كثر في الآونة الاخيرة عمليات الخطف والاعتقال التعسفي من قبل مجموعات ملثمة تقوم بعمليات دهم واعتقال نشطاء او عسكريين او مدنيين او تجار ليستمر اختطافهم لعدة ايام ثم يعثر على جثامينهم مرمية على احدى المفارق او مكبات القمامة وقد كبلت ايديهم وعصبت اعينهم وتم تصفيتهم رميا بالرصاص دون معرفة الاسباب او من يقف وراء اعتقالهم .
يترافق ذلك مع اختفاء العشرات من الشبان على الطرقات لأيام وقد تطول لأشهر ليعثر عليهم على احدى الطرقات جثث هامدة وقد سرقت ممتلكاتهم من دراجة نارية او سيارة او ما شابه ذلك وتكثر هذه الاحداث في ريف معرة النعمان الشرقي وكفرنبل في ظل عجز كامل لعناصر القوى الثورية على الارض في معرفة وكشف هذه المجموعات ولاسيما بعد ان انتقلت لمرحلة التصفيات المباشرة عن طريق زرع عبوات ناسفة على اطراف الطرقات او المقار الامنية او السيارات الخاصة بشخصيات معينة بغية قتلهم والتخلص منهم لأسباب لا تخدم الا النظام المجرم الذي يسعى لتصفية رموز الثورة ولاسيما الاوائل منهم حيث شهدت مدينة كفرنبل العديد من عمليات الخطف ومحاولة التصفية كان اخرها تصفية الناشط الثوري جهاد زعتور احد ابرز رموز الثورة في كفرنبل
وفي ظل هذا العجر الأمني الذي تعانيه الفصائل الثورية في المناطق المحررة في القاء القبض على اشباح الظلام والحد من عمليات الخطف والقتل والسرقة يطرح المواطن السوري الثائر تساؤلات عديدة منها :
- من هو الكيان او الفصيل المخول بحمايته ومحاسبة المجرمين ؟
- هل عدنا للاعتقالات ذات الطابع الأمني بعد أربع سنوات من العذابات والمعاناة للتخلص منها؟
- أين الجهات التي يتوجب عليها صناعة المؤسسات صاحبة السلطة في التحقيق العادل والمحاكمة العادلة في المناطق المحررة؟
- أين نحن ممن ينصب نفسه مسؤولا عن محاسبة الشعب السوري ويعمل على ذلك ويعتقل ويحقق ويحاكم لا ندري كيف وأين ولماذا؟
ويبقى المواطن الثائر ضحية هذه الاشباح ويبقى الفاعل مجهولا حتى اشعار اخر
أثار كلام المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي مستورا عن خطة طرحها خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق تقضي بوقف إطلاق نار جزئي من خلال البدء في "تجميد المعارك بحلب" العديد من ردود الفعل المؤيدة والمعارضة لمقترحه.
فقد تحدث دي مستورا نفسه عن موقف إيجابي من طرف بشار الأسد يتلخص في استعداده لدراسة الخطة والعمل عليها. بالمقابل، لم يعترض عليها المجلس العسكري في مدينة حلب، بل وضع شروطا للموافقة عليها، فيما تحفظ عليها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، ورفضها عدد من الفصائل العسكرية المعارضة.
حيثيات المبادرة
تأتي الخطة التي تحدث عنها دي مستورا ضمن مبادرة تهدف إلى وقف القتال المستمر منذ أكثر من ثلاث سنوات في سوريا قدمها إلى مجلس الأمن في 31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتقوم على فكرة إنشاء "منطقة خالية من الصراع" يمكن أن يبدأ تطبيقها من خلال تجميد القتال في مدينة حلب، وبقاء كل طرف في موقعه الحالي بهدف إيجاد شكل من أشكال الاستقرار.
"يبدو أن دي مستورا يستغل انشغال وتركيز المجتمع الدولي على حرب تنظيم الدولة الإسلامية كي يسهم في تحويل كل الجهود نحو هذه الحرب، بمعنى أنه يسعى لتركيز جهود المعارضة والنظام في الحرب ضد داعش"
وفي حال نجاح عملية التجميد فإنها ستشكل حجر الأساس للمزيد من العمليات والخطط المماثلة، على أن يتم خلال فترة التجميد السماح بنقل مساعدات إنسانية وغذائية للمناطق المحاصرة والتمهيد لمفاوضات بين النظام والمعارضة.
ويبدو أن دي مستورا يستغل انشغال وتركيز المجتمع الدولي على حربه ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) كي يسهم في تحويل كل الجهود نحو هذه الحرب، بمعنى أنه يسعى لتركيز جهود المعارضة والنظام في الحرب ضد داعش.
لكن ما يسكت ويتعامى عنه المبعوث الدولي هو أن أي حل في سوريا يجب أن ينهي الظلم الذي وقع على السوريين من قبل نظام بشار الأسد، وأن هذا النظام الظالم لم يخض أي معركة حقيقية ضد ظلم داعش، بل إنه حين كانت فصائل من الجيش الحر تخوض معارك ضد هذا التنظيم كانت طائراته تقدم الإسناد والعون له من خلال قصف مواقع المعارضة السورية بالصواريخ والبراميل المتفجرة، بل والأدهى من ذلك هو أن نظام الأسد سهل لتنظيم داعش سيطرته على العديد من المواقع، خاصة في الرقة وريف حلب، في حين أنه كان يدافع عنها بشراسة عندما كانت فصائل الجيش الحر تهاجمها.
وفي هذا السياق، يتساءل سوريون ومراقبون عن عدم اصطدام طيران النظام مع طيران التحالف، ذلك أنه لا يقصف مناطق انتشار داعش فقط، بل أيضا المدن والمناطق الخاضعة لسيطرة فصائل الجيش السوري الحر، الأمر الذي لا يجد تفسيره إلا في وجود تنسيق مسبق غير معلن يقتسم فيه الطرفان الأجواء السورية.
ولأجل ذلك يخشون من أن تكون مبادرة دي مستورا تصب في سياق رفع مستوى التنسيق مع نظام الأسد إلى مستوى تعويمه وإعادة تأهيله من خلال إعادة الاعتراف الدولي به، وجعله شريكا في الحرب على داعش على الرغم من حديث المسؤولين الأميركيين المعلن عن عدم شرعيته وعدم التنسيق معه في حرب التحالف الدولي ضد داعش.
غير أن التساؤل عن حيثيات مبادرة دي مستورا يمتد إلى أسباب اختيار مدينة حلب نفسها، والتي أجاب عن بعضها دي مستورا نفسه، وأرجعها إلى كون المدينة واقعة "تحت الضغوط منذ أعوام وفي نزاع مستمر"، خاصة بعد أن أعرب عن صدمته من الدمار الهائل الذي رآه خلال زيارته مدينة حمص، ولا يريد "أن يحصل ذلك في حلب".
لكن السبب الأساس لاختيار حلب يكمن في وجود مخاوف من هجوم قريب لـ"داعش" على هذه المدينة على غرار ما حدث لمدينة الرقة نظرا لموقعها الإستراتيجي، وليس لأنها "مدينة ترمز إلى الحضارة والأديان والثقافات السورية والتاريخ والحضارات المتعددة"، إذ يعلم القاصي والداني أن أحياء عديدة من هذه المدينة العريقة والتاريخية حولها النظام الأسدي إلى مناطق أشباح، حيث أمعن في قصفها بمختلف أنواع الأسلحة والطائرات والبراميل المتفجرة، وعمل على تدمير أسواقها ومعالمها القديمة على مرأى العالم كله، ولم تشر مبادرة دي مستورا إلى حجم الخراب الذي سببه النظام.
موقف المعارضة
صدرت مواقف متباينة حيال المبادرة من طرف المعارضة السورية -بشقيها السياسي والعسكري- الأمر الذي عكس تشرذمها وانقسامها، حيث اعتبر رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية هادي البحرة المبادرة "غير واضحة"، معتبرا أن "الحل لا بد أن يكون شاملا"، وأنها لن تفيد سوى نظام الأسد إلا إذا ترافقت مع حل سياسي شامل.
"يظهر من تصريحات دي مستورا أن مبادرته حتى وإن نفذت -وهو أمر مستبعد في المدى القريب على الأقل- فإنها لا تشكل إلا خطوة أولية، وليست حلا سياسيا، ولا ترتقي إلى خطة سلام قادرة على إنهاء معاناة السوريين"
أما رئيس "المجلس العسكري في حلب" التابع للجيش السوري الحر العميد زاهر الساكت فقد حدد أربعة شروط للتهدئة في المدينة تتلخص في خروج المليشيات الشيعية التي تقاتل إلى جانب النظام، ووقف القصف الجوي وإلقاء البراميل على أحيائها، وإطلاق سراح المعتقلين، ومحاسبة المسؤولين عن استخدام السلاح الكيميائي ضد السكان المدنيين في غوطة دمشق وغيرها.
ويظهر من تصريحات دي مستورا أن مبادرته حتى وإن نفذت -وهو أمر مستبعد في المدى القريب على الأقل- فإنها لا تشكل إلا خطوة أولية، وليست حلا سياسيا، ولا ترتقي إلى خطة سلام قادرة على إنهاء معاناة السوريين.
وتزداد مخاوف السوريين من أن المبادرة لا تتضمن رؤية سياسية لحل الأزمة، إنما تتحدث عن تجميد القتال في مدينة حلب فقط، ولا تمتد على كامل مناطق المحافظة نفسها، والهدف منها هو حرف الصراع، وتحويل وجهته نحو محاربة داعش ودحره على الأرض، في حين أن مقاتلي الجيش السوري الحر وجميع "المعتدلين" يرون في النظام خطرا إلى جانب داعش، ويساوون بين النظام وبينه، بل ويعتبرونه صنيعته ولن يتوقفوا عن محاربته.
وتثير تعقيدات الوضع في سوريا التباسا لدى دي مستورا يخص فهم التطورات الحاصلة فيها، حيث إن مبادرته لا تأخذ معاناة السوريين في الحسبان، ولا تضعها ضمن حساباتها، فالسوريون -معارضة سياسية أو عسكرية- لم يستشاروا في وضع عناصر خطته، وكل ما عليهم هو تنفيذ ما يريده المبعوث الأممي الذي يقول لهم "ليست لدينا خطة للعمل، أوقفوا القتال وقلصوا العنف" دون أي مقابل، عليكم تغيير وجهة بنادقهم من النظام إلى داعش.
