لعلّ شهادة النائب اللبناني وليد جنبلاط، رئيس «جبهة النضال الوطني»، أمام غرفة الدرجة الأولى في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان؛ هي الأبرز، حتى الساعة، ضمن سلسلة الشهادات حول اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
وإذا كان من الإنصاف، للسجلّ التاريخي على الأقلّ، ملاحظة خلوّ الشهادة من أيّ عنصر جديد، مثير أو حاسم أو دامغ، أو مختلف عن جملة المعطيات، الفعلية أو الافتراضية، التي اقترنت بالملفّ؛ فإنّ من الصحيح، على قدم المساواة، أنّ لا جديد كذلك في سمة طاغية طبعت شخصية جنبلاط على الدوام: التقلّب، الذي يعدّه البعض مكراً سياسياً، ويذمّه البعض الآخر تحت مسميات سلوكية شتى، ويراه فريق ثالث محض تنويعات على غاية كبرى هي حفظ البقاء.
وبمعزل عن ملفات لبنان الداخلية الصرفة، إذا جاز فصلها هكذا أساساً، فإنّ جوهر تقلبات جنبلاط يتصل بالشأن السوري، عموماً؛ وبتاريخ العلاقات، المضطربة والقلقة، بين نظام «الحركة التصحيحية»، أي البيت الأسدي كما يمثّله اليوم بشار بعد أبيه حافظ الأسد، والبيت الجنبلاطي كما يمثّله وليد بعد الأب كمال جنبلاط. وأرشيف الماضي، القريب أو البعيد، الذي سجّل التحوّلات السياسية الدراماتيكة التي انتهجها جنبلاط الابن، خاصة بعد اغتيال أبيه في آذار (مارس) 1976، لا يعني البتة أنه اليوم ليس نزيهاً في تأييد الانتفاضة السورية، وليس راغباً في سقوط نظام آل الأسد، وليس مستعداً للانضواء في أية جبهة داخلية لبنانية مناهضة لما تبقى للنظام السوري من نفوذ في لبنان؛ بما في ذلك الموقف من «حزب الله» عموماً، وقتال الحزب إلى جانب الأسد في سوريا خصوصاً.
ومع ذلك… تلك تقلبات تظلّ بمثابة خيارات يداولها التاريخ، بين حال وحال، كما في وسع المرء أن يفترض؛ إذْ مَن كان سيصدّق «فعل الندامة» الذي مارسه جنبلاط (ونقصد الابن دائماً، ما لم تُعقد التسمية للأب تحديداً)، حين زار دمشق، قبل خمس سنوات، في آذار أيضاً، ذكرى اغتيال أبيه؟ ومَنْ كان سيصدّق أنّ حسن نصر الله، الأمين العام لـ»حزب الله»، هو الذي أعلن، يومذاك، استعداد الأسد (الابن دائماً، هنا أيضاً) لاستقبال جنبلاط، «في وقت قريب جداً» حسب تعبير السيد؟ وأخيراً، كيف حدث أنّ نبيه برّي، رئيس مجلس النواب اللبناني وحليف النظام السوري، هو الذي استبق الجميع، فأعلن أنّ «ما سيقوله جنبلاط اليوم في مقابلته مع قناة الجزيرة مهم جداً»، بما أوحى أنّ برّي علم بفحوى فعل الندامة حتى قبل أن يظهر جنبلاط على القناة؟ الأهمّ من هذه التفاصيل الشكلية كان مغزى مجيء الضوء الأخضر من نصر الله، بما يفيد بأنّ «حزب الله» هو الجهة الأولى المعنية بقرار استقبال جنبلاط، وليس أياً من الأطراف السياسية اللبنانية، سواء في تحالف 8 شباط أم تحالف 16 آذار.
على أصعدة أخرى، أضعف دلالة، كان مفهوماً أنّ أمثال وئام وهاب وعاصم قانصوه، من رجالات النظام السوري المتخندقين المتجندين، ظلوا بمنأى عن الفريق الذي طبخ زيارة جنبلاط إلى دمشق؛ بالرغم من أنّ وهاب كان أوّل المتطوّعين لاستبصار فعل الندامة واحتمال الزيارة، حين صرّح منذ الصيف الماضي بأنّ «الطريق إلى دمشق مفتوحة بوجه النائب جنبلاط». كان جلياً، كذلك، السبب في أنّ صحيفة «الوطن» السورية ـ المقرّبة من دوائر النظام، والتي يملكها رامي مخلوف، تمساح الأعمال الأشرس وابن خال الرئاسة ـ هي التي اعتمدت تعبير «فعل الندامة»، ولم تكن بعيدة عن الصواب في واقع الأمر؛ قبل أن تنتقل إلى الغمز من قناة جنبلاط لأنه لم يعتذر بوضوح، و»فضّل التأرجح» بين قوى 14 آذار المناهضة لسورية وقوى 8 آذار المؤيدة لها، ولم يكن صريحاً في مواقفه، ولا يقرّ بأنّ القرار 1559 كان «مؤامرة على سوريا ولبنان معاً وعلى المقاومة خاصة».
في المقابل، سجّل التاريخ أنّ جنبلاط، في أواخر العام 2000، تجاسر على كسر محرّم خطير، حين طرح إعادة انتشار قوّات النظام السوري على الأراضي اللبنانية، على نحو كان يمسّ ضمناً شرعية وجودها في الأصل. صحيح أنه عفّ عن استخدام مفردة «الانسحاب العسكري»، واتكأ على اتفاق الطائف لعام 1989، لكنّ مجيء المطالبة من رأس آل جنبلاط (الذين تقول الحكمة الشائعة أنهم أمهر من يقسم لبنان، وأمهر من يوحّده أيضاً) كان لا ينتهك المحرّم، فحسب؛ بل يحرج الرئاسات اللبنانية الثلاث؛ ويربك معظم أنصار النظام السوري، بمَن فيهم أولئك الذين سيصبحون في صفّ خصومه لاحقاً: من إميل لحود رئيس الجمهورية، إلى رفيق الحريري رئيس الوزارة، إلى نبيه برّي رئيس المجلس النيابي، إلى البعثيّ عاصم قانصو الذي هدّد جنبلاط بالقتل على يد «المقاومة اللبنانية!
ثمّ… بعد اضطرار النظام السوري إلى الانسحاب عسكرياً من لبنان، صنع جنبلاط مفاجأة غير مسبوقة حين استقبل، في المختارة، صيف 2006، وفداً قيادياً من جماعة «الإخوان المسلمين» السورية، ضمّ عدنان سعد الدين المراقب العام الأسبق، ومحمد فاروق طيفور نائب المراقب العام ورئيس المكتب السياسي، وعبد القادر زهران مستشار العلاقات الخارجية. ذلك كان تجاوزاُ لخطّ أحمر في عرف النظام السوري، وكان عبوراً إلى ما يقع وراء المحرّمات الأمنية ـ السياسية الكبرى، وحنث بالالتزام الضمني الذي تعهد به جنبلاط مراراً، حول «عدم تحويل لبنان إلى ساحة للمساس بأمن النظام السوري». لكنّ الخطوة كانت، في بُعدها الآخر، مثار استياء المعارضة السورية الديمقراطية والعلمانية، لأنّ جنبلاط بدا كمَن يعطي استبطاناً خاطئاً حول قوى التغيير المستقبلي في سوريا: هل التقى بهم، أوّلاً وحصراً وقبل أيّ فريق سوري معارض آخر، لأنه أيقن بأنّ الجماعة هي الكتلة الأهمّ في وجه آل الأسد، ومن الحكمة التفاعل معهم فوراً، أو مسبقاً، منذ الآن؟ أم اعتبرهم ـ على غرار رأي رهط واسع من المراقبين في الغرب ـ العنصر الأبرز في صفّ، أو صفوف، المعارضة السورية؟ أم كان يستجيب، خفية، لرغبة عبد الحليم خدّام في تبييض صفحة الجماعة، بما يساعد على تنشيط «جبهة الخلاص» الخدّامية ـ الإخوانية الكسيحة؟
والحال أنه يسهل على المستمع إلى شهادة جنبلاط، أمام الحكمة الدولية الخاصة بلبنان، أن يحجب عنه فضيلة العودة إلى الحصيلة الإجمالية التي صنعتها سلسلة المواقف السابقة، إنْ لجهة الانقلاب على بعضها، أو إعادة إنتاج بعضها الآخر؛ بما يردّ الرجل إلى سوية ليست جديدة عليه تماماً، ولكنها كانت في سبات متعمّد ربما: أنه جنبلاط الابن، الذي لا ينسى، أوّلاً، ما للبيت الجنبلاطي من ديّة دم في ذمّة النظام السوري؛ وأنّ اغتيال أبيه لم يقتصر على تصفية زعيم درزي كبير، بل استهدف أيضاً تفكيك ما كان يُعرف آنذاك باسم «الحركة الوطنية اللبنانية»؛ وأنّ انتصار الانتفاضة السورية، وإسقاط نظام «الحركة التصحيحية»، هو معادلة لبنانية ـ لبنانية أيضاً.
وهذه سويّة ليس في وسع جنبلاط أن يعيد خلط عناصرها، مجدداً، والتقلّب فيها، وعليها؛ خاصة وقد تلازمت عناصرها اللبنانية ـ السورية على نحو وثيق مترابط، فلم تعد تقبل المزيد من ألعاب التكتيك أو حفظ البقاء، بعيداً عن التلازم الحقّ لمسارات الشعبين اللبناني والسوري. ههنا يبقى العود ما بقي اللحاء، كما يذكّرنا أبو تمام الطائي.
