهاب الدولة من دون حسيب أو رقيب وفي تكريس الاحتلال للضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية ومنع الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه المشروعة بصفة كونه شعبا من شعوب المنطقة.

ما ترفض إدارة أوباما استيعابه بأيّ شكل أن المشكلة مع إيران ليست مشكلة الملفّ النووي وذلك على الرغم من أنّ حصولها على القنبلة النووية يوما سيدخل المنطقة في سباق تسلحّ في غاية الخطورة.

المشكلة مع إيران في مكان آخر. تكمن هذه المشكلة، بالنسبة إلى من يدّعي أنّه في صدد محاربة “داعش”، في أنّ السياسات التي تمارسها طهران تلعب الدور الأهمّ في نموّ “داعش” وما شابهه من تنظيمات إرهابية.

لم تهبط “داعش” من السماء. تمدّد التنظيم الإرهابي في العراق الذي ولد فيه أصلا قبل انتقاله إلى سوريا ومنها إلى العراق مجددا، بفضل السياسة الإيرانية القائمة على الاستثمار في الغرائز المذهبية. صحيح أنّ ما يحرّك إيران والشعب الإيراني هو الانتماء القومي، الفارسي تحديدا، لكنّ الصحيح أيضا أن السياسة الإيرانية في المنطقة، تقوم أساسا على الاستثمار في المذهبية. هذا ما يحصل في البحرين والعراق وسوريا ولبنان واليمن على سبيل المثال وليس الحصر.

ما كان لـ“داعش” أن يجد حاضنة سنّية له في العراق لولا الممارسات الطائفية والمذهبية والعنصرية لحكومة نوري المالكي التي كانت في موقع التابع لإيران، خصوصا منذ العام 2010. ما كان لـ“داعش” أن يتمدّد في سوريا، لولا تشجيع النظام السوري له في البداية من أجل ابتزاز الأميركيين في العراق ثم من أجل تصوير الثورة الشعبية في سوريا بأنّها ثورة تقف خلفها مجموعة من “الإرهابيين” بينهم عدد كبير من العرب وغير العرب.

هل في سوريا مقاتلون عرب وأجانب، من أهل السنّة، في جانب الثوّار فقط… أم أنّ من بدأ بالاعتماد على مقاتلين شيعة مستوردين من لبنان والعراق وأفغانستان هو النظام المدعوم من إيران؟

من الواضح أن الاتفاق، أيّ اتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني يلبي الرغبة المشتركة لدى طهران وإدارة أوباما في التوصل إلى البدء في طي صفحة الماضي القريب الذي بدأ مع الثورة الإيرانية في العام 1979.

إيران تبحث بكل بساطة، عن اتفاق يسمح لها بالتنفسّ اقتصاديا في وقت يشتدّ الصراع الداخلي فيها. أمّا إدارة أوباما فهي تطمح إلى تحقيق ما يعتبره الرئيس الأميركي أقرب إلى حلم له، فهو إيراني الهوى، ربّما تحت تأثير مستشارته فاليري جاريت، ولا يرى إلّا “داعش” السنّية، فيما يتجاهل “الدواعش” الشيعية كلّيا.

هل سيحلّ الاتفاق، الأقرب إلى شبه اتفاق، أيّ مشكلة في الشرق الأوسط؟ الجواب لا وألف لا… في غياب التغيير الجذري في تعاطي الحكومة العراقية، التي لا تزال تعمل في ظلّ الأخ الأكبر الإيراني، مع المكونات الأخرى في البلد، خصوصا مع أهل السنّة والأكراد. لن يحلّ أي مشكلة قبل بدء واشنطن في انتهاج سياسة مختلفة في مواجهة النظام في سوريا. كلّ ما تبقى تمرير للوقت وبحث أميركي عن غطاء للسياسات التوسعية التي تنتهجها طهران في المنطقة. وهذا يحصل في وقت لا يمكن الاستخفاف بالتجاذبات الداخلية في إيران التي ستواجه من دون رفع العقوبات أوضاعا اقتصادية صعبة، خصوصا في حال استمرّ هبوط سعر النفط…

اقرأ المزيد
١٧ نوفمبر ٢٠١٤
البغدادي إذ يجدد إعلان الحرب ويفتح جبهات جديدة

بعد جدل استمر لما يقرب من أسبوع حول إصابته أو مقتله، وبعد أن احتفى التحالف الإيراني بذلك بينما كان الأمريكان يتواضعون في توقعاتهم، خرج أبو بكر البغدادي، أمير "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، أو "الخليفة" كما يراه أنصاره لكي يخاطب أولئك الأنصار، ويخاطب العالم أجمع؛ أولا ليؤكد على أنه بخير، وثانيا ليعيد ترتيب أولوياته وحروبه، ويعلن التمدد وفتح جبهات جديدة.