محاولات التعويم
تلتقي مبادرة دي مستورا مع محاولات روسيا الوقوف في وجه أي حل يفضي إلى نهاية نظام الأسد، لذلك تسعى جاهدة إلى إعادة تأهيل النظام من خلال مبادرتها إلى لقاء بعض رموز المعارضة السورية، حيث استقبلت مؤخرا وفدا برئاسة أحمد معاذ الخطيب الذي اندفع في تقدير إرهاصات زيارته إلى موسكو، وراح يحلم بأن شمس الخلاص السوري قد تشرق من موسكو، وهذا مستحيل لأن قادة الكرملين شركاء نظام الأسد في حربه الكارثية ضد أغلبية الشعب السوري.
وإذا كان الروس قد أعلنوا لزوارهم في أكثر من مناسبة أن المسار السياسي لحل الأزمة يجب أن يسير بالتوازي مع مسألة محاربة الإرهاب التي تدندن عليه الدول فإن ذلك يلتقي تماما مع ما ترمي إليه مبادرة دي مستورا، ومع جهود مصرية خجولة هدفها أيضا إعادة تأهيل نظام الأسد عبر إدخاله في مفاوضات ترمي إلى إعادة الاعتراف به، وتوحيد الجهود لمحاربة داعش.
"لم يقرأ دي مستورا درس مفاوضات جنيف الذي أظهر للعالم أن النظام السوري لم يرسل وفده للتفاوض، بل لكي يراوغ ويماطل، ويحاول تحويل قطار التفاوض عن سكة الحل السياسي إلى سكة محاربة فصائل المعارضة المسلحة "
كل هذه المحاولات لإعادة تأهيل الأسد وتعويمه تُجرى في وقت استفاق فيه الرئيس أوباما من غفوته، ليطلب من مستشاريه مراجعة الإستراتيجية الأميركية في سوريا بعد أن لامس آفاق الحل في سوريا والذي يقضي بأن "إزاحة الأسد ضرورية لهزيمة داعش"، الأمر الذي يتطلب ضرب أساس التزامه في الشرق الأوسط المتعلق بالحرب ضد الإرهاب، والقائم على الفصل بينها وبين ضرب نظام الأسد، وعلى مقولة تفيد بأن حل الأزمة السورية لا يمكن أن يكون عسكريا، وإنما من خلال تسوية سياسية.
وعلى أساس هذا الفهم أخلت إدارته بوعودها والتزاماتها خلال أكثر من ثلاث سنوات مضت من عمر الثورة السورية حيال الشعب السوري، وحيال المعارضة وباتت فاقدة ضميرها الإنساني.
ويبقى أن المبعوث الدولي دي مستورا لم يقرأ درس مفاوضات جنيف الذي أظهر للعالم أن النظام السوري لم يرسل وفده للتفاوض بل لكي يراوغ ويماطل، ويحاول تحويل قطار التفاوض عن سكة الحل السياسي إلى سكة محاربة فصائل المعارضة المسلحة وتدمير الحاضنة الشعبية للثورة.
ويكشف واقع الحال أنه لا يمكن لمبادرة دي مستورا أن تعالج الكارثة التي أصابت السوريين لأنها لا تنظر في مسبباتها، وتتغاضى عن الحرب الشاملة التي بدأها النظام الأسدي ضد أغلبيتهم منذ اندلاع الثورة السورية.
كما لا يمكن لعاقل أن يختصر الكارثة السورية بمسألة إرهاب مدعوم عربيا ودوليا إلا إذا صدقنا أن النظام يمكن أن يتحول من قاتل دمر أحياء معظم المدن والبلدات السورية وهجر ملايين السوريين إلى ضحية وديعة تدافع عن أغلبية السوريين الذين تحولوا -وفق هذا المنطق- من ضحايا نظام ظالم ودكتاتوري إلى مجرمين وإرهابيين يستحقون القتل والإبادة والتشريد.
وبالتالي، فإن العنف هو العلاج الوحيد لسلوكهم الإجرامي بغية استعادة أمن البلاد واستقرارها، وإعادة الجميع إلى مظلة النظام الظالم الجاثم على صدور السوريين منذ أكثر من أربعة عقود من الزمن، وهو أمر لا يمكن أن يحصل مهما كثرت المبادرات، لأن السبيل الوحيد هو إنهاء حكم الأسد.
يثير توجه الإدارة الأميركية لمراجعة استراتيجية التحالف الدولي ضد الإرهاب، جملةَ أسئلة كثيراً ما طرحت خلال الفترة الأخيرة على بدء عمليات التحالف قبل شهرين مضيا، ضد كلاً من تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة وتنظيم خراسان، في سوريا والعراق. وتتمحور هذه الأسئلة مجدداً حول آليات تلك الاستراتيجية وأطرافها، وجدواها، وحقيقة تعاونها مع نظام الأسد في ظل مؤشرين أساسيين أنها لا تتم بالتنسيق مع المعارضة السورية، وأنها تتسم بغموض أقرب إلى أجندة غير مفهومة بالنسبة لنا، لدى واشنطن، التي تفكر ما إذا كانت محاربة الإرهاب تستوجب، إضعاف الأسد أو إزاحته.
المحاولة الأميركية لاستراتيجية التحالف، التي أمر بها الرئيس أوباما مستشاريه قبل أيام، تأتي في ظل معطيات أساسية تتصل بأداء الإدارة الأميركية لملفات الشرق الأوسط، التي تشهد تعقيداً متلازماً مع الإخفاق الذي قلّما منيت إدارة أميركية سابقة على شاكلته. فقد اتسمت إدارة أوباما بالتردد والضعف، وعدم الحسم، خاصة بما يتصل بالملف السوري. يضاف إلى ذلك تأثيرات خسارة الديمقراطيين أغلبيتهم في الكونغرس لصالح الجمهوريين، الذين يوجهون على الدوام، انتقادات حادة لسياسة أوباما الخارجية والدفاعية، والطريقة التي يدير بها البيت الأبيض الحالة السورية. كما يؤخذ عليه ما اعتبرته أوساط الجمهوريين تهاوناً في اتخاذ استراتيجيات أكثر نجاعة في محاربة الإرهاب، كان من الممكن أن تؤدي إلى منع تنامي نفوذ وقدرات المنظمات والجماعات الإسلامية المتشددة في الشرق الأوسط، التي يُنظر إليها كخطر يهدد الأمن القومي و مصالح الولايات المتحدة، بشكل خاص.
من شأن الأغلبية الجمهورية في الكونغرس، أن يكون تأثيرها مباشراً على السياسة الخارجية الأميركية، على صناعة القرار وتوجيه السياسات، وعلى ميزانيات مشروعات الإدارة الأميركية، بما فيها عمليات التحالف الدولي ومحاربة الإرهاب، التي تتولى واشنطن قيادتها. وجهة نظر الجمهوريين واضحة وثابتة لجهة أن تقوم الولايات المتحدة بعمل عسكري متكامل، بما في ذلك التدخل البري، في سياق معالجة الملفات الدولية الساخنة، كالملف السوري وداعش بغض النظر عن انعكاس ذلك على الولايات المتحدة. هذا الموقف تطبيق لمبدأ مسؤولية الولايات المتحدة على حفظ السلام العالم العالمي، ودورها الريادي في ذلك.
من المحتمل أن يبادر الجمهوريون الى طرح مشروعات، تتبنى تولي واشنطن دوراً أكثر فاعلية في استخدام القوة. هذا الأمر سيقود إلى تعثر خطط أوباما المربكة أصلاً، وفقاً لتباين أولويات مفهومي الدبلوماسية والقوة في العلاقات الدولية، بين الجمهوريين والديمقراطيين، إضافة إلى عرقلة تمويلها كما يحدث عادة في الكونغرس الأميركي، إذا لم يكن هناك توافق عليها.
هذا المشهد هو دافع أساسي لقرار الرئيس الأميركي، بإعادة النظر في استراتيجية التحالف الدولي، وتقييم مراحلها ونتائجها حتى الآن مع بروز تساؤل حول الموقف من نظام الأسد، وما إذا كانت الاستراتيجية يجب أن تشمله. لاشك في أنها تحتوي النظام السوري، بإبقائه تحت الخوف من أي خطأ يرتكبه يؤدي إلى إعاقة خطط التحالف، أو استهداف طائراته بأي شكل، وهو ما تحدثت عنه الادارة الأميركية بعد يومين من المراجعة، بتحذير الأسد من نتائج استهداف التحالف. هذا التحذير يقترب من سياسة الجمهوريين، لكنهم يطالبون بما يقود إلى تقليص الدورين الإيراني والروسي في المنطقة، وبالتالي مزيد من إخضاع نظام الأسد للأجندة الأميركية، وهو ما يتوافق عليه الساسة الأميركيون، بدلاً من إزاحة النظام أو المطالبة بتنحي الأسد بشكل جدي، في الحدّ الأدنى.
يبدو أن واشنطن مستمرة في التغاضي عن الجرائم المرتكبة في سوريا منذ ما يزيد على ثلاثة أعوام، من صنع الإرهاب وإيجاد بيئة ملائمة لانتشاره، ونظام الأسد في مقدمة أولئك الذين يمتهنون ممارسة الإرهاب. مع ذلك تتجاوزه استراتيجية التحالف، التي لم تفرز نتائج مباشرة وواضحة، فيما يتصل بمحاربة الإرهاب في المنطقة. على النقيض من تحجيم داعش، فإن -ومنذ سبتمبر الماضي- الدولة الإسلامية قد تمددت جغرافياً، وتعززت قدرتها القتالية، واجتذبت مزيداً من المنضويين إلى صفوفها.