بعد أكثر من أربع سنوات على فوران الدم السوري في حمّام ساخن، كلّما خبت ناره أُضرمت من جديد، لتحرق الأخضر قبل اليابس من البشر والشجر، وكل مظاهر الحياة السورية، لا يزال قسم كبير من النخب السياسية، وحتى الثقافية، متمترساً عند حدود خطابه القديم الذي لم يفعل شيئاً للشعب السوري، غير مزيد من التيه والضياع والدفع باتجاه العنف، وانحرافه عن أهداف انتفاضته التي كانت تتقدم باتجاه ثورة حقيقية، بكل ما يحمل مفهوم الثورة من انقلاب جذري على النظام القديم، بكل مناحي الحياة، وليس النظام السياسي فقط الذي كان، على مدى خمسة عقود، يزيد من تمكن النظم الجائرة كلها، ضماناً لعرشه واستئثاره بالسلطة واستبداده بالشعب. ما زالت هذه النخب التي صادر جزء كبير منها إرادة الحراك الشعبي، وطرح نفسه الممثل الوحيد والشرعي للشعب السوري، مثلما طرح ومارس قبله حزب البعث على مدى خمسة عقود نفسه القائد الوحيد للدولة والمجتمع، تغمض عينيها عن بعض الحقائق، وتتجاهلها وتعتم عليها، بينما تسلّط الضوء الباهر على بعضها الآخر، لتصنع منها ثوابت وحقائق، لها الدور الأول والأهم في انتصار الثورة، وإنجاز قضايا الشعب، المحقّة، في وقت صارت الحقائق جليّة مقروءة ومفهومة، ولا مجال لمواربتها، كيف يمكن لنخب سياسية أن تبقى ثابتة ساكنة، في موقفها وخطابها وأفعالها، في زمن المتغيرات السريعة؟
ما زالت هذه النخب بعيدة عن ميدان العمل الفعلي، الميدان الذي تجاهلوه، أو ركنوه على الهامش، منشغلين بلعبة سياسية أكبر منهم بكثير، بينما الوطن السوري يُدمّر بمنهجية محكمة وإرادة جبارة، يتبارى فيها أطراف النزاع بالإجرام. لم تشتغل هذه النخب على الوعي العام للشعب، وتُرك الضخ الإعلامي والأجندات المتباينة والمتصارعة تفعل فعلها في بنى المجتمع التي أوصلها القتل والتنكيل والتهجير والحرمان والفواجع إلى مرحلة الغريزية الثأرية، وأوصل الوطن السوري إلى حالة من فقدان الأمل بإمكانية البناء والنهوض من جديد، فيما لو توقف العنف وأخمدت نيران الحرب، بإمكانيةٍ تبدو ميئوساً منها في المدى المنظور، وذلك بنضوب نبع الحياة وخامات الإبداع والابتكار، جيل الشباب، هذا الجيل الذي من لم يستطع منه الهروب خارج الحدود يعيش حياة من العطالة، متخفياً في الظل، لأنه مجبر على حمل السلاح، في كل مناطق سورية، لصالح الطرف المسيطر على البقعة التي ينتمي إليها، بينما لا يريد أن يحمل السلاح.
الكلّ صار يعرف أن لا أحد نزيهاً من دم الشعب السوري، كما أن لا أحد وفّر مساندة أطراف الصراع، في إجرامها بحق الشعب. الكل صار يعرف أن دول الجوار فتحت حدودها لكل متطرفي العالم، المدفوعين إلى تلبية نداء الجهاد المقدس، مثلما كانت هناك دول ومنظمات دفعت مقاتليها إلى الأرض السورية، بحجة مساعدة النظام في حربه ضد الإرهاب، كما يدّعي. وللأسف، تحوّل الادعاء إلى واقع فاجر، ومع هذا لا زالت النخب "الممثل الشرعي الوحيد" للشعب السوري، تشيح وجهها عن الحقائق السافرة، مثلما استهانت ببواكير حرف الحراك الشعبي، عندما هللت لجبهة النصرة وغيرها من الكتائب المسلحة، أو الفصائل السياسية التي تقوم على عقائد إقصائية، أو بأقل تقدير، تحمل أجندات وبرامج ومشاريع تتناقض مع أهداف الثورة من حرية وعدالة ومساواة، وحلم بناء دولة مدنية، تقوم على المواطنة أساساً في بنائها.
لم تحصل النخب هذه على ثقة الشعب، بل كلما تقدم الزمن بالحراك الشعبي الذي تحوّل إلى حرب، فقدت صدقيتها، وأظهرت عجزها وقصورها عن مواكبة حاجات الشعب. ومثلما اشتغلت النخب السابقة للحراك، في عصر النظام الشمولي على القضايا الكبيرة، وطرحت الشعارات الباهظة، متناسية، أو مقصرة، عن المشكلات الداخلية والحقيقية للشعب السوري، غافلة عن وعي يتشكّل في الظل، وتحت رحمة الاستبداد المصادر للحريات، كذلك نخب اليوم انشغلت بلعبة سياسية كبيرة، وارتهنت لأطراف فيها، تاركة الشعب لتيارات متضاربة متصارعة، تصادر وعيه وتوجه أهواءه وعواطفه، حتى ضاعت البوصلة، وفُقد الأمل بالخلاص، إلّا بسقوط مريع، ينزف الشعب ما تبقى من دمائه على مقصلة الاقتتال الأهلي الذي يمكن أن ينفجر مثل قنبلة انشطارية.
وبعد أربع سنوات من العنف والعنف المضاد، ومن التجييش والتعبئة والحقن بكل أشكال الفتنة والفرقة والثأرية ومشاعرها، ودفعها إلى أقاصي التطرف والمغالاة، من الحمق، أو بتعبير ألطف، من المجانية، الكلام عن موقف يجب أن تتبناه بعض الطوائف، أو الأقليات، من أجل توجيه الضربة القاضية للنظام وإنهاء الحرب. بعد كل هذه الدماء، وهذا العنف وهذه الثأرية التي لم توفر عَرضَها وإرسالها إلى الضمير العام المنابرُ الإعلامية المتنوعة، من شاشات ومواقع إلكترونية وصفحات تواصل، وحتى صحف ورقية، مثلما كان للإعلام دور كبير ومؤثر وخطير، ربما فاقت خطورته الحرب الميدانية، وما نجم عنها من سفك دماء وقتل أرواح ودمار مدن وقرى وتهجير وتنكيل وغيره، مما لم تبخل به تلك المنابر والشاشات.
" ينزف الشعب ما تبقى من دمائه على مقصلة الاقتتال الأهلي الذي يمكن أن ينفجر مثل قنبلة انشطارية "
بعد أربع سنوات من الجحيم السوري، ومن تخلّي الأطراف الداعمة للحرب عن الشعب في محنته، بل ودورها الذي لعبته في إضرام نار الحرب، وتسهيلها المقاتلين الأجانب بعبور الحدود وانخراطها في القتال، وبعد مساندة الكتائب الجهادية المتطرفة المعادية، في طروحاتها ومواقفها، للحرية ومبادئ الثورة، على حساب الجيش الحر الذي اضمحلّ وتراجع دوره، بسبب تركه وحيداً في العراء، بلا تمويل ولا دعم، وبعد وصول المجتمع السوري إلى مرحلة التهتك المريع، وصار جاهزاً لضربة قاضية، يقوم بها تجاه نفسه، ضُخّ الدعم بغزارة، ودفعت الكتائب إلى معارك أشرس وأقوى، وهجّر المزيد من أبناء المناطق التي تقوم فيها المعارك، وزهقت أرواح كثيرة في تقاطع نيران شرس وحاقد بين سماءٍ، يسيطر عليها النظام، وأرض امتلكتها الكتائب المقاتلة، وتدفقت مشاهد القتل الانتقامي والتطهير الطائفي، وتعالت الأصوات المتوعدة بأبناء الساحل، وانطلقت الخطابات "الرصينة والحريصة" من النخب التي تدعوهم إلى أن يكونوا الضربة القاضية للنظام، أملاً وطمعاً بسورية جديدة، يكون لهم موقع فاعل فيها.
وترافق هذا كله بالتلويح بمعركة الساحل، متجاهلين حقيقة أن الساحل صار بمثابة الحاضن الأكبر لجزء كبير من أبناء سورية المنكوبة، ومتجاهلين أكثر، كما تجاهلوا في السابق، دراسة المجتمع في تلك المنطقة بشكل دقيق ونزيه، مرددين المقولة الجامدة الخشبية التي تعتبر الطائفة العلوية جسماً صلداً واحداً، يحمل ملامح الهوية التي منحوه إياها. المنطقة الساحلية التي تغص بأبناء سورية من جهاتها الأربع، كان أهلها حاضنة لإخوتهم المنكوبين الذين لجأوا إليها ولاذوا بهم، وعلى الرغم من كل التجييش والحقن والفتن المنظمة، وعلى الرغم من توفر السلاح بكثافة غير مسبوقة والفوضى العارمة وغياب القانون، لم تحصل فيها جريمة انتقامية واحدة، وقبول إخوتهم السوريين في مدنهم وقراهم، واشتغال عدد كبير منهم في عمليات الإغاثة ومساعدة النازحين إليها هو "أضعف الإيمان"، ومؤشر كان من الإيجابية بشيء الالتفات إليه، والاشتغال عليه، وجعله منطلقاً لكسب الرأي العام، بشكل أجدر وأجدى، عوضاً عن تأييد الخطابات والسلوكيات الطائفية والانتقامية، أو تجاهلها.
كان الشعب السوري، بكل مكوناته، يعيش تحت خيمة الاستبداد نفسها، ومارس النظام القمعي نهجه في الحكم الشمولي على كل فئات الشعب، وعمل، عقوداً، على تغريب العقل، ودفعه إلى العطالة شبه التامة، بينما كان يعمل على إنشاء وتأسيس كوادر يكون همها وشغلها وطموحها خدمة النظام الذي تماهى في وعي الشعب مع الدولة، فلماذا يُطلب من بعض مكونات هذا الشعب أن تمتلك الحدّ المطلوب من الوعي، بينما الشعب كله كان مغيّب الوعي؟ ولماذا النخب السياسية والثقافية التي اصطفت إلى جانب قضايا الشعب، منذ انطلق، في تظاهراته الرافضة للاستبداد، لم تشتغل على حماية الوعي الجمعي وحماية مشروع الثورة من الانحرافات الخطيرة التي أودت بها؟
يقول المثل الشعبي السوري: خرج من تحت الدلف إلى تحت المزراب. وهذا يعني أن المرء انتقل من بلل إلى بلل أكبر، ومن سيئ إلى أسوأ. وهذا هو حال الشعب السوري، بعد سنوات الدم الذي تلوثت به أيادي كل أطراف النزاع، وبعد أن كان عقوداً تحت حكم الحزب القائد، يدخل مرحلة التيه، ووطنه مهدد بالتقسيم، خصوصاً أن التقسيم المجتمعي وقع وترسّخ تقريباً، بينما النخب تبارك جرائم في مكان وتنكرها في مكان آخر، وتنسى أن الشعب، مهما تألم وقاسى، يبقى قادراً على الفصل بين الأمور وفهم المعاني والاحتفاظ بذاكرته، وتصبو هذه النخب لأن تحل محل "الحزب القائد".
منذ سيطرة النظام السوري على مدينة القصير في ريف حمص الجنوبي، في الخامس من يونيو/حزيران عام 2013، بدأت مرحلة تقدم ملحوظة لقوات النظام السوري وداعميه، في مناطق مختلفة من سورية (ريف حمص، القلمون الفوقا، القلمون التحتى، شرقي الغوطة، حماة)، وبدأت معها عملية تراجع واضحة للمعارضة المسلحة، لا سيما الجيش الحر الذي أصبح أثرا بعد عين. لكن التطورات الميدانية التي شهدها الجنوب السوري، في الأسابيع الماضية، في ريفي القنيطرة ودرعا والسيطرة على بصرى الشام ومعبر نصيب الحدودي مع الأردن من جهة، والتطورات في الشمال التي تشهدها محافظة إدلب منذ نحو شهر، من جهة ثانية، بدأت في تغيير معادلة القوى على الأرض، ودفعت وزير الدفاع السوري إلى عقد اجتماع طارئ مع نظيره الإيراني في طهران.
