على الرغم من التصريحات التركية المتعدّدة، وجديدها تصريح رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، أن عملية درع الفرات ماضية في تحقيق هدفها المتمثل بتطهير مدينة الباب السورية من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أن المعارك الأخيرة في العملية ومرحلتها الثالثة تفيد بأن الهيمنة على الباب أصعب وأكثر تعقيدا مما تبديه التصريحات التركية.
تشكل المدينة المعقل الأهم للتنظيم في حلب وقلعته الرئيسة، وليس من السهولة اختراقها، والمعطيات التي سمحت لفصائل الجيش السوري الحر بدعم تركيا لن تكون متوفرةً في معركة الباب، لسبب رئيسي، هو أن الجيش الحر ليس بالقوة الكافية لاختراق المدينة من جهة، ولن يحصل على الدعم المدفعي التركي الذي حصل عليه في المناطق الأخرى، بسبب بعد المدينة عن الحدود التركية من جهة ثانية. كما أن المدينة تقع في نقطة تماس تطل عليها قوات النظام من الجنوب وقوات النظام و"قوات سورية الديمقراطية" من الغرب، وستضع السيطرة عليها من "الجيش الحر" الأخير في مواجهةٍ مع النظام والأكراد، وهي معركةٌ لن يكون بمقدوره النجاح فيها، نظرا لاختلال القوة العسكرية.
كما أن النظام السوري وروسيا لن يسمحا باستبدال السيطرة على المدينة من تنظيم الدولة الإسلامية إلى الجيش الحر، خصوصا في هذه المرحلة التي يتم التركيز فيها على مدينة حلب. بعبارةٍ أخرى، لا تسمح قواعد الميدان التي تحاول موسكو فرضها في حلب ترك ظهر قوات النظام مكشوفاً من الجهة الشرقية. والسيناريوهات المطروحة عديدة:
ـ تفاهم تركي/ روسي، مفاده السماح للجيش الحر بالسيطرة على الباب، شرط عدم محاربة قوات النظام، ولا القوات الكردية، وهذا مستبعد، لأن مثل هذا التفاهم يتطلب ضوءا أخضر أميركياً، مرتبطاً بالتفاهم الدولي على المدينة، ودورها في معركة الرقة المقبلة.
إما أن تعطى الباب لحلفاء تركيا، شرط ابتعادها عن معركة الرقة، أو أن تترك المدينة للنظام والأكراد في مقابل المشاركة في معركة الرقة، لا سيما أن الباب، بالمعنى العسكري، خارج دائرة العمق الاستراتيجي لتركيا.
ـ سيطرة النظام على المدينة، وهذا مستبعد الآن في ظل تركيزه على مدينة حلب التي تشكل عنوان الصراع في هذه المرحلة، وبيضة القبان التي ستؤدي إلى تغيير المشهد العسكري في المحافظة، وبالتالي، في عموم المشهد الميداني لشمالي غرب سورية. كما أن السيطرة على المدينة تمنح قوات النظام التحرك بسهولة نحو الشرق والجنوب الشرقي عند الحدود الإدارية لمحافظة الرقة. وعندها، يمكن التمهيد لمعركة الطبقة، ومن دون تحييد مدينة الباب سيبدو من الصعوبة بمكان فتح معركة الطبقة.
ـ ترك المدينة للأكراد، وتحديدا لـ "قوات سورية الديمقراطية"، لكن هذا السيناريو يواجه عقبتين، الأولى من تركيا التي تطالب بانسحاب القوات الكردية إلى شرق الفرات، وترفض أي محاولةٍ لامتداد جغرافي، يمتد من منبج شرقا إلى عفرين غرباً، مرورا بالباب التي ستكون بمثابة عقدة الوصل هذه.
والعقبة الثانية، ولكن الأقل أهمية، مرتبطة بالنظام الذي يحاول تأجيل معركة الباب، إلى حين استكمال الوضع في مدينة حلب، ولا يفضل، وإنْ لا يمانع إذا اقتضى الأمر، من سيطرة الأكراد على المدينة.
ولدى الأكراد مصلحة حقيقية في أخذ مدينة الباب، ليس بسبب أهميتها صلة وصل بين الكانتونات الكردية في غرب الفرات وشرقه، وإنما للاستعاضة بها عن مدينة منبج التي تمارس أنقرة ضغوطا كبيرة، من أجل إخلائها من الأكراد.
ـ يتمثل السيناريو الأخير في اتفاق جميع الفرقاء على تأجيل معركة الباب نهائياً، خشيةً من أن يؤدي فتحها الآن إلى تداخل في قواعد الاشتباك، ليس لأحد الآن مصلحة في تغييرها، فبالنسبة لأنقرة الأولوية في السيطرة على القرى والبلدات على الشريط الحدودي في محيط بلدة الراعي وإلى الجنوب نحو دابق ومحيطها. وبالنسبة للنظام، لا شيء يعادل الآن في الأهمية مثلما تشكله مدينة حلب.
وبالنسبة لتركيا، لن تخاطر بفتح هذه المعركة من جهة واحدةٍ، بعد تقاربها مع موسكو، وبالنسبة للأخيرة، ليست في وارد السماح للأكراد بالانقضاض على الباب، لاعتبار المصلحة التركية. وطالما أن معركة الرقة مؤجلة، فإن معركة الباب ستكون مؤجلةً أيضا، لأن واشنطن ستكون مجبرةً على الاختيار بين قرارين: دعم تقدم "قوّات سورية الديمقراطية" للاستيلاء على المدينة والمجازفة بعداوة تركيا، أو السماح للقوى المدعومة من تركيا بالتقدّم نحو المدينة، والمجازفة بعداوة الأكراد والروس على السواء.
لا مفاجآت تذكر في الجلسة التي عقدها مجلس الأمن الدولي السبت الماضي، فكلا المشروعين الفرنسي والروسي كان على قائمة الرفض بين الفريقين المتضادين في الرؤية والهدف. ولعل هذا ما عبر عنه صراحة ممثل روسيا، وهو رئيس الدورة الحالية للمجلس، في وصفه الجلسة بأنها «واحدة من أغرب الجلسات التي تعقد»، إذاً يعلم المجتمعون سلفاً أنهم لن يقرّوا أي مشروع مقترح.
فبينما سعى الطرف الفرنسي ومن سانده إلى فرض هدنة في حلب قد يمكن لها أن تمتد لتشمل باقي سورية، بحيث تكون معبراً للدخول إلى حلبة التفاوض السياسي مجدداً، كان الطرف الروسي يسعى إلى فرض شروطه داخل حلب لتمكين النظام من العودة إليها للاستحواذ على طاولة تفاوض شبه خالية من طرف متعادل معها بالقوة العسكرية أو الديبلوماسية.
رغم ذلك، لا بد من المصارحة بأن النقاط المشتركة بين المشروعين كانت أكثر من نقاط الخلاف في مضمونهما، إلا أن حال الاستقطاب من جهة، والتعالي والغطرسة الروسية والتسلط، والشعور بالشبه وحتى التماهي بين النظامين الروسي والسوري، وكسر الثاني (السوري) لإرادة الولايات المتحدة والدول الأوروبية بدت بمثابة رسالة للأول أي (الروسي)، أبعدت تماماً فكرة الوصول إلى مشروع مشترك كان من شأنه أن يعيد لمجلس الأمن بعضاً من تسميته في الحفاظ على ما تبقى من الأمن الدولي وأمن المنطقة.
أمام هذا الواقع الأممي الجديد، تعود الخيارات المفتوحة على كل الاحتمالات إلى الواجهة، والتي يأتي من ضمنها تراجع الإدارة الأميركية عن سياساتها التي أوحت بتركها منطقة الشرق الأوسط، ومنها سورية، للروسي مع بعض المساحات للشرطي الإيراني، فيما اعتبر بمثابة استدارة منها إلى مناطق جديدة أكثر مردودية عليها من الناحية الاستراتيجية، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً. ويفهم من ذلك أن ما اعتبر بمثابة استدارة أو تخلّ عن المنطقة من قبل الولايات المتحدة كان موضع جدل، إذ ثمة من رأى أن في ذلك نوعاً من الاستدراج أو التوريط لروسيا لدفعها إلى الانغماس في مستنقع الحرب السورية لاستنزافها وإنهاك قواها العسكرية والديبلوماسية، فيما الولايات المتحدة تراقب من بعد من دون أن تتكلف شيئاً.
وفي هذا الإطار تحديداً، فإن وجهة النظر هذه تعتقد بأن هذه الاستراتيجية (الأميركية) وصلت حدّها الأقصى، أو أنها استنفدت أغراضها، بحيث بات ينبغي التعامل بطريقة مختلفة عن السابق، لا سيما ما يتعلق بتحجيم الدور الأوروبي في الصراع السوري لمصلحة الاستفراد الروسي، أو أن رغبتها في مزيد من الوقت لاستمرار الصراع لن تتحقق في ظل التورم السرطاني للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يرى إمكان الحسم العسكري سريعاً للقضاء على معارضة مدعومة بالصمت الأميركي فقط، أي من دون دعائم حقيقية تقوي واقعها العسكري، ما من شأنه خروج الوضع على السيطرة ووضع الموقف الأميركي ومعه الأوروبي في مكانة حرجة أمام الغطرسة الروسية التشبيحية.
بناء عليه فإن الافتراق الأميركي - الروسي، بخاصة صلف بوتين وتصعيده العسكري على الأرض، يبدو أنه وضع الإدارة الأميركية أمام لحظة الحقيقة، في بحثها على انتهاج خيارات أخرى غير التي عودتنا عليها سابقاً، وإن كانت ستبقى في دائرة الردود المحدودة عسكرياً، على ما أعتقد، ومن ضمنها:
أولاً: إبداء مزيد من الضغط على روسيا بالوسائل السياسية والديبلوماسية، وربما تذهب بعيداً من مجلس الأمن الدولي الذي تملك روسيا مفاتيحه بالتساوي مع الدول الأعضاء الدائمة، عبر التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لاتخاذ قرار تحت بند «الاتحاد من أجل السلام» بغرض انتزاع موافقة أكثر من ثلثي الأعضاء، على ما تريده في سورية، وبهذا تكون الإدارة الأميركية أيضاً استرجعت الدور الأوروبي في الملف السوري، وربما تذهب نحو فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على روسيا تجعل موقفها أكثر ضعفاً أمام الرأي العام الروسي.
ثانياً: التعامل بجدية مع متطلبات «الجيش الحر» تأمين سلاح نوعي محدود من شأنه تشكيل تهديد حقيقي لقوات النظام وروسيا وإيران، وإعادة بعض التوازن إلى الصراع الدائر. وبداهة أن هذا تحديداً يستوجب إجراءات مقابلة من فصائل «الجيش الحر» وبعض الفصائل الإسلامية المعتدلة المدعومة من جهات عربية أو غيرها، تتمثل بتلبية النداءات التي وجهتها إليها المعارضة السياسية المتمثلة بالائتلاف وبعض مكونات الهيئة العليا للتفاوض بتوحيد قواها والانضواء في «الجيش السوري الحر»، متجاوزين بذلك سياسة الفصلنة والشعارات المتنوعة لمصلحة السعي إلى دولة سورية ديموقراطية متعددة للمواطنين الأحرار تحت علم الثورة معلنين وقوفهم مع القيادة السياسية في رؤيتها للحل السياسي المنشود.