في مواجهة عمليات التحالف، تمكنت داعش من فهم نقاط ضعفها، ومفاصلها، فأعادت بناء استراتيجية المواجهة مع الولايات المتحدة وحلفائها على الأرض. فتمكن التنظيم حتى الآن -إلى درجة ملحوظة-، من الإفلات من نتائج حاسمة. واستطاع بالمقابل أن يكثّف عملياته ويصعّد من جرائمه الوحشية، في مختلف المناطق الذي نفذ فيها إعدامات في دير الزور وريف حلب وإدلب، وأخيراً عملية الذبح الاستعراضية لجنود سوريين أسرى، إضافة إلى الأميركي بيتر كاسينغ العامل في حقل الإغاثة الإنسانية. فيما يتجه الوضع في كوباني/عين العرب إلى ما يشبه حرباً مفتوحة طويلة الأمد، تستنزف أطراف الصراع المسلح، وتعمق الخلافات الإقليمية والدولية، والرابح الوحيد هو قوى الإرهاب.
نظام الأسد من جهة ثانية، تمكن بفضل السياسة الأميركية، ودعم موسكو وبيجين، من الإفلات من العقاب الدولي، على جرائم الإبادة المنظمة، وفي مقدمتها استخدام السلاح الكيمياوي. وشكلت عملية إرغام النظام على تسليم مخزونه الكيمياوي، مقابل عدم محاسبته، والتغاضي تالياً عن استخدامه الغازات محلية الصنع، غير المحظورة، نظراً لابتكار تركيبها، وطرق استخدامها في سوريا. وفي الواقع لم تكن هناك أي إجراءات دولية تمنع نظام الأسد من استمرار استخدام الكيمياوي بمختلف أشكاله ومستوياته، ضد المدنيين السوريين.
واليوم فإن استراتيجية التحالف الدولي، تمنح النظام السوري فرصة جديدة للاستمرار في استهداف المدنيين، تحت ذريعة محاربة الإرهاب، جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة، وبالتناوب مع طلعاتها الجوية.
وقد أتاح التحالف استغلال داعش، لما تسميه المواجهة مع الهجمة الصليبية الجديدة والأخيرة، التي سيندحر فيها الغرب في دابق. وتمكنت من حشد قوى جديدة ما كانت لتنضوي تحت رايتها، ولكن قدرة تنظيم الدولة، وسيطرته على الأرض، وترهيب المواطنين، جعل منه رأس حربة في مواجهة عدوان التحالف الصليبي، كما تنظر إليه داعش والنصرة على حدّ سواء.
إن تأخر الموقف الأميركي في حسم ملفات المنطقة، وعجز استراتيجيات التحالف تاليا، لن يقودا إلا لمزيد من التعقيد والفوضى، الرابح فيه نظام الأسد وداعش حتى اللحظة، في ظل معارضة دخلت النفق المظلم بسبب إغفالها دوليا، واستفحال صراعاتها الداخلية.
من أمر بقتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري؟ هو نفسه الذي أمر بقتل جبران تويني وسمير قصير وبيار الجميل وحاول قتل مروان حمادة واللائحة طويلة وتطول الآن مع ما يجري على الارض السورية مع ٢٠٠ ألف قتيل وملايين النازحين. إن كل ما يحدث في سورية حالياً ما كان ليحدث لو تم وضع حد دولياً وإقليمياً لسلسلة الجرائم في لبنان. فالغرب مسؤول، وفي الطليعة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، الذي اعتقد انه اذكى من سلفه جاك شيراك في التعامل مع بشار الأسد، فأعاد العلاقات الفرنسية السورية الطبيعية ثم بعد سنتين من اعادتها ندم وأدرك انه لا يمكن التعامل مع النظام السوري.
شهادة الوزير اللبناني السابق النائب والزميل مروان حمادة أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري أعادت الى الذاكرة ألم الاستاذ الراحل غسان تويني وابنه الشهيد جبران لتدخل بشار الأسد في المؤسسات الاعلامية اللبنانية في طليعتها جريدة «النهار» ثم محطة «أم تي في» وتلفزيون «المستقبل». وروى حمادة كيف طلب الاسد من رفيق الحريري بيع أسهمه في جريدة «النهار» التي اعتبرها معادية لسورية لأنها كانت صوت السيادة والاستقلال، واعتبر هذا عداء لسورية، فلم يكتف الأسد بمحاولة إفلاس «النهار» بل حاول تجريدها من الأقلام الحرة التي كانت تطالب بالاستقلال وحرية القلم، فرغب بتصفية صحافييها اللامعين مثل الشهيد جبران تويني، الذي وجه في احدى افتتاحيته في «النهار» عام ٢٠٠٠ كتاباً مفتوحاً الى بشار الاسد، في حين ان الشهيد سمير قصير كان يكتب مقالات عن ربيع دمشق.
من عرف مِن قُرْب غسان تويني ونجله جبران كان يعرف مدى تحمل الوالد الرصين وصموده بذكاء للضغوطات والتهديدات من نظام بشار الاسد. وذكّر حمادة بافتتاحية صهره الراحل غسان «لبنان يحكم مع دمشق ولا يحكم من دمشق». وكان غسان من أشد منتقدي وكيل بشار الاسد في لبنان الرئيس السابق اميل لحود، فـ «النهار» كانت رمز الحرية والاستقلال في لبنان وكانت تهدد مصالح سورية فيه لأنها كانت تفضح ممارسات النظام السوري في حياة البلد اليومية.
إن أحداث سورية ورفض الأسد التعاطي مع مطالب شعبه منذ البداية بشكل مسالم واعتباره أن تظاهرات شعبه هي حركات إرهابية، تشبه تماماً ما قاله عن الرئيس رفيق الحريري والشهداء الآخرين أنهم كانوا يهددون مصالح سورية في لبنان. إن شهادة مروان حمادة برهان قاطع عما كان معروفاً جيداً في الاوساط التي كانت مقربة من الرئيس الحريري ومن الزملاء الاصدقاء الشهداء جبران تويني وسمير قصير ومن الراحل غسان تويني، فكان الحريري يزعج دمشق بحجمه الدولي وعلاقاته مع الجميع من الغرب الى الشرق. وحاول الحريري الحكم مع دمشق، معتقداً أن سورية تستفيد من انتعاش لبنان الاقتصادي والسياسي. أما بالنسبة إلى صحيفة «النهار»، فكان غسان تويني يطلب دائماً من نجله جبران الحذر من تهديد سورية، لأن خبرته الطويلة مع نظام الأب والابن علمته أن هذا النظام لا يفهم إلا لغة التهديد والقتل. ورغم ذلك لم يطلب غسان من نجله الوحيد تغيير نهجه في وجه ممارسات النظام السوري في لبنان، وكان فخوراً بشجاعة جبران على رغم التهديدات التي كان يتلقاها. إن شهادة حمادة أمام المحكمة الدولية تقدم العناصر التي تكرس قناعة من يعرف تاريخ سورية في لبنان وفي سورية الآن، بأن النظام السوري الحالي هو الذي أعطى الأمر باغتيال الرئيس الحريري وبعده كل شهداء لبنان، والآن شهداء سورية. إن وحشية «داعش» وما يرتكبه من مجازر وقتل ما كانت ستظهر في المنطقة كما هي الآن لو تم منذ البداية وقف ممارسات النظام الذي يقتل منذ قيامه في سورية، سواء في حماة أو اغتيال كبار رجال لبنان مثل كمال جنبلاط. ولكن هذا النظام كان يخدم منذ البداية مصالح إسرائيل وأميركا والسؤال اليوم هو ما إذا استمر هذا النظام في خدمة هذه المصالح أو أن مهمته انتهت. الأحداث وتردد أوباما في سياسته السورية تطرح السؤال.
أثار المبعوث الدولي، ستيفان دي ميتسورا، بفكرة المناطق المجمدة آمال سوريين كثيرين بإمكانية فتح ثغرة في جدار الحرب الوحشية، والتقدم، ولو خطوة صغيرة، في اتجاه التهدئة، على طريق إيجاد حل سياسي للمحنة السورية المستعصية. ومن الطبيعي أن يثير هذا العرض خيال أبنائنا الذين يتعرضون في المناطق المحاصرة، أو الخارجة عن سلطة نظام الأسد، بمقدار ما يلوح لهم بالخلاص، على الأقل من حرب الجوع والبراميل المتفجرة والحارقة، ومن القنص والتشبيح من كل الأشكال. لكن، ليس في مخطط وقف إطلاق النار، بدءاً من حلب أي مشروع حل سياسي. بالعكس، هدفه مساعدة النظام من قبل حلفائه، الروس والإيرانيين، على قطف ثمار حرب التجويع والتركيع والقتل العشوائي والتهجير المنهجي للسكان، وقتل أي حياة مدنية طبيعية في المناطق التي يسيطر عليها المقاتلون المعارضون. ولا يعني، في النهاية، إلا قبول السوريين بوضع حد للصراع، من دون أن يضمنوا أي تغيير، أو تحول في نظام الحكم وفي الحاكمين، بل، فقط، لقاء السماح لهم بعدم الموت تحت البراميل المتفجرة، وبتلقي المعونات الغذائية الدولية، أي الاعتراف في النهاية والإقرار بالأمر الواقع.
يعرف الإيرانيون الذين يقودون العمليات العسكرية والسياسية في سورية أن الاستنزاف أصاب جميع القوى، وفي مقدمها النظام، وأن الأسد ليس في حاجة إلى أكثر من تجميد المواقع، ووقف إطلاق النار، حتى يستمر، ويوقف تدهور موقفه العسكري والسياسي، فوقف إطلاق النار، من دون شروط، سوى تأمين الغذاء للمناطق المحاصرة، يعني، ببساطة، تحرير الأسد من كل الضغوط العسكرية والدولية، وتكريس سلطته من جديد في المناطق التي يسيطر عليها، وهي الأهم سياسياً في سورية، وتركه المناطق الأخرى الخاضعة للمعارضة تكتوي بنار الفوضى والصراعات الداخلية، والتسول على المساعدات الدولية.
مثل هذا الوضع لا يشكل ضماناً لبقاء الأسد، كما يريد الإيرانيون فحسب، وإنما يريح، أيضاً، المجتمع الدولي الذي يريد أن يتخلص من عبء المأساة السورية، ولا يبقي من القضية السورية، أعني قضية تغيير نظام حكم جائر وقاتل، إلا بُعدها الإنساني. سيقدم المجتمع الدولي المساعدات لمناطق المعارضة، حتى تستمر في الحياة، لكنه شيئا فشيئاً سوف يتعامل مع دمشق كعاصمة للدولة السورية المتبقية، في حين سينظر إلى مناطق المعارضة المتفرقة كفراطة وفرق حساب.
