لا تبدو «عاصفة الحزم» قادرة حتى الآن على تغيير مناخ السيطرة الحوثية على اليمن، قد تنجح في اضعافه، ربما منعه من السيطرة على عدن، لكن لا شيء يوحي بان صنعاء ستعود إلى ما قبل الحادي والعشرين من كانون الثاني/يناير يوم سقوط القصر الرئاسي في يد الحوثيين.
على الأغلب، فان أطراف الصراع نفسها ستعود لطاولة المفاوضات، لكن بدل ان تكون في فندق موفنبيك في صنعاء تحت حراب الحوثيين، فانها قد تكون في فندق كيمبنيسكي جيبوتي أو ربما ريتز كارلتون مسقط!
فابو بكر القربي وزير خارجية اليمن السابق المقرب من علي عبد الله صالح زار جيبوتي للإعداد لحل تفاوضي، ونشرت تقارير تتحدث عن قبول الأطراف في اليمن العودة للحوار بشرط وقف تقدم الحوثيين نحو عدن، وهذا ربما التغيير الطفيف الوحيد الذي سيطرأ، قد يقبل الحوثيون بوقف اطلاق النار المؤقت، رغم انهم لم يكونوا متقدمين بهذا الشكل داخل أحياء عدن قبل بدء حملة القصف الجوي!
ففي السابق كانت جلسات حوار جمال بن عمر تجري تحت حراب الحوثيين الذين كانوا يقاتلون ويتحاورون في الوقت نفسه.
بالطبع فان السعودية تعارض حتى الآن وقف عمليات «عاصفة الحزم» والعودة للحوار، ببساطة لانها لم تحقق تغييرات جوهرية في موازين القوى ولم تفقد الحوثيين سيطرتهم على المواقع الرمزية لسلطتهم.
لكن ماذا لو تواصلت «عاصفة الحزم» وتعطلت جهود التسوية السلمية؟!
في هذه الحالة فان اليمن سيكون مقبلا على خيارين، أما السورنة أو التقسيم.
فمن الواضح ان كلا من طرفي النزاع يمتلك دعما اقليميا، سيتواصل ليتحول اليمن كما سوريا حلبة معركة اقليمية ومذهبية كبرى من خلال أطراف محلية، وان كنت لا أفضل تسمية الحرب بالوكالة لان أصل التقاتل هو محلي أهلي واستقوى بأطراف خارجية جغرافيا، وان كانت هذه التحالفات الاقليمية هي داخلية مذهبيا وسياسيا في منطقة لا قيمة فيها لحدود الجغرافيا والدول المتظاهرة بالحداثة أمام انتماءات مجتمعات بدائية.
في حال استمرار النزاع المسلح فان الحالة السورية تنبئنا بان الحلف الإيراني أكثر قدرة على دعم حلفائه بكفاءة عالية، وان التماسك العقائدي الذي يطبع هذا الحلف الذي تواصل بناؤه من عقود طويلة يجعله أكثر تصميما من تحالف الأنظمة العربية التي يبدو انها صحت متأخرة جدا لمواجهة إيران .. بعد ان أوشك ان يفوتها القطار.
فإيران استطاعت ابقاء أقلية علوية حاكمة في دمشق لا تتجاوز نسبتها العشرة في المئة من السكان أمام تمرد مسلح سني يمثل أكثر من ثلثي السكان تمرد سني مدعوم أيضا بالقوى الاقليمية العربية نفسها التي أطلقت اليوم «عاصفة الحزم».
فما بالكم بحلفاء إيران في اليمن من الحوثيين الذين قد تتجاوز نسبتهم ثلث السكان، ثلث أكثر تسلحا وتدريبا وانسجاما عقديا تقوده منظومة منضبطة، إضافة إلى الجماعات الموالية لعلي عبد الله صالح، والفرق العسكرية التابعة له. إذا حلفاء إيران في اليمن من المفترض انهم سيكونون أكثر قدرة على المواجهة من نظرائهم العلويين الاقلويين في سوريا وان تحالف معهم أقلية من السنة المعارضين للثورة، وفي المقابل فان حلف «عاصفة الحزم» يدعم قبائل ومجموعات من حزب الاصلاح الإخواني كان على خلاف معهم فقط قبل أشهر، ورغم ان القبائل المسلحة في اليمن حققت نتائج هامة في توجيه ضربات للحوثيين وقوات صالح واستعادت بعض المناطق، إلا ان حروبا كهذه تتوازى فيها قوة طرفي المواجهة تطول لسنوات بين كر وفر تماما كما حدث في سوريا وقبلها حرب لبنان الأهلية.
واذا تمكنت القبائل من تجميع قواتها والتنسيق مع مجموعات القاعدة المؤثرة في اليمن فانها قد تحقق تقدما ما لكنه سيقود في نهاية المطاف إلى تقسيم البلاد. لهذا فان مشكلة بعض العواصف غير الموسمية انها تأتي فجأة وتغادر فجأة ولا تغير المناخ إلا اذا كنا أمام أجواء طقس اقليمي جديد!
الغريب، لا بل المضحك في الأمر، أنه ما إن انتهى الغرب من استثمار مصطلح «الإسلاموفوبيا» لأغراضه الخاصة، حتى راح العرب يعيدون اجترار المصطلح، لكن هذه المرة ضد بعضهم البعض.
كيف لا وأننا نحن العرب لا نمانع حتى في تقليد الغالب الغربي فيما يسيء لنا. قد يتفهم المرء تصنيع الغرب لمصطلح «الإسلاموفوبيا» لتحقيق أغراض سياسية وعسكرية وثقافية معينة، لكن من الصعب أن يتفهم قيام ضحايا المصطلح أنفسهم ألا وهم العرب باستغلال المصطلح للإساءة لبعضهم البعض، وبالتالي للإسلام نفسه.
لقد عادت ظاهرة «الإسلاموفوبيا» إلى الحياة من جديد بقوة رهيبة، خاصة بعد الربيع العربي الذي كان من أبرز نتائجه فوز الإسلاميين في الانتخابات التي جرت في بعض الدول العربية. فقد فاز حزب في تونس. ولحقه الإخوان المسلمون والسلفيون في مصر، ناهيك عن أن الإسلاميين تصدروا المشهد في ليبيا في البداية. بعبارة أخرى، فإن بروز الإسلاميين على المشهد السياسي بقوة انتخابية غير مسبوقة جعل خصومهم، خاصة اليساريين والليبراليين والعلمانيين وأيتام الحكام الساقطين والمتساقطين، يتهافتون على التحذير من الخطر الإسلامي على الديمقراطيات الوليدة في المنطقة العربية في أعقاب الربيع العربي.
لا شك أن الإسلاميين لم يبلوا بلاء حسناً بعد وصولهم إلى السلطة في تونس ومصر. وقد صوت غالبية التونسيين ضدهم في الانتخابات الأخيرة بسبب فشلهم في إدارة البلاد بعد الثورة، وخاصة على الصعيد الاقتصادي.
وصحيح أن الأشهر الأولى من حكم الإخوان في مصر لم تكن مشجعة جداً. لكن هذا لا يبرر بأي حال من الأحوال شيطنة الإسلاميين وتصويرهم على أنهم خطر ساحق ماحق على بلاد الثورات. وهنا يجب أن نذكر أن أي حزب يصل إلى السلطة بعد ثورة شعبية سيلاقي مصير الأحزاب الإسلامية التي استلمت السلطة بعد الثورات في مصر وتونس وليبيا. كيف لا وتطلعات الشعوب تكون عادة عالية جداً، ناهيك عن أن تركة الأنظمة الساقطة تكون غالباً في غاية السوء. وبالتالي لا يمكن لأي قوة مهما امتلكت من مواهب السلطة أن تصلح الأوضاع بعصا سحرية. ولا ننسى أن الإسلاميين الذين وصلوا إلى السلطة ليس لديهم تجربة عريقة في الحكم، لا سيما وأنهم أمضوا معظم وقتهم في السجون بسبب الملاحقات والتضييق الدائم على نشاطهم السياسي. وبالتالي، لا يجب استغلال فشلهم في السلطة بعد الثورات لسحقهم وإخراجهم من الحياة السياسية إلى غير رجعة.
ولو تابعت الحملات الإعلامية التي يشنها خصوم الإسلاميين عليهم لرأيت العجب العجاب، فهذا يحذر من أسلمة الحياة العامة بكاملها، وذاك يحذر من الاستبداد الإسلامي.
لا بل إن كثيرين يجادلون بأن بعض الدول العربية لا تريد إسقاط النظام في سوريا خشية وصول الإسلاميين إلى السلطة بعده. لقد حاول العلمانيون وأذناب الأنظمة المتساقطة كل ما بوسعهم لتخويف الشعوب من الصعود الإسلامي الجديد بطريقة تفوق بشاعة الطريقة الغربية التي سادت على مدى العقدين الماضيين، وكأن الإسلاميين الجدد بعبع مرعب.
لا أدري لماذا كل هذا التخويف من الإسلاميين وشيطنتهم. أليس من الأفضل أن نقبل بنتائج صناديق الاقتراع التي تعتبر أس الديمقراطية بدل شيطنة الإسلاميين بالطريقة المستهلكة البائدة؟
أليس التخويف من الإسلاميين اعتداء فاضحا على الديمقراطية وعلى أتباع الإسلاميين الذين يعدون بالملايين؟ ألا تعبر شيطنة الإسلاميين عن عجز مقيم لدى خصومهم؟ أليس حرياً بأعداء الإسلاميين أن يجتذبوا الشارع ببرامجهم الانتخابية والسياسية بدل تشويه سمعة الخصوم؟
من الواضح أن الذين يخوفون المجتمعات العربية من المد الإسلامي لم يتعلموا من الدرس الغربي، فرغم الحملات الشعواء التي شنها الإعلام الغربي على الإسلاميين على مدى العشرين عاماً الماضية، إلا أن الإسلاميين ظلوا يحققون النصر تلو الآخر في الشارع العربي. ولما أتيحت لهم فرصة ديمقراطية حقيقية حصدوا الأخضر واليابس في الانتخابات. لهذا بدل إعادة تصنيع العجلة، على التيارات السياسية المناهضة للإسلاميين أن تبحث عن طرق جديدة لمنافستهم بدل أن تجتر الأساليب الغربية البائسة التي لم تفشل فقط في تشويه سمعة التيار الإسلامي، بل جعلت منها أكثر قوة. والأخطر من ذلك الآن وفي ظل هذه الحملات الشعواء ضد الإسلاميين في العديد من البلدان، يُخشى أن تتدعشن الأحزاب الإسلامية المعتدلة التي قبلت باللعبة السياسية بعد أن استخدم خصومها ضدها أقذر الأساليب لإخراجها من اللعبة السياسية.
