بصراحة، ملّ السوريون كلمات التعاطف الإنشائية معهم التي تصدر عن أميركا: القوة التي تستطيع وقف العدوان المتعدد الجنسيات عليهم، لكنها تحجم عن ذلك، وتستمتع بمتابعة مآساتهم. كما ملّ السوريون عواطف الأمم المتحدة: الجهة المؤثرة التي تعطل مدوّناتها القانونية، وتمتنع عن تفعيلها، والتي يمكن أن تحدث تبدلاً جدياً حيال القضية السورية، يطال مواقف دولٍ كثيرة، والرأي العام العالمي، أو تخلق بيئة سياسية/ إنسانية تنصفهم وتتفهم تطلعاتهم، وخصوصاً أنها تتفق أشد الاتفاق مع العهود والمواثيق الدولية المعتمدة من منظماتها الشرعية. لكن المؤسسة الدولية، المرجعية القيمة، اكتفت دوماً بالتعبير عن الأسف والحزن والقلق والرعب والاستنكار والاشمئزاز والقرف والألم، مما يستهدف السوريات والسوريين من أسلحة تفتك بمئات منهم يومياً.
ليس من اللائق أن نغلظ القول لرجل طيب غادر منصبه من يومين، هو بان كي مون، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، الذي قيل يوماً إنه يتلقى راتباً ضخما (حوالي 45 ألف دولار) ليدير أسطوانة كلامية مملة عن حزنه واستنكاره المجزرة المنظمة التي تعصف بوجود شعٍبٍ اكتشف وزير دولة كبرى، أخيراً، أنه من صناع الحضارة البشرية، وليس داعشيا أو قاعدياً، ليستحق ما ينزل به من إبادة وتدمير.
قد يقول قائل: وماذا في وسع أمين عام الأمم المتحدة أن يفعل، إذا كان القرار الدولي ليس بيده؟ هذا القول صحيح في ما يتعلق بالقرارات الدولية التي تتخذها القوى الكبرى، لكنه ليس صحيحاً بالنسبة لطرق التأثيرعليها التي في حوزته، وللمداخل المتنوعة لتفعيلها حتى ضد هذه القوى، كأن يقرّر، مثلاً، زيارة منطقة داريا أمس، أو حلب أو دوما، أو أحد مخيمات اللاجئين في لبنان اليوم والأردن غدا، حيث تضفي زيارته طزاجةً إنسانيةً وفاعليةً سياسيةً حقيقية على كلماته، بعد أن أفرغها تكرارها البارد عن بعد من معناها، وجعلها تبدو كأنها صادرة عن شخص عاجز، تشبه مواقفه مواقف أي شخص "ينقّ"، لأنه عاطل عن العمل، أو لا يملك موارد يعيل أطفاله بواسطتها، لا خيار لديه غير البكاء والشكوى واستعطاف الآخرين.
وفي حالتنا السورية، فشل بكاء بان كي مون على شعبنا في رد الأذى عنه، وعجز، في حالات داريا والمعضمية وحلب ودوما والزبداني ومضايا... إلخ، عن إيصال كيس طحين واحد إلى جياعٍ يواجهون الموت، فهل يجوز أن تفوت رؤية هذه القضية الخطيرة رجلا في موقعه، وأن لا تحرك لديه غير لسانه، بدل أن يراها انطلاقا من حسّه الإنساني الذي كان سيدفعه إلى تبني خياراتٍ يصعب على المجتمع الدولي رفضها أو التعامل معها بدم بارد، كأنها لا تعنيه.
لا بد من القول بصراحة للأمين العام الجديد، السيد المحترم جداً غويتريس، إنه من غير المقبول أن يتصرف، وهو مسؤول دولي يحتل أعلى موقع في تراتبية العالم السياسية، وكأنه بكّاء عاجز عن مد يد العون لمن يبكي عليهم، لأن سلوكه هذا سيضر بمؤسسته، وسيقدم انطباعاً سلبياً عنها يسيء إلى دورها في الأحداث الدولية، وإلى قيمتها بالنسبة للنظام الدولي والبشرية عموماً، فضلا عن أنه يخالف الأسس التي قامت عليها، وتلزمها بالعمل لوقف العدوان أسلوباً لحل المشكلات التي يواجهها العالم، وخصوصاً ذلك النمط من العدوان الذي يلحق ضرراً جسيما بالشعوب، كما هو العدوان الأسدي على الشعب السوري.
غادر بان كي مون موقعه قبل يومين. أليس من حقنا مطالبته بخطاب وداعيٍّ، يكشف فيه الاسباب التي حالت دون نجاح الأمم المتحدة في وقف مذابح النظام الأسدي ضد شعبٍ ينشد الحرية، وإزاحتها جانباً كي لا تقوم بواجبها في وقف أخطر كارثةٍ، وقعت خلال العقود السبعة الأخيرة؟. أرجو أن يلبي كي مون هذا المطلب المحقّ، لكي يترك بصمته على التاريخ، ولا يطويه النسيان؟
تعاطت السياسة الأميركية مع الحدث السوري من زاوية رفض الانحياز الكامل لأحد طرفي الصراع، ورفض الحل العسكري بالكامل، وأن الممكن الوحيد في سورية هو الحل السياسي، بما يمثل طرفي الصراع. تعقّدَ الصراع نفسه بفعل التحالفات الإقليمية والدولية التي أقامها كل من طرفيه، فالنظام استعان بإيران وأدواتها من لبنان والعراق وأفغانستان وسواها، واستعانت المعارضة بدولٍ إقليمية ودولية ممسوكة أميركياً، وكان من جرّاء ذلك تصفية الثورة السلمية والانتقال إلى العسكرة والسلفية، وانتقال النظام من القمع إلى الدمار والقتل، وأدى هذا إلى تفكّك قوى النظام القمعية نفسها، وكذلك تفكّك الفصائل الوطنية السورية، وأصبحت سورية بعد ذلك محكومةً بدويلات، تبدأ من دويلة النظام، ولا تنتهي بـ "داعش".
تطورت الأحداث وطال أمدها، وذلك لم يمنع الأميركان من التنسيق المستمر مع الروس، من أجل إدارة الصراع في سورية. الإشكالية هنا أن الأميركان أرادوا تمكين روسيا في سورية، كما حال موقفهم الضعيف منها في أوكرانيا وجورجيا. وهذا يأتي في سياق صراع دولي بين الصين وأميركا التي تبتغي من ورائه جذب روسيا إليها، أو تحييدها في ذلك الصراع. توضح هامشية العقوبات المفروضة على روسيا أو المواقف "الباردة" ضدها ذلك. ويتجاوز الموقف الأميركي إزاء سورية الدور السلبي للرئيس أوباما في الانسحاب من العراق وأفغانستان، فهو موقفٌ ينطلق من مصالح عالمية متخوفة من الصين بالتحديد. تعلم المافيا الروسية الحاكمة القامعة للداخل الروسي، والراغبة بدور دولي، جيداً الصراع الدولي بين الصين وأميركا، وتتحرّك في هذا الإطار؛ هذا السياق هو ما شجع روسيا على الإمعان في البلطجة في سورية، والتي انتقلت من تدخل عسكريٍّ جويٍّ في 29 سبتمبر/ أيلول 2015، إلى رفده بقواتٍ بريةٍ محدودة في سبتمبر/ أيلول 2016، والرد على ضربة القوات الأميركية للجيش السوري بقصف شاحنات المساعدات الدولية للأحياء المحاصرة في حلب، وإيقاف الهدنة المعلنة، أخيراً، بين أميركا وروسيا، في إطار التنسيق بين الدولتين. الرد الروسي العنيف وإعلان النظام السوري إيقاف الهدنة جعلا الموقف الأميركي في أسوأ حالاته، ففي هذا استهانة كاملة بالأميركان، وهذا ما دفع أميركا إلى تعليق التنسيق مع روسيا، وكان هذا بتشجيع كبير من دوائر الجيش والاستخبارات الأميركية للقيادة، وبضغط دولي من الدول الأوروبية بالتحديد.
ترافق إيقاف التنسيق مع تصريحات أميركية عديدة ضد السياسة الروسية في سورية، منها أن كل الخيارات ضد النظام السوري ممكنة، بما فيه الخيار العسكري كضربات محدودة. وما زال الخيار الأخير ملتبساً والكلام حوله غير دقيق؛ المهم هنا أنه، ولأول مرة، يتم إيقاف التنسيق مع روسيا، بينما كانت الخلافات المستمرة في إدارة الملف السوري تُحل بالتفاوض المباشر بين وزيري خارجية الدولتين، أو رئيسيها. الموقف جديد كلياً. ولكن، هل هناك فعلاً تغيير ممكن في السياسة الأميركية إزاء الوضع السوري؟
تفيد متابعة السياسة الأميركية في العراق وأفغانستان وليبيا وسورية بأن لا تغيير كبيراً ممكن في سورية. تضع أميركا سياساتها وفقاً للأخطار الدولية والهيمنة الدولية على العالم، والخطر الحقيقي ما زال هو نفسه، أي الصين، لكن ذلك لا يعني السماح "ببلطجة" عالمية كبيرة لأية دولة، ولو كانت روسيا، فسورية مُقادة، ومنذ تدخل الأميركان في الائتلاف الدولي ضد "داعش" من أميركا وروسيا بشكل عسكري، يأتي عدم رفض أميركا التدخل الروسي في هذا السياق، فروسيا أكّدت أن الحل في سورية سياسي، وليس عسكرياً، وأنها قادمة لمواجهة التنظيمات الجهادية. الإشكال الجديد أن ما تفعله روسيا في مدينة حلب يقول بمحاولتها اجتياح المدينة، وهو ما دأب النظام السوري على تكراره. هذا يعني استخفافاً كاملاً بالتنسيق الدولي بخصوص سورية، وضرباً لكل العلاقات الأميركية مع دول المنطقة؛ فلكل هذه الدول مصالح في سورية الآن، ومن غير المسموح به أن تتفرّد روسيا بسورية، وهذا لا يتعارض مع تمكين أميركا لروسيا في سورية.
إذاً هناك تجاوزات كبيرة للروس، ولا بد من وضع حد لها، وإعادتهم إلى الصواب، أي إلى الحل السياسي؛ طبعاً الانتخابات الأميركية تلعب دوراً في ذلك، فمن غير المسموح به أن تتهمَّش أميركا أكثر فأكثر في اللعبة السورية، وربما إيقاف التدهور في المواقف الأميركية، وعدم تسليم الإدارة المقبلة اتفاقاً سياسياً ودولياً "مذلاً" يعطي لروسيا الحق شبه الكامل في التصرّف بمستقبل سورية.
من أكبر الأوهام الاعتقاد أن أميركا ستدخل حرباً ضد روسيا في سورية، أو أن الحل العسكري سيُعتمد خياراً أميركياً، وسيتم دعم الفصائل على الأرض، فأميركا ستقوم بتحركاتٍ جديدة بالتأكيد، وستعمل على إيقاف الانفلات الكبير للروس في حلب، وقد توجه ضرباتٍ محدودةً لبعض مواقع النظام، ولن تمنعها التصريحات الروسية، أخيراً، عن أن جنوداً روساً أصبحوا في الجبهات كافة مع الجيش السوري، فالضغط الدولي وحجم الهمجية الروسية المنفلتة والاستخفاف الكبير بالدور الأميركي في سورية تشكل ضاغطاً حقيقياً لإيقاف تلك العربدة، وليس من شيء آخر.
الحجة الروسية بضرورة خروج جبهة فتح الشام من حلب لإيقاف الحرب، وأن تنفذ أميركا تعهداتها بالضغط على الفصائل المحلية، للانفكاك عن "فتح الشام" هناك، حجة تُعطي تبريراً للأميركان المترددين ليخففوا من موقفهم الجديد المحتمل، لكنها حجة كاذبة، كما يعرف الأميركان جيداً، ففتح الشام ستتراجع مواقعها في سورية حينما يحصل توافق حقيقي على الحل السياسي، وتثق المعارضة بذلك، وهو ما سيُباعد بين الفصائل والجهاديين بالعموم.
إذاً لن يكون هناك مواقف جديدة للأميركان، والممكن الوحيد تصعيد جزئي ضد روسيا وبعض مواقع الجيش السوري، لتعود إلى جادّة الصواب، وأن وجودها في سورية هو بموافقة أميركية، وليس تعبيراً عن هيمنة روسية عالمية، وقادرة على فرض شروطها بقوتها دولة عالمية.
لم تكن صدفة أن يسخر بشار الأسد من فريق الدفاع المدني السوري، المعروف أعضاؤه بذوي الخوذ البيضاء، عشية ترشيحهم لجائزة نوبل للسلام، واحتمال حصولهم عليها، وذلك في معرض إجابته عن أسئلة مقابلة صحافية أجرتها معه
وكالة «أسوشييتد برس»، في سبتمبر (أيلول) 2016، مبديًا اعتراضه على ترشحهم، منكرًا أهمية ما يقومون به من أعمال لإنقاذ السوريين من تحت أنقاض تسببها طائراته وطائرات حلفائه الروس.
السبب الرئيسي لموقف الأسد هو أن فريق الخوذ البيضاء يفشل أهدافه، وما يسعى إليه حلفاؤه من قتل مزيد من السوريين، وتدمير حياتهم وممتلكاتهم، وفق معطيات مؤكدة. فقد أنقذ هؤلاء في السنوات الثلاث التي مرت على تجربتهم نحو 62 ألف شخص من تحت الأنقاض التي سببتها غارات الطيران، خصوصًا بالبراميل المتفجرة.
الخوذ البيضاء جماعة مدنية تطوعية تشكلت في عام 2013، على خلفية الحاجة لمواجهة تداعيات الصراع المسلح، وغارات الطيران على المدن والقرى السورية الخارجة عن سيطرة النظام وجماعات الإرهاب، وضمت بين صفوفها فئات مختلفة من السوريين، عمالاً وحرفيين وطلبة ومهندسين وعاطلين عن العمل، وغيرهم ممن أخذوا على عاتقهم مهمة مساعدة الناس على نحو ما هي عليه مهمة فرق الدفاع المدني المعروفة في العالم، الملتزمة بمبادئ منظمة الدفاع المدني الدولية في «الإنسانية والتكافل والحيادية».
ووسط ظروف الصراع المسلح الصعبة، وجد أصحاب الخوذ البيضاء أنفسهم في مواجهة تداعيات الغارات الجوية التي تنفذها حكومة النظام، ويواجهون في الوقت ذاته نيران القناصة، ليصلوا إلى جثث جنود النظام، ويدفنوها بشكل لائق، وزادوا إلى أعمالهم المشاركة في تقديم خدمات عامة للسكان في المناطق التي يوجدون فيها، والتي يسكنها نحو سبعة ملايين نسمة، ومنها توصيل الكابلات الكهربائية، وتأمين المباني السكنية، وتقديم خدمات الإرشاد والسلامة للأطفال.
ووسط مسؤولياتهم وأعمالهم، وفي أثناء تنفيذها، سقط نحو 150 منهم ضحايا، بينهم عشرات قتلوا بغارات الطيران التي استهدفت مقارهم بصورة مباشرة.
بسبب أعمالهم الخطرة، اقتصرت عضوية الخوذ البيضاء على الرجال، وقد بلغ عددهم قرابة ثلاثة آلاف رجل، غير أنه في ضوء الاحتياجات الميدانية والظروف الاجتماعية، أُنشئ فريق نسائي متطوع قارب عدده المائة شابة في 2016، دُربن على القيام بأعمال الرعاية الطبية، وعمليات البحث والإنقاذ في مجتمع محافظ، يعارض بعض الرجال فيه قيام عمال الإنقاذ الرجال تقديم المساعدة للنساء والفتيات، مما يتطلب تدخل متطوعات في تلك العمليات.
وتؤثر الأوضاع الاقتصادية الصعبة على تمويل أعمال الخوذ البيضاء، مما يجعلهم يعتمدون على أدوات بسيطة وبدائية في عمليات الإنقاذ غالبًا، مما يعني نقصًا في المعدات والأدوات الحديثة وسيارات الإسعاف التي يتطلب تأمينها تآزرًا دوليًا للمساعدة عبر تبرعات تشارك فيها دول ومنظمات مدنية ومتخصصة وأفراد يؤمنون بأهمية إنقاذ الأرواح في زمن الصراع المسلح وتداعياته.
صورة أصحاب الخوذ البيضاء، وأعمالهم الجبارة والصعبة والإنسانية في آن معًا، كانت سببًا في ترشيحهم لنيل جائزة نوبل للسلام، وهو ما سعت إليه حملة دولية أطلقتها مجموعات سورية، لاقت دعمًا ومساندة في المستوى الدولي، وشارك فيها عدد من الممثلين والمخرجين العالميين الذين وقعوا عريضة للمطالبة بمنح الجائزة لأصحاب «الخوذ البيضاء»، بينهم المخرج ريدلي سكوت، والنجم جورج كلوني، وجاستن تيمبرلايك، وعزيز أنصاري، وبن افليك، ودانيال كريغ، وزوي سالدانا، وأليشيا كيز، فيما قامت شبكة «نيتفليكس» بإنتاج فيلم وثائقي باسم «الخوذ البيضاء»، رصد يوميات ثلاث مجموعات من الدفاع المدني السورية، والصعوبات العملية والنفسية التي يواجهونها في عملهم اليومي في إنقاذ أرواح الناس، وانتشال الجثث من تحت الأنقاض، وسط أخطار الضربات الجوية المزدوجة التي تقوم بها الطائرات الحربية على المكان نفسه، وسط إيمان لخصه أحد أعضاء الفريق بالقول: «عندما أبادر لإنقاذ حياة أحدهم، لا يهمني إذا كان عدوًا أو صديقًا، ما يهمني هو الروح المعرضة لخطر القتل».
فريق الخوذ البيضاء ومهمته وأهدافه، ربما هو التعبير الأبرز لروح السوريين الذي أشاعته ثورتهم على نظام الأسد الاستبدادي في عام 2011، يوم أطلقوا شعار الحرية، وكرسوا وحدتهم وتضامنهم في وجه سياسة القتل والتدمير والتهجير، مطالبين بإقامة نظام سياسي جديد يوفر حرية وعدالة ومساواة لكل السوريين. ولئن لم يحصل الفريق على جائزة نوبل للسلام، فإن وصول صورتهم وصوتهم إلى العالم في بلد صارت صورة الحرب والدمار هي المعروفة عنه، والأكثر شهرة فيه إرهابيون ومتطرفون موزعون بين نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين وأدوات قتلهم من الميليشيات الطائفية، إضافة إلى إرهاب «داعش» و«القاعدة» وأخواتهما من الجماعات المتطرفة، فيما تكاد تغيب صورة وأصوات المطالبين بالحرية والحريصين على الحياة والسلام، أمثال فريق الخوذ البيضاء.
ليست سورية، في ذاتها، بلداً غنياً بالنفط، أو بالثروات الاستراتيجية، كما حال العراق وليبيا مثلاً، ولكن الاقتتال الدولي الدائر بشأن سورية يعود إلى عدة عوامل سياسية معقدة ومختلفة، يتعلق بعضها بالتاريخ القريب لمنطقة الشرق الأوسط.
بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، الشرق الأوسط هو كابوس الفوضى الذي يلقي بثقله على العالم بأسره، خصوصاً أن سياسات الولايات المتحدة، في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، كانت سبباً رئيسياً في اختلال هذا التوازن، لا سيما احتلال العراق عام 2003 وما تلاه من عودة للطائفية والمذهبية والتشدّد الديني، وتشكل نوى مهمة للحركات السلفية الجهادية. أسفرت المطامح الأميريكية في "شرق أوسط جديد" إلى كارثةٍ دولية، ولا شك أن الولايات المتحدة تسعى إلى أن تكون صاحبة الكلمة الفصل في استقرار الشرق الأوسط وراعية السلام الذي يضمن مصالحها وتثبيت حلفائها، شرط عدم تكرار تجربتها المكلفة في العراق، والاكتفاء بسياسة "الأيدي الناعمة"، من دون التورّط في حربٍ حقيقية على الأرض.
أما روسيا التي اكتفت بوضع العصي في عجلات المجتمع الدولي، في السنوات الأولى من عمر الثورة السورية، واستثمرت في تطبيق الضغط السلبي على الملف السوري وعرقلة أي جهود أميركية أو أوروبية، خوفاً من تكرار خسارتها السياسية التي منيت بها في ليبيا، فإنها، منذ الأزمة الأوكرانية، تحولت إلى الضغط الإيجابي السافر سياسياً وعسكرياً.
مع التجاهل الأميركي لروسيا، وتركيز الجهود لإنهاء الاتفاق النووي مع إيران، تحولت إيران، أخيراً، من دولة "مارقةٍ" إلى عضو في المجتمع الدولي، وجزء من طاولات الحوار. تسبب ذلك بالقلق لروسيا، لا سيما أن إيران (على عكس روسيا) موجودة في الأراضي السورية عسكرياً. لذا، قدرت روسيا أن الضغط السياسي الذي تمارسه غير كافٍ لتثبيت قدميها في الشرق الأوسط، فأتبعته بدخول عسكري إلى الأراضي السورية، بدايةً بإرسال "مستشارين عسكريين"، مروراً بتثبيت قواعد عسكرية ومكاتب استخباراتية مشتركة، وصولاً إلى تصويت البرلمان الروسي، أخيراً، لصالح بقاء الجيش الروسي في سورية إلى أجل غير مسمى. ليست سورية بالنسبة لروسيا هدفاً بعينه، وإنما وجودها في الشرق الأوسط عسكرياً هو الضامن لعودة مصالحها "الإمبراطورية" في الشرق الأوسط، خصوصاً مع يقينها بانكفاء الولايات المتحدة عن التدخل العسكري الصريح.
وبالنسبة إلى التدخل الإيراني في سورية، والذي يقع في مقدمته وجود حزب الله، فإنه يجعل إيران في موضع المساوم لتمرير الاتفاق النووي القلق. وبغض النظر عن نتائج هذه المساومات، فقد حزب الله ترف الخيار منذ زمن طويل، ولم يعد قادراً على الانسحاب من سورية، إذ لن تقتصر نتائج هذا الانسحاب على الساحة السورية وحسب، وإنما ستمتد إلى لبنان، وتعيد نبش الملفات العالقة، منذ إعلان "بعبدا"، والاتهامات التي طالت حزب الله، لتفرّده بالقرار، ووضع لبنان بأكمله في فوهة المدفع، وتجاهل موقف "النأي بالنفس" الذي أعلنه لبنان رسمياً.
تقع مسؤولية الانقسام السياسي اللبناني، جزئياً على الأقل، على حزب الله وموقفه من الحرب في سورية، ونتائج هذا الانقسام ماثلة اليوم، بعد مرور عامين ونيف على الفراغ الرئاسي في لبنان. ومهما كان مقدار الضغط الدولي على إيران (وقد تضمن تمديد تجميد الأموال الإيرانية والتشكيك في قدرة إيران على الالتزام بالاتفاق النووي، وأحياناً التلويح بالتراجع عنه)، فإن الوضع العسكري لإيران على الأرض لم يعد قابلاً للتفاوض. وعليه، هذه المعركة هي معركة حياة أو موت.
بناءً على هذه العوامل السابقة، وغيرها مما لا يمكن الخوض فيه هنا، يبدو أن جميع الأطراف الدولية انخرطت في أزمةٍ أكبر من أي طرفٍ فيها، ما يحتم على جميع الأطراف الانهماك في تخطيط "استراتيجية خروج" من المنطقة ببعض المكاسب وأقل ما يمكن من الخسائر. ليست هناك مؤشرات توحي بقدرة أي طرفٍ على السيطرة المطلقة، عسكرياً أو سياسياً. لذلك، لا بد من إعادة صياغة التحالفات السياسية بشكلٍ يوحي بالقدرة على احتواء الأزمة السورية. شيء من هذه التحالفات السياسية قائم بين روسيا وإيران مثلاً، كما أن تركيا تلعب دوراً وسيطاً مهماً على الحافة بين حلف الأطلسي وروسيا. لدى تركيا ملفات كثيرة عالقة في المنطقة أيضاً، بداية بأزمة اللاجئين السوريين في تركيا وصولاً إلى رغبتها بالسيطرة على المناطق الكردية السورية، بحجة الحاجة إلى منطقة آمنة. ومن المحتمل أن تتقدم الطموحات التركية بلا حدود، إذا تطابقت مع رغبة أميركية بأن يخوض طرف آخر حربها بدلاً عنها.
هذا البلد الصغير المسمى سورية، على الرغم من مساحته الصغيرة، وأهميته الاقتصادية الضئيلة نسبياً، قد يغدو حصيلة تصفية الحسابات الدولية بأسرها، وهذا يعني أن الحرب ستطول كثيراً.
عندما سئل بشار الأسد عن ذوي القبعات البيضاء في حلب كان جوابه أنه لم يسمع بهم، والواقع أن العالم جميعاً سمع بهم إلا هو. في القرآن الكريم تعبير مدهش عن أمثاله: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْين لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا).
صهري في كندا قال يجب أن تراهم فقد صدر عنهم فيلم يروي بطولتهم في حلب، وهي تحت القصف في قناة «النت فليكس»، وهي قناة رائجة جداً في مونتريال يتلقفها الناس باشتراك شهري بعشرة دولارات. لقد رشحوهم لنيل جائزة نوبل للسلام. وجلست أنا لمدة ساعة خلف التلفزيون أتعرف عليهم في فيلم صدر حالياً، يمكن لأي مشاهد في العالم أن يراه. وأهم ما في هذه المجموعة في حلب أنها تنقذ حياة الناس من ويلات القصف، بعد أن ترمي عليهم الطائرات القاصفة القنابل الحارقة والبراميل المتفجرة.
في الفيلم رأيناهم وخوذهم البيضاء جاهزة مع أدوات إسعافهم البسيطة، فإذا حلقت الطائرات بصوتها المخيف فوق منطقة «الهولك» في حلب مثلًا تركت المجموعة الطعام والشراب وهرعت إلى مكان الهدف للإنقاذ. لقد أنقذوا الطفل محمود وسموه طفل المعجزة لأنه كان طفلًا رضيعاً لم يبلغ الشهر بعدما رسا تحت الأنقاض وهم يقرعون الجدران ويصغون لكل همسة عسى أن ينقذوا روحاً جديدة! وأخيراً وصل إلى سمعهم بكاء طفل رضيع من بعيد! وهكذا تابعوا الحفر، حيث الأنين الخافت لينقذوا الرضيع محمود بعد أن بقي تحت الركام 16 ساعة! لقد رأيناهم وهم يقبلونه بعد أن أصبح عمره سنة ونصف السنة، أما مقدار الناس الذين رأوهم مقطعي الأوصال، أو في حشرجة الموت، أو يلفظون أنفاسهم الأخيرة تحت أثقال الحجارة وأعمدة الإسمنت؛ فعن عددهم حدّث ولا حرج.
وأجمل ما في هذه المجموعة الحلبية المتضافرة أنها تعتمد الآية القرآنية الكريمة (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً). أحدهم يودع ابنته كل صباح ويقول لزوجته ربما لن تريني مجدداً، فهم يهرعون إلى بؤرة الحدث حيث القصف، وحين يرون الطائرات النفاثة المغيرة من بعيد وهي تزمجر يتوقعون أن يكون القصف في المكان الفلاني، فيهرعون بسيارتهم إلى مكان الحدث وبأيديهم ما اعتادوا حمله من أدوات إطفاء النيران ومعاول الحفر وجرافات التنقيب.
إنهم أبناء حلب المثاليون. يقول رئيس المجموعة «أبو عمر» لا يهمني من يقاتل ومن يقتل، فقط يهمني أن أنقذ من تحت الأنقاض من يقترب منه الموت ويلامسه.
وحول عقيدته في الموت والحياة يرى أن الأجل ليس بيد أحد بل هو ملك الرحمن الرحيم الذي كتب على نفسه الرحمة وهو الذي يحيي ويميت.
هؤلاء المنقذون مهنتهم إنسانية وهم معرضون للموت مع كل قصف وتفجير، فالقنابل العنقودية تقصف الأرواح وتخطف النفوس، في دفعات من صناعة إبليسية. لقد مات منهم في عمليات الإنقاذ حتى صدور الفيلم الذي أبرز تضحياتهم الإنسانية 132 شخصاً، ولكنهم أنقذوا 58000 إنسان.
معركة حلب مع كتابة هذه الأسطر تذكرني بأمرين بالمثل الشعبي الذي يقول بعد خراب بصرة! كما يذكرني باجتياحها من قبل تيمورلنك قبل أن يدمر العثمانيين في معركة سهل أنقرة في عام 1402م، وفي هذه الفترة المضطربة كان ابن خلدون يجتمع بالطاغية، ويحاول ألا تستباح دمشق كما استبيحت حلب. مع كل هذه الحلكة، فإن أصحاب الخوذات البيض يبعثون بالأمل في ظلمات الاضطراب السياسي الذي تعيشه المنطقة.
في عهد الخليفة المعتمد، انفجرت الأوضاع في ثورة شعبية هي ثورة الزنج ما يشبه «المجالدون» في روما وسبارتاكوس، حتى انطفأت في عام 270 هجرية، بعد أن قتلوا معظم أهل البصرة في رقم يقترب من 300 ألف ضحية، وفي عهد ابنه المعتضد انفجرت الأوضاع من جديد في ثورة القرامطة الذين وصلت أيديهم إلى حجر الكعبة. دروس التاريخ مفيدة، أليس كذلك؟
صورة المندوب الروسي في مجلس الأمن الدولي، فيتالي تشوركين، وهو يرفع يده بإشارة فيتو ضد مشروع القرار الفرنسي الإسباني بخصوص معاناة حلب، لن ينساها السوريون، ومهما طال الزمن، وتغيّرت الأحوال، فإنها لن تسقط بالتقادم، بل ستبقى محفورةً في الذاكرة، شاهدا على إمعان الروس في قتل السوريين مع سبق الإصرار.
حسب الحسابات كافة، لا يوجد أي سبب يدفع الروس إلى اتخاذ هذا الموقف ضد شعبٍ أعزل محاصر، يعاني الموت جوعاً ومرضاً، لا يجد الماء ولا الدواء، وهناك 100 ألف طفل بلا حليب منذ عدة أشهر، حسب تقارير الأمم المتحدة التي أكدت أن من سوف يبقى من هؤلاء على قيد الحياة سيكون في وضعٍ صحيٍّ هش، وعرضةً دائمةً للأمراض.
يتحجّج الروس بأن الفيتو الخامس الذي اتخذوه، ليل السبت الماضي، ضد مشروع القرار الفرنسي الإسباني، هو من أجل محاربة الإرهاب. ولنفترض أن هذه الحجة صحيحة، فهل يبيحون لأنفسهم قتل 300 ألف مواطن في حلب، وتدمير المدينة من أجل معاقبة 900 من جبهة النصرة، حسب الأرقام التي أوردها مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا؟. إذا كانت دولةٌ عظمى تمتلك حق الفيتو، مثل روسيا، تعطي نفسها حقّ التصرف على هذا النحو البلطجي، فهل يستقيم القانون الدولي، ويسري على الجميع، أم أنها ترتكب سوابق خطيرة، عن سابق تصميم، تجعل من المرجعيات الدولية لعبةً بيد من يمتلك القوة؟ وبالتالي، لا أهمية لأي قانون أو عدالة دولية، ولا مكان لأي أخلاق في حسابات البشر، ولا حاجة للأمم المتحدة، طالما أن قوة مارقة وضعت نفسها فوق كل مقياسٍ ومرجعيةٍ وحساب.
يقدّم الروس في سورية نموذجاً غير مسبوق على عدة مستويات، خصوصا في العنف الذي أوصلوه إلى مصاف من الوحشية، يتفوق على جرائم "داعش". ويكشف منهج القتل والتدمير الاستعراضي في حلب عن عقليةٍ اجراميةٍ يقف العالم حيالها مصدوماً، حتى أنه يجد مقارنتها بالنازية أمراً لا يشفي الغليل، وقد أصبحت هذه القضية، منذ عدة أسابيع، الشاغل الأول للصحافة والمنظمات الإنسانية العالمية، فالمقارنة بين حلب وغروزني صارت منتشرةً على نطاق واسع، ونشرت الصحف العالمية بورتريهات لرئيس الأركان الروسي، فاليري غيراسيموف، الذي يطبق في حلب منهجه الذي استخدمه في غروزني، حين كان قائداً للحملة الروسية لإخضاع المدينة الشيشانية، وهو منهجٌ يقوم ببساطة على إلحاق أكبر قدر من الدمار بالمدينة، وضرب البنى التحتية، واعتبار كل ما يتحرّك على الأرض هدفاً عسكرياً، ووصفته صحيفة الفيغارو ب"البارع في أساليب القتل البدائية".
وتقود أسلحة القتل البدائية إلى مسألة أخرى، لا تقلّ فداحةً من القتل، وهي احتقار الروس الشعب السوري، من خلال العمل على إعادة تمكين بشار الأسد وعصابته من حكم سورية، بعد أن كان قد أصبح خارج الحساب منذ عام على الأقل، وبدلاً من أن يُساق هؤلاء إلى محاكم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، تقوم روسيا بإعادة تعويمهم، وكأن شيئاً لم يحصل، غير عابئةٍ بأرواح قرابة 600 ألف قتيل ومليوني معاق وعشرة ملايين نازح ومهجّر. لا يمكن وصف ذلك بأقل من مشاركة للنظام في الجريمة. ولذا بات السوريون يضعون فلاديمير بوتين بمصاف الأسد، ويتعاملون مع روسيا قوة احتلالٍ بدأت، في الأسبوعين الأخيرين، بتعزيز وجودها العسكري باتفاقاتٍ، وبناء قواعد بحرية وجوية، لتستمر إلى أمد طويل.
اللافت أنه ليس جهاز بوتين السياسي والعسكري وحده من يبدو مصمماً على قتل السوريين حتى النهاية، بل تقف إلى جانبه ترسانة من المحللين السياسيين الروس على الفضائيات العربية، أغلبهم ضباطٌ سابقون في جهاز كي جي بي، إلى حد أننا نجد أنفسنا أمام نسخةٍ جديدةٍ من الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان حليفاً للأنظمة الاستبدادية في العالم.
هناك مواجهة دبلوماسية قوية بين فرنسا من جانب، ونظام الأسد وإيران وروسيا من جانب آخر، ورغم التهديدات ضدها، فإن الحكومة الفرنسية تصر على موقفها المتكرر، والمتضامن مع الشعب السوري، بعد أن تخلى عنهم معظم القوى الدولية.
وقد استنكرها الروس قائلين، إنهم يعجبون لماذا تصر فرنسا على الوقوف ضد مشروعهم في سوريا، واصفين هجومهم، وحصارهم، وتشريدهم لملايين السوريين بأنها حرب على الإرهاب، وأن فرنسا لا تخالفهم فقط، بل تخالف التوجه الأوروبي بمواقفها.
ومشروع القرار الفرنسي، الذي دعا لوقف قصف حلب، وقصفه الروس بالفيتو، وتسبب في مواجهات كلامية بين سفراء القوى الأعضاء في مجلس الأمن الأسبوع الماضي، لم يكن العمل الوحيد الذي رعته الحكومة الفرنسية. فرنسا من الدول الراعية للثورة السورية منذ البداية، وبخاصة في دعم الجهود السياسية للائتلاف والمجالس المختلفة، وهي من أكثر الدول التي استهدفتها العمليات الإرهابية التي نفذتها تنظيمات مشبوهة مثل «داعش»، التي تدلل كل أفعالها على أنها تنفذ مشروعًا لصالح الأسد والإيرانيين، ويستهدف الدول التي وقفت ضد جرائم نظام دمشق وحلفائه. ورغم تكرار العمليات الإرهابية التي أدمت فرنسا، فإنها استمرت تقف ضد الحرب الوحشية التي تشن على الشعب السوري.
ولَم تعانِ فرنسا من إرهاب «داعش» وحده، بل واجهت أزمة داخلية لا تقل خطورة، وهي تنامي العنصرية ضد الأجانب وضد الفرنسيين من أصول إسلامية، التي تتغذى على جرائم التنظيمات الإرهابية المرتبطة بالأزمة السورية، وبسبب طوفان المهاجرين الذي أغرق غرب أوروبا من سوريا وغيرها. وهذه المواقف السياسية، التي قد لا تحظى بشعبية وتستخدم لإضعاف الحكومة والحزب في الانتخابات التي بدأت مهرجاناتها.
على المستوى السياسي والدبلوماسي بشكل خاص، حكومة فرنسا تقود دعوة لمحاسبة الدول المتورطة في حصار وتدمير حلب وبقية المدن السورية، ومحاكمتها بجرائم حرب، وتفعيل المؤسسات الدولية ضدها.
نحن أمام هذه المواقف المتعددة، والمستمرة لسنوات، لا يمكننا إلا أن نذكر بالتقدير ما يفعله الفرنسيون. وسياستهم العادلة والمنصفة في القضية السورية هي امتداد لمواقفهم ضد نظام الأسد في لبنان، عندما ساندت فرنسا رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري، وكان موقفها أساسيًا وفاعلاً بعد جريمة اغتياله من قبل نظام الأسد. وموقفها استمر أيضًا يواجه محاولات التغيير في لبنان، وقامت بدعم القوى الرافضة لهيمنة «حزب الله».
والرؤساء الفرنسيون عمومًا استمروا على هذا النهج إلا في مرحلة قصيرة، خلال رئاسة ساركوزي الذي تولى مهمة تبييض صفحة الأسد، بالتعاون مع بعض القوى الإقليمية، وفشل في النهاية.
قد لا يجد البعض في المواقف الفرنسية القيمة الكافية لتغيير الأوضاع على الأرض، ففرنسا دولة كبرى لكنها ليست الولايات المتحدة ولا روسيا، القوتين العظميين، مع هذا تلعب دورًا كبيرًا، وتقود قاطرة المواجهة، في وقت فضلت معظم الدول الأخرى تحاشي مواجهة «محور الشر».
وفِي ظل العربدة والاستهانة بالقيم والقوانين الدولية التي يمارسها حلفاء الأسد، فإنه ليس بالقليل أن تقف دول، مثل فرنسا، هذه المواقف المتكررة، والتي يمكن ونرجو أن توصلنا إلى مرحلة الحل السياسي المعقول. فالحرب الإيرانية الروسية في سوريا فشلت حتى هذا اليوم في القضاء على انتفاضة الشعب السوري، وفشلت في تثبيت حكم الأسد حتى في نصف سوريا التي باتت تحت حكمه، ولن يجدوا في الأخير إلا بلدًا مثل فرنسا، لدعم حل سياسي يخرجهم من هذا المستنقع.
لم يتعثّر البديل السوري روسياً وحسب، بل تعثر أميركياً أيضاً. وعلى الرغم مما كانت أميركا قد تعهدت به من جعل حقوق الإنسان أحد البنود التي ستلزم سياستها الخارجية بها، فإنها اتخذت، منذ البداية، موقفاً متوجّساً من الثورة، على الرغم من أنها التزمت ببناء دولةٍ ديمقراطيةٍ، لمجتمعٍ ذي سويةٍ ديناميةٍ وثقافيةٍ حديثة، لأن قيام دولةٍ كهذه يهدّد إسرائيل التي تحتل أراضي سورية، وتفتقر إلى قدراتٍ مماثلةٍ لقدرات الشعب السوري، وستواجه مصاعب جدية، بمجرّد أن يفعل النظام الديمقراطي العتيد ديناميته التي عطلها الاستبداد، فإن أصابت عدوى الديمقراطية العالم العربي، صار الخطر على إسرائيل وجودياً، ووقعت في ورطةٍ ستلزمها بتغيير حساباتها تجاه العرب، وستغيّر حسابات العالم تجاهها، وهي التي لم تتخلص إطلاقاً من مشكلاتها الوجودية مع الفلسطينيين، فإنْ نال هؤلاء استقلالهم، وأقاموا دولتهم الحرّة والسيدة، في حاضنةٍ عربيةٍ ديمقراطية وحديثة، تعرّضت لتحدياتٍ ستجهض مشروعها التوسعي/ الاستيطاني، وتضعف مجتمعها الهش الاندماج، ولن يبقى لها من خيار غير العيش، بدلالة الظرف العربي الجديد، والإقلاع عن فرض إرادتها على جيرانها، وإرغامهم على العيش تحت سطوة قوتها التي سجنتهم، مذ تأسّس كيانها في قلب منطقتهم، داخل مأزق تاريخي، عزّزه تأخرهم، وتخلف نظمهم الأيديولوجية والسياسية التي ستحرّرهم ثورة الحرية منها، وستقلب صفحتها، وتفتح صفحة جديدة يبدأ معها تاريخ عربي/ إنساني جديد.
في حساباتها الواقعية، بنت واشنطن مواقفها على المفردات التي اعتمدتها موسكو، وتتلخص في رؤية الحدث السوري، على ضوء المصالح الخارجية والعلاقات والتوازنات الدولية، والامتناع عن تحديد موقفها منه، انطلاقا من مطالبه وأهدافه السورية، وإن كانت تشبه، في شكلها ومضمونها، ما هو قائم من أوضاع ومعتمد من قيم في بلدان الغرب. يفسر هذا التشابه بين سياستي الدولتين لغة النفاق التي اعتمدتها إدارة أوباما تجاه الثورة، لإيهام السوريين بأنها ملتزمة باحترام حقوق الإنسان معياراً لسياستها الخارجية، وعازمة على التقيد بها في الحال السورية أيضاً، بينما ركّزت خططها الحقيقية على إيجاد بيئةٍ، تسمح بتفكيك سورية وإعادة تركيبها، في سياق تفكيك دول المنطقة الأخرى وإعادة تركيبها الذي كانت كوندوليزا رايس، وزيرة خارجيتها الأسبق، قد بشّرت بها، ودشّنتها في العراق، خطوةً أولى تحقّق ما سمته "الفوضى الخلاقة": الوسيلة التي ستحول دون بقاء الأمور على حالها الراهنة، ودون قيام نظام ديمقراطي ترفضه أو إسلامي، لأن إسرائيل ترفضهما وتؤيد، في الوقت نفسه، إطالة أمد الفوضى، أقله إلى أن يكمل الأسد تدمير آخر معقل لمقاومتها: مجتمع ودولة سورية.
على العكس من موسكو التي تخاف على النظام السوري، استخدمت واشنطن الحرب التي يشنها ضد شعب"ه"، لتحقق أهدافاً استراتيجية لها ولإسرائيل، أهمها انتزاع السلاح الكيماوي من النظام الأسدي مقابل الإبقاء عليه، ووقف البرنامج النووي الإيراني مقابل إدراج الملالي في سياقات استراتيجية جديدة، عابرة للحدود، فيها وظيفةٌ إنقاذية وجديدة لنظامهم. بما أن بلوغ هذين الهدفين كان مستحيلاً، من دون حربٍ ضارية وطويلة، فقد جعلت من جرّ البلدين إليها، وإطالة أمدها، هدفين متلازمين، حرصت على تحقيقهما بواسطة تدخلات يومية، حافظت على قدرٍ من التوازن بين النظام والمعارضة، حال دون انتصار أو هزيمة أي منهما، ومن دون وقفها، وفي الوقت نفسه، خروج أي متدخل أجنبي منها، بما أنها أزمة يتوقف النجاح في إدارتها على التحكّم بقواها، وعلى حسن إدارتها.
ثمّة معيار آخر حكم الموقف الاستراتيجي الأميركي من المسألة السورية، هو الحرب ضد الإرهاب الذي زاد من انعدام ثقة أميركا بالثورة وفرص نجاحها، وامتناعها عن إسقاط النظام قبل توفر شرطين، التقت واشنطن مع موسكو فيهما، هما: إيجاد بديل مستقر له، حالت سياساتها دون تشكله، ومنع القوى المتطرفة والإرهابية من احتلال موقع حاسم في أي وضع راهن أو بديل. التقت سياستا واشنطن وموسكو على هذين الهدفين اللذين شكلا أرضيةً مشتركةً بينهما، اتسعت، بمرور الوقت، إلى أن قرّبت موقفيهما، وإنْ في فترتين زمنيتين متفاوتتين، الأمر الذي يفسر أحد جوانب عدم اعتراض البيت الأبيض على الغزو الروسي لسورية، والاعتراض النسبي على التصنيف المعتمد روسياً للتنظيمات الإرهابية الذي استهدف ما تسميها أميركا "القوى المعتدلة" بالدرجة الأولى، تلك التي تعتبر واشنطن وجودها ضامناً لتوازن القوى بين النظام والثورة، وبينها وبين الطرف الروسي، وتضع كسره تحت بند المحظورات، خشية أن يفضي اختلاله إلى انفراط عقد الجيش الحر، وانفراد النظام والإرهاب بالساحة العسكرية، وما يرتّبه ذلك على أميركا من ضغوطٍ قد تستغلها موسكو لإرغامها على تغيير موقفها، نحو اتجاهٍ تحدّد هي خياراته.
بالوضع الذي وسم حال المعارضة، اقتربت واشنطن تدريجياً من موقف موسكو حيال النظام، وخشيت أكثر من الروس، ما اعتبرته فراغاً ستملؤه تنظيماتٌ إرهابية، ستجر الغرب إلى معركةٍ كبرى، وستتمكّن من توسيعها تدريجيا، ليس فقط داخل سورية، وإنما في بلدانه ومراكزه أيضاً. بذلك، صارت المعارضة، بجمودها وعجزها عن التفاعل بإيجابية مع البيئة العسكرية والسياسية، وبخلافاتها، جزءاً من معضلةٍ دوليةٍ، تتخطى الوضع السوري وصراعاته، وزاد طينها بلةً رفضها القبول بسياسة واشنطن حيال الحرب ضد الإرهاب، وامتناعها عن وقف جهودها على هذه الحرب، واشتراطها أن تتلازم مع مواصلة الصراع ضد النظام. بهذا كله، دخلت علاقات البيت الأبيض مع المعارضة في نفقٍ ردّ عليه بقرارين كبيرين، هما: البحث عن بديلٍ لقواتها تحارب بمعونته الإرهاب الذي تصاعد وانتشر بسرعةٍ، مع صعود "داعش" العاصف، وانتزاعها مناطق واسعة من الجيش الحر شمال سورية، ونجاح "القاعدة" في وضع يدها على إدلب ومواقع مهمةٍ في المحافظات السورية الأخرى، واستيلائها على مواقع استراتيجية للنظام، خزن فيها كمياتٍ ضخمة من الأسلحة والذخائر، بينما تقلص وجود الجيش الحر عدداً وانتشاراً، وتلقت قوات حزب الاتحاد الديمقراطي (البايادا) الكردي، دعماً أميركياً جوّياً، عزّزه دعم بري، ضم مستشارين ووحدات نخبة، أسهموا بدور مهم جداً في طرد "داعش" من مواقع مهمة، وقلصوا مناطق سيطرتها في الشمال السوري، حيث بدأت تتخلق نظرة أميركا إلى مستقبل سورية. وقال مسؤولوها الكبار إنها لن تكون كسورية الحالية التي زالت ولن تعود، ولن يقوم فيها نظامٌ ديمقراطيٌّ مركزيٌّ، يتولى تنظيم أوضاع مختلف مكونات الجماعة الوطنية السورية وحقوقها، بل وتلاشت فرص قيام هذا النظام، بسبب تزايد خلافات القوى الخارجية، المتحكّمة بمصير سورية، وتعاظم تبعية القوى المقاتلة للخارج، ولغرف تحكم وسيطرة أميركية، ودخلت بلادنا مرحلةً سيرتبط مصيرها فيها بما سيقرّره الكبار لها وللمنطقة العربية، وبما سينجم عن صراعات هؤلاء وتفاهماتهم عليها، بعد أن غدت أوضاعها جزءاً من حالٍ تتخطّاها، ولم تعد معالجتها تتم على أساس أن أوضاعها قائمة بذاتها ومستقلة عن غيرها.
وفي الوقت نفسه، تبدّلت مفردات دولية وإقليمية وعربية ومحلية عديدة، تتصل بالصراع ومواقعه، وأخذت تلعب دوراً وازناً في إحداث تغيرات مفصلية في علاقات قوىً شرعت خلافاتها وتوافقاتها تصير عربية وإقليمية ودولية، وتذهب في اتجاهاتٍ متنوعةٍ، قد لا يعبّر عن حالها النهائية التفاهم الأميركي/ الروسي المتعاظم حول مفردات حلٍّ، يبقي على النظام الأسدي ورئيسه، ويحتجز أكثر فأكثر فرص نجاح الثورة، ويُرغمها على قبول تسوياتٍ جزئيةٍ هنا، تدريجية هناك، إن كانت تريد أن لا تخرج صفر اليدين من أوضاع وتفاهماتٍ دوليةٍ، تطوي فكرة حل سياسي شامل، يطبق وثيقة "جنيف1" والقرارات الدولية المرتبطة بها، والمتفرّعة عنها، وتستعيض عنه بحلٍّ متدرج، لا يلبي مطالب المعارضة أو يزيل النظام، ويضع سورية على سكة تغيير جزئي ومديد، يحفظ مؤسسات النظام العسكرية والأمنية، وإن قيد وظائف القمعية منها.
هذا الاحتمال ممكن الحدوث، ما لم تفشل واشنطن في فرض وصايةٍ دوليةٍ على بلادنا، وتنتصر روسيا وإيران، وتنقذا النظام الأسدي، برموزه وأركانه كافة، أو تقرّر واشنطن أن زمن وقف الصراع لم يأتِ بعد، وإن توسيعه يتطلب تعميقه محلياً ونشره إقليمياً، بهدف تغيير أوزان الدول في المنطقة وجوارها، وتأسيس تحالفاتٍ جديدة فيها على حساب وجود العرب وأدوارهم، تنجز تنسيقاً إسرائيلياً/ إيرانياً تحت إشراف أميركا، وتطوى صفحة العرب، فلا يفيقوا من غفلتهم وينهضوا من نومهم الشتوي الطويل، ويقرّروا استئناف معركة الحرية التي خاضها الشعب السوري بقوةٍ واقتدار، ولعب تخليهم عنه دوراً خطيراً في عدم تحقيق أهدافها.
هل أصبح «الفيتو» في مجلس الأمن عائقاً حقيقياً أمام البشرية لإيقاف شلال الدم المتدفق منذ أكثر من خمس سنين في سوريا والعالم يتفرج على هدم مدن كبرى كانت مؤسسة في الحضارة الإنسانية مثل حمص وحلب؟ وهل يقبل العالم كله أن يكون مصير مئات الآلاف من المدنيين السوريين مبرماً؟ وموسكو اليوم تصعّد قصفها على حلب وإدلب والغوطة، كأنها تعلن التحدي أمام كل مَن صوّتوا للقرار الفرنسي الذي أصرت موسكو على إسقاطه؟
لقد بدا مجلس الأمن في جلسة التصويت على القرارين الفرنسي والروسي يخوض امتحانه الأصعب، وقد سقطت خياراته الإنسانية أمام حق «الفيتو» الذي بات نوعاً من التسلط المشروع على حقوق الشعوب، وانحيازاً مطلقاً إلى منطق القوة أمام منطق الحق، ولعل دول العالم كله بدأت تضيق أخلاقياً بهذا «الفيتو» الذي منح حق الاعتراض والإجهاض لأي قرار تعترض عليه إحدى الدول الخمس التي شرعت لنفسها حق قيادة العالم بعد الحرب العالمية الثانية! وكان هذا التشريع حلاً لتداعيات تلك الحرب وترضية لكل الأطراف، ولكن المتغيرات الدولية الكبرى خلال سبعين عاماً تقضي بأن يعيد العالم تشكيل مجلس الأمن وضم دول أصبحت كبرى وذات قوة تؤهلها للمشاركة الدائمة في عضوية المجلس مثل ألمانيا واليابان والبرازيل والأرجنتين والهند وباكستان، وأن تكون للجامعة العربية عضوية دائمة لكونها تمثل مساحة كبرى في قلب العالم. وقد انتقدت دول كثيرة في العالم بِنْية مجلس الأمن، وكانت أولاها السعودية التي رفضت قبل أعوام عضوية المجلس الدورية، وحتى فرنسا انتقدت ما يسمى حق «الفيتو»، وقد استخدمت الولايات المتحدة حق الاعتراض «الفيتو» أكثر من 80 مرة، واستخدمته روسيا نحو 140 مرة، واعترضت الولايات المتحدة على 33 قراراً لمصلحة القضية الفلسطينية! ومنذ بداية القضية السورية اعترض المندوب الروسي على كل القرارات التي حاولت فيها الأمم المتحدة وقف القتال في سوريا، وكان أول «فيتو» لروسيا عام 2011 حين اعترضت على مشروع قرار يعاقب النظام! وفي عام 2012 عطلت روسيا مشروع قرار يحمّل رأس النظام السوري مسؤولية إراقة الدماء، وفي عام 2012 أيضاً اعترضت على قرار عقوبات على النظام السوري لأنه لم يتوقف عن قتل شعبه. وفي عام 2014 عطلت مشروع قرار بإحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمته بارتكاب جرائم حرب. ومؤخراً في 8/10/2016 عطل «الفيتو» الروسي مشروع القرار الفرنسي الإسباني الذي يطالب بوقف إطلاق النار، وقد صوّت 11 بلداً لمصلحة القرار وامتنعت الصين عن التصويت.
وكانت روسيا قد حمت النظام السوري من المحاسبة يوم استخدامه الكيماوي، ثم دخلت قبل عام بقوى عسكرية ضخمة لتقاتل بشكل مباشر، ثم استصدرت قراراً من مجلس «الدوما» بشأن ديمومة بقائها العسكري في سوريا. وصارت سوريا ملحقة بموسكو، ومنحت إيران حق المشاركة، وأفسحت المجال للتنظيمات الإرهابية التي تفوق «داعش» في عدد الجرائم التي ارتكبتها، وفي عدد ضحاياها مثل «حزب الله» والميليشيات الطائفية العراقية والأفغانية والمرتزقة كي تشارك في قتل السوريين، وتغزو الشعب مذهبياً. ومع إصرار روسيا على استخدام القوة وحدها وتعطيلها القرار الدولي 2254 الذي وافقت عليه مضمرةً أن تفسره على طريقتها، توقفت مسيرة الحل السياسي، لتُبقي أحد خيارين أمام الشعب السوري، إما الاستسلام، وإما الموت! وهي حين تسمح للمقاتلين وللسكان المدنيين بالخروج الآمن إلى إدلب التي يتم تجميع المعارضة المسلحة فيها، فإنها تخطط لتضييق مساحة الحضور العسكري على المعارضة المسلحة بحيث يسهل عليها حصارها وإبادتها بعد أن تنتهي من حلب، ويبدو أنها لا تستهدف مناطق «داعش» لأن أعداء «داعش» منذ تأسيسها هم الجيش الحر والمعارضة المعتدلة.
ونحن في هيئة المفاوضات السورية على رغم حالة التعثر الراهن نشعر أن جلسة مجلس الأمن كانت امتحاناً آخر لصالحنا، فقد عبّر فيه أصدقاؤنا عن وفائهم للقضية السورية، وفضلاً عن مواقف الدول العربية المعلنة إلى جانب الشعب السوري مثل السعودية والإمارات وقطر والأردن وسواها من الدول الشقيقة ومواقف تركيا وألمانيا نثمّن موقف فرنسا، وتقدُّم الموقف الإسباني، والدور البارز الذي تؤديه بريطانيا في الحكومة الجديدة، وننظر بارتياح إلى تطور موقف الصين التي امتنعت عن التصويت، وهي خطوة نقدرها للخارجية الصينية ونرجو أن تراجع رؤيتها للقضية، وأن تكون نصيراً للشعب السوري في محنته، مثلما نرجو أن تراجع الولايات المتحدة مكانتها الدولية التي تنتهكها روسيا. ونجد أن العالم كله مطالَب اليوم بأن لا يستسلم للسقوط في امتحان «الفيتو» في مجلس الأمن، وقد آن له أن يعتمد مبدأ الديموقراطية التي تتغنى بها الدول الكبرى، بينما يستمر العمل في مجلس الأمن بديكتاتورية «الفيتو».
ثمة مقولة شهيرة لكارل فون كلاوسفيتز، الاستراتيجي العسكري البروسي البارز في القرن التاسع عشر، أن «الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى». هذه المقولة تنطبق أكثر ما تنطبق الآن على التصعيد الهائل للعنف في حلب وأجزاء أخرى من سورية، منذ انهيار الهدنة الجزئية في 19 أيلول (سبتمبر) الماضي. فأبرز أسبابه سعي روسيا إلى مساعدة نظام الرئيس بشار الأسد على تحقيق مكاسب عسكرية راسخة وتحصينها بموقف سياسي متين، قبل أن تتحرّك الإدارة الأميركية القادمة لاستئناف جهود التسوية الديبلوماسية للأزمة السورية.
بيد أن الهدف الاستراتيجي للعنف المستمر بالنسبة إلى نظام الأسد لا يتصل فقط بتأمين أفضل شروط التسوية السياسية، بل يذهب أيضاً إلى انتزاع الموارد المالية والاقتصادية التي سيحتاج إليها ليتمكّن من الحفاظ على وجوده عند الانتقال من الحرب إلى السلام. فبات واضحاً أن الإدارة الأميركية قد خَلُصت إلى أنها لا تستطيع منع الأسد من البقاء في السلطة خلال مرحلة انتقالية تنتج من اتفاق سياسي. هذا علاوة على أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري يعتقد أيضاً، وفق نشطاء سوريين ألتقوه في 22 أيلول الماضي، أن الأسد سيخوض انتخابات الرئاسة التي قد تجرى في نهاية المرحلة الانتقالية.
وهكذا، حين تستأنف الإدارة الأميركية الجديدة وروسيا حوارهما حول سورية، سينتقل مربط الفرس نحو رفع العقوبات المالية والاقتصادية عن نظام الأسد، أو تمكينه من الحصول على مصادر أخرى من الرساميل والسلع. وفي هذه الأثناء، سيواصل النظام استخدام وسائل العنف إلى حين توفير وسائل مادية بديلة لإعادة بناء مقومات سلطته السياسية وهيمنته الاجتماعية.
بيد أن معضلة نظام الأسد لا تكمن فقط في أنه غير مستعد لإبرام تسوية سياسية للنزاع، بل لأنه أيضاً غير قادر على ذلك. فقدرته على الإمساك بالسلطة، سواء خلال حقبة السلام قبل العام 2011، أو خلال النزاع المسلّح المستمر منذ ذلك الوقت، اعتمدت دائماً على الشبكات غير الرسمية التي يديرها في كل أجهزة السلطة والقوات المسلحة وأجهزة الأمن، وأيضاً في القطاعين العام والخاص في المجال الاقتصادي. وتستند قبضة النظام على هذه الشبكات بدورها إلى السيطرة على الأصول الاقتصادية الرئيسة، خصوصاً المداخل إلى القروض والعقود والأسواق، وعوامل الإنتاج كالطاقة والأرض.
لكن النظام خسر في خضم النزاع معظم هذه الموارد والوسائل. ولم يستطع الحفاظ على قبضته على الشبكات الموالية سوى من خلال تشجيعها على الانخراط بعمق في اقتصاد الحرب، وتطوير أنماط بديلة لتحصيل المداخيل ولإعادة إنتاج علاقات التواطؤ ما قبل الحرب بين أجهزة الأمن ومؤسسات الدولة وكوادر حزب البعث وأرباب السوق السوداء. وفي الوقت نفسه، عمل النظام على توجيه الائتمانات المالية والعقود التجارية الإيرانية نحو المحظوظين من أتباعه في قطاع الأعمال.
مع ذلك، كل هذا لن يكون كافياً لتعويم النظام حال انتهاء النزاع، ما لم يكن قادراً على وضع اليد على مصادر جديدة للرساميل وإعادة ربط الاقتصاد المحلي بالأسواق الخارجية المهمة. صحيح أن النظام يتوقع أن يخرج ظافراً، سواء من خلال تسوية سياسية بالتفاوض أو عبر نصر عسكري شامل، إلا أنه سيقبع على عرش بلد مدمّر اقتصادياً وأسواق ممزّقة. ولن تتوافر لديه سوى سبل ضئيلة لتوفير الرساميل اللازمة لإعادة البناء في مجالات الإسكان، والمرافق الاقتصادية، والبنى التحتية، ناهيك بإعادة اللاجئين إلى وطنهم واستيعاب النازحين داخلياً، وترميم قطاعات التعليم والصحة والخدمات العامة الأخرى، وإعادة بناء الروابط التجارية الخارجية.
قد يلجأ النظام إلى التوفير اقتصادياً، من خلال تأخير عودة زهاء 4،8 مليون لاجئ يُقدّر الآن أنهم خارج سورية، وعبر وضع عمليات إسكان وإعادة دمج نحو 6،5 مليون نازح داخل البلاد في آخر سلّم أولويات إنفاقه. لكن لن يكون في وسعه الاعتماد فقط على افتعال النقص في السلع الرئيسة والخدمات أو على قمع الأجهزة الأمنية، لاحتواء حنق ملايين المواطنين الذين دعموا المعارضة في السابق. سيتعيّن عليه أن يزيّن هذه «العصي» ببعض ألوان «الجَزَر»، لأن القمع أكثر كلفةً من الاحتواء حتى في الأنظمة السلطوية.
وما هو أهم من منظور النظام، أن توقعات قواعده الموالية للتعويضات والعائدات المادية، مقابل الثمن الباهظ الذي تكبّدته دفاعاً عنه، لن تكون أقل إلحاحاً. فالفشل في الاستجابة لها ستكون كلفته السياسية أعلى بكثير. ورغم أن النظام حفّز العديد من رجال الأعمال الذين بقوا داخل البلاد على دعمه مالياً، إلا أن إغراء رؤوس الأموال الهاربة والمبادرين الاقتصاديين والمهنيين من الطبقة الوسطى الحائزين على المهارات الضرورية للنهوض الاقتصادي، للعودة إلى البلاد، سيكون مهمة شاقة فعلاً.
لذلك، لا يزال النظام في حاجة إلى الحرب بوصفها وسيلته الأنجع لإرجاء دفع الأكلاف الكاملة لعملية إعادة البناء، واستيعاب المواطنين المُعادين، وتنفيس الضغوط المنبثقة من داخل صفوفه، عبر استمرار تعبئتهم لمواجهة الخطر الوجودي المفترض ودفعهم نحو توفير حاجاتهم المادية من خلال اقتصاد الحرب. لكن، وعلى عكس من يفترض أن النظام يوظّف العنف لمجرد الحفاظ على هيمنة بشار الأسد، فإن هدفه الاستراتيجي سيتغيّر في الواقع، إن لم يكن قد تغيّر بالفعل. وهذا الهدف، منطقياً، لا يمكن أن يكون سوى استعادة المداخل إلى رؤوس الأموال والأسواق الخارجية، والعمل على رفع العقوبات عن كاهله.
نظرياً، لا أمل تقريباً للنظام في تحقيق هذا الهدف بالطرق الديبلوماسية. فروسيا وإيران غير قادرتين على توفير الرساميل والأصول على النطاق الواسع المطلوب، لا بل هما امتنعتا عن القيام بذلك حتى في ذروة حاجة النظام إليها إبّان تصاعد وتائر الحرب. بيد أن الأطراف التي تحوز على أكبر المزايا والقدرات المالية والاقتصادية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي وتركيا) ستتردد، إن لم تكن سترفض كلياً، رفع العقوبات الثنائية أو السماح للنظام بالدخول غير المقيّد إلى الأسواق العالمية. ولذا، سيواصل هذا الأخير انتهاج مسلك الحرب داخل سورية، مُستخدماً الحاجات الإنسانية وخطر نزوح موجات جديدة من اللاجئين إلى البلدان المجاورة وما وراءها، كأداة لحمل القوى الخارجية على الرضوخ إلى مطالبه.
الأرجح أن روسيا ستتواطأ مع مثل هذا السيناريو، ولو على مضض. فهي تريد إبرام صفقة سلام والوصول إلى خواتيم واضحة للنزاع، لكنها تفتقد إلى ما يكفي من النفوذ لحمل نظام الأسد على قبول حتى الشروط الملائمة له والمُتضمنة في الاقتراح الروسي للتسوية السياسية. وبالتالي، بدلاً من الانخراط في تنافس عقيم مع النظام، من المحتمل أكثر أن تتبنى روسيا مطالبه حول رفع العقوبات وتوفير المساعدة المالية، حين تستأنف المحادثات مع الإدارة الأميركية الجديدة. ولتحقيق هذا الهدف، ستجادل روسيا بأنه ليس في وسع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وباقي أطراف المجتمع الدولي أن تطالب بمرحلة انتقالية في سورية فيما هي تقوّض في الوقت نفسه فرص نجاحها، من خلال مواصلة فرض العقوبات والحظر التجاري. كما أنها قد تضغط على دول مجلس التعاون الخليجي بدعوى تعويض النظام نتيجة دعمها «الإرهابيين» الذين يزعم أنهم دمّروا سورية.
لن يراوح النظام السوري مكانه بانتظار حصول هذه النتائج، بل هو بدأ يستعد بالفعل لطرق أبواب مداخل أخرى إلى الرساميل. فقد أصدرت الحكومة السورية منذ أواخر 2015، ما وصفه المحلل الاقتصادي السوري جهاد يازجي بـ «سعر» من القوانين الجديدة لاجتذاب الاستثمارات، شملت إعفاء الشركات من متأخرات الضرائب، والقيمة المضافة (VAT) ومدفوعات الضمان الاجتماعي. كما تضمنت تأسيس هيئات جديدة لتطوير الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، ولتشجيع الإنتاج المحلي والتصدير، وفرض زيادات كبيرة على ضريبتي الدخل والعقارات، وتغيير قواعد التخطيط المديني للسماح باستبدال الإسكان غير الرسمي في المناطق المتمردة بمشاريع عقارية تجارية مرتفعة القيمة. هذا علاوة على تشريعات تتعلّق بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، هدفها منح رجال الأعمال حصة كبيرة في المشاريع التي تموّلها الحكومة وحقوق استخدام الأراضي المملوكة للدولة، وتأسيس «المجلس السوري للحديد والصلب» توقعاً لطفرة إعمار ضخمة.
مثل هذه التوجهات لا تستهدف المستثمرين السوريين وحدهم. فعلى رغم الحملات الكلامية العنيفة بين تركيا وسورية، إلا أن للأولى مصلحة اقتصادية كبيرة في طرق أبواب العودة إلى السوق السورية. وكذا الأمر بالنسبة إلى لبنان والأردن اللذين عانيا أكثر من غيرهما اقتصادياً، ويتحرقان الآن لإعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، وإنعاش قطاعات المصارف والأعمال فيهما من خلال عودة الانفتاح على سورية. هذا إضافة إلى أن إيران، وربما بلداناً أخرى كالصين، قد توسّع استثماراتها في سورية، من دون انتظار رفع العقوبات الغربية أو الخليجية، أو حتى قبل توقف النزاع المسلّح.
تواجه الحكومات الغربية والحليفة معضلة. فهي تسعى إلى وقف سيل الدم وتدفق اللاجئين السوريين، ولكن نفوذها محدود حيال نشاطات البلدان الأخرى والجهات الفاعلة الخاصة. فقد يجد الساعون إلى دعم الجبهة الديبلوماسية ضد نظام الأسد أنهم يواجهون معركة صعبة للإبقاء على العقوبات الاقتصادية والمالية. وبالفعل، بدأ مبعوثون غربيون ووكالات ومنظمات إغاثة دولية والبنك الدولي يركزون في شكل مضطرد على الحاجة إلى الاستعداد لإعادة البناء الاقتصادي في سورية.
كلما تصاعد التوتر إلى ذروة جديدة، في الحروب بالواسطة بين موسكو وواشنطن، ركض جون كيري وسيرغي لافروف إلى احتوائها تحت عنوان إدارة الحرب وتنظيمها. هذا ما ينطوي عليه اجتماع لوزان غداً، ومن ثم اجتماع لندن، اللذان بادر إلى اقتراحهما الأول وتولى الثاني الإعلان عن أحدهما في «تواطؤ» يُظهر حاجة كل منهما إلى العودة عن الحملات المتبادلة التي أوحت بذهابهما إلى مواجهة في حرب لن تقع، نتيجة فضيحة مجازر حلب التي يقترفها الروس ولا يكترث لها الأميركيون على رغم احتجاجهم عليها.
يحتاج كل من الدولتين إلى تنظيم التنافس والتحارب بين الدول الإقليمية التي تخوضان جانباً من حروب سورية والمنطقة بواسطتها أيضا، فتدعوانها إلى الحضور. وإذا كان انفلات الوحشية الروسية والسورية والإيرانية من عقالها في سورية بلغ حداً لا تحتمله أوروبا، فإن الإدارة الأميركية معنية برفع الصوت ضدها، مدركة سلفاً ضرورة اقتصار المواجهة على الميدان الديبلوماسي. وكذلك روسيا، التي تستدرج النقمة الدولية عليها كل مرة تضع أوامر فلاديمير بوتين إلى آلته العسكرية القيصر في موقع الاتهام في مجلس الأمن ليضطر إلى استخدام الفيتو.
الموجة الأخيرة من المجازر في سورية، والأهداف العسكرية التي تتوخاها، ومنها استعادة شرق حلب، أخذت تُخرج إدارة الحرب عن السيطرة، لتمتد المواجهة إلى الإقليم برمته. في سورية لم يقتصر الأمر على حلب، بل تعداها إلى حماة ومحيط دمشق، فتحت غطاء خفض القصف الجوي الأسدي فوق العاصمة الاقتصادية المدمرة شمالاً من الطيران السوري ليومين، بأمر روسي، للتخفيف من الحملة العالمية على موسكو، جرى استهداف هائل من النظام لبعض محيط العاصمة السياسية دمشق، حجبه في الإعلام الضجيج في شأن حلب. يقول سكان دمشق إن ما تعرضت له منطقتا الهامة وقدسيا المكتظتان الأسبوع الماضي، ثم مخيم خان الشيح الفلسطيني في الغوطة الغربية، وشمل تدمير مستشفيات، لا يقل وحشية عما شهدته حلب. والمعارضة ردت بإعادة القصف على أحياء في العاصمة بعد أن كان اختفى لأشهر. وشمل استهداف السفارة الروسية.
في جنوب سورية، ظهرت صواريخ مضادة للطائرات (قصيرة المدى تطاول المروحيات) في رسالة الى إمكان تزويد المعارضة بصواريخ أبعد مدى. وفي الشمال أخذ التنافس بين تركيا (ودول عربية معها) وبين قوات إيرانية وكردية مدعومة أميركياً (تتوجس تركيا من وصلها مناطق كردية) على من يحتل مدينة الباب، المدخل إلى الرقة معقل «داعش»، يؤشر إلى صدامات بين الدول المتنافسة على من يسيطر على تلك المحافظة عند بدء معركة طرد «داعش» منها. وهو التنافس ذاته الذي يحصل مثله في العراق، في الموصل، ويسبب أزمة وتوتراً بين الحكومتين العراقية والتركية بسب وجود قوات الأخيرة في معسكر بعشيقة، بحجة منع حزب العمال الكردستاني ومعه الميليشيات الشيعية من السيطرة على المدينة، فمن الموصل قد يُفتح الطريق إلى الحدود العراقية السورية، نحو الحسكة ودير الزور ثم الرقة.
يصعب فصل التصعيد في اليمن عما يدور في سورية، على رغم البُعد الجغرافي، فالمراهقة الحوثية التي يبشر الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله بانتصارها على السعودية منذ أكثر من سنة ونصف السنة، تتعرض للانكفاء التدريجي، قياساً إلى المناطق التي سيطر عليها انقلابيو صنعاء أواخر عام 2014، وصولاً إلى عدن وموانئ البحر الأحمر. وحين يستعيض عنها الإيرانيون بإرسال نصرالله المراهقين الحوثيين إلى الحدود السعودية لاقتحامها، كما فعل في خطابه الثلثاء الماضي، يسقط الفتية الذين جندهم الحوثي موجة وراء أخرى، من دون أن يرف لراعيهم جفن، تماماً مثلما لا يرف جفن لروسيا وإيران أمام ما يحصل لأطفال ونساء حلب وغيرها. ثم يستعيض عن ذلك بإطلاق الصواريخ البعيدة المدى إلى العمق السعودي. وعندما تسقطها دفاعات الباتريوت، تلجأ طهران إلى تهديد الملاحة في باب المندب باستهداف سفينة مساعدات إغاثية إماراتية. وحين تقوم الرياض بمناورات بحرية، تستكمل طهران المراهقة الحوثية بإطلاق صواريخ على مدمرة أميركية، ثم ترسل سفينتين حربيتين إلى خليج عدن بعدما قصف الأميركيون المواقع الحوثية مصدر القصف.
قد يكون اجتماعا لوزان ولندن لتنظيم الحرب في الإقليم. وقد يهدفان إلى حصرها بميادين محددة، كي لا يحرجهما تمادي اللاعبين الإقليميين.
الأفدح هو أن تتوهم المعارضة السورية أن اجتماعات كهذه ستعيد المسار السياسي إلى السكة. فتغييب أي من السوريين عن البحث هو المكتوب الذي يقرأ من عنوانه. وحضورهم لن يحصل إلا إذا توحدت فصائل المعارضة جدياً في جبهة تحرير بلدٍ بات محتلاً بالكامل.
مما لا شك فيه أن الشعب هو منبع كل ثورة تخرج ضد الظلم و الطغيان ، و أساس كل تحرك يهدف إلى تغيير نظام حكم اضطهده و سلب حقوقه و حاربه بلقمة عيشه ، و لا ريب أنه المحرك و المولِّد لكل انتفاضة تخرج ضد نظام أو حزب استبدادي تطالبه بالرحيل و تنشد التغيير ، و من هنا من هذا الشعب تولد الثورات، تبدأ بحدثٍ صغير يكون تلك “القشة التي قصمت ظهر البعير” و لا يلبث أن يتحول الحدث إلى شرارة يشتعل بها أتون الغضب و الحقد على من استبد و ظلم و تحكم ، و لا تلبث هذه النيران المتقدة بالقلوب و العقول ، المتولدة من جحيم المعاناة و التعب و شظف العيش ، أن تتحول إلى ثورة عارمة .. يحوطها الشعب ويرعاها.. يؤيدها ويكلؤها بعين رعايته، يأمن لها أسباب العيش و الاستمرار و يوفر لها الحضن الدافئ و الحامي.
هي الثورة السورية كما كل الثورات على مر التاريخ، ولدت من رحم الشعب، و خرجت من خاصرته بما رافق هذا الخروج من الم و مكابدة وصبر، لتنتفض ضد نظام استبد بوطن ما يزيد على خمسة عقود، نظام استبد و قتل و أجرم و سرق و نهب.
هي ثورة فطرية عفوية بدأت بكتابات أطفال على جدران مدارسهم لتستعر كما النار بالهشيم و تنتقل من جدران مدرسة لتغدو على مساحة كل شبر بأرض الوطن، ثورة بدأت سلمية و استمرت كذلك ما وسعها الأمر ، و بفطرتها السليمة كذلك و عفويتها بدأت بالتحول للعسكرة لتدافع عن نفسها ضد بطش لم يُشْهد له نظير بالتاريخ، حملت السلاح لتطبق معايير كل الديانات السماوية و الأعراف الإنسانية بحق رد الظلم و حفظ النفس ، و بدأت كتائب الثوار بالتشكل و الظهور ، فظهر الجيش الحر الذي كان ابن ثورة الشعب البكر ، يحمل خصائصه و تفاصيله ، يحوي أطيافه و اثنياته، و يرفع راية استقلاله عن المستعمر، لا يتميز فيه ثائر عن ثائر إلا بالخلق و الشجاعة و الإقدام و ما يحمله من فكر و حرية ، ليظهر بعده تشكيلات مختلفة و فصائل متعددة و رايات متباينة ، كل منها له هدف و يقوده منهج و يحركه فكر ، منها المعتدل و الإسلامي و المتطرف والمغالي بالتطرف.
تحولت الثورة للعسكرة، و باتت تشكيلاتها تتنازع المناطق و الأهداف و الوجود و الموارد، و لم تنسَ هذه الفصائل بطبيعة الحال أهم سبب من أسباب قوتها و اهم مصدر من مصادر شرعيتها، و أقوى محرض على استمراريتها و هو الشعب .. تلك الحاضنة الاجتماعية الأساس و المركز، فسعت التشكيلات و الفصائل إلى كسب ودها و استقطابها كل منهم على حساب الفصائل و التشكيلات الأخرى ، و كما تعددت مشارب و أهداف هذه الفصائل فقد تعددت أساليبهم بجذب هذه الحاضنة الشعبية تجاههم، فمنهم حاورها و اندمج بها و أعانها قدر استطاعته، و منهم من تكبر عليها و أهملها و منهم من حاول سوقها بالحديد و النار و القهر و الإرهاب ، و منهم من ظن انه الوصي الشرعي عليها بعد تقهقر النظام من بين ظهرانيها ، و مارس أغلبهم البراغماتية المحضة بداية بالتزلف لنيل رضاها و التقرب منها ، ثم اظهر وجهه القبيح بأهدافه المناطقية أو الشخصية أو الأيدولوجية، فلفظته الحاضنة الشعبية التي عولت عليه و عول عليها .. لينتهي التشكيل أو يضمحل أو يتقوقع على نفسه برأس جبل أو بطن وادي.
الثورة السورية ثورة مُمحِصةٌ كاشفة، و الحاضنة الشعبية تحوي بوعيها الجمعي حضارة عمرها آلاف السنين، و الشعب الذي أطلق هذه الثورة “بمشيئة الله” قادر على أن يميز الخبيث من الطيب ، و أن يفرق بين الغث و السمين، و لكنه شعب كَهلْ صقلته التجارب و السنون، يعطي الفرصة لمن يطلبها، و يتمهل بالحكم ليرى النتائج، و لكنه لا يصبر على ضيم، و لن يستبدل مستبد بمستبد .. فليعي من يتطلع ليلي أمره بالسلاح أو بالسياسة .. أن يحقق طموحات هذا الشعب و أن يلامس ألمه و أن يثبت عزمه على تحقيق أمله .. فبهذا يستمر و بهذا يحوز رضاه و بهذا يمتلك قلوب و عقول “الحاضنة الشعبية”.