" ليس من قبيل المصادفة أن يختار دي ميتسورا مدينة حلب، والتركيز عليها، فبتجميد القتال في حلب يسمح لنظام الأسد الإيراني أن يستجمع قواه من أجل القضاء على معاقل الثوار في الغوطة الشامية، وينظف منطقته من المعارضة نهائياً. "
من الطبيعي أن يتحمس الأسد لمثل هذا المخطط الذي يأتي ليكمل عمله التدميري، ويؤمن استمراره، بتكريس تقسيم الأمر الواقع للبلاد بينه وبين المعارضة، مع احتفاظه بالجزء الأساسي من الدولة، ومواردها ورموزها، وتركه سائر المناطق هدية مسمومة للمعارضة تتنازع عليها مع داعش والقوى المتطرفة الأخرى، وتأكل بعضها فيها.
وليس من قبيل المصادفة أن يختار دي ميتسورا مدينة حلب، والتركيز عليها، فبتجميد القتال في حلب يسمح لنظام الأسد الإيراني أن يستجمع قواه من أجل القضاء على معاقل الثوار في الغوطة الشامية، وينظف منطقته من المعارضة نهائياً. هذا أفضل تتويج يمكن أن يحلم به الأسد لسياسة عقد الهدن الكثيرة التي وقعها مع مقاتلي الأحياء والقرى، والتي حيد من خلالها آلاف المقاتلين، وخفف العبء عنه، ليعزز مواقعه في دمشق والوسط والساحل، ويجعل منها دولته الخاصة المعترف بها.
مشروع دي ميتسورا هو طوق النجاة لنظام الأسد المتهاوي والمهدد، الذي يأتي في اللحظة المناسبة، وهو الضربة القاضية التي يريدها حلفاؤه للثورة وأهدافها. سيتمترس الأسد والإيرانيون في دمشق وملحقاتها، وهذا يكفيهم، ويتحدوا المعارضة في إقامة النظام التعددي الديمقراطي الذي قامت من أجله الثورة في مناطقها المبعثرة. بعكس ما يشاع تماماً، لا يفتح المشروع أي أفق للحل أو للتسوية أو للمفاوضات، ولا للانتقال السياسي، ولا لحكومة شراكة، حتى من نوع لا وطني، لكنه بتقسيمه سورية بين المعارضة وداعش والنظام، يلغي الحاجة إلى المفاوضات والتسويات والمطالب الديمقراطية من الأساس، ويمكّن كل طرف من تطبيق النظام الذي يريده في منطقته. وفي الحقيقة، ينهي وجود سورية نفسها كدولة.
ولا أعتقد أن الدول ستعارض ذلك، بل ربما وجد كثير منها، بما فيها من يدّعي الصداقة للشعب السوري حتى الآن، أفضل وسيلة للتملص من المسؤولية، كما سيجد في وجود دولة إسلامية متطرفة في شرق سورية أفضل وسيلة لدفع المسلمين السنة، وإغراقهم في شلالات دماء حرب أهلية داخلية.
يظهر، الآن، بشكل واضح، أن "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، أو "دولة الخلافة"، عادت جزءاً من التكتيك الأميركي للتدخل في المنطقة، بعد أن ظهر، في السنتين الأخيرتين، أنها تخضع لسياسات النظامين في إيران وسورية، بحيث جرى توظيفها في مواجهة الثورات. هذا تحوّل "كبير"، لكنه يزيد في توضيح طبيعة هذا التنظيم الذي لعب أدواراً متعددة، منذ أنشأه أبو مصعب الزرقاوي، تحت مسمى تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين سنة 2005 امتداداً لتنظيم القاعدة. وحيث لعب أدواراً مهمة في إيصال الوضع العراقي إلى ما وصل إليه من صراع طائفي، وتدمير للمقاومة التي واجهت الاحتلال الأميركي، والضغط على "السنّة" من منظور ديني متشدد، لدفعهم للتكيف مع "العملية السياسية" وقبول الاحتلال الأميركي.
إذا كانت جبهة النصرة قد تشكلت من عناصر "جهادية"، كانت معتقلة في سجون السلطة السورية، وبالتفاعل مع تنظيم دولة العراق الذي كانت قد انخرطت فيه قبل اعتقالها، فقد أصبحت داعش محور الصراع ضد الثورة السورية، بعد أن "بلعت" جبهة النصرة التي استمر جزء منها ينشط تحت المسمى نفسه. فقد كانت معظم معارك داعش مع الكتائب المسلحة التي تقاتل السلطة السورية، ومع الشعب الذي أرادت أن تفرض عليه نظاماً مغرقاً في الأصولية والتخلف، وحيث لاحقت الكادرات العسكرية والإعلامية والإغاثية، فاعتقلتها أو قتلتها. في وقتٍ كان يبدو واضحاً تنسيقها مع السلطة، ودعم السلطة لتقدمها، أو قصف المناطق التي تُطرد منها. وفي المواقع التي كان يبدو أن اشتباكاً فيها مع قوات السلطة، كان يظهر أن الأمر منسّق. لهذا كانت، كما جبهة النصرة، تعتبر قوة مساعدة للسلطة، بغرض تشتيت الثورة وتدمير البيئة الاجتماعية لها، ومن ثم استخدامها في تشويه الثورة (خصوصاً أن عباقرة المعارضة كانوا يدافعون عنهما). وكان ذلك كله ناجحاً إلى حدّ كبير، على الرغم من أن الكتائب المسلحة تصدّت لها، واشتبكت معها في أكثر من منطقة، وطردتها من الشمال في مرحلة سابقة، وواجهتها في دير الزور والبوكمال، وهو أمر كان يخلق عبئاً على الثورة التي باتت تقاتل على جبهتين.
في العراق، كان تنظيم دولة العراق الذي بدا أنه انتهى بعد الحرب التي شنتها "العشائر" العراقية ضده سنوات 2007- 2009، ليظهر بعد أن بدأ الحراك على ضوء الثورات العربية، وليعمل على تشويه الحراك، وليكون مدخل سلطة المالكي للقمع العنيف لهذا الحراك. وكذلك ظهر أن التنظيم ينسّق مع سلطة المالكي، ولقد صدر أكثر من تصريح من مسؤولين في سلطة نوري المالكي يشير إلى دور الأخير في دعم التنظيم، منها إطلاق سراح مئات العناصر التي كانت معتقلة في سجن أبو غريب وإرسالها إلى سورية. وحين بدأت الاعتصامات في ست محافظات ضد السلطة، استخدم التنظيم في التشويش عليها، وفي استغلال وجوده لإرباكها، وفي تبرير سحقها عسكرياً، على الرغم من أن العشائر اشتبكت مع التنظيم مرات عديدة.
"
معظم معارك داعش مع الكتائب المسلحة التي تقاتل السلطة السورية، ومع الشعب الذي أرادت أن تفرض عليه نظاماً مغرقاً في الأصولية والتخلف
"
بالتالي، كان واضحاً، في السنتين الأخيرتين، أن التنظيم يوضع في خدمة النظامين، السوري والعراقي، في مواجهة حراك شعبي تفجّر من أجل إسقاط النظامين. ولا شك في أن وجوده أثّر كثيراً على الثورة السورية، وشتت قواها وشلّ قدرتها في مناطق عديدة، كما أربك الحراك العراقي، وسهّل سحقه من قوات المالكي التي فضّت الاعتصامات في ست محافظات بالقوة. لكن، كان الأخطر ما قام به في أثناء الحراك العسكري الذي بدأ في يونيو/حزيران الفائت، حيث انقلب على الحراك، بعد أن كان قد "عقد تحالفاً" مع أطراف فيه (مع البعث تحديداً)، فأخذ يمارس ما شوه الحراك، وأربكه كذلك، بعد أن سيطر وحده على الموصل، وفرض تهجير المسيحيين، وأعلن الخلافة. ثم تقدّم نحو أربيل للسيطرة على كردستان، ومارس أبشع الجرائم ضد الأزيديين بعد المسيحيين.
حينها، كان يبدو أن نوري المالكي يستخدم التنظيم لفرض إعادة تعيينه رئيساً للوزراء. لهذا، سمح بسيطرة داعش على قواعد عسكرية، وعبر دور التنظيم أربك الحراك العسكري المضاد له (الذي يبدو أنه توهم أنه يمكن أن يستغلّ دور داعش من أجل السيطرة على بغداد)، وحين لمس تعاطف الأكراد مع الحراك، ورفضهم انتخابه رئيساً للوزراء، دُفع بالتنظيم نحو أربيل. لكن، ما توضّح بعد ذلك يشير إلى أن"المالك الرئيسي" للتنظيم ليس إيران ولا المالكي ولا النظام السوري، بل أميركا التي يبدو أنها كانت تحضّر لتدخّل يغيّر من معادلات المنطقة. فقد استغلت تقدّم داعش إلى أربيل، لكي تعتبر أن من واجبها "حماية قنصليتها" هناك، ومن ثم توسعت في القصف الجوي، وهي تساوم على إبعاد المالكي عن رئاسة الوزراء، ونجحت في ذلك. ثم تقدمت أكثر، وهي تضغط من أجل قبول شروط "الطرف السني" والطرف الكردي، ونجحت بعض الشيء. لكن، لازال الوضع غير مستقرّ تماماً. ثم شكلت "التحالف الدولي" لكي تقبض الثمن المالي من السعودية وباقي بلدان الخليج. وبالتالي، توسعت أكثر فبدأت القصف في سورية، طبعاً ضد داعش فقط. فاندفعت داعش نحو عين العرب، أي نحو الحدود التركية، وها هي تساوم الأتراك لجرّهم إلى التحالف، على الرغم من أن ما يريدونه هو "إسقاط النظام" في دمشق. وهذا ما استثار الأكراد في تركيا، وبدأ يسبب مشكلات لتركيا. ومع تعثّر الحكومة الجديدة في بغداد، عادت داعش لكي "تتقدم نحو بغداد". وهكذا، ليبدو أن كل الهدف من التدخل سياسي، ويتعلق بإيران أكثر مما يتعلق بسورية والعراق، أو يبدو أن الهدف منه، ومن "الزحف الدولي" "ترتيب العلاقة مع إيران" وفق شروط تناسب أميركا التي تريدها في ضمان استقرار الخليج وفي "حصار الصين"، لكنها تريد، كذلك، إعادة التوازن في السلطة في بغداد، بعد أن سيطرت إيران تماماً، بتعزيز دور "الطرف السني" تحديداً، وكذلك الطرف الكردي. وربما يصل التفاهم إلى سورية، بحيث يجري إعادة ترتيب السلطة بالتوافق (وربما لمصلحة إيران أكثر). وبالتالي، التوافق على ترتيب وضع لبنان.
