لم تَنْطَلِ "مسرحية" الإعلان عن "استقالة" وزير الدفاع الأميركي، تشاك هيغل، على أحد، حيث إن جميع المراقبين في الولايات المتحدة يدركون أن ما جرى كان عملية عزل للرجل من الرئيس، باراك أوباما، الذي جاء به إلى المنصب، قبل أقل من عامين.
إقصاء هيغل بهذه الطريقة الفجة، والتي شملت اتهامات له من مسؤولين رفيعين، مجهولي الهوية، بضعف الأداء، يأتي في سياق استمرار تخبط إدارة أوباما وانقساماتها في الملفّين، العراقي والسوري، والحرب التي أعلنتها على "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش). وليس سِرّاً أن أوباما، والدائرة الضيّقة حوله، من المستشارين المدنيين، يقاومون ضغوط القادة العسكريين لتوسيع مستوى انخراط الولايات المتحدة في الحرب على جبهتي العراق وسورية، تحديداً.
ففي حين أن أوباما متمسّك بوعوده الانتخابية بأن ينهي أكثر من عقد من الحروب التي أشعلها سلفه، جورج بوش، ويرى أن الأمر يتعلق بإرثه الرئاسي، فإن جنرالاته، في المقابل، يطالبونه، الآن، بضرورة إعطائهم كل ما يحتاجون إليه لتحقيق نصر عسكري حاسم، في حربٍ هو نفسه من أعلنها. أوباما، المقاتل المتردد يريد أن يحصر حربه بضربات جويةٍ، وبالقيادة من الخلف، عبر تحالف دولي فضفاض، ويكافح لكي لا يضع قوات أميركية مقاتلة على الأرض، غير أن استراتيجيته المعلنة، يبدو، إلى الآن، أنها لا تعمل بالشكل والسرعة المطلوبين، خصوصاً في غياب "شريك يمكن الاعتماد عليه" في سورية، وترهل القوات العراقية. وهكذا، وجد أوباما نفسه وجهاً لوجه أمام قياداته العسكرية، وتحديداً، رئيس هيئة الأركان، الجنرال مارتن ديمبسي، الذي أغضب البيت الأبيض، غير مرة، بتلميحاته المتكررة عن احتمال طلبه قوات أميركية مقاتلة على الأرض، غير التي تلعب دوراً استشارياً، أو تدريبياً. وبسبب هذا الخلاف الذي خرج إلى العلن، كانت التضحية بهيغل.
عندما رشح أوباما هيغل، ليكون وزير دفاعه، مع بدء فترة رئاسته الثانية، مطلع عام 2013، فإنه كان يرى فيه حليفاً لمسعاه في تقليل جرعات العسكرة في السياسة الخارجية الأميركية. وعزز من قناعة أوباما بهيغل أن الأخير خدم فترتين في مجلس الشيوخ الأميركي، عضواً عن الحزب الجمهوري، وكان أحد الجمهوريين القلائل الناقدين لسياسة إدارة بوش الابن في العراق. وبسبب مواقف هيغل من أسلوب إدارة الملف العراقي، وانتقاده مبالغة إدارة بوش بالاعتماد على القوة العسكرية، في سياستها الخارجية، فإنه طور علاقة قريبة مع عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي، في ذلك الحين، باراك أوباما، بشكل أغضب جمهوريين كثيرين.
وفعلاً، لم يخيّب هيغل ظن أوباما، فهو أشرف على خفض ميزانية وزارة الدفاع الأميركية، وساهم بشكل فعال في الانسحاب التدريجي للقوات الأميركية في أفغانستان، وحرص على تنفيذ انعطافة إدارة أوباما نحو منطقة المحيط الهادئ في آسيا، غير أن بروز خطر "داعش" في يونيو/حزيران الماضي، وسيطرتها على مدينة الموصل ومناطق أخرى واسعة في العراق، ثمَّ توحيدها تلك المناطق مع المناطق التي تسيطر عليها في سورية، فرض تحدياً جديداً أمام إدارة أوباما.
في السياق العراقي، لم يجد أوباما مشكلة كبيرة في تحديد موقفه، خصوصاً بعد أن أطيح رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، شرطاً أميركياً للتدخل ضد "داعش" هناك. صحيح، أن أوباما يعتبر الانسحاب من العراق، أواخر عام 2011، أحد أهم إنجازاته الرئاسية، غير أن عدم وقف تقدم "داعش" كان يعني تلطيخاً لذلك الإرث. ولأن العراق يتوفر على حكومة تعترف بها الولايات المتحدة، فإن أوباما أعلن أن العون الأميركي سيقتصر على التدريب والتسليح والدعم، عبر سلاح الجو للقوات العراقية والكردية، غير أنه اضطر، في مرحلة لاحقة، إلى أن يضع "مستشارين" عسكريين أميركيين على الأرض، ليوجهوا الضربات الجوية، ويعينوا القوات العراقية والكردية في جهودهم للتصدي لتنظيم الدولة.
" تخبّط أوباما وتردّده في سورية جعل من نكبة السوريين ورقة على طاولة الصفقات الأميركية-الإيرانية المتوخاة "
معضلة أوباما الحقيقية هي في سورية، فهو، وإن كان قد طالب، منذ سنوات، بضرورة تنحّي الرئيس، بشار الأسد، وأعلن، غير مرة، أن المذكور فاقد للشرعية، إلا أنه بقي يصر على أن الحل ينبغي أن يكون سياسياً، وذلك على الرغم من فشل مؤتمرين في جنيف، جراء تعنت النظام السوري. وحتى عندما تجاوز الأسد خط أوباما الأحمر، واستخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، في أغسطس/آب 2013، فإن أوباما تراجع عن تنفيذ وعيده، بشن ضربة عسكرية على قوات النظام. أكثر من ذلك، فإن أوباما، دائماً ما عارض تسليح قوات المعارضة السورية "المعتدلة"، على الرغم من ضغوط وزيري خارجيته ودفاعه السابقين، هيلاري كلينتون، وليون بانيتا، ومعهم رئيس جهاز المخابرات المركزية السابق، الجنرال ديفيد بترويس.
ولم تُجْدِ نفعاً كل الضغوط على أوباما، من بعض حلفائه العرب والإقليميين، وفي مقدمتهم السعودية وتركيا، وبدعم من وزير خارجيته الحالي، جون كيري، وهيغل نفسه، بضرورة تسليح "المعارضة المعتدلة" بأسلحة نوعية، وتحديداً صواريخ أرض-جو المحمولة على الكتف للتصدي لطيران النظام الحربي.
تخبّط أوباما هذا، ما بين عدم اعترافه بشرعية الأسد، وفرضه "فيتو" على تسليح "المعارضة المعتدلة"، أحدثَ فراغاً في سورية ملأته "داعش". ومع إعدامها مواطنيْن أميركيين، وإعلان إدارة أوباما الحرب عليها في سورية والعراق، في سبتمبر/أيلول الماضي، جنى أوباما حصاد تخبطه سنوات. فهو قد "اكتشف" فجأة أنه لا يملك "شريكاً" يمكن الاعتماد عليه على الأرض السورية، وأنّ من يستفيد من قصف مواقع "داعش" هو النظام السوري. هذا ما قاله هيغل نفسه في مذكرةٍ بعثها إلى البيت الأبيض، أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مطالباً بوضع استراتيجية للتعامل مع نظام الأسد، الأمر الذي أغضب البيت الأبيض.
وهكذا، انتهى الأمر بهيغل الذي جيء به لينفذ "رؤية" أوباما الضبابية، أن يكون خصماً لها، ووجد نفسه في صف جنرالات وزارته الذين يَشْكونَ من تكليفهم بحرب، من دون أن يعطوا ما يحتاجون إليه للانتصار فيها.
اللافت في هذا السياق، أن ثمة من السوريين من لا زال يراهن على دور لإدارة أوباما في تخليصهم من نظام الأسد وطغيانه، في حين أن مسؤولي إدارته يصرّحون، ليل نهار، إنه لا يوجد بديل عملي للأسد اليوم. إنها الحقيقة المُرَّة التي لا يريد كثيرون أن يعترفوا بها. فتخبط أوباما وتردده في سورية جعل من نكبة السوريين ورقة على طاولة الصفقات الأميركية-الإيرانية المتوخاة. ومن دون تمرد تركيا، والمحور العربي المعارض للأسد، على الفيتو الأميركي، بتسليح الثوار بما يحتاجون إليه، أو سبر غور إمكانية اجتراح صفقة سورية-سورية، لا أميركية-إيرانية، ستبقى سورية في الفوضى المدمرة التي تعيشها، اليوم، سنوات مقبلة.
أقدّر كل جهد صادق من أجل رفع المعاناة عن أهلنا في الشام في البحث عن حل أزمته التي طالت، للجاهد منه بدايته متغافلا عن نهاياته ومآلاته، فعلى الساعي إلى مثل هذه الحلول الاعتبار من مآلات حلول سابقة اُستوردت من هنا أو هناك لا تناسب بيئة ولا هواء، فضلاً عن أن قواعد اللعبة واللاعبين والمتلاعبين في هذه المنطقة أو تلك تتباين وربما تتناقض تماماً مع قواعد مماثلة لها في مناطق أخرى..
علّمنا التاريخ أن أنصاف الحلول تكون كالأسبرين مع مريض السرطان أو نحوه، فقد ينفع الأسبرين في تسكين الألم، ولكنه ألم سريعاً ما يعود، لا سيما إن تعوّد عليه الجسم، فحينها لن تنفعه أسبرين ولا ما فوقه، وستنفجر الأزمة حال اختفاء المسكّن بشكل يكون أكثر إضراراً بالوطن والمواطن.
الإشكالية الأساسية في النظام السوري وغيره من الأنظمة الاستبدادية الشمولية الديكتاتورية ليس في رأس النظام ولا في هرمه، فالهرم إنما يشكل رأس قمة جليد تُخفي أسفلها جبلاً جليدياً مصمتاً من الاستبداد والديكتاتورية ورفض الآخر، لا سيما وأن هذه الأنظمة قد تغذّت على مدى تاريخها الاستبدادي على الدم والقتل والتشريد والاعتقال، فحياتها ومصلها ودمها هو بإهانة المواطن واحتقاره، والسعي إلى نقل هذا الجسم المصمت غير الانساني والبشري إلى حياة بعيداً عن جوه وطبيعته الدموية، تماماً كزرع أشجار المانغو في سيبيريا أو زرع أشجار تلائم بيئة الأخيرة في مناطق خط الاستواء..
قد يخرج عليك المشفقون أو ممن يتظاهرون بالإشفاق فيلقون عليك المحاضرات في أن الشعب قد تعب وسئم من الحرب، وأنك تعيش في برج عاجي بعيداً عن اهتمامات الشعب، وكأنه هو يعيش في الغوطة أو في حلب أو في المدن السورية الصامدة الصابرة، وكأنه وكيل عن شعب انتفض ضد نظام مجرم استبدادي منتصراً لكبريائه وعزته، ويتعامى هؤلاء عن حقيقة ناصعة جلية أن الشعب السوري في الداخل أكثر صموداً ممن هم في الخارج، وأنه لم يعبر يوماً عن تأفف أو غضب لما آلت إليه أوضاعه، فضلاً عن غضبه من انبطاحية البعض في الخارج بحجة استحرار القتل في الشعب السوري، فاندفع إلى السراب الذي اندفع إليه غير مرة فلم يجد عنده شيئاً..
الشعب السوري لم ينتفض ضد الطاغية بشار كشخص وإنما انتفض ضد نظام متكامل، وهو الانتفاض الذي بدأت باكورته منذ مطلع السبعينيات بوصول الطاغية الأب حافظ أسد إلى السلطة واستمر في انتفاضته حتى الثمانينيات، ولكن خبا في وقت من الأوقات لظروف ليس المكان لتفصيلها، ثم عاد وانتفض الشعب من جديد في آذار 2010 مطالباً بالحرية، وبالانشقاق عن دولة العبيد.. دولة المخابرات، ولذا ما لم تتفكك دولة المخابرات ذات الـ 17 جهازاً، وتعود سوريا دولة القانون فإن الوضع سيكون أخطر مما نعيشه اليوم، حينها سينتقم هؤلاء من كل من انتفض ضدهم، ولنا في تجربة الثمانينيات عبرة وعظة، وهنا اسأل كل من يريد التصالح مع دولة عميقة بعمق جهاز المخابرات السوري هل يجرؤ هو نفسه على النزول إلى سوريا في حال عملية المصالحة، حينها سيكون مصيره كمصير من دهسته سيارات المخابرات بعد إفراجها عن بعض المعتقلين في التسعينيات، والفارق بين تلك الفترة والآن هو أن حينها لم يكن هناك ثورة ولا انتفاضة أذاقتهم مر الكأس.
ما جرى في دول باجتراح حلول سهلة سريعة مستوردة لا تحقق طموحات المنتفضين والثوار رأينا نتائجها اليوم في مصر وليبيا واليمن وتونس، فما لم يُحاسب الطغاة المستبدون ويُحاكموا في محكمة الثورة ويلقوا جزاءهم في ساحات التحرير والثورة والاعتصام فإن دولة المخابرات العميقة في ربيعنا العربي ستظل الحاكم بأمرها، وستعود حليمة إلى عادتها القديمة ..
النظام العالمي كما النظام المحلي بُني منذ الدولة القومية القطرية البائسة والسيئة الصيت والسمعة على النظام المخابراتي، وكل التحركات السياسية والديبلوماسية الظاهرة والمستترة لا تعكس حقيقة الأنظمة المستبدة عربية كانت أو أميركية أو روسية، غربية أو شرقية، فما يعكسها حقيقة هو النظام الأمني المخابراتي، وبالتالي فغضبة الشعب السوري وغيره لم تكن إلا ضد هذا الدولة المخابراتية العميقة التي سامته سوء العذاب على مدى عقود، وربما هذا ما يفسر تضافر جهود عالمية مشتركة بأشكال متعددة لسرقة الثورة السورية، والسعي إلى إطالة معانات الشعب، لكن لم يعد للشعب ما يُخشى عليه بعد كل هذا الدمار والخراب.
قد تكون ثمة قوى تجارية متنفذة لا تزال تحافظ على مكتسباتها التي اكتسبتها من قوت الشعب لعقود، هذه القوى التي تحالفت مع نظام الإجرام لا بد أن تلقى عاقبتها أيضاً وأن تُعيد ما نهبته من الشعب على مدى عقود، فإن كان ثمة دولة مخابراتية عميقة في سوريا، فهناك دولة تجار عميقة فيها وفي غيرها، تحالفت مع النظام ووقفت في وجه طموحات السوريين في السبعينيات والثمانينيات، وها هي تحاول الآن من جديد بذرفها دموع التماسيح على ما تبقى من الشعب السوري أن تُنقذ نفسها من حبل مشنقة الثورة السورية، هذه الدولة التجارية العميقة لا بد أن تتفكك، ويعلم معها الشعب السوري حقيقتها وجوهرها، وكيف تشكلت وما هي خيوطها، ومن هم واجهاتها، لتعود التجارة والصناعة متصالحة مع الثورة والثوار ومتصالحة مع مصالح الشعب، لا استغلال ولا استعباد..
إن من طرح فكرة الحوار السوري _السوري سابقاً أعفى يومها الأمم المتحدة من مسؤوليتها في حفظ الأمن والسلم في سوريا، ووجدتها فرصة ذهبية لتتحلل من كابوس أخلاقي يطاردها تجاه المأساة السورية ، هو نفسه من يطرح اليوم حواراً جديداً مارثونياً مع نظام يريد الحوار من أجل الحوار لتبدأ عملية استنساخ المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، فنعمت اسرائيل بدفء العلاقات العربية والعالمية، وهو ما سيتكرر ويفوز الطاغية بعودة علاقاته الديبلوماسية مع العرب وغيرهم، بإعادة إنتاج نفسه، ويتحضر الوسيط العماني إلى مهمة جديدة؟!
أخيراً ما يأمله الشعب السوري هو تحرك ممنهج ومدروس، يرقب العواقب البعيدة كما يهتم بالمصائب القريبة، لا تحرك فزعة على ما تعودنا عليه و عُوّدنا عليه في حياتنا الاجتماعية كما السياسية، فأهل الاختصاص والمعنيون ينغبي أن يكونوا هم أول من يعلم لا آخره، فعهد البصم وحاضر سيدي ألغته الثورة السورية، فهذا عهد الشفافية والعمل تحت الشمس؟!،
الصمود الأسطوري للشعب الشامي وانتصاراته المتلاحقة رغم كل التآمر العالمي عليه وعلى ثورته سيكون الصخرة التي تتحطم عليها كل أحلامهم ومخططاتهم الشريرة.
توضيحاً لمن يشك، ولو للحظة، (ومن دون أن أكون ناطقاً مخولاً)، أستطيع الجزم بأن المزاج العام في اللحظة الراهنة للوطنيين الكرد السوريين، في سائر أجزاء جسم الحركة الكردية، مجموعات وأفراداً، ليس بصدد افتعال المعارك، بأنواعها، مع الأحزاب عامة، وجماعات حزب العمال الكردستاني (ب ك ك )، خصوصاً، وبما أن الأخيرة هي البادئة بالإلغاء والتخوين، أقول: نحن الأصل، وهي الطارئة، نمتد من خويبون، مروراً بالمحاولات الأولى لتنظيم الفعاليات الثقافية والسياسية والحزب الديموقراطي الكردستاني في سورية المنبثق، في أواسط الخمسينيات، واليسار القومي الديموقراطي الذي دشنه كونفرانس الخامس من أغسطس/آب 1965، وانتهاء بالحراك الشبابي الثوري والمستقلين ومنظمات المجتمع المدني، المهنية والثقافية والإعلامية، المشاركين في الثورة السورية، منذ اندلاعها، بنضالنا وتضحياتنا، خلال عقودٍ، حافظنا فيها على وجود شعبنا من الاندثار، وعلى قضيتنا من الضياع، وجسدنا شخصيتنا القومية ضمن إطار القضية الوطنية السورية، في مواجهة نظام الاستبداد، حسب معادلة متوازنة وتفاعل إيجابي. أما تلك الجماعات الخارجة من رحم المنظومات الأمنية الحاكمة في الدول المقسمة للكرد، ووطنهم التاريخي، فقد جاءت جزءاً من مشروع هذه المنظومات، العنصري – الطائفي، ومخلباً لمواجهة نهجنا الوطني المعبر عن إرادة الشعب ومصالحه، ونصيراً لنظام الأسد الأب في إبطال مشروعية كرد سورية شعباً وقضية.
وعلى الرغم من فشل – السيستيم – الحزبي، والسقوط المدوي لسياساتها، إلا أننا كنا سنقول كلمتنا بالإيجاب، لو حملت هذه الجماعات التابعة لحزب العمال الكردستاني بديلاً أفضل من الأحزاب الكردية السورية القائمة، والتي تفوق العشرين، لكنها جاءت بالأسوأ، حيث إضافة إلى كونها، كما ذكرنا، جزءاً من مشروع النظام، مثل غالبية الأحزاب الأخرى، نقلت إلى مجتمعنا حزمة من العادات السيئة والردات الفكرية والثقافية والسياسية، من جملتها: عدم قبول الآخر المختلف، بل تخوينه وتصفيته بقوة سلاح السلطة، وعبادة الفرد، والنزعة الفاشية، وإخفاء الحقيقة عن الشعب، ونشر الأضاليل الإعلامية، وتقديم كرد سورية وقضيتهم قرباناً في بازار المساومات بين (ب ك ك) من جهة وأنظمة سورية وإيران وتركيا من الجهة الأخرى.
نعلم تفاصيل علاقات هذه الجماعات بالنظام السوري، منذ حط زعيمها الرحال في ضيافة جميل الأسد، شقيق الدكتاتور الأب وعم المستبد الابن، بداية الثمانينيات. وفي مرحلة لاحقة منذ ثلاثة أعوام، وهي تنكر لفظياً من دون إقناع أحد. ومن دون الذهاب بعيداً، ومن دون تكرار ممارساتها منذ بداية الثورة السورية، نأتي، على سبيل المثال لا الحصر، بقرائن قريبة، ففي الندوة المقامة في برلمان الاتحاد الأوروبي، قبل أيام، أعلن مسرور بارزاني، في مداخلته، عن إدانته نظام الأسد، الذي ساهم في ظهور "داعش"، في حين سكت ممثل هذه الجماعات، ولم يشر إلى ذلك، لا من قريب أو من بعيد، علماً أنه، كسوري، معني بالقضية السورية، وكان الأولى بإدانة النظام والمطالبة بإسقاطه، إن لم يكن متورطاً، وأمام إعلان وليد المعلم، وزير خارجية الأسد، في صحيفة الأخبار اللبنانية، أن نظامه لم يتوقف عن إرسال السلاح والذخيرة إلى كوباني، مع شهادته عن حسن سلوك هذه الجماعات، وتهجمه على السيد رئيس إقليم كردستان. أليس مطلوباً، إن كانت الجماعة صادقة وواثقة من نفسها، ردّاً مطولاً من قيادتها السياسية حول هذه المسائل؟
تمارس هذه الجماعات أساليب مليشيات وشبيحة الأسد وإيران نفسها. وبعدما كان حسن نصرالله قد انتقد التدخل الأميركي والأوروبي في العراق وسورية ضد "داعش"، عاد، فاستدرك، بعدما تبين أن الضربات الأميركية في العراق منسقة، تماماً مع إيران التي تقود العمليات على الأرض، والتي أرسلت قاسم سليماني، ليتولى ذلك بنفسه، وليضمن عدم خضوع بغداد لضغوط واشنطن التي تطالبها بتسليح العشائر السنية في الأنبار، ثم قرر أن حزبه جزء من حرب التحالف الدولي على تنظيم البغدادي، وقال: "سنلحق بهم الهزيمة في كل المناطق والبلدان، وسيكون لنا شرف أننا كنا جزءاً من ذلك"، وحذت هذه الجماعات حذو نصرالله، فقد كانت ضد أي تدخل أجنبي في سورية، كما هي سياسة هيئة التنسيق، وهي عضو فيها، وتفتخر، الآن، بأنها جزء من التحالف الدولي ضد "داعش".
ركبت هذه الجماعات، وخصوصاً المسؤولين السياسيين عنها، موجة الدفاع عن كوباني، وتحاول استثمار معاناة أهلنا هناك الذين يواجهون، بغالبيتهم الساحقة، نظام الاستبداد، منذ اندلاع الثورة السورية، وظهر بينهم مناضلون أشداء، في وقت ظهرت فيه هذه الجماعات بالضد من إرادتهم والحؤول دون مواصلتهم كفاحهم الوطني، ثم التفرد بالسيطرة بقوة السلاح على مقدرات المدينة وريفها، كسلطة الأمر الواقع، وعدم إفساح المجال لأي طرف، أو فئة، أو مجموعة، من المشاركة في إداراتها، ثم عجزت عن مواجهة جحافل "داعش" التي احتلت أكثر من 300 قرية، وصولاً إلى قلب المدينة، ولولا ضربات التحالف الدولي من الجو، ومشاركة فصائل من الجيش السوري الحر وفزعة بيشمركة كردستان العراق (في إطار التوافقات الإقليمية)، لكانت المدينة في وضع آخر، وهذا لا ينتقص أبداً من البطولات الفردية المشهودة للمدافعين من قوات وحدات حماية الشعب (ي ب ك) الذين ننحني لهم تعظيماً وتقديراً، وكذلك لمقاتلي الفصيلين الآخرين.
"جماعة (ب ك ك) إشكالية، ومتهمة، ومشكوك في أمرها، وغير مقبولة كرديّاً وسوريّاً وإقليميّاً ودوليّاً
"
صمود أهلنا في كوباني الكردية السورية، وبطولات المدافعين عنها، استحوذا على اهتمام الرأي العام، وجلب التعاطف للكرد، شعباً محروماً من الحقوق، منذ تشكل الدولة السورية، وليس لحزب أو جماعة، خصوصاً إذا كان على شاكلة جماعات (ب ك ك) الإشكالية، والمتهمة، والمشكوك في أمرها، وغير المقبولة كرديّاً وسوريّاً وإقليميّاً ودوليّاً. لذلك من الضرورة بمكان تحويل هذا التعاطف والدعم إلى وجهتهما الحقيقية، وتعزيز الصمود أمام كل من إرهاب (داعش) والنظام المستبد وترتيب البيت الكردي، عبر مؤتمر وطني عام، يغلب عليه المستقلون وممثلو الحراك الشبابي الكردي، وإعادة بناء العلاقات المصيرية مع قوى الثورة والجيش الحر على أسس متينة واضحة.
السبيل الوحيد لاستعادة الثقة المفقودة، وفي هذه الظروف الشديدة الخطورة، قيام هذه الجماعات بمراجعة جدية وفي العمق، تبدأ بالاعتراف والإعلان التفصيلي عن علاقاتها السرية، القديمة والحالية، مع نظامي الأسد وطهران، وعدم استخدام السلاح والعنف في الخلافات السياسية، وممارسة النقد الذاتي والاعتذار للكرد، ولكل السوريين، والكشف عن كل عمليات التصفية والخطف في حق المناضلين الكرد وضباط الجيش الحر من كرد وغيرهم، والتعهد أمام الشعب بعدم الإقدام على أي عمل يسيء إلى القضية الكردية والثورة السورية. عندها، سيتمكن الكرد السوريون من توحيد صفوف حركتهم الوطنية، والمساهمة بفعالية، وبكتلة واحدة في القضايا الوطنية والثورة، وينتفي الاحتقان، وتعاد الثقة المفقودة إلى الساحة السياسية.
لا أحد يشبه بشار الأسد أكثر من فلاديمير بوتين. كلاهما يتوسل العنف للبقاء في السلطة، الأول في الداخل بعدما أُجهض تمدده خارجياً، والثاني في الخارج تلافياً لمحاسبة داخلية. وكلاهما يحتالان على الواقع من خلال نظام ودستور وُضعا لخدمة هذا الهدف الوحيد، أياً تكن العواقب على بلديهما.
يتصرف حاكم دمشق الذي لم يعد يسيطر على اكثر من 35 في المئة من الاراضي السورية وكأنه لا يزال الحاكم المطلق لسورية، فلا يفوّت مناسبة للادلاء بتصريحات ومواقف امام زواره المقتصرين على مسؤولين ايرانيين وروس من الصف الثالث وبعض السياسيين اللبنانيين. فيخطب عن «الشعب السوري»، قاصداً القلة القليلة التي تعيش، لضيق السبل، مذعورة في مناطق تخضع لعسف اجهزة استخباراته وميليشياته، ويتحدث عن «مكافحة الارهاب» الذي كان بين أول مبتكريه ومشجعيه ولا يزال يدير الكثير من تنظيماته، ولا يخجل من تعداد شروطه لوقف الحرب على مواطنيه، ولا من ترداد تصنيفاته في «الوطنية» و «الحكم الرشيد»، ولا يتورع عن اعتبار نفسه مرشحاً دائماً الى أي انتخابات في اي وقت، وسط تصفيق بطانته المُداهنة.
وقلما تمر مناسبة من دون ان يشكر الاسد طهران وموسكو اللتين لم يكن ليبقى في موقعه من دون دعمهما المتعدد الاشكال، وخصوصاً العسكري.
اما بوتين الذي أمضى حتى الآن 14 عاماً في الكرملين، فصلت بينها ولاية شكلية لكبير موظفيه ديمتري ميدفيديف الذي لا لون له ولا طعم، فبشّر الروس بأنه لا يستبعد الترشح الى ولاية رابعة في 2018، تبقيه جاثماً فوق رؤوسهم حتى 2024 فقط، في حال لم يستجب لرغبة «نواب الشعب» ويعدل الدستور بما يمنحه الرئاسة مدى الحياة.
ولا يبالي «القيصر الصغير» المتحذلق بأن مغامرته الحمقاء في أوكرانيا توقع بلاده في عزلة سياسية متنامية مثلما حصل في قمة «مجموعة العشرين»، وعقوبات اقتصادية «كارثية» على حد تعبيره، قد تعيدها عقوداً الى الوراء. فالمهم بالنسبة اليه إثبات انه قادر على مقارعة «الاعداء» الذين يريدون «إخضاع الروسيا»، سعياً الى اسكات معارضيه في الداخل الذين يشبههم بـ «الفيروس»، بعدما جرب السجن والاغتيال وسلسلة قوانين أمعنت في «تطهير» المؤسسات.
ويتناسق طريقا الاسد وبوتين في اقتراح موسكو رعاية «حوار بين السوريين» يكون حاكم دمشق احد طرفيه، ويكون الثاني من يختاره هو للجلوس قبالته. اما هدف الحوار الذي لم تعلق طهران عليه، فليس ايجاد بديل من الاسد، او حتى حكومة انتقالية بصلاحيات تتولاها المعارضة في وجوده، بل «البحث في مواجهة خطر الارهاب الدولي»، في استخفاف واضح بمئات آلاف الضحايا السوريين الذين سقطوا، ولا يزالون يسقطون، بأسلحة الجيش النظامي، في مجازر يومية.
ويلجأ المسؤولون الروس الى اساليب بدائية لاقناع المعارضة السورية بأن موقفهم «تغير» من الاسد ونظامه، عبر تسريبات ووعود يقطعونها الى بعض الشخصيات التي تحظى برضا دمشق، بهدف تشجيعها على لعب دور في زيادة انقسام المعارضة وإرباكها، لكنهم سرعان ما ينفون هذه التسريبات مؤكدين تمسكهم بشاغل قصر المهاجرين.
وبانتظار موافقة لن تأتي على مشاركة المعارضة في هذا «الحوار»، تستقبل موسكو اليوم وفداً من النظام برئاسة وزير الخارجية وليد المعلم الذي تبين في لقاءي جنيف انه لا يملك اي صلاحيات تفاوضية مع اي كان، وان قرار دمشق يبقى بيد طهران، بالوكالة عن ربيبها الاسد.
رغم التسريبات الأخيرة عن خطة مرحلية للحل في سوريا وما أثارته من ضجة، فإن هناك مؤشرات قوية على أنه لا حل في الأفق، وأن المجتمع الدولي ما زال يتخبط في تعامله مع الأزمة السورية.
استقالة أو إقالة وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل قبل أيام قليلة جاءت لتؤكد هذا الأمر ولتثبت أن سياسة البيت الأبيض إزاء سوريا ما تزال مضطربة، وأن التوجه العام هو التأجيل وترحيل الأزمة. فقد تحدثت مصادر أميركية عن أن هيغل كان قد بعث أخيرا بمذكرة إلى البيت الأبيض عبر فيها عن قلقه بشأن الاستراتيجية إزاء سوريا وطالب بموقف أكثر وضوحا فيما يتعلق بمستقبل نظام الأسد، كما حذر من أن تجاهل الموضوع السوري سيضر باستراتيجية أميركا لدحر «داعش».
إذا كان هذا موقف وزير الدفاع الذي وصف بأنه كان ينفذ سياسة البيت الأبيض بدقة رغم تحفظاته عليها، تصبح الخلاصة هي أن المشكلة في الاستراتيجية، وتصبح الرسالة هي أنه لا تغيير في سياسة الغموض والتردد، وأن التوجه هو ترحيل الأزمة والتركيز على مواجهة «داعش». إدارة أوباما كما يبدو تركز أيضا في هذه المرحلة على الملف الإيراني، وتستثمر كثيرا من الجهد والوقت في محاولة التوصل إلى تسوية فيه، وربما يصبح الملف السوري مرتبطا بما يحدث مع إيران، الحليف الأساسي لنظام الأسد. فإدارة أوباما كما يتردد تريد التعاون مع إيران، حتى ولو بشكل غير مباشر، في الحرب على «داعش»، وترى دورا لها في الحرب على الإرهاب سواء في العراق أو في سوريا.
الصورة تصبح أكثر التباسا لأن النظام السوري يستفيد بلا شك من غارات التحالف على مواقع «داعش»، ولم يخف اغتباطه بها إلى حد أن بعض وسائل إعلامه تحدثت عن حرب «في خندق واحد» مع أميركا ضد الإرهاب. فحتى إذا اعتبرنا أن النظام السوري يبالغ في هذا الوصف، فإن ما يجري تسريبه في العواصم الغربية عن خطط «للتهدئة» المرحلية في سوريا عبر هدنات محلية بين النظام والمعارضة «المعتدلة»، يؤكد أن التفكير السائد هو تأجيل البت في مصير النظام السوري وتخفيف الضغط على قواته لكي تواجه «داعش». بمعنى أوضح بات النظام السوري جزءا من الاستراتيجية الغربية لمواجهة ما يسمى «الدولة الإسلامية» ودحرها.
آخر تسريبات خطط «التهدئة» تمحور حول تقرير بعنوان «خطوات لحل الصراع السوري» أعده معهد الحوار الإنساني، وهو مركز دبلوماسي مقره جنيف. خطة التقرير جرى تداولها على نطاق واسع بعد تسريبها من قبل أحد أعضاء المركز الذي أرسل تفاصيلها إلى عدد من الصحافيين والمهتمين، وبالطبع فإن تسريب أمر إلى الصحافة يعني أن الغرض هو النشر مهما قيل خلاف ذلك. اللافت أيضا أن التسريب تزامن مع إعلان ستيفان دي ميستورا، المبعوث الثالث للأمم المتحدة منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011. عن اقتراح أو بالأحرى خطة للتهدئة، تنطلق بداية من «تجميد» القتال في حلب، لتخفيف المعاناة الإنسانية في المدينة. ويرى دي ميستورا أن الخطة إذا نفذت، ستكون نموذجا لاتفاقات أخرى في مواقع مختلفة.
هذا الطرح ذاته يمثل جوهر التقرير - الخطة الذي أعده خبراء معهد الحوار الإنساني وتوصلوا فيه إلى أن التهدئة المرحلية عبر اتفاقات هدنة محلية في المدن والمواقع المختلفة قد تشكل النموذج الأفضل لوقف العدائيات. ويستند المعهد في رؤيته هذه إلى صعوبة التوصل إلى اتفاق شامل للهدنة بسبب تعدد الفصائل المعارضة والخلافات والتباينات بينها، ويرى أنه في غياب أي خطة بديلة واضحة من الدول الغربية وبالذات من الولايات المتحدة فإن الأمل الوحيد هو في تحقيق تهدئة متدرجة عبر اتفاقات هدنة جزئية ومحلية. وتفترض هذه الخطة أن تتبع الهدنات الجزئية، انتخابات للمجالس المحلية، وأن يهيئ ذلك لانتخابات عامة تحت إشراف دولي.
التقرير فيه خلاصتان ستصيبان المعارضة بالإحباط؛ الأولى أن «الحل في المستقبل القريب لا يتمثل في انتقال السلطة أو تقاسمها، بل في تجميد القتال والإقرار بأن سوريا أصبحت لا مركزية بفوهة البندقية». أما الخلاصة الثانية كما نشر في التسريبات فهي أنه من الأفضل الحفاظ على بنية الدولة حتى لو كان ذلك يعني بقاء سلطة النظام للمستقبل القريب، بدلا من المغامرة بانهيار النظام وضياع الدولة بوقوعها في أيدي «الجهاديين» الذين يتمددون على حساب المعارضة المعتدلة.
الأزمة السورية ستبقى كما يبدو في غرفة الانتظار لأنه لا توجد استراتيجية واضحة للحل، والمطروح الآن لا يعني سوى التأجيل سنوات قد تتغير خلالها الأوضاع والحسابات، أو في أسوأ الأحوال تتفكك سوريا بين الأطراف المتصارعة، مثلما تفكك العراق في ظل الفوضى، والصراعات الداخلية والإقليمية، والحسابات الدولية. فنحن نعيش كما يبدو مرحلة تدمير الدول وتفكيكها من الداخل.
يسعى ستيفان دي مستورا، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية، لحشد التأييد الدوليّ والإقليميّ لمقترحاته المتعلقة بـإقامة مناطق صراع "مجمَّدة" في مناطق سوريّة مختلفة، وفي مقدمتها مدينة حلب، والتوصل إلى هدناتٍ أو مصالحاتٍ مؤقتةٍ تتيح ممارسة إدارة ذاتيّة في هذه المناطق، ويجري التعبير عن هذه الإدارات من خلال مجالس محليّة منتخبة أو توافقيّة يتمّ فيها تمثيل فصائل المعارضة المسلحة بحسب حجم كلّ فصيلٍ وفاعليته. ولكن، ثمة عوائق جمّة تحول دون نجاح هذه الخطة التي تستهدف تحقيق تسويات محلية.
خطة لتحريك الجمود
عُيِّن دي مستورا في منصبه الحالي في مطلع تموز/ يوليو 2014 مع انسداد أفق الحل السياسيّ في الأزمة السورية، وذلك بعد فشل مؤتمر "جنيف 2"، وعجز الأطراف الراعية للمؤتمر عن إطلاق جولة جديدة من المفاوضات بين النظام السوري والمعارضة، ثمّ إصرار النظام على إجراء الانتخابات الرئاسيّة في سورية في 3 حزيران/ يونيو 2014، والتي نسفت ما تبقى من آمال المبعوث السابق الأخضر الإبراهيمي بشأن بيان "جنيف 1"، والمتعلق بإنشاء هيئة حكم انتقاليّة كاملة الصلاحيات تمهِّد الطريق لحلٍ شاملٍ للأزمة. وقد تزامن تعيين دي مستورا مع صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، وتوسّع نفوذه بعد سقوط الموصل في 10 حزيران/ يونيو 2014، وسيطرته على مساحات واسعة في سورية والعراق، ثمّ إعلانه الخلافة الإسلامية في 29 حزيران/ يونيو 2014؛ ما أدى إلى تراجع الاهتمام الدوليّ بالحل السياسيّ للأزمة السوريّة، مقابل تركيز القوى الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة، على أولوية التفاوض مع إيران حول ملفها النووي من جهة، واحتواء تنظيم "داعش" ووقف تمدِّده في العراق وحرمانه من " الملاذات الآمنة" في سورية من جهة أخرى.
واعتمادًا على قراءته للتشابك الدوليّ والإقليميّ وتناقض المصالح وتغيّر الأولويات، واستنادًا إلى تجربته الشخصيّة كوسيطٍ دولي في صراعات مثل كوسوفو ولبنان والعراق والسودان وغيرها، وعمله كممثلٍ خاصٍ للأمم المتحدة في أفغانستان، انطلق دي مستورا من فكرة أنّ الأزمة السوريّة هي نزاع أهليّ مركّب وأزمة دوليّة بالغة التعقيد يصعب حلها في المدى المنظور أو المتوسط. لذلك، اختار مدخلًا يختلف عن نهج سلَفَيه كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي، وركز على حلولٍ جزئيّةٍ وأهدافٍ متواضعةٍ تتمحور حول خفض مستوى العنف وتحسين وصول المساعدات الإنسانية، وزرْعِ ما سماه "بذورٍ لعملية سياسية شاملة" بدلًا من الاستمرار في الرهان على توافقٍ دولي وإقليمي يؤدي إلى وضع بيان "جنيف 1" موضع التنفيذ. بمعنى آخر، لم يقدِّم دي مستورا تصورًا لحلٍ شاملٍ للأزمة، بل قدّم ما يعتبره محاولةً "لتحريك" العجلة لإيجاد حلٍ لها. وبهذا، فهو لا يفكّر بحلٍ جذريٍ للأزمة السوريّة بل بحلٍ لمهمته بحيث تحقق نجاحًا ما في شأنٍ ما.
رهانات دي مستورا
راهن دي مستورا على موافقة النظام السوري وإيران على مقترحاته التي تتطابق شكليًا مع مشروعهما، والذي بُدء فعليًا العمل بمقتضاه في مطلع العام الحاليّ عبر عقد هدناتٍ مؤقتةٍ ومصالحاتٍ في مناطق حيويّة محاصرة يصعب استرجاعها عسكريًا. فقد حققا من خلاله، ومن دون دي مستورا، اختراقات في جبهات مهمة مثل المعضمية، وببيلا، وأحياء دمشق الجنوبيّة، وحي الوعر في حمص، بالإضافة إلى اتفاق خروج المقاتلين من حمص القديمة. لكنّ مشروع الهدنات السابق، يختلف عما يطرحه دي مستورا في بعض التفاصيل المهمة؛ فبينما يشترط النظام وقف إطلاق النار وتجريد مناطق الهدنات من الأسلحة الثقيلة مقابل إدخالٍ جزئي للمساعدات الإنسانيّة وتسوية أوضاع المطلوبين لديه ما يمكّنه من خرق الهدنة واقتحام المناطق بعد أن ضمن تجريدها من سلاحها الثقيل (كما جرى في حمص القديمة، ويجري الآن في حي الوعر)، فإنّ دي مستورا يطرح تجميدًا للصراع بحيث يحتفظ كل طرفٍ بقدراته العسكرية.
لذلك، وعلى الرغم من ترحيب رئيس النظام السوري بتصريحات المبعوث الدولي بعد لقائهما في دمشق في 12 أيلول/ سبتمبر 2014 عن إعطاء الأولوية لمكافحة الإرهاب، وضرورة إطلاق حوارٍ وطني داخلي، فإنه تجنّب إعطاء موقفٍ واضحٍ من المبادرة المطروحة مكتفيًا بالقول "إنها جديرة بالدراسة". في المقابل، يتجاهل دي مستورا مرجعية الحل السياسيّ التي قبلت بها المعارضة في "جنيف 2". وتنقسم المعارضة تجاه مقترحاته بين رفضٍ مطلقٍ (بعض أعضاء الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، والحكومة المؤقتة، وفصائل من المعارضة المسلحة)، وبين قبولٍ مشروطٍ عبَّر عنه رئيس المجلس العسكري في حلب العميد زهير الساكت[1].
ولا يقتصر الانقسام تجاه مبادرة دي مستورا على المعارضة السياسية والعسكريّة فحسب، وإنما يمتد إلى الشرائح الشعبية المناهضة للنظام بين من يرى أنّ الأفكار المطروحة هي حلولٌ مجتزأة تمثِّل انقلابًا على الثورة واستسلامًا للنظام وتفريطًا بما جرى تقديمه من تضحيات، وبين آخرين ينظرون إليها بوصفها تجميدًا مؤقتًا للحرب يخفِّف مأساتهم ومعانتهم.
ويعدّ الانقسام الراهن امتدادًا لنقاش احتدم سابقًا بشأن جدوى الهدنات والمصالحات المحلية والمبادرات التي أطلقها رئيس الائتلاف السابق معاذ الخطيب بما فيها زيارته الأخيرة إلى روسيا. وفي ضوء ذلك، ومع استمرار المعاناة وتغيّر الأولويات الدوليّة، يستمر دي مستورا في حشد الدعم لمقترحاته معوِّلًا على عدم ممانعة القوى الدوليّة والإقليميّة الفاعلة في الأزمة السوريّة وعلى قبولٍ غربي ضمني، ولاسيما أنه يطرح أفكاره تحت عنوان "وقف تقدّم داعش". كما يعوِّل دي مستورا على دعمٍ روسي لمقترحاته والضغط على النظام لقبولها بشكلها الحاليّ من دون أي تعديلٍ على غرار مبادرة نزع السلاح الكيماوي. ومن ثمّ، يأمل أن تُطرح المبادرة على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بحيث يجري تبنيها كمشروع قرارٍ ملزمٍ لجميع الأطراف لوقف إطلاق النار في عموم سورية أو في بعض الجبهات الساخنة على الأقل، وبطريقة تجعلها مكمّلة لقرار مجلس الأمن 2139 القاضي بإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة ودعوة جميع الأطراف لـ "وضع حـدٍ فـوري لجميع أعمـال العنـف الـتي تـؤدي إلى المعاناة الإنـسانية في ســورية".
عوائق تعترض سبيل مبادرة دي مستورا
على الرغم من ترحيب أطرافٍ داخليةٍ وخارجيةٍ عدة بمقترحات دي مستورا، فإنّ ترجمتها العملية تصطدم بعوائق عديدة تعبِّر عنها (وإن بشكلٍ مواربٍ) مواقف هذه الأطراف.
النظام وإيران: يتشابه مقترح دي مستورا شكليًا مع مشروع الهدنات والمصالحات الذي بلورته إيران كصيغة لحل الأزمة السورية وألزمت النظام بتنفيذه، لكنه يختلف في تفاصيله المهمة وفي آلية التنفيذ. وترى إيران أنّ الموازين العسكريّة الحاليّة ترجّح كفّة النظام بشكل واضح، ولاسيما أنّ ضربات التحالف الدوليّ ضد تنظيم "داعش"، وضد حركات أخرى مثل جبهة النصرة وأحرار الشام أفادت النظام وعزّزت موقفه العسكريّ خاصة في حلب، وذلك باعتراف المسؤولين الأميركيين. وعلى الرغم من أهميّة مدينة حلب بالنسبة إلى النظام، فإنه يفتقد للعدد والعتاد اللذين قد يمكّناه من حسم المعركة فيها. لذلك، فإنّ النظام ربما يتجاوب مع مقترح دي مستورا في ما يتعلق بمدينة حلب فحسب، لكنه سيستمر في مسعاه للسيطرة على الريف الشماليّ لحلب وفك الحصار عن بلدتي نبل والزهراء، واستخدامهما كقاعدة عسكرية للانطلاق باتجاه المدينة غربًا، ومحاربة تنظيم "داعش" في الريف الشرقي وتقديم نفسه كطرفٍ ميداني يساعد التحالف في وقف تمدِّده. وفضلًا عن ذلك، يخشى النظام وإيران من ترويج مقترحات دي مستورا دوليًا لتتحول إلى قرارٍ دولي ملزم. لذلك حرص - كعادته في التعاطي مع المبادرات السياسية - على إبداء مرونة في دراسة المقترحات من دون التزام قبولها. وفي هذا الإطار أيضًا يمكن فهم موقف علي أكبر ولايتي، مستشار مرشد الثورة علي خامنئي للشؤون الدولية، والذي رفض في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 طرح دي مستورا إقامة ما أسماه "مناطق آمنة" في سورية.
المعارضة المسلحة: يقترح دي مستورا هدنات ومصالحات في مناطق تسيطر عليها المعارضة المسلحة، لكنه يتجاهل قدراتها ووضعها ومواقفها من مقترحاته. فعلى سبيل المثال، نجده يطالب بتجميد الوضع العسكريّ في مدينة حلب وإلى التفات فصائل المعارضة إلى محاربة "داعش" والحركات الجهادية. بيد أنه يتجاهل حقيقة عدم وجود فصائل قوية تابعة للجيش السوري الحر في المدينة للقيام بذلك؛ فجبهة النصرة وجبهة أنصار الدين اللتان يصنفهما الغرب حركات إرهابية، فضلًا عن حركة أحرار الشام المستهدفة بقصف التحالف، هي الفصائل الأكبر والأكثر تأثيرًا في المعادلة العسكريّة في المدينة. لذلك، من غير المفهوم كيف ستجمِّد هذه الفصائل القتال من أجل أن يتفرّغ التحالف لاستهدافها. كما أنّ التطورات الأخيرة في عموم الشمال السوريّ وتعاظم نفوذ جبهة النصرة وجماعة جند الأقصى المتحالفة معها، وتراجع الجيش الحر، ينزع الواقعيّة عن الأفكار المطروحة.
الموقف التركي: تجنّبت الحكومة التركية حتى الآن التعليق رسميًا على مقترحات دي مستورا، لكنّ مؤشرات عدة تشير إلى تباينٍ في المواقف واختلافٍ في الرؤية. ففي الوقت الذي يسعى المبعوث الدولي لتجميد القتال في حلب والتفرّغ لقتال "داعش"، تحذِّر تركيا من احتمال سقوط المدينة بيد النظام وما قد يترتب على ذلك من موجة لاجئين كبيرة. كما تربط مشاركتها في التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" باستهداف نظام بشار الأسد وإقامة منطقة آمنة وفرض حظر جوي فوقها. بالإضافة إلى ذلك، أثارت تصريحات دي مستورا ودعوته لفتح الحدود أمام متطوعي حزب العمل الكردستاني، المصنَّف تركيًا كحزبٍ إرهابي، للقتال إلى جانب وحدات الشعب الكردية ضد "داعش" في مدينة عين العرب حفيظة الحكومة التركية؛ إذ رفضت هذه الدعوة ووصفتها بأنها "غير مسؤولة". لذلك، وبخلاف جولاته في معظم الدول الفاعلة والمؤثرة في الأزمة السوريّة، تجاهل دي مستورا زيارة تركيا حتى الآن. ونظرًا إلى دور تركيا المهم والمؤثر في الشمال السوريّ، فإنّ طرح مقترحات لتجميد القتال في حلب من دون التنسيق مع تركيا يبدو "غير واقعي".
الموقف الروسي: مع تعطّل الحل السياسيّ وظهور تنظيم "داعش"، تراجع الحضور الروسيّ في الأزمة السوريّة مقابل اندفاعٍ وتدخلٍ عسكريّ غربي وإقليمي. وعلى الرغم من أنّ الضربات الجويّة للتحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" أفادت النظام السوري حليف روسيا، فإنّ الأخيرة تخشى من تغيّر الخطط والأهداف المعلنة في مراحل مقبلة. وقد عزّز من مخاوفها تجاهل الولايات المتحدة مطالبها باستصدار قرارٍ من مجلس الأمن ينظِّم عمليات التحالف في سورية ويحدِّد أهدافه بدقة. وترى روسيا، أنّ حضور الغرب في الأزمة السوريّة عبر بوابة التحالف ومحاربة "داعش" قد يهمّش تدريجيًا دورها المحوري في حلٍ مستقبلي للأزمة. لذلك، وعلى الرغم من ترحيبها بمقترحات دي مستورا، فإنّ روسيا ترى ضرورة تفعيلها في إطار أشمل، وإعادة إحياء عملية سياسية تجمع طرفي النزاع في جولة مفاوضات جديدة تحت مسمى مؤتمر "موسكو 1" أو "جنيف 3". كما تنظر موسكو للمتغيّرات في الملف السوريّ، ولاسيما بعد صعود تنظيم "داعش" وتقدَّم النظام كفرصةٍ يمكن استغلالها لتعظيم مصالحها، وتبني رؤيتها في أي مفاوضات قادمة. ولتفعيل ذلك، استقبلت روسيا شخصيات من المعارضة السوريّة لا تمانع في العودة إلى المسار التفاوضي لحلّ الأزمة، كما وجهت دعوة إلى وفدٍ من النظام لإقناعه بسلوك المسار ذاته. ولهذا، من غير المرجح أن تدعم روسيا مقترحات دي مستورا. كما أنّ تبني هذه المقترحات عبر قرارٍ ملزمٍ من مجلس الأمن قد يسهم في تهميش الدور الروسي في الأزمة السوريّة.
وعلى الرغم من أنّ مقترحات دي مستورا تحظى بفرصةٍ للتنفيذ، فإنّ العوائق التي تنتظرها كبيرة؛ ما يعزّز احتمال استمرار حال الاستعصاء الراهنة في الأزمة السوريّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تتضمن الشروط: تسليم مجرمي الحرب الذين استخدموا السلاح الكيماوي ضد السكان المدنيين، وخروج الميليشيات الطائفية من سورية، وإيقاف قصف الطائرات وإلقاء البراميل المتجرة منها، والإفراج عن المعتقلين.
كلما طال الزمن على الأحداث العنيفة المريرة في بلدي سوريا أشعر مثل كثيرين بأن هذه الأحداث تتغير بل وتتخبط كي تثير فينا الخوف من أن يصيبنا ما يصيب الآن «الجماهيرية الاشتراكية الليبية العظمى» ـ كما كان يسميها العقيد القائد المصروع ـ وهو مصير لا يبتهج به أحد بالتأكيد هنا سواء أكان مواليا للنظام الحاكم أم معارضا له، ففي ليبيا اليوم لا وجود حتى الآن لدولة نظامية بل لمجموعة كانتونات غير مكتملة ومتنازعة بعنف، فإذا انتهى الأمر في بلدنا إلى هذا المصير الفظيع فهذا معناه أن الربيع العربي لا حضور له في أرضنا المسكينة بعد أن تحول الربيع إلى صيف خانق محرق.
لقد نشبت الثورة في سوريا كي تحقق تغيرا طال انتظاره في اتجاه الكرامة والعدالة والتآخي الوطني بين الطوائف المتنوعة، كما ظهر ذلك واضحا في الشعارات التي رفعتها التظاهرات السلمية في البدايات، غير أن تحول هذا الأسلوب السلمي إلى الكفاح المسلح قاد البلاد شيئا فشيئا إلى صراع رهيب على السلطة بعد أن اختلط الغرباء بالسوريين كما في «جبهة النصرة» و «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» والمختصر باسم «داعش».
هكذا صرنا، نحن المواطنين الذين لم يتركوا وطنهم، لا موضوع لنا نعاني في متاهاته نقاشا مريرا لا يهدأ حول المصير الأخير لهذه الأحداث إلى أين تقودنا، وأية حفرة سوف ترمى بها جثثنا!…
لقد كان في وسع النظام الحاكم في البدايات أن يرطّب الجو الذي احتقن بسبب أحداث درعا المريعة من خلال تصرف السلطة الأمنية هناك التي اختارت في معاقبة صبيان المدارس الذين كتبوا عبارات مسيئة للنظام على الجدران عقابا مفرط القسوة، لو رطّب النظام هذا الجو حقا، بمحاسبة المسؤول الأمني هناك ولو حسابا شكليا، إذن لهدأت الخواطر في تصورنا ولم يحدث ما حدث فيما بعد في درعا ومدن القطر الأخرى.. وكان بالمقابل في استطاعة المعارضة أن تحافظ على أسلوبها السلمي في التظاهرات بدلا من استخدام السلاح.
صحيح أن هذا التغير قلب المناخ رأسا على عقب وأن المعارضة نجحت نسبيا في الصمود وهي تواجه جيشا محترفا منظما، ولكنها في الوقت نفسه لم تنجح في توحيد صفوفها في جبهة مقاتلة واحدة وبإشراف قيادية إدارية واحدة وهذا ما أدى إلى وضع موجع مديد ومستمر حتى كتابة هذه الأسطر. لم يكن لهذا الوضع البائس من معنى سوى مزيد من الدمار وتشريد الملايين ومصرع الأطفال والنساء بمئات الألوف، والأفظع والأوجع من كل هذا الخراب تشويه الوجدان الوطني والروح الاخلاقية، وهكذا باتت المصالحة الوطنية بين النظام الحاكم والمعارضة المسلحة ضرورة حضارية وأخلاقية لا بد منها لإنقاذ البلاد التي ندعي حبها من كارثة مريعة شاملة لجميع الأطراف إذا ما استمرت الأحوال على ما هي عليه سنوات أخرى من سيئ إلى أسوأ» إذ لن يستطيع النظام أن يقضي على المعارضة قضاء مبرما كما يبدو، وبالمقابل لن تستطيع المعارضة القضاء على النظام بالمعنى المطلق نفسه. الطرفان الآن بحاجة لا تقبل النقاش إلى هذه المصالحة ولو تطلب تقديم التنازلات من الطرفين حفاظا على الدولة أولا، بدلا من الفوضى كما هو الحال في ليبيا، وثانيا إنقاذ ما تبقى من الأطفال والنساء من الجوع والجهل والحرمان والذل والموت.
ليس من حل في تصورنا سوى مصالحة وطنية حقيقية بعيدا عن التعصب والعنف والكراهية والحقد والأطماع المادية السخيفة والمذلة.
لقد فرحتُ منذ أشهر حين اتصل بي هاتفيا مدير التراث في وزارة الثقافة يطلب مني المشاركة في ندوة سوف تُعقد قريبا، كما قال، تحت شعار المصالحة الوطنية. وما زلت حتى الآن أنتظر عقد هذه الندوة إذ لم يتصل بي أحد بعد ذلك وكأن الندوة أُلغيت أو أن مشاركتي الشخصية فيها أُلغيت.
ماذا يحدث في سوريا؟ من يحكمها فعلا؟ ولماذا يحاسبنا لنظام على أننا أعداء لا يجوز التعامل معهم إطلاقا؟ البلد يموت يا ناس! ولن يبقى من سوريا التي تتشدقون بحبها سوى فتات الموائد ونفاياتها. أهذه هي سوريا التي تحبونها فعلا وتريدون أن تجعلوا منها بلدا جميلا متقدما كي يغدو، كما قال عنه رئيس وزراء سوريا الأسبق في الخمسينات خالد العظم رحمه الله، كما أذكر حين قال: «سأجعل من سوريا «سويسرا» الشرق.. إذا ما أحسن حكامها قيادتها.. فاتركوني أعمل لهذا الهدف ثم حاسبوني بعد ذلك على تقصيري..» ولكنهم لم يتركوه يعمل وكان قادرا على ذلك! الله! الله! يا خالد العظم!.. أين أنت؟ وأين سوريا السويسرية التي تحدثت عنها؟ ماذا بقي منها كي تصبح سويسرا الشرق.. يا سيدي أو مثل أفغانستان على الأقل؟!
قليلاً من الحياء والتعقل يا بشر!!!
عامان على تشكيل الائتلاف الوطني بكل ما رافق ذلك من تناحر، وتوجّس وشعور بالاستياء، وبالخوف من هذا الكائن الذي تأكد أنه قد ولد مشوّهاً معاقاً، يبدو اليوم أنه قد دخل نفقاً طويلاً معتماً لا آخر له. فلم يستطع الائتلاف سوى تجذير الانقسام داخل المعارضة السورية، وتعميق اختلافاتها على كل المستويات، وشكل حالة فريدة في استخدام المال السياسي، وارتهان قراره بالأطراف الإقليمية والدولية المكونة له، والمؤثرة فيه. ولم يستطع أن يكون ممثلاً حقيقيا للثورة السورية، بعد أربع سنوات على انطلاقتها.
جاءت ولادة الائتلاف الوطني في نوفمبر 2012 في محاولة لإعادة تنظيم صفوف المعارضة، التي أعاق تشرذمها تحقيق أي إنجازات فعالة على الصعيد الوطني، وفي مقدمتها وضع استراتيجية بناءة للعمل، تلتزم بها كافة القوى والتيارات المكونة آنذاك للمجلس الوطني. الإخفاقات في التوصل إلى تفاهمات حول القضايا الأساسية، اصطدمت بتصورات آنية مرحلية، ومصالح حزبية، وسعي للاستحواذ على القرار، فوصل المجلس الوطني إلى مأزق، لم تستطع التوسعة التي استحدثها، أن تقوده إلى بر الأمان، بل كانت مؤشراً على استمرار الإشكاليات المتصلة بالتمثيل والمحاصصة. وفي الوقت نفسه كانت ثمة جهود تُبذل لإنشاء مؤسسات بديلة عن المجلس الوطني، كان الائتلاف الذي التقط الداعمون السياسيون للثورة السوريه خيوطه الأولى- أو أنهم نسجوها- الأوفر حظاً بما تلقّاه من دعم سياسي ومالي إقليمي ودولي مباشر.
تضمّنت تشكيلة الائتلاف، الشخصيات التي كانت تهيمن على المجلس الوطني، وتسببت إلى حدّ كبير في الأزمات التي عصفت به، وكان من الطبيعي، أن تنقل هذا الإرث من المشكلات، التي لم تعمل الأطراف المعنية بشكل جدي، على إيجاد حلول لها، إلى الإطار الجديد للمعارضة المتمثل بالائتلاف، يضاف إلى ذلك الطريقة التي تم فيها اختيار الأعضاء المؤسسين، بمعايير غير موضوعية، أثبتت تجربة العامين، خطأها.
تفتقد مؤسسات المعارضة، بشكل رئيس، إلى استراتيجية وطنية شاملة، تجيب على أسئلة الواقع السوري، ومتطلبات المرحلة، وآليات وخطط العمل من أجل الوصول إلى الأهداف الكبرى للثورة السورية، وهي الحرية واستعادة الكرامة الوطنية. عجز المجلس الوطني وكذلك الائتلاف في أي إنجاز من هذا النوع، مع تغير شبه دائم لمعطيات الواقع، بما قاد الثورة بعيداً عن الوصول إلى أهدافها التي قامت من أجلها. عمّت الفوضى صفوف المعارضة، وكان التشتت والشرذمة وتعدد مصادر التمويل سبباً مباشراً لذلك.
تتمحور الخلافات في مؤسسات المعارضة، حول الهيمنة عليها، والاستحواذ على مركز القرار، بما يعكس خلافات القوى الإقليمية الداعمة لكل من تيارات وأطراف المعارضة. لم تكن- حتى الآن- الخلافات حول قضايا جوهرية، معنية بخطط وبرامج عمل، أو حول سياسات المعارضة، وغير ذلك. بل إن الفساد السياسي والإداري قد لحق بجميع مكونات الائتلاف بشكل خاص، تبدّى ذلك في دوارات انعقاده التي تشهد في كل مرّة الخلافات ذاتها، مع تطور الانقسام بصورة أفقية وشاقولية، أصبح معها التوافق شبه مستحيل.
أدى ذلك إلى إضعاف المعارضة السورية أمام نظام الأسد، الذي يعمل ككتلة واحدة، مع أنصاره وداعميه. وفي الوقت الذي يواصل فيه النظام ارتكاب المجازر اليومية بحق السوريين، كانت مؤسسات المعارضة: الائتلاف بمكوناته السياسية وهيئاته الثلاث: الحكومة المؤقتة والأركان، تفتقد إلى شرعية التمثيل الثوري، الذي فشلت في الحصول عليه من الدور الذي يفترض أن تقوم به. هذه مسألة جوهرية، أطاحت بالمجلس الوطني، كما تطيح بالائتلاف.
ما تحقق فعلياً هو انكشاف ضعف المعارضة وهشاشتها، وعدم قدرتها على القيام بأي دور على الصعيدين الوطني والدولي. محلياً خسرت متانتها التي تحققت لها مع العام الأول للثورة، بالتفاف جماهيري واسع لقوى الحراك الثوري السلمي والمسلح، فاكتسب المجلس الوطني آنذاك شرعيته الثورية، التي لم يستطع المحافظة عليها، بسبب انغماسه في الخلافات، وابتعاده عن مهامه الأساسية، وبالتالي عدم تمكنه من مواكبة تطورات الفعل في الداخل السوري، أو الاستجابة الفعالة لمتطلبات، وغياب أي برامج رافعة للنضال الوطني ضد الاستبداد.
الائتلاف الوطني منذ تشكيله، لم يحظَ بالشرعية الثورية، وظل تشكيله مثار توجّس وقلق، ولم يستطع أن يبني جسور التواصل مع قوى الداخل والخارج، كإطار وطني شامل وجامع لمعظم قوى المعارضة. وفي ظلّه شهدت الساحة الوطنية تفرّقاً وفوضى في السلاح، التي كان المجلس الوطني، قد تغاضى عن إشراع أبوابها في ردهاته الخلفية. وفي حُمّى الصراعات على العضوية، والمكاسب والمناصب، والتحالفات مع القوى الإقليمية، افتقدت مؤسسات المعارضة القدرة على إقناع المجتمع الدولي، لتعزيز دعمه السياسي والمادي للثورة السورية، ليتراجع هذا الدعم إلى أدنى مستوياته، بسبب أداء الائتلاف والمجلس الوطني، دون أن نغفل الأسباب الجوهرية المتصلة بضعف أو برودة الدعم الدولي للثورة السورية، وهي أسباب تتصل ببنية المعارضة، ومستقبل الدولة والعلاقة مع إسرائيل. يضاف إلى ذلك أن القضية السورية، أضحت واحدة من تجليات الصراع الدولي في المنطقة، بما في ذلك دور إيران في المنطقة.
غير أن المعارضة السورية، بقياداتها التي لم تستطع إنجاز برنامج وطني، وإستراتيجية عمل واضحة، تتحمل مسؤوليات أساسية فيما آلت إليه الأوضاع في سوريا. لاشك أن نظام الأسد الإجرامي، يلعب دوراً محورياً غير مباشر، عبر أطراف إقليمية ودولية، تعمّق الإنقسام، وعبر اشتغاله على مكونات المعارضة في الداخل السوري وسعيه الدائم إلى تفتيت قواها، بكل الوسائل الممكنة وفي مقدمها القتل والتدمير والاعتقال والتهجير، فيما تقف المعارضة غير قادرة على فعل أي شيء. ويبدو النظام- حقيقة- أول وأهم المستفيدين من حالة المعارضة الهشة والمتردية.
يضاف إلى ذلك دخول قوى الظلامية الإسلامية المتمثلة بوجه خاص في جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” اللتين غنمتا فرص التسلح والفوضى القائمة في المناطق غير الخاضعة لسلطة النظام، لتملأ فراغاً عجز الائتلاف الوطني والحكومة المؤقتة عن المبادرة إلى ملئه، بتولي زمام الإدارة الانتقالية، التي تتولى خدمة المجتمعات المحلية.
لا شك أن ما يجري اليوم في أروقة الائتلاف الوطني من تخاصم، يعود إلى عقلية التهميش والإقصاء التي تمارسها أطراف محددة، وكذلك إلى غياب الفهم الحقيقي لجوهر الممارسة الديمقراطية، في ظل سيطرة قوى وأشخاص، تسبّبت جميعا في الابتعاد عن مسار الثورة السورية.. بل وضعتها في مهب الريح.
هل تعلّم الأميركيون من أخطاء الدرس الذي فرضوه على العراق، بعد إسقاطهم نظام صدام حسين، وهو أن أي نظام غير ديمقراطي يلي في بلداننا نظاماً استبدادياً، لا بد أن ينتج الإرهاب بديلاً حتمياً ووحيداً له؟
نصّب الأميركيون والإيرانيون نظاماً عراقياً، آلت قيادته، بعد سنوات من التخبط، إلى خبير في الأنشطة الأمنية السرية، هو نوري المالكي، الذي أقام سلطته على فئة عراقية واحدة، لها أغلبية عددية محدودة، وتمتلك وعياً تاريخياً بما تسميه "المظلومية"، يعبر عن نفسه، على الصعيد العام، من خلال توق جارف إلى السلطة والحكم، كما أقامها على جهاز أمن كبير ومتشعب وجيش جرار وحديث العتاد، دربه الأميركيون والإيرانيون، وأشرفوا عليه. وقد اتبع المالكي أساليب في الحكم ميزت بين المواطنين، وعرضت قطاعات واسعة منهم لعمليات قمع وملاحقة وإقصاء مستمرة، كانت جزءاً من سيرورة إنتاج وعي فئوي، يعزز غلبة طرف على طرف، ليس فقط على الصعيد السلطوي الداخلي، وإنما كذلك على صعيد العلاقات مع إيران: المرجعية الإقليمية للمالكي، المدعوم من مؤسستيها الدينية والعسكرية، وبصورة خاصة من جنرالات الحرس الثوري، الحاضرين بقوة في حياة العراق السياسية والعسكرية. وبالنتيجة، خال الأميركيون والإيرانيون أن هذا النمط من تنظيم الحكم أدخل العراق في مرحلة استقرار مديدة، وإن واجهت مشكلات هينة سيكون من السهل التغلب عليها من دون صعوبات تذكر.
لكن، لم تتفق حسابات البيدر مع حسابات الحقل، فقد أصيب النظام بالضعف، نتيجة القمع والفساد والملاحقات الأمنية بالذات، التي أرهقت الشعب والقوى السياسية في كل مكان من العراق، وخصوصاً في مناطقه الغربية، حيث أغلبية المواطنين من العرب السنة الذين دأبوا على تبني رؤى ديمقراطية ووطنية لمشكلات بلادهم، تتصل بالتوزيع العادل للثروة، والتنمية المتوازنة، والحقوق السياسية والقانونية المتساوية لجميع المواطنين، وبالتمثيل العادل للعراقيين في الحكم والسلطة، وأخيراً، بالحريات العامة واستقلال القضاء ونزاهته، وبالطابع الوطني لأجهزة الجيش والأمن.
" أي نظام لن يكون قوياً وحصيناً ضد الإرهاب، وقادراً على كبح جماحه، إذا لم يكن ديمقراطياً "
هذه المطالب التي كان من شأن تحقيقها تأسيس مناخ عدالة ومساواة، في بلادٍ تعاني من طائفية الحكم، وأثرها التخريبي على المجتمع، وكان من شأن تلبيتها إحداث نقلة مهمة نحو دمقرطة البلاد، وإخراجها من احتجازات داخلية وخارجية، لا مصلحة فيها لشعبها ودولتها، تحول بين العراق وانتهاج سياسات تمكّنه من بدء عملية تقدم مفتوحة، تخرجه من تاريخ حافل بالتخبط وبمآزق غدا أسيراً لها، على صعيد نظم حكمه وعلاقاتها مع شعبه. بعد عشرة أعوام من حكم فئوي، تبين أن ما أقيم في العراق لم يكن سلطة قوية، وأجهزة أمن وجيش فعالة وقادرة على مواجهة التحديات الداخلية، وبالضبط منها، التي تمثلها تنظيمات الإرهاب، ومع أن وضع العراق بدا وكأنه تحت السيطرة، فإن تكلفة ضبطه كانت ترتفع من يوم إلى آخر، بشرياً ومالياً، مادياً ومعنوياً. كما تبين كذلك أن سرطاناً حقيقياً كان ينمو بصور شتى في أحشاء الظلم والإقصاء، وعندما تحرك ظهر أن حجمه أكبر من قدرة الأجهزة القمعية والجيش على احتوائه والتغلب عليه، وأنه عصف بهما وتسبب في انهيارهما وإخراجهما من ثلث العراق في أيام قليلة، بينما تخليا عن معظم أسلحتهما ومقراتهما من دون مقاومة. فجأة، بدا أن هناك سلطة بديلة، قامت على أنقاض السلطة الحاكمة.
سارع الأميركيون إلى إقالة المالكي، واحتواء الكارثة التي حلت بجيش بلاد الرافدين وأمنها وحكومتها، فهل فعلوا ذلك، لأنهم أدركوا أن أي نظام لن يكون قوياً وحصيناً ضد الإرهاب، وقادراً على كبح جماحه، إذا لم يكن ديمقراطياً، ولم يعبر عن إجماع وطني حول الحكم، ولم يقم تطابقاً حقيقياً بينه وبين خيارات المجتمع يضعه في خدمته؟ وهل قرر الأميركيون تطبيق نموذج حل جنيف للأزمة السورية في العراق، لاعتقادهم أن إطاحة ديكتاتور يحتل رأس السلطة ضرورية لإنقاذ النظام وكبح جماح الإرهاب؟ وبالنسبة لنا في سورية: هل قرروا التخلي عن خيار الفوضى بديلاً للنظام الأسدي، وقبول الخيار الديمقراطي الذي طالب الشعب به عند بدء الثورة، وتعاون النظام والإرهابيون على دحره، وقاتلوا كل داع له ومطالب بتحقيقه، وأضعفوه إلى حد بعيد؟ هل قررت واشنطن قبول الديمقراطية ودعم أنصارها السياسيين والعسكريين، الموزعين على قوى ترفض الاستبداد السياسي القائم والبديل الإرهابي الداهم؟ وهل سنرى نتائج قرارها على الأرض، ميدانياً وعملياً، في الحقبة القريبة المقبلة، بعد خروجها من عوالم الشك والتوجس الملازمين سياساتها وطريقتها في رؤية مشكلات المنطقة وثوراتها؟ أعتقد أن حدوث تبدل في الموقف الأميركي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بترتيب أوضاعنا، كتيار ديمقراطي متنوع الانتماءات والقراءات، وبقدرتنا على التفاعل بإيجابية مع الجيش السوري الحر ووحدات المقاومة التي ترفض الخيارين الطائفي والمذهبي، وعلى التواصل مع الداخل السوري بطرق تعطيه الأولوية في خططنا وعملنا. وأخيراً، برغبتنا في أن نعمل لنكون حقاً بديل النظام القائم والإرهابيين في آن معاً. دفع درس العراق أميركا إلى البحث عن حلول بديلةٍ لنظامه، شجعتها على الانخراط في الصراع ضد الإرهاب، أهمها حكومة وحدة وطنية مستقلة نسبياً عن القوى الإقليمية، تضم، في الوقت نفسه، ممثلين عن معظم تيارات الداخل العراقي وتوجهاته. ترى، ألا يجب أن نقيم، نحن في سورية، وضعاً يقنع العالم أن بديل النظام الحالي سيكون ديمقراطياً، عبر إقناعه بأننا نحن، أيضاً، ديمقراطيون، وأننا بدأنا إقامة الظروف الكفيلة بجعل شعبنا يثق بصدقنا وجديتنا ويتفاعل بإيجابية مع ما نعده به: سورية الحرة، دولة العدالة والمساواة والكرامة؟
حينما سقطت الموصل في بداية الصيف الماضي بيد «داعش»، ليتبع ذلك سيطرتها على ثلث مساحة العراق، ولتتعزز أيضا سيطرتها على ثلث الأراضي السورية، أعلن تنظيم «داعش» دولة الخلافة. وصار يهدد بالتــمدد في مناطق اخرى من المنطقة العربية، بما فيها السعودية والكويت والأردن.
وقد تسبب هذا التطور بالارتباك والقلق بين أوساط صناع القرار في المنطقة والعالم، واتخذت واشنطن ومعها 40 دولة، من بينها دول الخليج وعلى رأسها السعودية قرارا بتشكيل تحالف دولي لمواجهته، والقضاء عليه. وساد اعتقاد في أوساط دول التحالف بأن «داعش»؛ الذي تغول في المنطقة؛ ليس سوى ناتج عرضي عن الأزمة السورية واستمرارها، وعن سياسات المالكي رئيس الوزراء العراقي السابق الطائفية والاقصائية المدعومة من إيران. وبناء على ذلك الاعتقاد كان يجري الحديث عن أن القضاء على «داعش» يتطلب معالجة الأزمة السورية وإنهاء نظام الأسد، والإطاحة بالمالكي ليس فقط كشخص وانما كمنهج وسياسات. ويبدو أن الجزئية المتعلقة بالعراق وبالمالكي كان عليها اتفاق وإجماع، وكانت سهلة التحقق لوجود إجماع عراقي من جهة، ولحصول انتخابات في العراق قبل اشهر من سطوع نجم «داعش» من جهة ثانية، فحدث ما حدث وتم تغيير المالكي وانتخاب العبادي بدلا عنه، الذي تعهد واتفق مع الفرقاء السياسيين بالابتعاد عن سياسات المالكي في التفرد والطائفية والإقصاء والتهميش.. وبدأت العملية السياسية تنطلق مجددا على أسس تحظى بقبول عراقي عام، وبدأت خطوات التغيير.. ورغم ان التغيير لا زال في بداياته، يبدو أنه أتى أكله، كما يقال، اذ انتقلت العمليات العسكرية من الدفاع لمواجهة «داعش» الى الهجوم على مواقعه وتحرير المناطق التي سيطر عليها، وقد تحققت في هذا الإطار إنجازات مهمة معروفة والبقية آتية على الطريق.
أما في ما يتعلق بالشق السوري ونظام الأسد، فيبدو ان العملية معقدة، لأسباب عديدة، أهمها ثقل وحجم الدعم الخارجي الذي يتلقاه نظام الاسد من ايران وروسيا. واتجه تفكير دول التحالف إلى ضرورة تكثيف العقوبات الغربية على موسكو، ليس فقط بسبب أوكرانيا حتى – ان كانت هي السبب المباشر- وانما ايضا بسبب سوريا. كما ان التصلب الغربي في المفاوضات النووية مع إيران وعدم رفع العقوبات عنها من دون ابرام اتفاق نهائي كان ايضا سببه ليس الملف النووي بحد ذاته فحسب، وانما ايضا السياسات الايرانية في المنطقة، ولاسيما في سوريا والعراق واليمن. وتصادف ان أسعار النفط تراجعت لاسباب اقتصادية، ولما كانت روسيا وايران من الدول المصدرة للنفط، فقد جرى التفكير في ان يتم استغلال موضوع أسعار النفط لزيادة الضغط عليهما. فقد كانت هناك قرارات سيــاسية بالعمل على خفض اسعار النفط أكثر لتكثيف الضغط على الدولتين فكيف حدث ذلك، وما هي النتائج المتوقعة من ذلك؟
مع انخفاض أسعار النفط الى نحو 95 دولارا لأسباب متعلقة بالعرض والطلب في السوق العالمية للنفط (أي لأسباب اقتصادية)، اتخذت المملكة العربية السعودية قرارا بزيادة كميات الإنتاج، الأمر الذي أدى الى المزيد من التدهور في اسعاره، بل ذهبت الرياض أبعد من ذلك بأن خفضت أسعار النفط الخفيف المصدر إلى السوق الآسيوي خلال 3 شهور متتالية (وفق مؤشر دبي وعُمان)، كما أنها خفضت أسعار النفط الثقيل الذي يتم تصديره إلى أمريكا الشمالية ليصبح أقل من (مؤشر أرجوس) بنسبة 10٪. و»أرجوس» هو مؤشر أسعار النفط الثقيل والمتوسط في أمريكا الشمالية والخاص بنفط المكسيك والسعودية على سبيل المثال. أما مؤشر دبي وعمان فهو مؤشر أسعار الخام الخفيف في الأسواق الآسيوية.
وقد بررت الرياض زيادة إنتاجها بأسباب اقتصادية في مقدمتها: ان النفط هو مصدر أساس في دخل الاقتصاد السعودي، وبالتالي تراجع أسعاره قد تسبب في انخفاض هذا الدخل، وكان لابد من زيادة الانتاج لتعويض النقص وبهدف تحقيق الاستقرار في اقتصاد البلد. وكان ايضا من بين الأسباب رغبة المملكة في المحافظة على عملائها أو كسب عملاء جدد في السوق، فضلا عن رغبتها في أن تُخرج مستثمرين كبارا يعملون بقطاع الغاز الصخري من السوق، بحيث يصبح الاستثمار في هذا الميدان غير مجد مع انخفاض الأسعار.
ولكن يبدو أن الأسباب السياسية هي الأقوى في قرار المملكة بهذا الصدد بهدف زيادة الضغط على ايران وروسيا. وفي هذا الصدد يقول جون ألين جاي ، مؤلف كتاب «الحرب مع إيران: العواقب السياسية والعسكرية والاقتصادية»، إن الرئيس الإيراني حسن روحاني يشعر بعدم الارتياح إزاء انخفاض أسعار النفط الحالي، حيث وعد إبان حملته الانتخابية بتحقيق «الازدهار الاقتصادي»، وخفض التضخم، وأن تكون إيران واحدة من أكبر 10 اقتصادات في العالم خلال 30 عاما. وأشار تحليل جاي، الذي نشرته مجلة «ناشيونال انترست» الأمريكية، إلى أن إيران وضعت ميزانية العام الحالي على أساس أن سعر النفط 100 دولار للبرميل، وصادرات النفط 1.5 مليون برميل يوميا، وتفاءلت بعد أن وصلت أسعار النفط ذروتها في يونيو/حزيران الماضي، عند 113 دولارا للبرميل. وبالتالي فإن روحاني سيجد صعوبة في الوفاء بوعوده، وذلك من شأنه إضعافه في الداخل، بينما تكثف العناصر المحافظة في مجلس الشورى انتقاداتها، وقد ينضم المحافظون الأكثر اعتدالا إلى المعركة. وأضاف التحليل، أن تراجع سعر النفط يزيد من تكلفة الفرصة البديلة في حالة عدم التوصل إلى اتفاق، لأن هذا يقلل نفوذ إيران على طاولة المفاوضات، ومن وجهة نظر المتفائلين، فمن المرجح التوصل إلى اتفاق بشأن الملف النووي وأن يكون مناسبا للغرب.
وفي اعتقادي ان المهم بالنسبة للسعودية ودول الخليج الاخرى هو ان تشعر ايران من خلال انخفاض اسعار النفط بوطأة تكلفة دعمها لنظام الأسد، وان استمرار هذا الدعم من شأنه ان يفقرها. وهو أمر ينطبق الى حد ما على روسيا التي صارت عملتها تتهاوى وصار اقتصادها يشعر بضرر بالغ نتيجة العقوبات الغربية بسبب اوكرانيا، ثم جاء انخفاض اسعار النفط ليزيد من كاهل المصاعب الاقتصادية ويفاقمها.
والحقيقة ان سؤالا يطرح بهذا الصدد، هل ان السعودية ودول الخليج لم تتضرر من انخفاض أسعار النفط، او انها اعتمدت الخيار الشمشوني؟
بالمنطق الاقتصادي، السعودية والدول الخليجية أول المتضررين من تراجع أسعار النفط، ولكن التكلفة الاقتصادية على روسيا وإيران جراء خفض أسعار النفط أكبر كثيرا من تكلفته على دول الخليج. لاسيما ان للسعودية ودول الخليج فوائض نقدية كبيرة تحققت لها خلال الفترة السابقة نتيجة ارتفاع أسعار النفط.
ويبدو لي ان سياسة الضغط هذه من شأنها ان تحقق نتائجها، وقد برز ذلك خلال زيارة الأمير سعود الفيصل الى موسكو الجمعة الماضية، اذ طلب الجانب الروسي التنسيق بضرورة خفض كميات المعروض من النفط في الاسواق العالمية بغية رفع الأسعار، وقد تم الإيحاء من الجانب السعودي بأن التعاون يجب ان يكون في هذا المجال والمجالات الاخرى، في المقدمة منها الأزمة السورية والتعاون في مجال مكافحة الارهاب والاوضاع الاقليمية الاخرى، أي الوضع في العراق واليمن وليبيا والصراع الفلسطيني الاسرائيلي وايضا الوصول الى اتفاق نووي مع ايران بشكل مرض لجميع الاطراف الاقليمية، فضلا عن تفعيل العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
وفي الصدد السوري لمحت موسكو إلى أنها لا تمانع في الاطاحة برأس النظام السوري على ان يتم الابقاء على مؤسسات الدولة والنظام في المرحلة الانتقالية، بما يحقق الحفاظ على وحدة وسيادة الأراضي السورية على أساس «جنيف 1». وقد أبدت موسكو لأول مرة تفهما واسعا للمطالب العربية التي تحملها السعودية بخصوص الازمة السورية.
وفي رأينا ان التراجع الروسي في سوريا من شأنه ان يحفز التراجع الايراني ايضا، خاصة مع زيادة الضغوط الدولية عليها، ومع زيادة الضغط النفطي عليها. وهذا ربما سيسهم في الوصول الى تسوية من شأنها ان تتخلى فيها روسيا وإيران عن الأسد.
مفارقة، ولكنها بحاجة إلى مزيد من التدقيق لفهم أبعادها. دولة الإمارات تعتبر أحد أهم التجمعات الإسلامية في السويد (الرابطة الإسلامية في السويد) منظمة إرهابية، في حين هم ينفون أي علاقة لهم بأي جماعة سياسية، إضافة إلى ذلك تم تصنيف جمعية الإغاثة الإسلامية ضمن المنظمات الإرهابية، علماً بأنها تتلقى أموالاً من دافع الضرائب السويدي عبر وكالة التنمية السويدية. وهكذا فإن الدولة التي تعد من بين الدول الأكثر علمانية واللا دينية في العالم هي اليوم في موقع الشبهة بخصوص وجود أنشطة داعمة للإرهاب على أراضيها.
ردود الفعل الأولية على ذلك تشير إلى حيرة وعدم فهم، ولكن وفي السياق الأوسع وضمن أوروبا ككل، وبغض النظر عن الموقف من قائمة الإمارات، فإنه لا يمكن إغفال أن القارة بمجملها أصبحت بالفعل مركزاً للتجنيد بالنسبة للمنظمات التي توجه المقاتلين إلى سوريا والعراق، للالتحاق بتنظيم «داعش» وأخواته. أما السويد فتعد بحسب الدراسات من أهم مراكز جمع التبرعات والتمويل للجماعات الإرهابية المرتبطة بـ»القاعدة». ومن المهم الإشارة هنا إلى أن أحد أهم قادة «حركة الشباب الصومالية» فؤاد شنغولي يحمل الجنسية السويدية، وكان مقيماً لسنوات طويلة في السويد، تمكن خلالها من جمع الكثير من التبرعات. وفي نظرة سريعة على عموم القارة الأوروبية يتكرر المشهد بدرجات مختلفة. وفي إحصائيات صادرة مؤخراً، كانت نسب التجنيد الأعلى لصالح الجماعات المقاتلة في سوريا، هي في بلجيكا قياساً إلى عدد السكان، ولكن فنلندا الاسكندنافية كانت الأعلى في نسبة التجنيد بين أبناء الجاليات المسلمة فيها. أما كوبنهاغن عاصمة الدنمارك فقد أوقفت الشرطة فيها قبل أسابيع أشخاصاً يبيعون تذكارات وميداليات تحمل شعارات «داعش». وخلصت تقارير أمنية أوروبية إلى أن فيينا أصبحت قبلة جهاديي أوروبا ونقطة تجمعهم في طريقهم إلى سوريا عبر البلقان ثم تركيا.
ولا يتوقف التجنيد في أوروبا على الجاليات المسلمة، بل ان عدداً لا بأس به من الأوروبيين الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام حديثاً تطوعوا للقتال. وقد يكون السبب في ذلك هو الرغبة في اختصار المراحل ودخول الجنة بسرعة، حسبما يقول بعض الباحثين.
المحصلة أن ما كانت تأمل فيه دول أوروبا مع نهايات عام 2013 في خفض معدلات تدفق الجهاديين إلى سوريا من أوروبا لم يتحقق، بل على العكس، إذ يبدو أن معدلات التأييد لـ»داعش» ومحاولات الالتحاق به أصبحت أكبر في هذه الفترة. السلطات الأوروبية شعرت ببعض التفاؤل بسبب النجاحات الجزئية لبرامج إعادة دمج وتأهيل الجهاديين العائدين من القتال إلى بلدانهم، حيث تأمل تلك البرامج في إزالة الخطر المحتمل لأولئك العائدين، و»نزع راديكاليتهم»، ولكن التدفق لم يتوقف.
المشكلة في النظرة الأوروبية للمسألة أنها قاصرة كلياً عن فهم ذهنية التنظيمات الإرهابية، وما زالت معظم الاستراتيجيات الأوروبية تتعامل مع «داعش» من ناحية الخطر الذي تشكله على تلك البلدان نفسها. والواقع أن التنظيمات السلفية الجهادية رغم كونها متقاربة فكرياً ولديها القدرة على التحالف والاندماج والإمداد المتبادل، إلا أنها تختلف في التعقيد اللوجستي والتقني والمالي، عدا عن التغيير في النظرة الميدانية العملياتية. فتنظيم «القاعدة» تراجع كثيراً إلى الخلف إلى الحد الذي يمكن القول فيه إن أيمن الظواهري أصبح زعيماً فخرياً لا فعلياً، حيث لم يستطع أن يملأ الفراغ الذي خلفه أسامة بن لادن. الطبيعة تكره الفراغ، ولهذا ظهرت قيادات ميدانية مختلفة ، بعضها نما إلى حجم إعلان خلافة مثل البغدادي، فيما بعضها الآخر ما يزال صغيراً. ومع ذلك فإن التطور المهم من ناحية أهداف تلك التنظيمات تمثل في الانتقال من استهداف أمريكا والغرب في فترة قوة «القاعدة» إلى هدف السيطرة على الأرض وفرض سلطتها على ساكني تلك الأرض وحكمهم ضمن الأيديولوجيا المتشددة لتلك التنظيمات، والاستفادة من خيرات تلك الأرض ونفطها وثرواتها. وهكذا فإن جهد «داعش» وغيره من المجموعات السلفية الجهادية غير منصب في هذه المرحلة على إيذاء الغرب، وإن كان من غير المستبعد تنفيذ بعض العمليات المتفرقة كنوع من الانتقام أو التكتيك المرحلي.
الأوروبيون يرون في تجربة سوريا والعراق خطراً مستقبلياً يماثل ما واجهوه عند انتهاء حرب أفغانستان، أي عودة جماعية للمقاتلين وانخراط نسبة منهم في عمليات إرهابية في أوروبا. ولكن تلك النظرة لا تلاحظ بشكل كاف ما يعانيه سكان المنطقة نفسها من ويلات «داعش» وغيره. وفي حالات معينة مثل حالة الأيزيديين ومسيحيي الموصل وأكراد كوباني كان هناك اهتمام كبير، ولكن النسبة الكبرى لضحايا «داعش» هي من سكان المناطق السنية التي يسيطر عليها هذا التنظيم، لم تحظ بكثير اهتمام. كما أن النظرة الأوروبية عاجزة عن التعامل مع أسباب نجاح التجنيد على أراضيها، وما تزال غير قادرة على التعامل مع شيوخ ودعاة يقومون علناً بتشجيع الشبان على الالتحاق بالقتال. وإلى جانب عوامل كثيرة متفرقة فإن أهم عاملين ينجحان في دفع المزيد من الشباب الأوروبي إلى سوريا والعراق هما ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من قبل إسرائيل من ناحية، والصراع السني ـ الشيعي من ناحية أخرى. وقد أصبح من الشائع أن ترى في مساجد بعض المدن الكبيرة – وحتى الصغيرة – شعارات تتعلق بـ»أهل السنة والجماعة» وهو ما لم يكن يجري التطرق إليه سابقاً.
اليوم ومع وصول المقاتلين الأوروبيين في سوريا إلى عدة آلاف، ومع وجود دعاة يقومون بالتجنيد بشكل مستمر في كل أنحاء القارة، ومع تحول عاصمة الموسيقى فيينا إلى نقطة تجمع للمقاتلين الذاهبين إلى سوريا، فيما عاصمة اللادينيين ستوكهولم من أكبر مراكز تجميع الأموال للإرهاب وبروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي تشهد أعلى نسبة تجنيد في أوروبا، في ضوء كل ذلك يمكن القول وبكل ثقة أن أوروبا تحولت بالفعل إلى مصدّرة للإرهاب.
"في لبنان الكثير من الحرية والقليل من الديمقراطية" هذه المقولة الشهيرة لرئيس الوزراء اللبناني الأسبق سليم الحص يؤكد فيها أن الحرية وحدها لا تكفي للاستمتاع بمخرجاتها وهناك بون شاسع بين الفكرة ونتائجها.
طالب ثوار سورية منذ البداية بالحرية باعتبارها الشرط الكافي لتحقيق المطالب الأخرى في التخلص من حكم آل الأسد، لكنهم لم ينجحوا في تطبيقها وممارستها بالشكل المطلوب لصالحهم عندما أتيحت لهم الفرصة لذلك، سواء في المناطق المحررة أو ضمن مؤسسات وهيئات المعارضة المختلفة في الخارج.
فشل المعارضة في إدارة شؤونها وتقدير مصالح الثورة أوصلها في النهاية لحالة هامشية سواء بالنسبة للداخل أو تجاه الدول الصديقة وابتعادها عن دائرة صنع القرار المتعلق بالثورة ومستقبل البلاد أو حتى مجرد التأثير فيه.
من بين اجتماعين فقط للمعارضة حضرتهما شخصيا بدعوة خاصة كان أحدهما في اسطنبول في حزيران 2012، وهو مخصص لتشكيل لجنة مهمتها التحضير لمؤتمر يجمع أطياف المعارضة في القاهرة، واستمرت الاجتماعات يومين بلا طائل. ولم يبدُ لي وقتها أن حضور ممثلي الدول الصديقة لفرض أسماء معينة في اللجنة بقدر سعيهم لتحديد مهامها وصلاحياتها بعكس المعارضين الذين كان همهم وشغلهم الشاغل طرح أسماء معينة لتمثيلها في اللجنة مع أن عدد الحاضرين كان محدودا وغير كبير.
خصص مجلس الشعب قبل الثورة إحدى جلساته لاتخاذ قرار بخصوص الموقف من المشاركة في اجتماعات البرلمان العربي المزمع انعقاده في أربيل بكردستان بدلا من بغداد بسبب الظروف الأمنية وقتها، وﻷن دور مجلس الشعب كان شكليا وليس له الحرية في اتخاذ القرار فقد وقع أعضاء المجلس في حيرة شديدة من أمرهم في معرفة اتجاه التصويت الذي تريده القيادة السياسية والذي عليهم العمل عليه، وساهم في ذلك عدم وجود توجيه مسبق من الشعبة الحزبية للأعضاء مما سبب بخلق حالة من الفوضى وقام رئيس المجلس بإعادة التصويت على القرار عدة مرات دون جدوى بغية تحويله من الرفض إلى القبول بالمشاركة.
تشكيل اللجنة التحضيرية لاجتماع المعارضة لم يتم في نهاية المطاف سوى باقتراح ملزم قدم لهم من ممثلي الدول الحاضرة للاجتماع حيث تمت الموافقة عليه فورا دون نقاش وبدا أن يومين من الاجتماعات ضاعا دون جدوى.
في المقابل فإن جلسة مجلس الشعب السابقة الذكر تم تعليقها بعد كل ما حصل وخرج الأعضاء يناقشون بحدة واستغراب مجريات الجلسة وصرح أحدهم بأنه من غير الممكن أن يعمد المجلس لتعديل قراره على العكس من رغبة الأعضاء وأن ذلك يمثل خيانة لمبادئ حزب البعث القومية، ولن يصوت هو على أي قرار لو سارت الأمور بهذا الاتجاه، ولكن الشعبة الحزبية أصدرت تعليماتها وتم في اليوم التالي التصويت خلال دقائق فقط بالموافقة على قرار الحضور وكان ذلك العضو أول الأعضاء الذين يرفعون أيديهم عالبا بالموافقة.
وفق الآليات التي كان يعمل بها النظام قبل الثورة، ربما يمكن فهم وتبرير ما حدث في اجتماع مجلس الشعب السايق الذكر، لكن غير المفهوم أو المبرر هو عجز أعضاء المعارضة عن اتخاذ قرار بتسمية أعضاء اللجنة وإسناد ذلك للغير رغم أنهم ممثلون مفترضون لثورة أولى شعاراتها وأهدافها الحرية.
رغم تخلصها من سيطرة النظام إلا أن حالة من الفوضى سادت المناطق المحررة بسبب عدم القدرة على إدارتها ذاتيا، ما أثار موجة من ردود الأفعال العكسية ضدها كما أثار فشل المعارضة في تقديم مشروع سياسي وطني جامع ومقنع شكوك دول الأصدقاء وعدم اعتمادها المعارضة بديلا عن النظام لفشلها الذريع في تنظيم العمل ضمن مؤسساتها المختلفة. ومن هنا يأتي من يحمل المعارضة مسؤولية تاريخية في إفشال الثورة وعدم تحقيق أهدافها.
لماذا تخلت المعارضة عن حريتها المكتسبة، ولم تحتفظ بقرارها المستقل لصالح الشعب السوري، ووقعت فريسة للتجاذب والاستقطاب الإقليمي والدولي.
لماذا يستمر السوريون في التخلي عن حريتهم في تحديد طريقة حياتهم ومستقيلهم السياسي، وهل يمكن القول إن ذلك صفة ملازمة لهم لا يمكن الخلاص منها
تستند مواقف المسؤولين في مؤسسات النظام حيال قراراته إما إلى مصلحة أو قناعة بها أو بسبب الإدراك باستحالة تغيير أي شيء يقرره النظام عبر دائرة القرار الضيقة والغامضة بعيدا عن المؤسسات الدستورية والقانونية الموجودة والتي ينحصر دورها في تنفيذ قرارات وتوجيهات القيادة الحكيمة والرشيدة للبلاد.
يتذرع المعارضون باستمرار لتبرير فشلهم بحالة التصحر السياسي التي سادت البلاد لعقود وسببت غياب العمل المؤسساتي الحقيقي ومنع منظمات المجتمع المدني الحرة من العمل، ولا يفهم كيف لم يساهم كل هذا الوقت الطويل من عمر الثورة لتجاوز ذلك. ويبدو أن المعارضين يركزون على العوامل الموضوعية ويتهربون من الخوض في العوامل الذاتية المتعلقة بشخصيات المعارضة التي ظهرت فيها حالات واسعة من الأنانية والفردية والنرجسية ولم ترقَ تصرفاتهم لمستوى تضحيات الشعب السوري وتضحياته العظيمة.
ومن اللافت ظهور حالات واسعة من الفساد تم ارتكابها من معارضين خلال فترة قصيرة نسبيا حيث عملت مؤسسات المعارضة بدون مساءلة أو شفافية.
فشل المعارضة في الاستفادة من مناخ الحرية المفتوح أمامها شكل ضربة قاسية للهدف الأساسي للثورة، وبات الحديث يدور حول جدوى الحرية كفكرة مجردة في حال عدم الاستفادة منها بالشكل الأمثل لصالح الناس. واستغل بعض مؤيدي النظام ذلك للحديث عن عبثية الثورة ومسؤوليتها عن الحالة المأساوية التي وصلت إليها البلاد.
بالمحصلة لا تكفي الحرية وحدها كفكرة أو تطبيق مجرد في تحقيق شيء وبالعكس فقد تساهم في خلق حالة من التشرذم والخلافات والفوضى العارمة، ومؤكد أنه بلا وعي أو ضوايط أو آليات للعمل والمراقبة فإن الحرية تنقلب من نعمة إلى نقمة.
ويبقى المشهد الأكثر قساوة على السوريين منظر جنود الأسد وهم يعذبون أحد المنتفضين المطالبين بالخلاص من النظام ... بدكن حرية ... هكذا يصرخ جنود الأسد بتهكم في وجهه وهم يعذبونه ويدوسونه بأقدامهم ويصرخون في وجهه "هاي منشان الحرية".