صحيح أن كلمة البغدادي كانت مسجلة بالصوت فقط، إلا أن نبرة التحدي كانت واضحة فيها، ومعها نبرة الثقة التي تلهم الأتباع بكل تأكيد، وهم كانوا في أشد الحاجة إليها بعد أن تشككوا في خبر إصابته، بخاصة أن الكثير من الحسابات المشهورة لديهم لم تكن تنفي ذلك بشكل واضح، بل كان بعضها يتحدث بنبرة تشي بأن الإصابة حقيقية.

أيا يكن الأمر، فقد خرج الرجل مؤكدا على أنه لم يُصب بأذى، مع أن الصوت لا ينفي الإصابة بالضرورة، لكن الصوت القوي قد يشير إلى شيء من ذلك، ثم شرع يوزع القناعات والتعليمات.

من أكثر ما يمكن التوقف عنده في التسجيل هو القناعة التي لا شك فيها لدى البغدادي بأنه منصور لا محالة، وأنه لن يتوقف حتى يفتح روما حسب قوله، وهي روحية في المواقف كانت ولا تزال جزءا لا يتجزأ من خطاب الدولة الحالم إلى حد كبير برأي كثيرين، والذي يراه أتباعها واقعيا في المقابل.

أعلن البغدادي أن كل الضربات التي تلقاها مقاتلوه لم تسفر عن نتيجة تذكر، وأن الدولة باتت أقوى مما كانت عليه. وفي حين يصعب أخذ هذا الكلام خارج سياق الدعاية، لأن الضربات كانت مؤثرة بعض الشيء، بخاصة في الجبهة العراقية، فضلا عن تعطيلها للحسم في معركة عين العرب، إلا أن المؤكد في المقابل أن الحملة الدولية لم تسفر عن نتيجة كبيرة تتجاوز الإضعاف بعض الشيء، مع العلم أن تدفق المقاتلين على الدولة لم يتوقف، ذلك أن جماعة تحاربها أمريكا وحلفاؤها، وتحاربها إيران أيضا لا يمكن إلا أن تكسب بعض التعاطف في الأوساط الشعبية رغم كل الاستطلاعات، ويكفي أن يُقارن المزاج الشعبي الإسلامي حيالها قبل الحملة الدولية بما بعدها، أو بالأسابيع الأخيرة كي ندرك أن هناك تحولا في اتجاه بعض التعاطف معها.

توقع البغدادي أن يتورط الأمريكان أكثر فأكثر، وينزلوا على الأرض، وهذا ما يبدو واضحا، وهو (أي البغدادي) ذكر إرسال 1500 جندي أمريكي جندي إلى العراق، ولم يذكر قول الجنرال ديمبسي (جاء تصريحه بعد التسجيل) أن واشنطن تدرس إرسال جنود للعمل إلى جانب القوات البرية، وإن سمَّاهم خبراء كحال السابقين.

على أن البعد الأهم في التسجيل، والذي كان الدافع الأكبر لإصداره كما يبدو، إلى جانب تأكيد عدم الإصابة، هو إعلان توسع الدولة نحو مناطق أخرى، لاسيما أن ذلك يمنح الدولة مزيدا من الحضور في ظل عزوف العلماء والدعاة عن إعلان تأييدها، بل ميل الغالبية الساحقة منهم إلى رفض منهجها، بما في ذلك عدد من رموز السلفية الجهادية.

لقد أراد بإعلان قبول تلك البيعات الجديدة التأكيد على أن زمن تنظيم القاعدة قد ولى، وأن هذا زمن الدولة، ولذلك أعلن قبول البيعات الجديدة من مجموعات في اليمن والسعودية والمغرب وليبيا وسيناء. أما الأكثر إثارة في هذا السياق فهو المتمثل في التركيز بشكل واضح على السعودية، وهو ما استوقف عمليا معظم وسائل الإعلام.

هنا تحدث عن المملكة بوصفها "رأس الأفعى"، وهو الوصف الذي كان من نصيب أمريكا في خطاب القاعدة، مع أن دور السعودية في التحالف، بل دور عموم  الدول العربية لا يتجاوز تشريع الحرب، وهو ما ذكره البغدادي نفسه في بداية التسجيل، والغريب أن هذا الهجوم على السعودية يأتي في ظل هجوم إيراني عليها بوصفها من يقف خلف تنظيم الدولة!!