حين يتحقق ذلك كله، سنلمس كيف ستتلاشى داعش، وتغيب عن المشهد، ليظهر شكل جديد لتنظيم القاعدة في مكان آخر. ربما في المرحلة المقبلة في مناطق آسيا، بعد أن شكّل أيمن الظواهري فرعاً هناك. لكن، وفي ضوء تطور الأوضاع في ليبيا والمغرب العربي، يمكن أن نشهد تصاعداً هناك باسم جديد. فهذه هي "الفزاعة" التي تبرر التدخلات، هكذا صنعتها أميركا، وهكذا تمارس من خلالها. وعلى الرغم من "الاختراقات" من دول عديدة للتنظيم، ومحاولة توظيفه في سياسات "خاصة" بهذه الدولة أو تلك، كما فعل النظامان، الإيراني والسوري، فذلك كله يجري بموافقة "المركز" الذي يعود إلى توظيفه في استراتيجيته حينما يبلور استراتيجية تفترض هذا الدور. فقد وظفه النظام السوري لسحق الثورة، ولم تكن أميركا تعارض. ووظفه المالكي ضد الحراك في العراق، ولم تعارض كذلك. لكنها حينما قررت تغيير التوازنات أعادت توظيفه ضمن استراتيجيتها.
لهذا، وجدنا أن كل الهجمات الجوية لا تغيّر من وضع داعش، بل تزيد من قدرتها، وكأن دور الطيران الأميركي هو حماية تقدمها، وليس وقفه، ودفعها إلى مواقع تفيد مساوماتها هنا وهناك. ويبدو الأمر في سورية وكأن المطلوب سحق الكتائب المسلحة أكثر مما هو سحق داعش، ولهذا، تحركت جبهة النصرة، لكي تنهي جبهة ثوار سورية التي كانت المراهنة على دورها في مواجهة داعش، بعد أن واجهتها، مرة سابقة، وطردتها من الشمال السوري. أصبح دور جبهة النصرة تصفية "الكتائب المعتدلة"، لكي يتوسع دور داعش، وتبرر أميركا عدم تسليح الكتائب "المعتدلة"، وتظل ممسكة بورقة التفاوض للوصول إلى هدفها.
إذا كنا في خضم ثورات كبيرة، فقد بتنا، الآن، في "مسخرة" اسمها "الحرب على داعش"، لكنها في الواقع هي الحرب على الثورة، حيث المطلوب تدمير الثورات، وسحق كل إمكانية لنشوبها من جديد. أميركا الآن تتدخل مباشرة من أجل ذلك.
في محن الدول، تجد أي منظومة قيادية نفسها أمام جملة من الخيارات التي يمكن حصرها في اتجاهين: تحصين الوطن أو تحصين الذات. الأول يقوم على تحصين الوطن والمواطن وتعزيز الذات القيادية والرابط بينهما؛ والثاني يتمثل بتحصين وتصليب الذات القيادية حتى ولو كان ذلك على حساب الاتجاه الأول. يستلزم الأول الصدق والشفافية في مخاطبة الرعية إضافة إلى زرع الثقة وتعزيز القوة وتزخيم المعنويات لدى المكونات الشعبية وتفعيل دورها في مواجهة الخطر الداهم وتأمين مستلزمات الصمود اقتصادياً وثقافياً ونفسياً.
في الحالة السورية، ساد المذهب الأول؛ فانحصر الهاجس بتحصين الذات السلطوية على حساب أي أمر آخر؛ حتى ولو اقتضى ذلك تدمير الوطن والمواطن، وحتى ولو استلزم الأمر مد اليد لخارج الوطن والاستعانة بأعداء الوطن والمواطن.
كان المواطن الذي لم يتمكن من التحوّل إلى عبد أو آلة مطواعة منزوعة الكيان والشخصية والكرامة هو العدو وهو المستهدف بالقتل والدمار والاعتقال والإلغاء عبر تشريده نزوحاً أو لجوءاً خارج الوطن. وكان ذلك الذي لم يكن أمامهأي خيار إلا التحوّل إلى حالة منزوعة الإنسانية تأكل وتشرب وتتوالد بالكفاف وتستظل بسطوة سلاح الرعب والخوف الذي يشهره النظام .
كان استقواء النظام باعداء الوطن؛ وكان الانتحار وبيع الوطن والمواطن مقابل بقاء الكرسي. وكان شراء الوقت على طريقة “فاوستس”.
من يقول إن النظام لا يعرف ما يفعل واهم جداً. إنه يعرف أنه مقدم على الانتحار من اجل بعض سويعات إضافية في كرسي السلطة، علّ معجزة ما تحصل وتذهب الأمور باتجاه آخر بعد أن نجا مما لا يمكن لأي نظام أن يهرب منه؛ ليس بقوة ذاتيه بل بإرادة اقتضت ان يعيش كل هذا الوقت.
لقد كُسر ذلك العقد بين الحاكم والمحكوم؛ وعلى أحدهما ان يغادر الساحة. المسالة بين خمسمائة مخلوق يمكن لطائرة واحدة أن تحتويهم جميعاً وترمي بهم خارج جغرافيا الوطن، وبين ملايين لا بد من رميهم خارج الجغرافيا وحتى التاريخ كي يعيش النظام؛ وهذه معادلة مستحيلة.
لم يقم النظام بأي إجراء يحصن الوطن وسيادته. والسيادة التي لا يتوقف عن الحديث فيها مستباحة بامتياز؛ وهو يعرف ذلك تماماً. فرجاؤه أن يُعلَم أو يُخبَر فقط بقصف طائرات الحلفاء للأراضي السورية كان أقصى ما قام به لما دعاه سيادة. إنه يعرف أن لا سيطرة له على أي معبر من معابر الحدود السورية إلا ما تمكن به حزب الله من الجانب اللبناني؛ وحتى ذلك المعبر يتم تحديه من قبل مجموعات أذاقت حزب الله الويلات.
كُسر العقد عند أول كذبة وردت على لسان هرمه وألسنة مستشاريه حول ما يجري في سورية
كُسر عندما استنفر جيشاً إلكترونيا بتدريب إيراني-لبناني ليشوّه صرخة أهل سورية بالحرية
كُسر العقد بالمطلق عندما توجه النظام بسلاح الى صدور السوريين… سلاح دفعوا ثمنه دمهم ودموعهم بذريعة استرداد أرضهم المحتلة.
كُسر عندما نُصبت أول خيمة سورية لاستقبال لاجئين سوريين في بلاد الجوار
كُسر عند اغتصاب أول معتقل أو معتقلة في سجون لا إسم لها إلا مقابر الأحياء.
كُسر عندما نقل شخص صور 11 ألف معتقل قضوا تعذيباً في تلك المقابر
كُسر العقد بالمطلق عندما استخدم أسلحة محرمة دولياً كي يُخضع من خرج على طاعته
كُسر عندما أضحى لافروف الناطق باسمه؛ وعندما كان يصف لافروف السوريين بالإرهابيين ، ولا يرف للنظام جفن.
كُسر عندما أصبح قرار قتل الإنسان السوري وتدمير حياته بيد الإيراني الذي أخذ سورية رهينة ليصافق على ملفات مستعصية تعيشها بلاده.
لا؛ لم تكسر العقد صرخة حرية خرجت من أحزمة الفقرالتي سوّرت حياة الرفاهية لسلطة ما رأت في مواطنيها إلا جراثيم وفضلات يجب أن يتم التخلّص منها.
لا؛ لم ينكسر عندما طلب شباب سورية فسحة حرية فيها نسبة ضرورية من الأوكسجين للبقاء.
أمانة لم يحافظ النظام عليها معتقداً أنه بكسرها يمكن أن يحسم الأمور ويبقى؛ وهذا أمر استحالته مثبته. وما تبقى ليس إلا استعصاء قهري انتقامي يذهب الوطن ثمناً له؛ والنظام يدرك أن هناك من يريحه ذلك، فيبقى على أمل أن يستمر جشع الآخرين وأهدافهم الإجرامية السقيمة. ويبقى الأمل في أن يضجر هؤلاء من لعبتهم الدموية أو يستشعروا امتداد اللهب إلى جنباتهم؛ وهذا قادم إن لم يشبعوا. كسر العقد لا بد أن يتبعه كسر القيد. إنها سنة الطبيعة.
لا يعدو الحراك السياسي الذي تقوم به بعض القوى ذات العلاقة بالملف السوري، أن يكون جولة تسخين لإنضاج ثمار بدأت تينع على غصون ملفات أخرى، أو نوع من غزل تفاوضي، تجريه تلك الأطراف على (قاعدة الطبل هنا والعرس في مكان آخر)، وفي هذا تأكيد على وظيفية الملف السوري في واقع العلاقات الدولية الراهن.
تكتيكية هذا الحراك تظهر بوضوح في السلوك السياسي الضّحل لأطرافه، والذي يثبت، بدرجة كبيرة، هامشية السلام السوري في إستراتيجيات الكبار، وقد ذهبت الإدارة الأميركية في مزاوداتها المكشوفة بعيداً، حينما سرّبت أنها بصدد تعديل إستراتيجيتها في الحرب على داعش، بإضافة بعد جديد لها، وهو إسقاط نظام الأسد، بوصفه يشكل مغناطيساً جاذباً للإرهاب، فما الذي فعلته واشنطن لتسند إستراتيجيتها تلك على أرض الميدان، غير المساهمة في إسناد قوة الأسد بالنيران؟، أما موسكو فقد أعلنت أنها بصدد تأليف تحالف أصدقاء دي مستورا، لدعم المبعوث الأممي في مهمته الجديدة في سورية، والتي يبدو أنها أسوأ مهام الأمم المتحدة وأكثرها تواطؤاً مع نظام القتل؟، في حين تعمل إيران على إنشاء جيش مواز لها في سورية، قوامه مئة ألف عنصر!