ثالثاً: ضمن حملة المراجعات في الموقف الأميركي تجاه القضية السورية لا يمكن للولايات المتحدة تجاهل القوى الإقليمية والعربية وضرورة إشراكها في صناعة الحل السياسي لأن الصراع الدائر بات أوسع من كونه قضية داخلية سورية، فهو الآن قضية إقليمية عربية ودولية بامتياز وصلت شظايا انعكاساتها إلى الجميع بلا استثناء.
رابعاً: مع استبعاد تدخل أميركا في حرب مباشرة على النظام، فإن التطورات الأخيرة من شأنها أن تشجع الولايات المتحدة على القيام بتحرك ولو محدود يلحق خسائر مؤلمة بالنظام ومن خلفه روسيا، وهو الأمر الذي حاولت الولايات المتحدة تجنبه، رغم أنها دأبت في تصريحات متضاربة على عدم نفيه بالمطلق، علماً أن ذلك قد يستدرج في المقابل رد فعل روسياً، ربما يأتي بدوره بتصعيد أميركي. وعموماً فإن ذلك كله سيتوقف على الأرجح على ردة الفعل الروسية إزاء التغييرات في الموقف الأميركي.
خامساً: طي ورقة التفاوض (في جنيف) بينما تستنزف كل القوى إمكاناتها عسكرياً وديبلوماسياً بحيث تكون أكثر استعداداً لقبول خيار المبعوث الدولي للمشاركة في حكومة انتقالية تبقي على النظام أو تعيد إنتاجه، حتى مع إنهاء حكم بشار الأسد شخصياً، علماً أن هذه مسألة من المبكر التحدث بتداعياتها، إذ إن ذلك يعتمد على مآلات التجاذب بين الرؤيتين الأميركية والروسية، كما يعتمد على كيفية إنهاء حكم الأسد.
أمام هذه الاحتمالات كلها ومردوداتها الكارثية، باعتبارها تثقل على الثورة السورية، بعد كل المداخلات التي أحاطت بها، يبقى هناك مجال لحركة المعارضة السورية، إن أقلعت عن الجمود، وأحسنت التصرف، بحيث تسعى إلى حسم أمرها وترتيب بيتها، وتشكيل قيادة سياسية - عسكرية تستحوذ على ثقة أوسع قطاع من السوريين لفرض حل سياسي عادل لا يهدر تضحياتهم ولا يبدد حلمهم بإقامة دولة الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية والديموقراطية.
هكذا تبدو خيارات السوريين معارضة ونظاماً شبه معدومة، على ما نلحظ، فالمعارضة بفعل العوامل الذاتية والمداخلات الخارجية تبدو قدراتها أقل من محدودة، وتتمثل في خيار واحد لا ثاني له هو تجاوز حال الانقسامات السياسية والعسكرية وتوضيح مواقفها من كل دخيل على ثورتها، بحيث لا يصبح ذلك عبئاً عليها وتتحمل كوارث ارتباطاته مع مشاريع غير سورية، ويجبرها على فتح جبهة جديدة إضافة إلى جبهتيها مع النظام و «داعش». وعليه يتوجب أن تحمل المصارحة بين قوى المعارضة مشروعاً سياسياً واقعياً يبعد كل العناصر غير السورية ويوفر خيارات الانضواء للسوريين في جيش حر واحد، وفي مشروع واحد يستعيد الأهداف الأولى للثورة السورية كثورة وطنية ديموقراطية تفتح على دولة مواطنين أحرار ومتساوين.
في المقابل أيضاً فإن النظام في تعنّته ورفضه تقديم أي بوادر لحل سياسي مقبول، ومضيه في تسليم البلاد لقوى روسية وإيرانية وميليشيات طائفية، يبدو فاقداً للخيارات ليبقى مقيّداً بمزاجية بوتين الذي لن يتوانى في لحظة المقاربات المقبولة روسياً تركه يتهاوى عسكرياً وديبلوماسياً كما الحال اليوم اقتصادياً.
... «ترقى إلى جرائم حرب»، ماذا يعني ذلك؟ لا شيء. مجرد كلام وتلويح بالاتهام مع إدراك مُسبق لصعوبة المضي به، فالنظام الدولي عُطّل بـ «فيتو» الدول الخمس الكبرى يوم أنشئ مفترضاً أن هذه الدول لا يمكن أن ترتكب جرائم كهذه. لكن ما يحصل في حلب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية يقف العالم بإزائها عاجزاً تماماً. أكثر من ذلك، كان مجرم الحرب، أو ممثله، مترئّساً جلسة مجلس الأمن يوم السبت 08/10/2016 ليرفض مشروع قرار يطلب وقف إطلاق النار وإيصال مساعدات إنسانية مع آلية دولية للمراقبة. ولماذا يرفض؟ لأن المقترح يمنعه من مواصلة القتل والتدمير. أما مشروعه المضاد فلا يجيب عن سؤال منطقي بسيط: كيف تكون الهدنة ممكنة مع استمرار القصف الجوي؟ ما يعني بوضوح أن روسيا، ونظام بشار الأسد بالتبعية، يرفضان أي وقف لإطلاق النار.
كانت حلب في تاريخها المديد تعرّضت للكثير من الغزوات والاعتداءات، ولم تشهد دماراً إلا في زلزال العام 1138 ثم في الغزو المغولي عام 1260 الذي أتبع التدمير بمذابح وحشية للسكان. بعد سبعة قرون، ها هو فلاديمير بوتين يسير على خطى هولاكو. كان السفاح المغولي يعيث دمويةً في عالمٍ بلا قيم أو أعراف إنسانية، ولا قوانين فيه سوى الغزو والغنائم، أما السفاح الروسي فلا يستعيد أسوأ ما في الحقبة السوفياتية بل يستخدم ترسانته المتطورة بنوازع بالغة المغولية ليعيد العالم إلى ما قبل الحضارة، حتى أن أميناً عاماً بائساً للأمم المتحدة وصف ما يجري في حلب بأنه «أكثر من مذبحة»، أما مبعوثه إلى سورية، وهو أكثر تعاسة، فأورد تفاصيل مستندة إلى مصادر ميدانية لا يمكن أن تكون سوى أدلّة إثباتية لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
أن يُتّهم بوتين بالإجرام فهذا لا يقلقه، بل على العكس يؤكّد له أن دمويته «سياسة» تنجح وتكسب وتحقّق الأهداف، بل إنه ينذر متّهِميه بـ «عواقب قانونية» إن لم يخرسوا. وأن يصبح قرين علي خامنئي وبشار الأسد وحسن نصرالله وقيس الخزعلي وبنيامين نتانياهو فهذا يعني أن لديه زبانية لا تقتصر على هؤلاء وقد نال مشروع قراره في مجلس الأمن أربعة أصوات بينها صوته وصوت مصر. منذ «الفيتو» الأول أدرك بوتين أنه يتقدّم وأن ورقة سورية تلمّع زعامته الدولية في مقابل دولة عظمى وحيدة استطاع أن يجعل منها مهزلة كبرى وحيدة. ومع «الفيتو» الخامس أصبح متيقّناً بأن طريقه إلى المجد وإلى تكريس تلك الزعامة يمر بالركام وبأنهار الدم في حلب. أما أن يفشل المجتمع الدولي في عقلنة بوتين، اعتماداً على وازع إنساني أو أخلاقي أو حتى سياسي لديه، فهذا لا يترجم عنده إلا بالعجز العسكري عن تهديده وردعه.
قبل عام أرسل بوتين طائراته إلى سورية واستعدّ لإنقاذ نظام الأسد، وقبل أن يطلق صاروخه الأول ذهب إلى نيويورك للقاء باراك أوباما على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة لعرض تنازلات في سورية مقابل تقاسم في أوكرانيا مع رفع العقوبات المفروضة على روسيا، وأثار أيضاً ضرورة التفاهم على ملفات عسكرية موضع خلاف في أوروبا. لم يحصل على صفقة فشرع في جولة أولى من القتل والتدمير في سورية ثم وجد مصلحة في الظهور كباحث عن حل سلمي وسياسي، وفيما تلاعب بالهدنات وبشروط التفاوض السياسي أكسبته الثنائية الروسية - الأميركية «اعترافاً» عالمياً بأنه صاحب قرار الحرب والسلم في سورية، وكان مستعداً لأي من الاحتمالَين، مهدّئاً ومصعّداً، شرط الحصول على تلك «الصفقة» مع أوباما. ومع اقتراب ولاية الأخير من نهايتها وجد بوتين أنه لم يعد هناك ما يمكن توقّعه من واشنطن فانتقل إلى ذروة التصعيد لتغيير وقائع الملف السوري، عسكرياً وسياسياً، استباقاً للإدارة الأميركية المقبلة.
مع «الفيتو» الخامس ذهب بوتين بعيداً في الاستهانة بالمجتمع الدولي، وفي إذلال إدارة أوباما دائمة التخبّط في تحديد خياراتها. وما دام أحداً لا يستطيع ردع «الدبّ الروسي» فإن الجلوس معه وهو يرفع يده وحيداً لرفض الإرادة الدولية شكّل «اعترافاً» بالأمر الواقع، الذي لم يعد تدخّلاً بطلب من نظام تأكّد إجرامه في حقّ شعبه بل غدا احتلالاً روسياً ناجزاً لسورية، بالتكافل والتضامن مع احتلال آخر تمارسه إيران وميليشياتها. ففي الأسابيع الأخيرة تضاعفت الترسانة الروسية على نحو غير مسبوق، وصادق مجلس «الدوما» الجديد على «اتفاق» يجعل الوجود الروسي في سورية دائماً. نسي الجميع الطابع «الموقّت» والمتعجل للتدخّل، كما قدمها بوتين قبل عام، وأصبحت المهمّة طويلة ومفتوحة ومرتبطة بـ «الأمن القومي» وفقاً لسيرغي لافروف في تحليله لتدهور العلاقة مع الولايات المتحدة واحتمال موافقة أوباما على ضرب قواعد ومطارات لنظام الأسد.