والحال أن من غير المنطقي التعاطي مع كلام البغدادي عن المملكة باستخفاف، ذلك أن إمكانية استجابة بعض الشبان لأمره باستهداف الدولة والشيعة يبقى واردا، وإن صبّ ذلك في صالح إيران من جهة أخرى، لكن البغدادي يرى نفسه في حرب مع الجميع (يهود وصليبيّون وملحدون ومرتدون).

هي حرب طويلة في واقع الحال، والسبب أن الظروف الموضوعية التي أنتجتها لم تتغير، فالقتل الدموي من قبل بشار مستمر، والإقصاء في العراق كذلك، وها هو اليمن يضيف إلى المعركة بُعدا جديدا. وإذا كان البغدادي حالما في تأكيده على الانتصار النهائي وصولا إلى روما، فإن الآخرين سيكونون حالمين إذا اعتقدوا أن الحسم سيكون قريبا أيضا.

اقرأ المزيد
١٧ نوفمبر ٢٠١٤
ماذا فعلتَ في سورية ؟

في قمة العشرين في بريزبن جلس القيصر مجروحاً. انقضى زمن القبل والعناقات الحارة وتوزيع شهادات حسن السلوك. تغيّر موقع الرجل، وتغيّرت صورته. استقبله الزعماء الغربيون بالشكوك. أجلسوه في موقع المتهم. ولولا اللياقات الديبلوماسية لقالوا له: انظر دم الأوكرانيين على أصابعك. ولدى هؤلاء دم الأوكرانيين شيء ودم السوريين شيء آخر، وهو معني بالوليمتين.

كان موقفه صعباً. لم يعد باستطاعته التنديد بالتفرد الأميركي، وإلقاء اللوم على القيادة الأحادية للعالم، والتذكير بما ارتكبه الأميركيون في العراق، وما فعله «الأطلسي» في ليبيا. لم يعد بريئاً. صار متهماً. يعرف قسوة ما يقال عنه، وأن سلوكه أعاد إطلاق سموم الحرب الباردة، وأن سياسته تتسم بالشراهة والبلطجة، وأن هاجسه ترهيب الدول المحيطة بروسيا، وأنه يستخدم سلاح النفط والغاز وزعزعة الاستقرار لتركيعها. ويهدد القارة العجوز بسلاح الصقيع.

لم يكن الجو مواتياً في القمة. ثم أن الأرقام لا تكذب. العقوبات الغربية أوجعت الاقتصاد الروسي. الروبل يتقلص أمام الدولار، وانخفاض سعر النفط ليس خبراً ساراً. غادر القيصر قبل اختتام القمة. تذرّع بحاجته إلى النوم. أغلب الظن أنه يحتاج إلى مراجعة السياسة الثأرية التي يقودها «الرفيق» سيرغي لافروف.

المشكلة ليست فقط في أوكرانيا. إذا نظر إلى الشرق الأوسط لن يشعر بالارتياح. هذا هو المشهد في العراق وسورية. طائرة أميركية في الجو والجنرال قاسم سليماني على الأرض. يزرع لافروف فيحصد سليماني. ليس بسيطاً أن يستجير العراقيون بسلاح الجو الأميركي، أي بالمحتل السابق الذي احتفلوا سابقاً بخروجه. وليس بسيطاً أن تصبح الأجواء السورية في عهدة الطائرات الأميركية.

المشكلة ليست فقط في أوكرانيا. ماذا لو توصّل الأميركيون والإيرانيون إلى اتفاق؟ ماذا لو فتح الباب لتكون إيران الشريك الأكبر لـ «الشيطان الأكبر» في هذا الجزء من العالم، حيث كانت لروسيا تحالفات ومعاهدات واتفاقات؟ ومَنْ هو المنافس الحقيقي لروسيا في هذه المنطقة، أميركا أم إيران؟

نجحت روسيا في منع أميركا من التستر بقرار دولي لإطاحة النظام السوري. أظهرت قدرتها على العرقلة، لكنها أضاعت فرصة إظهار قدرتها على الحل. أعطت النظام السوري مزيداً من الوقت. كان أفضل لو ساعدته على التقدم نحو الحل. براعات لافروف ساهمت في توفير فرصة إطلالة «داعش». عمّقت النزاع السوري والحرب المذهبية وهزّت الوضع العراقي إلى حد الاستغاثة بالأميركيين. هكذا ولد المشهد الحالي: طائرة أميركية في الفضاء والجنرال سليماني على الأرض.

واضح الآن أن موسكو تريد العودة إلى تحريك الملف السوري. أميركا تقيم الآن في عقر دارها السورية. لا يحمل باراك أوباما برنامجاً لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد. لا يريد إحراج إيران أو استثارتها. لكن واشنطن تجمع الأوراق وتستعد لتدريب «المعارضة المعتدلة» لتشديد الضغوط حين تجيء الساعة. ربما لهذا السبب أعادت روسيا فتح الأبواب. ثمة من يتحدث عن «موسكو-1» لإطلاق الحل في سورية. لم يتضح حتى الآن ما إذا كانت لذلك علاقة ببيان جنيف وما إذا كانت روسيا ستوفر الأرضية لانعقاد «جنيف 3» وعلى أي أساس.

