مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٢ نوفمبر ٢٠١٤
العالم المنشغل بسورية عنها

شاركتُ، في أثناء العدوان الإسرائيلي أخيراً، والمسمى عملية "الجرف الصامد" على غزة، في ندوة في مدينة ميلانو الإيطالية، على هامش مهرجان للتضامن مع الشعب الفلسطيني، في واحد من المهرجانات والتظاهرات والاحتجاجات التي عمّت العالم بشكل لافت ضد ذلك العدوان. وكان النقاش يدور حول العدوان، وحول غزة وفلسطين، تاريخاً وحرباً ومستقبلاً. كان جدول الأعمال محدداً من حيث المواضيع والوقت. التزمتُ بالمواضيع، ولم أتعمّد الشطط نحو الموضوع السوري، التزاماً بجدول الندوة، وللحاجة الماسة لإعطاء أكثر ما يمكن من المعلومات، وتقديم البديهيات التاريخية التي لاحظت، من أسئلة الحضور، افتقار كثيرين إلى المعلومات حولها، وتبيّنتُ أهمية تقديمها وتكرارها، لكسب مزيد من المتعاطفين مع قضية الشعب الفلسطيني. وبقدر ما كانت سعادتي كبيرة بتفاعل الحضور مع النقاشات والإصرار على المعرفة، لقلب الصورة المتكوّنة لديهم منذ أزمنة، أو لتكوين صورة لم تكن موجودة لدى بعضهم، وإذا كانت موجودة فضبابية، بقدر ما كان في قلبي غصّة، لعدم تذكر أحد من المضيفين، أو المشاركين، الموضوعَ السوري المتفجر.
يتكّرر الأمر مع كثيرين. وكثيراً ما تغيب القضية السورية عن النقاشات التي تجري بوجود سوريين، على الرغم من تصدّرها العناوين في وسائل الإعلام العالمية، أكثر من ثلاث سنوات ونصف، إلا أن القضية المهمة، وهي وقف هذه الحرب العبثية، بأي شكل، تبقى المنسية في هذه الوسائل، ولدى الدبلوماسيين في دول القرار. فقد نسي العالم سورية، على الرغم من أنه منشغل بتفاصيل التفاصيل فيها. العالم منشغل عن سورية بها. إنه منشغل بأعداد الإرهابيين الذين جذبتهم الحرب من كل بقاع الدنيا إلى أحضان داعش، لحمل سيفه. منشغل بمَن عاد منهم إلى بلاده، بعد أن جرب الحرب، واستمتع بالقتل، وانتصر لدينه بالذبح. ومنشغل باحتمال تجريب العائدين الحربَ في بلادهم. ومنشغل بحكايات الجهاد وأشكاله. بحكايات السبي وبأحكام الردّة وبفرض الجزية وبدخول الدين الحنيف أفواجا.
ليس لدى الولايات المتحدة الأميركية، صاحبة الأمر في هذا العالم، أي اهتمام بالحل في سورية. ليس في سورية ثروات، لا شيء يثير شهية السيد الأميركي نحوها. ليس لديه خطة، أو استراتيجية، بخصوصها. خطة مساعدته المعارضة ستنفّذ أواسط سنة 2015، يا إلهي! أستبقى الحرب حتى أواسط 2015؟ أم ستستمر ثلاثين سنة أخرى، كما قال ليون بانيتا، وزير دفاع أميركا السابق؟ ولم يتورّع رئيسه، باراك أوباما، عن الاعتراف بأنه ليس معنياً بإنهاء الحرب في سورية. ألم يقل لمحطة "سي بي أس" الأميركية، قبل أيام، إن إدارته معنية بمحاربة تنظيمي الدولة الإسلامية وخراسان، وليس حل المشكلة السورية. فهل سيستمر بحربه عليهما كثيراً؟ هل تستمر الحرب كثيراً؟ كلا لن تستمر سوى ثلاثين سنة أخرى، حسب قول وزير دفاعه السابق.
لا تثير سورية شهية السيد الأميركي، ولا تثير اهتمام فاعلين آخرين. فيها مشكلات وتشعبات كثيرة، هي فاقدة أي مستقبل، إنها دولة منهارة، فابتعدوا عنها! الكل يولي هارباً حين يتعلّق الأمر بسورية. فالدبلوماسية الدولية تولي وجهها شطر مشكلات أخرى في العالم، أكثر قابلية للحل، وتتطلّب مجهوداً أقل. متى كانت الدبلوماسية الدولية تنحو باتجاه الطرق السهلة؟ استقال مبعوثان دوليان، وهربا نحو الراحة، بعدما أخرجا كل ما في جعبتيهما من حلول ومبادرات. وبعدما فشلت ثلاث جولات من مباحثات السلام كانا يقودانها بين النظام والمعارضة. وغاب زعيمهما، بان كي مون، ونفض عن كاهله الموضوع السوري، ويرسل مبعوثاً جديداً ليحصي الخيبات.

" مارس داعش تطهيراً عرقياً، قضى على شعوب، واستعبد أخرى "

حين ذبح تنظيم داعش الصحافي الأميركي، جيمس فولي، في التاسع عشر من أغسطس/ آب الماضي، عادت سورية إلى الواجهة، لكن في قميص داعش. فجأة، عرف العالم حجم الكارثة الواقعة، وحجم التهديد القائم والمتعاظم، مع كل يوم تستمر الحرب فيه، وتتخذ مسارات جديدة، وتظهر خلالها تنظيمات جديدة، تكون أكثر تشدداً من التنظيمات التي سبقتها. حين قطع رأس فولي، أصبح العالم عليلاً فجأة، وعليه إيجاد شيء ما للشفاء، حلفٍ ما. لكن، قبل رأس فولي، قطعت رؤوس كثيرة، وعلّقت على أسوار حدائق المدن، وتدحرجت، ككرات القدم، بين أرجل الكبار والصغار. قبل ذبح فولي، مارس داعش تطهيراً عرقياً، قضى على شعوب، واستعبد أخرى. بعد ذبح فولي، عادت سورية إلى الواجهة في داعش، لكن أخبار سورية بقيت طي الصمت. بقي الموت والبراميل المتفجرة والمجازر بحق الأطفال وقصص اللاجئين، بقيت مغفلة.

وحين حلّ بكوباني جرثوم داعش، عادت سورية إلى الواجهة، لكن بثوب الحرب على المدينة الصغيرة الواقعة شمال البلاد، وضج الإعلام بأخبار كوباني. نظّمت تظاهرات واحتجاجات كثيرة، انتصاراً للمدينة، وأخذ الناس باستعادة القضية الكردية وتقليبها لفهمها. وأهملت البلاد، فأصبحت سورية تلك البلاد التي تقع جنوب كوباني. لم يكن العالم يعرف أن داعش اجتاح، قبل ذلك، مدناً، وسيطر على قواعد عسكرية، وعلى مطارات، وبنى دولة بمؤسسات وجهاز استخبارات وجيش، قوته تعاظمت، ومجازره تعاظمت.

انتهت الحرب على غزة، هدأت التظاهرات التي كانت تقضّ مضجعه، هدأ الإعلام وهدأت الدبلوماسية. هدأت قصص الذبح، وحلّت محلها الغارات الدونكيشوتية على داعش. لكن، لم يرجع البريق إلى المشكلة السورية، ولم تجتذب هواة اجتراح الحلول. لا أحد يريد أن يقترب من الموضوع السوري، إنها الحرب التي أصبحت طبيعية. لا شيء يثير. إنه القتل اليومي، المجازر اليومية والبراميل المتفجرة التي تنزل على رؤوس الأطفال يومياً منذ سنين، فما الجديد؟ الجميع يعرف ذلك، فلنضع الملف في الخزانة ولنُحكِم إقفالها. أو فلنضع السوريين قتلى، وأحياء في طريقهم للقتل، في بئر عميق، ونحكم إغلاقه، ولتبقى صرخاتهم في البئر، ويبقى أزيز الطيران تحت مائه، ولتتكسر الموجات الارتدادية للتفجيرات على جدرانه، ولتبقَ قصص المجازر حبيسة عتمته. ها هو العالم يتناول كأس الشاي بعيداً عن السوريين، بعد أن أخمد أصوات استغاثاتهم، وارتاحت أذنه من أنين الثكالى منهم.

اقرأ المزيد
٢٢ نوفمبر ٢٠١٤
سوريا: هل يصلح دي ميستورا ما أفسده العالم

خلال مباحثات في موسكو حول الأزمة السورية بين وفد دبلوماسي غربي ومسؤولين روس، لمّح أحد المحاورين إلى رسالة “ستالين” إلى أصحاب الكوادر في حزبه عام 1930، والتي كانت تحت عنوان “دوار النجاح”، حيث حذر خلالها من “روح الغرور والكبرياء” ونتائجها السيئة، وهذا التلميح يخص النظام السوري الذي يظن أن استراتيجيته نجحت، وأن كل الحراك يسير لمصلحته وأن لا شيء يقلقه من الآن فصاعدا، كما نبه دبلوماسي غربي إلى أن “دوخة” الغطرسة التي تطال البعض في دمشق لن تسهل الحلول، أو بداياتها، في هذا الملف الشائك.

مهما كانت الصورة سوداوية في بلاد تدمرت وتفككت وطالت المأساة فيها بشكل مباشر حوالي نصف سكانها قتلا وتهجيرا ونزوحا، يستمر الكلام حول تواصل الجهود الدبلوماسية وفي طليعتها المبادرة المنتظرة للمبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، الدبلوماسي السويدي الإيطالي، الذي يحلو لنفسه التكرار إنه “شخص يعمل في ظروف التحدي”، وربما يطمح للنجاح حيث فشل دبلوماسيان رفيعان من نفس الطراز: كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي.