أين تذهب التيارات الإسلامية الديمقراطية عندما ترى أن كل الأبواب أصبحت مغلقة في وجوهها؟ ألا تصبح الجماعات المتطرفة التي باتت تشكل صداعاً كبيراً للداخل والخارج الوجهة المفضلة للقوى الإسلامية المعتدلة؟
مضى أربع سنوات ولا يزال ذلك المشهد حياً في ذاكرة أهل حمص, فهو رمز النضال السلمي و نقطة التحول في مسيرة الثورة, إنه الاعتصام الأول في الثورة السورية, إعتصام ساحة الساعة في حمص يوم 18/4/2011.
يوم التشييع العظيم من الجامع الكبير، الذي غرست أحداثه في ذاكرة الحماصنة، شيّع الأهالي الشهداء من المتظاهرين الذين سقطوا برصاص قوات الأسد في حي باب السباع، حيث تمت الصلاة على أرواحهم في الجامع الكبير، واتّجه المشّيعون إلى المقبرة لدفنهم، وسط أصوات التكبير والهتافات.
وبعد الإنتهاء من دفن الشهداء ,عاد المشيعون مباشرة إلى الساحة الرئيسية في حمص, ساحة الساعة الجديدة، وخلال عودتهم مروا من حي الحميدية ذي الأغلبية المسيحية ، وقد بادر أهالي الحي إلى رش المتظاهرين بالأرز وقدموا لهم مياه الشرب، و انضم إليهم عدد كبير من شباب الحي
أغلقت المدينة وأسواقها أبوابها بشكل كامل، واستجاب الجميع لنداء الحرية، كما لوحظ غياب تام لجميع عناصر الشرطة والأمن الذين اختباؤا خوفاً من طوفان الحرية في شوارع المدينة, بعدها بدأ الشباب بتنظيم الاعتصام، وشكلوا مجموعات لتوفير الطعام والشراب وتوزيعها على الناس.
ومجموعات أمنية أقاموا الحواجز في المداخل الرئيسية للساحة لتفتيش المعتصمين والتدقيق في الهويات، ومنعوا إدخال العصيّ والأدوات الحادة، وقد أقيمت حواجز في شارع عبد الحميد الدروبي وتفرعاته، وعند شارع الدبلان وجورة الشياح، وكذلك من جهة الساعة القديمة، بينما رفعت اللافتات المناهضة لنظام الأسد.
في ذلك اليوم كانت أصوات الحرائر متلازمة مع أصوات الرجال، وكانت مشاركتهن مهمة وفاعلة في اعتصام الساعة، إذ هتفن للحرية والشهداء والمعتقلين، ورفعن لافتات الحرية، ثم تم وصْل مكبرات الصوت ، وبناء عدد من الخيم للمعتصمين فقد شاركت كل حمص في هذا اليوم، وكسرت حاجز الخوف.
تجمع الناس حول عامود الساعة الجديدة ، وتوزعت الجموع نحو شارع الدبلان وباتجاه الساعة القديمة، و غصّت ساحة مبنى البريد القديم و خلفها شارع نادي الضباط بالناس.
وقام أحد الشبان بتمزيق صورة بشار الأسد المعلقة على واجهة مبنى البريد المجاور، وكذلك أزال علم حزب البعث الكبير من المكان".
من هتافات المتظاهرين كان : ( حرية.. حرية إسلام ومسيحية ) ، ( يا حرية لوحي.. لوحي بدنا طل الملوحي ) و هتاف آخر (واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد) ( ارحل ..ارحل) و ( على الجنة رايحين شهداء بالملايين)
وعند الساعة الثانية بعد منتصف الليل تقريباً، فتح المئات من عناصر الأسد، النار على المعتصمين بشكل هيستيري، فسقط عشرات المعتصمين بين شهيد وجريح، فيما حاول الآخرون الفرار بكل الاتجاهات، ليطالهم كذلك رصاص القناصة المنتشرين على المباني المرتفعة, ساعتان متواصلتان من إطلاق الرصاص في كل الاتجاهات.
من غير المعروف حتى الآن عدد الشهداء الذين سقطو في تلك الليلة التاريخية التي ستذكرها مدينة حمص طويلاً فالبعض يتحدث عن المئات والبعض الآخر عن العشرات.
القصة الأغرب بين كل المجازر التي ارتكبها نظام الأسد أنه اعترف بارتكابه لهذه المجزرة في اليوم التالي واصفاً المعتصمين بأنهم سلفيون تكفيريون على اعلامه الرسمي وكأن السلفي والتكفيري لايستحق المحاكمة وانما يقتل فوراً.
اليوم نقف على أطلال ساعة حمص وساحة حريتها.. أربع سنوات والصور ماثلة في القلوب والأذهان، لا الشهداء انقضى ذكرهم ولا المعتصمون تابوا عن ارتكاب فعل الحرية.
ليس سرّا أن تفسير طهران للاتفاق-الإطار الذي توصلت إليه إيران مع مجموعة البلدان الخمسة زائد واحد في شأن ملفها النووي، يختلف عن التفسير الأميركي للاتفاق نفسه.
يؤكد المسؤولون الإيرانيون من كبيرهم، إلى صغيرهم، أن مفهومهم للاتفاق-الإطار يتلخّص في أن التوصل إلى اتفاق نهائي، في غضون أسابيع، يعني رفع العقوبات الدولية فورا وبشكل نهائي، على طريقة كوني فكانت.
في المقابل، يردّد المسؤولون الأميركيون، في كلّ مناسبة، أنّ العقوبات سترفع تدريجيا، وذلك بمقدار التزام إيران ببنود الاتفاق، ومع تحقق وكالة الطاقة النووية من ذلك.
يبدو الموقف الإيراني أكثر من مفهوم، إنّه تعبير عن رغبة في تسويق الاتفاق في الداخل من جهة، كما يعكس عمق الأزمة الاقتصادية من جهة أخرى. إنّها أزمة زادت مع هبوط أسعار النفط الذي رافقه كلام لعدد لا بأس به من المسؤولين عن فشل الثورة الإيرانية في بناء اقتصاد ينمو ويتطوّر بعيدا عن النفط. وهذا يعني بوضوح أنّ إيران التي وعدت، بعد ثورة 1979، ببناء اقتصاد منتج صارت أسيرة النفط أكثر من أيّ وقت، أي أكثر بكثير مما كانت عليه الحال في عهد الشاه الراحل.
هل من فشل أكبر من هذا الفشل؟ هل من دليل أكثر وضوحا على أن النظام الإيراني في هرب مستمرّ إلى الخارج للتغطية على أزمته الداخلية، التي لا يستطيع معالجتها إلا بالقمع والشعارات الطنّانة؟
هناك إذن اختلاف إيراني-أميركي، خصوصا أن الولايات المتحدة تعتبر نفسها المعني المباشر بطي صفحة العلاقات المتوترة مع إيران منذ عام 1979. ولذلك يبدو الرئيس باراك أوباما مستعدا للذهاب بعيدا في استرضاء الإيرانيين من أجل التوصل إلى الاتفاق النهائي في شأن الملف النووي. بالطبع، لا يستطيع أوباما، الذي بات يعتقد أن الاتفاق مع إيران وتطبيع العلاقات معها سيُدخله التاريخ، تجاهل الرأي العام الأميركي، خصوصا الكونغرس حيث الأكثرية الجمهورية الرافضة لأيّ تساهل مع إيران.
هذا الاختلاف الإيراني-الأميركي لا يعني، وجود تفاهم أميركي-عربي في شأن كيفية التعاطي مع إيران. غياب التفاهم العربي مع واشنطن قائم، رغم أن كلّ الدول العربية تسعى إلى علاقات طبيعية مع إيران. عبّر عن ذلك وزير خارجية دولة الإمارات الشيخ عبدالله بن زايد الذي تحدّث أخيرا، بصراحة ليس بعدها صراحة، عن “أنّ إيران لا تترك مجالا لشركائها في المنطقة” من أجل إقامة علاقات “طبيعية وإيجابية ونموذجية”. أشار إلى رغبة إيران المستمرّة في “تصدير الثورة”. إيران تتدخل في غير منطقة عربية، وحتى خارج المنطقة العربية، ولا تكتفي باحتلال الجزر الإماراتية الثلاث (أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى) منذ العام 1971، منذ أيام الشاه. وهذا يعني في طبيعة الحال، أنّه لم يتغيّر شيء في إيران وسياستها التوسعية بعد الثورة. بل زاد وضع العلاقات سوءا بين إيران وجيرانها في مرحلة ما بعد الشاه، الذي كان يطمح إلى لعب دور “شرطيّ الخليج”.
تختزل الإدارة الأميركية أزمات الشرق الأوسط بالملف النووي الإيراني. هذا ما حاول أيضا الملك عبدالله الثاني تصحيحه في حديثه الأخير إلى “فوكس نيوز”. قال العاهل الأردني مشيرا إلى المقاربة العربية المختلفة عندما يتعلّق الأمر بالملفّ النووي الإيراني “لدى إيران الكثير من الأوراق، منها ورقة الملف النووي التي تحمل مقدارا من الأهمّية للولايات المتحدة والتي تُناقش حاليا. لكنّ لإيران دورا في العراق ويمكنها التأثير هناك، كما تدعم النظام في سوريا وتدعم “حزب الله” في لبنان وفي سوريا إلى حدّ ما. ولديها وجود في اليمن والقرن الأفريقي ولديها تأثيرها في أفغانستان. وهناك بعض التوتر بينها وبين باكستان على الحدود (بين البلدين). لذا، عندما تتعامل مع إيران، عليك أن تأخذ كلّ هذه الأوراق في الاعتبار لتفهمها جيدا. وكما أشرت، عليك أن تربط بين هذه النقاط كلّها. تعتبر كلّ العناصر التي ذكرتها عناصر عدم استقرار، وبالتالي يجب مناقشتها مع الأميركيين. لا يمكنك مناقشة كلّ مسألة على حدة”.
باختصار، الاختلاف بين إيران والولايات المتحدة لا يلغي الخلاف العربي مع إدارة أوباما في شأن مقاربتها لأزمات المنطقة. هناك استعداد أميركي للدخول في صفقة مع إيران دون التساؤل: ما الذي تفعله إيران في العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن، على سبيل المثال وليس الحصر؟
لنضع جانبا احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث ورفضها التفاوض في هذا الشأن، من المستغرب امتناع إدارة أوباما عن أخذ علم بالبديهيات. في طليعة البديهيات هذا الإصرار الإيراني على رفع العقوبات فورا، وعلى عزل الملف النووي عن أزمات المنطقة التي تتسبّب بها؟ ماذا تفعل إيران في العراق؟ كيف يمكن أن تدعم نظاما يقتل شعبه يوميا في سوريا؟ لماذا تعتمد سياستها في لبنان على ميليشيا مذهبية مسلحة تمنع الوطن الصغير من تحقيق أي تقدّم في أيّ مجال كان، بما في ذلك انتخاب رئيس للجمهورية يعمل من أجل رفاه أبناء بلده؟
لا حاجة إلى شرح ما تقوم به إيران في اليمن بما سيؤدي في نهاية المطاف إلى تقسيم البلد وتفتيته، وتشجيع “القاعدة” على التمدّد في كلّ محافظات هذا البلد الفقير الذي يعاني الجهل والفقر. هل في استطاعة إدارة أوباما الفصل بين النشاط الإيراني في اليمن، وهو نشاط مستمرّ منذ ما يزيد على خمس عشرة سنة، والأزمة التي يعاني منها البلد؟
ليس الموضوع موضوع الملفّ النووي الإيراني والعقوبات المفروضة على إيران. الموضوع هل إيران دولة طبيعية أم لا؟ هذا ما يفترض في الإدارة الأميركية النظر فيه في حال كانت تبحث عن الاستقرار في الشرق الأوسط، وتريد العمل على ترسيخه. إما مقاربة شاملة للدور الإيراني على الصعيد الإقليمي، وإمّا غرق في تفسير نص الاتفاق-الإطار الذي تمّ التوصل إليه. مثل هذا النقاش لا طائل منه، ولا يصب سوى في محاولة أخرى لإيران من أجل استخدام أيّ أموال تأتيها من رفع العقوبات للاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية، بغية تفتيت المجتمعات العربية، وهو هدف إيراني بحدّ ذاته… فهل هو هدف أميركي أيضا؟
شكل الوضع الفلسطيني أحد تعقيدات الثورة السورية، وإحدى الحساسيات التي تثقلها، إلى جانب قضايا الأكراد والتنوعات المذهبية والإثنية والدور الإقليمي، فضلا عن التبعات المتعلقة بادعاءات النظام المقاومة والممانعة.
وبحسب بعض الإحصائيات الموثقة فقد بلغ عدد الضحايا من الفلسطينيين السوريين نتيجة الصراع السوري، أكثر من 2500 شهيد، يقدر أن نصفهم من مخيم اليرموك وجواره، وضمن هذا العدد الإجمالي يمكن احتساب 300 شهيد قضوا ضحية التعذيب، وذلك خلال الأعوام الأربعة الماضية، علما بأن ثمة مئتي أسير فلسطيني لقوا مصرعهم في السجون الإسرائيلية خلال ما يقارب نصف قرن!
فوق ذلك ثمة حوالي 900 من الفلسطينيين يقبعون منذ زمن في معتقلات النظام، وما يقارب نصف اللاجئين الفلسطينيين السوريين غادروا مخيماتهم بسبب الحصار والقصف، بحيث باتوا لاجئين مرة ثانية أو ثالثة في الأردن أو لبنان أو تركيا، وفي غيرها من الدول.
"مأساة مخيم اليرموك لم تبدأ مع الهجمة الداعشية، وإنما مع حصار النظام له منذ 25 شهرا، ولاسيما مع فرض الإغلاق عليه منذ عامين، الذي تضمن منع الأشخاص حتى الأطفال والنساء والشيوخ من الدخول والخروج، مع وقف دخول المواد الغذائية والصيدلانية وقطع الكهرباء ثم قطع المياه"
مؤخرا احتل المشهد الفلسطيني، من بوابة مخيم اليرموك وسكانه الـ18 ألفا المتبقين، مركز الصدارة في وسائل الإعلام، ووسائط التواصل الاجتماعي، والتحركات الفلسطينية والدولية، وذلك بسبب هجمة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وحليفته جبهة النصرة على هذا المخيم، مما أوحى باحتمال نهاية مخيم آخر، وهو ما يثير المخاوف بشأن مواجهة ذات المصير الكارثي الذي كانت قد واجهته مخيمات تل الزعتر وضبية وصبرا وشاتيلا ونهر البارد.
بيد أن تناول هذا الموضوع يقضي التنويه إلى ثلاث ملاحظات أساسية. أولاها، تفيد بأن مأساة الفلسطينيين في سوريا لا تقتصر على أهالي مخيم اليرموك، إذ تشمل معظم مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي لاقى قاطنوها المصير ذاته، علما بأن النظام يمنع أهالي مخيمات الست زينب والسبينة والحسينية (قرب دمشق) من العودة إلى بيوتهم رغم أنها باتت تخضع لسيطرته.
وثانيتها، أن مأساة مخيم اليرموك لم تبدأ مع الهجمة الداعشية، وإنما مع حصار النظام له، منذ 25 شهرا (ديسمبر/كانون الأول 2012)، ولاسيما مع فرض الإغلاق عليه منذ عامين الذي تضمن منع الأشخاص حتى الأطفال والنساء والشيوخ من الدخول والخروج، مع وقف دخول المواد الغذائية والصيدلانية وقطع الكهرباء، ثم قطع المياه (منذ مئتي يوم)، الأمر الذي أدى إلى استشهاد حولي 170 شخصا قضوا ضحية الجوع والمرض.
وثالثتها، أن هذا المخيم الواقع جنوب دمشق، يتموضع ضمن مجموعة أحياء شعبية فقيرة، وهي أحياء عشوائية مكتظة يقطنها حوالي مليون سوري، مما يعني أنه لا يقع وسط جزيرة معزولة، إذ إنه بمثابة مدينة صغيرة، تستقطب النازحين السوريين من مدن أخرى، ومن دمشق ذاتها، علما بأن عدد الفلسطينيين في هذه المنطقة لا يتعدى مئتي ألف.
ما ينبغي أخذه في الاعتبار أيضا، أن هذا المخيم ليس كأي مخيم آخر، إذ إنه يعد بمثابة عاصمة للاجئين الفلسطينيين، بسبب حيويته الناجمة عن تركز عدد كبير منهم فيه، وتنوع أنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتركز معظم مكاتب منظماتهم في أحيائه، والأهم أنه يعتبر من أهم مراكز الثقل للوطنية الفلسطينية التي استعصت على تطويع النظام السوري، في معظم المنعطفات التي شهدت التجاذب بينه وبين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
وكان مخيم اليرموك قد بدا مع اندلاع الثورة السورية قبل أربعة أعوام، بحكم موقعه الجغرافي وثقله الديمغرافي، بمثابة نقطة تجاذب بين النظام والمعارضة، مما صعب من المواقف التي تدعو إلى النأي به عن الصراع الدائر. فالنظام أراد استخدامه لمصلحته بمساعدة الفصائل الفلسطينية التابعة له تاريخيا، والمعارضة أرادت أخذه لصالحها بالنظر إلى تشابكه مع حواضنها الشعبية في الأحياء المجاورة، في حين أراد أهالي المخيم الإبقاء عليه منطقة حاضنة، ومنطقة إغاثة للسوريين النازحين من المناطق المجاورة، هربا من قصف النظام وعسفه وظلمه.
وكما أصبح معروفا فإن النظام منذ حينها لم يرتح لهذا المعادلة فبدأ يشتغل على إفشالها مع الموالين له، بحيث أصبح يتعامل مع المخيم بوصفه منطقة خارجة عن سلطته وينبغي تأديبها، أو تدفعيها الثمن. ومعلوم أن ذلك الأمر حصل قبل أن يكون ثمة مسلحون في مخيم اليرموك، وقبل ظهور جبهة النصرة أو داعش أو غيرهما بكثير.
في هذا الإطار، مثلا، قام النظام، يوم 13/7/2012 بإطلاق النار على مظاهرة في المخيم، مما أدى إلى مصرع ثمانية فلسطينيين، أحدهم -وهو أحمد السهلي أبو رامز- أعدم بين أولاده وفي منزله المجاور لمكان المظاهرة من دون أي سبب، ولعل هذا هو الحدث المؤسس لكل ما جرى فيما بعد. وفي يوم 2/8/2012 لقي 18 فلسطينيا مصرعهم في حي الجاعونة في المخيم، نتيجة القصف الصاروخي من قواعد النظام القريبة، وهو ما تكرر يوم 5/11/2012، حيث لقي 13 من أبناء المخيم مصرعهم.
"النظام هو المسؤول الأساس عن مآلات مخيم اليرموك، وعن كل ما جرى في سوريا منذ قرابة نصف قرن، إذ لم يعجبه أن يصبح المخيم حاضنة للمشردين السوريين من المناطق المجاورة، ولم يرض بأقل من أخذه لمصلحته، مستعينا ببعض الفصائل"
وبالإجمال فقد بلغ عدد شهداء القصف الصاروخي فقط من فلسطينيي مخيم اليرموك لوحده أكثر من 80 شهيدا (عدا فلسطينيي الحجر الأسود والتضامن المجاورين) حتى تاريخ 15/12/2012، أي قبل حادثة قصف طائرة "الميغ" بيوم واحد، التي استهدفت مسجد عبد القادر الحسيني ومدرسة الفالوجة، وهي غارة تكررت يوم 19/12، بالقصف الصاروخي الذي أحدث دمارا هائلا في دائرة قطرها 50 مترا، قرب مبنى "المحكمة" المجاور لشارع الثلاثين (غرب المخيم).
ونتيجة لذلك فإن هذا الصراع أدى إلى دخول الجماعات المسلحة إلى المخيم، تماما كما حصل في المناطق السورية الأخرى، مما أثار مخاوف أهالي المخيم الذين آثروا الخروج منه خوفا من قصف النظام وحصاره للمخيم، كما جرى في الحالات المماثلة في المناطق الأخرى، وهو ما حصل فعلا، كما شهدنا طوال 25 شهرا الماضية.
ثمة أربعة استنتاجات رئيسية من هذا العرض. أولها، أن مخيم اليرموك تعرض إلى ما تعرض له قبل ظهور السلاح، وقبل التحول إلى الثورة المسلحة في المجال السوري، وقبل ظهور جبهة النصرة وداعش وشبيهاتهما. وثانيتها، أن النظام بالذات -الذي يفرض طوقا وحشيا حول المخيم، ويمنع حتى رغيف خبز وقنينة ماء- هو المسؤول عن تناسل ظاهرة الجماعات المتطرفة في المخيم، وهيمنتها عليه.
أما الأمر الثالث، فمفاده أن ما يحصل للفلسطينيين ليس نسيج وحده، فقد حصل مثله في المناطق السورية الأخرى، في درعا وحمص وحلب وإدلب والرقة، وفي دمشق في القابون وبرزة ودوما، ولاسيما مع صعود جماعات داعش وأخواتها، مع كل الأعمال المشينة والإجرامية التي ترتكبها مثل هذه الجماعات في حق السوريين والفلسطينيين.
ورابعها، أن النظام هو المسؤول الأساس عن مآلات مخيم اليرموك، وعن كل ما جرى في سوريا منذ قرابة نصف قرن، إذ لم يعجبه أن يصبح المخيم حاضنة للمشردين السوريين من المناطق المجاورة، ولم يرض بأقل من أخذه لمصلحته، مستعينا ببعض الفصائل. وفي الأصل فإن النظام لم يكن مرتاحا لهذا المخيم في انحيازه للوطنية الفلسطينية، التي مثلها ياسر عرفات في مراحل الصراع مع النظام على القرار الفلسطيني المستقل.
أيضا تتحمل المعارضة مسؤولية عما جرى لكونها لم تستوعب مخطط النظام، بل استُدرجت إلى مربعه، بأخذها المخيم لمصلحتها، مما أدى إلى تشريد سكانه المليون من فلسطينيين وسوريين.
وقد يجدر التنويه هنا، أيضا، إلى أن ثمة ما هو مخفي في قصة أخذ الجماعات المسلحة المعارضة للمخيم، إذ تبين بعدها أن العديد من قادتها هم من المحسوبين على أجهزة الاستخبارات، مما يذكر بمأساة مخيم نهر البارد، التي تسببت فيها "فتح الإسلام" التي نشأت في أحضان "فتح الانتفاضة" المحسوبة على النظام السوري.
وثمة مشروعية لاستنتاج كهذا، على ضوء طرح تساؤلات من نوع: كيف وصلت "داعش" إلى المخيم المحاصر؟ وكيف استطاعت في مناطق محاصرة أن تؤمن السلاح والذخيرة والمواد التموينية؟ ولماذا لم يستهدف النظام داعش ببراميله المتفجرة بدل استهداف المخيم؟ ولماذا لم تتوجه "داعش" وحليفتها "النصرة" إلى استهداف النظام بدل استهداف المخيم؟ ولماذا لم يفتح ممر آمن لإخراج الأهالي الأبرياء؟
وما يلفت الانتباه هنا في نقاش هذه القضية هو واقع اضطراب مواقف القيادة الفلسطينية، فهي كانت في فترات سابقة قد ادعت "النأي بالنفس" عما يجري في سوريا، بل إنها قامت بإلقاء اللوم على الجبهة الشعبية القيادة العامة وأمينها العام أحمد جبريل لتسببهم في توريط الفلسطينيين بالصراع السوري، بحكم انحيازهم للنظام، وطلبهم إنشاء لجان مسلحة في المخيمات. لكن مواقف قيادة المنظمة لم تثبت عند ذلك إذ أصبحت في أوقات أخرى تبدو كمن يعول على إنشاء علاقات مع النظام، مستفيدة من تراجع مدّ الثورة السورية، عربيا ودوليا.
الآن وبغض النظر عن موقف القيادة الفلسطينية من ثورة السوريين، فما يهمنا أساسا هنا هو موقفها من مأساة الفلسطينيين السوريين، الذي لم يدلّ على تعاطفها مع معاناتهم وعذاباتهم، إلى الدرجة المناسبة، وهو ما يوحي بانقطاعها عنهم، وتحولها إلى مجرد سلطة في الضفة الغربية، وحتى تطويحها بمكانتها الاعتبارية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني.
"بعد هجمة داعش والنصرة على مخيم اليرموك ظهر موقف القيادة الفلسطينية غاية في الانكشاف، ذلك أن السكوت عن حصار المخيم لأكثر من عامين، وعن جرائم النظام المتمثلة بالقصف والقنص والتدمير، وسياسة الاعتقال والموت تحت التعذيب، شمل تبني روايته بوجود جماعات تكفيرية وإرهابية في المخيم"
هكذا، فبعد هجمة داعش والنصرة على مخيم اليرموك ظهر موقف القيادة الفلسطينية غاية في الانكشاف، ذلك أن السكوت عن حصار مخيم اليرموك، لأكثر من عامين، وعن جرائم النظام المتمثلة بالقصف والقنص والتدمير، وسياسة الاعتقال والموت تحت التعذيب، شمل تبني رواية النظام بشأن وجود جماعات تكفيرية وإرهابية في المخيم، الأمر الذي فندته وقائع الأيام الأخيرة، ولا سيما بهجوم جماعات داعش والنصرة على المخيم.
في هذا الإطار برزت تصريحات أحمد مجدلاني عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي نمت عن خفة وسذاجة بالغتين، إذ دعا إلى التعاون بين السلطة الفلسطينية والنظام السوري لإيجاد حل أمني لمشكلة مخيم اليرموك، متناسيا أن حصار المخيم بدأ قبل ظهور النصرة وداعش، وأن النظام يقصف المخيم بشكل عشوائي، ويعتقل في سجونه مئات الفلسطينيين، وأنه لم يسمح بفتح ممر آمن.
ويبدو أن هذا التصريح لم يمر على قيادة منظمة التحرير التي أصدرت بيانا عبرت فيه بطريقة غير مباشرة عن رفضها لتصريحات مجدلاني، مؤكدة "موقفها الدائم برفض زج شعبنا ومخيماته في أتون الصراع الدائر في سوريا الشقيقة، وأنها ترفض تماما أن تكون طرفا في صراع مسلح على أرض مخيم اليرموك، بحجة إنقاذ المخيم الجريح.. وأن منظمة التحرير الفلسطينية في الوقت الذي تحرص فيه على علاقاتها مع كل الأطراف، تؤكد رفضها الانجرار إلى أي عمل عسكري، مهما كان نوعه أو غطاؤه، وتدعو إلى اللجوء إلى وسائل أُخرى حقنا لدماء شعبنا، ومنعا للمزيد من الخراب والتهجير لأبناء مخيم اليرموك".
لكن المطلوب من القيادة الفلسطينية في مثل هذه الحال ليس فقط التنصل من تصريحات مجدلاني التي تتنكر لعذابات الفلسطينيين السوريين ومعاناتهم، وإنما المطلوب مع ذلك تجريده من مناصبه ومحاسبته على ما صدر عنه من مواقف تضر بمعنى قضية فلسطين باعتبارها ليست مجرد قضية قطعة أرض، وإنما هي معنى للحرية والكرامة والعدالة أيضا. فضلا عن أن مواقف كهذه تقوض مكانة منظمة التحرير بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده، إضافة إلى إظهارها القيادة الفلسطينية قيادة متخاذلة منعزلة عن شعبها.
أخيرا، نتحدث عن كل ذلك ونحن ندرك أن نكبة الفلسطينيين في سوريا جزء من نكبة السوريين.. فالألم واحد والأمل واحد.
الحرارة تستطيع أن تذيب كل شيء ، حتى الصخر عندما تصل لدرجة عالية جداً يمكن توليدها من النار، هذه النظرية يعمل عليها الأسد و قواته و من يسانده من حزب الله و ايران و المليشيات الأخرى ، في إدلب منذ قرابة الإسبوعين و تحديداً بعد 28 آذار بعدة أيام بعد أن خرجت عن سيطرته و أعلنت حريتها.
ما يجري في إدلب محرقة حقيقة أو فرن إذابة لكل ما هو موجود على سطح الأرض في إدلب و ريفها و ما تحتويه الأرض في باطنها ، و سياسة الأرض المحروقة باتت من الأمور البالية ، بعد إنتهاج اسلوب الأرض "المُذابة" .
تتراوح الغارات اليومية على إدلب و ريفها بمعدل ما بين 40-50 غارة يومية في أهدى الأحوال ترتفع إلى 120 غارة في أعنف الأيام ، و يُشاهد في سماء المحافظة سرب كامل من الطيران الحربي إلى جانبه حوامات و طائرات الإستطلاع تعمل في آن معاً و بكل ما أوتيت من قدرة و ما يفوق عن قدرتها ، فالإذابة بحاجة لكم من النيران لا يصدقه عقل بشري.
إدلب اليوم تحولت إلى فرن إذابة حقيقي ، وقوده البشر و الحجر ، و أتونه القصف بكل شيء و أي شيء متوافر ابتداءً من رصاصة مسدس و انتهاءً بصواريخ سكود ، و ما بينهما من مدفعية و راجمات و طائرات و .... و.... .
هذه الإذابة تقابل ببرود تام لحد التجمد من كل المجتمع الدولي القريب منه و البعيد ، و من يدعي الصداقة إلى من يعلن العداء التام ، فإدلب النموذج الذي انتظرناه أربعة أعوام بات داخل محرقة الأسد .
إدلب التي أذاقت الأسد مرارات كثيرة كونها أول من خرج عن الطاعة و أكثر من آلمه و أشد من كسره في مواجهاته .
إدلب اليوم كما يدعون أنها تحوي على أناس محاصرين في "كفريا و الفوعة " و هم آتون لنجدتهم ، فهم من شيعتهم و هم سيحموهم ، فماذا لو تم إنهاء هذا الوجود في المنطقة ، وماذا لو ذاقوا جزء من حجم الجحيم الذي يعيش فيه أهلنا .
لسنا في وارد الحديث عن حجم ما يعانيه الجميع داخل ادلب "مدينة و ريف" ، و لا في الكلام عن التخاذل الذي لاقته ثورتنا عموماً في كل مراحلها بما فيها هذه المرحلة ، و إنما كل ما سبق هو اشارة على أن شراهة الأسد و قواته و موالوه تزداد و ستزداد أكثر فأكثر ، و أن لم يتم إيقافها فنشهد أنواع أخرى من العنف و القتل و الإبادة و الإذابة ، و لا نعرف السياسة الجديدة التي ستنتهج في قادمات الأيام ، مالم يتم إيقافه اليوم في إدلب من قبل الثوار على الأرض ، الذي هم بأمس الحاجة إلى شيء واحد وهم نبذ كل شيء و التركيز على جبهة واحدة و هي جبهة الأسد فقط لاغير ، فكما تحررت بالتوحد ستبقى صامدة و تكسر المهاجمين كذلك بالتوحد .
يطالب باراك أوباما العرب، وهو محقٌّ إلى حد بعيد، بأن يكونوا «أكثر نشاطاً» في مواجهة الأزمات الإقليمية، لكنه يريد من العرب إظهار قوة سعت الولايات المتحدة دائماً إلى حرمانهم منها، بل عملت وتعمل لكي يكون العرب محاطين بقوى إقليمية متفوقة عليــــهم عسكرياً، بدءاً بإسرائيل النووية وتركيا الأطلسية ثم بإيران المعربدة مذهبياً ونووياً. لعل «عاصفة الحزم»، كمؤشر يقظة تتخطّى مجرد رد الفعل، هي التي أوحت للرئيس الأميركي بهذا الوعي - الاعتراف المفاجئ بدور العرب، فإذا أبدوا استعداداً عملياً للدفاع عن أنفسهم ومصالحهم تستطيع أميركا عندذاك أن تساعدهم. لكن أوباما يحتاج إلى أكثر من التذرّع بـ «السخط الداخلي لدى الحلفاء العرب» ليبرر انحيازات أميركا إسرائيلياً وأخطاءها عراقياً (قبل الانسحاب وبعده) وفظاعة مجاملاتها لإيران في كل تدخلاتها من سورية إلى العراق واليمن مروراً بلبنان والبحرين وغزة. فأميركا أوباما مثل أميركا بوش مالأت أعداءها العرب وخذلت حلفاءها، إذ آزرت دائماً إبقاء العالم العربي مضطرباً ومشتعلاً، فالاختلال الذي يعاني منه العرب لم يبدأ بظهور حوثيي إيران كغزاة في اليمن ولا بجرائم بشار الأسد وصدام حسين ولا بالبرنامج النووي الإيراني، بل بجرائم إســـرائيل واحتلالها المستمر لأرض الفلســـطينيين، وبالأخـــص في التواطؤ الأميركي - الإسرائيلي لجعل «السلام» تكريساً للاحتلال.
يتساءل أوباما، محقّاً أيضاً، عن سبب عدم مكافحة العرب انتهاكات مريعة ارتكبها بشار الأسد ضد حقوق الإنسان، منتقلاً سريعاً إلى تمرير أن الولايات المتحدة كانت لديها «رغبة كبيرة في دخول سورية وعمل شيء هناك». لـــكن أحداً لم ينسَ أن تلك «الرغبة الكــــبيرة» بلعت استخدام السلاح الكيماوي (يقع تحت المساءلة الدولية) وحوّلته إلى صفقة أميركية - روسية إنقاذاً لنظام الأسد، الذي يواصل إطلاق الغازات السامة على المدنيــــين في الأحياء السكنية. ربــــما عنــى أوباما أن أميركا كانت مستعـــــدة للـــتدخل لو حصل تدخل عربي في سورية، والمؤكد هنا أنه لا يقول الحقيقة، وهي أن واشنطن (وإسرائيل) مانعت منذ البداية إسقاط النظام وأيدت بقاء حكم فئوي متطرّف حتى عندما لم يكن البديل الإسلامي المتطرّف خطراً ماثلاً، بل إنها (وإسرائيل) مانعت أي تدخــل ســـواء عبر تركيا أو الأردن، كما أنها (وإسرائيل) ساندت بوضـــوح تدخل إيران و «حزب الله» ولم تردعهما إلا حين اقتربا من الحدود الإسرائيلية. والأهم أن أميركا أحبطت كل المساعي لتسليح «الجيش الحر» ودعمه عنـــدما كـــان على أهبة إسقاط النظام، يوم لم يكن هناك «داعش» ولا «نصرة قاعدية» ولا مئات الفصائل الإسلامية، بل يوم كانت هناك «دولة» تستحق «الحفاظ» عليها، فـ «الدولة» الحالية تقتصر على «شرعية» وهمية للأسد، وعلى وهم أنه سيوقّع يوماً على قرار عقلاني - («وطني»!) بالتنحّي - أو بالتنازل عن صلاحياته إتاحةً لحكم انتقالي.
على رغم كل شيء فلنقل أن ثمة «إيجابية» في لوم أوباما العرب في شأن سورية، بل لعله كان بهذا اللوم يخاطب إيران قبل العرب ليقول أن المعركة الحقيقية هي على سورية وفيها، أولاً وأخيراً. وهو ما ينبغي أن يدركه العرب. فإيران ما كانت لتبتلع اليمن مهما بذلت، وقد برهنت لتوّها وبإدارتها للحليف الحوثي أنها لم تكن تعرف البلد، وأثبتت أيضاً أنها في كل الأحوال لا تسعى إلى مواجهة إقليمية ستصبح بالضرورة دولية ولــــن تبقى أراضيها بمنأى عنها، وهو ما تفادته على الدوام. ومع بلوغها لحظة الحصول على اتفاق يعترف بـ «نوويتها» لا بدّ من أن يذوب جليد الأوهام ليظهر مجدداً منطق «لا شيء بلا مقـــابــل»، ليـــس فقط في التنازلات «التقنية» (التخــصيب، أجهزة الطرد، آلية التحقق...) بل خصوصاً في مراجعة سياسات التحايل والتذاكي والأطماع التي سوّلت لطهران عسكرة أبناء الطائفة الشيعية ليصبحوا مصدر تهديد لدولهم وإرهاب لمجتمعاتهم وشركائهم في أوطانهم.
سبق لكثيرين أن أشاروا إلى أن ما يهم إيران، في نهاية المطاف، هو دوام الاستيلاء على العراق، كقاعدة صلبة للنفوذ ورأس حربة للغزوات الإقليمية. غير أن الوقائع، حتى في الحرب على «داعش»، أظهرت أن حاجة إيران إلى سورية حاسمة لإظهار قوتها وللاحتفاظ حتى بالعراق، وأن حاجتها إلى لبنان - «حزب الله» حاسمة للاحتفاظ بسورية. لذلك، تكافح إيران لإقحام ميليشياتها العراقية في تحرير المناطق العراقية ليصبح الخط الممتد من حدودها إلى ديالى فتكريت فالرمادي ثم الموصل مفتوحاً لبلوغ الحدود السورية ومن ثَمَّ ربط هذه الميليشيات بقوات النظام السوري لوضع «التحالف الدولي» أمام الأمر الواقع: الاعتماد على نظام الأسد (وحلفائه) في محاربة «داعش» وتحرير الرقّة ودير الزور... ولا تكمن أهمية سورية بالنسبة إلى طهران في كونها خط الإمداد والتواصل مع «حزب الله»، أو في كونها متاخمة للعراق، بل خصوصاً لأن وجودها على حدود إسرائيل هو ما يعطي النفوذ الإيراني بعده الإقليمي - و«الإمبراطوري» المخترق للعالم العربي، بمعزل عما إذا كانت إيران متجهة مستقبلاً إلى التطبيع مع إسرائيل أو إلى مهادنة راسخة كالتي أقامها نظام الأسد معها. وفي كل السيناريوات يمكن إسرائيل وإيران أن تكونا متفقتين ضمناً وعلناً على تحييد سورية، فلا تكون مصدر تهديد للأولى أو مصدر إضعاف للثانية، والأهم أن تفريس سورية ولبنان سيكون إلغاءً لـ «عروبة» المشرق وعقبة أمام قيام «نظام عربي» أياً كانت صيغته وأهدافه.
كل ذلك يشير إلى أن هزيمة إيران تكون في سورية أو لا تكون. وكان لا بدّ من أي خطوة لوضع إيران أمام الواقع، لذا كانت «عاصفة الحزم» التي خلطت الأوراق وباتت تفرض تغييراً عميقاً في معطيات الوضع الإقليمي. فعلى رغم وقوع بغداد تحت الترهيب والهيمنة الإيرانيين إلا أن حكومتها صارت أكثر قابلية واضطراراً لأخذ بعض الضرورات الوطنية في الاعتبار، تحديداً في تقنين تدخلات ميليشيات «الحشد الشعبي» في تحرير مناطق السنّة من سيطرة «داعش».
وعلى رغم الضعف والوهن في صفوف المعارضة السورية أمكن إيجاد صيغ للفصائل الإسلامية وغير الإسلامية لتتوحّد سواء في الشمال أو في الجنوب ولتعاود مدّ سيطرتها إلى مناطق للنظام، من بصرى الشام إلى محيط درعا إلى إدلب، ولعل الظهور المحدود لبعض الأسلحة النوعية يؤشر إلى تراجع ولو آنيّ لـ«ممانعة» أمـــيركية لم يعد لها معنى.
ولا شك في أن البداية من اليمن تنطوي على إرباك لسياسات روسية اختبأت أولاً وراء التهوّر والفجور الإيرانيين لتدافع عن «مصالح» في سورية، فإذا بها اليوم إزاء معضلة تمسّ بمصالح أكبر، بل إزاء عجزها عن التأثير سياسياً في الأزمة السورية، وحتى الدول العربية التي تغازل روسيا لإبقاء موطئ قدم لها في المنطقة تبدو أيضاً مسبوقة بالأحداث وأسيرة مفاهيم قديمة تجاوزتها التبدلات الإقليمية.
ليس مطلوباً ولا مُتوقّعاً من الجامعة العربية أن تعلن الحرب على أحد، لكن اتخاذها الأمن القومي محوراً للتفكير والتخطيط يدعوها إلى تشخيص واضح ومعلن لتدخلات تخوضها إيـــران بــــروح استعمارية لا يتردد مسؤولوها في الجهر بها. هذه الحال الاستعمارية تستوحي ضغائن تاريخية بين العرب والفرس، وتتمثّل بمفاهيم إسرائيل وفكرها الصهيوني وأساليب عصابات الاحتلال في ما قامت وتقوم به من تصرّف بالأراضي في مناطق سورية وعراقية ولبنانية، كما أنها اتّبعت لـ «تصدير الثورة» بعض الأساليب السوفياتية، وهـــي استنسخت أخيراً الكثير من تكتيكات تنظيم «القاعدة» والمجموعات الإرهابية الأخرى... لذلك، فإن مواصلة الصمت، واعتناق الحصافة، والإحجام عن إعلان إيران عدواً موازياً للعدو الإسرائيلي، هي تحديداً ما راهنت عليه إيران لتمرير تغلغلها الذي انتقل من مساندة فئة مذهبية إلى تصنيع الإرهاب وزعزعة الأنظمة وتفكيك الدول وتقسيمها.
عانى الفلسطينيون من النظام السوري كما عانى السوريون، طوال العقود الماضية، وتبعاً لذلك عانوا من بطشه بالبيئات الشعبية السورية، التي اعتبرها بمثابة بيئات حاضنة للثورة، معتبراً مخيمات الفلسطينيين جزءاً منها.
ووفق الإحصائيات الموثّقة، وخلال الأعوام الأربعة الماضية، ثمة حوالى ثلاثة آلاف فلسطيني قضوا ضحية النظام في مختلف المخيمات الفلسطينية والمدن السورية، نصفهم في مخيم اليرموك وما حوله، وضمنهم حوالى 250 شخصاً قضوا تحت التعذيب في المعتقلات، وحوالى 170 قضوا بسبب الجوع والمرض في ظلّ حصار المخيم.
في قصة فلسطينيي سورية، ثمة كثير من الادعاءات أو الأساطير التي تنطوي على الحجب والمخاتلة والتلاعب، والتي تروّجها أبواق النظام، والفصائل التابعة له، وتلك التي تدور في فلك ما يسمى بمحور «المقاومة» و «الممانعة».
معلوم أن الجبهة السورية باتت خارج الصراع ضد إسرائيل منذ أربعين عاماً، وقد تم حظر العمل الفدائي من تلك الحدود نهائياً، بل إن النظام، كما هو معروف، وسّع رقعة ضبطه للعمل الفدائي إلى لبنان، في محاولته الإمساك بالورقتين الفلسطينية واللبنانية في آن معاً، بوسائل القوة والقسر والهيمنة على الفلسطينيين واللبنانيين.
أما في الداخل السوري، وإلى محاولة النظام السيطرة على منظمة التحرير، ومنعه وجودها ونشاطات «فتح» منذ أكثر من ثلاثة عقود، ودعمه إقامة بدائل عنهما، فقد اقتصرت نشاطات الفصائل في المخيمات على إحياء مهرجانات انطلاقاتها، وعلى مجرد نشاطات إعلامية، بعد أخذ موافقة الجهات الأمنية («الضابطة الفدائية»). هكذا، فإن تشكيل نادي كرة قدم أو إقامة معرض فني أو تأسيس حضانة للأطفال، كان يحتاج الى موافقة مسبقة، علماً أن النظام كان يمنع أية مظاهر ذات طابع سياسي، ويأتي ضمن ذلك، حظره تظاهرات «يوم الأرض» التي كانت تتم رغماً عنه، وندر أن كانت تمرّ من دون أثمان.
مع اندلاع الثورة، صدرت تصريحات عدة من المسؤولين السوريين تلقي المسؤولية عما يجري على عاتق الفلسطينيين، في مخيمي اللاجئين في اللاذقية ودرعا. أي أنه من الأشهر الأولى لعام 2011، بدأ إقحام الفلسطينيين في الصراع السوري، حيث ساهمت الفصائل التابعة للنظام في ذلك بادعائها أن ما يجري مؤامرة على سورية، وعلى المقاومة، وأنها ستدافع عن النظام من منطلقات وطنية وقومية، وهو ما عبر عنه أحمد جبريل، الأمين العام للجبهة الشعبية - القيادة العامة.
المشكلة أن الأمر لم يتوقف عند التصريحات، إذ إن هذه الفصائل باتت تطالب بتسليح المخيمات، وإقامة لجان للدفاع الذاتي، الأمر الذي رفضته فصائل منظمة التحرير، بل إن قيادة المنظمة اتهمت جبريل بتوريط الفلسطينيين في ما يجري في سورية.
هذا كلّه حصل قبل تصاعد الصراع المسلح في سورية، أي قبل ظهور «جبهة النصرة»، و «داعش»، إذ إننا نتحدث عن 2011، حتى منتصف 2012. أما في النصف الثاني لعام 2012، فتعمّد النظام قصف اليرموك مرات عدة، ما أدى إلى مصرع العشرات، كما تعمّد اعتقال عشرات الشبان، وذلك فقط بسبب استعصاء المخيم على المنظمات التابعة له (وهو ما ظهر جلياً في تظاهرة الفلسطينيين ضد جبريل والقيادة العامة في حزيران (يونيو) 2011)، وأيضا بسبب تحوّل المخيم الى بيئة حاضنة للنازحين السوريين من المناطق المجاورة.
على أية حال، فإن تصاعد الصراع المسلّح، بدءاً من النصف الثاني من 2012، أدى الى احتدام الصراع على مخيم اليرموك، الذي يتموضع كنقطة في بحر من المناطق السورية العشوائية المكتظة بالسكان، هي بمثابة مدن في ريف دمشق (الحجر الأسود، يلدا، ببيلا، التقدم، التضامن، الشاغور)، وفي حين أن عدد الفلسطينيين لا يتجاوز 180 الفاً، فإن سكان هذه المناطق يقدّر بمليون نسمة.
ولعــــل هـــذا التـوصيف للواقعين الجغرافي والديموغرافي للمخيم وما حوله، يفنّد خرافة روّج لها النظام ومن معه، وبعض أوساط المعارضة، باعتبار المخيم بمثابة بوابة لدمشق، في حين أنه لا بوابة ولا حتى نافذة، فمساحته لا تتعدى الكيلومترين المربعين، وأقصى عرض له بضع مئات أمتار فقط. والمؤسف، أن ثمة أوساطاً فلسطينية روّجت لهذه الدعاية بخفّة وسذاجة بالغتين لأغراض التوظيف السياسي، تبريراً لتصرفات المعارضة أو لحصار النظام للمخيم.
وهذا يفيد بأن الحصار (أواخر 2012) تم من النظام بإرادة وتصميم مسبقين، قبل ظهور «جبهة النصرة» و «داعش»، وهو حصار مرّ عليه 25 شهراً. والمفارقة أن النظام كان يبرر حصاره المخيم وقطعه الماء والكهرباء والغذاء والدواء عنه، بحجة الجماعات الإرهابية التكفيرية، يساعده في الترويج لذلك بعض الفصائل الفلسطينية، وحتى بعض المثقفين الفلسطينيين، في حين تبين بعد هجمة «داعش» و «النصرة» أن المخيم تحت حماية أبنائه، من الشبان الذين بقوا فيه، مع وجود حالة عسكرية تابعة لـ «حماس»، نشأت في ظل الحصار، وبسبب الحصار، وليس قبله.
المهم أن التطورات الأخيرة كشفت النظام على حقيقته، كما كشفت الفصائل التي سكتت عن الحصار، وعن كل الإجرام بحق الفلسطينيين الذين عانوا العذابات، وقضى المئات منهم بسبب القصف والقنص والموت جوعاً أو تحت التعذيب في المعتقلات، كما كشفت «المثقفين» الذين وقفوا مع النظام، على رغم كل تاريخه المشين في «مرمطة» الفلسطينيين، وتوحّشه بحق السوريين والفلسطينيين.
يبقى أن بعض الفلسطينيين من المحسوبين على ما يسمى بالمقاومة والممانعة، وحتى من الذين يدورون في فلك السلطة، يتحدثون عن ضياع «حق العودة»، متناسين أن هذا الحق ضاع مع عقد اتفاق أوسلو (1993)، أي قبل أكثر من ثلاثة عقود، وأن النظام السوري هو السبب الأساس في ضياع مخيم اليرموك (وغيره من مخيمات في سورية ولبنان)، وتشريد سكانه، مع كل ملاحظاتنا وحتى اعتراضاتنا على المعارضة السورية، وجماعاتها المسلّحة.
أما الذين يرون أن قضية فلسطين تراجعت، أو أن عملية التسوية انحسرت، فيتناسون أن هذين الأمرين حصلا، أصلاً، قبل «الربيع العربي»، وأن مسار أوسلو تحديداً وصل الى أفق مسدود منذ زمن، وأن «المشرق العربي» يتعرّض لهزات تاريخية كبيرة، وفلسطين جزء من هذا المشرق، لها ما له وعليها ما عليه. أليس كذلك؟
كل ما يجري يُظهر أن هناك من يعمل على "تزبيط" معارضةٍ، تقبل باستمرار بشار الأسد. ما زالت روسيا تعمل على ترتيب معارضة "من صلب السلطة"، ربما تسعى إلى الحصول على مناصب. لهذا، دعت شخصياتٍ، بصفتها تمثل المعارضة وهي ليست معارضة، لم تكن ولم تصبح ولن تكون. وعلى الرغم من ذلك، أتت بوفد سلطوي ينفّر أيّاً كان، فيُفشل أي "تزبيط" روسي. بعدها، تحاول موسكو أن توجد مخرجاً يسمح باستمرار الأسد. ولهذا، تحاول إيجاد معارضة توافق على ذلك. وما تطرحه يقوم على تشكيل حكومة انتقاليةٍ، تهيئ لانتخابات رئاسيةٍ، يشارك فيها بشار الأسد، وبإشراف الأجهزة السلطوية نفسها، لينجح بنسبة 92%.
لكن، ما يبدو واضحاً أن كل الأطراف الإقليمية والدولية باتت تتعامل مع أفراد معارضين، وليس مع هيئات معارضة، ويبدو أن أطراف المعارضة توافق، لأن مشاركين كثيرين يريدون أن يحصلوا على مناصب في أي حلّ قد يتحقق، فلا يتوقفون أمام وجود هيئات المعارضة. لهذا، لم يعد أحد ينظر إلى "الائتلاف" أو "هيئة التنسيق"، أو المجموعات الأخرى، تكويناتٍ تمثل معارضة، بل أصبح كل طرف إقليمي، أو دولي، يستنسب بعض المعارضين لعقد لقاء أو مؤتمر يطرح تصوراً للحل، بات يتراجع عن التمسك بإبعاد بشار الأسد ومجموعته.
يحدث الأمر نفسه في القاهرة. لكن، مع أفراد آخرين، أو حتى مع الأفراد أنفسهم. لهذا، يظهر ما يسمى حوار المعارضة، وهو حوار معارضين بهذا المستوى أو ذاك، عليهم أن يشكلوا "هيئة" متابعة. ويجري الحديث، الآن، عن دعوة سعودية مماثلة، أي لمعارضين، لتشكيل هيئة تشارك في الحل السياسي. وذلك كله يعني أن المعارضة المتبلورة أساساً في هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطي والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وتحالفات أخرى أقل أهمية، باتت في مرحلة التفكيك، من أجل اختيار ما يناسب حلاً تتوافق عليه الدول الإقليمية والدولية. وفي هذا السياق، يسعى كل طرف إلى اختيار المقربين منه، والموافقين ربما على استمرار النظام، لكن، بالتحديد استمرار بشار الأسد.
بات هذا الأمر يفرض لَيّ عنق مبادئ جنيف1 عن تأسيس هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، ما يعني، بالضرورة، إنهاء بنية السلطة القائمة بكل مستوياتها، بما في ذلك سلطة الرئيس ومنصبه، ومنصب رئيس الوزراء. لَيّ عنقها لمصلحة ضمان استمرار الأسد وبنيته، حيث بات يتكرر الكلام عن ضرورة عدم طرح وضع الرئيس في المفاوضات، وربط ذلك في المآل الأخير. فمن سيضمن تحقيق التغيير، إذا بقي الرئيس، وبقيت الأجهزة نفسها؟ والأفراد أنفسهم؟ بالتالي، كيف ستمارس الهيئة الانتقالية مهماتها، في ظل سيطرة المجموعة التي خاضت الحرب ضد الشعب؟
يهدف هذا الممر إلى عدم الوصول إلى حل، لأن عدم إزاحة بشار الأسد ومجموعته التي خاضت الحرب ضد الشعب سوف يبقي الصراع قائماً، فليس من إمكانية للوصول إلى حل يوقف الصراع، ويسمح بقبول الكتائب المسلحة والشعب الذي تدمرت بيوته وتشرد وقتل أبناؤه وما زال يقاتل ويخوض الصراع ضد السلطة، سوى (كحد أدنى)، إبعاد الأسد ومجموعته المهيمنة على الأمن والجيش والاقتصاد. ليس من حل ممكن، من دون أن يشعر الشعب الذي قاتل من أجل التغيير، وتدمرت بيوته وقتل أبناؤه وتشرد، بأنه حقق انتصاراً "صغيراً"، يتمثل في إبعاد الرئيس ومجموعته. من دون ذلك، ليس ممكناً أن تقبل الكتائب المسلحة والشعب. وبالتالي، سيفشل أي حل لا يبدأ من إبعاد هذه المجموعة التي خاضت الحرب ضد الشعب ودمرت سورية، بعد أن نهبتها عقوداً طويلة، في ظل سلطة استبدادية.
الأوهام حول اللعب على الكلمات لن تفيد شيئاً. لهذا، يجب أن ترفض المعارضة تفكيكها، وأن تتمسك بأساس نجاح أي حل، وهو إبعاد الفئة المسيطرة على الدولة.
20 يوماً مضت على "عاصفة الحزم" ، التي بدأت سريعاً و بدون أي تفويض دولي ، بقوة و ضرب مركز ، مع غياب قوة فاعلة تماما على الأرض ، أيام و اتخذت الإجراءات القانونية و حصلت على بطاقة السماح الأممية بسيفها السابع ، لتتحول إلى حرب دولية على أتم وجه ، حرب على الخروج عن الشرعية ، و حرب على منتهكي الإنسانية ، و حرب على عملاء الأعداء.
ليس اليمن حاله أصعب من حال سوريا و لا شروط التدخل فيها أصعب من الشروط في سوريا ، لكن هناك كل شيء تم و يتم بسرعة لا يمكن معها القراءة ، في حين أن شدة البطئ في التعامل مع الوضع في سوريا يجعل قراءته غير متاحة أيضاً.
منذ اللحظة الأولى و نحن ننتظر الإعلان عن حزم مشابه في سوريا ، ولا يخلو يوم من تسريب هنا أو هناك ، كشف من هذا أو ذلك ، أو حديث في الدوائر المغلقة و الشديدة السرية عن شيء مشابه ، لكن كلها باتت شيء عادي و اعتيادي و من طبيعيات الأمور في الشأن السوري.
ثورتنا تشبه حال الأهل بطفلهم الصغير الذي يتعلم الكلام حديثاً ، فكلما نطق بحرف أو طلب شيء جديد نهلل و نفقز فرحاً و ننتظر أن يكمل وحده التعلم و يبهرنا ، و رغم كل ما يصدر عنه مجرد كلام إلا أنه يبقى مصدر سعادة آنية تنسينا مؤقتاً مرارة البحث عن رزقه و تأمين مستقبله.
الحق يقال أن الثورة السورية و الأوضاع التي خلفها الإجرام في التعامل معها ، هي من أكثر الأمور التي جرى الحديث عنها و التصريح بشأنها و عقد المؤتمرات و اللقاءات و المشاورات على مر التاريخ ، و لا يوجد حدث عالمي اتخذ هذا الشكل من الإهتمام على مر التاريخ ، و لا نبالغ إذا ما تفوقنا على أطول الصراعات و هو الصراع "العربي – الإسرائيلي" ، و لكن كل هذا التفوق لا يتجاوز حدود " كلمة جديدة نطق بها طفل".
نترقب الأمور و بانتظار مرور الحزم من الأجواء السورية لتنهي أو لتخفف على أبسط تقدير حجم المعاناة الهائل عن كاهل الشعب السوري ، لكن هل هذا الترقب و الانتظار هو شيء مفيد أو جديد أو ذو فائدة ؟
اعتدنا على الوعود الكاذبة و اعتدنا الانتظار و كذلك الترقب و أيضاً سماع الخطب الرنانة و كلمات التأييد ، كما اعتدنا الخذلان و النسيان و الاهمال ، اعتدنا التراخي و التماهي في المصالح ضدنا ، اعتدنا أن نعتاد على عالم كل همه تعويدنا على الموت و جعله ثقافة اعتيادية ضمن العادة الأساسية ، عادة "ذهبية المصالح تُفضل على حديد المبادئ" .
انتظارنا و ترقبنا لـ"الحزم" ماهو إلا صناعة أكفان جديدة لثورتنا و شعبنا ، انتظار لموت أعنف و أشد ، النظر لإحتلال أوسع و أشد ، و انتظارنا لـ"الحزم" كمشاهدة البوارج الأمريكية على السواحل السورية تتأهب لإرسال صواريخها ، كمتابعة جلسات مجلس الأمن التي تقترب من الخروج بقرار تحت السيف "السابع" ، كرؤية الإجتماعات خلف الأبواب لتخرج بإذن الإنهاء ، فكل هذه المشاهدات و الإنتظارات و الرؤى تقف عند حد المحسوس دون أن تصل إلى الملموس.
لسنا بحاجة لـ"حزم" أحد بل نحن بحاجة لـ"حسمنا" و اتفاقنا و تنازلات من الجميع لإنقاذ الجميع ، لو اضطررنا للتخلي عن كثير من الأشياء أو تأجيلها في الوقت الحالي ليتم "الحسم" و من ثم نعود لـ "خلافنا".
على رغم امتناع روسيا عن التصويت في مجلس الأمن على القرار المتعلق باليمن، يبدو المشهد الدولي أقرب إلى التوافق منه إلى الشقاق، ما دام القرار المذكور قد صدر بما يشبه إجماع أعضاء المجلس. لكنه ليس توافقاً على السلام، بل على تهديد الحوثيين وحلفائهم بالفصل السابع، الأمر الذي يعني وقوف «المجتمع الدولي» وراء الحرب الجوية السعودية على الانقلاب الحوثي المدعوم بفلول علي عبد الله صالح.
هذا جديدٌ في المشهد الدولي، هو ثمرة التغيير الكبير في السياسة السعودية الذي حدث بعد تولي الملك سلمان القيادة. ولا يمكن فصل تشجيع الرئيس الأمريكي باراك أوباما على «تدخل عربي» في سوريا، عن آثار هذا التغيير السعودي على توجهات الإدارة الأمريكية بعد إنجازها لاتفاق الإطار على الملف النووي الإيراني. كأن أوباما أطلق يد حلفائه التقليديين للي ذراع نظام الملالي في اليمن وغيرها من جبهات المواجهة مع النفوذ الإيراني، من الآن وحتى اكتمال شروط الاتفاق النهائي مع طهران في نهاية حزيران المقبل.
يبدو منتدى موسكو 2 الذي انتهى قبل أيام، في ضوء هذه التطورات، كما لو كان خارج السياق العام. كان مجرد مناسبة جديدة لعرض بذاءات رئيس وفد النظام الكيماوي بشار الجعفري واستهانته بمحاوريه من «المعارضة المقبولة»، كما عبرت الورقة التي قدمها عما يشبه يأس النظام من أي حل لأزمته ما دام يستنجد فيها بالمجتمع الدولي ليقضي، من أجله، على «الإرهاب» الذي يشمل، في تعريفه له، كل معارضة سلمية كانت أم مسلحة، «داخلية» أم «خارجية»، وليعيد، من أجله أيضاً وأيضاً، اللاجئين والمهجرين إلى ديارهم، ويعيد إعمار ما دمره هو بطائراته وبراميله طوال سنوات أربع.. ولكن بشرط أن يترك الحل السياسي للسوريين أنفسهم بقيادة النظام وبلا أي تدخل خارجي! كأن المجتمع الدولي، الذي طالما شكى الجعفري ونظامه من دعمه للإرهاب، خادم مطيع لدى النظام مطلوب منه إعادة الوضع إلى ما كان عليه، قبل منتصف آذار 2011، ولا يحق له التدخل في أي حل سياسي يقوم فقط على تمكين النظام وتسليم المسلحين لسلاحهم له صاغرين. بكلمات مختصرة، عبرت «الورقة» عن أضغاث أحلام تبعد النظام عن جحيم الواقع الذي تعمل دينامياته لغير صالحه. واقع يقول بخروج مدينة إدلب، بعد الرقة، عن سيطرته، كثاني مركز محافظة يتم طرد قواته منها، مع إشارات قوية إلى قرب انضمام مدينة حلب، العاصمة الثانية لسوريا، إلى المدينتين المذكورتين.
تحدثت مخرجات «موسكو 2» عن شروط النظام المذكورة في ورقته بوصفها «مدخلاً إلى جنيف 3» الذي من المفترض أن يزود النظام بصك شرعي دولي لانتصاره على السوريين وفقاً لأحلام اليقظة التي تراوده. في حين يترقب الجميع «عاصفة حزم» في سوريا، تزداد مؤشراته باطراد، قائمة على توافق حربي سعودي ـ تركي ـ قطري قد يحظى بتغطية سياسية أمريكية. تتحدث بعض السيناريوهات التي يتم تداولها عن توغل بري تركي في الشمال مع تغطية جوية من الطيران السعودي. قد يمكن قراءة التطورات العسكرية في مدينة حلب ومحيطها القريب بوصفها مقدمة للسيناريو المذكور. فتحرير القسم المتبقي تحت سيطرة النظام من المدينة من قبل الفصائل العسكرية الموجودة فيها، قد يشجع القيادة التركية على توغل بري لتثبيت الأمر الواقع الجديد الذي سيفرضه تحرير حلب على النظام وظهيره الإيراني. فإذا تمكن طيران التحالف العربي ـ الإقليمي بقيادة السعودية من ضرب الدفاعات الجوية للنظام، يفقد هذا الأخير نقطة تفوقه الأبرز على الثوار وهي السيطرة على الجو.
ولكن دون هذا السيناريو الطموح عقبات كثيرة في الجانب التركي تحديداً. فالحزب الحاكم يتهيأ لخوض انتخابات نيابية ستحدد مصيره في الحكم، وربما تحدد مصير تطلعات الرئيس أردوغان إلى حكم رئاسي يجمع بين يديه كامل السلطات. ولن يكون من السهولة بمكان أن يقنع أردوغان قادة الجيش بخوض مغامرة عسكرية بهذا الحجم وبدون تغطية دولية، أمريكية بصورة خاصة. بيد أن نقطة الضعف هذه يمكنها، في الوقت نفسه، أن تشكل نقطة قوة، بالنظر إلى ما يدور من كلام، في الرأي العام التركي، عن «استعداد أردوغان لفعل أي شيء يوصله إلى أهدافه» في استمرار حزب العدالة والتنمية في الحكم وتكريس موقعه الرئاسي بصلاحيات مطلقة لحكم البلاد. هذا الاستعداد «لفعل أي شيء» لماذا لا يدفع الرئيس التركي وأركان حكومته إلى مغامرة عسكرية خارجية مدعومة بقوة من دول الخليج؟
زيارة أردوغان إلى طهران، الأسبوع الماضي، لا توحي أبداً برغبة تركية في التورط بصراع مكشوف ضد جارتها الشرقية. وعلى رغم الخلاف الحاد بين سياستي البلدين، في سوريا وغيرها من المواقع المشتعلة بسبب النفوذ الإيراني، تبدو طهران وأنقرة أقرب إلى التنافس الاقليمي السلمي منهما إلى الصراع العنيف. يمكن لإيران أن تتحمل تدخلاً تركياً في سوريا بواسطة وكلاء من الفصائل السورية المسلحة، تماماً كما تفعل إيران نفسها في تدخلها في ساحات الصراع بواسطة وكلائها المحليين.
أما أن تتوغل تركيا بجيشها داخل الأراضي السورية، فهذا يغير قواعد اللعبة المقبولة إيرانياً. من المستبعد أن ترد طهران، في هذه الحالة المفترضة، بحرب مباشرة ضد تركيا. فمنذ القرن السادس عشر لم تخض إيران حروباً خارجية، باستثناء حربها الدفاعية ضد عراق صدام حسين في ثمانينات القرن الماضي. هي تستخدم التناقضات الاجتماعية – السياسية الموجودة داخل بعض بلدان المنطقة، وتدعم جهات محلية في نوع من حروب بالوكالة في صراعها على النفوذ الاقليمي. وبطريقة لا مفر منها تحول هذا المسار إلى صراع شيعي ـ سني اخترق عدداً من الدول. وهكذا يمكن توقع الرد الإيراني على توغل تركي محتمل في سوريا بالسعي إلى خلق اضطرابات داخلية في تركيا انطلاقاً من المكون الشيعي ـ العلوي التركي الذي يقدر بنحو 12 مليون نسمة ويشكو من مظلومية تاريخية ازدادت بروزاً بعد وصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى الحكم.
المرجح، على أي حال، ليس اقتراباً من جنيف 3 باتت بعيدة جداً بعد حرب اليمن، بل عاصفة حزم لسوريا ليس واضحاً أي شكل قد تتخذ، وأية نتائج قد تفرز.
أربعة حوادث جديدة بدأت تفرض نفسها على المشهد السوري الدامي، وتبدو كأنها حوافز تتضافر تدريجياً، لفتح نافذة في جدار الاستعصاء القائم وتحريك عجلة التفاوض والمعالجة السياسية.
يتعلق الحدث الأول باتفاق الإطار لطي الملف النووي الذي أبرم بين إيران والدول الست وفي مقدمها أميركا، والذي سيقيد، على عكس ما يعتقد البعض، يد طهران العسكرية في المنطقة، ربطاً بتراجع حاجتها للاعتماد على أوراق نفوذ إقليمية، باتت باهظة ومكلفة، كي تعزز موقعها التفاوضي، وتالياً تنامي حاجتها للانفتاح على الأسرة الدولية وفك الحصار المفروض عليها للخلاص من حالة الاستنزاف المزمنة والاهتمام بالوضع الداخلي وأزماته الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة، وخير دليل ردة الفعل الشعبي الاحتفالية على ما حصل، ونضيف أن هذا الاتفاق ما كان لينجح لولا تنازل طهران عملياً وخضوعها للنهج التسووي والحلول الوسط ولمبدأ التعاون والتشارك، ما يقود إلى تعزيز مراكز القوى السياسية والدينية التي تميل إلى المعالجة السياسية على حساب دور الحرس الثوري ومراكز القوى التي دأبت على نهج تصدير الثورة واستثمار البعد المذهبي لمد نفوذها في المنطقة، خاصة وقد تلقت هذه الأخيرة ضربات مؤلمة في الجنوب السوري، ثم في اليمن ناهيكم عن مثال تكريت في العراق.
الحدث الثاني تمثله عاصفة الحزم وتداعياتها في المنطقة، والتي إن أظهرت قيمة الحضور العربي وما يمتلكه من قوى كامنة أعادت رسم التوازنات الإقليمية لمواجهة تفرد إيران في استثمار المتغيرات المجتمعية التي أحدثتها ثورات الربيع العربي، فإنها حاصرت حلفاء طهران في غير مكان وعززت موضوعياً من وزن مناهضيهم، الأمر الذي يضعف جدوى التسعير المذهبي ومنطق العنف والغلبة اللذين وسما صراعات المنطقة لسنوات ويشجع مسار التوافقات والتفاهمات السياسية، خاصة إن تمكنت عاصفة الحزم من تحقيق هدفها في إعادة القوى اليمنية المتمردة إلى رشدها ودفع مختلف الأطراف بمن فيهم الحوثيون إلى التفاوض وبناء حلول سياسية تؤكد على العيش المشترك في إطار دولة تعددية تضمن حقوق الجميع ومصالحهم.
بينما يرتبط الحدث الثالث بالدور السياسي الذي بدأ يتطلبه الحضور الصريح لتحالف عسكري دولي ضد تنظيم داعش في سورية والعراق، ما قد يفضي إلى تحرر المواقف الغربية وتحديداً الأميركية من سلبيتها وترددها ويحثها على التدخل للتأثير سياسياً في مجريات الصراع السوري كي تضمن نتائج مجزية بأقل ثمن، فكيف الحال مع إلحاح دول الجوار على أولوية إعادة الأمن والاستقرار إلى المنطقة، وقد تصاعدت خشيتها من ما تخلفه بؤرة التوتر السورية من استقطابات حادة واحتقانات مذهبية وعرقية، ومن الأضرار الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الازدياد المتواتر لأعداد اللاجئين السوريين في أراضيها.
أما الحدث الرابع فيتعلق بالنتائج التي أسفرت عنها المعارك الأخيرة بين قوات النظام وحلفائه، وبين جماعات المعارضة المسلحة على اختلاف مسمياتها، ونجاح هذه الأخيرة في الاستيلاء على مناطق مهمة ونوعية، كمدينة إدلب شمالاً، وبصرى الشام ومعبر نصيب جنوباً، ثم في ريف حماة الشرقي والبادية وسط البلاد، والقصد أن الفشل المتكرر للخيار الأمني والعسكري في تحسين مواقع النظام وتمكينه من انتزاع زمام المبادرة ومحاصرة قوى المعارضة المسلحة في بقع صغيرة كما كان يأمل، يجعله موضوعياً أكثر استعداداً للخضوع لمسار الحوار والحلول السياسية، بدليل قبوله بمبدأ التفاوض ومشاركته في اجتماعات جنيف وموسكو، حتى وإن كان الغرض المضمر من وراء ذلك هو ربح الوقت لالتقاط الأنفاس واستمالة بعض أطراف المعارضة، وما يزيد هذا الاستعداد وضوحاً قناعة باتت تتملك الجميع بعجز أي طرف عن تحقيق الحسم، وبأن ما يشهده الصراع الدامي من عمليات كر وفر هي عرضة للتبدل والانتكاس وأشبه بمعارك تدمير واستنزاف متبادل لن تفضي إلى انتصار عسكري نوعي أو توازنات مستقرة. ويعزز ما سبق تدهور الأوضاع الاقتصادية والخدمية وشيوع رغبة عارمة وضاغطة لدى الناس بضرورة الخلاص من هذا التردي المريع في شروط حياتهم وعيشهم وأمنهم، ربطاً بتنامي استعداد المعارضة السياسية للتوصل إلى حلول تخفف من دوامة العنف وتحفظ وحدة البلاد ومؤسسات الدولة.
صحيح أن أهم أطراف المعارضة السورية تنادي بالحل السياسي للصراع الدامي، وصحيح أنها استجابت للمطلب العربي بضرورة الحوار لتوحيد صفوفها وخطابها، وتحمست، من أجل ذلك، للمشاركة في اجتماع القاهرة المرتقب أواخر الشهر الجاري، لكن ذلك لن يثمر تبدلاً في موقعها ودورها، إن لم ترتق بمسؤوليتها الوطنية وتتجاوز الحسابات الأنانية والضيقة والصراعات الحزبية والفئوية، وإن لم تنجح في تمثل دروس الماضي والوقوف نقدياً من نهج الترويج لطلب السلاح وتشجيع الحسم العسكري، وتالياً نشر ثقافة تدين لغة العنف والإكراه وتنبذ مظاهر التباهي بمنطق المكاسرة والغلبة، والأهم إطلاق المبادرات لتثقيل الوجه السياسي والمدني لقوى التغيير الديموقراطي.
والحال هذه، هل نستطيع القول أن الزمن السوري لن يستمر عبثياً ودموياً وبات محكوماً بتسوية سياسية، وأن ثمة احتمال يتقدم في أن تحاصر الأحداث الحاصلة اليوم أهم الأطراف المتحاربة وتجبرها على ترك ميدان العنف والسعي لمعالجات من طراز مختلف تخمد بؤرة التوتر وتوقف تفاقم هذه المأساة الإنسانية، أم لا تزال هناك صعوبة في التوفيق بين مصالح متباينة تمثلها قوى عربية ودولية وفئات من النظام والمعارضة زادها تبايناً ما كرسه طول أمد الصراع والعنف المفرط من نتائج مؤلمة يصعب تجاوزها بسهولة؟! وبعبارة أخرى، هل سيكتب التاريخ قصة عجز السوريين أخلاقياً ووطنياً عن مقاربة حلول تخفف آلامهم وتسعى للحفاظ على وحدة وطنهم وتعايشهم، أم ثمة بعد هذا الخراب ما يشجع على تبلور قوى ورؤى سياسية تتطلع، بعيداً عن أوهام الانتصارات والحسم، نحو التشارك في بناء مستقبل جديد تحدوه دولة ديموقراطية تعددية ومجتمع مواطنة لا مكان فيه للتمييز أو لحقد وانتقام؟!.