لا شيء، باستثناءات الكلام، يوحي بتعديل تلك الأطراف سياساتها ومواقفها تجاه الحدث السوري، وبعد أربعة أعوام من الثورة، وما جرى على هامشها من مؤتمرات ومبادرات، صار الجميع يعرف، بالضبط، ما هو الجدي وما هو الفقاعة. باتت المشكلة واضحة ومعلومة ومحدّدة بدقة، ومعلوم أين تقع مفاتيح حلها، ويفترض بأي مقاربة لها أن تكون خالية من التشّوش واللّبس، وشغوفة بالهم الإنساني الذي يليق بمهنية الدبلوماسية العالمية في القرن الحادي والعشرين، بوصفها انعكاساً لمنظومة القيم العالمية، وما تنطوي عليه من احترام لحقوق الإنسان والعقل البشري عموماً.
التفسير الأقرب للواقع أن المقصود بكل هذا الحراك ملفان بعينهما، العقوبات الغربية على روسيا، والنووي الإيراني. في الأصل، كان الملف السوري استثمر هاتين الدولتين في حقل العلاقات الدولية، وطبيعي أن يجري استخدامه ورقة في أي محاولة لتحريك ملفاتهما، واليوم، تقف روسيا وإيران على عتبة إعادة صياغة علاقاتهما ضمن النظام الدولي، وهما لا يملكان أوراقاً كثيرة باستثناء الملف السوري.
" قد تكون سورية أكثر أهمية لإيران، من النواحي المادية والرمزية، لكن إيران بظروفها وواقعها الحالي ربّما يكفيها السيطرة على جزء من العراق "
ثمّة من يذهب إلى القول إن نتيجة تخفيض أسعار النفط بدأت تؤتي ثمارها، وإن البلدين سارعا إلى فتح نوافذ للحلول في سورية، بعد إدراكهما أن الأمور تعقّدت بطريقةٍ لا يمكن تحمّلها، ربّما يكون ذلك صحيحاً، لكن ذلك لا يعني أن الأمور ستجري لمصلحة الشعب السوري وثورته، ذلك أن موسكو وطهران تعتقدان أن مجرد التفاوض، بحد ذاته، يشكل تنازلاً، ثم إن هناك محددات تعلن الدولتان تأكيدها، وأنهما بصدد التمسك بها، ومنها المحافظة على نظام الأسد، ليس كما يشاع، الاحتفاظ بالمؤسسات من دون رأس النظام، على ما يحاول بعضهم استنتاجه عنوة، وبشكل تفاؤلي ساذج، هما يعتقدان أن ذلك سيكون خديعة، ولا يصلح لأن يكون أساساً للتفاوض، كيف يمكن الحفاظ على أوضاعهما في سورية؟، بالأصل ليست لكل منهما مصالح بعيدة المدى في سورية، تستحق كل هذا الصراع، ولا معنى إستراتيجياً مهماً لسورية، إلا بمقدار ما يريدانه من النظام الدولي الآن. قد تكون سورية أكثر أهمية لإيران من النواحي المادية والرمزية، لكن إيران بظروفها وواقعها الحالي ربّما يكفيها السيطرة على جزء من العراق.
ويكشف تاريخ علاقة موسكو وطهران بالأزمة السورية أنهما اشتغلا على أهداف أبعد من سورية، فالإصرار على إيصال البلد إلى هاوية الفشل والدمار ينطوي على حقيقة أن مستقبل هذا البلد لم يكن في لحظةٍ من ضمن اهتماماتهما، وبالتالي، لا يمكن فهم تحركهما الحالي سوى أنه محاولة لاستكمال هذا النهج بطرائق جديدة، أكثرها وضوحاً محاولة تصنيع معارضة سورية، يمكن من خلالها تمرير هذا النهج.
الخطورة في ذلك كله قبول جزء من المعارضة السورية الدخول في اللعبة، بذريعة الواقعية وضرورة إنقاذ الشعب السوري. الاستمرار بهذا النهج من شأنه تحويل المعنى الأساسي من الثورة السورية، بوصفها تحولاً تاريخياً، إلى مجرد تمرد لمكون أو مناطق بعينها، ولا يلغي هذه الحقيقة كون أن للنظام مؤيديه وبيئته، وطبيعي أن يكون ذلك الأمر موجوداً بعد استمرار 45 سنة في الحكم، كل الأنظمة التي حصلت ضدها ثورات كان لها مؤيدون، ولم يكن ذلك عائقاً، أو نقيصة، للثورات.
والخطورة الثانية في هذا الأمر، إمكانية انعكاسه في الحلول المزمع الوصول إليها، وهو الخطر الذي تنطوي عليه مبادرة ستيفان دي مستورا نفسها، والتي في ظاهرها تبدو محاولة في الممكن وتتبع النهج العقلاني، لكن خطورتها تكمن في إمكانية تكريسها وقائع مستقبلية، يصعب تجاوزها أو الفكاك منها، فتتحول العملية إلى دينامية لتفكيك البلد، بدل تفكيك الأزمة وإيجاد حل لها.
يدرك الجميع أن قرار التفاوض غير جدي، وأنه لا يعدو أكثر من عملية فحص فروض معينة في المختبر السوري، الأفضل عدم الانسياق وراءها والحذر منها، أي خطأ قد ترتكبه المعارضة قد يكلف سورية الكثير، ويجري البناء عليه، أو في أسوأ الأحوال يكون مساهمة في إعادة إنتاج النظام لنفسه، وخصوصاً وأن الظروف الدولية مستعدّة لتمرير هذا الخيار، والتكيّف معه.
ليس هناك أدنى شك بأن الثورة السورية واحدة من أكثر الثورات المشروعة تاريخياً، فلم يتعرض شعب في القرن العشرين للقهر والفاشية والإذلال المنظم كما تعرض الشعب السوري على أيدي النظام الأسدي الطائفي الغاشم الذي لم يشهد له التاريخ مثيلاً. وبما أن ذلك النظام بات رمزاً لكل ما هو وحشي وهمجي قذر، لم يقبل حتى بتلبية أبسط مطالب السوريين، فاستبدل قوانين الطوارئ سيئة الصيت التي ثار السوريون عليها بقانون الإرهاب الذي راح يحاكم السوريين بموجبه، ويضعهم أمام محكمة الإرهاب لمجرد التلفظ بكلمة بسيطة. كل من يفتح فمه ضد النظام أصبح حسب القانون الجديد إرهابياً وجب اعتقاله إذا كان موجوداً، أو صدر قرار بحرق منزله أو مصادرة أملاكه إذا كان خارج البلاد. لقد أصبح السوريون بعد الثورة يترحمون على قوانين الطوارئ على بشاعتها بعد "الإصلاحات" الإرهابية التي قام بها النظام بعد الثورة. وعندما أراد بشار الأسد أن يضع دستوراً جديداً للبلاد على سبيل الإصلاح المزعوم، وضع مواد جديدة تجعل حتى سلاطين القرون الوسطى يحسدونه على السلطات التي منحها لنفسه بموجب الدستور الجديد، فهو راع لكل شيء في سوريا، حتى الزبالة والزبالين والقمامة والنخاسين، لم يترك شيئاً إلا ووضعه تحت رعايته.
وليت بشار الأسد اكتفى بوضع القوانين القراقوشية للانتقام من السوريين لأنهم ثاروا عليه، بل راح يستخدم كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً كي يثأر من الثورة. والأنكى من ذلك أنه عمل على تحويل سوريا إلى بؤرة تجتذب كل شذاذ الآفاق إليها لإفساد الثورة وجعلها تبدو في نظر العالم مجرد فوضى وحركات إرهابية. كلنا يتذكر كيف أخرج كل المتطرفين من سجونه بعد الثورة، وزودهم بالسلاح كي يقاتلوه، ويحولوا الثورة إلى صراع دموي. وقد لاحظنا كيف كان بشار الأسد في خطاب القسم السخيف يتلذذ ويتشفى وهو يتحدث عن إفشال الثورة وتحويل سوريا إلى ساحة صراع يعبث بها القاصي والداني.
وكي يحمي بشار الأسد نفسه ونظامه قدم كل أوراق اعتماده لإيران وروسيا وإسرائيل، وتعهد بأن يكون مجرد بيدق في المخططات الروسية والإيرانية والإسرائيلية، بشرط ألا يسقط نظامه تحت أقدام السوريين، ويكون مصيره كمصير بقية الطغاة الذين قضوا تحت نعال الشعوب. لقد تحول النظام السوري إلى مجرد أداة قذرة ضد سوريا والسوريين، لا بل أصبح حراس قصره من غير السوريين، فالأمر الناهي أمنياً وعسكرياً في سوريا هي إيران وميليشياتها العراقية واللبنانية باعتراف الميليشيات الشيعية نفسها. أما روسيا فقد سلمها بشار الأسد كل ثروات الغاز والنفط من خلال عقود طويلة الأمد مدة بعضها ربع قرن من الزمان.
لقد كان النظام السوري يهدف من خلال الارتماء الكامل في الحضنين الروسي والإيراني دفع خصومه أيضاً إلى الارتماء في أحضان القوى المنافسة لإيران وروسيا في سوريا، بحيث تضيع القضية السورية، وتتحول سوريا إلى سلعة دولية يسمسرون عليها من أجل منافع سلطوية حقيرة. فعندما وجدت جماعات المعارضة السورية أن النظام بات يحتمي بمنظومة عسكرية وأمنية واقتصادية روسية إيرانية مفضوحة، لم يجدوا بداً من الارتماء في أحضان المعسكر الآخر لمواجهة النظام. وقد أصبح بعض شرائح المعارضة السورية بدورها، كالعراقية سابقاً، مضرباً للمثل في التسول والسير وراء الآخرين. لا شك أن هناك بعض الجهات العربية والأجنبية التي وقفت إلى جانب المعارضة السورية لتمكينها من مواجهة أكثر الأنظمة فاشية في القرن العشرين، وعملت الكثير على مساعدة السوريين. لكن هناك جهات كثيرة أخرى لا يهمها في سوريا سوى تحقيق مصالحها الضيقة التي لا تمت لمصالح السوريين بصلة.