بيد أن الحرب الباردة الجديدة، والصراع الإقليمي الحاد، وتفاقم الاهتراء في الداخل السوري لا ينبئ بنجاح مضمون لمهمة تعتريها المخاطر وينقصها الزخم المطلوب في ظل عدم وجود استراتيجية واضحة لواشنطن وعدم وجود إرادة روسية للخروج من التعطيل (بالإذن من المعارض السوري الحالي وخطيب الجامع الأموي سابقا معاذ الخطيب الذي يراهن على شروق الشمس من موسكو).

يبدأ دي ميستورا عمله في “الوقت الضائع” أو “الوضع الانتقالي” الذي يتخلله تباطؤ الحرب ضد “داعش” (مراوحة في المكان باستثناء الجبهة مع الأكراد) وسعي روسي لإنتاج حل على مقاس النظام عبر الدعوة الممكنة إلى مؤتمر في موسكو كبديل عن جنيف 3، وهي فكرة تهدف لقبول بعض المعارضين الدخول في حكومة تحت رئاسة بشار الأسد الذي يمكن إقناعه لاحقا بقبول ترك السلطة بعد إتمام نصف ولايته. وضمن سياق بيع الأوهام والانتظار الثقيل يتم التسويق لمرحلة ما بعد المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، إذ أنه في حال نجاح المفاوضات يعتقد البعض أن الملف السوري سيشهد حلحلة مع انتقال إدارته من الحرس الثوري إلى جهاز وزارة الخارجية، لكن فريقا آخر من المتابعين يخشى -في حال رفع العقوبات عن إيران- أن يزداد الدعم لنظام بشار الأسد.

من جهتها، تؤكد مصادر سورية معارضة على صلة مع المبعوث الأميركي الخاص لدى سوريا دانيال روبنشتاين، أن واشنطن متمسكة بالعودة إلى حل الحكم الانتقالي حسب وثيقة مؤتمر جنيف 1 وأنها ترفض أي تأهيل للرئيس الأسد ومحيطه القريب. وهذا الموقف تتقاسمه مع مجموعة أصدقاء سوريا فيما يزداد العمل المشترك خصوصا بين باريس وأنقرة بهدف “إنقاذ حلب” و“الحل السياسي” في آن معا، حسبما تبين من زيارة أردوغان الأخيرة إلى باريس

تبعا لهذا الوضع المعقد والمواقف المتناقضة والمتباينة، خفض دي ميستورا من سقف طموحاته الأولية وأكد على “التواصل مع جميع الأطراف بهدف وضع حد للعنف وانتهاكات حقوق الإنسان وتسهيل التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية”، استنادا إلى تجربته الغنية (منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي) في مناطق الصراع مثل كوسوفو ولبنان والعراق والسودان وإريتريا والصومال، وعمله كممثل خاص للأمم المتحدة في أفغانستان (2010 - 2011 )، يقول أحد المقربين من هذا الدبلوماسي المحنك إنه سيعطي الأولوية للعمل الإنساني كمفتاح للخروج من الحرب الكارثية في سوريا، ولذلك أتته فكرة إعلان مناطق مجمدة، انطلاقا من حلب، في محاولة لإنجاز تحول يتيح عودة الحوار.

للوهلة الأولى، يراهن دي ميستورا وصحبه على أن الشعب السوري، الذي يعيش مأساة قل نظيرها أمنيا وإنسانيا واقتصاديا، ينتظر بارقة أمل في نفق مظلم بسبب حرب التجويع والقتل العشوائي والتهجير المنهجي للسكان. وللوهلة الأولى يحاول النظام السوري القول إنه يدرس المبادرة ويسرّب أنها مشتقة من نتاج أفكاره، واستمرار لنهج ما سمي بالمصالحات التي بقيت محدودة وانتقائية.

لا يمكن لأي فريق معارض حقيقي أن يقف ضد مبادرة تتيح تخفيف المعاناة وإيصال المساعدات. لكن التقييم سيرتبط بموقف النظام في لحظة التطبيق، فإذا كان الهدف إعادة الناس إلى بيت طاعة الحكم لن يكتب النجاح للمبادرة، لأنه مهما كان الوضع المزري لمؤسسات المعارضة، يبقى من الصعب جدا العودة إلى الوراء والتسليم بتصفية الحراك الثوري، أو في اختصار المأساة السورية بالبعد الإنساني ونسيان الجانب السياسي.

في رد متعسف غير مباشر على دي ميستورا وبوغدانوف وغيره، قام النظام السوري في الأسبوع الماضي باعتقال المعارض “الداخلي” لؤي حسين (سبق له اعتقال عبدالعزيز الخير ورجاء الناصر من نفس الفئة، بالإضافة لآلاف من الناشطين السلميين مما أفرغ الحراك الشعبي من قيادته المدنية المتنورة وسرّع بعسكرة الوضع وإرساله إلى المنحى الطائفي) مما يشكل إشارة سيئة عن نوايا هذا النظام الذي يرفض، حتى الآن، تقديم أي تنازل فعلي وملموس أو أي تسهيل للحل السياسي الذي يبقى مجرد أنشودة من دون حد أدنى من التوافقات الإقليمية والدولية. في الماضي لم يصلح العطّار ما أفسده الدهر، وسيصعب على دي ميستورا إصلاح ما خرّبه العالم، كل العالم، في سوريا.

اقرأ المزيد
٢٢ نوفمبر ٢٠١٤
ثورات «التيك أوي» لا تـُسمن ولا تـُغني من جوع!

كي نكون واقعيين، لا بد من توصيف الثورات العربية في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا بأنها ما زالت «ثورات تيك أوي»، أي أنها أشبه بالوجبات السريعة التي لا تسمن، ولا تغني من جوع، لأنها لم تمر بالتسلسل والتطور الطبيعي للوجبات والثورات، فالوجبة الحقيقية تمر بمراحل خمس أو حتى أكثر، الشوربة، فالسلطة فالمقبلات، فالطبق الرئيسي، فالأجبان، فالحلويات، ناهيك عن الوقت الذي يستغرقه تحضيرها. لكن لو قارنا الثورات العربية، بالوجبات مكتملة الأطباق، لوجدنا أنها مجرد طبق غير مغذ، عابر، معبأ في وعاء بلاستيكي هزيل يتناوله الناس عادة لملء المعدة، إما لأسباب اقتصادية، أو بسبب العجلة، لأنهم غير مستعدين لتحضير وجبة كاملة، أو دفع ثمنها، أو حتى الانتظار لحين نضوجها.
مشكلة الإنسان العربي تاريخياً أنه إنسان عجول، ملول، كما لو أن العرب جميعهم من برج الجوزاء الذي يتميز مواليده بأنهم يتحمسون لأمر ما، لكنهم لا يصبرون لإكماله، فيتوقفون في منتصف الطريق، إن لم يكن في ربعه، وذلك على عكس الشعوب صاحبة النفس الطويل كاليابانيين والإيرانيين، فبينما يمضي حائك السجاد الإيراني سنوات كي ينجز سجادة عجمية رائعة مليئة بالزخارف والتفاصيل، نجد أن الإنسان العربي سرعان ما يترك ما بدأه بالأمس بسبب قلة الجلد والصبر والمثابرة. ومن الواضح تماماً أن هذه الصفة العربية السيئة تركت أثرها السلبي على الثورات العربية. فقد ظنت الشعوب التي ثارت أن الثورات يمكن أن تحدث وتنتهي بكبسة زر على طريقة الوجبات السريعة. فالتونسيون ظنوا أنهم أنجزوا ثورتهم خلال أربعة أسابيع، والمصريون اعتقدوا أن الثورة انتهت بعد ثمانية عشر يوماً، واليمنيون، خلال شهور قليلة، والليبيون، ظنوا أن الثورة تحققت بالقضاء على القذافي. وبدورهم يعتقد السوريون أن ثورتهم ستكتمل بمجرد سقوط بشار الأسد من الحكم.
الثورات تاريخياً، يا جماعة الخير، ليست وجبات سريعة، بل تحولات كبرى على كل الأصعدة، ولا تنتهي بمجرد القضاء على رأس السلطة أو الطاغية، فالمستبد كرأس جبل الجليد الذي لا يظهر منه فوق الماء سوى عشره أو حتى أقل. والتخلص من الرأس لا يعني انتهاء الثورة وتحقيق أهدافها. فالثورة الفرنسية استمرت عقوداً، وتآمر عليها كل ملوك وحكام أوروبا، لكنها نجحت في آخر المطاف ليس في تغيير وجه فرنسا، بل في تغيير وجه أوروبا كلها. على العكس من ذلك، لاحظنا كيف تنحى الثوار جانباً في بعض ثورات التيك أوي، وتركوا الدولة العميقة تعيد ترتيب أوضاعها لتعود بشرعية جديدة أقوى وأشرس بعشرات المرات، كما هو الحال في مصر، حيث عاد العهد القديم بوجوه جديدة أكثر نهماً للطغيان والتسلط والاستبداد. أين هم شباب الثورة المصرية الذين ملئوا الدنيا ضجيجاً، وشغلوها لبضعة أسابيع؟ لقد تبخروا تماماً، لأنهم ظنوا أن الثورة أنجزت أهدافها خلال ثمانية عشر يوماً دون أن يعلموا أن المسار طويل جداً، وبحاجة لمتابعة ونضال أشرس في وجه جذور الاستبداد المترسخة منذ عقود في كل مفاصل الدولة؟
حتى في تونس كما يقول سمير حمدي، «بقي فؤاد المبزع رئيس برلمان زين العابدين بن علي مصدراً للشرعية طوال الفترة الانتقالية، ما منح الفرصة للقوى المضادة للثورة لإعادة التشكل وبناء ذاتها، بصورةٍ منحتها، في فترة وجيزة، قوةً لم تكن لتحلم بها. وفي الوقت نفسه، دخلت القوى الثورية في حالة تنازع حزبي وصراع على كعكة سلطةٍ، لم يتم استخلاصها بعد من أنياب الدولة العميقة». لقد تناسى الثوار التونسيون أيضاً أنك إذا سمحت للعهد البائد أن ينافسك على السلطة، فإنه سيفوز عليك لاحقاً، لأنه يعلم دهاليز السلطة ومنعرجاتها أكثر منك بكثير بفضل خبرته الطويلة في السياسة والتسلط. وهذا ما حصل فعلاً، فبدل بناء دولة جديدة على مدى طويل، قبل الثوار التونسيون بتقاسم السلطة مع بقايا العهد الساقط، مما أدى إلى عودته بقوة بوجوه وأشكال جديدة أكثر خطورة، لأنه، هذه المرة يستمد قوته من صناديق اقتراع حقيقية.
بدوره، «شهد النموذج اليمني خروجاً آمنا للرئيس السابق، وبقاء أهله وأتباعه فاعلين في المشهد السياسي، يعطلون مسيرة الإصلاح، ويستمدون القوة من حلفاء إقليميين، لا يريدون لثورة اليمن أن تصل إلى ما يصبو إليه الشعب، من حرية وكرامة وعدل، قبل أن يتم توظيف الطائفية السياسية في أسوا مظاهرها، للانقلاب على كل التوافقات، وإدخال البلاد في فوضى وعنف.» لقد أراد الثوار اليمنيون تناول الوجبة قبل نضوجها، فنزلت في بطونهم جمراً، بدل أن تنزل برداً وسلاماً.
وفي ليبيا، بدل أن تستمر الثورة في تنظيف الساحة، وبناء دولتها الجديدة، راح الثوار يتصارعون على الكعكة قبل أن تنضج، فتحولت الثورة وبالاً على الليبيين، ناهيك عن أن فلول النظام الساقط، على هزالتهم، استطاعوا أن ينظموا صفوفهم بدعم خارجي، وعادوا بثورة مضادة من خلال اللواء حفتر وشركائه، لأن الثوار الليبيين، كبقية الثوار العرب، لم يطبخوا ثورتهم على نار هادئة، ولم يعطوها الوقت الكافي كي تنضج.
وحدث ولا حرج عن الوضع السوري، حيث تصارعت الجماعات الثورية على جلد الدب قبل أن تصطاده كما يقول المثل الروسي، مما جعل النظام الفاشي يصمد لسنوات.
لا نقول هذا الكلام لتثبيط عزيمة الثوار. لا أبداً، فلكل ثورة كبوات، وليس كبوة واحدة، كما علمنا التاريخ. ويجب على بلدان الثورات أن تعتبر الربيع العربي مجرد «بروفة» للثورات اللاحقة. وهي قادمة لا محالة. لقد خرج المارد من القمقم إلى غير رجعة. وسيكون الجيل القادم أكثر شراسة واندفاعًا وقوة وعزيمة وصلابة من جيل الثورات الحالي بعشرات المرات بعد أن شاهد ما حدث لشباب الثورات. لن تستطيعوا سحق الجيل القادم مهما فعلتم. ومهما تآمرتم. الثورات المضادة مرحلة عابرة، وسيعود السيل الجارف أقوى كثيراً من السيل الذي بدأه البوعزيزي في تونس. لن تكون الثورات القادمة ثورات «جنك فود»، بل كاملة الأطباق. لا شك أنها ستكون مرحلة صعبة ومؤلمة وربما طويلة، لكنها ستنجب مولودًا جديدًا تمامًا ومجتمعات وشعوبًا جديدة. والأيام بيننا.