ما جرى في مدينة إدلب ومن ثم في جسر الشغور ومعسكر القرميد ليس تفصيلا عادياً في سياق عمليات الكر والفر بين النظام والمعارضة المسلحة، صحيح أن هذه التطورات تظل بعيدة عن تغيير المعادلة الميدانية، وبالتالي، ميزان القوى على الأرض، بحيث يمكن استثمارها سياسيا في الوقت الحالي، لكن الصحيح، أيضاً، أن ما جرى هو بداية تحول مهم، يعتبر الأول من نوعه، منذ بدء الأزمة السورية، في بقعة جغرافية تشكل أهمية فائقة، وساحة مفتوحة لكل الفصائل والقوى المقاتلة.
فللمرة الأولى منذ عامين، بدأ الحديث عن خسائر مهمة للنظام، وانتصارات مهمة للمعارضة المسلحة، وكسر للمعادلة التي طالما حاول النظام تثبيتها لصالحه، وهي أن أي اتفاق سياسي مرهون بتطورات الميدان. وللمرة الأولى، نجد ارتباكا واضحا في صفوف النظام في اللاذقية لم نشهده مع معارك رأس البسيط قبل نحو عام.
تعتبر محافظة إدلب صلة الوصل بين المنطقتين الساحلية والوسطى والمنطقتين الشمالية والشرقية، وأهمية خروج هذه المحافظة من يد النظام تفوق أهمية خروج محافظة الرقة بكثير، من الناحية العسكرية وتداعياتها المستقبلية، فقد أدت سيطرة المعارضة على جسر الشغور، ثم غانية والسرمانية والزيارة واشتبرق في الجنوب، إلى قطع طرق الإمداد عن القوات المنتشرة على طول أوتوستراد أريحا ــ اللاذقية.
فضلا عن ذلك، ستجعل سيطرة المعارضة المسلحة على محافظة إدلب المعارك في حلب صعبة بالنسبة للنظام، وستضع اللاذقية بعد السيطرة على حاجزي البركة وغانية على طريق إدلب ــ اللاذقية الرئيسي في مرمى نيران المعارضة، مع ما تمثله الأخيرة من رمزية في العقل السوري، وهكذا انتقلت المعارك من مدينة إدلب إلى جسر الشغور إلى جنوب المحافظة، ثم سهل الغاب في حماه وبعض ريف حمص.
تعكس طبيعة العمليات العسكرية التي قام بها جيش الفتح مستوى التنسيق العالي بين عناصره على المستوى الميداني من جهة، وعلى مستوى التخطيط الاستراتيجي من جهة ثانية، حيث امتدت المعارك على عشرات الكيلومترات، وبمشاركة نحو عشرة آلاف مقاتل، مع مختلف أنواع الأسلحة، بما فيها صواريخ تاو الأميركية التي كانت في حوزة حركة حزم، كما امتد التنسيق، ليشمل الائتلاف الوطني وفصائل من الجيش الحر، ترتب عليه اتفاق مبدئي في رفض أي صفقة سياسية دولية، تبقي على بعض رموز النظام في الحكم، وهذه خطوة لها دلالتها السياسية، من حيث إنها المرة الأولى التي يجري فيها التعبير عن تبدلات الميدان، بلغة سياسية.
لفتت هذه التطورات الانتباه إلى نجاح تجربة جيش الفتح الذي تأسس نهاية مارس/آذار الماضي من تجمع عدة قوى (جبهة النصرة، حركة أحرار الشام الإسلامية، ألوية صقور الشام، فيلق الشام، أجناد الشام، جيش السنة، لواء الحق)، بعدما حالت جبهة النصرة دون قيام قوة عسكرية للمعارضة في إدلب، وكان مصير جبهة ثوار سورية وحركة حزم مثالين على ذلك.
"آثرت السعودية التعاون مع قطر وتركيا، لتشكيل قوة تساهم في ترتيبات الوضع السوري مستقبلا"
وقد ترتب على هذا النجاح محاولة استنتساخ تجربة جيش الفتح، في أكثر من بقعة سورية، هكذا شكلت مجموعات الجيش الحر، جبهة النصرة، لواء نسور دمشق، لواء الغرباء، كتيبة رجال القلمون، حركة أحرار الشام، تكتلا عسكريا أطلقت عليه اسم جيش الفتح في القلمون، وهكذا خرجت دعوات في حلب، لتوحيد صفوف الفصائل العسكرية، كما حدث مع جيش الفتح، الأمر الذي يعني أن هذه التجربة الوليدة قد تتحول إلى تجربة راسخة في عموم سورية، وتؤدي إلى تغيير كامل في بنية الصراع.
والحقيقة أن هذه التغيرات التي أصابت المشهد السوري ليست ناجمة عن اعتبارات داخلية فحسب، بل نتيجة تفاهمات إقليمية عبرت عن نفسها في سورية: تفاهمات إقليمية بين الرياض والدوحة وأنقرة، بعيد وصول الملك سلمان إلى سدة الحكم في السعودية، والتغيرات التي طرأت على سياستها الخارجية تجاه ملفات الإقليم الشائكة، خصوصا في اليمن وسورية، حيث آثرت السعودية التعاون مع قطر وتركيا، لتشكيل قوة تساهم في ترتيبات الوضع السوري مستقبلا. نجاح تجربة الحزم في اليمن، بحيث يمكن نقلها إلى سورية بعد تبيئتها بما يناسب المناخ الميداني والإقليمي، فقد بينت الأحداث أن معركة الحزم تتجاوز الحدود الجغرافية لليمن، لتشمل عموم المنطقة، عبر تثبيت قواعد التحالف، وتغير قواعد الاشتباك. نضوج فكرة إنشاء قوة أرضية عربية ــ تركية مشتركة في شمالي سورية، لدعم التحالف الدولي في حربه على داعش، بحيث يمكن إقامة منطقة آمنة بيد المعارضة المسلحة، مقدمة للاستيلاء على أراض أخرى، قد تنتزع من تنظيم داعش.
مثل هذه المنطقة ستسهل إقامة حكومة للمعارضة تمهيدا لدمجها مع الحكومة الرسمية في حال التوصل إلى اتفاق سياسي، وهي الإمكانية التي بدأ الحديث عنها، أخيراً، وتتبناها بعض الدول العربية والغربية.
"قائد المقاومة، أمين عام حزب الله حسن نصر الله، يمارس أبشع أنواع التنكيل والظلم والاضطهاد بحق الشعوب العربية، المقاوم الجنوبي الذي ذاق مرّ الاحتلال الإسرائيلي، يمارس دور المحتل في سوريا والعراق واليمن"؟.
هذا ما رأى أن يعبر عنه كاتب لبناني اسمه محمد سعيد الحايك، في مقال كتبه على موقع "جنوبية" اللبناني تحت عنوان " أيّارنا وأيّاركم: لنا دم الحسين ولكم سيف القتلة".
وكتب الحايك"من 25 أيار عام 2000 إلى 7 أيار عام 2008، تحول المقتول قاتلاً، والمظلوم ظالماً، والمُعتدى عليه غازياً، والمُحرّر محتلاً، والزعيم طاغية... في السابع من أيار المقاومين الأشاوس أنفسهم الذين حرّروا الجنوب، احتلوا العاصمة بيروت، وها هم اليوم يحملون سلاحهم في دمشق وبغداد وصنعاء".
وأضاف: "يكاد أيار يختصر تناقضات لبنان التي لا تعد ولا تحصى، فالشهر الخامس مثخنٌ بسيل من الذكريات والأحداث التي نريد أن نحياها كل يوم ولحظة، وتلك التي نريد أن ننساها كل يوم ولحظة".
وتابع صاحب المقال: "تناقضات تشير بأن أيار مضى على درب زميليه أي كانون بأوله وثانيه، وتشرين بأوله وثانيه، وكأن الشهر انشطر واستحال أيار أول وأيار ثانٍ، وكل منهما لا يربطه بالآخر سوى الاسم ودورة التقويم الميلادي فقط لا غير".
ولفت إلى أنه "في صبيحة الخامس والعشرين من أيار/ مايو عام 2000 استفاق اللبنانيون من كل الطوائف والمِلل على هروب جنود الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان تحت وطأة ضربات المقاومين الأشاوس والأبطال".
ونوه الحايك في مقاله إلى أنه "حينها، رفُعت بعفوية تامة الأعلام اللبنانية ورايات حزب الله (الشيعي) جنباً إلى جنب، في صورة ذات دلالة واضحة على أن الحزب بات يحتل مكانة كبيرة ومرموقة ترقى حد القداسة في قلوب اللبنانيين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم".
واستطرد "كَسر لبنان المشكوك في عروبته على ما تبين في مقدمة الدستور قبل اتفاق الطائف (بلد ذو وجه عربي) بسواعد أبطاله الجنوبيين (الشيعة)، أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر. لم يقتصر قلب المفاهيم على تحطيم صورة العدو فحسب، بل نجح كذلك في إعادة تشكيل نفسية المواطن العربي المهزوم دوما بحرب أو من غير حرب".
وقال: "أفلح رجال السيّد حسن نصر الله بإمكانياتهم البسيطة وإرادتهم الصلبة وعزيمتهم التي لا تلين في تحقيق ما عجزت عنه جيوش نظامية، مجهزة بطائرات وصواريخ ودبابات وآلاف مؤلفة من النجوم والدبابير والنياشين المنتهية الصلاحية"
إزاء ذلك، "غيّر الانسحاب الإسرائيلي من لبنان المعادلة على أكثر من صعيد، بدءا من الواقع الجغرافي، مرورا بالميزان العسكري، أو بالأصح تكتيكات القتال وفنون المواجهة ومقاييس النصر والهزيمة، وصولا إلى شعور المواطن العربي، وهو الأهم".
واعتبر أنه "في النقطة الأخيرة تحديدا، استبدل المواطن العربي بفخر واعتزاز كل قادة الجيوش العربية دفعة واحدة برجل واحد اسمه حسن نصر الله، وانسحب فعل الاستبدال هذا على الآلاف المؤلفة من الجنود النظاميين على مساحة العالم العربي بالمقاوم الجنوبي، الذي بات قدوة حسنة يحلم الآباء أن يروا فلذات أكبادهم على صورته ومثاله".
وتمنى الكاتب بقوله: "ألا ليت الزمن توقف هناك، ألا ليت الزمن توقف عند بزوغ فجر الخامس والعشرين من أيار عام 2000، يوم بات الجنوب موئلا للحرية والكرامة، يوم بات الجنوب يصدّر إلى الدول العربية قوارير التراب المحرّر، قوارير التراب الممزوج بدماء الرجال الرجال".
ولكنه أقر أن "الزمان الغدّار دار دورة كاملة، وخرج علينا من صلب غدره بكابوس السابع من أيار. بعد ثماني سنوات من اللحظة التاريخية التي أردنا أن نعيشها كل يوم، لم نشأ أن نصدّق بأن المقاومين الأشاوس أنفسهم الذين حرّروا الجنوب… احتلوا العاصمة بيروت".