ولو نظرنا إلى الخارطة السورية الآن لوجدنا أن كل طرف خارجي منخرط في الأزمة يغني على ليلاه، ولا يهمه لا سوريا ولا السوريين. هل يعلم السوريون الآن أن كل القوى المتصارعة على سوريا والمتحالفة مع النظام أو بعض فصائل المعارضة لا يهمهما الشعب السوري قيد أنملة. الكل يبحث عن مصلحته في سوريا. إيران تستخدم بشار الأسد كأداة لتوسيع إمبراطوريتها الشيعية الفارسية والوصول عبر الأسد إلى شواطئ المتوسط. وروسيا تريد الحفاظ على قواعدها البحرية في سوريا، بالإضافة إلى نهب الثروات الغازية والنفطية السورية التي أعطاها إياها الأسد مقابل الحماية والسلاح والحفاظ على طرق الغاز والنفط الدولية. وتركيا لا تريد لإيران أن تصبح على حدودها السورية، وتعمل على تأمين الشمال السوري لصالحها. وأمريكا طبعاً تريد تأمين الحليف الإستراتيجي إسرائيل من الخطر السوري واستغلال الموقع الإستراتيجي لسوريا. مع ذلك، يستمر بشار الأسد، ويستمر معارضوه في السمسرة للقوى المتكالبة على سوريا كي تنهش في الجسد السوري، وتحقق مطامعها، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير الوطن وتهجير شعبه وتحويله إلى طعام للأسماك في عرض البحار والمحيطات.
يصعب التكهن بما يمكن أن تسفر عنه المفاوضات المتعلقة بالملف النووي الإيراني التي استضافتها مسقط. لكنّ حضور وزير الخارجية الأميركي جون كيري ووزير الخارجية الإيراني محمّد جواد ظريف إلى سلطنة عُمان يعطي فكرة عن جدّية المفاوضات التي شارك فيها الاتحاد الأوروبي والتي تبعتها مفاوضات بين إيـران ومجموعة 5+1.
على الرغم من صعوبة التكهن، بات مرجّحا التوصل إلى ما يشبه الاتفاق بين الإدارة الأميركية والنظام الإيراني في شأن الملفّ النووي وذلك قبل الرابع والعشرين من نوفمبر الجاري. ليس مستبعدا أن يؤدي التفاهم المتوقع بين الجانبين إلى تعليق جزء من العقوبات الدولية المفروضة على إيران، بدل رفعها نهائيا.
ثمة حاجة إلى صيغة تحفظ ماء الوجه للجانبين الأميركي والإيراني، علما أنّ إيران تسعى إلى الاستفادة، إلى أبعد حدود، من عقدة باراك أوباما الذي يضع التوصل إلى اتفاق معها في أولوية أولوياته.
كانت الرسالة التي وجّها الرئيس الأميركي في أكتوبر الماضي إلى “المرشد” علي خامنئي في غاية الأهمّية وذلك من زاويتين.
الأولى إثارة أوباما لموضوع “داعش” والمصلحة المشتركة الأميركية ـ الإيرانية في مواجهته، والأخرى التطمينات غير المباشرة على أنّ الحرب على “داعش” لا تعني المسّ بالنظام السوري.
تسترضي الرسالة الرغبة الإيرانية في تجاوز المفاوضات مع الولايات المتحدة الملف النووي. تريد أيضا تفاهمـات في شأن مسائل أخرى، خصوصا أنّها تعتبر نفسها منذ البداية الشريك الفعلي في الحرب الأميركية على العراق التي أدّت إلى جعل هذا البلد، أو قسما منه تحت وصايتها المباشرة.
كان على الإدارة الأميركية أن تسرّب قبل أيّام أن ثمة بداية قناعة لدى أوباما ومستشاريه بأنّ الحرب على “داعش” لا يمكن أن تنجح من دون إسقاط النظام السوري. بدت تلك التسريبات، وهي بمثابة استدراك، أقرب إلى محاولة مكشوفة من أجل تصحيح خطأ الرئيس الأميركي. بدا أوباما وكأنّه ينفي إعطاء تطمينات لإيران في شأن النظام السوري الذي يعني لها الكثير من زوايا مختلفة.
في الواقع، أظهرت الرغبة الأميركية في التوصل إلى ما يشبه اتفاقا مع إيران في شأن ملفّها النووي، أن إدارة أوباما ليست في وارد تعلّم شيء عن الشرق الأوسط وتعقيداته من جهة والاستفادة من التجارب التي مرّت بها من جهة أخرى.
قبل كلّ شيء، لا أهمّية للبرنامج النووي الإيراني إلّا من الزاوية الإسرائيلية، فضلا عن المخاطر البيئية التي يشكلها مفاعل بوشهر على الضفة العربية من الخليج. ما كشفته الأحداث أن هناك دائما رغبة إسرائيلية في التصعيد مع إيران، ضمن حدود معيّنة، من منطلق أن مثل هذا التصعيد يمكّن إسرائيل من لعب دور الضحيّة المهدّدة من نظام توعّد مرارا بإزالتها عن خريطة الشرق الأوسط.
يسمح التصعيد المتبادل مع إيران لإسرائيل بممارسة هوايتها المفضّلة. تتمثّل هذه الهواية في اللجوء إلى إرهاب الدولة من دون حسيب أو رقيب وفي تكريس الاحتلال للضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية ومنع الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه المشروعة بصفة كونه شعبا من شعوب المنطقة.
ما ترفض إدارة أوباما استيعابه بأيّ شكل أن المشكلة مع إيران ليست مشكلة الملفّ النووي وذلك على الرغم من أنّ حصولها على القنبلة النووية يوما سيدخل المنطقة في سباق تسلحّ في غاية الخطورة.
المشكلة مع إيران في مكان آخر. تكمن هذه المشكلة، بالنسبة إلى من يدّعي أنّه في صدد محاربة “داعش”، في أنّ السياسات التي تمارسها طهران تلعب الدور الأهمّ في نموّ “داعش” وما شابهه من تنظيمات إرهابية.
لم تهبط “داعش” من السماء. تمدّد التنظيم الإرهابي في العراق الذي ولد فيه أصلا قبل انتقاله إلى سوريا ومنها إلى العراق مجددا، بفضل السياسة الإيرانية القائمة على الاستثمار في الغرائز المذهبية. صحيح أنّ ما يحرّك إيران والشعب الإيراني هو الانتماء القومي، الفارسي تحديدا، لكنّ الصحيح أيضا أن السياسة الإيرانية في المنطقة، تقوم أساسا على الاستثمار في المذهبية. هذا ما يحصل في البحرين والعراق وسوريا ولبنان واليمن على سبيل المثال وليس الحصر.
ما كان لـ“داعش” أن يجد حاضنة سنّية له في العراق لولا الممارسات الطائفية والمذهبية والعنصرية لحكومة نوري المالكي التي كانت في موقع التابع لإيران، خصوصا منذ العام 2010. ما كان لـ“داعش” أن يتمدّد في سوريا، لولا تشجيع النظام السوري له في البداية من أجل ابتزاز الأميركيين في العراق ثم من أجل تصوير الثورة الشعبية في سوريا بأنّها ثورة تقف خلفها مجموعة من “الإرهابيين” بينهم عدد كبير من العرب وغير العرب.
هل في سوريا مقاتلون عرب وأجانب، من أهل السنّة، في جانب الثوّار فقط… أم أنّ من بدأ بالاعتماد على مقاتلين شيعة مستوردين من لبنان والعراق وأفغانستان هو النظام المدعوم من إيران؟
من الواضح أن الاتفاق، أيّ اتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني يلبي الرغبة المشتركة لدى طهران وإدارة أوباما في التوصل إلى البدء في طي صفحة الماضي القريب الذي بدأ مع الثورة الإيرانية في العام 1979.
إيران تبحث بكل بساطة، عن اتفاق يسمح لها بالتنفسّ اقتصاديا في وقت يشتدّ الصراع الداخلي فيها. أمّا إدارة أوباما فهي تطمح إلى تحقيق ما يعتبره الرئيس الأميركي أقرب إلى حلم له، فهو إيراني الهوى، ربّما تحت تأثير مستشارته فاليري جاريت، ولا يرى إلّا “داعش” السنّية، فيما يتجاهل “الدواعش” الشيعية كلّيا.
هل سيحلّ الاتفاق، الأقرب إلى شبه اتفاق، أيّ مشكلة في الشرق الأوسط؟ الجواب لا وألف لا… في غياب التغيير الجذري في تعاطي الحكومة العراقية، التي لا تزال تعمل في ظلّ الأخ الأكبر الإيراني، مع المكونات الأخرى في البلد، خصوصا مع أهل السنّة والأكراد. لن يحلّ أي مشكلة قبل بدء واشنطن في انتهاج سياسة مختلفة في مواجهة النظام في سوريا. كلّ ما تبقى تمرير للوقت وبحث أميركي عن غطاء للسياسات التوسعية التي تنتهجها طهران في المنطقة. وهذا يحصل في وقت لا يمكن الاستخفاف بالتجاذبات الداخلية في إيران التي ستواجه من دون رفع العقوبات أوضاعا اقتصادية صعبة، خصوصا في حال استمرّ هبوط سعر النفط…
بعد جدل استمر لما يقرب من أسبوع حول إصابته أو مقتله، وبعد أن احتفى التحالف الإيراني بذلك بينما كان الأمريكان يتواضعون في توقعاتهم، خرج أبو بكر البغدادي، أمير "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، أو "الخليفة" كما يراه أنصاره لكي يخاطب أولئك الأنصار، ويخاطب العالم أجمع؛ أولا ليؤكد على أنه بخير، وثانيا ليعيد ترتيب أولوياته وحروبه، ويعلن التمدد وفتح جبهات جديدة.
صحيح أن كلمة البغدادي كانت مسجلة بالصوت فقط، إلا أن نبرة التحدي كانت واضحة فيها، ومعها نبرة الثقة التي تلهم الأتباع بكل تأكيد، وهم كانوا في أشد الحاجة إليها بعد أن تشككوا في خبر إصابته، بخاصة أن الكثير من الحسابات المشهورة لديهم لم تكن تنفي ذلك بشكل واضح، بل كان بعضها يتحدث بنبرة تشي بأن الإصابة حقيقية.
أيا يكن الأمر، فقد خرج الرجل مؤكدا على أنه لم يُصب بأذى، مع أن الصوت لا ينفي الإصابة بالضرورة، لكن الصوت القوي قد يشير إلى شيء من ذلك، ثم شرع يوزع القناعات والتعليمات.
من أكثر ما يمكن التوقف عنده في التسجيل هو القناعة التي لا شك فيها لدى البغدادي بأنه منصور لا محالة، وأنه لن يتوقف حتى يفتح روما حسب قوله، وهي روحية في المواقف كانت ولا تزال جزءا لا يتجزأ من خطاب الدولة الحالم إلى حد كبير برأي كثيرين، والذي يراه أتباعها واقعيا في المقابل.
أعلن البغدادي أن كل الضربات التي تلقاها مقاتلوه لم تسفر عن نتيجة تذكر، وأن الدولة باتت أقوى مما كانت عليه. وفي حين يصعب أخذ هذا الكلام خارج سياق الدعاية، لأن الضربات كانت مؤثرة بعض الشيء، بخاصة في الجبهة العراقية، فضلا عن تعطيلها للحسم في معركة عين العرب، إلا أن المؤكد في المقابل أن الحملة الدولية لم تسفر عن نتيجة كبيرة تتجاوز الإضعاف بعض الشيء، مع العلم أن تدفق المقاتلين على الدولة لم يتوقف، ذلك أن جماعة تحاربها أمريكا وحلفاؤها، وتحاربها إيران أيضا لا يمكن إلا أن تكسب بعض التعاطف في الأوساط الشعبية رغم كل الاستطلاعات، ويكفي أن يُقارن المزاج الشعبي الإسلامي حيالها قبل الحملة الدولية بما بعدها، أو بالأسابيع الأخيرة كي ندرك أن هناك تحولا في اتجاه بعض التعاطف معها.
توقع البغدادي أن يتورط الأمريكان أكثر فأكثر، وينزلوا على الأرض، وهذا ما يبدو واضحا، وهو (أي البغدادي) ذكر إرسال 1500 جندي أمريكي جندي إلى العراق، ولم يذكر قول الجنرال ديمبسي (جاء تصريحه بعد التسجيل) أن واشنطن تدرس إرسال جنود للعمل إلى جانب القوات البرية، وإن سمَّاهم خبراء كحال السابقين.
على أن البعد الأهم في التسجيل، والذي كان الدافع الأكبر لإصداره كما يبدو، إلى جانب تأكيد عدم الإصابة، هو إعلان توسع الدولة نحو مناطق أخرى، لاسيما أن ذلك يمنح الدولة مزيدا من الحضور في ظل عزوف العلماء والدعاة عن إعلان تأييدها، بل ميل الغالبية الساحقة منهم إلى رفض منهجها، بما في ذلك عدد من رموز السلفية الجهادية.
لقد أراد بإعلان قبول تلك البيعات الجديدة التأكيد على أن زمن تنظيم القاعدة قد ولى، وأن هذا زمن الدولة، ولذلك أعلن قبول البيعات الجديدة من مجموعات في اليمن والسعودية والمغرب وليبيا وسيناء. أما الأكثر إثارة في هذا السياق فهو المتمثل في التركيز بشكل واضح على السعودية، وهو ما استوقف عمليا معظم وسائل الإعلام.
هنا تحدث عن المملكة بوصفها "رأس الأفعى"، وهو الوصف الذي كان من نصيب أمريكا في خطاب القاعدة، مع أن دور السعودية في التحالف، بل دور عموم الدول العربية لا يتجاوز تشريع الحرب، وهو ما ذكره البغدادي نفسه في بداية التسجيل، والغريب أن هذا الهجوم على السعودية يأتي في ظل هجوم إيراني عليها بوصفها من يقف خلف تنظيم الدولة!!
والحال أن من غير المنطقي التعاطي مع كلام البغدادي عن المملكة باستخفاف، ذلك أن إمكانية استجابة بعض الشبان لأمره باستهداف الدولة والشيعة يبقى واردا، وإن صبّ ذلك في صالح إيران من جهة أخرى، لكن البغدادي يرى نفسه في حرب مع الجميع (يهود وصليبيّون وملحدون ومرتدون).
هي حرب طويلة في واقع الحال، والسبب أن الظروف الموضوعية التي أنتجتها لم تتغير، فالقتل الدموي من قبل بشار مستمر، والإقصاء في العراق كذلك، وها هو اليمن يضيف إلى المعركة بُعدا جديدا. وإذا كان البغدادي حالما في تأكيده على الانتصار النهائي وصولا إلى روما، فإن الآخرين سيكونون حالمين إذا اعتقدوا أن الحسم سيكون قريبا أيضا.
في قمة العشرين في بريزبن جلس القيصر مجروحاً. انقضى زمن القبل والعناقات الحارة وتوزيع شهادات حسن السلوك. تغيّر موقع الرجل، وتغيّرت صورته. استقبله الزعماء الغربيون بالشكوك. أجلسوه في موقع المتهم. ولولا اللياقات الديبلوماسية لقالوا له: انظر دم الأوكرانيين على أصابعك. ولدى هؤلاء دم الأوكرانيين شيء ودم السوريين شيء آخر، وهو معني بالوليمتين.
كان موقفه صعباً. لم يعد باستطاعته التنديد بالتفرد الأميركي، وإلقاء اللوم على القيادة الأحادية للعالم، والتذكير بما ارتكبه الأميركيون في العراق، وما فعله «الأطلسي» في ليبيا. لم يعد بريئاً. صار متهماً. يعرف قسوة ما يقال عنه، وأن سلوكه أعاد إطلاق سموم الحرب الباردة، وأن سياسته تتسم بالشراهة والبلطجة، وأن هاجسه ترهيب الدول المحيطة بروسيا، وأنه يستخدم سلاح النفط والغاز وزعزعة الاستقرار لتركيعها. ويهدد القارة العجوز بسلاح الصقيع.
لم يكن الجو مواتياً في القمة. ثم أن الأرقام لا تكذب. العقوبات الغربية أوجعت الاقتصاد الروسي. الروبل يتقلص أمام الدولار، وانخفاض سعر النفط ليس خبراً ساراً. غادر القيصر قبل اختتام القمة. تذرّع بحاجته إلى النوم. أغلب الظن أنه يحتاج إلى مراجعة السياسة الثأرية التي يقودها «الرفيق» سيرغي لافروف.
المشكلة ليست فقط في أوكرانيا. إذا نظر إلى الشرق الأوسط لن يشعر بالارتياح. هذا هو المشهد في العراق وسورية. طائرة أميركية في الجو والجنرال قاسم سليماني على الأرض. يزرع لافروف فيحصد سليماني. ليس بسيطاً أن يستجير العراقيون بسلاح الجو الأميركي، أي بالمحتل السابق الذي احتفلوا سابقاً بخروجه. وليس بسيطاً أن تصبح الأجواء السورية في عهدة الطائرات الأميركية.
المشكلة ليست فقط في أوكرانيا. ماذا لو توصّل الأميركيون والإيرانيون إلى اتفاق؟ ماذا لو فتح الباب لتكون إيران الشريك الأكبر لـ «الشيطان الأكبر» في هذا الجزء من العالم، حيث كانت لروسيا تحالفات ومعاهدات واتفاقات؟ ومَنْ هو المنافس الحقيقي لروسيا في هذه المنطقة، أميركا أم إيران؟
نجحت روسيا في منع أميركا من التستر بقرار دولي لإطاحة النظام السوري. أظهرت قدرتها على العرقلة، لكنها أضاعت فرصة إظهار قدرتها على الحل. أعطت النظام السوري مزيداً من الوقت. كان أفضل لو ساعدته على التقدم نحو الحل. براعات لافروف ساهمت في توفير فرصة إطلالة «داعش». عمّقت النزاع السوري والحرب المذهبية وهزّت الوضع العراقي إلى حد الاستغاثة بالأميركيين. هكذا ولد المشهد الحالي: طائرة أميركية في الفضاء والجنرال سليماني على الأرض.
واضح الآن أن موسكو تريد العودة إلى تحريك الملف السوري. أميركا تقيم الآن في عقر دارها السورية. لا يحمل باراك أوباما برنامجاً لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد. لا يريد إحراج إيران أو استثارتها. لكن واشنطن تجمع الأوراق وتستعد لتدريب «المعارضة المعتدلة» لتشديد الضغوط حين تجيء الساعة. ربما لهذا السبب أعادت روسيا فتح الأبواب. ثمة من يتحدث عن «موسكو-1» لإطلاق الحل في سورية. لم يتضح حتى الآن ما إذا كانت لذلك علاقة ببيان جنيف وما إذا كانت روسيا ستوفر الأرضية لانعقاد «جنيف 3» وعلى أي أساس.
تعاطت روسيا مع الأزمة السورية بوصفها فرصة لاستنزاف هيبة الولايات المتحدة. فرصة لغسل الإهانة التي لحقت بروسيا وسلاحها في ليبيا. اعتبرتها أيضاً فرصة لاستنزاف «المجاهدين». فليذهبوا للموت في سورية بدل أن يتخندقوا في الشيشان وداغستان. لكن اللعبة أفلتت من الأيدي الروسية بعد ظهور «داعش» وأخواته.
ماذا ستقول روسيا لوليد المعلم الذي يستعد لزيارتها في الأسبوع الأخير من الشهر الجاري؟ وماذا ستقول للمعارضين؟ هل ستستخدم الملف السوري لاستعادة صورة الشريك المسؤول والمقبول، أم ستتابع سياسة حافة الهاوية فتتكرس سورية فيتنام جديدة لكثيرين؟
من حق بوتين أن يستدعي لافروف ويطرح عليه سؤالاً صريحاً: ماذا فعلتَ في سورية أو ماذا فعلنا هناك. ومن حق أي حاكم انخرطت بلاده في الأزمة السورية أن يطرح السؤال ذاته على وزير خارجيته. شهد الحريق السوري رقماً قياسياً من الأخطاء المكلفة في القراءة والتقدير. استمرار الأخطاء لا ينذر فقط بقتل مزيد من السوريين، بل يُنذِر أيضاً بقتل سورية مع كل ما يعنيه ذلك لحلفائها وللمنطقة.