اقرأ المزيد
٢٢ نوفمبر ٢٠١٤
مختبرات دي ميستورا: إنتاج عقار حل النزاع السوري

في محاولة لإنهاء الحرب في سوريا، يجري اليوم الاستعانة بمؤسسات “خاصة” يقال إنها متخصصة في حل النزاعات في دول العالم الثالث. برز ذلك في محاولة بعض المؤسسات وأبرزها “مركز الحوار الإنساني” ومقره جنيف، مساعدة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في “ابتكار” حل للنزاع في سوريا، حيث جرى طرح مشروع حل يعتمد مفهوم “تجميد الحرب” وتوسيع “المصالحات المحلية”، ويبدو أن المبعوث الدولي قد تبناه بشكل كامل.

لـ“مركز الحوار الإنساني”، صاحب المشروع، تاريخ من العمل على حل النزاعات، يمكن أن يساعده في تبرير مساهمته في حل الصراع في سوريا. فالمركز توسط في النزاع بين الإسلاميين والتيار المدني العلماني في تونس، ونجح في إرساء اتفاق بين الأطراف المتنازعة أفضى لانتخابات ديمقراطية. كما سبق له أن توسط بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان. الأهم أن للمركز نشاطا غير معلن، أو لم يجر تسليط الضوء عليه، في سوريا منذ العام 2013، حيث ساعد في إبرام اتفاقات تسوية محلية بين النظام والمعارضة المسلحة. ويقال أن المركز هو وسيط اليوم في اتفاق يجري إعداده بين المعارضة السورية المسلحة والمسلحين الأكراد في مناطق سورية مختلفة.

قبل الحديث عن بعض تفاصيل التقرير، يمكن إيراد ملاحظة تتصل بالمقاربة العامة لحل النزاع بالاستعانة بمنظمات خاصة “خبيرة” بالنزاعات. يجري في تلك المقاربات انتزاع الصراع السياسي من حقل العلوم الاجتماعية-السياسية حيث واحد زائد واحد لا يساوي إثنين بالضرورة، وحيث تتغير التوازنات بين الأطراف مادة البحث وقد تنقلب بالكامل، ووضعه في حقل العلوم الدقيقة حيث يمكن عبر اتباع سلسلة مترابطة من الخطوات العلمية الوصول إلى نتيجة حتمية إلى حد كبير.

في هذه المقاربة يظهر أن استعصاء النزاع في سوريا مثلا، ربما يعود في أحد جوانبه إلى نقص الأفكار، أو إلى قلة إبداع المبعوثين الدوليين السابقين، أو إلى عدم الالتزام بتسلسل الخطوات المطلوب اجتيـازهـا بنـاء على توصية الخبير المختص. وأي سوء فهم وقلة معرفة في هذا المنهج!.

التقرير المذكور يقول إن المطلوب اليوم هو توسيع اتفاقيات “المصالحة المحلية” من أجل “خفض مستوى العنف وإيصال المساعدات الإنسانية وزرع بذور الحل السياسي”. الفكرة الجديدة التي يقترحها التقرير، والتي يُرادُ لها أن تظهر وكأنها عبقرية وفريدة وتشكل مفتاح الحل في سوريا، تتعلق بعكس أسلوب المبعوثيْن الدولييْن السابقيْن كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي المعروف بأسلوب “من فوق إلى تحت”. حيث يدعو التقرير إلى أسلوب “من تحت إلى فوق” بحيث يجري البدء بتجميد القتال وعقد مزيد من المصالحات، وصولاً إلى مرحلة انتقالية تسبق انتخابات عامة. في كل هذا المسار الطويل سوف يبقى بشار الأسد رئيساً للبلاد إلى حين تقرر الانتخابات مصيره.

وكم يبدو هذا الطرح بعيدا عن فهم الواقع السوري حيث لا تكمن المشكلة أبدا في “أسلوب الحل”، بل في موازين القوى التي تميل لمصلحة النظام السوري وتدفعه لمزيد من التعنت. هذا فضلاً عن أن “تحت” في معسكر النظام هو متصل بنسق متين وثابت ولا يتزعزع مع “فوق”. أي فرق يرتجى من هذا الاختراع العبقري: “من تحت إلى فوق” فيما التعليمات الصارمة تتخذ مساراً واحداً: من فوق إلى تحت. يفترض هذا الاقتراح أن هنالك تباينا واضحاً في الرؤية السياسية والميدانية والأهداف النهائية بين قيادة النظام ومقاتليه ومؤيديه. وهذا بعيد جداً عن الواقع، حيث لا تتفارق الطموحات بصورة كبيرة كما يأمل معدو التقرير وميستورا. بل هنالك تناغم فريد يشكل جزءً من تقاليد النظام البعثي والنظم الدكتاتورية بصورة عامة.

حتى في طرف المعارضة يغيب هذا التفارق المرتجى. فرغم عدم وجود صلات مباشرة بين المعارضة السياسية والفصائل العسكرية، لكن الأهداف تبقى متقاربة. بل ربما يكون “تعنت” الفصائل المقاتلة على الأرض أشد من تعنت المعارضة السياسية. هنا تضعنا مؤسسات الخبراء أمام لعبة جديدة تدعي أن “تحت” يشير إلى المدنيين حصراً.

هكذا فالصراع السوري فيه طرفان شرّيران من جهة، ومدنيون عالقون في وسط الصراع من جهة أخرى. حيث لا صلة لهؤلاء المساكين بأي طرف، هم حياديون إلى حدود السذاجة، يريدون سلتهم بلا عنب. وهو ما يعيدنا إلى مربع الخروج عن الواقع المعقد والمتداخل، فضلاً عن أن الطرح آنف الذكر يفرغ الثورة السورية من مضمونها، ويحولها من ثورة شعبية مدنية تعسْكَرت في مرحلة لاحقة، إلى نزاع طرفين لا قواعد اجتماعية ومدنية لهما.

في حقيقة الأمر، وبالنظر إلى موازين القوى الحالية في سوريا، فلا الثوار رغم كل الضعف والفوضى التي تحيط بهم مستعدين لتوقيع اتفاق يبقي الأسد في السلطة، ولا الأسد ورغم كل الضعف الذي حل بنظامه وتزايد قوة “النصرة” و“داعش” من حوله مستعد كما يبدو لتقديم أي تنازل. ولا نتحدث عن رحيله، بل هو غير مستعد لتقديم تنازل أقل شأنا من قبيل وقف قصف المدنيين وتجميد القتال والسماح بتشكل إدارات محلية لشؤون السكان في المناطق المحررة، أو بحدوث لا مركزية سياسية ومناطقية كما يأمل ميستورا ومنظمات الخبراء التي لا يبدو أنها خبيرة بما فيه الكفاية بطبيعة النظام وطبيعة الصراع في سوريا.