لن تقع مواجهة مباشرة بين الدولتَين الكبريين، إذ أنهما تتحاربان بسورية وشعبها فيما يقول خطابهما الإعلامي أنهما «تحاربان الإرهاب». أما الحاصل الآن فهو سقوط الأقنعة التي تبادل الأميركيون والروس التنكّر بها، وكان السؤال دائماً: أيّهما يستفيد أكثر من تواطئهما، ولم يكن يوماً: أيّهما يعمل حقّاً من أجل سلام في سورية؟ المؤكّد أن لدى بوتين حلفاء مستفيدين، فيما يندر وجود مستفيدين مع أوباما. والحاصل الآن أيضاً هو أن العجز الدولي يُطلق يد روسيا لتدمّر كما تشاء في سورية من دون أن تكون قادرة على الحسم عسكرياً ولتغرق في المستنقع من دون أن تكون قادرة على الحسم سياسياً. لكن الحاصل تحديداً هو سقوط سورية ووشوك احتمال اختفائها من الخريطة، وإذا حصلت مواجهة فإن نظام الأسد سيحتفل لاقتناعه بأنها من أجله وبسبب الأهمية التي يتمتّع بها، ولن يشاركه الاحتفال سوى الإرهابيين، إرهابييه الذين عوّل عليهم لإطالة عمره ويعوّلون عليه في بقائهم.
واقعياً أبلغ الروس إلى الفرنسيين والإسبان أنهم غير معنيّين بالعمل معهم أو حتى مع الأمم المتحدة، لكنهم أبلغوا أيضاً إلى الأميركيين أنهم غير مستعدين للتعاون/ التكاذب إلا معهم وإذا أرادوا أن تستمر «اللعبة» وتنجح فقد أصبحوا يعرفون ما المطلوب منهم. أي أنهم جعلوا الشعب السوري وقضيته رهن تناغمهم أو تنافرهم، مخيّرينه بين «داعش» وبوتين، وقبل ذلك بين الأسد و «داعش». أي أنهم يدفعون به دفعاً إلى التطرّف، تدعّشاً أو تأفّغناً أو تصوّملاً، على رغم أن لا مصلحة له في ذلك. لكن هذا ما يفرضه عليه الوجود الروسي «الدائم»، فالاحتلال الخارجي (الروسي والإيراني) يستدعي المقاومة والمواجهة كما استدعاهما الاحتلال الداخلي (الأسدي). أما معركة الحرية والكرامة فغدت معركة من أجل الاستقلال.
في أي حال كان الأسد والإيرانيون هم المستفيدون من «التعاون» الأميركي - الروسي لكنهم كانوا يخشون مقايضاتٍ بين الدولتَين، إذ لمسوا أن روسيا متمسّكة بأميركا لأن «الشراكة» معها توفّر لها «مشروعية» دولية تحتاج إليها، بمقدار ما كانت متمسّكة ولا تزال بالبحث عن «حل سياسي» ولو بالتلفيق ليشكّل تغطية لتدخّلها. أما وقد سقطت الأوهام والتمويهات فإن بوتين استعاد طبعه الإجرامي ليندفع نحو التدمير كحلّ عسكري، ولن يحصل عليه، فسورية ليست الشيشان والعالم الذي تعامى عن تدمير غروزني لن ينسى جريمته في حلب. هل يتطلّب الأمر حرباً عالمية لإعادة إنتاج المجتمع الدولي وإنهاء العجز والشلل في مجلس الأمن، طالما أن «الفيتو» يمنع معاقبة نظام الأسد على استخدامه السلاح الكيماوي، كما أنه يساعد روسيا نفسها على تعطيل إدانتها على جرائم الحرب في سورية؟
تقول إيران إنها لا تتدخل عسكريًا في أي دولة عربية. ويستمر الحرس الثوري الإيراني في تأكيد مقتل ضباط من القوات الخاصة العاملة في سوريا ومنهم العقيد محمد رضا زاريالوني من وحدة «الصابرين» في القوات البرية، الذي قتل خلال عملية «استشارية» يوم 27 من الشهر الماضي، حسب ما جاء في بيان «أنصار فيلق الحسين» التابع للحرس الثوري الذي تواصل قيادته تسمية قواته «المستشارين»، على الرغم من بيانات الوفاة التي تعلن عن المعارك التي تخوضها.
الميليشيات الشيعية التي أرسلها ويدعمها الحرس الثوري تفيد بأن ضباطه يقودون مباشرة هذه الميليشيات في المعارك. ففي 5 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، قال علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني علي خامنئي للشؤون الدولية خلال استقباله رئيس وزراء السويد السابق كارل بيلدت إن «إيران غير متورطة مباشرة في أي نزاع أو عمل عدائي في أي بلد آخر»، وأضاف: «نظرًا للتجارب الكثيرة لقوات الجمهورية الإسلامية فإن إيران تقوم بمهمات استشارية في العراق بناء على دعوة من حكومته، وإن وجودها في سوريا له طبيعة الاستشارة وبطلب من قبل حكومتها».
في الثناء الذي كالته قيادة الحرس الثوري على زاريالوني، قالت إن تنظيم داعش الإرهابي والتكفيري قتله، وهو يدافع عن ضريح السيدة زينب، وأثناء دفاعه وتعزيزه لجبهة المقاومة الإسلامية. والمعروف أن الموقف الرسمي لإيران يصف كل مقاتلي المعارضة السورية بالإرهابيين، وليس فقط مقاتلي «داعش» أو الموالين له.
التمويه يأتي عندما تقول بيانات إيران إن ضباطها قتلوا أثناء الدفاع عن ضريح السيدة زينب، مع العلم أن القوات والميليشيات الشيعية التي يقودها الحرس الثوري شنت في اليوم نفسه الذي قتل فيه العقيد زاريالوني هجومًا كبيرًا على مدينة حلب، وكان مسؤولون أميركيون أشاروا في 26 من سبتمبر (أيلول) إلى أن كثيرًا من الميليشيات الشيعة التي تدعمها إيران، وقامت بالهجوم على حلب وصل عددها إلى 3 آلاف، في حين أشارت الصحف البريطانية إلى أن العدد تجاوز 5 آلاف.
في 30 من سبتمبر نعت إيران عناصر من المتطوعين الباسيج - القوة العسكرية التابعة للحرس الثوري – الذين قتلوا جنوب حلب، وكانت في بداية الشهر الماضي نشرت، وعن قصد، صورًا للواء قاسم سليماني قائد وحدة العمليات الخارجية في الحرس، وقائد فيلق القدس وهو يجول في جنوب حلب، ويتفقد مواقع «حركة النجباء»، الميليشيا العراقية الشيعية التي تدعمها وتمولها إيران، مما أكد أن وجود سليماني - غير الاستشاري طبعًا - في حلب كان لسحق المعارضة. ويدير سليماني الاستراتيجية الإيرانية في سوريا بالتنسيق مع كبار القادة العسكريين الروس والسوريين.
منذ شهر يوليو (تموز) كان اللافت أن قائمة الضحايا من المقاتلين الإيرانيين في سوريا تشمل ضباطًا من القوات البرية تزيد رتبها على الرائد وما فوق، إضافة إلى مجموعة من العمداء، كلهم قتلوا على أبواب مدينة حلب. ويشير هذا إلى أن كبار ضباط الحرس الثوري الإيراني، الذي هو ليس شركة استشارية، متورطون في تخطيط العمليات العسكرية على أعلى مستوى، وأنهم في معارك دموية كثيرة، يقودون الميليشيات الشيعية التي دخلت سوريا، على شكل وحدات بحجم الكتيبة. ويفخر هؤلاء القادة بالمشاركة مباشرة في الخطوط الأمامية أثناء اندلاع المعارك، رغم ما يكمن دونه من خسائر. وبيانات الوفاة الإيرانية شملت أطباء تخدير، وخبراء في المدفعية وقناصة.
من أجل أن تستمر إيران في الحرب في سوريا، يعمد الحرس الثوري سرًا إلى تجنيد الشيعة الأفغان الذين يشكلون 20 في المائة من مجموع الشعب الأفغاني (30 مليون نسمة)، وهم في الغالب من الهزارة ويتكلمون الفارسية. كما جهز الحرس الثوري الآلاف من المهاجرين الأفغان غير الشرعيين، وهددهم بالترحيل إلى بلادهم إذا ما رفضوا الانضمام. وهكذا أسس الحرس لواء «الفاطميون»، وينتشر الأفغان للقتال إلى جانب النظام السوري منذ عام 2014. عددهم حسب التقارير يصل إلى 20 ألفًا، ومهمتهم الأساسية الدفاع عن ضريح السيدة زينب في دمشق، ويجبرون أحيانًا على القيام بعمليات قتالية محفوفة بالمخاطر. وحسب التقارير، فقد تلقوا تدريباتهم على يد «حزب الله» اللبناني. وتقام لهم المآتم في مدينة قم، ويحضرها مسؤولون إيرانيون كبار.
كذلك أنشأ الحرس الثوري الإيراني فيلق «زينبيون» وهم من شيعة باكستان انتشروا للمشاركة في القتال في سوريا. ويعرفون شعبيًا بـ«حزب الله» الباكستاني، ولهم شعار كشعار «حزب الله» اللبناني، وفي مقدمة كل بياناتهم يحيون «القائد الأعلى آية الله خامنئي»، تمامًا كما يفعل أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله في معظم خطاباته.
وفي يونيو (حزيران) من عام 2014 تطوع 30 ألف شيعي من الهند لمقاتلة «داعش» في العراق ولحماية المراقد الشيعية هناك، وتراوح المتطوعون من طلاب جامعات إلى مصرفيين وأطباء ومهندسين. وقال سيد بلال الناطق باسم المجموعة الهندية الشيعية لوكالة الأنباء العراقية، إنهم يتطلعون لمليون متطوع لتشكيل سلسلة بشرية حول كربلاء والنجف.
إذن، الميليشيات الشيعية التي أنشأتها إيران وتشمل «حزب الله» اللبناني، والميليشيات العراقية ولواء الفاطميون، ولواء الزينبيون تشارك كلها في معارك حلب، إلى جانب القوات السورية برًا والروسية جوًا. وفي الفترة الأخيرة، مع اشتداد المعارك قتل 17 أفغانيًا، وفقد «حزب الله» في شهر أغسطس (آب) الماضي 29 مقاتلاً من كتيبة النخبة «الرضوان»، كما لقي 7 مصرعهم في الشهر الماضي.
إن إعلان إيران عن مقتل عناصر من الباسيج في سوريا يؤكد أن الحرس الثوري نشر قواته البرية النظامية وقوات الباسيج عندما أراد ضخ قوات إضافية لتكثيف الهجمات على حلب. ورغم تصريحات المسؤولين الإيرانيين بأن دور إيران استشاري، فإن مقتل عناصر من الباسيج يشير إلى أن بعض قوى الحرس الثوري العادية تشارك في القتال في سوريا بصفتها جزءًا من «قوة التدخل السريع الشيعية» بقيادة الحرس الثوري.
من ناحية أخرى، كان قائد رفيع في الجيش النظامي الإيراني أبلغ الصحافيين في 23 مارس (آذار) الماضي، أن قوات خاصة من الجيش ستنتشر في سوريا والعراق تحت تسمية «مستشارين»، وكانت هذه المرة الأولى منذ الحرب العراقية - الإيرانية التي ترسل فيها إيران قوات نظامية إلى خارج حدودها.
إن مشاركة قوات من الجيش النظامي الإيراني كانت بدأت قبل أشهر من هذا «الاعتراف»، لأن قائد القوات البرية الإيرانية أمير أحمد رضا بوردستاني لم ينفِ في 17 مارس الماضي، تقريرًا أشار إلى أن طائرة هليكوبتر إيرانية عسكرية شوهدت تقلع من العراق إلى سوريا في شهر ديسمبر (كانون الأول) 2015.
وفي كلماته يشدد قائد القوات البرية التابعة للحرس الثوري، اللواء محمد باكبور، على أهمية الانتصار في «الحروب في سوريا والعراق» والدفاع عن العتبات الشيعية، ويحذر من أنه في حال الهزيمة فإن إيران ستواجه الأعداء أنفسهم من المتطرفين السنة على حدودها الغربية.
إذن، بغض النظر عن التكلفة فإن إيران وحلفاءها من الميليشيات الشيعية يسعون إلى تحقيق نصر عسكري في سوريا. وكان السيد حسن نصر الله قال قبل أيام إن الكلمة الأخيرة في سوريا ستكون لساحة المعركة.
وبعد كل ما تقدم، هل علينا أن نصدق ما قاله الرئيس الإيراني حسن روحاني يوم السبت الماضي أثناء اجتماعه مع إيرانيين مقيمين في ماليزيا: «إن إيران لا تسعى إلى نشر التشيع، أو فرض ثورة 1979 على أي دولة، نحن بحاجة إلى الوحدة والأخوة بين الشيعة والسنة، وإن العالم الإسلامي بحاجة اليوم إلى تبديد الوهم بين الشيعة والسنة اللذين تربطهما أهداف مشتركة»؟
جميل كلام روحاني، لكن «أهدافه» مسمومة.
أثار تقرير مصور بثته قناة العالم الإيرانية عن إحياء يوم عاشوراء في بلدتي كفريا والفوعة، حالة استهجان شعبية كبيرة في محافظة إدلب وعموم المناطق المحررة، والتي تعكس درجة الأمان التي وصل إليها أهالي ومسلحي البلدتين اللتان من المفترض أن تكونا محاصرتين وتعانيان ولو جزء يسير مما تعانيه المناطق المحررة المحاصرة من قبل قوات الأسد في عموم المحافظات السورية من جوع وقتل يومي.
يرصد التقرير تجمهر الألاف من المدنيين والعسكريين في الساحة العامة لبلدة الفوعة لإحياء ذكرى عاشوراء تخللها فعاليات متنوعة يقوم بها الشيعة في إحياء طقوسهم، دونما خوف من سقوط قذيفة بين الجموع قد تودي بحياة العشرات منهم، هذا الاجتماع الذي تحرم منه المناطق المحررة حتى في الأسواق الشعبية خوفاً من القصف المستمر وتجنباً للمجازر التي ترتكب بشكل يومي.
يقول متابعون: إن بلدتي كفريا والفوعة تدخلان في هدنة طويلة بدأت بستة أشهر في 24 أيلول من عام 2015 لوقف إطلاق النار من الطرفين في الفوعة والزبداني بما سمي حينها اتفاق البلدات الأربع " مضايا - الزبداني ، كفريا - الفوعة"، تلاه تمديد للاتفاق مرات عدة ضمن بنود اتفق عليها جيش الفتح مع المفاوض الإيراني، وساهم بدور كبير في وقف العلميات العسكرية على مدينة الزبداني وتخفيف أعباء الحصار على بلدة مضايا والفوعة وكفريا في آن واحد، حيث استمر دخول المساعدات الإنسانية للمنطقتين بشكل متوازي، إضافة لعدة عمليات إخلاء جرحى ومصابين برعاية الأمم المتحدة والهلال الأحمر.
وفي الطرف المقابل يردد البعض انتقادات كبيرة للمحاصرين لبلدات كفريا والفوعة، مستنكراً تباطئهم في قصف البلدتين ومحاصرتهما بشكل فعلي على غرار ما يفعل النظام كورقة ضغط عليه لتخفيف القصف على المناطق المحررة في إدلب، لاسيما بعد إخلال قوات الأسد والعدو الروسي ببنود الاتفاق وقصف المناط المنضوية ضمن دائرة وقف القصف والتي تعرضت لقصف عنيف مازال مستمراً أوقع العشرات من الشهداء والجرحى بمجازر عدة، إضافة لعودة عمليات الإمداد الجوي بالأسلحة والذخائر للمسلحين المحاصرين في بلدتي كفريا والفوعة من قبل الطيران المروحي وطيران اليوشن الحربي.
وبين مؤيد للهدنة ورافض لها ينظر البعض إلى أن بلدتي كفريا والفوعة تنعمان بالأمن والأمان، وفائض في الغذاء منه ما يصل عبر القوافل الإنسانية التي تدخل برعاية الأمم المتحدة، ومنها بالإمداد الجوي، ومنها ما يصلهم عن طريق بعض ضعاف النفوس من أبناء البلدات المحيطة بهم عن طريق عمليات التهريب، على عكس ما تعانيه المناطق المحاصرة من قبل قوات الأسد والتي تشهد قصف يومي ومجازر أزهقت العشرات من الأرواح في صفوف المدنيين، إضافة لنقص في الغذاء والأدوية ، وتفشي الامراض منها بسبب الجوع والحصار، هذا عدا عن عمليات التهجير التي بدأت وبرعاية المجتمع الدولي من عدة مناطق في داريا والهامة وقدسيا والوعر ومناطق أخرى تتجهز لذلك.
ولعل حال الرافضين لفكرة استمرار هذا الاتفاق يقضي بتحقيق توازن في الرعب والقتل عبر ورقة الضغط التي يملكها الثوار والمتمثلة في بلدتي كفريا والفوعة، وبذلك يساهم بدرور كبير في تخفيف الضغط عن عشرات المناطق، وفرض اتفاقيات جديدة على قوات الأسد في حال تحقق هذا التوازن في الرعب والتجويع والقتل والدماء، كأفضل حال من الاستمرار في تأمين حماية هذه البلدات حسب رأي الكثير منهم.
يطرح الواقع الدولي، وقرارته المتعلقة بالوضع السوري، أمام المعارضة السورية مسؤولية توضيح خياراتها تجاه الواقع الذي تفرضه جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، خصوصا أنها لا تعترف بالثورة ولا بكياناتها. أيضا لا تستطيع المعارضة التملّص من المسؤوليات الواجبة عليها، والناتجة من سياسات هذه الجبهة؛ خصوصاً في ظل أوضاعها الصعبة، وقدراتها المحدودة والمداخلات الدولية والإقليمية في الشأن السوري. من زاويةٍ أخرى، لا تستطيع المعارضة الوقوف صامتةً إزاء تجاهل هذه الجبهة الأوضاع المأساوية التي يمر بها السوريون، والظروف المعقدة التي تمر بها الثورة، ولا تجاهل الموقف الدولي والإقليمي الحاسم في طلبه من المعارضة، بكياناتها السياسية والعسكرية، ضرورة النأي عن هذه الجبهة، خصوصاً مع كل الأضرار والتداعيات الخطيرة التي قد تنجم عن ذلك على شعبنا وثورتنا.
السؤال الذي يمكن طرحه في هذا السياق: ما هي علاقة ثورتنا بجبهة النصرة؟ أو بالأحرى ما علاقة هذه الجبهة بالثورة؟ أي أن هذا السؤال لا علاقة له بأي خلفياتٍ، لا سياسية ولا فكرية، ولا بمواقف مسبقة، لا سلبية ولا إيجابية، إذ ينطلق من واقع موضوعي.
منذ قامت هذه الجبهة، شكلت حالة افتراق عن الثورة، فهي لم تر في نفسها جزءاً منها، ولم تتبنّ أهدافها، ولم تنضو في كياناتها، ولا حتى رفعت علمها، بل إنها ناهضت ذلك كله، معلنة انتماءها لتنظيم القاعدة، ولمشروع آخر مختلف، ومتبنّيةً ثقافةً غريبة عن ثقافة السوريين، ومنها الإسلام المعتدل والمسالم (وإن أعلنت افتراقها عنها أخيراً بتغيير اسمها)، أي أن هذه الجبهة لم تقطع مع الثورة السورية فقط، وإنما قطعت أيضا مع مجتمع السوريين متنوع ومتعدّد الثقافات.
المؤسف أن هذه الجبهة أيضاً ظلًت قريبة من "داعش"، حتى أن التنقل سهل جداً بينهما، وعلى الرغم من اقتتالهما في هذه المنطقة أو تلك، بين فترة وأخرى، إلا أنهما أقرب إلى بعضهما في الثقافة والأيديولوجيا السياسية، وفي التعصب الديني والإكراه والعنف في مواجهة المجتمع.
وللتذكير، ليست سيرة جبهة النصرة مع جماعات الجيش الحر أفضل حالاً، إذ إنها لعبت دوراً كبيراً في قضم المناطق التي كان يسيطر عليها هذا الجيش، وفي إضعافه وإنهاكه، بعد استهدافها له، ولمقرّاته ونهبها مستودعاته.
أيضا، المناطق المحرّرة التي تسيطر عليها هذه الجبهة (وبعض قوى أخرى) لم تستطع أن ترضي السوريين، باعتبارها بمثابة أنموذج بديل عن نظام الأسد، لأنها اعتمدت القوة والإكراه في فرض سلطتها، بل وتصوّراتها واجتهاداتها عن الدين والمجتمع والمرأة، وتدخلها الفظ في الشؤون والمسلكيات الشخصية، إذ نمّى ذلك كله مخاوف السوريين من مختلف المكوّنات من هذه الجبهة وإمكان تحكّمها بهم، وقد تم التعبير عن ذلك في مظاهراتٍ عديدة ضدهم في درعا ودمشق وسراقب والمعرّة مثلا.
لا أقلل من جهد الجبهة في مقاتلة النظام، لكن هذا الجهد قام به أبناؤنا الذين لم يجدوا أمامهم سوى هذه الجبهة، لسبب أو لآخر، ثم إن من دفع الثمن هم أهلنا أيضاً الذين خضعوا للقصف والحصار والجوع والتشريد، بسبب هيمنة الجبهة على مناطقهم، وطريقتها في الصراع العسكري ضد النظام، مع ضعف الإمكانات العسكرية، والاعتماد على دعم هذه الدولة أو تلك، وهو دعم محدود ومقيّد، ولا يتناسب مع ما تحاوله هذه الجبهة، كما ثبت بالتجربة.
وعليه، لا يجوز لهذه الجبهة، ولا لغيرها، أن تمنن على شعبنا بجهدها العسكري في مقاتلة النظام، لأن هذا لم يؤثر في تغيير موازين القوى منذ أكثر من أربعة أعوام، ولأن إمكاناتنا محدودة في العمل العسكري، والدعم العسكري يأتي بالقطارة. وأقصد أن على من اختار هذه الطريق أن يُخضعه للمساءلة والمحاسبة، وعليه أن يقدّر تضحيات شعبنا وعذاباته نتيجة هذا الطريق، فكيف إذا علمنا أن ذلك أتاح للنظام تحويل البيئات الشعبية إلى مناطق محاصرة، أو فارغةً بعد البطش بسكانها أو تشريدهم؟
الأهم أن هذه الجبهة، في ما تطرحه من أفكار، أثارت المخاوف عند كل مكونات السوريين منها، (وضمنهم السنة)، ومن الثورة عموماً، وأضعفت التعاطف الدولي مع قضيتنا، وأثارت الشكوك حول مطالبنا بالحرية والكرامة والعدالة والمساواة.
أكرّر، ليست القصة ما تتبناه هذه الجبهة من أفكار، ولهذا نقاش آخر، وإنما في أنها لا تعتبر حالها جزءاً من الثورة، وأن لديها مرجعية أخرى، ومشروعاً مختلفاً، أيضاً في أن طريق هذا الجبهة يفضي إلى إعادة إنتاج الاستبداد، وفي أنها تعتبر نفسها وصيةً على الإسلام والمسلمين، وأنها ترى حتى الجماعات الإسلامية الأخرى، والتي تحظى بتأييد واسع، ضالةً أو منحرفة، وأنها تستخدم القوة والقسر لفرض رأيها.
ليست هذه دعوة إلى نفض اليد، وإنما لنقاش آثاره حديثٌ مع أصدقاء، مفعم بروح المسؤولية إزاء كيفية التعامل مع ظاهرة جبهة النصرة، بعد أن أضحت عبئاً على السوريين، بسبب مواقفها وتصرفاتها التي ثير مخاوفهم، وأيضاً بسبب المطالبات الخارجية. في النقاش المذكور، طرح سؤال مفاده إن كانت جبهة النصرة، وأخواتها، تستطيع إسقاط النظام في ظروف تشرّد أغلبية السوريين، وخروجهم من معادلات الصراع، وفي الظروف العربية والدولية والإقليمية الراهنة؟ وفعلاً، يجيب سؤالٌ كهذا على كل شيء، فمن غير المسموح لهذه الثورة أن تسقط النظام وفق منطق هذه الجبهة، ومن غير المسموح تمكين هذه الثورة من تحقيق هدفها بإسقاط النظام من دون التكيف أو المواءمة مع معايير الواقع الدولي والإقليمي الراهن.
في هذا الوضع، لا مناص من إبداء الضغط على هذه الجبهة، أو على العناصر الخيّرة فيها، لترشيدهم إلى هذا الواقع الصعب، ووضعهم أمام خيار الانحياز لمصلحة شعبهم، للتخفيف من معاناته وعذاباته، إذ لن يجدي الإمعان في الطريق الأحادي والإقصائي، ولن يوصلنا إلى شيء، بل هذا يفيد النظام، ويخدم تعويمه، سيما أنه كان، منذ البداية، يجرّنا إلى حربٍ أهلية وطائفية لنعت الثورة بالإرهاب، وبالحرب الدينية.
لذا، من مصلحة شعبنا وثورتنا وضع حد لهذا الإرباك، الناجم عن وجود جبهة النصرة، وتجاوز تداعيات الموقف الدولي والإقليمي المناوئ لها، بتأكيد الطابع الوطني الديمقراطي لثورتنا من أجل الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية، ولاسيما بوضع حد لتشرذم الكيانات العسكرية، من خلال الانصهار في كيان واحد يكون هدفه تحديداً حماية البيئات الشعبية الحاضنة للثورة.
وعلى الرغم من أني لا أعتبر أن الثورة أتت من رحم الكفاح المسلح، بل إن ذلك جاء في معرض الرد على انتهاج النظام أقصى العنف ضد الثائرين بوجه استبداده وقمعه وتنكّره لاستحقاقات الحرية والكرامة والمواطنة التي طالبه بها الشعب السوري، إلا أنني أجد نفسي مضطرةً للتعامل مع هذا الواقع على أرضية الحفاظ على سلامة مسار الثورة، وتحقيق أهدافها.
منذ ست سنوات تقريباً، والأزمة السورية تواجهنا كل يوم بصدمةٍ، وتُسقط من حولنا أقنعةً، وتصفعنا في وجوهنا بقوة، حتى أيقظتنا على عالمٍ لا نعرفه، وهو بالتأكيد غير الذي كنا نظن أننا نعيش فيه. اعتقدنا وهلةً أننا بتنا نعيش في عالمٍ "متحضّر"، لا يمكن أن يسمح لديكتاتور، أي ديكتاتور، بتكرار مستويات عنفٍ أقلّ كثيراً مما شهدته حماة قبل ثلاثة عقود. في ذلك الوقت، تمت المذبحة بصمت، فلا صور ولا أخبار ولا صرخات للضحايا، تستفز العالم "المتحضّر" لنجدتها. ثم إن المذبحة تمت في ظروف الحرب الباردة وثنائية القطبية، حيث لا حديث عن تبعاتٍ سياسيةٍ، ولا بحث في مسؤوليةٍ قانونيةٍ في عالم جمّدت مشاعره الواقعية، بنسختها الكيسنجرية. في ذلك الوقت أيضاً، لم تكن الإنسانية قد اخترعت بعد شيئاً اسمه محكمة الجنايات الدولية (بدأت عملها في أول يوليو/ تموز 2002)، لردع مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، كما أن الأمم المتحدة لم تكن قد أقرّت بعد مبدأ المسؤولية في الحماية (R2P)، حيث للمجتمع الدولي الحق في التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة، في حال ارتكبت حكومتها جرائم تطهير أو إبادة بحق مواطنيها. كانت القناعة، كل القناعة، أنّ ما حصل في سبرينيتسا في البوسنة، وحتى في الشيشان وميدان تيان آن من في بكين أصبح وراءنا. لم لا ونحن نعيش فضائل القرن الحادي والعشرين، حيث تنتشر تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، وتتحول قيم الحرية إلى قيم عالمية، وترتقي الإنسانية.
على الأرض، وفي الواقع، كانت الأمور جداً مختلقة، اذ تجاوزنا في سنة الأزمة الأولى ما جرى في سبرينيتسا، وباتت مذابح راوندا وبورندي اليوم وراءنا، والأرجح أننا في الطريق إلى استعادة تجربة "الخمير الحمر" في كمبوديا، حيث قضى نصف السكان (4 ملايين نسمة) على يد ديكتاتورية بول بوت العسكرية بين 1976-1979، والعالم يراقب، وهو لا يلوي على شيء.
لم تقتصر الصدمة على اللامبالاة التي أبدتها حكومات العالم "المتحضر" تجاه المأساة السورية، بل تجاوزها الأمر إلى الشعوب والرأي العام الغربي الذي صدمنا، هو الآخر، بمقدار لا إنسانيته ولا مبالاته، فسورية ليست ضحية الإمبريالية الأميركية، حتى يخرج بمظاهرات مليونية للتضامن مع شعبها. هنا، يبدو بجلاء أن مشكلة الرأي العام الغربي اليساري التقدّمي لم تكن يوماً مع فعل القتل، بل مع هوية القاتل، فتجده يلوذ بالصمت، إذا كان القاتل من الجنس "الممانع" الروسي أو السوري أو الايراني، أما إذا كان القاتل "إمبريالياً" فالويل له والثبور وما يليه من عظائم الأمور. ولو أن تحرّكاً أميركياً أراد اليوم، مثلاً، استهداف "الممانعين"، لوجدت شوارع لندن وبرلين وغيرها من عواصم الغرب تنتفض، كما فعلت يوم غزو العراق، لمقاومة العدوان الأميركي على سورية.
صُدمنا أيضاً بمواقف نخبٍ عربيةٍ طالما ادّعت النضال في سبيل الحرية، وطالبت الشعوب بالبذل في سبيلها، فلما تحرّكت هذه، وصفت بالغوغائية والتطرّف والإرهاب والتكفير والسقوط ضحية مؤامرة خارجية. صُدمنا بموقف حزب الله وطائفية مشروعه المقاوم، وبمخزون العنف والحقد الكامن فيه، كما أسأنا تقدير حجم المشروع الإيراني، وأبعاده التدميرية وخططه لتفكيك الدولة العربية من دواخلها، وحكمها بمليشيات طائفية، مرجعياتها ايرانية. أسأنا تقدير حجم التغيير الذي حصل في تفكير النخب الأميركية تجاه المنطقة العربية، بعد أحداث "11سبتمبر" وغزو العراق. كما أسأنا تقدير مدى التزام روسيا بمشروع الأقليات في المشرق العربي، ومدى خوفها مع الصين من ثورات الربيع العربي، وخطورة امتدادها اليها، وإصرار الاثنتين على إحداث تغيير عميق في بنية النظام الدولي، بالاستفادة من حالة الانكفاء الأميركي. أسأنا بالتأكيد تقدير مدى التزام العالم "الحر" بقيم الحرية ونشر الديمقراطية، عندما يصل الأمر إلى العرب والمسلمين. فوجئنا بعدم إدراك الدول العربية (الخليجية خاصة) أبعاد الصراع في سورية، وعدم تقديرها أن مصيرها، لا بل وجودها، معلقٌ بنتيجته، فظهرت بمظهر الداعم أو المساند للسوريين في خوض معركتهم، بدلاً من أن تخوض هي المعركة بهم ومعهم.
بالنتيجة، أسأنا الحسابات، تلقينا صدماتٌ عديدة، وفاتتنا أكثر التقديرات، ووصلنا إلى الحال التي وصلنا إليها. الآن، ليس أمامنا وقد وعينا ذلك كله إلا أن ننظر إلى الأمام، ونواصل المسير، وكلنا أملٌ في ألا نستمر في إساءة التقدير.
قبل كلّ شيء، يحتاج لبنان إلى رئيس للجمهورية. من يرفض النزول إلى مجلس النوّاب لانتخاب رئيس للجمهورية، إنّما يريد تدمير الجمهورية لا أكثر. لذلك لا يمكن إيجاد أي عذر لنائب لبناني يقاطع جلسات انتخاب رئيس للجمهورية منذ ما قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان في الخامس والعشرين من أيّار – مايو 2014، أي منذ ما يزيد على عامين ونصف عام بالتمام والكمال. أقلّ ما يمكن قوله عن النائب المقاطع أنّه يعمل من أجل تغيير طبيعة النظام في لبنان… أو أنّه جاهل إلى درجة لا يستوعب النتائج التي يمكن أن تترتب على مقاطعة جلسات انتخاب الرئيس.
مطلوب رئيس للجمهورية لحماية لبنان ومنع تغيير النظام القائم منذ إقرار اتفاق الطائف في خريف العام 1989. هذا النظام يحتاج من دون شكّ إلى إصلاحات. الطائف ليس كتابا مقدّسا. لكنّ هذه الإصلاحات لا يمكن إلا أن تكون نحو الأسوأ في غياب التوافق الوطني وفي ظلّ سلاح مذهبي. يعمل هذا السلاح غير الشرعي على “تبييض” وضعه بفرض دستور جديد عبر ما يسمّى “المؤتمر التأسيسي” الذي دعا إليه قبل سنوات عدّة الأمين العام لـ“حزب الله” السيّد حسن نصرالله.
في غياب رئيس للجمهورية، يبدو لبنان معرّضا لمخاطر كبيرة. من بين هذه المخاطر فرض نظام جديد على اللبنانيين لا يعود فيه مجال سوى لتكريس التعطيل عبر إيجاد نائب لرئيس الجمهورية تابع لـ“حزب الله”، أي لإيران، يكون رئيس الجمهورية الفعلي بصلاحيات تمنع أي قرار يتخذ على الصعيد الوطني يصبّ في مصلحة البلد.
هذا هو الواقع الذي لا يدركه مقاطعو جلسات انتخاب رئيس للجمهورية. من لا يدرك هذا الواقع، خصوصا النواب المسيحيين التابعين لميشال عون الذين يصرّون على أن يصبح رئيسا للجمهورية بسلاح “حزب الله”، إنما هو شريك في اللعبة التي يمارسها “حزب الله”. لا يدرك ميشال عون أن لعبته هذه لن توصله إلى الرئاسة بمقدار ما أنّه يستخدم في عملية من نوع آخر تصبّ في نهاية المطاف في تكريس الوصاية الإيرانية على البلد.
مفهوم أن يقاطع “حزب الله” جلسات انتخاب رئيس الجمهورية. لدى الحزب أجندة خاصة به هي الأجندة الإيرانية. يظنّ الحزب أن الوقت يعمل لمصلحته وأن “المؤتمر التأسيسي” آت لا محالة ما دام قسم من المسيحيين في لبنان، يمثلهم ميشال عون، يعملون من أجل بلوغ النتيجة نفسها.
المؤسف أن ميشال عون لا يتعلّم. لم يستوعب أنّه استخدم في العام 1990 من أجل إفراغ اتفاق الطائف من مضمونه وتحويله من اتفاق يحظى برعاية دولية وعربية، إلى اتفاق يضع لبنان تحت الوصاية السورية.
عندما أدخل ميشال عون، بعقله الانقلابي، الجيش السوري إلى قصر بعبدا ووزارة الدفاع اللبنانية في اليرزة في ذلك اليوم المشؤوم، يوم الثالث عشر من تشرين الأوّل ـ أكتوبر 1990، تبيّن كم أن القائد السابق للجيش اللبناني الذي جيء به إلى قصر بعبدا لا علاقة له بالدولة ومؤسساتها، ولا يمتلك أي قدرة على فهم المعادلات الإقليمية والدولية.
كان ميشال عون، بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل، رئيسا لحكومة عسكرية مؤقتة ذات مهمة محصورة بانتخاب رئيس للجمهورية. خلال إقامته في قصر بعبدا، انتخب النواب رئيسا للجمهورية بعد إقرار اتفاق الطائف الذي أعلن رئيس الحكومة المؤقتة رفضه له. كان همّه محصورا بأن يكون هو، ولا أحد غيره، رئيس الجمهورية.
كان ولا يزال مستعدا لكلّ شيء من أجل أن يكون رئيسا للجمهورية في بلد كان في العام 1989 في حاجة أكثر من أي وقت لشخص مثل رينيه معوّض. مُنع رينيه معوّض من دخول قصر بعبدا كي يكون فريسة سهلة للنظام السوري الذي اغتال الرئيس اللبناني المنتخب في منطقة يتحكّم بكل مفاصلها.
كان منع رينيه معوّض من دخول قصر بعبدا الخدمة الكبرى التي أدّاها ميشال عون للنظام السوري. أعلن ميشال عون الحرب على النظام السوري، لكنه لعب على أرض الواقع، دور الأداة الأفضل، إن لم يكن الأداة المفضلة، لديه. فمنذ اغتيال رينيه معوّض صار النظام السوري من ينفذ اتفاق الطائف على طريقته. لم يكتف ميشال عون بذلك. لم يعرف أن نظام صدّام حسين انتهى يوم غزوه للكويت في الثاني من آب – أغسطس 1990. كان نظام صدّام الحليف الأوّل لميشال عون. معروف كيف أرسل له دبابات استخدمها في نهاية المطاف في حربه على “القوات اللبنانية” وعلى الدكتور سمير جعجع بالذات.
لا حاجة إلى العودة إلى تفاصيل ما حدث في الثالث عشر من تشرين الأوّل ـ أكتوبر 1990، عندما دخل النظام السوري إلى قصر بعبدا ووزارة الدفاع للمرّة الأولى منذ استقل لبنان. في ذلك اليوم، لجأ ميشال عون إلى السفارة الفرنسية تاركا جنوده في ساحة المعركة بعدما تبيّن أن حساباته العسكرية والسياسية ورهاناته الإقليمية لم تكن في محلّها إطلاقا.
بعد الطائف، أراد ميشال عون تدمير لبنان. أراد أن يدفع البلد ثمن عدم الإتيان به رئيسا للجمهورية. لم يستطع عقله التبسيطي فهم معنى غزو صدّام للكويت، ولا معنى انضمام حافظ الأسد إلى الحلف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة من أجل إعادة الكويت إلى أهلها.
لم يتغيّر ميشال عون. لم يتغيّر عقله الانقلابي. عندما يقبل بأن يكون انتخابه رئيسا للجمهورية ثمنا لتوقف إيران عن تعطيل لدور مجلس النوّاب، فألف سلام عندئذ على لبنان… وعلى ما بقي من مؤسساته.
كان مفترضا أن يتعلّم ميشال عون شيئا في ما يزيد بسنة على ربع قرن. نجده في السنة 2016 يكرّر ما فعله في العام 1990. كلّ ما في الأمر أنه تحول من عدو للنظام السوري إلى معجب به. لم يعد يسأل حتّى عن اللبنانيين المحتجزين في سجون هذا النظام منذ سنوات طويلة. تحوّل، عمليا، من أداة استخدمها هذا النظام في فرض وصايته على لبنان، إلى أداة تستخدمها إيران من أجل إحلال وصايتها مكان الوصاية السورية.
صحيح أنّ “حزب الله”، الذي تتحكّم به إيران، لا يريد رئيسا للجمهورية. وهذا ما كشفه الرئيس سعد الحريري عندما اعتبر ميشال عون من بين الأسماء المطروحة لديه. لكن الصحيح أيضا أنّ لا مانع من استخدام إيران للرجل، تماما مثلما استخدمه النظام السوري في الماضي. فميشال عون يمتلك عقلا انقلابيا، وهو يمثل قسما من المسيحيين ذوي القدرات العقلية المحدودة في لبنان. لا شيء يحول دون عصره حتّى آخر نقطة في عملية مدروسة تستهدف تحويل لبنان إلى مجرّد مستعمرة إيرانية. هل صدفة أن شعار التيار الذي يتزعّمه ميشال عون هو البرتقالة؟
عَصَرَ النظام السوري هذه البرتقالة في الماضي، لماذا لا يعصرها حاليا ملالي إيران وممثلهم في لبنان ما دام قسم من مسيحييه لا يدرك أهمية أن يكون للبلد رئيس للجمهورية، رئيس يمتلك قبل أيّ شيء القدرة على أن يكون وفاقيا، فضلا عن المؤهلات العقلية التي تسمح له باستيعاب ما يدور في المنطقة في هذه الظروف المصيرية التي يجتازها الشرق الأوسط.
روسيا مستعدة لمشاركة «أوبك» في قرارها للحد من الإنتاج وفق قول فلاديمير بوتين في إسطنبول أمام المؤتمر العالمي للطاقة. وأبلغ إيغور ستشين رئيس شركة «روسنفت» Rosneft والمقرب من بوتين العالم أمس، أن شركته لن تخفض إنتاجها ولن تجمده في إطار اتفاق تعاون مع «أوبك»، وستشين أقوى نفوذاً حتى من وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك. ويمثل إنتاج «روسنفت» ٤٠ في المئة من إنتاج روسيا من النفط. وعلى رغم تصريحات بوتين بأنه سيتعاون مع «أوبك» إلا أن كل تاريخ المنظمة مع روسيا يشهد على أنها لم تتعاون يوماً مع دول «أوبك» في إدارة الإنتاج. وإن وعدت فهي لم تلتزم. لكن بوتين يريد الآن وهو ينفذ إلى جانب النظام السوري مجزرة في حلب ويساهم في جرائم حرب، أن يظهر روسيا لاعباً أساسياً ليس فقط في سورية وفي المنطقة العربية ولكن أيضاً على الساحة الاقتصادية، خصوصاً السوق النفطية العالمية. فروسيا هي فعلاً من بين أكبر منتجي النفط والغاز في العالم وهي مؤثرة في السوق العالمية وكان هذا الغاية من تصريح بوتين يوم الإثنين برفع سعر البرنت الذي اقترب من ٥٤ دولاراً للبرميل. لأن روسيا تعاني من أزمة اقتصادية ومالية كبرى بسبب أسعار النفط والغاز المنخفضة ودينها المرتفع وكلفة حربها في سورية. لكن بوتين استطاع من خلال دعمه بشار الأسد أن يستعيد لروسيا دوراً أساسياً في الشرق الأوسط وفي العالم رغم مشاكل روسيا الداخلية. وهذا أعطاه دوراً عالمياً وإن كان بمثابة جزار. وجميع قادة أوروبا يراعون العلاقة معه.
اختار أوباما أن يعتمد التفاهم مع بوتين حول سورية، لكنه فشل لأن سورية ليست في أولوياته. وعلى رغم ذلك ذهب الجميع إلى موسكو للتحدث مع بوتين إما عن سورية أو أوكرانيا وحتى عن لبنان كما فعل عدد من اللاعبين الأساسيين على ساحة النفط العالمية، ولكن من دون جدوى. فقد استطاع أن يفرض نفسه كقوة العظمى في وجه الولايات المتحدة عبر ارتكاب الجرائم بحق الشعب السوري. الكل في الغرب يقول أنه ينبغي التحاور مع روسيا. والتحاور مستمر منذ ٢٠١١ ولم يؤدِّ إلا إلى تدخل عسكري في بلد عربي قرر أن يستقر فيه مع إنشاء قاعدة عسكرية دائمة، والكلام عن تعاون روسي في شأن إدارة الإنتاج النفطي مماثل لكلام بوتين ولافروف عن التسوية في سورية. إنه بمثابة فرض نفوذ على جميع الصعد على حساب الإنسانية والقيم الأخلاقية. روسيا بلد شاسع وغني بموارده من غاز ونفط وصناعاته، لكن الفقر والبؤس والفساد تهيمن على المجتمع الروسي وبوتين يلهي شعبه عن المشاكل الداخلية بفرض القوة في الخارج. ولسوء حظ القادة الغربيين فهم يعتقدون أنهم سيقنعونه بالحوار علماً أن التحدث معه غير مجد لأنهم ليسوا موحدين في موقفهم في وجهه. فالمستشارة الألمانية أنغيلا مركل تحتاج إلى روسيا لأن تبادلها التجاري واسع مع هذا البلد. وفرنسوا هولاند يضع شروطاً على زيارة بوتين فرنسا وبوتين يؤجلها، لكن هولاند تحت ضغط معارضة فرنسية ترى أنه ينبغي التحدث مع الرئيس الروسي رغم ما ينفذه من جرائم في حلب مع شريكه الأسد. أمأ جون كيري فتأخر في ملاحظة أن الحوار مع نظيره الروسي على سورية عقيم في ظل إدارة أميركية متراجعة. فاليوم ومعظم إدارات العالم تتبدل مع انتهاء عهد أوباما وهولاند في أيار (مايو) المقبل وبان كي مون وغيرهم، سيبقى بوتين فارضاً ما يريده على الساحة الإقليمية مع محاولة الحصول على شيء من الصدقية على الصعيد الاقتصادي في أسواق النفط العالمية.
كتبت سميرة المسالمة (إحدى ثلاثة نواب لرئيس الائتلاف السوري المعارض) مؤخراً مقالات عدة في الحياة»، تمحورت كلها حول فكرة «نقد المعارضة السياسية»، وآخرها (30 أيلول - سبتمبر الماضي) كان بعنوان «إصلاح الائتلاف الوطني وخياراته».
فهل فعلاً تحاول السيدة المسالمة أن توصل أفكارها للائتلاف عبر المقالات، أم انها تساؤلاتها التي شاركت فيها الائتلاف وكانت الصحافة الخيار لإظهارها للعلن، أم أنها تتوجه إلى الشعب السوري الغائب عن سياسات وإستراتيجيات ونشاطات وأفكار الائتلاف لخمس سنين هي عمر هذا الكيان «المعارض»؟
من الجيد أن تعترف المسالمة بأنه «علينا الاعتراف بأن هذا الكيان لم ينجح في المهمات التي قام من أجلها... إذ لم يستطع ترسيخ مكانته في أوساط السوريين في الداخل أو الخارج»، فهل لنا أن نسألها: كيف ومتى توصلت إلى نتيجة خطيرة كهذه، وإن كانت اقتنعت كنائب لرئيس الائتلاف بأن هذا الكيان لم يرسخ مكانته لدى السوريين، فهل يأتي التصرف الطبيعي أو المنطقي على شكل مقال صحافي (على رغم أهميته)؟ ألم يستحق السوريون «بعد كل ذلك الموت» وقفة كهذه في وقت أبكر، أم أن الوقت اليوم مناسب لكل الاعترافات لأن الدول العظمى والصديقة سحبت اعترافها بهذا الائتلاف الذي تشغل فيه المسالمة منصب نائب رئيسه، وأصبح اسماً لبناء سقطت أعمدته منذ وقت طويل وبقي الهيكل الخارجي فقط؟
كصحافية سورية علي أن أحترم قول المسالمة إنها تعلم بتأخر الدعوات إلى الإصلاح، وأن تنبيهها إلى أن «تشكيلة الائتلاف الحالية أكبر عائق أمام تطوّره أو إصلاحه، لأن الأشخاص المنوط بهم الإصلاح بعضهم مسؤول عن تردّي واقعه وتآكل مكانته وضعف فاعليته، خصوصاً أن بعضهم يستغل هذه الدعوات لطرح صيغ جديدة للائتلاف تتناسب مع مقاساته الشخصية»، وإن كنت آخذ الكلام السابق بكثير من الجدية كصحافية، فإنني كمواطنة سورية لا أنتظر من الائتلاف بأعضائه وتشكيلاته أفضل مما تكلمت عنه المسالمة، وإن كان الائتلاف عائقاً أمام الائتلاف فهل من مبرر لوجوده؟.
لا نية لدي بأن أنتقص من أهمية كلام المسالمة حول مشاكل الائتلاف والمعارضة، لكنني في الوقت ذاته أتساءل عن نتيجة المقالات الثلاثة السابقة للمقال الأخير، والذي تحدثت في أوله (الحياة 27 حزيران - يونيو)، وكان بعنوان «عن أخطاء المعارضة السورية»، عن «علاقات التبعية أو الارتهان لهذا النظام او ذاك».
وسؤالي: ألا يجدر بالمسالمة أو بالائتلاف أن يخرجا علينا بعد مقال كذاك ببعض النتائج، هل من المعقول أن لا يتم أي نقاش حول ما جاء فيه. وإن كنا كصحافيين سوريين اعتدنا على تجاهل الائتلاف لكل ما نكتبه من انتقاد أو تساؤلات حول أخطائه، فإنني توقعت أو ربما «أملت» بأن يؤخذ كلام نائب الائتلاف على محمل الجد، وأن نعرف كسوريين، ما رأي أعضاء الائتلاف بالمقال. أما مع حالة تجاهله، فإنني أستغرب أن لا تتجاوز رد فعلها كتابة مقال تلو المقال.
في مادتها الثانية (الحياة، 22 تموز - يوليو) بعنوان «المعارضة السورية في حاجة إلى علاج نقاط ضعفها»، وصلت المسالمة إلى الخلاصة التي «بُح» صوت السوريين وهم يصرخون بها في الصحافة وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، فكتبت: «يأتي هذا الحديث بعد أكثر من خمسة أعوام على نشوء هيئات المعارضة ... كان يفترض أنها أتاحت للمعارضة مراجعة طريقها ومفاهيمها، وليس البقاء عليها، وإعادة إنتاج أخطائها وقصورها...».
وثمة أمر آخر في غاية الأهمية تكلمت عنه المسالمة يومها وهو تصريحها بأن الائتلاف لم يكن منفتحاً على مجمل القوى والشخصيات الوطنية الفاعلة في المجتمع السوري في الداخل والخارج، وأشارت إلى «مئات من الناشطين الذين يمتلكون خبرات حزبية معارضة سابقة، ومعارف سياسية، ولديهم تاريخ نضالي مشرف، ما زالوا لا يجدون طريقاً، أو إطاراً، تفرزه المعارضة كي يعبروا من خلاله عن أنفسهم». ولعله كان من الأجدر أن تتكلم عن سبب غياب أولئك، وعن الوساطات في الائتلاف والتحزبات، وأن تذكرهم بالاسم، إذ جميعنا يعرف أن الائتلاف تحول، بعد تكوينه بفترة بسيطة، ليصبح كانتوناً يضم مافيات تتعاون مع بعضها، وتتآمر على بعضها بعضاً.
كصحافية سورية ربما يحق لي أن أسأل نائب رئيس الائتلاف، وليس الصحافية سميرة المسالمة: لماذا بقيتِ في الائتلاف كل ذلك الوقت، ولماذا لم نسمع منها كسوريين مكاشفة حقيقية عما حدث ويحدث في الائتلاف، وماذا عن «مظاهر الانفلاش والمزاجية والفردية وغياب روح الفريق وتفشي العلاقات الكيدية» التي ذكرتها، أم أن الموضوع انتهى مع وضع النقطة الأخيرة في الجملة الأخيرة من كل مقال صحافي؟
إن الثورة تفترض اتفاق الملايين على المطالبة بالحرية والكرامة والديموقراطية، والاختلاف في كل التفاصيل الأخرى، وهنا تبرز الحاجة لمن ينظم هذه التحركات ويركز جهودها، ولكن ما حدث في سورية لم يسر بهذا الشكل، إذ تشكلت هيئات معارضة تحت اسماء بدأت بالمجلس الوطني ثم الائتلاف بالإضافة إلى هيئة التفاوض، وكلها تعاملت مع السوريين على طريقة النظام: تجاهل الناس، الإصرار على الخطأ، غياب الاعتراف والنقد، التعامي عما يحدث على الأرض...، ما جعل الشارع يسبق المعارضة السياسية، وبالتالي يقود المعارضة وليس العكس.
لا أوافق سميرة المسالمة الرأي بأن الأخطاء التي حدثت وتحدث باسم السوريين ضمن الائتلاف عبارة عن أخطاء فردية، ولكن بالتأكيد سأشكرها لأنها خرقـت قـاعدة «اعميل حالك ميت» التي ينتهجها الائتلاف وبقية كيانات المعارضة في ما يخص النقد الذاتي، وما أتمناه فعلاً أن تكون مقالات المسالمة بداية للمكاشفة السورية السورية، ولنقاش جدي على أمل بإحداث تغييرات في سلوك المعارضة وطريقة تفكيرها، والذي يبدو أنه حتى اليوم لا يزال قيد التمني.
منذ الرابع من تشرين الأول ٢٠١١ الى اليوم استعملت روسيا الفيتو في مجلس الأمن خمس مرات لحماية بشار الأسد، المرة الأخيرة حملت مدلولاً خطيراً، اولاً لأنها أكّدت التمسك بالمضي في تدمير حلب ولهذا أسقطت موسكو بحق النقض مشروع القرار الفرنسي الإسباني، الذي يدعو الى وقف الغارات، وثانياً لأنها كشفت ان فلاديمير بوتين متمسك بالحل العسكري منذ البداية، يوم أرسل قواته الى سوريا معلناً ان كل معارض للأسد هو إرهابي!
سيرغي لافروف يبالغ كثيراً عندما يتّهم اميركا بالوقوع في هوس الخوف العدواني من روسيا، لأن التهديد الأميركي بالذهاب الى بدائل من الديبلوماسية في سوريا، لا يعني ان صواريخ كروز ستتساقط غداً على النظام السوري، على الأقل لأن مركزية القرار في واشنطن مكبلة تماماً وهي الآن في مرحلة السبات الإنتخابي قبل شهر من موعد الإنتخابات في الثامن من الشهر المقبل!
ولأن لافروف يعرف كل هذا فإنه يتعمّد التضخيم، لكي يُظِهر في النهاية ان التهديد الأميركي مجرد فقاعات كلامية لا معنى لها، وهو طبعاً ما سينعكس سلباً على صورة أميركا وصدقيتها المتراجعة على صعيد السياسة الخارجية، وخصوصاً لدى حلفائها الخليجيين وفي المنطقة العربية.
يصف لافروف الموقف الأميركي بأنه "ليس هوساً بلاغياً تجاه روسيا وإنما خطوات عدوانية تضر فعلاً بمصالحنا القومية وتمثل تهديداً لأمننا". لكن التدقيق في خلفيات البيانات الأميركية منذ انهيار هدنة حلب وإنخراط روسيا والنظام في عملية تدمير منهجية للمدينة ستجعلها في النهاية ستالينغراد العصر، لا يمكن ان يجد هوساً في كل الإنشائيات الأميركية.
ثم لست أدري اين وجد لافروف تلك الخطوات العدوانية الأميركية، التي تضرّ بمصالح روسيا القومية وتمثّل تهديداً لأمنها، خصوصاً انه في نهاية حديثه يقول إنه مقتنع بأن باراك اوباما لن يوافق على السيناريو العسكري! هل كان كلام لافروف الذي أدلى به الى وكالة الإعلام الروسية، موجهاً الى الداخل لتبرير التصاعد المستمر في الأزمة الإقتصادية المتنامية، خصوصاً ان بوتين أصدر الاسبوع الماضي مرسوماً بتعليق الإتفاق مع أميركا على تقليل إنتاج البلوتونيوم بكميات عسكرية الى ان "حتى توقف واشنطن العقوبات الاقتصادية وتعوّض الدمار الإقتصادي"؟
"الصنداي تايمس" تنقل عن المستشار السابق للكرملين غليب بافلوفسكي أن مطالب بوتين تمثل إشارة الى الضعف ومحاولة لإلقاء كل اللوم على أميركا في مشاكل روسيا الاقتصادية، والحديث عن "الدمار الإقتصادي" يؤكد ان أميركا لن تنجرّ الى عمل عسكري في سوريا، لكنها كما ينخرط بوتين مع الاسد في تدمير مدينة حلب والإصرار على الحل العسكري ويُفشل مشروع القرار الفرنسي لوقف النار في مجلس الأمن، يمكنها ان توسّع مروحة عقوباتها، وسط تصاعد ملامح حرب باردة جديدة يريدها بوتين غطاءً يبرر مصاعبه الاقتصادية!
في واحدة من زيارات المعارضة السورية إلى موسكو، كان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يسأل من يقابلهم: هل لديكم علاقة مع الجيش والأمن تمكّنكم من ضمان ولائهما لكم؟ وهل يمكنكم إدارة البلاد بطرق منظمة وشرعية، إذا قرّرنا التخلي عن الأسد؟ هل لديكم، في المقابل، "مونة" على الجيش الحر ومقاتلي التنظيمات المتطرّفة تمكّنكم من إقناعهم بِ، أو إرغامهم على، احترام نظامكم الجديد، واستعادة الأوضاع الطبيعية في البلاد، وحماية جميع مكونات شعبكم، وصيانة مؤسسات الدولة ورعاية المجتمع، وحماية جيرانكم والعالم من فلتان القوى المسلحة المتناقضة والمتصارعة التي، إن تصارعت على السلطة، انخرطت في صراعٍ سينتج حالات عنفٍ قد تجدّد الحرب في سورية، وتفجّرها في البلدان المجاورة ثم في العالم، إذا ما رجحت كفة التنظيمات المتطرّفة، ووجد الجوار السوري نفسه مجبراً على العودة من جديد إلى سورية، وتسبّب في مشكلاتٍ يصعب حلها، ستكونون أول من يدفع ثمنها الفادح الذي ستنتجه مصالحها المتناقضة وخلافاتها؟
لم يتوقف لافروف عند الجانب الحقوقي من الحدث السوري، الخاص بشرعية ثورة الحرية وحق الشعب السوري في تقرير نمط نظامه، ولم يكترث لضياع شرعية النظام، ورأى الوضع السوري بعين بلاده وبدلالة مصالحها. لذلك، وبدل أن ينطلق في موقفه من الإقرار بحقوق السوريين، وشرعية ثورتهم، نظر إلى النظام البديل الذي يطالبون به بمنظارٍ يرى مصالح (وصراعات) الدول الكبرى وحدها. لذلك أخبر محادثيه أنهم لن يحافظوا على مؤسسات النظام، في حال وقع التغيير الذي يطلبونه، الأمر الذي ستترتب عليه مشكلاتٌ خطيرة بالنسبة لمن يحتاج إليها، وخصوصاً روسيا التي تواجه تحدياتٍ خطيرة، بينما تمر بمرحلة تحولاتٍ هيكليةٍ تتحدّى استقرارها، وتنقلها من نظام اقتصادي/اجتماعي/سياسي إلى نقيضه، في ظروفٍ تتعثر فيها بناها الجديدة، وتواجه ظروفاً دولية غير ملائمة، ذات نتائج بعيدة المدى، وغير مسيطر عليها، بالنسبة إلى أوضاعها، بما أن من يصنعها هم خصومها الغربيون.
بميلنا إلى رؤية الخارج، بدلالة الطابع الشرعي لثورتنا ووضعنا الذاتي، وميل لافروف إلى رؤية أوضاعنا بدلالة تناقضات وتشابكات تمسّ، في رأيه، بمصالح الخارج عموماً، وروسيا خصوصاً، تحول كل حديث مع لافروف إلى حوار طرشان. يتحدّث عن موضوعين مختلفين أشد الاختلاف. ومع أن بعض المعارضة عرض عليه تعاوناً مفتوحاً يعطي روسيا الحق في استخدام الموانئ السورية، وفي بناء جيشها الوطني الجديد، وإعادة إعمارها، فإن عروضه لم تلق آذاناً صاغية لدى وزير الكرملين الذي كرر دوماً أن مشكلات سورية ستستمر وتتصاعد، في حال انتصرت الثورة، وستمثل تهديداً للوضع الدولي، ولعلاقات بلاده بالدول الغربية، وستنزل بها قدراً كبيراً من الضرر، وستضرّ بقدراتها وعلاقاتها الخارجية، وما تنتهجه من سياسات. كان لافروف يخشى أن تضعف أية خطوةٍ يقوم بها لصالح الثورة مكانة روسيا في سورية، المضمونة بنظام أسدي يخدم مصالحها القومية، عبر محافظته على مؤسساتٍ لعبت دوراً مهماً في بنائها، تخشى موسكو أن يقوّض غيابها قدرتها على استعادة الموقع الذي ستخسره بتخليها عن الأسد، في ظل منافسةٍ شرسةٍ مع أميركا والدول الغربية التي يرجّح أن تحتل مكانتها في دمشق، فليس في وسعها التخلي عن نظامٍ قاتل، لكنه يخدمها، في وضع دوليٍّ ليست موسكو الطرف الذي يضبط توازناته، ويوجه تطوراته، ويرجّح أن تزيده خسارة سورية ضعفاً على ضعف. من جانبها، تقاسمت واشنطن الهموم الروسية، في ما يتصل بقدرة الثورة على تقديم بديل فاعل للأسدية، وبالموقف منها جهةً تضمن مصالح دولية، يرجّح أن تضيع، في حال تسرّع العالم في التخلي عن الأسد، أو مكّن الثورة من إسقاطه.
والنتيجة، وازنت روسيا بين مصالحها وحقوق الشعب السوري، فتمسّكت بالنظام الأسدي، وزاد من دعمها له أن المعارضة لم تقم بأي جهدٍ لكسب جيش النظام وأمنه، أو لاختراقهما، وبناء بديل لهما، إلى جانب إلزام الجيش الحر بخياراتها وقبوله بقيادتها، وإضعافها التنظيمات المتطرّفة وتهميشها، ووضع حد للخلافات التي استهلكت قواها، ودار معظمها حول محاصصاتٍ تتصل بتياراتٍ متناقضةٍ أرادت السيطرة على مؤسستها الرسمية، المعترف دوليا به، مؤسسة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية التي لعبت انقساماتها وصراعاتها دوراً خطيراً في ما أصابها من شلل وعطالة، وعزلةٍ عن الشعب. بسلبيتها حيال مشكلات الثورة، تعزّزت الهوة بين المعارضة والداخل، وتفاقمت مشكلاتها مع الخارج، وزاد طينها بلةً اعتقادها أن القبول بالحل السياسي ومفاوضات جنيف هما كل المطلوب منها ، وأن القرارات الدولية الخاصة بالحل تعطيها السلطة، وإن كان العالم غير مقتنع بأهليتها، ومؤمناً بعجزها عن نقل سورية إلى نظام بديل، وبأن أي حل سياسي سينقلب إلى مشكلة دولية، وسيطلق صراعاتٍ لا مصلحة لأحد فيها. لذلك ابلغ المعارضين مرات عديدة أن بلاده قرّرت عدم الموافقة عليه، ولتذهب حقوق السوريين وثورتهم إلى الجحيم.
لم تقبل روسيا إغراءات المعارضة الوهمية، وفضّلت التعامل مع النظام، باعتباره حليفاً يجب دعمه ضد معارضيه الذين فشلوا في تحويل أنفسهم إلى بديل له، وانحازوا إلى خصمها الأميركي، وعجزوا عن توحيد الجيش الحر والفصائل العسكرية، وعن إخضاعهما لقيادة سياسية/ ميدانية مشتركة، فلا عجب أن موسكو لم تجد نفسها مجبرةً على تغيير مواقفها وخياراتها منا، وعلى أخذنا بجديةٍ وقبول مطالبنا، وبالتالي، تغيير موقفها من النظام الأسدي، تحت ضغط خطواتٍ تستكمل من خلالها شرعية الثورة الوطنية والديمقراطية القانونية التي سيكون من الصعب عليها تجاهلها، وإلا خسرت مكانتها في بلادنا ومصالحها فيها، بانتقالنا من سياسةٍ تستند على فكرة الحق إلى واقعٍ نتحكّم بمفاصله، ونسيطر عليه، يقنع العالم بقدرتنا على تحقيق مطالبنا، وبأننا الطرف الذي يضمن مصالحه.
بالقطع مع طريقةٍ ألفنا النظر إلى أمورنا من خلالها، غربتنا عن واقعنا، وحالت بيننا وبين القيام بأفعال منسقة ومنظمة، قادرة على ردم الهوة بيننا وبين مجتمعنا، وتصحيح أولوياتنا، فلا يأخذنا تفكيرنا الحقوقي إلى خارج السياسات الدولية وواقعنا في آنٍ معا، ونخرج مما نحن فيه كشكّائين شكاكين، يكتفون بمواقف تنوس بين إدانة العالم وتجريمه وبين شتمه بأشنع الألفاظ، كما نفعل كل يوم.
أدرك الروس عجزنا، فتجاهلوا حقوقنا. وكنا نتوهم أن معسول وعودنا سيقنعهم بتأييدنا، وحين بانت عبثية سلوكنا التي أقنعتنا أننا ما زلنا نتعامل مع الاتحاد السوفييتي، أو مع شيوعيين يؤمنون بحق الشعوب في اختيار نظامها السياسي/ الاجتماعي، وتقرير مصيرها بنفسها، لم نراجع أنفسنا، ربما لأننا لم نفهم أن الدول تسيرها السياسات التي تعود بأقل ضرر على مصالحها، وفاتنا أن العالم أدار ظهره قرناً وربع القرن لحقوق الفلسطينيين ولقراراته الدولية بشأنها، وتوهمنا أن روسيا التي قطعت علاقاتها بالشيوعية صارت حقاً نصيراً للديمقراطية، سيضع حريتنا فوق مصالحه. وحين تبين لنا أنها لن تفعل، قاطعناها وأعلنا العداء لها، بدل أن نرسي حقوقنا على أرضيةٍ ثوريةٍ، لا تترك لها خياراً غير مراجعة موقفها بما يخدم أهدافنا، لأن تحقيقها يخدم مصالحها، بعد أن صار لها أنياب توجع من يتجاهلها.
بدل أن نصحح، نحن في المعارضة السورية، أخطاءنا التي انتقدتها أميركا مراراً وتكراراً، طالبنا الروس بالتخلي عن مصالحهم وتبني مواقف من النظام مطابقة لموقفنا، وحين رفضوها، توطّدت ورطتنا التي لم نخرج منها إلى اليوم.