ورأى كاتب المقال أنه في "أيّار عام 2000، لعلع الرصاص في العاصمة بيروت فرحا بتحرير الجنوب، أيّار 2008 "لعلع" الرصاص في شوارع "تل أبيب" فرحاً باحتلال ست الدنيا"، فرحا ببداية نهاية مشروع المقاومة".
ولفت إلى أنه "لم نشأ أن نصدّق بصرف النظر عن الحجة والتبرير والذريعة وكل مفردات "الضرورة والاضطرار" وأمن "المقاومة"، بأن الراية الصفراء التي رفعنا بالأمس "تمذهبت" وذهبت في طريق الفتنة السوداء".
وشدد قائلا: "لم نشأ أن نصدّق بأن الجنوبيين "الأشاوس" حطموا بأنفسهم صورة المقاومة في نفوسنا، وهزموا عن سابق تصوّر وتصميم وحدتنا الوطنية وعيشنا المشترك وسلمنا الأهلي".
واستطرد الكاتب: "مثلُ اللبنانيين لم يشأ العرب أن يصدّقوا بأن حسن نصر الله لا يختلف كثيرا عن قادة جيوشهم الذين مارسوا أبشع أنواع التنكيل والظلم والاضطهاد بحق شعوبهم، كيف يفعل وهو الذي انتصر لهم، وانحاز لحقوقهم، وتكلم بلسانهم على مدى عقدين من الزمن؟!".
وأوضح أنه "لم يشأ العرب أن يصدّقوا بأن المقاوم الجنوبي الذي ذاق مرّ الاحتلال الإسرائيلي، يستطيع أن يمارس يوما دور المحتل، ماذا يقول العرب اليوم لأبنائهم عن صورة البطل ومثاله؟!
وتابع "في أيار الأول كان الجنوب يصدّر قوارير الكرامة وجثامين الشهداء إلى العواصم العربية (عملية تبادل جثتي جنديين إسرائيليين، مقابل الإفراج عن سمير القنطار ومقاتلين آخرين وعشرات الجثامين لمقاتلين فلسطينيين وعرب)، وفي أيار الثاني بات الجنوب يتلقّى توابيت أبنائه الموزعين بتكليف "أبله" على العواصم العربية".
وقارن الكاتب في مقاله قائلا: "بين أيار الأول وأيار الثاني استحال المقتول قاتلا، والمظلوم ظالما، والمُعتدى عليه غازيا، والمُحرّر محتلا، والزعيم طاغية و ….".
وختم الكاتب محمد الحايك مقاله بقوله : "في غمرة التناقضات لنا أيارنا ولكم أياركم، لنا الشهادة على تخوم فلسطين المحتلة، ولكم الموت في زواريب بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء، لنا أطفال الغوطة وحمص ودرعا وحماه وحلب وإدلب وبانياس ومخيم اليرموك والمعضمية ودوما وحرستا، ولكم الكيماوي والبراميل المتفجرة، لنا أحشاء حمزة الخطيب وحنجرة إبراهيم القاشوش، ولكم رستم غزالة وعلي مملوك وآصف شوكت وبشار الأسد، لنا أيارنا ولكم أياركم… لنا دم الحسين، ولكم سيف القتلة".
تعليقاً على مقال للدكتور تميم البرغوثي[1].
"إن أسوا مكان في الجحيم مخصص لأولئك الذين يقفون على الحياد في المعارك الأخلاقية الكبرى". مارتن لوثر كينغ.
من الغايات التي تعتبر أساساً لوجود المثقف والمفكر بين الناس، إيضاحُ المشوَّشِ في المشهد وليس التشويش على ما اتّضح، وتصحيح المغالطاتِ في القراءة وليس تكثيرها.
إذا أردتَ أن ينفضّ الآخرون عن التضامن مع الضحية و أن يقفوا على الحياد أمام الجلاد، فساوي بينهما، بإشارةٍ ناعمةٍ إلى ظُلمٍ في موقف الحُسين ومظلوميّةٍ في موقف يزيد سيرتَبِكُ المشاهدُ بينهما ويخون الحقَّ إنِ اعتبر نفسه مُحايداً.
كتب د. تميم البرغوثي مقالاً في موقع /عربي 21/ بعنوان /الأخلاق أو ما تبقى منها/ متحدّثاً عن حربٍ أهلية تراودُ الناس عن بلادهم ممتدةً /كالدُّهْن السائح من جبال الشام والعراق حتى جبال اليمن/[2] ولعلّ موقفه فيها ما اختلف كثيراً تُجاه الثورة السورية ووصفها /بالحرب الأهلية/ وهو مفهومٌ سائبٌ غير صلب ولا يوجد تفاهمٌ في المواثيق والقوانين الدولية بشأن مركّباته أو معناه الدقيق، موجداً بذلك العذر للمقاومة /ويعني فيها حزب الله غالباً/ في تورّطها ضمن هذه المواجهة مع الناس وإنه في الوقت ذاته حيث اعترف بالمستبد وممارساته وخروج الناس عليه، يصف ما يجري بالحرب الأهلية وأن المقاومة تورطت فيها، مستخدماً عبارة تغتالُ نفسها بقوله: "كل رصاصةٍ في صدر متظاهر هي رصاصةٌ في ظهر مقاوم[3]" فكيف إن أطلق هذه الرصاصة المقاوم ذاته /حسب وصف د. تميم/؟ فقد أطلقها في صدر المتظاهر فأصابت ظهر المقاوم الذي أطلقها في الآن ذاته، وعلى ذلك لابد أن يعترف د. تميم أن هذا المقاوم /حسب وصفه له/ قد قتل نفسه، فليس من الواقعية أن يبقى يدّعي المقاومة أو أن نصفه بها، إلا إنْ كانت المقاومة المقصودة هي /حماس/ والتي ما انجرّت للوقوف مع حليفها السابق المستبد ضد الناس، وعند حماس فقط تكون كل رصاصة أطلقها مدّعو المقاومة في صدر المتظاهرين هي رصاصة في ظهر المقاومين من حماس، فلابد من بيان ذلك صراحةً فـ/إن المقاومَ تشابه عليه/، ولو أردنا أن نُحرر المصطلحات ونضع المفاهيم على نصابها لوجدنا ثوّار سورية هم المقاوِمون يقاتلون محتلّاً إيرانياً ومستبداً بعثياً فيدفعون الشرّين معاً المستعمر والمستبد، وما بقيَ لمدّعي المقاومة إلّا قتلُ الناس وإمطارهم بالبراميل والأسلحة الكيميائية أو مشاركة حلفائهم بقتل الناس واحتلال ديارهم ورفع شعاراتهم الطائفية الحاقدة على المآذن والجدران.
ولو اتّفقنا على أن النتائج التي وصلنا إليها /في الوضع الراهن/ تشبه إلى حدٍ ما نتائج الحروب الأهلية في: (غياب الدولة وضعفها، وانتشار الميليشيات، وانعدام الأمن وتعطيل مناشط الحياة ووضع المجتمع رهينة لقوى خارجية)، فما هذا إلّا سعيٌ وترويجٌ من النظام حتى يمتنع على الدول التدخل فيما يجري ويتفرّغ نظام الأسد لحل مشكلاته الداخلية كما يرتئيها وذلك حسب نصوص القانون الدولي، ولكن الحكم على الأمر لا ينطلقُ من توافق بعض نتائجه مع مفهومٍ ما فحسب، بل من أسبابه ومجرياته وتركيباته أيضاً، فما كانت غاية الناس الاستيلاء على السلطة أو جزء من البلاد للاستقلال فيه ـ كما في الحروب الأهلية عامةً ـ ، إنما غايتهم أن يُردَّ أمرهم إليهم، وأن يُحكَموا كما يرضون فلا طاعةَ لحاكمٍ في مخالفة إرادتهم أو مصادرتها، وما إطلاقُ وترويج هذا المصطلح إلّا محاولةً للمساواة بين الذين /أُذِنَ لهم بأنهم ظُلِمُوا/[4] وبين الذين /يسومونهم سوء العذاب يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ../[5] ويفعلون أكثر، ومحاولةً لطمسِ أحقيّة الناس في المطالبة وطمس مطالبهم التي يُقتلون ويُقاتَلُون بغية الوصول إليها.
لعلّنا لا نختلفُ كثيراً في الموقف الأخلاقي من الذين يُلقون البراميل على الناس ليُقتلوا أو يُدفنوا أحياءً تحت ركام منازلهم، ومن الذين يقطعون رؤوس الناس ويتملّكون رقابهم بدعواتٍ لا تُماثل الدين إلّا اسماً، ولكن المغالطة الكبرى التي يضعنا أمامها د. تميم في مقاله هي هذه: بين أن تكون مع أحد القاتِلَين أو أن تعتزلهما، وهو مشهدٌ صادم، فلا يوجد إلا أحد قاتِلَيْن! إما أن تصطف لأحدهما أو أن تبقى أعزلاً بينهما طيباً شريف النفس وكأن من يقاتل نصرةً لأهله ورداً للظلم عنهم خبيثٌ مهما فعل، وقد غفل أو تغافل د. تميم عن الناس الذين خرجوا على النظام في معركةِ حدودٍ ضمن العقد الاجتماعي بين النظام والناس، فحولها النظام إلى معركةِ وجودٍ فكان لابد أن ينتصر الناس لأنفسهم ووجودهم، وقد دأبوا على شرح موقفهم للجميع وطلبوا منهم ثني نظام الأسد وحلفائه عما يقومون به ولكن .. لقد أسمعت لو ناديتَ حيّاً، فالفئة الأخلاقية التي لم يذكرها د. تميم (فأساء للمشهد جداً) هي التي ذُبِحَتْ بالسكاكين قبل وجود تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وهي التي منعت حرباً طائفيةً تتربّص بالقلوب والنفوس، فلا قتال إلا ضد القاتل مهما كان انتماؤه، وهي التي تمنع البراميل ما استطاعت فلم تجد بداً من قتال أصحاب البراميل وحلفائهم، وهي التي قاتلت قاطعي الرؤوس "داعش" في الكثير من الواقعات وأخرجتهم من الديار، وهي التي ما زالت تتظاهر ضد أي مسلحٍ أو داعمٍ أو محسوب على الثورة نفسها إنْ تجاوز عليها واستباح ما لا تُطيق، ولك في أهل حلب وريف إدلب وريف دمشق وغيرها خير أدلة، وما كان التشويش صعباً على أي مشهدٍ حين نُعظِّمُ صورةً ما لتطغى ونُقزِّمُ ونجمّلُ صورةً أخرى، فيتساوى قُبحان (لا أدافع عن أحدِهما) ولكن أرفض المساواة بينهما حتى لا يضيع جهدُ الناس ودمهم سُدى.
إنّ الثوار الذين قاتلوا ما قاتلوا إلّا قاتلهم وما الكفاح المسلح الذي يتغاضى عنه د. تميم أو يصفه بقطع الرؤوس وخيانة المقاومة والتعاون مع من يدعون مناصرة قضيته وهم استعمار في الأصل، إلّا ضرورة أباحتِ المحظورَ عندما اتسع الفتقُ على الرّاتِق، وحلّت بالناس مصيبةٌ /لا يرقى الحدادُ لها .. لا كربلاءُ رأتْ هذا ولا النجفُ[6]/ فما كانوا سعداء بالقتال بل هو كرْهٌ لهم ولك في قول الشهيد العقيد أبو الفرات يوسف الجادر مثالاً عن الغضاضة التي اعتصرت الحلق والقلب عندما يقاتلون مكرهين لا راغبين.
فالتشويش على المشهد العام للابتعاد عن اتّهام ذراع /ولاية الفقيه/ في بلادنا بما قاموا به من طغيان وبحصان طروادة الذي استباحوا البلاد بدعواه ما بين قتال إسرائيل لاستعادة الأرض المحتلة التي قتلوا أهلها الفلسطينيين في سورية وبين حماية المقامات التي كانت تعيش فينا ونعيش فيها فقتلوا من استضاف السيدة رقية والسيدة زينب طيلة تلك العقود في شمال البلاد وجنوبها، فما هذا التشويش إلا تضليلٌ للعقول، وإنّ الاختباء خلف المواقف الأخلاقية لاتّهام الجميع بالمسؤولية عمّا جرى للبلاد والعباد وجعل المظلومين متهمين لأنهم دافعوا عن أنفسهم واستغلَّ مستعمرٌ ما حاجتَهم وإيغالَ النظام وحلفائه في ظلمهم، كلُّ ذلك طوباويةٌ مفرطة قرينةٌ للطغيان المفرط، فلا تقتلوا الناس بطوباويتكم كما قتلهم الظلَّامُ بأسلحتهم، وكما تورّط المقاومون /على حد وصفك لهم/ بدمائنا فسقطتْ عنهم كل فضيلة، فقد تورّط المثقفون والمفكرون /على حد وصف الأعراف لهم/ بالوقوف على الحياد فسقطت عنهم كل مكانة اجتماعية.
إن كانت الأطراف قد تعددت في المشهد الكامل وتداخلت مصالحها واشتبكت أصابعها فما زالت الثورة في الناس ظاهرةً على الحق لا يضرّها من وقف على الحياد متهماً لها أو متعالياً عليها، ومازالت الثورة في الديار عامرةً ينخفض صوتُها حيناً ويظهرُ لونُها حيناً، ومازال الناس في بلادنا يُقتلون لكلمةِ حقٍ عند سلطانٍ جائر لا فرق عندهم في طول لحيته، وما زالوا يقاتلون للكلمة ذاتها .. حريّة.
الثورة لو قَاْدها أهل الحكمة مَ بتِنْجَحشْ
يبدأ علاجَك بإعدام الطبيب الجحشْ
أصل الشهيد لما يرجعلك .. حَ يرجع وحشْ
ولمّا الحُسين يتقتل .. يرجع أبو العباسْ
يا أُمي يحيا الحزام الناسِف العادِلْ
يا أُمي بيسوّي بين القتلىْ والقاتِلْ
يا أمي ويريح الإتنين من الباطِلْ
ويشرّب اللي سقونا المرّ .. نفس الكاسْ[7].
محمود الطويل.
[1] مقال /الأخلاق أو ما تبقى منها/ المنشور في موقع /عربي 21/ يوم الأحد 03/05/2015 الرابط: http://arabi21.com/story/828413/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82%20%D8%A3%D9%88%20%D9%85%D8%A7%20%D8%AA%D8%A8%D9%82%D9%89%20%D9%85%D9%86%D9%87%D8%A7
[2] من مقال د. تميم البرغوثي، المصدر السابق.
[3] من مقال د. تميم البرغوثي، المصدر السابق.
[4] إشارة إلى الآية الكريمة (أُذنَ للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا ..) وهي التي أعطت الأذن للمسلمين بالقتال ضد من اعتدى عليهم، سورة الحج الآية 39.
[5] إشارة إلى الآية الكريمة عن آل فرعون وما مارسوه بأصحاب موسى، سورة طه الآية 8
[6] من قصيدة مقام عراق د. تميم البرغوثي
[7] قصيدة بالعامية المصرية ألقاها د. تميم في أمسيته مع والده الشاعر مريد البرغوثي في عمّان إحياءً لذكرى والدته الروائية رضوى عاشور18/04/2015.
تأتي معركة القلمون التي اتخذت مسمى معركة ذوبان الثلج أو الربيع ، في توقيت يكاد يكون مفصلي و حاسم ، ليس في هذه الرقعة الجغرافية ، بل الأمر يتعلق بترتيب أوراق سوريا كلها .
القلمون التي كان العام في نفس هذا الوقت تقريباً قد تم احتلالها من قبل مليشيا حزب الله الإرهابي و مشاركة من حركة أمل اللبنانية إضافة لقوات الأسد و بعض المليشيات الشيعية العراقية ، بعد معارك طاحنة أخذت من الوقت قرابة الثلاثة أشهر ، سبقها تمهيد اعلامي كبير ، كالذي يتم حالياً.
ما يجعلني أعود بالذاكرة للوراء لكشف أين أخطأنا و أين المشكلة كانت ، فوقتها كانت الرقعة الجغرافية للمعركة طويلة جداً و خط المعركة بطول أكثر من 30 كم و عمق يزيد عن 50 كم فيها قرى و مدن و مساحات شاسعة من الأراضي و الجبال ،كان تشتت القوة سبب في ضياع الجهود ، ووقف الدعم بشكل شبه كامل أدى للتسليم في النهاية ، مع ترك القلمون وحيداً يجابه الجميع حتى الشركاء في نفس المسير القريبين جغرافياً و البعيدين فكرياً .
أما اليوم الخط العام للمعركة ليس كما تلك ، فلجهود يمكن القول أنها توحدت تحت "الفتح " ، و المساحة ضاقت و الأراضي فيها و من الوعورة ما يجعلها بحاجة لما يسمى المعجزة من نوع "لاتصدق" و الكثير من الخيانة ، و الفائض عن الحساب من الخذلان ، حتى يتم الحسم فيها .
اليوم كما ذلك اليوم ، القلمون يجب أن لا يترك وحيداً ، و لا يكون الجبهة الوحيدة المفتوحة ، و لا ينأى الكثر بنفسه عن هذه المعركة ، فهنا المعركة تكسير عظم الحزب و النظام بآن معاً ، و ليست معركة جرح أو وهم أو إضعاف ، فلتشتعل الجبهات بعدة نقاط سواء في شطر القلمون الشرقي ، أم في امتداده في الغوطة و باقي أطراف السلسلة في حمص ، فالقلمون اليوم بحاجة لجبهات تسانده تشتت التركيز الكامل عليه ، و ما تبقى نتركه للأبطال على الأرض ، الذين عرفوا جيداً الأرض خلال العام الفائت الذي أمضوه في الجرود ، بين الصخور و الشوك و شجر "اللزاب" ، و بين أطنان الثلج و صقيع المغاور ، و هذه المعركة بالنسبة لهم معركة حياة أو موت ، فطريق الإنسحاب شبه مغلق ، إضافة لقلوب مُلئت بالحقد على أناسٍ دمروا حياة بلاد بأكملها و تسببوا بموت خيرة أشخاصها و أبرء سكانها .
لن نضخم من الأبطال المتواجدين في الثغور ، فالواقع شيء و الكلام الإنشائي شيء آخر ، ففي القلمون قلة قليلة ، يملكون من الإيمان و العزيمة ما يكفي جيوش و جحافل ، ففي القلمون رجال صادقين ، و يعرفون الطريق جيداً و خارجين عن كل سيطرة مصلحية أو غاية وضيعة ، فهم يحملون في قلوبهم مصلحة و غاية أنبل من أن نقيمها أو نحدها بوصف ، و تبقى القلمون بجبلاها و جرودها و اشجارها الفريدة ، فريدة حتى بمعاركها .
بعد أن فتح "نظام الأسد" قضيّة تجديد وتمديد الجوازات حتى للمخالفين قانونياً (كالمتخلفين عن الجيش) ، يبدو جليّاً أن النظام ما زال يعمل بالاستراتيجية نفسها التي تغفل عنها كل معارضتنا السياسيّة : ((أنا "الدولة" .. أنا "النظام" ..))
فقد طفت مشكلة الجوازات على السطح ، وبعد ضغوط الدول لأجل هذا الملف سارع النظام لاستلام الملف بنفسه بدلاً من إحالته للإئتلاف أو الحكومة المؤقتة ، فهو ليس فقط يحتاج للسيولة النقدية (الدولار) بل هو يحتاج لتثبيت ما لم يفقده حتى الآن على مستوى المجتمع الدولي حتى اللحظة : "الدولة" ..!
فكل دول العالم تعترف بالنظام السوري كدولة ، شرعية ، ونظام قائم ، رئيسه بشار الأسد ..
وهذا ما يقوم النظام بالعمل عليه على الأرض :
- فالمصالحات التي يقيمها يتعامل مع ملفها على أنه الدولة ، ويفتح صدره الكبير لهؤلاء المخطئين حتى يؤوبوا ..
وما إن يقع البعض في فخ المصالحة إلا ويسارع النظام بتأمين المنطقة ، وإعادة تأهليها قدر الإمكان ، وإتاحة عودة الناس لبيوتهم .. فقد عادت "الدولة" ..
- الهدنة مع المعضمية عندما وصلت لذروتها عقدتها ، بقي للنظام شرط واحد لم يتنازل عنه : رفع العلم السوري ..! فهو "الدولة" ..
- يتعامل النظام مع الموظفين على أنهم على رأس عملهم لدى "الدولة"، حيث ما يزال الكثير من الموظفين في حمص .. في إدلب .. في الغوطة حتى .. ما يزالوا يقبضون رواتبهم حتى الآن من عند النظام ..!!
ورغم أننا سعينا قدر الإمكان لوقف دوام الموظفين لتسقط الدولة (في 2012) ، لكن البعض عارض للأسف ، والموظفون خافوا على مرتباتهم، وبقي النظام قوي الأركان ، وبقيت "الدولة" ..!!
- السفارات الرسمية السورية في كلّ دول العالم هي سفارة النظام السوري .. ويبذل النظام كل جهده ألا يفقد واحدة منها ، فإذا ما حصل فإنها بالتأكيد لا تذهب إلى معارضيه (كالتي في السعودية) .. فهو فقط النظام .. وهو "الدولة" ..
- المناطق المحررة ، أو المحاصرة .. يتعامل معها النظام على أنها متمردة عن سلطة "الدولة" وهو مع ذلك يمرر شيئاً من شريان الحياة بمنطق واحد : أنا "الدولة" ..
- وبعيداً عن المعركة العسكرية إلا أنه ما يزال يصر على أن يكون أمام الناس والمواطنين على أنه "الدولة" ومؤسساته تعمل ، وعبر قنواته -الرسميّة- يتابع شؤون الناس في المناطق المحررة .. فهو "الدولة" ..
___________________________
أمثلة كثيرة تحضرني الآن عن هذا المفهوم ، ولكن أختصر وأقول :
لم تستطع المعارضة السياسية أن تثبت نفسها "كدولة" أو بديل عن النظام الحالي ..
وتستعر نار الحرب على المحاصصة فيما بينهم بين شلة السعودية وشلة فرنسا وشلة قطر .. فيما لم يفكروا بجدية بالظهور بمظهر "الدولة" ..
فكلّ طرف فيهم يعود إلى مرجعياته التي انتدبته : ماذا تأمرون لنفعل ؟؟!!
بينما الأحرى بهم أن يرتقوا إلى مستوى "النظام" و "الدولة" .. أن تكون فعلياً الحكومة المؤقتة "حكومة" .. وتحمل مواصفات "دولة" ، وقادرة على قيادة المرحلة الحالية أو الانتقالية ..
فهم لم يديروا قرية في ريف إدلب .. وتحررت المدينة ، وهم في المريخ جالسين ..!
لا يفكر أحدهم بالانتقال إلى الداخل ليعمل كدولة خوفاً أن تفوته المحاصصة السياسيّة في اسطنبول .. أو يقوم منتدبوا الطرف الآخر بالتمدد على حساب الطرف الذي انتدبه .. مما يجعلهم يفكرون باستبداله .. فكما فرضت فرنسا "ميشيل كيلو وقائمته كاملة" بالحذاء ، يفرضون غيره بنفس المنطق ..
وللإنصاف فإن ليس فقط ضعف المعارضة سبب رئيس ، فالمجتمع الدولي ما يزال حتى اللحظة يتعامل مع نظام بشار الأسد على أنه "الدولة الشرعية لسوريا" ، ومؤسساته وسفاراته ومقعده في الجامعة العربية أو مجلس الأمن وغيره مقعد شرعي رسمي وحيد ..
وتضغط كلُّ هذه الدول المعادية لثورتنا ، خصوصاً صاحبة لقب (أصدقاء سوريا) تضغط ليبقى النظام رسمياً شرعياً يُتعامل معه كنظام قائم الأركان ، وإن فقد بعض أجزائه في بعض مراحل الصراع مع هؤلاء (المسلحين المتمردين) ..
ولعل ديمستورا ذو التاريخ الشيعي العريق يفرض أيضاً النظام السوري ليس كطرف ، بل كجزء من القضية ، لحل المشكلة مع هؤلاء المعارضين الذين لا شكل لهم ولا هوية ..
وللأمانة أيضاً فإنَّ تركيا حاولت تسليم السفارة (وهو ملف خدمي بحت ذو بعد سياسي) للمعارضة إلا أنها لم تجد من يتولى هذا الشأن سوى مجموعة مافيات متصارعة فيما بينها ، تعمل بالتحكم عن بُعد ..
بينما فعلت قطر ذلك ، وسلّمت السفارة للإئتلاف ، عبر رجل تثق هي به ..
ولما أن قام سفير الائتلاف (الحراكي) بانتزاع حقّ إصدار الجوازات وتجديدها بشكل رسمي معترف فيه بأغلب دول العالم ، بادر غلمان فرنسا والسعودية بانتزاع السفير كله ، ومنعوا حصول ذلك ، وعاد الأسد وحيداً متفرداً بلقب : "الدولة" و "النظام" ...!!!
فليس تحرير منطقة هي نهاية المطاف ، وليس طرد المحتل الأسدي هي ذروة طموحنا .. فهنالك "دولة" يجب بناؤها ، والعمل عليها ، وتحقيقها ..
شؤون الناس لا تقضيها مجموعات إغاثيّة تطوعية أو جمعيات خيرية ..
والمدارس لا يمكن لمدرسين متطوعين ينتظرون المنح من الداعمين أن يقوموا بشؤونها ، وتخريج الأجيال دراسياً وإصدار الشهادات الرسمية ..
والمجالس المحلية لا تُقام بطريقة كل مجلس مستقل عن غيره يدير شرون قريته وحيداً دون منظومة تجمعهم ..
ولا يمكن أن يتحقق الانتصار الحقيقي طالما أن سقوط النظام الحالي والدولة الحالية لا يعقبه في المرحلة التالية مباشرةً : بناء "الدولة" ، واكتمال أركانها .
وإن كانت مخيمات أطمة التي تقع في المنطقة الآمنة المحظور على النظام استهدافها يزورها من السعودية وقطر والكويت أكثر مما يزورها أصحاب الائتلاف والحكومة المؤقتة .. فكيف لهؤلاء بناء "دولة" وإدارة "نظام" ؟؟؟؟
من اليوم الأول لشهادته أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، عرّى الزعيم الدرزي كمال جنبلاط النظام السوري. فكّك النظام من خلال معرفته برجاله. كشف جنبلاط بحسّه السياسي المرهف طبيعة النظام الذي دمر سوريا، وكاد أن يدمّر لبنان لولا صمود اللبنانيين وإصرارهم على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من بلدهم.
هناك نقاط عدّة يمكن التوقف عندها بعد سماع جنبلاط يدلي بشهادته في لاهاي أمام المحكمة التي تنظر في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، فضلا عن جرائم أخرى، أحيلت أو يمكن أن تحال عليها. ولكن يظلّ أهمّ ما في الشهادة كشفها الوجه الحقيقي للنظام السوري في أيّام الأب وفي أيام الابن. من الواضح أن لا فارق كبيرا بين الأب والابن، باستثناء أنّ الأوّل كان يعرف جيدا كيف يخفي الطبيعة العلوية للنظام، عبر تغطيتها بشخصيات من سنّة الريف مثل العماد حكمت الشهابي الذي كان رئيسا للأركان، أو السيّد عبدالحليم خدّام الذي كان نائبا لرئيس الجمهورية.
أوضح جنبلاط، بما لا يقبل أي شك، أن الأسد الأب ترك هامشا للمناورة لكلّ من الشهابي وخدّام اللذين كان يعتبرهما “صديقين” له. ولكن في نهاية المطاف، كشف ما يفترض أن يكتشفه كلّ سياسي يمتلك حدّا أدنى من النضج والرؤية. كشف أن العدو الأوّل للنظام السوري هو السنّي ابن المدينة الذي يمتلك علاقات عربية ودولية. وهذا ما جعل بشّار الأسد يخشى رفيق الحريري ويسعى إلى التخلّص منه. كان يخشى دائما من وجود زعيم قوي يمتلك علاقات عربية، سواء أكان ذلك في سوريا نفسها أم في لبنان.
فكّك وليد جنبلاط النظام السوري. استخدم اللواء غازي كنعان الذي كان مسؤولا حتّى العام 2002 عن لبنان. واستخدم الشهابي وخدّام والعبارات التي كانا يمرّرانها له بين حين وآخر. كذلك، استخدم دعوات الغداء، لدى اللواء محمّد ناصيف (أبو وائل) الذي كان يطغى عليها الجوّ العلوي. واستخدم حتّى رستم غزالي الذي كان عليه أن يتعامل بفظاظة مع رفيق الحريري.
فبعد اللقاء الأوّل الذي عقده الزعيم الدرزي مع بشّار الأسد، قبل أن يصبح الأخير رئيسا، خرج جنبلاط بانطباع فحواه أنّ الأسد الابن لا يعرف شيئا عن لبنان واللبنانيين، خصوصا عندما راح يطرح أسئلة تتناول المناطق التي يعيش فيها الدروز في لبنان، مشيرا إلى “أنّ له جماعة أيضا بين الدروز”. وقد دفع ذلك بغازي كنعان إلى تمرير رسالة إلى وليد جنبلاط عندما قال له “الآن صرت تعرف من هم آل الأسد”. كان يريد أن يقول له أن بشّار ليس سوى جاهل في أمور لبنان، وذلك قبل أن يتبين لاحقا أنه جاهل أيضا في أمور سوريا. لم يدرك جنبلاط مغزى الرسالة، إلا بعد “انتحار” غازي كنعان. وكان ملفتا أنّه أصرّ على تمرير عبارة أنّ غازي كنعان “أُجْبر على الانتحار”.
اتهم وليد جنبلاط حافظ الأسد، مباشرة، بقتل والده. لم يتّهم بشّار الأسد بشكل مباشر باغتيال رفيق الحريري، لكنّ الواضح أنّه استطاع رسم الأجواء التي هيّأت للجريمة التي تندرج في سياق الحرب التي يشنّها النظام السوري على أهل السنّة، خصوصا على سنّة المدن الكبيرة.
من خلال اغتيال رفيق الحريري، يمكن فهم ذلك الحقد على كلّ ما هو سنّي في لبنان. كذلك يمكن فهم تلك النقمة على كل سياسي كانت له حيثية بغض النظر عن مذهبه. لذلك، اغتيل كمال جنبلاط الذي لم يسمع نصيحة أنور السادات، فيما اضطر ريمون إده إلى تمضية بقية حياته في المنفى الباريسي.
في ضوء شهادة وليد جنبلاط، يمكن فهم لماذا كان اغتيال المفتي حسن خالد والاغتيال السياسي لصائب سلام وتقيّ الدين الصلح. كذلك، يمكن فهم لماذا لم يستطع النظام السوري أن يطيق وجود بشير الجميّل أو رينيه معوّض في رئاسة الجمهورية.
تساعد شهادة وليد جنبلاط في إعادة تركيب النظام السوري قطعة قطعة. إنّه نظام يقوم أساسا على تقارير لأجهزة المخابرات المتعددة التي يتجسس كلّ منها على الآخر. تصبّ التقارير، التي تبدو وكأنّها العمود الفقري للنظام، عند الرئيس الذي يبدو واضحا أنّه لا يثق سوى بعدد قليل من الأشخاص، هذا إذا كان يثق بأحد.
من يستمع إلى وليد جنبلاط أمام المحكمة الدولية، يدرك لماذا انتهى النظام السوري بالطريقة التي انتهى بها. إنّه نظام لا يعرف سوى التدمير، ولا شيء غير التدمير. عمل على تدمير لبنان ويعمل حاليا على تدمير سوريا. فشل في تدمير لبنان كلّيا، لكنه زرع فيه أمراضا سيكون من الصعب عليه التخلّص منها، خصوصا بعدما أقام هذا التحالف مع “حزب الله”، الذي ليس سوى ميليشيا مذهبية تعمل لمصلحة إيران ولا هدف لها سوى نشر البؤس والفقر في الوطن الصغير.
هدّد بشار الأسد رفيق الحريري بأنّه “سيكسرّ لبنان”، وذلك عندما بدا أن هناك محاولات يبذلها الرئيس الفرنسي جاك شيراك لإخراج الجيش السوري من لبنان. هذا ما نقله جنبلاط عن الحريري بعد لقاء له مع رئيس النظام السوري. انتهى الأمر بتكسير قسم لا بأس به من لبنان. لكنّ ما تكسّر في نهاية المطاف كان سوريا.
ما لم يقله جنبلاط أن النظام السوري لا يستطيع أن يبني. يستطيع أن يهدّم. هذا كلّ ما يستطيع عمله. حيثما حلّ يحلّ الدمار. حلّ في سوريا فحلّ معه الدمار. في كلّ يوم كان فيه ضيفا على لبنان، كان الدمار رفيق اللبنانيين، بدل أن يكون رفيقهم مشروع الإنماء الذي وقف خلفه رفيق الحريري.
بغض النظر عن كلّ المحاولات ذات الطابع الفولكلوري التي حاول من خلالها وليد جنبلاط التمسّك باتفاق الطائف، وعدم الربط بينه وبين القرار الرقم 1559 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي دعا إلى حلّ كل الميليشيات المسلحة في لبنان وإلى انسحاب الجيش السوري منه، يظلّ أن القرار والطائف شيء واحد. كلّ كلمة واردة في القرار، واردة أيضا في نص اتفاق الطائف.
كانت شهادة وليد جنبلاط شيّقة، خصوصا لجهة كشف حقيقة النظام السوري. تفادى الرجل، أقلّه في اليوم الأوّل، أي إشارة إلى “حزب الله” وإلى ملائكته المتهمين بتنفيذ الجريمة. هذا أمر يمكن أن تكون له انعكاساته الإيجابية على الصعيد الداخلي في لبنان.
المهمّ الآن، على صعيد المحكمة الدولية، استكمال رسم الأجواء التي ارتكبت الجريمة في إطارها، بما في ذلك التقارب المسيحي الإسلامي والدور الطليعي الذي لعبه البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير في التصدي للاحتلال السوري، وصولا إلى مرحلة يصبح من السهل فيها القول: الجريمة واضحة وأبطالها معروفون.
كل المؤشرات توحي بأن بشار الأسد انتهى وان ما يجري وراء الكواليس ليس سوى عملية مقايضة معقدة تتصل باقتسام سوريا مناطق نفوذ مرحلياً ريثما تتضح صورة المستقبل الذي لا يمكن فصله عن الشكل الإقليمي الجديد، وخصوصاً إذا تذكّرنا ان الحديث عن تقسيم العراق بات علنياً وصريحاً.
لكن هناك فرقاً في الواقع الميداني وفي التوزيع الأتني بين العراق وسوريا، ولهذا تستعمل في الحديث عن سوريا الآن كلمة اقتسام بدلاً من تقسيم. والاقتسام قد يكون مرحلياً لترتيب الحصص والمصالح بين المقتسمين. ولهذا كان من الضروري ضخّ مقدار من دخان التعمية عبر المشاورات الجانبية التي يجريها ستيفان دو ميستورا في جنيف مع بعض الأفرقاء السوريين، والتي لن تؤدي الآن الى أكثر من تحضير المنبر في إنتظار الاعلان عما يمكن ان يتوصل اليه المقتسمون وأعطائه شكلاً مشروعاً.
قبل أيام قليلة، ظهرت من طهران تحليلات غير رسمية تتحدث عن نقل العاصمة السورية دمشق الى طرطوس واللاذقية. ومع ان المقربين من النظام سارعوا الى القول ان هذا الإقتراح بعيد عن الواقع، فان لا دخان بلا نار كما يقال، فبعد ٢٤ ساعة برزت تقارير ديبلوماسية تتحدث عن مساعي اميركية مع ايران تهدف الى إجبار الأسد على التنحي!
طهران على ما تردد وضعت شروطاً محددة ثمناً لرأس الأسد، كضمان الحصول على الديون المترتبة عليه لمصلحتها وعدم الإدعاء على أي من الاطراف الايرانيين الذين قاتلوا الى جانبه، وتثبيت الملكيات العقارية التي حصلت عليها مقابل بعض الديون للنظام، والاعتراف بالهوية السورية التي أُعطيت لكثيرين من الإيرانيين الذين حاربوا مع الأسد!
كل هذا يأتي في ظل التطورات الميدانية الأخيرة التي عكست انهيارات متلاحقة لجبهات النظام، سواء في الجنوب حيث صدّ "الجيش السوري الحر" الايرانيين و"حزب الله"، وإنتقل الى الهجوم ليسيطر على بصرى الشام التي كانت مركزاً لـ"الحرس الثوري"، ثم جرى إقتحام معبر نصيب على الحدود الأردنية، أم في الشمال حيث سقطت إدلب ثم جسر الشغور وباتت اللاذقية مهددة!
المعارضة ستجتمع في انقرة ومن المرجح إعلان الشمال منطقة آمنة وبموافقة أميركية على ما يبدو، وفي الجنوب تسعى دول عربية لجعله منطقة آمنة أيضاً، وهذا ما يجعل منطقة الساحل السوري مسرحاً لتجاذب النفوذ بين ايران وروسيا، والرهان ضمناً على اصابة عصفورين بحجر واحد الخلاص من الاسد لفتح الباب واسعاً للخلاص من "داعش" والمتطرفين الإرهابيين.
من خلال كل هذا يمكن ان نفهم لماذا التركيز الكبير على المعركة من القلمون الى دمشق، ذلك ان ايران التي تخشى سيطرة روسيا على الساحل السوري تحرص على إبقاء الكوريدور الذي يربط القلمون وضواحي دمشق بلبنان!
حمل خطاب حسن نصر الله تهديدات وعلى عدة دفعات وباتجاهات مختلفة لكن ما يخصنا من كلامه حول معركة القلمون لأن الهدف الأساسي من معركة القلمون التي يريد حزب الله وضع ثقله فيها بناء على تعليمات طهران تأتي في إطار التحضير والاستعداد للانسحاب من سورية مع انهيار النظام وهو سينفذ ذات الاستراتيجية للانسحاب التي نفذتها اسرائيل عام 2000 عندما انسحبت من جنوب لبنان لحماية ظهر عناصره وكوادره عند إعطاء إشارة الانسحاب السريع
والمطلوب في حملة حزب الله الأهداف التالية:
أولا: بعد تحرير معبر نصيب وانقطاع شريان دمشق - عمان أصبحت ضرورة قصوى تأمين طريق دمشق - الساحل مرورا بحمص بعد أن تمت خلال الفترة الماضية تعزيز و تأمين طريق دمشق - بيروت لأنها ما تبقى من شرايين حياة للنظام ولأنها المنافذ البرية التي تؤدي إلى انسحاب سريع لإجلاء ماتبقى من كوادر وعناصر عسكرية وأمنية لإيران و لحزب الله مع سقوط نظام الأسد.
هناك أهمية لهذه الطرق أيضا لتأمين إجلاء من يتبقى من قيادات النظام وعائلاتهم للفرار نحو لبنان أو الساحل وكذلك اخراج الملفات والوثائق الهامة وربما بعض الأسلحة.
ثانيا: حماية وتأمين القرى الشيعية (حاضنة حزب الله الشعبية) المتاخمة للقلمون على طول الحدود السورية اللبنانية من مناطق الزبداني وصولا للقصير.
ثانيا: تعزيز وتقوية المراكز والمواقع الاستراتيجية لحزب الله في الجرد العالي في الطفيل والجبة والمعرة وعسال الورد و توسيع مناطق النفوذ وتعزيزها في طلعة موسى ومناطق من الجبل الشرقي.
ثالثا: تثبيت مواقعهم ومحاولة احتلال مناطق استراتيجية على المرتفعات المطلة على القلمون لحرمان المعارضة السورية المسلحة من السيطرة عليها لأن السيطرة عليها تعني أن المعارضة ستستطيع ببعض أنواع الأسلحة قطع طريق دمشق - الساحل عن بعد دون الحاجة إلى التدخل البري على الطريق لقطعه.
الجيش اللبناني لن يتدخل ولن يتجرأ على التدخل في القلمون وجرود القلمون من الجهة السورية وعمليات الحشد لحزب الله في مناطقه المطلة على القلمون أغلبهم يافعين و طلاب مدارس أعمارهم بين 15 و18 سنة ولا يمتلكون خبرات عسكرية والسبب أن أغلب القوة الضاربة للحزب والكوادر موجودة بالداخل السوري و هو في أقصى حالات الاستنزاف بعد الخسائر البشرية والعسكرية الكبيرة والفادحة في سورية.
جرود القلمون لن تستطيع أي قوة عسكرية من السيطرة عليها نظرا أنها مناطق جبلية وعرة تمتد على طول قد يزيد عن 100 كم .
مما لا شك فيه أن جرود المعرة وعسال الورد والجبة و رنكوس والطفيل ستكون مسرحا لمزبد من معارك عنيفة و كبيرة للغاية ستكلف حزب الله الكثير من الخسائر .
الجرود مناطق جبلية وعرة للغاية لا يمكن التنقل في أغلبها إلا للمشاة.
لا بد من الإشارة أيضا أنه لا وجود لداعش بالمطلق في كل مناطق القلمون وجرود القلمون ونؤكد أن داعش سحبت كل عناصرها نحو 600 عنصر من هذه المناطق قبل نحو ستة أسابيع باتجاه حمص و المناطق الشمالية وبناء على اتفاق مسبق مع نظام دمشق بعد فشل كل محاولات اشعال معارك بين داعش والنصرة في القلمون وفي مرحلة سابقة ولمنع الاحتكاك في جرود القلمون بين داعش والنصرة فقد حافظت داعش على وجودها في جريجير باتجاه القصير فيما بقيت بعض وحدات النصرة والجيش الحر تسيطر من خط عدم الاحتكاك مع داعش في جريجير وصولا إلى عسال الورد.
بقلم فهد المصري: رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية والامنية والعسكرية حول سورية
بعد مؤتمر موسكو التشاوري الثاني حول سورية، وتردد معلومات عن انعقاد مؤتمر القاهرة الثاني أيضا، اتضح أن المؤتمرين لم يضيفا إلى الأزمة إلا مزيداً من التعثر السياسي، ووهن المعارضة السورية، على وقع بحث العاصمتين عن دور ما لهما. وها هي العجلة السياسية تدور، ويلوح أن حراكا يدخل على خط الأزمة، بعد طول ركود واستنقاع سياسي، استمرت معهما مقتلة الشعب السوري، بوجوهها المأساوية المختلفة. فقد رشح أن السعودية تسعى إلى دعوة شخصيات من بعض أطراف المعارضة، وبغض النظر عن مؤسساتها، بهدف الاجتماع مستقبلاً في الرياض، من أجل تشكيل وفد أو هيئة عليا، للتفاوض على مستقبل الوضع السوري. وذلك في وقت أعلنت فيه الأمم المتحدة عن الدعوة التي وجهها المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي مستورا، لأطراف وشخصيات سورية معارضة، عسكرية وسياسية، وأخرى من النظام السوري، لحضور لقاءات تشاورية ثنائية منفصلة في جنيف في السابع من مايو/أيار المقبل، وحتى 22 من الشهر نفسه، لإجراء عملية حوار موسع، للوقوف على آراء المعنيين، بالإضافة إلى إيران والقوى الإقليمية والدولية، في ما يتعلق بكيفية المضي نحو حل سياسي للأزمة السورية.
وبطبيعة الحال، لا يمكن فصل المسعيين، السعودي والأممي، عن وقع التطورات الميدانية الأخيرة في المنطقة، سواء في اليمن أو في سورية، وهي تطورات دفعت مراقبين إلى المقارنة والربط بينهما، أو حتى لملاحظة تبادلية في التقدم والتراجع، على المستويين، العسكري والسياسي، إلى درجة أن بعضهم توصّل إلى القول إن عاصفة الحزم تضرب في جسر الشغور، وذلك بعد تحريرها قبل أيام، وسيطرة قوات المعارضة السورية عليها، واستكمالها قطع الطريق الدولي بين حلب واللاذقية، فبينما كانت "عاصفة الحزم" تضرب معاقل الحوثيين وحلفائهم، وتقطع مصادر إمداداتهم، وتعيد حسابات التدخل الإيراني، كانت المعارضة السورية تتابع تحقيق انتصاراتها في الجنوب، مع تحرير بصرى الشام، ومعبر نصيب، ثم تستكمل تحرير إدلب في الشمال، لتلحق به تحرير أريافها، وتتوجه غرباً إلى ريف اللاذقية، وجنوباً إلى ريف حماه ووسط سورية.
وحقا، وبغض النظر عن القوى المتصارعة محليا في اليمن وسورية، فإن القوى الإقليمية والدولية المتدخلة في الصراعين، تكاد تكون متطابقة، من السعودية وتركيا إلى روسيا وإيران، وصولاً إلى باقي دول الخليج المنضوية في إطار تحالف عاصفة الحزم أو والمتضامنة معها، فيما عدا سلطنة عمان التي بقيت على الحياد، ما أهلها لدور الوسيط في التهدئة الحاصلة، وفي مشروع الحل السياسي الجاري بحثه.
لكن، إذا كان من الواضح أن أجواء تحالفات عاصفة الحزم، قد انعكست على تحسن العلاقات السعودية القطرية التركية، ما ساهم في دعم انتصارات المعارضة، وحزمها في شمالي سورية بخاصة، فإن مسارا موازيا من الحزم إلى الأمل ما زال في طي الغموض، على الرغم من التفاؤل الذي توحي به دعوة الرياض القائمة على توقع الوصول إلى مرحلة تفاوضية قادمة.
وذلك ما لا تدل عليه، من جهة أخرى، دعوة دي مستورا للحوارات المنفصلة في جنيف، والتي تأتي بعد فشل مشروعه السابق لإقامة مناطق مجمدة في الصراع السوري، نتيجة تعنت النظام في حصاره وقصفه، ولرفض الثوار فصل حلب وبعض المناطق عن كلية الوضع السوري. كما أنها تأتي في جو شاعت فيه دلائل استعداد الغرب لتقبل إعادة تأهيل النظام السوري، في إطار التحالف الدولي ضد الإرهاب، والحرب الجوية التي أعلنها ضد داعش وأشباهه، والتي توقعت لها القيادة الأميركية ثلاث سنوات من المدى الزمني على الأقل، وما برز في إطار ذلك التقبل من وفود برلمانية أوروبية زارت دمشق، أو من منابر إعلامية أوروبية، فتحت نوافذها للنظام السوري ورأسه، علما أن الأخيرة تستجيب لهاجس إضافي ملح، أصبح مهددا لمستقبل النمو الأوروبي وميزانياته، وهو ما يتعلق بأخطار الهجرة المليونية غير الشرعية التي تهدد السواحل الأوروبية، والتي صار من الشائع القول إن علاجها غير ممكن، من دون إطفاء حرائق الشرق الأوسط وإيجاد تسويات سياسية لها.
"
يمكن أن يتقدم الحل السياسي السوري، بما فتحه التقدم العسكري للثوار، وهو حل يرتبط تحسين شروطه، بمتابعة زخم الانتصارات التي كانت وحدة جيش الفتح عنوانها البارز
"
وفي كل الحراك السياسي المذكور، سواء ذلك الذي جرى في موسكو والقاهرة، أو الذي يتوقع له أن يجري في الرياض وجنيف، من الواضح أن دور المعارضة السورية تغير، بعد أن فشلت، حتى تاريخه، في توحيد قواها، بل إن شرعيتها الرمزية ضعفت أو تلاشت عمليا، إذ لم تعد تدعى كمؤسسات، ولا كهيئات، ولم تعد مؤسستها الرسمية في الائتلاف الوطني تحتكر تمثيل المعارضة، أو تحدد ممثليها، ويجري السكوت عن كل ما يتعلق بهذه المسألة، بعد أن كانت أحد شروط مشاركتها في جنيف 2، فضلا عن أن المشاركات الجديدة ستشمل قادة عسكريين من الداخل أيضا، ولم يكن بعيداً عن ذلك خروج أبرز قادة جيش الإسلام من سورية، في زيارة خاطفة إلى تركيا والسعودية، وذلك كله سيعطي طابعا مختلفا لأداء ممثلي المعارضة، في أي مفاوضات مقبلة.
هكذا، يبدو أن سورية ستشهد صيفا ساخنا، بينما يتردد الميدان السياسي بين مجال دعوتين، يبدو أن إحداها يمكن لها أن تبنى على تجميد الصراع بين المعارضة والنظام، بانتظار التوصل إلى تسويات لا يفني فيها الذئب ولا يموت الغنم. بينما يمكن للثانية أن تبني على الحزم الحاصل على الأرض دعوة للأمل بتفاوض قريب، تدخله المعارضة والنظام على وقع التطورات العسكرية الأخيرة، وقبيل ارتسام نتائج التوقيع النهائي على الاتفاق النووي الإيراني ـ الغربي، حيث يمكن أن يتقدم الحل السياسي السوري، بما فتحه التقدم العسكري للثوار، وهو حل يرتبط تحسين شروطه، بمتابعة زخم الانتصارات التي كانت وحدة جيش الفتح عنوانها البارز، وتلك مسألة لا يتحمل المقاتلون مسؤوليتها وحدهم، بل هي مسؤولية جميع السوريين المعنيين بتدارك ما بقي من الوطن.
المعطيات السائدة، سوريا وإقليميا ودوليا، باتت تبشّر بإمكان استنفاذ الانفجار السوري لطاقته التدميرية، مع الاستدراك هنا بأن هذا الاستنتاج لا يعني بأية حال من الأحوال، التخفّف من التداعيات الخطيرة لترددات هذا الانفجار التي ستبقى مع السوريين، مع الأسف، لسنوات قادمة، والتي ستعتمد عند الانتهاء منها، على شكل إسقاط النظام، وطبيعة الحل، والمداخلات الدولية والإقليمية الفاعلة في المشهد السوري.
وفي الواقع لا يمكن احتساب الهزائم العسكرية التي مني بها النظام مؤخرا على امتداد الأرض السورية، لاسيما في إدلب وجسر الشغور، ودرعا وبصرى الشام وبصرى الحرير بالقرب من الحدود الأردنية، إلا في هذا الإطار، لاسيما مع توقع أن يمتد ذلك إلى حلب وربما حماه. هذا يظهر أيضاً على الصعيد المجتمعي، مع التململ المتزايد في البيئات الشعبية المتعاطفة مع النظام، خاصة في حمص والساحل، سيما مع تزايد الأخبار عن التهرب من الالتحاق بوحدات النظام العسكرية، وحتى حصول اشتباكات مع وحداته، ما يفيد بتنامي الشعور بالخوف من تبعات الارتباط بهذا النظام. وعلى الصعيد الاقتصادي، يمكن ملاحظة ذلك في الانخفاض المريع في قيمة الليرة السورية، واستنفاذ النظام لموارده، وحتى للمساعدات الخارجية التي كانت تغدق عليه من حلفائه، بعد أن باتت بمثابة عبء عليهم، ولا يخفى في هذا الإطار أن هذا حصل بسبب تقلص قدرة حلفاء النظام، خاصة روسيا وإيران، على مد يد العون له، بعد أن باتتا تدركان الكلفة السياسية والمادية والعسكرية الكبيرة، التي باتت تترتب على محاولاتهما إنقاذ النظام.
في هذا السياق نلاحظ أن هاجس نظام إيران أصبح يتركز على إيجاد توافقات مع الغرب، ولاسيما مع الولايات المتحدة، للانتهاء من مشكلة الملف النووي، وهو ما يتجلى في الجهود المضنية التي يبذلها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مع نظرائه الغربيين، بسبب التبعات السياسية والمادية لهذا الملف. كما يمكننا ملاحظة نوع من لهجة عسكرية هادئة لدى القادة العسكريين الإيرانيين، محل اللهجة “العنترية” التي كانت سائدة سابقا، ومثال ذلك إعلان قائد البحرية في الجيش الإيراني حبيب الله سياري أن السفن الحربية لبلاده “لن تدخل المياه الإقليمية لدول أخرى”.
مع ذلك فإن العلامة الأكبر لانكفاء حلفاء النظام السوري جرت مع انطلاق “عاصفة الحزم”، التي وضعت حداً لتمدد الحوثيين في اليمن، والتي بيّنت حدود قدرات إيران، وكشفت الأوهام عند دهاقنة النظام الإيراني.
ولعل هذه التطورات، الناجمة عن الانتصارات العسكرية للمعارضة السورية، وعن تداعيات “عاصفة الحزم”، وانكفاء حلفاء النظام، هي التي عززت موقف الإدارة الأميركية، التي أعادت الاعتبار لمواقفها المتعاطفة مع ثورة السوريين، والتي تتأسس على نزع شرعية نظام الأسد، على ما ظهر في استقبال جون كيري، وزير الخارجية الأميركي لرئيس الائتلاف الوطني السوري خالد خوجا في واشنطن. في هذا اللقاء بدت تصريحات كيري حاسمة بشأن أن الأسد “فقد كل شرعية ليكون جزءاً من مستقبل سوريا”. وبتشديده على “التزام الولايات المتحدة بالمساعدة على إحداث انتقال سياسي يقوم على أساس بيان جنيف ويفضي إلى تشكيل حكومة تمثيلية ومستقبل من الحرية والكرامة والأمن لجميع السوريين”.
لا ريب أن هذه التطورات تحصل على خلفية انكماش تنظيم “داعش”، إلى العراق، وتراجع دوره في سوريا، وعلى خلفية توحد الفصائل العسكرية للمعارضة السورية والتوافقات السياسية الإقليمية، وارتدادات الموقف العربي ضد السياسات الإيرانية، على ما ظهر في “عاصفة الحزم” في اليمن.
هل يقترب الانفجار السوري من نهاياته وهل اقتربت لحظة الخلاص من النظام؟ هذا ما ستجيب عنه الأشهر أو الأسابيع القادمة.