تبدو الحلول المطروحة وكأنها تحلق في الفضاء، ولا تستند إلى قاعدة ملموسة على الأرض، فيما تحاول إطلاق الدخان الكثيف بما يحجب طبيعة النظام السوري، والإقليمي والدولي الداعم له، التي تحطمت على أقدامها أعتى الأفكار الناضجة والعقلانية لحل الصراع في سوريا.

كما فعل مع كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي، سوف يصدم نظام الأسد كلا من ميستورا و“مركز الحوار الإنساني” بتعنته، ويخرج أفكارهم العبقرية من المختبرات ليمرغها في وحل الواقع السوري. ذلك إن كانت جهودهم مكرسة فعلاً من أجل حل الصراع، وليس من أجل استسلام السوريين لمجرم الحرب الأعظم في التاريخ الحديث.

اقرأ المزيد
٢٢ نوفمبر ٢٠١٤
لعبة نظام الأسد.. ولعنته!

وفقاً لكثير من المصادر، يبدو المشهد في سورية حالياً تماماً كما أراده نظام بشار الأسد منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة السورية سلمياً. فالفصيلان الأقوى في مواجهة قوات هذا النظام (والتي تضم مليشيات شيعية متعددة الجنسيات)، هما تنظيمان مدرجان على قوائم الإرهاب في دول العالم كافة؛ "جبهة النصرة" التابعة لتنظيم "القاعدة"، وتنظيم "داعش" المنشق عن "القاعدة".
وبافتراض تمام دقة هذا التوصيف، يبدو السؤال الأهم هنا: هل يخدم فعلاً هكذا واقع نظام الأسد الآن؟
كانت "لعبة" النظام عند اندلاع الثورة السورية، هي إقناع الخارج أساساً، بأن الخيار في سورية هو بين نظامه وبين التنظيمات الإرهابية، حتى عندما كانت هذه الثورة شعبية، تقوم على محض مطالب إصلاحية وبأدوات سلمية خالصة. وإذ صدّق النظام كذبته، فقد تعامل فعلاً مع السوريين جميعاً، وعلى امتداد قرابة أربع سنوات، باعتبارهم إرهابيين؛ مستخدماً القتل والاعتقال والتهجير الجماعي. لكن بذلك تحديداً أجهز هذا النظام بنفسه على فرصة أن يكون بديلاً للتنظيمات الإرهابية الحقيقية لدى الشعب السوري.
هذه الحقيقة يؤكدها -وبما يجيب عن السؤال السابق بشأن استفادة نظام الأسد من صعود التنظيمات المتطرفة- أن ضعف فصائل المعارضة المسلحة الموصوفة بـ"المعتدلة" أو حتى "العلمانية"، لم يصبّ أبداً في صالح النظام، بل العكس تماماً؛ إذ جاء في مصلحة "جبهة النصرة" وحتى "داعش". فأحد أهم أسباب ضعف فصائل المعارضة المسلحة الأخرى هو التحاق مقاتليها بتنظيمي "القاعدة" السابقين، والدافع في الغالب هو الدفاع عن النفس في مواجهة جرائم النظام التي تتصاعد بلا توقف. ومثل هذا لا يشكل سابقة أبداً. فالعراقيون استقبلوا تنظيم "داعش" استقبال الفاتحين في الموصل، رغم كامل معرفتهم بفظائعه في سورية على الأقل؛ ذلك أن كل ما كانت تقدمه لهم حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، هو الموت فقط، بعد إهدار الحقوق والكرامة والتنكيل.
هكذا، يبدو الجانب الأخطر، أو اللعنة التي جلبها نظام الأسد على نفسه، عبر "نجاحه" في إلحاق السوريين بتنظيم "القاعدة"؛ "جبهة نصرة" أم "داعش"، وبالتالي إحكام حلقة "اللعبة الصفرية" التي بدأها هذا النظام ذاته.
إذ يبدو واضحاً تماماً اليوم أن هذا النظام، ومع الدعم المطلق من حلفائه؛ إيران وحزب الله وروسيا، لم يعد قادراً على الانتصار في هذه "اللعبة الصفرية". وأقصى إنجاز نراه الآن هو استمرار بشار الأسد في منصب الرئيس، لكن مع حرب تدمير شامل لسورية، واستنزاف للسوريين جميعاً بكل طوائفهم. وهنا تحديداً، يكاد يكون النظام أخطر أعداء حاضنته الاجتماعية، بل وقاتلها الصامت.
والخشية الحقيقية في ظل تواصل الاتجاه الحالي، أن لا تجد روسيا وإيران، المتحكمتان بمصير الأسد، من تتفاوضان معه على الحل السياسي، حين تدركان فعلياً -وليس لفظياً وكسباً للوقت كما يحدث الآن- أن هذا الحل هو المخرج الوحيد من الأزمة السورية.
لم تعد "لعبة البديل" في سورية (وكما ثبت في حالة العراق)، قابلة للاستمرار وفق المعطيات الحالية؛ أي بين إرهاب "القاعدة" وتفرعاتها وبين إرهاب النظام، فهنا تنتصر "القاعدة" بأشكالها المختلفة. وهي ستظل تنتصر، إلى حين خلق بديل حقيقي لها؛ أي ذاك القائم على احترام إنسانية الإنسان، حاضراً ومستقبلاً.

اقرأ المزيد
٢٢ نوفمبر ٢٠١٤
المعارضة المعتدلة هي الأقوى في سورية

رسمت وسائل الإعلام المختلفة، خلال السنوات الثلاث الماضية، صورة مشوشة، وتنطوي على مقدار كبير من الاختزالية، لمفهوم المعارضة السورية المعتدلة، ودعّمت تلك الصورة السياسات الدولية والإقليمية التي تركبت وتداخلت مع القضية السورية.

ومصدر الاختزال والتشويش، يعود إلى حصر صفة الاعتدال بالمعارضة المسلحة وحسب من جهة، ومن جهة ثانية تبني هذه الرؤية صورة الاعتدال على معادلة المفاضلة مع القوى والفصائل الإسلامية المتطرفة، ومن جهة ثالثة لا تأخذ في الاعتبار أصل القضية الذي هو معارضة شعب في مواجهة نظام تسلطي، فئوي، أوليغارشي.

إن تقدم المشروع الوطني السوري يقتضي إعادة بناء مفهوم المعارضة المعتدلة، فكراً وممارسة، بالتعارض مع الصورة الاختزالية التي قلصّتها إلى بعدها العسكري. ويكون ذلك بالعودة إلى أصل الثورة التي كانت محمولة على أكتاف معارضة مجتمعية وازنة، أفضت إلى تقويض أسس «الدولة التسلطية»، وإزاحة المعارضات الأيديولوجية المغلقة إلى الرصيف. والأهم، أنها كانت تتحرك في فضاء مفتوح على أفق وطني. لذا، تركز جهد النظام ومن خلفه الجهد الإيراني على نزع الطابع الوطني عن الحراك المدني الذي تمت مواجهته بوحشية منقطعة النظير في تاريخ البشرية، لأنه أظهر قوة تلك الكتلة المجتمعية وثقلها، وهي عبارة عن شرائح وفئات اجتماعية واسعة وغير متجانسة، ويصعب تحديدها تحديداً طبقياً أو أيديولوجياً، باستثناء إجماعها على قضيتي الحرية والكرامة وانفتاحها على فكرة المجال الوطني العام. وضمت طلاباً جامعيين وغير جامعيين ومهندسين وأطباء ومحامين ومعلمين وفنانين ومثقفين وكتّاب وصحافيين وشخصيات عامة ورجال أعمال ورجال دين وأساتذة جامعات ومشتغلين بالحقل العام ونشطاء إعلاميين وميدانيين وسياسيين وموظفين وعمالاً وفلاحين وسكان مدن وأرياف، كذلك شاركت في الثورة أعداد كثيرة جداً من قواعد حزب البعث، مؤسسة السلطة الأيديولوجية.

هذه الكتلة الوازنة التي دفعها التاريخ إلى مواقع معارضة وطنية جذرية في مواجهة «الدولة التسلطية»، لحقت بها ظاهرتان فرعيتان، هما الجيش الحر والمجلس الوطني الذي تحول إلى أحد أطراف ائتلاف قوى الثورة السورية لاحقاً. وعندما تراجعت تلك الكتلة التاريخية إلى الصفوف الخلفية، تلاشى الجيش الحر، وانطفأ المجلس الوطني، وصار الائتلاف ظاهرة هامشية في المعارضة، فيما تقدم إلى الواجهة قاع المجتمع التقليدي والفصائل الإسلامية المسلحة المرتبطة فيه، في مواجهة السلطة التي انحدرت إلى سلطة ما دون استبدادية، أي (سلطة تشبيح وقتل)، وفي مواجهة الميليشيات الطائفية المقبلة من خارج الحدود.

هذان القطبان، السلطة وميليشياتها، والمجتمع التقليدي وميليشياته، لم يعد بمقدورهما إلا توليد الحرب والقتل والخراب. لذا، فإن أي مشروع سياسي ذي أفق وطني سوري، يقتضي استعادة تلك الكتلة التاريخية المعارضة، وهي لا تزال، على هول النكبة التي حدثت، الأقوى للأسباب الآتية:

أولاً، لأن تنوعها واختلافها وشمولها لمختلف الشرائح والفئات، يجعل طابعها طابعاً عمومياً، يتطابق مع حدود الوطنية السورية.

ثانياً، لأنها تتصل بالعمل والإنتاج والفكر والسياسة، وتنحو إلى الاستقرار والعيش بسلام وتناهض عناصر الحرب الداخلية، فهي تنسجم سوسيولوجياً مع السياسة بصفتها فاعلية مجتمعية متجهة نحو المركزة والتوحيد، في مواجهة فوضى الفصائل والميليشيات والظواهر الحزبوية والسياسوية التي فتّتت المجال الوطني.