تعاطت روسيا مع الأزمة السورية بوصفها فرصة لاستنزاف هيبة الولايات المتحدة. فرصة لغسل الإهانة التي لحقت بروسيا وسلاحها في ليبيا. اعتبرتها أيضاً فرصة لاستنزاف «المجاهدين». فليذهبوا للموت في سورية بدل أن يتخندقوا في الشيشان وداغستان. لكن اللعبة أفلتت من الأيدي الروسية بعد ظهور «داعش» وأخواته.

ماذا ستقول روسيا لوليد المعلم الذي يستعد لزيارتها في الأسبوع الأخير من الشهر الجاري؟ وماذا ستقول للمعارضين؟ هل ستستخدم الملف السوري لاستعادة صورة الشريك المسؤول والمقبول، أم ستتابع سياسة حافة الهاوية فتتكرس سورية فيتنام جديدة لكثيرين؟

من حق بوتين أن يستدعي لافروف ويطرح عليه سؤالاً صريحاً: ماذا فعلتَ في سورية أو ماذا فعلنا هناك. ومن حق أي حاكم انخرطت بلاده في الأزمة السورية أن يطرح السؤال ذاته على وزير خارجيته. شهد الحريق السوري رقماً قياسياً من الأخطاء المكلفة في القراءة والتقدير. استمرار الأخطاء لا ينذر فقط بقتل مزيد من السوريين، بل يُنذِر أيضاً بقتل سورية مع كل ما يعنيه ذلك لحلفائها وللمنطقة.

اقرأ المزيد
١٧ نوفمبر ٢٠١٤
ازدواجية وسائل الإعلام: أكراد كوباني ومسلمو الروهينغا

قرأنا وسمعنا مرارا وجود ازدواجية معايير في النظام العالمي، فما هي ازدواجية المعايير؟ يقال إنها تطبيق قاعدة أو مبدأ على نحو غير منصف وبصورة مختلفة على أفراد أو مجموعات متباينة.
ويضم الفولكلور الإيراني مقولة شائعة تحمل قدرا كبيرا من الدعابة: «حبا في الله، أعطونا سقفا واحدا بمناخين مختلفين!».
وتدور قصة هذه المقولة حول امرأة متقدمة في العمر تتخذ موقفين متباينين تماما كأم وكحماة، تبعا للمواقف التي تواجهها. في الصيف، كانت هي وابنها وزوجة ابنها ينامون على أحد جوانب سقف المنزل، بينما كانت ابنتها وزوجها ينامان على جانب آخر من السقف. ورأت زوج ابنتها يعانق زوجته بحنان، فصاحت قائلة: «يا أنت! الطقس شديد الحرارة، هل تريد قتل ابنتي؟!».
في المقابل، كان ابنها يغط في نوم عميق، بينما تجلس زوجته على طرف الفراش تطالع كتابا، فقالت لها: «أترين كيف أن الطقس بارد؟ لماذا لا تضمين زوجك إليك؟!».
ودعوني أطرح عليكم بعض الأمثلة الأخرى عن ازدواجية المعايير.
داخل إيران، ينطوي الدستور على معايير مزدوجة وتمييز بين السنة والشيعة، بين الرجال والنساء، والمسلمين وغير المسلمين. مثلا، يجب أن يكون أي مرشح لمنصب الرئاسة رجلا وشيعيا، ما يعني أن جميع سنة ونساء إيران محرومون من الترشح للرئاسة.
كما أن هناك معايير مزدوجة في السياسة الأميركية تجاه البرنامج النووي الإيراني، حيث تهدد الولايات المتحدة إيران، مؤكدة أن جميع الخيارات مطروحة، نظرا لإمكانية أن تصنع طهران قنبلة نووية في المستقبل. في المقابل، عندما يتعلق الأمر بالرؤوس الحربية النووية الإسرائيلية، نجد واشنطن تتعامل مع القضية في صمت شديد، ولا نسمع كلمة من مسؤول منها حيال الأمر.
وخلال هذا المقال، أود التركيز على نمط آخر من ازدواجية المعايير، ويتعلق بقتل الأكراد بمدينة كوباني السورية على أيدي «داعش»، وقتل المسلمين في ميانمار.
لا شك أن تركيز وسائل الإعلام على كوباني، ودعمها للأكراد وتنديدها بـ«داعش» كان من المواقف العظيمة، بيد أن هناك قضية أخرى مشابهة تتجاهلها وسائل الإعلام، وتتعلق بقرابة مليون من الروهينغا يعيشون في بورما، تبعا لإحصاءات الأمم المتحدة، ويعتبرون حاليا إحدى أكثر الأقليات المضطهدة في العالم، حيث اضطر الكثيرون منهم إلى الفرار إلى «غيتوهات» ومعسكرات لاجئين في بنغلاديش المجاورة ولمناطق على الحدود بين تايلاند وبورما. وما يزال أكثر من 100 ألف من الروهينغا يعيشون في بورما داخل معسكرات مخصصة للمشردين، وتمنعهم السلطات من مغادرتها. بينما يعيش المسلمون الآخرون، الذين تتراوح أعدادهم بين 8 و10 ملايين نسمة، في رعب بالغ داخل ميانمار. ويعيش الكثير من المسلمين داخل معسكرات احتجاز. وكل أسبوع، ترد إلينا أنباء عن تعرضهم لمذبحة. وللأسف تدعم حكومة بورما هذا القتل الوحشي للمسلمين.
وتكشف النتائج التي توصلت إليها الأمم المتحدة عن تفاقم العنف ضد الروهينغا في ميانمار، والذين تقدر أعدادهم بـ1.3 مليون نسمة، وحرموا من المواطنة في ظل القوانين الوطنية.
وتأتي أعمال القتل بمثابة اختبار لحكومة ميانمار، التي لم تفعل شيئا يذكر لكبح جماح البوذيين الراديكاليين، رغم سعيها لإقرار إصلاحات اقتصادية وسياسية واسعة للتغلب على ما فعله القادة العسكريون الذين سبقوها في الحكم. وقد أيدت الحكومة قيودا صارمة فرضتها السلطات المحلية على حرية المسلمين في التنقل وحرمتهم من الخدمات الأساسية داخل ولاية راخين، التي يتركز بها أغلب أبناء الروهينغا.
منذ 2012، تم حشد الكثير من الروهينغا، وهم مجموعة تتعرض منذ أمد بعيد داخل ميانمار ذات الأغلبية البوذية، داخل معسكرات بائسة لا يسمح لهم بمغادرتها، ولو للعمل. أما من سمح لهم بالبقاء داخل القرى فيعيشون تحت رحمة السلطات المحلية، التي يستوحي الكثير من مسؤوليها سياساتهم من جماعة بوذية متطرفة استغل رهبانها الحريات الجديدة في البلاد للتنقل بمختلف أرجاء ميانمار للتحريض على كراهية المسلمين.
اللافت أن أون سا سو تشي، الحاصلة على جائزة نوبل وزعيمة المعارضة، نادرا ما تتعرض داخل بلادها لسؤال حول التمييز ضد الروهينغا، لأن هذا الأمر مقبول على نطاق واسع هناك. والصادم أن الزعيمة السياسية التي عانت من الإقامة الجبرية على امتداد قرابة عقدين وتترأس الآن الاتحاد الوطني للديمقراطية في بورما، تلتزم الصمت التام حيال ما يجري للروهينغا.
بمرور الوقت، تنتقل أعمال التطهير العرقي في بورما من سيئ لأسوأ. وفي تلك الأثناء، التزمت سا سو تشي والقيادات البوذية الأخرى الصمت التام وامتنعوا عن التعليق على هذه الكارثة.
والغريب أن أعمال القتل تلك تحدث على أيدي بوذيين، بينما التعاليم البوذية تحرم قتل الحيوان. وتحرم مبادئ البوذية على أتباعها إلحاق إصابة أو أذى بأي حيوان أو إنسان. وتلتزم التعاليم البوذية بنبذ العنف في التعامل مع جميع الكائنات الحية، باعتبار أنهم يحملون بداخلهم نفحة من طاقة روحانية مقدسة. وبالتالي فإن إيذاء كائن آخر يعني إيذاء الإنسان لنفسه.
أتذكر أنني في أعقاب تدمير تماثيل بوذا في باميان، ذهبت لكيوتو في اليابان، وكان الراهب موريموتو هو مضيفي. وأخبرني أنه بعد تدمير التماثيل دخل في فترة صيام طويلة، وصلى من أجل من دمروا التماثيل، وكان يهمس لنفسه أنهم لا يعرفون من هو بوذا.
اليوم وبعد المذابح التي تعرض لها المسلمون من دون أن يأبه لهم العالم، أستطيع القول إن البوذيين في بورما للأسف بدلوا صورة بوذا والبوذيين في العالم. ولك أن تتخيل بوذيا يقتل طفلا بساطور. إن هذا أسوأ مما فعله «داعش» في كوباني.

اقرأ المزيد
١٧ نوفمبر ٢٠١٤
حاضنة "داعش" الشعبية

فرض تنظيم "داعش" نفسه ظاهرةً تستحق دراسة وتأملاً كثيرين، بعد توسعه في العراق وسورية، وبات المحللون والمراقبون يكثرون الحديث عن أسباب نشوئه، وطبيعة تمويله، والأيديولوجيا التي يتبناها، وتأثيرها في سلوكه، وجاذبيته بالنسبة للمقاتلين الشباب، الذين يأتون إليه من شتى أنحاء العالم. من جملة الأمور التي يدور النقاش حولها بخصوص "داعش"، وجود حواضن شعبية له من عدمها في بعض البلدان، ومنها دول الخليج، والأسباب التي جعلت التنظيم يتمتع بحواضن شعبية في مناطق من العراق وسورية. يتعجب مراقبون ومحللون من رواج الفكر الوهابي في تلك المناطق، فهم يعتبرون أن الحواضن الشعبية لداعش موجودة في السعودية والخليج، حيث تنبع الأفكار السلفية الوهابية، وتتغذى بالتعليم الديني. أما في العراق وسورية وغيرها من البلدان العربية، فلا وجود لتربية سلفية منهجية، تصنع حاضنة شعبية لتنظيم مثل "داعش".

مشكلة هذا التحليل أنه يركز على عوامل فكرية وعقائدية، فيصل إلى استنتاجات خاطئة، بخصوص الحاضنة الشعبية. لم تتكون الحاضنة الشعبية لداعش في العراق وسورية، وفي الأماكن التي بايع فيها جهاديون البغدادي، لأسباب عقائدية، بل تكونت هذه البيئة لأسباب سياسية واقتصادية، بالدرجة الأولى، وأصبحت بيئة خصبة لنمو تنظيمات مثل "داعش". وهو تنظيم مثل باقي الجماعات خارج الدولة، يتوسع في حالة انهيار سلطة الدولة المركزية، أو ضعف قبضتها على الأطراف، إذ تحل هذه الجماعات محل الدولة، إما في تقديم بعض الخدمات، أو توفير الأمن والحماية لمكونات أهلية بعينها، في مقابل مكونات أخرى، أو في مقابل النظام السياسي الذي يتحول إلى طرف في الصراع الأهلي، وتصبح لهذه الجماعات حواضن شعبية، بسبب الخدمات أو الحماية، أو تمثيل هويتها في الصراع مع الجماعات الأخرى.

ينطبق هذا الكلام على تنظيمات أخرى، غير "داعش"، وهو ما يجعل محللين يتساءلون عن سر نجاح "داعش" في إيجاد حواضن شعبية، على الرغم من وجود جماعات أقل حدة وتشدداً منه؟ والجواب يكمن في التساؤل نفسه، فراديكالية "داعش" تضمن له المزايدة على خصومه من التنظيمات المختلفة، في تمثيل مكونات شعبية تشعر بالقهر والتهميش السياسي والاقتصادي، أو تعيش صراع هوية حادا مع مكونات أخرى، فداعش يُعَدُّ تعبيراً عن حالة الغضب والانتقام في ظروف حربٍ مستعرة. لا تؤمن الحواضن الشعبية لداعش بالأفكار السلفية، وهي لم تنشأ على الإيمان بها، لا في العراق ولا في سورية، ولم تكن المناهج الدراسية التي درسها هؤلاء تحوي أفكاراً حول التوحيد الصحيح، أو الولاء والبراء، لكنهم على استعداد لاحتضان داعش، في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الحالية، وهو أمر قد يتبدل بعد مدة.

قصور التفسيرات الدينية والعقائدية لوجود حواضن شعبية لداعش يصل إلى الحديث عن الحواضن الشعبية لداعش في السعودية والخليج، إذ تكثر التكهنات بوجود حاضنة شعبية لداعش في السعودية، لأسباب متصلة بالمناهج الدينية، ونشوء الوهابية هناك. لا يراعي هذا التحليل وجود حواضن شعبية في العراق وسورية، لم تصل إليها المناهج الدينية الوهابية إلا مع داعش، وهي احتضنت داعش، من دون أن تكون سلفية، كما أن هذا التحليل لا ينتبه إلى وجود نسخ من الوهابية في السعودية، تختلف عن النسخة الداعشية التي تعود إلى منابع الوهابية الأصلية، وتقتفي سيرة الحركة الوهابية في تأسيسها، لكن الأهم أن التعامي عن العوامل السياسية والاقتصادية لا يُمكِّن من فهم الأوضاع الاجتماعية جيداً.

" تكثر التكهنات بوجود حاضنة شعبية لداعش في السعودية، لأسباب متصلة بالمناهج الدينية، ونشوء الوهابية هناك "

في عام 2003، قامت خلايا القاعدة بسلسلة عمليات داخل السعودية، استهدفت مجمعات سكنية وعاملين أجانب في الشركات والمؤسسات، ومقر الأمن العام، وكانت نتيجة هذه العمليات عكسية على التنظيم، فالذين كانوا معجبين به، إثر هجوم "11 سبتمبر"، تغير موقفهم، لأنه بدأ يعمل في بيئتهم، ويهز استقرارها، وفي هذه البيئة، الدولة قوية، وهناك استقرار أمني واقتصادي، لا يجعل للقاعدة والتنظيمات المشابهة لها فرصة كبيرة لإيجاد حاضنة شعبية. وهكذا، أصبح اليمن مقر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، فهناك يمكن للتنظيم إيجاد بيئة حاضنة، في ظل ضعف الدولة وغياب الاستقرار بشكل عام. هذه التجربة مهمة لأخذها بالاعتبار، في أي حديث عن وجود حاضنة شعبية لداعش. فهذا التنظيم، مثل تنظيمات أخرى، تنمو في ظروف الحرب والصراع، ووجود حالة من الاستقرار، تقلص تمدد هذا التنظيم، فهو يحتاج إلى بيئة تشعر بالتهميش والقهر، ليكون ممثلاً لها ضمن الصراع.

إن فهم أسباب وجود تعاطف شعبي مع داعش في بعض المناطق من العالم العربي، مهم لمعالجة المسألة بشكل ناجح. وإذا كان المطلوب عزل هذا التنظيم عن أي قواعد شعبية، فإن هذا لا يتحقق عبر تثقيف الناس ضد أفكار داعش الوهابية، أو بصناعة تحالفات دولية بقيادة أميركية تحاربه، بل بإيجاد صياغات وطنية جديدة، تنجز توافقات بين المكونات المختلفة، على قاعدة بناء دولة المواطنة، ومعالجة التهميش السياسي والاقتصادي لبعض المكونات الشعبية، والخروج من الوصاية الأميركية والغربية، وتحقيق استقلال القرار، لأن داعش تعزز شرعيتها عبر الحديث عن استقلاليتها، وتمثيلها تطلعات الناس في مواجهة الهيمنة الغربية على المنطقة العربية ومقدراتها.

اقرأ المزيد
١٦ نوفمبر ٢٠١٤
الدروز وخيار الثورة السورية

حين أعلن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط أن «جبهة النصرة ليست منظمة إرهابية»، اعتقد البعض أن الأمر لا يتعدى لحظة المزاج السيئ الذي كان يشعر به القائد السابق للحركة الوطنية اللبنانية في ذلك الوقت، حتى وصل الأمر إلى اتهامه بمحاولة إنقاذ أو حماية طائفته من أتون الحرب السورية التي باتت نيرانها تهدد البيت اللبناني بشكل جدي، نتيجة لمشاركة «حزب الله» بفعالية أكثر في تأجيج هذه الحرب.

وكلام جنبلاط، وما تبعه من جولات في العرقوب (20 أيلول 2014) وحاصبيا وشبعا، جاء ليؤكد أن استشعاره للخطر كان في محله حول منطقة العرقوب التي تقع في جنوب لبنان وتضم قرى شبعا، كفر شوبا، الهبارية، كفر حمام وراشيا الفخار وتعتبر إحدى المناطق ذات الأغلبية السنية في جنوب لبنان إلى جانب قرى حاصبيا ذات الأغلبية الدرزية.

إذن المنطقة تتمتع بموزاييك طائفي مثالي، إلى جانب التنوع السياسي الذي ورثته من خلال كونها مركز ثقل المقاومة الفلسطينية، ومنها انطلقت الحركة الوطنية، والمقاومة الوطنية اللبنانية سابقا.

أما الآن فقد تغيرت الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، واختلفت الأدوار، فحزب الله هو القوة المهيمنة على امتداد الجنوب اللبناني، تشاركه بعض الأحزاب الموالية للنظام السوري كالحزب الديموقراطي والحزب السوري القومي الاجتماعي.

وفي الجهة المقابلة في الجولان والقنيطرة، الجبهة التي كانت تنعم بالهدوء والاستقرار طوال فترة سيطرة النظام السوري عليها أصبحت الآن في كنف جبهة «النصرة» والجيش الحر، ومقاتلي المعارضة، إلى جانب إسرائيل التي تراقب عن كثب ما يجري.

وحزب الله بدوره يراقب إنما بحذر أكبر، فهذه الجبهة تختلف عن شقيقتها في عرسال، والنظام السوري لا يملك فيها أي قوات تذكر، وطيران النظام يفقد فعاليته أمام «الخطوط الحمر» التي قد تضعها إسرائيل في تلك المنطقة في حال كبر حجم المواجهات.

وللنظام السوري بدوره أساليبه، فبعد انهزام قواته في تلك الجبهة عمد إلى الزجّ بالطائفة الدرزية السورية في المنطقة، في مواجهة مع جبهة النصرة وقوات المعارضة في عدد من البلدات في جبل الشيخ من الجانب السوري مما ترك أثرا في قرى حاصبيا والعرقوب وصولا إلى العمق الدرزي في جبل لبنان، ولا سيما بعد سقوط 27 مقاتلا وعشرات الجرحى من الدروز السوريين.

بالطبع هناك بعض الدروز اللبنانيين الموالين للنظام السوري من خلال قيادتهم التي ارتبطت بهذا النظام في زمن الوصاية، وهم أقلية بالنسبة إلى النسيج الدرزي الوطني الواسع، قد تغريهم إعادة اعتبارهم من قبل النظام السوري، من خلال البحث عن ثقب يخرجون عبره مجدداً إلى المشهد السياسي في لبنان.

والزعيم الدرزي وليد جنبلاط يعرف حقا تكاليف الحرب، والأثمان الباهظة التي يمكن أن يدفعها أي طرف درزي يحاول الوقوف مع النظام ضد الثورة في سوريا. ومن هنا تأتي ثوابت موقفه السياسي تجاه الحدث السوري ووقوفه إلى جانب الثورة وإيمانه المطلق بحتمية انتصارها.

وحين يدعو جنبلاط دروز سوريا إلى تحديد موقفهم من الثورة السورية: «لقد آن الأوان لاتخاذ القرار الجريء بالخروج من عباءة النظام الآيل إلى السقوط عاجلاً أم آجلاً والالتحاق بالثورة التي من الأساس رفعت شعارات الحرية والكرامة والتغيير وهي شعارات محقة ومشروعة لكل أبناء الشعب السوري”.

هو يدرك أيّ منزلق قد يودي بطائفته على امتداد سوريا ولبنان، وهو يدرك أيضاً أن النظام السوري مازال يراهن على الأقليات في سوريا ولبنان والدفع بها نحو حربه المجنونة، وضرب كل أشكال التعايش بين طوائف المنطقة .

كان جنبلاط واضحاً في كلامه المكتوب بافتتاحية جريدة “الأنباء” الناطقة باسم الحزب التقدمي الاشتراكي، وهو كلام لم يقله نتيجة ردة فعل سياسية على موقف ما. فالكلام يلزم صاحبه في محطة تاريخية يدرك جنبلاط أهميتها تجاه الثورة السورية، ففي لبنان من يعتقد أو استشهد من أجل فكرة أنه لا مستقبل للبنان، بما يمكن أن يشكله من تعايش في ظل وجود النظام السوري الحالي .

وبالتأكيد لن يكون دروز سوريا وفلسطين ولبنان، الطائفة الثانية التي قد تحمل البندقية في مواجهة حركة التغيير في سوريا. وما حدث في جبل الشيخ والعرقوب، ليس سوى «بروفة» لاستحداث جبهة جديدة قد تشكل إغراءً لـ«حزب الله» في تأمين المزيد من الغطاء الميداني لوجوده على الأراضي السورية تحت شعار محاربة “العدو الإسرائيلي”.

في حين أن وحدات من «حزب الله» تعمل في البقاعين الشمالي والغربي، على «تجنيد» شبان مسيحيين ومسلمين سنة ودروز، وتعرض عليهم التدريب والتسليح لمواجهة خطر «داعش» وأخواتها. والعنوان المرفوع «مصيرنا واحد وعلينا التصدي معا». وهو شعار يعتقدون أنه أكثر جاذبية من التصدي للعدو الإسرائيلي. ولا يقتصر الأمر على لبنان، ففي سوريا أيضا تجنيد لمسيحيين وعلويين ودروز، لكن تسمية «سرايا المقاومة» تغيب. هناك تطوع مباشر مع الحرس الثوري الإيراني برواتب شهرية تتراوح بين 1500 و2500 دولار.

أمام هذا البذخ الهائل من النظام الإيراني، والتجييش المتصاعد للأقليات بقيادة «حزب الله»، تحت مسميات عديدة، هل يمكن لكلام الزعيم الدرزي وليد جنبلاط أن يجد طريقه إلى «العقلاء» من أبناء الطائفة الدرزية، والسير بحتمية التاريخ، أن الطغاة سيسقطون عاجلاً أم آجلاً.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان