مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١ ديسمبر ٢٠١٤
عن الحل في سوريا

أثارت زيارة معاذ الخطيب لموسكو وما تسرب بشأنها من ملاحظات وانتقادات واسعة وهجوم شديد على الرجل، وتركز نقد الناقدين على "الحل السياسي" المطروح، الذي قال الخطيب إنه يتناول تنحية بشار الأسد.

لذا يصبح السؤال: ما هي الحلول التي يمتلكها كل هؤلاء النقاد؟ هل من حل بديل عن الحل السياسي؟
بالنسبة للحل العسكري فقد راهنت عليه بعض أطراف المعارضة، وكانت دائما تكتشف أن "حلفاءها" لم يقدموا "الدعم اللازم"، ولهذا تشعب الأمر وظلت الكتائب المسلحة مفككة ودون سلاح كاف، ومن ثم اخترقت جبهة النصرة الصورة وباتت تمتلك سلاحا ومالا فرض أن تتحول إلى قوة كبيرة، ثم أتت داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) وباتت تهيمن على كثير من مواقع الكتائب المسلحة و"المناطق المحررة"، وانسحب "جيش الإسلام" من محيط دمشق بقرار خارجي في وقت كان بالإمكان السيطرة على دمشق خلال ضعف السلطة نهاية سنة 2012، وقبل دخول قوات حزب الله والمليشيا العراقية والحرس الثوري الإيراني لكي يصبحوا هم قوة الإسناد للسلطة.

    "بعض أطراف المعارضة كان منذ البدء ينتظر تدخلا أميركيا، وأقام كل إستراتيجيته على أساسه، وما زال يتوهم أن أميركا تناور للوصول إلى هذا التدخل، ولكن الأميركيين غير مقتنعين بوجود معارضة يمكن أن تستلم السلطة"

ومن ثم كان يجري التفاؤل بتقدم هنا أو هناك، أو "زحف" يوحي بأن الحسم قد بات ممكنا، لكن كان الأمر ينتهي دون تحقيق تغيير كبير. وقد أصبح الوضع مختلطا ومتشابكا بعد أن بات الصراع يجري على أكثر من جبهة، ضد السلطة وداعش، أو ضد السلطة وجبهة النصرة، أو الاحتكاك بجيش الإسلام وميله للهيمنة في وقت الصراع مع السلطة.

الآن، ربما تجري المراهنة على التقدم في جبهة الجنوب، درعا والقنيطرة، التي حققت إنجازات معقولة قد تشير -مع ما يتحقق في القلمون- إلى أن السيطرة على دمشق باتت ممكنة، لكي يحل الائتلاف الوطني حاكما جديدا، لكن هل يمكن ضمان ما يمكن أن تفعله جبهة النصرة في لحظة ما من هذا التقدم؟ هل هي مضمونة إلى حد الركون إلى التقدم (بغض النظر عن الموقف منها)؟

أرجو التفكير لأن ما حدث في مناطق أخرى يمكن أن يحدث هنا. ثم هل قرار الداعمين بالسلاح والمال هو إسقاط النظام؟ وبالتالي فإن هذا التقدم، إذا ما ظلت النصرة في "هذه الجبهة"، سوف يسهم في الحل السياسي الذي لن يختلف عما طرحه معاذ الخطيب.

ما يجب أن يُفهم هنا أن الحسم العسكري غير ممكن في ظل وضع سوري مشتت، ووضع إقليمي ودولي لا يريد انتصار الثورة، وهذا ما يطرح مسألة المراهنة على أن يتطور التدخل الأميركي إلى تدخل من أجل تغيير النظام، وأظن أن بعض أطراف المعارضة يعتقد ذلك ويراهن عليه بجدية، وكان منذ البدء ينتظر هذا التدخل، حيث أقام كل إستراتيجيته على أساسه، وما زال يتوهم بأن أميركا تناور للوصول إلى التدخل، ولكن الأميركيين غير مقتنعين بوجود معارضة يمكن أن تستلم السلطة.

وبالتالي ليس من الممكن إسقاط النظام عسكريا، بل الحل السياسي هو الباب الوحيد المطروح، كما كررت مرارا وتكرارا منذ سنوات، فأميركا تريد "الحفاظ على الدولة" وعلى مشاركة أطراف من المعارضة في حل يقوم على بقاء الدولة من أجل الحرب ضد داعش، وهي تناور مع إيران لترتيب توافق إقليمي، ربما يشمل تحقيق حل سياسي في سوريا.

الخيار الثالث الذي يحكم البعض في المعارضة هو استمرار الصراع بكل ما فيه الآن، إلى أن يأتي ظرف يفرض سقوط النظام. وهذا البعض أعمى، ويتجاهل ما يجري من قتل وتدمير وجوع وتشريد، أو لا يريد أن يرى كل ذلك. وفي الأخير لن يكون هناك سوى حل وحيد هو الحل السياسي، أو الميل لقبول إقامة دويلة في بعض مناطق سوريا، وهو أمر رديء، ويعبر عن موقف غريزي يريد إسقاط النظام بأي شكل من الأشكال.. وبالتالي فهو مدمر.

    "فقد النظام السوري  قوته الصلبة وبات يعتمد أساسا على قوى طائفية مستجلبة من لبنان والعراق وإيران، وحتى اليمن وباكستان وأفغانستان، وكذلك من روسيا وغيرها. ولذا فمن يتحكم في الصراع هو قوى إقليمية ودولية أكثر من القوى الداخلية"

المسألة هنا تتعلق بما هو ممكن في الوضع السوري، حيث كان واضحا منذ البدء أن أمر الثورة السورية لن يختلف في الأخير عن مصائر الثورات في تونس ومصر واليمن، أي تغيير في السلطة وفتح أفق لتحقيق "مرحلة انتقال ديمقراطي"، حيث إن الوضع الذي خلقه الاستبداد الطويل لم يكن يسمح لثورة بأن تنتصر، بمعنى أن تسقط النظام السياسي أو السياسي الاقتصادي.

وما كان يبدو ممكنا، وما ظل ممكنا، هو أن يحدث "كسر" في بنية السلطة، بتحول جزء منها إلى قبول تلك المرحلة الانتقالية بعد أن تشبث الأسد (أو المجمع الأمني المالي، أي آل مخلوف وآل الأسد) بألا يحقق أي إصلاح سوى ذاك الذي لا يُصلح شيئا. فالمعارضة ليست في ترابط عضوي مع الشعب الذي جرى دفعه إلى حالة من "الجهل السياسي" بفعل الشمولية التي اتسمت بها السلطة.

ولذا كان واضحا أن الثورة ستكون في غاية العفوية، وبالتالي لن تفعل سوى خض السلطة وإضعافها، وربما تفككها كما أشرنا من قبل، ولن يكون هناك بديل قادر على قيادتها والاستيلاء على السلطة.

رهانات المعارضة كانت تحلق في فضاءات أخرى، حيث راهن بعضها على التدخل الأميركي تحديدا كما جرى في ليبيا، ولهذا تشكل المجلس الوطني استعدادا لاستلام سلطة لم يسقطها، بل كان يريد أن تسقط بفعل قوة إمبريالية لها حساباتها ومصالحها، وراهن آخرون على ضغوط تمارس على السلطة من أجل قبول حل سياسي يقوم على تحقيق مرحلة انتقال، وتركت الثورة تتطور وحدها.

أكثر من ذلك أسهمت أطراف في المعارضة في تشويه واقع الثورة والتخويف منها، وجرها نحو الأسلمة، ومن ثم فتح الأبواب لجبهة النصرة ثم لداعش، كما أسهم بعضها في زيادة مآسي الشعب، وفي دفع السلطة لتصعيد عنفها، على أمل أن "يرق" العالم لحال الشعب السوري فيتدخل عسكريا.

وتبين أن أميركا ليست معنية بالتدخل العسكري -وهو ما كررته مرارا- وغير معنية بالوضع السوري، الذي "باعته" لروسيا، وربما ستبيعه الآن لإيران، وأن هناك أطرافا إقليمية وعالمية تريد تحويل الثورة السورية إلى مجزرة نتيجة خوفها من المد الثوري الذي بدأ في تونس وتوسّع عربيا، ويهيئ الوضع الاقتصادي العالمي لأن يتوسع عالميا.

تلك الحالة أوصلتنا إلى الوضع القائم، حيث بات نحو نصف الشعب مهجرا أو لاجئا، ودمرت أحياء في مدن وقرى كثيرة، وهناك مئات آلاف المعتقلين ومئات آلاف الشهداء، والأسوأ من ذلك أن القوى الأصولية باتت تتصدر المشهد، حيث تمتلك المال والسلاح بدعم مباشر من دول إقليمية، وتعمل على فرض سلطة أكثر سوءا من سلطة النظام القائم، وهناك آلاف الشباب المقاتلين الذين لم يستطيعوا "الانتظام" أو "التشكل" في قوة كبيرة قادرة على تطوير الثورة ولجم الأصولية، كما انحصرت أهداف الثورة في إسقاط النظام، وهو الهدف الذي ظهرت استحالته.

    "تبدو خطة دميستورا فاشلة، فليس ممكنا تهدئة المناطق هكذا. وما يوصل إلى التهدئة هو إزاحة الأسد، أما ما يجري من توافقات مناطقية فقد أتت نتيجة الحصار الخانق الذي تفرضه السلطة على الشعب دون إدانة دولية أو اتهام بالإبادة الجماعية، وبالتالي فهي متنفس بسيط لا ينهي الصراع على الإطلاق"

كل ذلك رغم أن السلطة قد فقدت قوتها الصلبة وباتت تعتمد بشكل أساسي على قوى طائفية مستجلبة من لبنان والعراق وإيران، وحتى اليمن وباكستان وأفغانستان، وكذلك من روسيا وغيرها. لهذا بات مَنْ يتحكم في الصراع هو قوى إقليمية ودولية أكثر من القوى الداخلية، سواء تعلق الأمر بالثورة أو بالسلطة.

على ضوء هذا الوضع يُطرح الحل الممكن، وليس في مناكفة لا معنى لها سوى التعبير عن غياب العقل وتحكم منطق الصراع الغريزي، فالوضع يتسم بحالة استعصاء، مع دعم إيراني روسي للنظام، وتآمر على الثورة من "أصدقائها" المتخيلين، وما يحقق الاستعصاء هو مقدرة الشعب على الصمود، لكن ليس أكثر من ذلك. لهذا لا بد من حل يوقف الدمار والقتل والانهيار الاقتصادي، ويعطي متسعا لالتقاط الأنفاس من قبل الشعب.

لكن الحل هنا ليس بأي ثمن، هذا مهم، لأنه ليس من الممكن الوصول إلى وقف الصراع المسلح دون أن تنتهي سلطة بشار الأسد ومجموعته، فحتى وإنْ قبلت أطراف في المعارضة حلا لا يقود إلى ذلك فلن ينتهي الصراع القائم. هذا هو محور الحل الآن، وهو بالتالي يقوم على تطبيق جنيف1 الذي يفرض تشكيل هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات.

ونتيجة ذلك فإن "خطة دميستورا" فاشلة، حيث ليس من الممكن تهدئة المناطق هكذا، فما يوصل إلى التهدئة هو إزاحة بشار الأسد، أما ما يجري من توافقات مناطقية فقد أتت نتيجة الحصار الخانق الذي تفرضه السلطة على الشعب دون إدانة دولية أو اتهام بالإبادة الجماعية، وبالتالي فهي متنفس بسيط لا ينهي الصراع على الإطلاق.

الوضع بات يفرض حلا، وهو بيد القوى الدولية، لكن ليس من حل دون إزاحة بشار الأسد.

اقرأ المزيد
١ ديسمبر ٢٠١٤
وهم الحل الروسي في سورية

تعددت المؤشرات المعززة لتفاؤل الرئيس السابق للائتلاف السوري المعارض الشيخ معاذ الخطيب، بوجود مقترح حل روسي حقيقي للأزمة السورية، قال إن القيادة الروسية تداولت معه بشأنه خلال زيارته إلى موسكو، بداية الشهر الماضي، بدعوة من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
إذ بعد أيام من تصريحات الخطيب بشأن ذاك الحل الذي يجري العمل على بلورته بشكل نهائي، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستقبل وزير خارجية نظام بشار الأسد، وليد المعلم، "لأول مرة" منذ العام 2011. وهو ما يفترض أن يوحي بجديد وجدية غير مسبوقة في التعاطي الروسي مع الشأن السوري. أما الأهم، فهو تأكيد وزير خارجية تركيا؛ خصم الأسد اللدود، قبل بضعة أيام، بأن "موسكو ربما تدفع باتجاه فتح أبواب للحل السياسي".
لكن لماذا قد توافق روسيا الآن، كما نقل الخطيب، على إزاحة بشار الأسد، وهي التي دعمت، من غير قيد أو شرط، حله الأمني في مواجهة الثورة السورية منذ يومها الأول قبل قرابة أربع سنوات، بما في ذلك إخفاء واعتقال معارضين "رفاق" محسوبين على موسكو بشكل أو بآخر؟
ربما يكون أضعف التفسيرات هو ذاك الذي قدمه الخطيب خلال اجتماعه مع ضباط من الجيش الحر لإطلاعهم على مجريات لقائه مع المسؤولين الروس؛ وهو التفسير المتمثل في حاجة موسكو إلى "ضمان مصالحها في المنطقة بعدما خسرت وجودها ونفوذها في العراق وليبيا ولم يبق لها موطئ قدم على البحر المتوسط سوى سورية". فبالنظر إلى تأييد روسيا المطلق لنظام الأسد طوال الفترة الماضية؛ بما أدى إلى تدمير أغلب سورية، وتهجير الملايين من مواطنيها، وقتل مئات آلاف آخرين مع استنزاف حاضنة الأسد الاجتماعية، فإنه لا يكاد يكون ممكناً ضمان المصالح الروسية إلا بوجود الأسد والدائرة الضيقة حوله؛ أي أولئك الذين يفترض أن تتم إزاحتهم موجب الحل المأمول.
ربما يكون أكثر منطقية التفسير المرتبط بتصاعد قوة وحضور التنظيمات المتطرفة المقاتلة في سورية؛ لاسيما تنظيم "داعش" و"جبهة النصرة". خصوصاً أن روسيا، وبحسب آخر المسوح، قد احتلت المركز الأول بين الدول الأوروبية المصدرة للمقاتلين الأجانب إلى المنطقة، والملتحقين بداعش تحديداً.
لكن الحقيقة هنا أن أشد أعداء موسكو ليست التنظيمات المتطرفة؛ الإسلامية خصوصاً، والتي قد تمثل تهديداً حقيقياً لها في الجمهوريات الإسلامية المنضوية في إطار الاتحاد الروسي. بل الأخطر بالنسبة لروسيا-بوتين (إنما ليس وحده، للإنصاف)، هو أي عملية تغيير، وعلى الأخص تلك التي يمكن أن تؤدي إلى تحول ديمقراطي حقيقي بأي شكل أو درجة. وذلك بحكم انعكاسات ذلك على روسيا داخلياً، بما يتعارض تماماً مع طموح بوتين للإمساك بالحكم "إلى الأبد"؛ بشكل معلن، أو بشكل فعلي كما كانت الحال خلال توليه رئاسة الوزراء بين فترتي رئاسته للدولة.
الأسوأ في الجهود الروسية أن يكون هدفها إضعاف المعارضة السورية بشكل أكبر، من خلال الحفاظ على الأسد "إلى الأبد" أيضا مع تشكيل حكومة "وطنية" تجميلية، أو عبر إلقاء مسؤولية فشل هذه الجهود على تلك المعارضة في حال رفضها التحايل الروسي. ذلك أن مثل هذا الهدف لن يفيد الأسد أبداً، بل سيفيد "داعش" وأشباهه، مع تواصل استنزاف السوريين ككل؛ وهنا قد يصبح الأسد قريباً في مواجهة حاضنته الشعبية قبل أي فصيل معارض آخر.

اقرأ المزيد
١ ديسمبر ٢٠١٤
عن الثّورة التي نريدُ سرقتها

ثمّة رؤيةٌ تحليليَّةٌ حَديثةٌ بدأت تتفشَّى، أخيراً، في جزءٍ من الخطاب السياسي السوري المعارض، مَنبعُ هذه المقاربة أو مصبّها يفضي إلى حقيقيةٍ وصفيَّة، تُخْتَصر بعبارة "الثورة المسروقة"، تفترِضُ المقاربة "وجودَ ثورة ناصعة ونقيَّة ونظيفةً ومدنيَّة وسلميَّة، سرقها إسلاميَّون غامضون مُلتَحون، ولدوا خارج مفاعيل وسياقات هذا الصراع تماماً، وخطفوها وأخرجوها من الحيِّز الصحيح والصّراط المستقيم والمَسار المتَّفق عليه، وعلى الأرجح، تمَّت عمليةُ الخطف الدقيقة الغدَّارةِ بمالٍ خارجيّ سياسي، دخلَ على المُجتمع السوري ذي الإسلام المعتدل السلمي أيضاً". ويتوزع مُصدِّرو خطاب العويل والندب والدفن في ثلاثة مواضع أساسيَّة مُتداخلة في ما بينها:

موضع "الذعر الأقلوي": يبثُّ خطابه تيَّارٌ خائِفٌ من اصطِباغ الثورة السوريَّة، في وجهٍ مُتَّسعِ من أوجهها، بالثقافة المذهبيَّة السنيَّة المحضَة، ومُصطَلح "الثورة المسروقة"، هو خيرُ ترياقٍ للتشويش على هذا القلق الأقلوي إزاءَ هذا الوجه.

موضع "المكانة الاقتصادية": تصيغُ خطابه شريحةٌ اجتماعيَّة من الطوائف المذهبيَّة كافة، يمكن نعتهم بأهل المدن الكبرى، كدمشق وحلب، إذ إنَّهم كانوا جزءاً مُنتفعاً من دورةِ النّظام الاقتصاديَّة النيوليبرالية، ولم يكونوا، بالضرورة، جزءاً من النَّواة الصُّلبة الأمنيَّةِ - العسكريَّة - السياسيَّة الحاكمة. هم يحتجَّون على شكل ممارسة السُّلطة والعُنف، لكنهم راضون بشبكة العلاقات الطبقيَّة الاقتصاديَّة، ويظهر ذلك إثْرَ ارتيابهم الواضح من المنشأ الريفي الواسع للحركة التغييريَّة، هذا التحرُّكُ الريفيّ الذي يستهدفُ، بشكلٍ أو بآخر، مواقعهم الخاصَّة والاستثنائيَّة وغيرِ العادلةِ، ضمن خريطة العجلةِ الاقتصاديَّة النيوليبراليَّة.

موضع "التنوير الثقافي": يُذاع هذا الخطاب من مثقَّفين "تنويريين" يشتهرون بخطاب فوقي مغرور، يحيلُ كُلَّ التغيُّرات الكبرى في المجتمع إلى "العقل!"، هذا الشيء الهلامي الغريب الغامض. ويرى هذا الخطاب الثقافةَ (وهنا هي الإسلام) اللبنة التحتيَّة الأساسيَّة في تشكيل المجتمع، لا وزن يُعْتَبر في التحليل لممارسات السلطة العموميَّة أو توزيع أدوات الإنتاج. ينتهي هذا الخطاب، على الأرجح، إلى حكم قيمة مطلق، لأنَّه ينتج عن نقدٍ مُنفصِلٍ بارد، ينظرُ إلى العلاقات الاجتماعيَّة من فوق، وبتجريد، على حساب النقد المتَّصل الحار الذي يقيمُ وزناً للتفاعلات العلائقيَّة الشائكة الملموسة بين البنى الاجتماعيَّة.

ولا يندرُ أن تختلِطَ المواضِعُ الثّلاثة بين بعضها، فمثلاً يُمكِن أن يتمَفْصل التنوير الثقافي ظاهريَّاً، مع الذعر الأقلوي باطنياً، ويصبح الانتماء الأيديولوجي هنا، ردّة فعل فكريَّة الطابع أهليَّة الدافع.

في المجتمعات الحديثة، عادةً ما يلجمُ الصراع الاجتماعي - الأهلي، وينقُلهُ من الشارع، حيث مَسرحُ العنف الأداتي المادي المباشر، إلى حرم المؤسَّسات الدستوريَّة، حيث العنف الرمزي اللفظي هو وجود السياسة في المجتمع، إذ تهدئ المؤسَّسات السياسيَّة والقنوات الدستوريَّة من التناقضات الاجتماعيَّة الداخليَّة. وجديرٌ بالذكر أنه، أحياناً، حتّى المؤسَّسات الحديثة لا تؤدّي إلى تحقيق السلام الاجتماعي، بل من الممكن أن يفيض الصراع، لينزل إلى منصَّة الشارع، مرّة أخرى، إذا لم تترافق عمليَّة حداثة المؤسَّسات الدستوريَّة مع عملية تحديث المجتمع وتحقيق قيمه الوطنيَّة المشتركة، كما يحصل في لبنان بين فينة وأخرى، على إيقاع الوضع الإقليمي.

" إشكالية داعش أكبر من كل حيثيات الصراع السوري، فهي متعلقة بأزمات بنيويَّة عميقة في الجملة النظرية للفكر الحداثي "

ومنه، فإنَّ ما يميَّز الشأن السوري هو عدم وجود سياسة في المطلق، قبل انطلاق الثورة السورية. لذلك، أهم سمات الحركة التغييريّة السورية، في أثناء هذا الارتجاج التحوُّلي الرهيب، هو الطبيعيَّة والتلقائيَّة والغريزيَّة والعفويَّة، أي ما هو مضادٌّ للسياسة بالضبط. ولأنَّ الوعي البدئي الخام للكتل المحتجَّة هو الإسلام، فمن الطبيعي أن تكون ملامح الخطاب الناشئ عن هذه الكتل المحتجة لخطاب إسلامي، خصوصاً أنَّ أوضاع العنف الرهيبة تؤدّي إلى ازدهار التديُّن السياسي. والتديّن، أصلاً، هو المعادل الأقصى للعنف، والإسلام خير سند ثقافي وتاريخي، ليتحمَّل أعباء هذا الصراع العنيف، لما يحتوي من نصوص مؤسسة متفرقة قادرة على شرح هذه الأوضاع الرهيبة. ومنه، فإنَّ ما تسمى "أسلمة الثورة السورية"، مصطلح، واقعياً ومعرفياً، خاطئ، لأنَّ الإسلام جزء تكويني عميق وأساسي في الصراع الاجتماعي السياسي السوري، وليس دخيلاً أو مارقاً أو مدسوساً. "العلمانية" و"المدنية"، هنا، كانت ستكون ضعيفة الإقناع لكاتب هذا السطور، لو رفعتها الكتل المحتجة.

والحال، فإنَّه يُستثنى من السياق السوري الإسلام الجهادي العسكري السلفي الأممي، بشكله الحالي الممثل بـ"تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام"، داعش، في المجمل ليست وليدة تفاعلات السياق السوري. بالتأكيد ثمَّة جزء أهليَّ سوريّ في "داعش"، تولّد نتيجة تحطم البيئات المحلية الأهلية السوريّة، ولكن إشكالية داعش أكبر من كل حيثيات الصراع السوري، فهي متعلقة بأزمات بنيويَّة عميقة في الجملة النظرية للفكر الحداثي (كضعف قابلة الأفكار الحداثية للتعميم والكونيَّة مثلاً)، وببدء تصدّع مفهوم الدولة في الدول الأوروبية، وفشلها الأكيد في المشرق العربي، وأيضاً، بوضع الجاليات المسلمة في المجتمعات الأوروبية، والنظرة الغربية العامة إلى الإسلام، وبسياسات الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، وتغوّل المشروع الإيراني، بالإضافة إلى سياسات المراكز الرأسمالية العالميَّة، وتهميشها دول العالم الثالث. "داعش" سابقة على الصراع السوري، وسورية، بتعفّنها الحالي، هي أفضل ساحة عراك موجودة، لتجسّد هذه الحرب الأهليَّة بين الأصولية الدينية والرأسمالية الغربية.

باستثناء "داعش"، فإنَّ الثورة السورية ـ الحرب الأهليَّة، لم تُسرَق ولم تُغدَر، إنها بيد أهلها وناسها، وأي محاولة لوصفها بـ"ثورة مسروقة" محاولة لسرقتها فعلاً.

اقرأ المزيد
١ ديسمبر ٢٠١٤
مصير بشار في الحقبة الإيرانية

جعل حافظ الأسد من سورية بلداً على صورته، كئيبة وانطوائية وسرية وقاتلة، وحاول وريثه أن يجعلها على صورته هو الآخر، لكن هوسه وتذاكيه وعدوانيته الصبـيانية، لم يكن من السهل إسباغها على سورية بسرعة، وحين تفجرت الثورة السورية، هرع الصبي إلى البيت واحتمى بصورة أبيه مجدداً. لكن يبدو أن آل الأسد لم يكفهم أنهم شوهوا البلد على مدى عقود لتطابق صورتهم، بل يصرون على جرها معهم إلى مصيرهم المحتوم، وهو الزوال.

كانت المعادلة واضحة منذ انطلاقة الثورة، فقد تواجه النداء السوري «يالله ارحل يا بشار» مع شعار زبانيته «الأسد أو نحرق البلد»، فالنظام الذي كان يفتقد أي نوع من أنواع الشرعية سواء الدستورية أو السياسية أو الأخلاقية، لم يكن أمام أوليغارشيته الأمنية والسياسية سوى قشة واحدة تنقذهم من الغرق، هي «الرئيس المنتخب»، ولقنوا هذا العنوان لقواعدهم الشعبية، مع أدلة تخبرهم بأن زوال هذا الغطاء يعني فناءهم، خاصة لناحية تضخيم البعد الطائفي للثورة، الأمر الذي دفع تلك القواعد سريعة الامتثال لترداد عبارة «فدا صرماية الرئيس» في جنازات قتلى الحرب على بقية السوريين، كأنها تعويذة يدفع بها خطر أفظع وأعظم.

لقد التقطت إيران خوف آل الاسد منذ اللحظة الأولى، ولم تطمئنهم كلياً، بل اقترحت العمل في الخطوط الخلفية لمؤازرة النظام، وتوغلت في عمق اللحم الحي للطائفة العلوية، في جبهات القتال وفي المجتمع الذي شرعت لهم أبوابه على أوسع نطاق، وتوسط النشاط الإيراني بين الرئيس وطائفته وفصلهما بالتدريج، ليسحب في النهاية البساط من تحت قدمي بشار الأسد، كحامٍ للطائفة العلوية، ولتفرض نفسها مع «حزب الله» بوصفهما الحاميين للعلويين ولآل الاسد معاً، ولتبدأ بتكسير أجنحة وأذرع تلك العائلة، وتحجيمها لمصلحة الطائفة كما تزعم، مع الإبقاء على شخص بشار كواجهة هشة وهزيلة، ويمكن الاستغناء عنها بسهولة. وحادثة عزل حافظ مخلوف، المسؤول الامني عن دمشق، وابن خال الرئيس، بأمر من إيران، ورحيله من دون ضجيج إلى روسيا، لن تكون الحادثة الاولى في هذا السياق، كما أن إباحة دمشق لاحتفالات عاشوراء على طريقة الملالي، لن تكون المظهر الأخير لهيمنة إيران على ما يقع أسفل قصر «الرئيس»، المعزول في قمة قاسيون.

ومع أن روسيا تشارك إيران نغمة الرئيس الذي انتخبه السوريون، وتكررها مثلها بلا ملل، إلا أن النظامين يخوضان خفية صراعاً عليه، ليس لكسب وده، وانما لبيعه في الوقت المناسب، ولهذا السبب تولت قوة خاصة إيرانية، مسألة تأمين بشار، وحمايته من روسيا قبل أي جهة أخرى.

لا دولة تستثمر في «شخص» يمكن أن تزهق روحه لأوهى الأسباب، أياً يكن هذا الشخص، ولا يمكن أن يتصور المرء أن تنفق إيران ما يزيد على عشرة مليارات دولار على مشروع النفوذ في سورية، وتجعله مرتبطاً ببشار الأسد فقط، كما أنها لن تكون من الغباء بحيث تصنع زعيماً جديداً يعود في لحظة ما لمناكفتها أو منازعتها مستقوياً بالطائفة أو بالعرب، بل أنها ستصنع على الأغلب أتباعاً من حجم نصر الله والحوثي والمالكي وعلى شاكلتهم، أي زعامات دينية مليشياوية متوسطة الحجم، ومعتمدة عليها كلياً، وتستطيع أن تستخدمهم في مهمات تكتيكية، وتناور بهم تغييراً وتقديماً وتأخيراً كلما دعت الحاجة.

أما بشار الأسد، المليء بأوهام الزعامة، الموروثة عن عهد أبيه، فإنه سيموت عاجلاً أم آجلاً، وإيران لن تنتظر تلك اللحظة لتبيعه، فما من أحد سيرغب بشراء جثة، بل ستبيعه حياً، وتخرجه ليس من المشهد وحسب، بل من وجدان وخيال العلويين، باعتباره رمزاً لقوتهم واستقلالهم، وربما انتمائهم للتاريخ السوري، وتفسح الطريق للرعيل الأول من أتباع الولي الفقيه وخدم مشروعه الامبراطوري، والذين سيتوجب عليهم التعامل مع حقبة الأسدين باعتبارها جاهلية ما، يجب ان تمحى من ذاكرة الجماعة.

اقرأ المزيد
١ ديسمبر ٢٠١٤
التمديد للأسد وللحرب على «داعش» ... بعد النووي

التمديد للمفاوضات النووية هو تمديد لأزمات المنطقة أيضاً. المفاوضون حرصوا باستمرار على تأكيد الفصل بين برنامج إيران وهذه الأزمات. لكن الأحداث في المنطقة كانت ولا تزال تشي بخلاف ذلك. تبدو الخطوات هنا وهناك مترابطة تسير في خطين متوازيين لا يتقدم أحدهما على الآخر. كل شيء مؤجل أو معلق بانتظار الاتفاق بين الجمهورية الإسلامية والدول الخمس الكبرى والمانيا، خصوصاً بينها وبين الولايات المتحدة. لذلك لن ترى أفكار المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا النور قريباً. تجميد القتال في حلب أوغيرها سيظل مجال أخذ ورد وسط اقتناع شبه تام بأنه عصي على التطبيق. والأفكار الروسية لن يكون مصيرها أفضل. فالسعي إلى إحياء عملية جنيف أو الانتقال بالعملية السياسية إلى موسكو لم تلق حتى الآن قبولاً لدى دمشق... فكيف بالمقاتلين في الداخل. أما الغارت الجوية على «الدولة الإسلامية»، خصوصاً في سورية فلم تحقق هي الأخرى شيئاً يذكر على الأرض. وسيظل موقف تركيا على حاله من التحالف الدولي - العربي. وحتى دعوة الرئيس باراك أوباما أعضاء إدارته إلى إعادة النظر في خياراته السورية جاءت حدثاً عابراً... إلى حين.

لا شيء تغير ولا يبدو أن سياسة الرئيس أوباما ستتغير حيال الحرب القائمة على الإرهاب أو حيال مستقبل النظام في سورية. وإلا لما كان وزير دفاعه تشاك هيغل استقال أو أقيل، لا فرق. لذا لا يستبعد أن تراوح حملة التحالف الدولي - العربي على «داعش» و»جبهة النصرة» مكانها إن لم تفشل حالها حال الحرب الطويلة على الإرهاب من أيام الرئيس بوش الإبن. وستبقى العملية السياسية في بغداد تسير ببطء في مواجهة عقبات وصعوبات لا تقل عما يواجه الاتفاق النووي. كل هذه التحركات السياسية منها والعسكرية تبدو كأنها لعب في الوقت الضائع. أو سعي إلى تحسين المواقع بانتظار ما ستستفر عنه المفاوضات في الملف النووي وما سيتركه من تداعيات على المنطقة وفي الداخل الأميركي والإيراني أيضاً. مرحلة ما بعد الاتفاق، إذا أبرم في الشهور المقبلة، لن تقل صعوبة عما بعدها. الجمهوريون إذا لم يطمئنوا إلى طي صفحة البرنامج النووي الإيراني نهائيا يملكون من أدوات الضغط والقدرة على مزيد من العقوبات ما يسمح لخصوم الرئيس حسن روحاني المتشددين بإطاحة الاتفاق والتنصل من أي التزامات. وهم بدأوا بمساءلة وزير الخارجية جواد ظريف. أما فشل المفاوضات نهائياً بعد سبعة أشهر فسيصب مزيداً من النار على الأزمات المشتعلة في الإقليم كله إذا لم يتجاوز المتصارعون قواعد اللعبة إلى حرب واسعة ومفتوحة.

ليس سراً أن الإدارة الأميركية تركز على اولويتين لا ثالث لهما في هذه المرحلة: التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، ومحاولة احتواء «دولة الخلافة» في العراق ومنع تمددها تمهيداً للقضاء عليها إذا أمكن. تريد الحفاظ على مصالحها في هذا البلد النفطي، وتحرص تالياً على عدم اندلاع حرب مذهبية تدفع الجمهورية الإسلامية إلى كل ساحات نفوذها في المنطقة فتقع المواجهة الإقليمية الكبرى المحظورة. وبات واضحاً أن خطواتها في هذين الميدانين مترابطة باحكام. وهو ما يعطي الانطباع بأن حملة التحالف على «داعش» لم تحقق حتى الآن نجاحات كبيرة. وقبل أيام نشرت «واشنطن بوست» مقارنة ذات دلالة: شنت القوات الأميركية في أفغانستان خلال 75 يوماً (من 7 اكتوبر إلى 23 ديسمبر 2001) 6500 غارة وأسقطت 17500 قذيفة. وشنت في العراق وسورية خلال 76 يوماً (من 8 أغسطس إلى 23 اكتوبر الماضيين) 632 غارة وأسقطت 1700 قذيفة!

الأرقام وحدها تشرح. المقارنة تشي بوضوح لماذا لا تزال قوات «داعش» في كوباني على رغم الحملة الجوية لتحالف عريض منذ نحو شهرين. لئلا نتحدث عن سير المعارك في العراق، وكم ستطول معركة تحرير الموصل مثلاً. حتى الآن عاد الأميركيون إلى بغداد. فرضوا إزاحة نوري المالكي. وهم لا يزالون يمارسون دورهم في إعادة إحياء العملية السياسية، وإعادة تصحيح هياكل النظام وإشراك كل المكونات السياسية والطائفية، بما يخفف من ثقل اليد الإيرانية. ويهدىء من مخاوف دول الجوار التي تعترض على طغيان هذه اليد في عدد من العواصم العربية. ولم يكن سراً أن الحرب الأميركية على «داعش» تأخرت بانتظار رحيل زعيم «دولة القانون» وقيام حكومة جامعة. لذا يبدو أن رفع وتيرة الحملة على «دولة الخلافة» رهن بتقدم العملية السياسية في بغداد، ومدى استجابتها مطالب العشائر وأهل السنة عموماً. ولم تجد طهران مفراً من التعاون والتفاهم مع واشنطن لمواجهة «الدولة الإسلامية». لكنها في المقابل أطلقت يد الميليشيات الشيعية الموالية لعلها «تستعيد» ما خسرته أمام تقدم «داعش». وتنظر بحذر إلى إعادة ربط الخيوط بين بغداد وعواصم الجوار.

وليس سراً أيضاً أن الإدارة الأميركية لا تضع في رأس أولوياتها إطاحة الرئيس بشار الأسد في هذه المرحلة. تحييد الغارات الجوية للتحالف قواته النظامية ليس مرده الخوف من ردة فعل إيران والميليشيات الشيعية في العراق فحسب. فقد لا يطول الوقت الذي ستجد طهران نفسها مرغمة على اعتماد «النموذج» العراقي في سورية. أي البحث عن بديل من الرئيس الأسد من أجل الحفاظ على ما يبقى من النظام من أجل الحفاظ على مصالحها في هذا البلد. والغرب ليس بعيداً عن حل كهذا بل يسعى إليه منذ اندلاع الأزمة قبل أربع سنوات. لذلك لم ير ضيراً في الأفكار التي يطرحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا فهي تعفيه من الضغوط من أجل تفعيل حملته على «داعش» والسعي إلى ترحيل الأسد معاً. الكل يعرف أن هذه الأفكار لا ترقى إلى طرح حلول جذرية. بل إن الحقائق على الأرض لا توفر عناصر النجاح حتى لحلول جزئية.

إن تجميد القتال في حلب مثلاً، كما يقترح دي ميستورا، يبدو مستحيلاً ما لم يسبقه تعديل ميزان القوى في شمال البلاد لمصلحة «الجيش الحر» والفصائل المعتدلة. غير ذلك يعني منح قوات النظام فرصة لحسم المعركة في هذه المنطقة لمصلحته. ذلك أن حضوره هناك لا يزال فاعلاً. وهو يقتسم المدينة مع أطياف المعارضة. ولا ينسى الذين عملوا على فك الحصار عن مناطق في حمص وغيرها عبر اتفاقات لوقف النار أن النظام حول هذه الاتفاقات استسلاماً لخصومه الذين لم يكن أمامهم مفر من الرضوخ أمام معاناة المدنيين المحاصرين والمهددين بالموت قتلاً أو جوعاً. إلى ذلك سيجد البمعوث الدولي نفسه أمام حتمية التفاوض مع الفصائل المتشددة من «النصرة» إلى «أنصار الدين» و»أحرار الشام» التي طاولتها غارات التحالف ولوائح الإرهاب! ولن تكون هذه وحدها عائقاً أمام أي اتفاق مع النظام، إذ لا يمكن أي قوة سياسية في الداخل أو الخارج، كالائتلاف مثلاً، أن تنوب في هذا المجال عن قوى الداخل التي تصارع النظام.

من مصلحة النظام أن يرحب بأفكار المبعوث الدولي، أو على الأقل بشقها الخاص بتجميد القتال. سيعزز مواقعه، ويركز على ضرب الفصائل المعارضة. وهذا ما يفعله اليوم. أما الخصوم المتشددون فيتكفل بهم التحالف الدولي - العربي. وهذا ما يفاقم شعور شرائح واسعة من الفصائل العسكرية المعارضة بأن الغارات الجوية للتحالف على «داعش» و»النصرة» تعزز مواقع دمشق التي أفادت من تحييد النظام ومواقعه في ضوء التفاهم الأميركي - الإيراني. وهذا ما يجعل قوى كثيرة على الأرض تبدي على الأقل تعاطفاً مع «النصرة» التي كانت ساهمت في مواجهة «الدولة الإسلامية» في ريف حلب ونسقت في معارك كثيرة مع «الجيش الحر». والآمال ضئيلة بأن تثمر الخطة الأميركية لتدريب عناصر من هذا الجيش وتسليحها. فالوقت الذي تستغرقه هذه الخطة يتيح للنظام أن يوجه ضربات قاصمة إلى مواقع المعتدلين. فضلاً عن القوى الإسلامية التي باتت تنازعهم حضورهم في كثير من المواقع، خصوصاً في شمال البلاد.

لكن ما قد تعده دمشق وطهران مكاسب في المرحلة الآنية سيتحول تحدياً كبيراً. إن غياب أي خطة أميركية لتوجيه ضربات قاصمة إلى «داعش» في سورية، وترك النظام يجهز على ما بقي من فصائل معتدلة تقاتل على جبهتين، سيفضيان إلى تعزيز مواقع الإرهابيين والجهاديين والمتشددين. وسيشكل هذا أكبر خطر على النظام في دمشق الذي سيجد نفسه أمام خطر غير مسبوق، كما حصل في العراق تماماً. وهذا ما قد يدفع إيران إلى البحث عن مخرج. وقد لا تجد مهرباً من اعتماد النموذج العراقي. أي فتح صفحة البحث في مصير الأسد، انقاذاً لما يبقى من النظام ولمصالحها في سورية، وتخفيفاً لأعباء تثقل اقتصادها، وحرصاً على مواصلة الحرب على القوى المتشددة التي تهدد حضورها ودورها في الإقليم.

وبقدر ما تبدي إيران ارتياحاً حتى الآن إلى حوارها مع أميركا وإلى نتائج الحملة الدولية على «الدولة الإسلامية»، تبدو موسكو في مزاج آخر. تدرك أنها ستكون الضحية الأولى لأي اتفاق نووي قد يمهد لعودة الجمهورية الإسلامية إلى موقعها القديم في الخريطة الغربية باباً إلى المياه الدافئة. وتنظر ربما بعين الحسد إلى تمدد هذه الجمهورية في الإقليم ما يعطيها أرجحية في أزماته وملفاته، هي الغائبة عن معظمها. وتخشى تطور مهمات التحالف إلى إسقاط الأسد وتقويض مصالحها في سورية. وهذا ما دفعها إلى إحياء اتصالاتها لعلها تعيد بعث دورها عبر بعث التسوية السياسية في جنيف أو موسكو. ولعلها تحد من خسائرها. لكنها لم تلق تجاوباً من النظام وتعرف سلفاً الموقف الواضح للمعارضة الحقيقية وليست الوهمية التي تريد أيضاً بعثها. وليست روسيا وحدها في هذا المركب. تركيا هي الأخرى يقلقها أي تفاهم بين إيران والغرب مثلما يقلقها الغموض والالتباس المرافقين لحملة التحالف. ولا يمكن أن تستكين وتكتفي بالمراقبة. إنها على الحدود المباشرة لسورية والعراق معاً. من هنا حملة الرئيس رجب طيب أردوغان على السياسة الأميركية وإصراره على وجوب إسقاط نظام الأسد.

إن أي تغيير جذري في سياسة اللاعبين في الإقليم سيظل رهناً بمستقبل المفاوضات النووية الممدة، سواء نجحت أوفشلت. وكل الأفكار تظل مؤجلة: أفكار دي ميستورا لانقاذ حلب، وأفكار موسكو لبعث العملية السياسية في سورية، ومطالب تركيا لوضع مصير نظام الأسد على لائحة أهداف التحالف. والحرب على «داعش» ستحافظ على الوتيرة التي تشهدها كوباني. لذا ستطول هذه الحرب ويطول معها انتظار المنتظرين ربما... إلى أن يقضي أوباما ما بقي عليه في البيت الأبيض!

اقرأ المزيد
٣٠ نوفمبر ٢٠١٤
ماذا يريد تشاك هيغل

في كلّ ما يصدر عنه من تصريحات، يتكّلم تشاك هيغل بواقعية مخيفة تجعل منه طائرا يغرّد خارج سربه. يسمح لنفسه بما لا يستطيع أن يسمح به لأنفسهم السياسيون الأميركيون الآخرون الذين يتطلّعون إلى منصب كبير. على سبيل المثال وليس الحصر، قال في العام 2006، بعدما انحازت إدارة جورج بوش الابن لإسرائيل بشكل مفضوح “أنا عضو في مجلس الشيوخ الأميركي ولست عضوا في مجلس الشيوخ الإسرائيلي”. فسّر تصريحه، بعد الحملة التي تعرّض لها وركّزت على معاداته للسامية، بأنّه يدافع عن مصالح الولايات المتحدة أوّلا، وهي مصالح تتجاوز العلاقة بإسرائيل.

قال في هذا المجال، من دون أن يرفّ له جفن ما يأتي: “إن مساءلة حكومتك ليست تصرّفا غير وطني. ما هو غير وطني يتمثّل في عدم مساءلة الحكومة”. وأضاف: “إنّ علاقتنا بإسرائيل علاقة خاصة وتاريخية.. لكنّ هناك حاجة إلى أن لا تكون هذه العلاقة على حساب علاقاتنا مع العرب والمسلمين، ويجب أن لا تكون كذلك. هذا خيار غير مسؤول وخطير في الوقت ذاته”. أراد القول بكل بساطة إن الخيار بين اسرائيل من جهة والعرب والمسلمين من جهة أخرى مرفوض بالنسبة إليه، كما لا يمكن أن يكون خيارا أميركيا.

تكمن أهمّية هيغل في أنّ ليس في استطاعة أيّ أميركي المزايدة عليه وطنيا. شارك في حرب فيتنام في العامين 1967 و1968 وخرج من الحرب وعلى صدره مجموعة من الأوسمة الرفيعة التي كانت بمثابة تقدير لشجاعته وجرأته وتضحياته. كان الأميركي الوحيد الذي شارك في تلك الحرب وإلى جانبه شقيقه. كان في الوحدة نفسها مع شقيقه. أنقذ حياة شقيقه مرّات عدة وأنقذ شقيقه حياته مرّات عدّة أيضا.

تجربة الحرب قد تكون دفعته إلى أن يكون، هو الجمهوري، طوال اثنين وعشرين شهرا وزيرا للدفاع في إدارة ديموقراطية برئاسة باراك أوباما. نادت هذه الإدارة، منذ ما قبل وصول الرئيس الأسود إلى البيت الأبيض، بضرورة “التغيير”.
     

كان هيغل يحلم أيضا بالتغيير بعدما بدأ يوجّه انتقادات حادة إلى مغامرة بوش الابن في العراق. فمنذ صيف العام 2005، قال السناتور هيغل، الذي بقي في مجلس الشيوخ بين 1997 و2009، إنّه بات في الإمكان “المقارنة” بين حربي العراق وفيتنام. دعا في السنة 2006 إلى انسحاب عسكري أميركي مبرمج، أي على مراحل، من العراق.

يبدو أنّ حرب العراق كانت وراء قراره القاضي بالسير خلف شعار “التغيير” الذي رفعه باراك أوباما عنوانا لحملته الانتخابية الناجحة.

من الواضح أنّ العراق أثّر على نحو عميق في السناتور الأميركي الذي رفض مهادنة إدارة بوش الابن، على الرغم من انتمائه إلى الحزب الجمهوري، حزب بوش الابن.

في كتابه الذي صدر في العام 2008 وعنوانه “أميركا: الفصل الآتي، أسئلة قاسية وأجوبة مباشرة”، وصف حرب أميركا على العراق بأنّها بين أكبر خمسة أخطاء تاريخية ارتكبتها الولايات المتحدة. ذهب إلى حدّ القول إنّ السياسة الخارجية لإدارة بوش الابن هي بمثابة “لعبة كرة طاولة (بينغ بونغ) بأرواح أميركية”.

أمضى تشاك هيغل اثنتي عشر سنة في الكونغرس ممثلا لولاية نبراسكا. كان متابعا دقيقا لقضايا الشرق الأوسط. كان بين حمائم الحزب الجمهوري. دعا باكرا إلى التفاوض مع إيران. دعا حتّى إلى فتح حوار مع “حماس”. بدا ساذجا في أحيان كثيرة. لكنّ أهمّيته تكمن في أنّه كان قادرا على تطوير مواقفه بعيدا عن الديماغوجية وصولا إلى مرحلة صار يُعتبر فيها حكيما من حكماء واشنطن. ظهر ذلك خصوصا عندما أصبح، في عهد أوباما، أحد رئيسي اللجنة الجمهورية ـ الديموقراطية المكلفة بمراقبة أجهزة الاستخبارات الأميركية منعا لأي تجاوزات.

استطاع هيغل مع مرور الوقت تشخيص الوضع في الشرق الأوسط. اكتشف أن تعقيدات المنطقة ليست بالبساطة التي يتخيّلها أوباما والفريق الصغير المحيط به. ربّما كان ذلك عائدا إلى أنّه يتعاطى في إطار “أتلانتيك كونسيل” (أحد أهمّ مراكز الأبحاث والدراسات في واشنطن) مع شخصيات مهمّة تمتلك خبرة طويلة وعميقة واستثنائية في شؤون الشرق الأوسط مثل الجنرال برنت سكاوكروفت مستشار الأمن القومي في عهد جورج بوش الأب.

تطوّر فكر وزير الدفاع الأميركي المستقيل، أو المُقال، إلى درجة بات يطرح أسئلة أساسية من نوع “كم بيننا من يعرف العراق أو يفهم شيئا عنه، أي عن البلد وتاريخه وشعبه ودوره في العالم العربي؟ إني أتعاطى مع مسألة العراق في مرحلة ما بعد صدّام حسين ومع مستقبل الديمقراطية والاستقرار في الشرق الأوسط ببالغ الحذر والواقعية وبمزيد من التواضع″.

اكتشف أنّ إدارة أوباما لا تمتلك شيئا من التواضع والحذر والواقعية عندما يتعلّق الأمر بالعراق والشرق الأوسط وحتّى أوكرانيا حيث كان يدعو إلى موقف متشدّد من روسيا يؤكد التحالف الأميركي ـ الأوروبي من جهة ومن أجل ممارسة ضغوط حقيقية عليها تسهّل التخلص من النظام السوري من جهة أخرى.

كانت فضيحة عدم الردّ على استخدام النظام السوري السلاح الكيميائي بشكل مفضوح صيف العام 2013، فضيحة مدوّية. ابتلع وزير الدفاع الإهانة المتمثّلة في اتخاذ أوباما قرارا بعدم الردّ على تجاوز النظام السوري “الخط الأحمر” الذي تحدّث عنه الرئيس الأميركي غير مرّة.

اكتشف أن القرار الأميركي في مكان آخر، أي في الحلقة الضيقة المحيطة بأوباما والتي تضمّ الرئيس نفسه وكبير موظّفي البيت الأبيض دنيس ماكدونو ومستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي سوزان رايس وبعض المساعدين الصغار في السنّ. كذلك، يمكن أن يكون هناك تأثير كبير على أوباما لفاليري جاريت، ذات الهوى الإيراني، وهي من مستشاريه ومن القربين منه ومن زوجته.

    لدى وزير الدفاع الأميركي شك في أن إدارة أوباما تستغل وجود "داعش" لتوجيه ضربات إلى هذا التنظيم الإرهابي بما يصب في مصلحة النظام السوري

في كلّ الأحوال، لم يعد يتحمّل تشاك هيغل باراك أوباما الحائر. وصل إلى مرحلة بات يطرح فيها على نفسه سؤالا في غاية الأهمّية عن حقيقة موقف الإدارة الأميركية من نظام بشّار الأسد. في النهاية ماذا يريد باراك أوباما؟ هل لديه سياسة واضحة تجاه النظام السوري أم لا؟ هل هو مع رحيل بشّار الأسد أم أنه مع بقائه؟ في النهاية، لدى وزير الدفاع الأميركي شكّ في أن إدارة أوباما تستغلّ وجود “داعش” لتوجيه ضربات إلى هذا التنظيم الإرهابي بما يصبّ في مصلحة النظام السوري. هل هناك فارق بين النظام السوري و”داعش” أم أنّهما وجهان لعملة واحدة؟ ما الفارق بين ما ترتكبه “داعش” وبين ما يرتكبه النظام السوري في حقّ السوريين؟ ما الفارق بين الذبح الذي تمارسه “داعش” والبراميل المتفجّرة التي يلقيها النظام على السوريين؟

تعلّم هيغل ما يكفي عن الشرق الأوسط كي يدرك أنّ عليه ترك وزارة الدفاع. لذلك طرح في تشرين الأوّل ـ أكتوبر الماضي السؤال الواجب طرحه. هذا السؤال متعلق أوّلا وأخيرا بما إذا كانت الغارات الجوية الأميركية التي تستهدف “داعش” تصبّ في مصلحة بشّار الأسد الذي أكدّ باراك أوباما غير مرة أنّه لا يمكن أن يتصوّر بقاءه في السلطة.

يمكن اختزال موقف تشاك هيغل بأنه رجل واضح اصطدم بإدارة حائرة. فضلا عن ذلك، لا يمكن الاستخفاف بأن الرجل يطمح إلى الوصول إلى البيت الأبيض. وهذا يتجاوز الحسابات المتعلّقة بالشرق الأوسط.

يعرف هيغل قبل غيره أنّ الوصول إلى البيت الأبيض بات يتطلّب اليوم الابتعاد، أكثر ما يمكن، عن إدارة باراك أوباما وذلك في وقت بات مطروحا أن يكون جيب بوش، وهو شقيق جورج بوش الابن مرشّح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

كلّ ما في الأمر، أن حسابات تشاك هيغل باتت تختلف عن حسابات باراك أوباما. الابتعاد عن الرئيس الأميركي ورقة رابحة بكلّ المقاييس. لم يعد هناك من يستطيع السماح لنفسه بالارتباط بإدارة أميركية عاجزة حتّى عن اتخاذ موقف من رجل منته سياسيا اسمه بشّار الأسد.

لم يعد لدى تشاك هيغل ما يخسره. فالابتعاد عن إدارة أوباما صار ربحا صافيا له. أنقذ سمعته أوّلا وبات في موقع يسمح له بالمنافسة من أجل الحصول على البطاقة الجمهورية في انتخابات الرئاسة الأميركية ثانيا وأخيرا.

يقول المثل الفرنسي إنّ باريس تستأهل قداسا، بمعنى أن الوصول إلى باريس، بما كانت ترمز إليه من سلطة، يتطلّب حضور قدّاس. بالنسبة إلى تشاك هيغل، تبدو التضحية بموقع وزير الدفاع في إدارة أوباما أكثر من ضرورية، في حال كان يعتقد أنّ لديه مستقبلا سياسيا ما يطمح إليه كرئيس أو نائب للرئيس…

اقرأ المزيد
٣٠ نوفمبر ٢٠١٤
سوريا ولبنان بين 'سفر برلك' والتغريبة السورية


“التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة” عبارة قالها كارل ماركس وتنطبق نسبيا على ما يجري في سوريا تحديدا بعد قرن من الزمن.

إبان الحرب العالمية الأولى (كلمة “السفر برلك” تركية وتعني “الحرب الأولى”، أو النفير العام، وقيل أيضاً أن معناها الترحيل الجماعي) حصلت مجاعة في أجزاء من لبنان وسوريا، لكن ما يحصل في سوريا منذ ربيع 2011، تخطّى تلك المأساة بكثير مع العوز في الغذاء والماء والتدمير والحصار والتنكيل والموت الزؤام والتهجير وتغيير التركيبة السكانية.

كان القرن العشرين في العالم قرن الحروب، ولكنه كان أيضا قرن الإصلاحات والتحرر في أجزاء عديدة منه. وكان قرن الفشل العربي وتعثر مشاريع النهضة والاندماج الإقليمي. والأدهى أن القرن العشرين شهد كذلك وعد بلفور والتغريبة الفلسطينية والحروب المرتبطة بها والمتفرعة عنها وما نتج عنها من تغييرات في دول وكيانات كانت وليدة هذا القرن وكانت ضحية أحداثه في آن معاً.

ما لم يحققه شباب العرب والمشرق في القرن العشرين، حاولوا إنجازه على طريقتهم في نهاية العقد الأول من القرن الحالي مع حراك ما سمي “الربيع العربي” وتحولاته، وكان العام 2011 عام العرب بامتياز مع السعي لقيام محاولة نهضوية وتغييرية جديدة، لكن سرعان ما تحالفت صعوبات المخاض الداخلية وتحالف القوى الإقليمية والدولية الرافضة للتغيير، كي تسود الفوضى غير الخلاقة، وأبرز تجلياتها من سوريا إلى العراق وليبيا واليمن.

اليوم بعد مئة عام تعود أساليب “سفر برلك” وظروفها من جديد، ولكن ليست على يد جمال باشا أو هنري مكماهون، بل على أيدي النظام السوري وحلفائه، وتنظيم “داعش” والعصابات المنفلتة، بالإضافة إلى إسهام واشنطن ومن يصنفون أنفسهم في خانة أصدقاء الشعب السوري. قبل قرن من الآن، اقتصر الأمر في سوريا ولبنان على إعدامات للأحرار في ساحتي المرجة والشهداء وعلى مجاعة محدودة وعلى هجرة نحو الخارج… واليوم بلغ السيل الزبى على أراضي سوريا وأصبح القتل والتدمير والتطهير السكاني على أساس فئـوي منهجية معتمدة، وامتد الأمر إلى بلدان الجوار، ويبـدو لبنان الأكثـر تأثرا من الناحية الأمنية والسياسية والاقتصادية وتداعيات تدفق اللاجئين (مع مردوده على ما يسميه البعض الكيانية اللبنانية الهشة المستندة إلى التوازن المذهبي الديمغرافي خاصة إذا كان الإبعاد نهائيا بعد تكريس أوضاع جديدة في سوريا).

تتمثل “سفر برلك” الجديدة في المشرق ببركان سياسي مع كل ما تعنيه من تحالفات وتجاذبات ثقيلة بين محورين إقليميين ودوليين (أو داخل المحور الواحد كما نلمح حاليا بين واشنطن وأنقرة) سوف تحدد مستقبل سوريا ووحدة أراضيها أو تفككها أو علاقاتها بمحيطها.

ومن الناحية الإنسانية تبدو الصورة مروعة، إذ تسجل سوريا أكبر عدد للنازحين عالميا، وتبدو أرقام فاليري آموس، مسؤولة العمليات الإنسانية في الأمم المتحدة، (التي ستترك منصبها في مارس القادم بعد مهمة دامت أربع سنوات واشتكت فيها من البيروقراطية وشح الميزانيات) مخيفة ومعبرة: 12.2 مليونا سوريا في حاجة ماسة الآن إلى المساعدات. مع وجود 7.6 مليون نازح داخل الأراضي السورية و3.2 ملايين لجأوا إلى الدول المجاورة.

قبل قرن، كانت “السفر برلك” تعني الغياب بلا عودة للشباب المأخوذ قسرا إلى الحرب، وكذلك ما حصل مع الأرمن لاحقا، وكان شمال سوريا أبرز مراكز لجوء الناجين بعد الترحيل الجماعي العثماني.

هذا الجرح الغائر في الذاكرة الوطنية السورية سيكون محدودا بالقياس لخطوب المرحلة الحالية، وخاصة حجم التغريبة السورية في مخيمات اللجوء وأماكنه، أو على متن قوارب وسفن مغامرة لاجتياز البحار نحو عالم متحضر اندثر كل ما تحدث عنه من قيم على أرض بلاد الشام.

في خضم هذه المأساة التي سقط فيها قرابة 300 ألف قتيل ونصف مليون معتقل ومفقود ومليون بناء مهدم، يبرز السعي الحثيث للنظام السوري من أجل تغيير وجه سوريا وطبيعة تركيبتها السكانية في لعبة خطرة، لأن تقسيم سوريا أو إعادة النظر في الحدود يتناغم مع مشروع “الخلافة” العبثي ومشروع يهودية دولة إسرائيل، وسعي إيران وتركيا لتغليب مصالحهما العليا باسم رابطة التضامن الإسلامية، مما يعني في الإجمال إعلاء البعد الديني للصراعات في المشرق، مع ما يمكن أن ينتج عنه من حروب لها أول وليس لها آخر، وربما ستشبه حرب الثلاثين سنة في أوروبا مع ما جرّته من ويلات.

يتجرأ الباحث الأميركي جوشوا لانديس، مدير مركز أوكلاهوما لدراسات الشرق الأوسط، ويطرح تقسيم سوريا إلى جزئين: الجزء الأول إلى الشمال وهو دولة سنية فيها الميليشيات الإسلامية وداعش (تمتد من أطراف بغداد إلى حلب بسوريا وهذا يعني إسقاط الحدود)، وإلى الجنوب دولة لنظام بشار الأسد نواتها علوية.

يتوجب أن لا يؤخذ هذا الطرح (وأمثاله عن الفدرالية الواسعة أو المحميات أو الكانتونات) باستخفاف، ولا يُستبعد أن يكون التغيير السكاني القسري مقدمة لإعادة رسم كل خريطة الإقليم.

اقرأ المزيد
٣٠ نوفمبر ٢٠١٤
عن "الائتلاف" السوري... كواليس ملاحظات من رمادا بلازا في اسطنبول

لم يكن الذاهب إلى فندق رمادا بلازا في اسطنبول بحاجة إلى من يحدثه عن الانقسام في الائتلاف الوطني السوري، فهو يعلم أنه قديم ومتفاقم، وأن محاولات رأب صدوعه فشلت دوماً، بل إن إقامة تيار توافقي، أعلن عنه قبيل إجماع الهيئة العامة الأخير، انضوى في إطار هذه الانقسامات، فقد تبين، في أثناء الحوارات واللقاءات مع ممثليه، أنه من أكثر تيارات الائتلاف تشدداً وتصلباً، في النقطتين المتعلقتين بالحكومة والمجلس العسكري الأعلى ومن يمثلونه داخل الائتلاف، المتفرعتين عن مسألة سيحسمها أعضاؤه في نيف وشهر، تتعلق بمن سيختارونه لرئاسته، وهي قضية لم يطرحها أحد بصورة مباشرة وصريحة، لكنها كانت وراء كل ما شهده الفندق التركي، في ثلاثة أيام، من صراعات عبثية.
من أين تنبع أهمية المسائل المختلف عليها؟ لنبدأ بالحكومة: فقد كان تيار أحمد الجربا قد أقالها بصورة مهينة، بعد انتخاب المهندس هادي البحرة رئيساً للائتلاف بديلاً لسلفه الجربا: رئيسه في عام كامل، أوصل أوضاعه إلى قاع الحضيض، بينما برز موقعه الشخصي كأسدي صغير، يجر منتفعين وفاسدين داخل الائتلاف وخارجه. وكان معلوماً ومعلناً أن البحرة سيكون وجهاً انتقالياً، يمرر الوقت، ريثما يعود صاحب المنصب إليه والذي تعامل معه كملك شخصي له.
غير أن تبدلاً طاول موازين القوى داخل الائتلاف أعاد رئيس الحكومة، أحمد طعمه، إلى الوزارة من جديد، ورشح اللواء سليم إدريس لمنصب وزير الدفاع، فظهر هذان التطوران كهزيمة لتيار الجربا، تلاشت معها آماله في الرئاسة. بما أن أتباع من كان بعض ممثلي الأركان يسمونه بخشوع "السيد الرئيس" فقدوا، تحت رئاسة البحرة، تفويضهم بتمثيل أركان الجيش الحر، بعد موقف وطني جعل أعضاء المجلس العسكري ينتخبون بدلاء ميدانيين لهم، تنطبق عليهم مواصفات كان هادي قد حددها للأعضاء الجدد كالخبرة الوطنية، والسوية التعليمية المرتفعة، والتجربة النضالية، والتاريخ الثوري، والنزاهة الشخصية والأخلاقية... إلخ، وهي صفات لم تتوفر لمعظم ممثلي الأركان السابقين الذين اختارهم الجربا شخصياً، وانتزع  قراراً من اللواء إدريس بتعيينهم ممثلين للأركان في الائتلاف، على الرغم من أن المجلس العسكري اعترض على قراره، وقال إن اتخاذه لم يكن من صلاحياته. هؤلاء الأعضاء الجدد أعلنوا، بكلام لا لبس فيه، أنهم لا يؤيدون الجربا، ويرفضون عودته إلى رئاسة الائتلاف، فشن جماعته الحرب عليهم، وطرحوا مسألة المجلس والحكومة، لكي يتوصلوا إلى صفقة تعيد "سيدهم الرئيس" إلى موقعه.

" كان معلوماً ومعلناً أن البحرة سيكون وجهاً انتقالياً، يمرر الوقت، ريثما يعود صاحب المنصب إليه والذي تعامل معه كملك شخصي له "

في لقاء عقد في غرفة البحرة، قال الطرف الآخر ما معناه: إن ممثلي الأركان غير منتخبين. حين سألناه إن كان هو منتخباً، او إن كنا نحن، أيضاً، أو أي عضو في الائتلاف، منتخباً أو منتدباً أو مفوضاً من أي طرف داخلي، قال: إن ممثلي الأركان كتلة انتخابية، فسألناه إن كانت كتلته غير انتخابية، وما العيب أو الخطأ في أن تكون كتلة انتخابية؟ عندما قال إن رئيس الائتلاف قرر حل المجلس العسكري. لذلك يعتبر تعيين ممثلين للأركان بقرار منه غير شرعي، ذكّرناه بأن رئيس الائتلاف الذي كان حاضراً بيننا، ويستمع إلى حوارنا، قد اعترف في اجتماع الهيئة العامة الأخير بخطأ قراره حل المجلس، وأن اللجنة القانونية في الائتلاف أبطلت القرار، باعتباره صادراً عن غير ذي صفة، وأن ممثلي الأركان حضروا جلسة الهيئة الماضية، بناء على دعوة رسمية، وجهت إليهم من الأمين العام للائتلاف.

عند هذا الحد، أخرج محاورنا من جعبته المادة 31 من نظام الجيش الحر الأساسي، والذي يكلف الائتلاف بالعمل على تشكيل قيادة عسكرية عليا للثورة، بالتعاون مع القوى والمجالس العسكرية والتنظيمات الثورية، فقلنا: إن تشكيل القيادة الجديدة لن يتحقق باستبدال أشخاص المجلس بغيرهم، إن كانت المجموعة الجديدة ستكون كتلة جديدة في إطار الائتلاف، وإن علينا إنجاز التشكيل باعتباره جزءاً من إعادة هيكلة شاملة للجيش الحر وقيادته، تضع في قيادته مجلساً عسكرياً أعلى، منتخباً مباشرة من الأرض، من غير الجائز أن تكون سياسية أو متحزبة. وبالتالي، مع جماعة أو كتلة ضد أخرى، لكونهم يمثلون مؤسسة عسكرية غير سياسية، وليس من المصلحة الوطنية تحولهم إلى أداة سياسية، أو طرف سياسي، في يد أية جهة، أو أي تيار، بما في ذلك تيارنا الديمقراطي.
بعد لأي، وافق من كان يفاوضنا على هذا التصور، لكنه اشترط إقالة ممثلي الأركان في الائتلاف والمجلس العسكري، قبل البدء بتنفيذه. رفضنا طلبه، واقترحنا تشكيل لجنةٍ من خمسة أعضاء يمثلون كتل الائتلاف الخمس، (كتلة التجمع الوطني السوري، كتلة المجالس المحلية، كتلة الوفاق، كتلة الجربا، وكتلة الأركان)، على أن يعملوا بالتعاون مع رئيس الأركان، أو من يمثله، على إعادة هيكلة الجيش، وانتخاب أعضاء المجلس الجديد، وينجزوا عملهم خلال ثلاثة أسابيع، فإن نشب بينهم خلاف حول نقطةٍ ما حولوه إلى لجنة تحكيم، أو تمييز تبت فيه خلال أسبوع. عندئذٍ، طالب محاورنا باعتبار ممثلي الأركان والمجلس مقالين بنهاية الأسابيع الثلاثة، سواء اتفق أعضاء اللجنة على إعادة الهيكلة، أم لم يتفقوا، فرفضنا الطلب، لأن من غير المعقول إهانة الناس الذين سيتركون مواقعهم بصورة شرعية، بعد إعادة الهيكلة.
وللعلم، اقترح محاورنا اتخاذ قرارات اللجنة الخماسية بالإجماع، الأمر الذي يعني أن مندوبه سيعطل إعادة الهيكلة، لكي يحصل على ما يريده: حل المجلس العسكري، وإقالة ممثلي الأركان. كان الإصرار على إخراج ممثلي الجيش من الائتلاف قوياً، بدرجة تثير الاستغراب، وكان من الواضح أن المسألة تتعلق بما هو أكثر من إعادة الهيكلة، وأن الهدف هو قلب موازين القوى في الائتلاف بأي ثمن، لصالح الجربا.

" رئيس الائتلاف الذي كان حاضراً بيننا، ويستمع إلى حوارنا، قد اعترف في اجتماع الهيئة العامة الأخير بخطأ قراره حل المجلس "

للأمانة، لم يقل محاوري هذا، بل قاله رجل الجربا في القاهرة، قاسم الخطيب، الذي صرخ في لحظة غضب: نحن مختلفون على الرئاسة، فإن بقي ممثلو الأركان في مكانهم صار الرئيس منكم، واستحالت عودة رئيسنا إلى موقعه. هل تفسر صرخة قاسم إصرار من حاورني على إبعاد ممثلي الأركان وإلغاء المجلس العسكري الأعلى بأي ثمن؟ أرجو أن لا يكون الأمر كذلك!

بعد تدخل المهندس البحرة، رئيس الائتلاف، تمت صياغة اتفاق تفصيلي، حددنا فيه آليات إعادة الهيكلة، بالتعاون مع الأركان أو من يمثلها. ورشحنا خمسة أعضاء لهيئة التحكيم، أو التمييز، وحددنا الفترة الزمنية اللازمة لإنجاز العمل، وقررنا إبقاء كل شيء على حاله، بالنسبة لممثلي الأركان وأعضاء المجلس العسكري، على أن تنتهي مهامهم، في حال لم يقع الاختيار عليهم في المجلس الجديد، بعد ثلاثة أسابيع أو شهر.
انتقل ممثل كتلة التوافق إلى الحكومة، فاعترض على وجود وزير خارجية فيها، بحجة أن وجوده يضعف الائتلاف. قلنا إن الهيئة العامة هي التي قررت إيجاد الوزارة، وإن نظام الحكومة الداخلي ينص عليها بين وزاراتها. بعد قليل، غادرت الغرفة، لاعتقادي أن موضوع الحكومة ليس المشكلة، وأن المسألة الصعبة المتعلقة بممثلي الأركان والمجلس العسكري قد حلت. في الخارج، وبينما كان رئيس الائتلاف يوصلني إلى المصعد، أخبرني أنه يعترض على توزير اللواء سليم إدريس. وحين وصل المصعد إلى بهو الفندق، وجدت بانتظاري من يعترض على وزير العدل. بعد الظهر، أبلغني الدكتور صلاح درويش شكوكه حول وجود كتلة في الائتلاف تريد نسفه. سألته عن هويتها، فأجاب ضاحكاً: أنت تعرفها. سألت إن كان يقصد الجربا، فهز رأسه بالإيجاب.
في المساء، دعاني رئيس الائتلاف إلى غرفته، حيث قدم لي ورقة تحمل اقتراحاً من خمس نقاط، حمله إليه الدكتور بدر جاموس، يعد بتقديم دعم جماعي للحكومة، إذا ما وافقنا على تأجيل انتخاب الحكومة إلى الواحدة من بعد ظهر اليوم التالي، وأبدينا استعدادنا لدراسة أسماء المرشحين للوزارة، وقبلنا اعتراضات الفريق الآخر عليهم. بعد التذرع بالعسكر لتعطيل اجتماع الهيئة العامة الذي لم يحضره رئيس الائتلاف، أو أي عضو في مجلس رئاسته، جاء، الآن، دور الحكومة، لتكون مسوغ التعطيل والمقاطعة. في الورقة التي قدمها المهندس البحرة إلي، لفتت نظري نقطتان، زعمتا أنهما توردان ما اتفقنا عليه صباحاً حول ممثلي الأركان والمجلس العسكري الأعلى. قرأتهما، فأصابني الذهول والقرف: لقد حذفوا البند الأول المتعلق بالتعاون مع الأركان، من أجل إعادة هيكلة الجيش الحر، وانتخاب مجلس عسكري جديد، وصارت لجنة الائتلاف الخماسية سداسية (ليس فيها أي عسكري)، كما حذفت اسماء المحكمين الخمسة، وحلت محلهم لجنة من ستة أعضاء، برئاسة رئيس الائتلاف. سألت المهندس البحرة إن كان هذا ما اتفقنا عليه، فأبدى استهجانه للتزوير. كنت، الآن، على اقتناع بما أخبرني به الصديق الدكتور صلاح درويش، وهو أن هناك من يريد إلغاء الائتلاف، إذا لم يعد إلى حضن ذلك العقل التخريبي، وغير الوطني، الذي دمره وأسهم في إفساد الجيش الحر، ونقل خلافات السياسيين إليه، وعطّل الحكومة، ويريد، الآن، منع استعادة أية مؤسسة من مؤسساته بأي ثمن. ذلك ما كان بعض ممثلي هذا التيار يعلنونه بأعلى صوت، في بهو رمادا بلازا وممراته وقاعاته، حيث هدد واحد منهم بإسقاط سقف الفندق على رؤوسنا، إن بقي في الحكومة وزارة خارجية، أو جاء اللواء إدريس وزيراً للدفاع، أو وجدنا الجرأة على عقد اجتماع يمنح الحكومة الثقة اللازمة لاستئناف انطلاقتها، بحضور ممثلي الأركان، في حين أبلغ أحد الديمقراطيين أنس العبدة أننا سنتعرض، أفراداً وتنظيمات، لأقصى عقاب يمكن تخيّله، إن تمسكنا بممثلي الأركان والمجلس العسكري الأعلى ووزارة الخارجية واللواء إدريس.

" أبلغني الدكتور صلاح درويش شكوكه حول وجود كتلة في الائتلاف تريد نسفه "

لم يحضر رئيس الائتلاف أية جلسة من جلساته، مع أنه هو الذي دعا إليها، والتزم بالكتلة الصغيرة التي ينتمي إليها، على الرغم من لفت نظره إلى أنه رئيسنا جميعاً، وليس رئيس فريق صغير منا، وأن واجبه والنظام الأساسي يحتمان حضوره جلسات الهيئة العامة، والتوفيق بين المختلفين. لكنه رفض ما قيل له، بحجة أنه وسيط، يريد أن تخرج الهيئة العامة بالنتائج المطلوبة، وأصدر، في النهاية، قراراً يلغي ما تم إنجازه من عمل في الهيئة العامة بصدد الحكومة، بعد أن ألغت مذكرة بدر جاموس ما تم إقراره بصدد المجلس الأعلى والاركان!
لو استجابت أغلبية الائتلاف لرغبات الأقلية، لكنا الآن من دون مجلس عسكري أعلى وممثلين للجيش الحر، ومن دون حكومة وائتلاف!

اقرأ المزيد
٣٠ نوفمبر ٢٠١٤
دائرة الهلاك... إما «داعش» وإما الاستبداد!

هل يمكن التعايش مع ما يسمى تنظيم «الدولة الإسلامية»، والتعامل معها وتبادل مبعوثين وتطوير علاقات طبيعية معها؟ حتى لو كان هناك من هو مستعد لذلك بيننا، فإن «داعش» ترفض ذلك وبشدة، إنها ترفض كل ما حولها من أنظمة دولية وحدود وقوانين. العلاقة بينها وبين غيرها علاقة حرب لا تتوقف إلا بانتصار ما تعتقد أنه إسلامها الصحيح.

إنها فكرة خام، ترفض القانون الدولي الذي يحكم علاقات العالم بعضه ببعض، اقتصاداً كان أم سياسة، ناهيك عن الاتفاقات التي تنظّم حقوق الإنسان وحرية المعتقد، فهذه وما حولها من المكتسبات الحضارية الإنسانية التي قَبِلها فقهاء المسلمين المعاصرين خلال أعوام النهضة «النسبية» أوائل القرن الماضي، تراها «كفراً خالصاً وردة ما بعدها ردة». إنها تعيدنا - المسلمين - إلى ما قبل المربع صفر، فترفض حتى ما انتهى إليه فقهاء المسلمين الأوائل في ضبط العلاقة مع الآخر مسلماً كان أم كافراً، وتنتقي من فقههم ما يقسّم العالم إلى فسطاطين لا ثالث بينهما، فسطاط كفر وفسطاط إيمان.

دولياً، هي من عهد ما قبل «اتفاق وستفاليا» (1648 ميلادية)، الذي أسس لمفهوم الدول الحديثة ذات الحدود المعتبرة، إذ تمارس كل دولة حقوقها داخل إقليمها، ثم تنظم علاقاتها مع جيرانها في إطار حسن الجوار وعدم الاعتداء. بل إنها ترفض حتى آخر خلافة إسلامية (الدولة العثمانية) وأنظمتها وبروتوكولاتها، وتراها دولة كافرة على رغم كل إنجازاتها ورفع راية الإسلام وتحكيم الشريعة. يكفي أن تعرض عليها بعضاً من نواقضها للإسلام، وستكون كافرة هي وسلاطينها وجندهم ومن أعانهم.

وبالتالي كلنا كفار من حولها، بجامعتنا العربية، وحدودنا ودساتيرنا، خصوصاً الممارسين منا للديموقراطية، الكفر الأكبر المخرج من الملة، والمتعدية على حاكمية الله والمتحدية لشريعته، فهؤلاء خاصةً الكفر وأهله، أما بلاد كالسعودية وبعض دول الخليج التي نجت من «فتنة العصر» فهؤلاء كفرة بناقض «الإعانة الظاهرة»، إذ تحالفوا مع كفار أصليين باتفاقات دفاع وتسلح وتدريب، لا بل اشتركوا معهم في قتال المسلمين، والمسلمون هنا هي «الدولة الإسلامية» فقط.

ثمة ناقض لإسلام كل من حولها ما لم يسمع ويطع «الخليفة» وشرعته، حتى الجماعات الإسلامية التي قبلت بالديموقراطية وشاركت في انتخابات نالها حكم مخفف في البداية «هي جماعات بدعية نبرأ إلى الله من فعلها»، ثم وجب قتالها بعدما خرجت على صف الجماعة، ورفضت الانصياع لحكم «الخليفة» الذي ظهر وقامت عليها الحجة.

أما داخلياً، وفي إطار «دولتها» المزعومة فإنها لا تقلّ تشدداً، فهي وإن خرجت على استبداد ساد العالم العربي، فإنها تمارس الاستبداد نفسه، فلا يملك رعاياها حق الاختيار، لا اختيار خليفتهم (معرضين بذلك حتى عن سيرة الخلفاء الراشدين الذين صعدوا للحكم بتوافق مجتمعي)، ولا اختيار نظامهم، ذلك أنها ترى أنها هي ذاتها ملزمة بالشريعة التي هي أمر رباني لا مجال للبشر في اختياره أو رفضه، ولكن «شريعتهم» ضيقة يزعمون أنها فعل السلف الصالح، بينما هي في الحقيقة اجتهاد بشر اختار من فعل السلف والأحاديث ما يوافق فهمه، فشكّل به تياراً يضرب عرض الحائط بالشريعة الإسلامية الثرية بتنوعها ومذاهبها التي تشكّلت عبر قرون باجتهاد أئمة وفقهاء وعلماء، فكانت قادرة على الاستجابة لمتطلبات حضارة إسلامية انتشرت فوق ثلاث قارات وضمت أقواماً وأعراقاً وأدياناً ومذاهب شتى، إنهم مثل من يدخل مكتبة عامرة، فيقفون أمام رف صغير منها ويقولون العلم هنا وما غيره لغو وباطل.

دولة كهذه، وفقه كذاك يستحيل أن يتعايش العالم معهما، إنها مشروع للتصادم مع القريب والبعيد، ومواجهتها والانتصار عليها لن يتم بمجرد غارات يقوم بها تحالف دولي بعد منتصف الليل ضد أهداف مادية محددة، إنه صراع حضاري بين عالم متحضر ويسعى لمزيد من الارتقاء في إطار يقبل التنوع ويشجعه، وفكرة متخلفة تشوّه الإسلام وتلغي حضارته الثرية قولاً وفعلاً بهدم وتدمير آثاره وتاريخه في رمزية واضحة لفكرها المتخلف، وتريد إلغاء كل الجسور التي بنيت بينه وبين العالم من حوله. إننا أمام صراع طويل وأعوام حالكة، إن لم نبادر إليها فستبادر هي إلينا، وما لم نغزُهم فسيغزوننا هم، إن لم يكن غزواً مباشراً عبر الصحارى والبراري، ولا أحسبهم قادرين على ذلك، فسيغزوننا من الداخل، فثمة من هم بيننا من المنجذبين إلى أفكارهم، فانطووا تحت جناحهم. وآخرون يقفون على الأعراف سنداً وعضداً، يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى، إنها حال تخصنا نحن - السعوديين - دون غيرنا من المسلمين، لأسباب يعلمها كل فطن ونتردد منذ عقود في حسمها والتحرر من ضيق ذلك الرف الصغير إلى سعة المكتبة الهائلة.

المعركة ليست بين إسلام وحداثة، وليست بين دولة دينية ومدنية، كما تريد «داعش» أن تصور الصراع الجاري، يساندها في ذلك «دواعش» ليبراليون يفضلون حداثة كاذبة على حرية يزدهر فيها الإسلام والمدنية والحداثة معاً. المعركة يجب أن تكون مع الاستبداد الذي جعل فكرة «داعش» ممكنة. المعركة مع «داعش» يجب أن تكون لأجل الحرية لا لأجل القضاء على «داعش». سنقضي عليها في الغالب، ولكن ما لم نداوِ أسبابها فستعود، ولكن قاتل الله السياسة والخوف والكراهية والحرص على الغنيمة، الذي ضيّق علينا اختياراتنا حتى لم نعد نستبين الحق من الباطل والخطأ من الصواب، فانتهينا إلى دائرة مهلكة، إما «داعش» وإما الاستبداد ومعهما الخراب.

اقرأ المزيد
٣٠ نوفمبر ٢٠١٤
لعلها الفرصة الأخيرة!

تجتاح الائتلاف الوطني السوري أزمة عميقة متعددة الأبعاد؛ بعدها الأول، يتصل ببنية الائتلاف من حيث النصوص التي تحكمه، وطبيعة العضوية فيه، والبعد الثاني يتصل بطبيعة وواقع المعارضة السورية، التي يضم الائتلاف طيفا واسعا من تنظيماتها ومن الشخصيات المستقلة فيها، والبعد الثالث يتعلق بنتائج السياسات المحلية والإقليمية والدولية، التي تحيط بالقضية السورية، وتجعلها في مدار استمرار الأزمة، أكثر مما تدفعها في طريق المعالجة وصولا إلى حل يخرج بسوريا والسوريين إلى واقع جديد.

وإذا كانت أسباب الأزمة في الائتلاف ليست جديدة، وقد كررت أزمات متواصلة فيه منذ تأسيسه قبل عامين، فإن الجديد الذي فجر الأزمة الحالية، إنما هو تفاعلات تلك الأسباب وعجز الائتلاف عن معالجتها بصورة جوهرية أو تمريرها، حيث كانت الجهود في كل الأزمات السابقة، تركز على إيجاد مخارج وقتية للأزمة، فيتم التوصل إلى حلول ومعالجات، تؤدي إلى خروج مؤقت من أزمة، ما تلبث أن تبدأ في خلق أزمة تحتاج إلى معالجة، مما جعل الائتلاف بؤرة أزمات، يخرج من واحدة ليبدأ الدخول في واحدة أخرى.

ولأن أزمات الائتلاف عميقة ومتعددة الأبعاد، فقد كان من الطبيعي، أن لا تشمل الأزمات وتعبيراتها البنية التنظيمية للائتلاف وتوجهاته السياسية وعلاقاته الداخلية والخارجية فقط، بل امتدادها إلى مؤسساته الثلاث: الحكومة السورية المؤقتة ووحدة تنسيق الدعم والمجلس العسكري الأعلى، والتي تفاقمت أوضاعها على نحو خاص في الأشهر القليلة الماضية، مما جعلها عناوين بارزة في أزمة الائتلاف، ومركزا تدور حوله اختلافات الائتلاف الوطني.

والحقيقة فإن هذه المؤسسات عانت دائما – كما هو حال الائتلاف - وخاصة في الفترة الأخيرة من مشكلات كثيرة، أبرزها انسداد الأفق السياسي للقضية السورية، حيث لا حلول ولا مبادرات لمعالجة القضية، مع تهميش دولي وإقليمي للائتلاف في وقت يستمر فيه النظام بسياسة القتل والتهجير والتدمير، ويستمر التطرف والإرهاب بالتمدد في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وينحسر نفوذ ووجود التشكيلات العسكرية المعتدلة المنخرطة تحت اسم الجيش الحر، ويضيق الحيز الممكن لحركة الحكومة السورية المؤقتة ووحدة تنسيق الدعم، وتزداد الأعباء عليهما في الإغاثة بكل مجالاتها، وتتوقف المساعدات أو تتقلص بما فيها مساعدات الأمم المتحدة، التي انخفضت بنسبة أربعين في المائة في وقت كان من المطلوب أن تتضاعف على الأقل.

لقد تسببت التطورات السابقة بارتباكات جديدة، زادت الارتباكات الأساسية في الائتلاف الوطني، ودفعت القوى والشخصيات المنخرطة فيه إلى تجاذبات، تسعى إلى حلول ومعالجات، لم تراعِ ضرورة الوحدة والتضامن والتكافل، فانطلقت في اتجاهين منفصلين، دخلا في مواجهات تأثرت بعوامل داخلية وخارجية، كانت وما تزال عواملها قائمة في واقع الائتلاف والقوى المتشاركة فيه، مما أعاق معالجة الأزمة، وأدخل الائتلاف في مشاكل أغلبها تفصيلي، ولا يستحق التوقف عنده أو الاهتمام به في ضوء الضرورات والاستحقاقات القائمة.

خلاصة الأمر في واقع الائتلاف ومؤسساته اليوم، تشير إلى أن الأزمة المتجددة، واضحة الأسباب، وأن مواجهتها ومعالجتها ولو جزئيا ممكنة، إذا توفرت الإرادة السياسية لدى الأطراف الفاعلة في الائتلاف، وجرى تخفيف التأثيرات الخارجية الإقليمية والدولية وعقلنتها، وكله سيعزز فرصة الخروج من الأزمة، والتي سيكون مسارها متضمنا في المستوى التنظيمي تعديلات في النظام الأساسي للائتلاف، وفي المستوى السياسي وضع برنامج أو رؤية سياسية، تحدد المشتركات العامة للقوى المتحالفة في الائتلاف، وفي مستوى عمل المؤسسات، التي ينبغي إخراجها من التجاذبات السياسية، والتركيز على تخصصاتها وقدراتها العملية، وبالاستناد إليها فقط، يتم تشكيل حكومة، تتولى الأمور التنفيذية في مجال الإغاثة والخدمات والتنمية البسيطة، وتعود وحدة تنسيق الدعم إلى دورها الوسيط بين المانحين والحكومة التنفيذية، وتتم عملية إعادة بناء المجلس العسكري والأركان، التي ينبغي أن تكون ممثلة للتشكيلات العسكرية المعتدلة الموجودة على الأرض فعلا، والتي تتوفر لديها إرادة للوقوف في وجه إرهاب النظام من جهة وإرهاب جماعات التطرف مثل «داعش» و«النصرة».

إن المخرج المطروح، يكاد يكون متوافقا عليه في الائتلاف، وهو يحتاج إلى هدوء وروية وصبر لتنفيذه من جانب القوى الفاعلة، لكنه ومن أجل إقلاعه، يحتاج إلى دعم ومساندة من جانب السوريين خاصة ومن جانب الأقرب في حلفاء الشعب السوري ومناصريه في المستويين الإقليمي والدولي عموما. وما لم يحصل ذلك بصورة عاجلة، فإن الائتلاف سيفقد قدرته على الوجود والفعل، وقد ينفجر ويتلاشى. ربما هي الفرصة، التي لن تكون بعدها فرصة!

اقرأ المزيد
٣٠ نوفمبر ٢٠١٤
أكذوبة دعم تركيا داعش

بدت الاتهامات السياسية والإعلامية لتركيا بدعم تنظيم داعش غريبة، مسيّسة، ومنفصلة عن الواقع، ومتناقضة، ليس فقط مع توجهات الحكومة التركية وسياساتها، المعلنة والواضحة، وإنما حتى مع التطورات والمستجدات المتسارعة في سورية والعراق، والتي أدت إلى ظهور التنظيم، وتصاعد قوته وتأثيره في البلدين الجارين لتركيا.
بداية، لم يكن لأنقرة أي دور في ظهور التنظيم، أو تمكينه من السيطرة على مساحات شاسعة من العراق وسورية. فتركيا لم تأمر جيش نوري المالكي بالانسحاب من الموصل والحدود العراقية مع سورية، وهي لم تكن الطرف الذي سهل للتنظيم الاستيلاء على كميات ضخمة من السلاح الأميركي الحديث المكدّس في ثكنات جيش المالكي الطائفي. وقبل ذلك، انسحب جيش الأسد، بشكل مريب، من الجانب السوري من الحدود مع العراق وتركيا، لتسهيل انتشار وتنقّل التنظيم وتنقله وسيطرته على منابع النفط، وآبار الغاز في المنطقة التي تمثّل مصدر القوة المالية الهائلة له.
وبالتأكيد، لم تقف أنقرة خلف إطلاق النظام السوري، بعد شهور على اندلاع الثورة، قيادات التنظيم وكوادره في معتقلاته، لشيطنتها (الثورة) وتسويد صفحتها، وصبغها بالدم، علماً أنهم اعتقلوا من دون تهم، وبالتأكيد من دون عملية أو عمليات قضائية عادلة شفافة ونزيهة.
وقبل ذلك وبعده، مثّل نظام بشار الأسد في الشام، كما نظام نوري المالكي في العراق، البيئة أو الحضّان الأساس لداعش، عبر القتل الممنهج، الذي وصل إلى حد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإقصاء الممنهج والمستبد لتيارات سياسية وشعبية واسعة ومتجذرة في العراق، كما في سورية، ناهيك عن الاستئثار بالقرار السياسي الاقتصادي والأمني في البلدين.
بناءً على ما سبق، بدا غريباً ومستهجناً اتهام تركيا بدعم تنظيم داعش، وتحميلها المسؤولية عن تمدده وممارساته، هذا الاتهام المنطلق من أجندات سياسية وإعلامية لجهات متخاصمةٍ متقاتلةٍ متباعدة، لكنها اجتمعت على النيْل من النموذج التجربة والسياسة التركية، وشيطنة أنقرة واستنزافها للحدّ من نهوضها وصعودها المحلي الإقليمي، وحتى الدولي، وعلى جبهات متعددة ومتنوعة.
الجهة الأولى، التي لم تتوقف عن التصويب ضد تركيا وانتقادها، بسبب أو بدونه، هي الجهة أو الجهات المساندة للنظام السوري، والمتورطة معه في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها في حق شعبه الثائر والمستضعف، وهذه سعت، دائماً، من أجل الانتقام من تركيا لموقفها الداعم للثورة، والرافض لممارسات النظام وجرائمه، كما لتقديمها نموذجاً مختلفاً عن نموذج الاستبداد والفساد، بتجلياته الدينية والقومجية، وللفت الانتباه عمّا فعلته وتفعله تلك الجهات من بث للتحريض والفتنة في العالم العربى.

" بدا مفاجئاً انخراط جهات غربية أميركية وأوروبية في الهجمة السياسية والإعلامية ضد أنقرة "

الجهة الثانية التي تبدو، ولو من حيث الشكل، معارضة أو متناقضة مع الجهة الأولى، هي التي دعمت الانقلاب في مصر، وتريد محاسبة أنقرة على موقفها الأخلاقي والسياسي الصحيح، ضد الانقلاب والدفاع عن حق تيار الإسلام السياسي في مزاولة السياسة، والتعبير عن نفسه، بعيداً عن سياسة الإقصاء والتهميش، وهي تسعى، أيضاً، إلى النيل من النموذج التركي السياسي الاقتصادي والاجتماعي الناهض والناجح، والذي أحدث الطفرة الاقتصادية والاجتماعية في البلد غير النفطي، والمعتمد على إمكاناته وثرواته، من دون هيمنة أو مشاركة أجنبية في مقدراته وتوجهاته.
الجهتان السابقتان الداعمتان للنظام المجرم في الشام، والانقلابي في القاهرة، تورطتا، طوال الوقت، ضد تركيا سياسيّاً وإعلاميّاً، وربما أمنيّاً أيضاً، غير أن ما بدا مفاجئاً انخراط جهات غربية أميركية وأوروبية في الهجمة السياسية والإعلامية ضد أنقرة، في حملة ابتزاز واضحة لإجبارها على الانصياع للتوجهات الأميركية، وخوض الحرب البرية ضد داعش، وفق المصالح والأهواء الغربية والأميركية، من دون أي اعتبار للتصورات والمصالح التركية، أو مصالح أهل المنطقة وشعوبها، ومن دون أي اهتمام أو تركيز على جذور الأزمة، أو البيئة السياسية والأمنية التي أنتجت داعش وأخواتها.
التحالف غير المعلن، ولكن الواضح والصارخ والفاضح من الجهات الثلاث، سيئة الذكر، وعلى الرغم من الحملة المسعورة والمتشجنة لم ينجح في ابتزاز تركيا، أو إجبارها على اتخاذ مواقف، تتناقض مع قناعاتها ومصالحها. ببساطة، لأن في أنقرة سلطة قوية منتخبة واثقة من نفسها تستمد شرعيتها وقوتها من شعبها وجماهيرها، وتمارس اللعبة السياسية، كما ينبغي بحكمة ومسؤولية، وتدافع أولاً وأخيراً عن مصالح البلد وحقوقه، وهي كانت، وما زالت، حاضرة دائماً للخضوع لامتحان الشعب، بصفته المرجعية العليا، وصاحب الكلمة الفصل والحاسمة تجاه الحكومة، وسياساتها الداخلية والخارجية.

اقرأ المزيد
٣٠ نوفمبر ٢٠١٤
صمود بشار الأسد الذي كلفنا وطناً اسمه سوريا

لا أدري، نضحك أم نبكي عندما نسمع وسائل إعلام «المماتعة والمقاولة» وهي تتشدق بصمود بشار الأسد والانتصار على «المؤامرة الكونية» وإفشالها. فإذا كانت المؤامرة قد فشلت، وأدت إلى دمار سوريا وتهجير شعبها، فكيف لو نجحت، لا سمح الله؟ كيف كان سيكون وضع سوريا؟ ربما انتصار آخر ويختفي بلدنا عن الخارطة!
يا من تتفاخرون بصمود بشار الأسد وانتصار الدولة السورية: لو عرفتم الحقيقة، لبكيتم دماً على «صموده» المزعوم حتى الآن، فلو سقط، كما سقط حسني مبارك وزين العابدين بن علي، لما وصلت سوريا إلى هنا. بشار الأسد، أيها المغفلون، لم يصمد، بل أراده أعداء سوريا أن يبقى كل هذا الوقت كي يدمروا بلدنا من خلاله وبواسطته. ونجحوا. لاحظوا أن سقوط مبارك وزين العابدين بن علي في مصر وتونس خلال أسابيع انقذ مصر وتونس من الخراب والدمار الذي حل بسوريا بسبب عدم سقوط الأسد. ولو بقي مبارك وبن علي في الحكم، لكانت مصر وتونس الآن في وضع مشابه لسوريا، لا سمح الله. لكن سقوطهما أنقذا تونس ومصر، وكان نعمة عليهما، بينما كان «صمود» بشار المزعوم نقمة على سوريا والسوريين.
لقد بدأ أعداء سوريا، بمن فيهم روسيا وإيران، على تطويل أمد المحنة السورية ودعم بشار الأسد ورفض أي محاولة لتنحيه عن السلطة منذ اللحظات الأولى. لقد تمثلت المؤامرة الكونية الحقيقية على سوريا في الإبقاء على الأسد، لأن بقاءه يضمن المزيد من الدمار والانهيار خدمة للأعداء.
بشار الأسد كنز استراتيجي لإسرائيل وأمريكا من الناحية العملية، فقد نفذ كل ما تريدانه، وربما أكثر بكثير. هو المغناطيس العظيم الذي جذب إلى سوريا كل أنواع الأشرار ليحولوها إلى أنقاض.
ماذا يريد أعداء سوريا أجمل من ذلك؟ المنطقة بأكملها على كف عفريت بفضل خدمات بشار الأسد. إنه القائد لمشروع الفوضى «الهلاكة». ولو تخلوا عنه في بداية الأزمة السورية، لما استطاع ضباع العالم إيصال الشرق الاوسط إلى ما هو عليه الآن من فوضى واضطرابات وكوارث وقلاقل؟ ولو أرادت أمريكا وإسرائيل لتكافئانه، لشيدتا لبشار تماثيل من ذهب. ومما يؤكد ذلك أن إحدى العواصم شهدت مؤتمراً هاماً مغلقاً حول سوريا قبل مدة، حضره كبار الاستراتيجيين والمسؤولين الغربيين والدوليين: فسأل أحد الحضور مسؤولاً كبيراً: «لماذا لا تتدخلون في سوريا»، فأجاب المسؤول: «الوضع في سوريا مثالي جداً بالنسبة لنا، فكل السيئين الذين نكرههم يخسرون، ويهلكون في سوريا.
كان بإمكاننا أن ننهي بشار الأسد بسهولة، لكن لو أنهيناه، لتوقف الدمار المطلوب. نحن نريد بقاءه مرحلياً، لأنه أشبه بالمغناطيس الذي يجتذب السيئين إلى المحرقة السورية، فيحرقهم، ويحترق معهم».
أيها المتشدقون بصمود بشار: لا تتفاخروا إذاً، بل ابكوا على وطن تمزق، وانهار، وشعب تشرد بسبب «صمود» بشاركم. وهو ما يريده أعداء سوريا بالضبط. أمريكا تدعو إلى تنحي بشار، وروسيا ترفض. لعبة مفضوحة منذ سنوات هدفها تمديد فترة الدمار. يوماً ما ستندمون على التصفيق للصمود «المسموم» الذي كلفنا وطناً، وجعل شعبنا طعاماً للأسماك في عرض البحار، وجعلكم انتم أيها الشبيحة تتسابقون على تقديم طلبات اللجوء في ألمانيا وغيرها.
صمود بشار حتى الآن أشبه بالشجرة التي تحجب الغابة، يستخدمونه ستاراً وذريعة مكشوفة للإجهاز على ما تبقى من وطن كان اسمه سوريا.
سحقاً لصمود كلفنا وطناً كان اسمه سوريا!

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٣ يونيو ٢٠٢٥
موقع سوريا في مواجهة إقليمية محتملة بين إسرائيل وإيران: حسابات دمشق الجديدة
فريق العمل
● مقالات رأي
١٢ يونيو ٢٠٢٥
النقد البنّاء لا يعني انهياراً.. بل نضجاً لم يدركه أيتام الأسد
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٦ يونيو ٢٠٢٥
النائب العام بين المساءلة السياسية والاستقلال المهني
فضل عبد الغني مدير ومؤسس الشبكة السورية لحقوق الإنسان