ثالثاً، ثقلها الوطني يعمل على انتشال سورية من موقع الساحة للصراعات الإقليمية والدولية، إلى موقع وطن وشعب يتكتّل حول مسار طويل وشاق باتجاه دولة وطنية منشودة.

إن تعقيدات القضية السورية لا تحتّم استعادة هذه الكتلة التاريخية المعارضة إلى مجال الفعل. لكن تلك الاستعادة تبقى رهان الوطنية السورية الوحيد.

اقرأ المزيد
٢٢ نوفمبر ٢٠١٤
أنصاف الحلول هي الحل في سورية

السياسة هي فن الممكن، والممكن هو جوهر مبادرة المبعوث الأممي الجديد لسورية ستيفان دي ميستورا. الجيد أن المعارضة السورية المعتدلة تعترف هي الأخرى بهذا «الممكن»، فلم تدخل في سباق مزايدة وتطالب بكل شيء أو لا شيء، فهي محاصرة من العدو والصديق والإنسانية، والشتاء القاسي الذي يدهم ملايين اللاجئين السوريين لم يحرك العالم في الأعوام الثلاثة الماضية، وبالتالي فلن يحركهم هذا العام، بل إن جيران سورية باستثناء لبنان شرعوا في دمج اللاجئين باقتصادياتهم الوطنية، ما يعني أنهم على استعداد للتعود على الحال السورية لأعوام طويلة مقبلة.

فما هو هذا «الممكن»؟ إنه مبادرة أعلنها دي ميستورا قبل أيام تقوم على أن «الحل في المدى القصير ليس مرحلة انتقالية ولا محاصصة سياسية، بل تجميد الحرب كما هي عليه، والاعتراف بأن سورية أصبحت لا مركزية في مناطق على فوهة البندقية»، ذلك أنه باتت في سورية «مجموعات متمردة كثيرة مع أجندات متناقضة محلية ودولية، لا يمكنها التوصل إلى اتفاق كبير» في البلاد، في وقت «يعرف» الرئيس بشار الأسد أنه «لا يستطيع استعادة السيطرة على كامل البلاد وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء»، إذاً المطلوب حالياً «وقف فرامة اللحم» في سورية وتوسيع اتفاقات وقف النار المحلية على أساس ثلاث أولويات تتعلق بـ«خفض مستوى العنف وإيصال المساعدات الإنسانية وزرع بذور الحل السياسي»، ما سبق كان ما نقله حرفياً الزميل إبراهيم حميدي في هذه الصحيفة على لسان المبعوث الأممي، فيما اعتبره المراقبون «انقلاباً» على صيغة «جنيف 1 و2»، التي تقوم على تنحي بشار وتشكيل حكومة انتقالية يفترض أن تكون مسؤولة عن كامل الجمهورية السورية، وهو ما يبدو أنه انتهى لدى دي ميستورا والمجتمع الدولي المتضامن مع خطته، ما قد يرعب المعارضة السورية المعتدلة ودول المنطقة، لولا أن خطته تفضي في النهاية إلى تفاوض بين المعارضة والحكم يؤسس لجمهورية جديدة.

المعارضة السورية من جهتها وكما أخبرني أحد قياداتها، وطلب عدم ذكر اسمه، لأن المسألة لا تزال محل تشاور، تتجه إلى القبول بهذا الممكن، «على رغم أنه مؤلم لكل سوري ويدعو إلى القلق» بحسب قوله، ولكنها تراه أفضل الخيارات السيئة، فتداويه بالمساومة للحصول على عرض أفضل، مستعينة على ذلك بأصدقائها وتحديداً الرئيس التركي أردوغان. انهم مستعدون للقبول باقتراح «تجميد الصراع»، ويقبلون بدوافع الأطراف الدافعة لهذا الاقتراح، المجتمع الدولي الذي يريد أي حل يبرر عجزه عن التدخل، والعرب والجامعة العربية الذين تغير موقفهم بعد التغير الذي حصل في مصر تحديداً وتحولها بعيداً عن معسكر الثورة وأهدافها، والأتراك الذين لا يريدون أن تنساب المشكلات السورية والعراقية إلى جنوبهم الهش، الذي تجلت فيه الصدامات العرقية بين الأتراك والأكراد الشهر الماضي على خلفية أزمة كوباني، وإن حصل ذلك سيدمر كل مكاسب حزب «العدالة والتنمية»، ويهدد دورة النمو الاقتصادي التركي التي يبدو أنها بلغت مداها الأقصى، وأوباما الذي يريد أن يتفرغ السوريون معه لمواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية»، ثم بعد ذلك ينظر في أمر بشار ونظامه وبالشكل الذي لا يهدد الإنجاز الخارجي، الذي يريد أن يدخل به التاريخ الأميركي بمصالحة تاريخية مع إيران، حتى بلغ به الأمر أن وعد مرشد الثورة في إيران آية الله خامنئي أنه لن يستهدف عسكرياً نظام بشار الأسد، وذلك في رسائل سرية سربت، وأثارت قلق المعارضة وأشعرتها بالخذلان.

تأمل المعارضة في أن تنجح في دفع مبادرة دي ميستورا بتجميد الصراع إلى قرار أممي يصدر عن مجلس الأمن تحت البند السابع بوقف إلزامي لإطلاق النار من جميع الأطراف، وهو ما لا يطيقه النظام السوري وعسكره الذين أبدوا تحفظات على المبادرة، بينما وعد وزير خارجية النظام وليد المعلم ومستشارة الرئيس بثينة شعبان بدراستها، ويستحضرون لذلك قراراً مماثلاً صدر بوقف إطلاق النار في كوسوفو عام 1999 انتهى بتدخل «الناتو» ضد القوات الصربية، التي انتهكت القرار فحسمت المعركة لمصلحة استقلال الإقليم عن صربيا.

الأمل الثاني هو استصدار قرار أممي آخر يمنع الطيران شمال خط 36، يحمي حلب وريفها من قصف براميل بشار الغبية، وجنوب خط 32 لتوفير منطقة آمنة في الجنوب بحوران، وهو طلب تضغط من أجله تركيا، ما قد يشجعها لو تحقق على تدخل بري هناك بغطاء أممي، فيعود إلى حلب مئات الآلاف من اللاجئين من لبنان تحديداً، حيث يتعرضون لضغوط من الحكومة هناك، بقدر ما يضغطون هم على استقرار لبنان الهش، وهو ما تحاول السعودية وفرنسا وحتى إيران حمايته من الانهيار، كما يتوقف سيلهم المنساب إلى تركيا ويعود البعض منهم ممن لم يجدوا وظائف هناك ولا يزالون يعيشون في المخيمات، والأمر نفسه يحصل في الجنوب فيرتاح الأردن هو الآخر من ضغط اللاجئين.

في الوقت نفسه تأمل المعارضة بأن يؤدي ذلك إلى حماية مناطقها المحررة من تغول تنظيمي «الدولة الإسلامية» و«النصرة»، اللذين باتا الأقوى في الشمال، وستدفع فصائلها والمدنيون كلفة حصول حرب بينهما أو كلفة اتحادهما، الذي سيكون على حساب السوريين الذين لم يثوروا ضد استبداد بشار ليستبدلوه باستبداد «داعش» أو حتى «النصرة»، التي وإن لم تكن بقسوة الأولى فإنها تحمل رؤية سلفية منغلقة ونزعة استبدادية إن استقر لها الأمر، إذ أظهرت خلال الأسابيع الأخيرة شهية مفتوحة للتوسع على حساب الفصائل الأخرى، كأنها تستعد لمواجهة مقبلة مع «داعش» أو قوات تركية قادمة. الصورة غير واضحة ولكنها في حال نشاط ملاحظ.

في النهاية، بعد عام أو اثنين أو أكثر، ستفرز الأحداث والتدافع والتدخلات الخارجية وتعب الجميع معسكرين في سورية، ليسا إسلامياً وعلمانياً، ولا سنياً وعلوياً، وإنما المعسكر «المستعد للتفاوض والمشاركة»، والثاني الرافض لهما. المنطق يقول إن المعسكر الثاني هو الذي يجب أن يخسر.

اقرأ المزيد
٢١ نوفمبر ٢٠١٤
بشائر النصر الشامي القادم

على الرغم مما يتبدى لبعض العجلة من سوداوية المشهد الشامي في ظل مساعي العالم كله إلى خلط أوراقه على حساب ثورة الشآم، ورغم الجهود الخرافية التي بُذلت وتُبذل لحرف ثورة الشام  وتحويلها إلى ما ينعتونه بالحرب الأهلية، إلاّ أن الواقع يصرخ في وجوه الجميع بأنها ثورة شعب تتقدم صوب نهايتها المنطقية وهي النصر الذي سيكون بطعم الشآم روحاً وريحاناً وياسميناً.

تلتفت إلى الانتصارات المتلاحقة في درعا والقنيطرة وتقدم الثوار صوب عاصمة بني أمية مهوى أفئدة المسلمين لأكثر من قرن، فتجد  الصمود الأسطوري في داريا معقل الغوطة الغربية حيث منها انطلقت جحافل نصر الإسلام الأول بقيادة أبي عبيدة بن الجراح إلى دمشق، مدعومة بجحافل الصحابة بقيادة سيف الله المسلول خالد بن الوليد من الغوطة الشرقية وتحديداً من جوبر الصامد رغم كل ما تفتقت عنه العقلية الإجرامية للنظام، فيتصاعد لديك حنين الشوق إلى أيام خلت مبشرة اليوم بالعودة، حيث يحتفظ الثوار بمنصتين تاريخيتين كانتا انطلاقة فتح الشآم، وها هي تعود اليوم، بانتظار فك الحصار عنهما من قبل ثوار القلمون ودرعا والقنيطرة وحمص..

في حرب العصابات يكفي صمودك أمام عدوك لتكون منتصراً، أما العدو الذي يُقدم نفسه على أنه يمثل الحكم المركزي فهو يتعرض لتآكل في الزمان والمكان لصالح معارضيه، والثوار في تقدم بغض النظر عن خسارة موقع هنا أو موقع هناك، ولكن بحساب الأسواق الضخمة "المول" فإن الثوار في تقدم وعدوهم مدعوماً بكل غرب وشرق في تراجع..

حين تتحدث الأخبار عن فشل التآمر العالمي على الشعب السوري غربيه وشرقيه، وانفضاضه عن لوحة كاذبة رُسمت على الرمال فذرتّها الرياح في يوم عاصف، عنوانها لوحة أصدقاء الشعب السوري، الذي أدرك كنهها وحقيقتها منذ اليوم فهتف بصوته المدوي "مالنا غيرك يا الله."، وتتحدث الأخبار معها عن المآزق التي يعانيها كل من يدعم طاغية الشام بالحديد والنار إن كان على المستوى الداخلي أو على المستوى الخارجي، ظهر ذلك بالتخبطات الإيرانية وفتحها لجبهات عدة، وانسحابات لحزب الله من القلمون بسبب تخبطه وتعرضه لخسائر أتت على بنيته وعصبته القتالية، وما تردد عن تمنع دفع رواتب لمقاتلي الحزب في سوريا لأشهر، والصراع بين الجنوب اللبناني والبقاع إزاء من يتطلب عليه دفع فاتورة الدم والقتل في سوريا، وفوق هذا كله تضييق الخناق على العصابة الأسدية من خلال الكشف الأخير عن تورط بشار في اغتيال الحريري وظهور أرقام هواتف المتهمين الخمسة في اغتيال الحريري على هاتف بشار، وكشف ضابط في جهاز الاستطلاع السوري بعد انشقاقه عن لقاءات الخمسة مع بشار في القصر الجمهوري بدمشق، كلها تؤكد أن ثورة الشعب السوري تتجه إلى نهايتها المنطقية بالنصر الناجز والحاسم.

التململ الحاصل في العصبة الطائفية للنظام إن كان ما يتردد عن تحركات وسط الطائفة العلوية بسبب تزايد أعداد القتلى التي بلغت بحسب مصادر محايدة 110 آلاف قتيل، مع أخبار عن هروب شباب علويين إلى الخارج هرباً من الجندية، وشن النظام لحملة اعتقالات باللاذقية للقبض على الشباب لرفد طاحونة القتل الأسدية ثمناً لبقائه في السلطة، وقد وصلت نار التململ إلى بساط الأسد نفسه بمعقله في القرداحة حيث وقعت اشتباكات بين شباب رفضوا الالتحاق بجبهات القتال وبين قوات الأمن التي تصر على سوقهم للجبهات، واتخذ التململ شكلاً جديداً وخطيراً بتحرك الطائفة الدرزية ورفضها أن تبقى وقوداً لبقاء أسد في السلطة، لا سيما وأن التحرك أتى بعد دعوة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط العائد من موسكو أبناء طائفته بالانشقاق عن النظام، فقد رفض أبناء الطائفة الدرزية في السويداء قبول النظام سوقهم للخدمة العسكرية فاندلعت مواجهات دامية بين الطرفين..

أما خطة دي ميستورا المعتمدة فقط على زيارة عواصم وجهات حليفة للنظام حتى أطُلق عليه وزير خارجية أسد، فلا مستقبل لها والتي هي بالفعل خطة الصحافي الإيراني الأصيل نير روزن التي تعتمد على الهدن المؤقتة، تحت شعار حلب أولاً لتجميد القتال، وفي جوهرها طوق نجاة لنظام الأسد الإيراني المتهالك ليتفرغ  من بعدها لمناطق أخرى في الغوطة، فالنظام ليس في قاموسه كلمة سياسة إلا بما يخدم تركيع الشعب، ولعل القبض على السياسي العلوي المعارض لؤي حسين بتهمة تهوين الأمة، ولا أدري إن بقي من الأمة شيئاً عمراناً وشعباً أو شعارات بعد أن باعها لإيران، كل هذا يؤكد على أن النظام في حالة تخبط سيما مع تقارير جادة عن طرح أسياده في موسكو وطهران له في البازار العالمي.

الثوار على الأرض قابلوها بالرفض، فالسنوات الأربع من عمر الثورة السورية علمتهم أن الجهود الدولية لم تكن يوماً إلا لتخفيف الضغط على نظام القتل والإجرام، مع رفع العتب عن ما تبقى من ضمير عالمي يؤنب على مأساة الشعب السوري "كارثة القرن".

حين بدأت الثورة السورية كان البعض يتخوف أن يقتلها الطاغية في مهدها، حينها قال  سياسي سوري عريق مقيم في الشام إن ما ترونه من موجات مائية شعبية سطحية هي نتيجة لتيارات مائية ضخمة من الغليان الشعبي تحت هذه المظاهرات، ومن قبله قال روبسبيار بأن تيار الثورة الجبار يتواصل بفعل جرائم الاستبداد، أخيراً لا يستعجلن أحد الطريق فتاريخ الثورات العربية الحديثة علمنا أن لا حل بتحالف الثورة وخصمها الممثل بالثورة المضادة، فالدولة العميقة في صالح الأخيرة، وبنظرة سريعة على الوضع في اليمن ومصر وتونس وليبيا يتأكد ذلك، هذه ثورات شعوب إن أردنا تحقيق طموحاتها فلا بد أن يكون الشعار ما قاله الزير سالم" لا تصالح".

د

اقرأ المزيد
٢١ نوفمبر ٢٠١٤
تجاذبات النووي ومشكلات العرب مع إيران

لا تزال الولايات المتحدة هي سيدة الموقف في الشرقين الأوسط والأدنى؛ هي سيدة الموقف بسبب قوتها العسكرية الأسطورية، وهي سيدة الموقف بسبب أمر آخر وهو أن سائر الأطراف بالمنطقة ومن حولها يريدون وساطتها ويريدون تدخلها سلما أو حربا أو الأمرين معا! وتتساوى في ذلك سائر الملفات العالقة: من قضية فلسطين، وإلى قضية الإرهاب، فإلى الملف النووي الإيراني، فإلى سائر المسائل المتعلقة بالاستقرار في هذه المنطقة المضطربة، ليس منذ الآن، بل منذ نهايات الحرب العالمية الثانية!
منذ عام 2004 أقدمت الولايات المتحدة على نقل الملف النووي الإيراني من الوكالة الدولية للطاقة إلى مجلس الأمن. ومنذ ذلك الحين ظلت التوترات من حول الملف تتصاعد، وقرارات العقوبات والحظورات تتوالى إلى أن بلغت أربعة وأكثر، دون أن يبدو منفذ أو مخرج كما دون أن يبدو خلاف ظاهر في المسألة بين الولايات المتحدة وحليفاتها من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى!
ومع مجيء الرئيس أوباما للسلطة في الولايات المتحدة، طرأ تعديل جذري على سائر السياسات الأميركية في منطقتنا، ومن ضمنها الملف النووي الإيراني. فكما أظهر الرئيس أوباما استماتة في السعي لإنهاء الحروب والنزاعات التي أثارتها إدارة بوش الابن عندنا ومن حولنا، وفي التوسط بين إسرائيل والفلسطينيين، أظهر أيضا حرصا كبيرا جدا على تغيير علاقات الآفاق المسدودة على مدى ثلاثين عاما وأكثر بين الولايات المتحدة وإيران. وما ظهرت لمساعيه تأثيرات واضحة في أي من هذه الملفات الكبرى في فترة رئاسته الأولى، ومن ضمن ذلك العلاقات المتوترة، وإنما غير المنقطعة، بجمهورية إيران الإسلامية. إنما مع فوز الرئيس روحاني عام 2013 حدث اختراق كبير في الاتفاق المبدئي على وضع النزاع مع إيران بشأن النووي على سكة الحل. ويومها أظهرت أطراف عربية دهشة وخيبة باعتبار أن أحدا ما أشرك ولم يعلم باستثناء سلطنة عمان. ومنذ ذلك الحين لا تزال هذه الإحساسات السلبية أو الشكوك في سياسات الولايات المتحدة حاضرة ليس لدى بعض السلطات العربية فقط، بل ولدى الجمهور العربي!
لكن، هل كان الاضطراب في العلاقات الأميركية - العربية عائدا إلى الموقف الأوبامي من النووي الإيراني، أم هو عائد لأمور أخرى؟ كانت العلاقات العربية بالولايات المتحدة فاترة قبل مفاوضات النووي واتفاقاته، بسبب سلوك الولايات المتحدة في العراق الذي غزته ثم غادرته ليقع بالأيدي الإيرانية. وكانت فاترة للموقف الأميركي من المذبحة في سوريا، وهو الموقف الانكفائي حتى بعد سقوط مئات الآلاف من القتلى، وتهجير الملايين، وبعد استخدام الكيماوي ضد السوريين بكثافة، وبعد تدخل الميليشيات الموالية لإيران والآتية من كل حدب وصوب للمشاركة في المذبحة بسوريا إلى جانب الأسد ونظامه! وكانت فاترة لازدياد الانسدادات في قضية فلسطين رغم الجهود الأميركية. وهكذا، فإن الانفراج النووي الحاصل أو المرتقب بين إيران وأميركا ما كان غير القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول المثل العربي!
ماذا لو حصل الاتفاق النووي، وماذا لو لم يحصل؟ وزير الخارجية العماني يرجو من وراء حصوله خيرا كثيرا للعرب والمنطقة. ورئيس وزراء لبنان يرجو إن حصل الاتفاق أن يسمح لنا الإيرانيون بانتخاب رئيس للجمهورية، بعد مضي سبعة أشهر على خلو منصب الرئيس بالبلاد! وطبيعي ما دام الانطباع لدى بعض العرب على هذا النحو، أن هؤلاء يعتقدون أن إيران متشددة تجاه مناطق نفوذها المتكونة في بلاد العرب بالعراق وسوريا ولبنان واليمن.. إلخ، لأنها تعتبرها أوراقا للمساومة والتبادل مع الولايات المتحدة، وأن استجابة أوباما لإيران في هذا الملف الحساس، ستدفع إيران لفتح قبضتها المتشنجة بحيث تطير منها بعض الأوراق التي تسقط بردا وسلاما على العرب. ومسألة المبادلة أو المقايضة هذه ما ذكرت إيران علنا عنها شيئا، لكن الفكرة واردة لدى الأميركيين على الأقل. فمما تسرب عن رسائل أوباما الأربع السرية لمرشد الثورة الإيرانية، يعرض الرئيس الأميركي التعاون مع إيران في «مكافحة الإرهاب»، إن تنازلت في «النووي»! وإيران من جهتها تقول علنا إنها جندت نفسها لمكافحة الإرهاب دون انتظار للتعاون أو السماح الأميركي. فميليشياتها في سوريا والعراق واليمن ولبنان تقول كل يوم إنها تقاتل ضد التكفيريين، ولحماية مراقد آل البيت من الإرهابيين الذين يريدون تخريبها. والأمين العام لـ«حزب الله» قال أخيرا إنه بسبب شدة حرصه على قتل الإرهابيين يجند سنّة ومسيحيين أيضا من لبنان وسوريا للغرض ذاته. والجنرال سليماني يظهر دوريا على الجبهات بالعراق بمفرده أو إلى جانب المالكي رئيس الوزراء العراقي السابق، متمدحا بالانتصارات التي يحققها على الإرهابيين. وحتى الحوثيين باليمن الذين يرفعون شعارات: «الموت لأميركا»، و«الموت لإسرائيل»، منذ عام 2004 في صعدة وأخيرا في عمران وصنعاء وإب والحديدة، يقولون الآن إنهم ذاهبون إلى مأرب وشبوة وأبين بعد البيضاء والجوف لمقاتلة «القاعدة». وفي هذه المهمة الجديدة تشاركهم الطائرات الأميركية من دون طيار أحيانا، وقوات الحرس الجمهوري اليمني السابق، أحيانا أخرى!
كانت الولايات المتحدة إذن قد غادرت المنطقة وتركتها لإيران، وهي تعود الآن إلى المنطقة دون أن تغادرها إيران، بل هي تعرض عليها البقاء من أجل التعاون والشراكة في مكافحة الإرهاب! فليس بين إيران والولايات المتحدة حاليا إذن غير ملف واحد محل نزاع هو الملف النووي، وفي مقابل التنازل أو التسوية فيه، يجري فك الحصار. وإذا كانت روسيا العظمى تتضايق من العقوبات الأميركية والأوروبية من أجل أوكرانيا، فلماذا لا نصدق أخيرا أن الحصار مضن بالنسبة لإيران، وأنه يمكن أن يكون هو الثمن الذي تطلبه لتأجيل إنتاج القنبلة أو سلاح الدمار الشامل؟! أما البلدان العربية الأربعة على الأقل، التي دخلت عليها وخربتها، فتبقى خارج المبادلة أو المقايضة، باعتبارها غنائم حاصلة! لقد كادت السيطرة الإيرانية بالعراق تنهار على يد «داعش»، وها هي الولايات المتحدة تعيد ترميمها! وما قلت براميل الأسد المتساقطة على رؤوس السوريين بعد التعاون العربي ضد «داعش»!
إن الذين يعلقون آمالا إذن على تنازل إيراني في المذبحة السورية، أو في الرئاسة اللبنانية، أو في مغادرة اليمن، أو في التسهيل في البحرين مثلا، هم واهمون. ولن تبدأ إيران بالتفكير في إدخال تغييرات على سياستها الخارجية تجاه العرب إلا إذا انكسرت ميليشياتها أو حرسها الثوري في مكان ما، بحيث يؤثر ذلك في الداخل الإيراني. إن هذا الانكسار لم يحصل بعد، ولا هو في الأفق المنظور.. ولذا لا داعي للتفاؤل أو التشاؤم العربي إن حصل الاتفاق النووي أو لم يحصل!

اقرأ المزيد
٢١ نوفمبر ٢٠١٤
الساحل السوري المُدلل

يُعتبر الساحل السوري، تحديداً اللاذقية وطرطوس، من المحافظات المدللة في سورية، إذ لم تُمطر السماء فوقها براميل مُتفجرة تؤدي إلى دمار رهيب في المنازل والمُنشآت، وإلى نزوح السكان المتبقين على قيد الحياة، بعد سقوط حمم السماء وصواريخ الأرض، ففي اللاذقية أكثر من مليوني مواطن من حلب وإدلب وغيرها من المناطق الجحيمية المُلتهبة في سورية، كما أن طرطوس تحتضن حوالي مليوني نازح سوري، معظمهم من حمص والقصير وغيرها. لذا، يُمكننا أن نُطلق على الساحل اسم المنطقة المُدللة في سورية. لكن، توضح السطور التالية بعض هذا الدلال.

تكفي نظرة عابرة إلى شوارع اللاذقية، وهي مدينتي التي أسكن فيها ولم أغادرها، أن نرى هضاباً من القمامة في كل الشوارع والأزقة، وأن نرى نساء وأطفالاً ينبشون فيها بحماسة، لكي يأكلوا ويسدوا عضات الجوع في معدتهم، تكفي نظرة عابرة إلى شوارع اللاذقية، لكي نرى مئات الأطفال الحفاة والمُتسخين وشبه العراة، إلا من ثياب بالية يتسولون المُشاة، وأحياناً نراهم يغطون في نوم أشبه بالغيبوبة على الأرصفة، أو في مداخل البنايات أو في الحدائق، تعودت عيوننا على كل أشكال ومظاهر انتهاك براءة الطفولة، هؤلاء الأطفال السوريون الذين كان يُفترض أن يكونوا في المدارس.

تكفي نظرة عابرة إلى صفحات "فيسبوك" والتواصل الاجتماعي، لكي نقرأ آلاف التساؤلات والاحتجاجات حول التقنين المُتزايد للكهرباء والماء. يصرخ أحدهم متسائلاً: قدموا لنا مجرد تفسير لأسباب هذا الانقطاع المُهين واللامنطقي للكهرباء، إذ أصبحت اللاذقية تتمتع بنعمة الكهرباء أربع ساعات في اليوم فقط! أحدهم كتب على صفحته: نحن في فصل الخريف، أي لا أحد يشغل التبريد، ولا التدفئة، فلماذا هذا التقنين الفظيع للكهرباء؟ كيف سيدرس أطفالنا دروسهم في الظلام وعلى ضوء شمعة شحيحة؟ ولكي يكتمل الدلال في الساحل السوري، فإن تقنين الماء ينافس تقنين الكهرباء، ما يعفي سيدة المنزل أن تشغل الغسالة، أو تضع مؤونة في البراد الذي تحول إلى ما يشبه الخزانة، وصارت الغسالة مجرد ديكور في المطبخ، ولجأت سيدات البيوت إلى الغسيل في الطشت، فتشعر الواحدة بأنها من بطلات مسلسل باب الحارة.

أما الغلاء الفاحش والمتزايد يوميّاً للأسعار فيكاد يُصيب المواطن السوري بالسكتة القلبية أو الدماغية، غلاء فظيع لا يتناسب مع الراتب الشحيح الذي يمكن تشبيهه بالحصوة التي تسند خابية، ولأن المواطن السوري تعود أن يطرح أسئلةً، ولا يجد جواباً عنها، فهو لا يملك سوى الصراخ والاحتجاج على صفحات "فيسبوك"، ليقدم له أحد ما سبباً لكل هذا الغلاء، ولانقطاع مواد تموينية وأدوية إسعافية، وغير إسعافية، عديدة. والظاهرة الخطيرة، والتي لم ينتبه إليها أحد، فهي تفشي ما يتسمى أمراض القذارة، كالقمل والجرب، وعادت حبة حلب (الليشمانيا) إلى الانتشار، آكلة وجوه الأطفال وتاركة ندبات رهيبة، كما أن لُقاحات أطفال كثيرة مفقودة، أو غير متوفرة بالكمية الضرورية.

" كيف سيدرس أطفالنا دروسهم في الظلام وعلى ضوء شمعة شحيحة؟ "

أما الحالة النفسية والمعنوية المنهارة، واليائسة يأساً تاماً، للإنسان السوري، وفي الساحل السوري أيضاً، فلا أحد يتحدث عنها، أو يبالي بها، لأنها تُعتبر نوعاً من الرفاهية، فإنسان جائع ومضطر أن يتآلف مع الموت كل يوم، ولا توجد أسرة سورية إلا وخسرت ابناً أو أباً أو أخاً، وتحولوا جميعاً إلى أوراق نعي وشهداء أبطال، أمام حياة هي أقرب وأشبه بالموت وأمام انهيارٍ للبنى التحتية للمجتمع، يبدو الحديث عن الحالة النفسية للمواطن السوري ضرباً من الفنتازيا والنكتة. ما ألحظه، ويلحظه الجميع، حالة الاكتئاب الحاد الشامل لكل فئات المجتمع. وحسب علم نفس المجتمعات، تنتشر هذه الظاهرة بشكل جماعي وتؤدي غالباً إلى انتحارات جماعية، بسبب انعدام الأمل وانسداد الأفق، وفقدان الإيمان بالمستقبل، بل إن مُحللين سياسيين عديدين قالوا، إن السنوات العجاف لم تبدأ بعد في سورية، وإن كل هذا الخراب والموت ونزوح ثلث الشعب السوري ليس سوى مُقدمة، أو توطئة للقادم الأعظم.

من يبالي بخطورة نزف سورية شبابها، من يبالي أو يتحدث عن باخرة مرسين التي تنطلق يوميّاً من ميناء اللاذقية، تحمل أكثر من 400 شاب سوري في اتجاه مدينه مرسين التركية، شباب نخر اليأس والإحباط قلوبهم، ودفعهم ليهاجروا إلى أي بلد، ملقين بأنفسهم في قوارب الموت، وحسب إحصائية، إن أكثر من 3500 سوري ماتوا غرقاً في البحر، وهم يحاولون الهروب من بلد رهيب اسمه سورية. وطن استوطنته كل شياطين العالم، وكل دول العالم تسعى لتصفية حساباتها مع بعضها بعضاً في سورية.

الدلال في الساحل السوري هو للحشرات، مثل القمل والجرب والليشمانيا، حيث تستوطن سعيدة ومُرحب بها، وهو للظلام وشح المياه، وللجوع، حيث ينبش آلاف في القمامة ليأكلوا. الدلال في الساحل السوري هو للاختناق بتلك الكثافة السكانية الرهيبة. هذا هو شكل الدلال في الساحل السوري، فكيف، يا ترى، أشكال الجحيم وتنويعاته في المناطق المُلتهبة.

اقرأ المزيد
٢١ نوفمبر ٢٠١٤
ما لم يقله رفسنجاني

اعتبر رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني، الرئيس السابق الشيخ هاشمي رفسنجاني، أن الأعمال المثيرة للفرقة بين المسلمين، تزيد الخلافات بين السنة والشيعة، غامزا من قناة المغالين الشيعة، رافضا رفعها إلى مستوى العبادات، منتقدا بشدة الإساءة إلى الصحابة والاحتفال بمقتل الخليفة عمر بن الخطاب، معتبرا أن التمسك بهذه الأعمال ساهم بإنتاج «القاعدة» و«داعش» و«طالبان» وأمثال هذه الجماعات.
يتزامن كلام الشيخ رفسنجاني مع التحركات الجدية من قبل أطراف عربية على كل المستويات الرسمية والدينية من أجل الحد من حمى التطرف المستشرية، إضافة إلى مشاركة كثير من الدول العربية بالحرب على «داعش» من دون شروط، والمبادرة في ملاحقة دعاة التشدد والحد من تأثيرهم على محيطهم، وتجفيف مصادر تمويلهم، بينما يستمر البعض في طهران بدعم جماعات شيعية متطرفة تمارس «داعشية» انتقائية، تختلف بأسلوبها عن تنظيم الدولة الذي لم يميز في ارتكاباته بين سني وشيعي أو مسيحي أو إيزيدي.
ما لم يجرؤ رفسنجاني على قوله، هو أن وقوف نظام طهران، منذ أكثر من 3 سنوات، إلى جانب نظام بشار الأسد، ودعمه بكل ما أوتي من قوة، أخذ بعضها طابعا عقائديا، وتسخير كل إمكانياته المادية والعسكرية والبشرية، وإرسال ميليشياته إلى دمشق ومناطق سورية أخرى، من أجل إركاع السوريين وقمع تطلعاتهم المحقة في الحرية والعيش الكريم، كان أحد الأسباب الرئيسية في إحياء هذه الجماعات المتطرفة، وتوفير البيئة الحاضنة والداعمة لها، خصوصا بعد أن رفضت طهران الاستماع إلى أصوات العقل، التي ناشدتها الاعتراف بحق الشعب السوري في تقرير مصيره، وفتح إصرارها على دعم الأسد شهية المتطرفين السنة، الذين وجدوا بذلك ذريعة من أجل تبرير «هجرتهم الجهادية» إلى الشام، معتبرين هجرتهم دفاعا عن حياض المسلمين.
لم يخلُ التاريخ الإسلامي منذ الفتنة الكبرى إلى يومنا هذا، من اختلافات فكرية وفقهية وصلت في بعض الأحيان إلى خلافات، أنتجت استقطابات، تحولت إلغاء وتكفيرا أوصلا إلى القتل المتبادل بين الفرق الإسلامية. ونحن نشهد الآن سلفية جهادية سنية، في مواجهة مفتوحة مع أصولية جهادية شيعية، يطمع كل طرف فيها بالانتصار على الآخر، إما بالترهيب أو بالإلغاء.
فيما المطلوب هو دعم الاعتدال في المجتمعات التي خرجت منها هذه الأصوليات، وكما جرى مع صحوات العراق والحرب التي قادتها الرياض والعواصم الخليجية على «القاعدة»، وتقودها الآن على «داعش»، في حين إن طهران لم تحرك ساكنا تجاه الجماعات المتشددة التابعة لها في العراق وسوريا حتى الآن، وما زالت تمارس القتل نفسه الذي تمارسه «داعش» وأخواتها لكن بعيدا عن عدسات الكاميرات.

اقرأ المزيد
٢١ نوفمبر ٢٠١٤
الحاضنة الشعبية وأثرها على الثورات

مما لا شك فيه أن الشعب هو منبع كل ثورة تخرج ضد الظلم و الطغيان ، و أن الشعب هو أساس كل تحرك يهدف الى تغيير نظام حكم اضطهده و سلب حقوقه و حاربه بلقمة عيشه ، و لا ريب أن الشعب هو المحرك و المولِّد لكل إنتفاضة تخرج ضد نظام أو حزب إستبدادي تطالبه بالرحيل و تنشد التغيير ، و من هنا من هذا الشعب تولد الثورات ، تبدأ بحدثٍ صغير يكون تلك “القشة التي قصمت ظهر البعير” و لا يلبث أن يتحول الحدث الى شرارة يشتعل بها أتون الغضب و الحقد على من إستبد و ظلم و تحكم ، و لا تلبث هذه النيران المتقدة بالقلوب و العقول ، المتولدة من جحيم المعاناة و التعب و شظف العيش ، أن تتحول إلى ثورة عارمة .. يحوطها الشعب و يرعاها ..يؤيدها و يكلؤها بعين رعايته ، يأمن لها أسباب العيش و الإستمرار و يوفر لها الحضن الدافئ و الحامي ..
هي الثورة السورية كما كل الثورات على مر التاريخ ، ولدت من رحم الشعب ، و خرجت من خاصرته بما رافق هذا الخروج من الم و مكابدة و صبر ، لتنتفض ضد نظام إستبد بوطن ما يزيد على خمسة عقود ، نظام استبد و قتل و أجرم و سرق و نهب ، هي ثورة فطرية عفوية بدأت بكتابات أطفال على جدران مدارسهم لتستعر كما النار بالهشيم و تنتقل من جدران مدرسة لتغدو على مساحة كل شبر بأرض الوطن ، ثورة بدأت سلمية و استمرت كذلك ما وسعها الأمر ، و بفطرتها السليمة كذلك و عفويتها بدأت بالتحول للعسكرة لتدافع عن نفسها ضد بطش لم يُشْهد له نظير بالتاريخ ، حملت السلاح لتطبق معايير كل الديانات السماوية و الأعراف الإنسانية بحق رد الظلم و حفظ النفس ، و بدأت كتائب الثوار بالتشكل و الظهور ، فظهر الجيش الحر الذي كان إبن ثورة الشعب البكر ، يحمل خصائصه و تفاصيله ، يحوي أطيافه و إثنياته ، و يرفع راية إستقلاله عن المستعمر ، لا يتميز فيه ثائر عن ثائر الا بالخلق و الشجاعة و الاقدام و ما يحمله من فكر و حرية ، ليظهر بعده تشكيلات مختلفة و فصائل متعددة و رايات متباينة ، كل منها له هدف و يقوده منهج و يحركه فكر ، منها المعتدل و الإسلامي و المتطرف و المغالي بالتطرف .
تحولت الثورة للعسكرة ، و باتت تشكيلاتها تتنازع المناطق و الاهداف و الوجود و الموارد ، و لم تنسَ هذه الفصائل بطبيعة الحال أهم سبب من أسباب قوتها و اهم مصدر من مصادر شرعيتها ، و أقوى محرض على استمراريتها و هو الشعب .. تلك الحاضنة الإجتماعية الأساس و المركز ، فسعت التشكيلات و الفصائل إلى كسب ودها و استقطابها كل منهم على حساب الفصائل و التشكيلات الأخرى ، و كما تعددت مشارب و أهداف هذه الفصائل فقد تعددت أساليبهم بجذب هذه الحاضنة الشعبية تجاههم ، فمنهم حاورها و اندمج بها و اعانها قدر استطاعته ، و منهم من تكبر عليها و أهملها و منهم من حاول سوقها بالحديد و النار و القهر و الإرهاب ، و منهم من ظن انه الوصي الشرعي عليها بعد تقهقر النظام من بين ظهرانيها ، و مارس أغلبهم البراغماتية المحضة بداية بالتزلف لنيل رضاها و التقرب منها ، ثم اظهر وجهه القبيح بأهدافه المناطقية أو الشخصية او الأيدولوجية ، فلفظته الحاضنة الشعبية التي عولت عليه و عول عليها .. لينتهي التشكيل او يضمحل او يتقوقع على نفسه برأس جبل او بطن وادي.
الثورة السورية ثورة مُمحِصةٌ كاشفة ، و الحاضنة الشعبية تحوي بوعيها الجمعي حضارة عمرها آلاف السنين ، و الشعب الذي أطلق هذه الثورة “بمشيئة الله” قادر على ان يميز الخبيث من الطيب ، و ان يفرق بين الغث و السمين ، و لكنه شعب كَهلْ صقلته التجارب و السنون ، يعطي الفرصة لمن يطلبها ، و يتمهل بالحكم ليرى النتائج ، و لكنه لا يصبر على ضيم ، و لن يستبدل مستبد بمستبد .. فليعي من يتطلع ليلي أمره بالسلاح او بالسياسة .. ان يحقق طموحات هذا الشعب و ان يلامس ألمه و ان يثبت عزمه على تحقيق أمله .. فبهذا يستمر و بهذا يحوز رضاه و بهذا يمتلك قلوب و عقول “الحاضنة الشعبية”

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان