مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٩ أكتوبر ٢٠١٦
من حلب إلى الموصل.. عودة الجدار العثماني

على أبواب الموصل، أطلق الأتراك والعرب صافرة الإنذار، وحذروا كل الأطراف المشاركة في تحريرها من مغبة اللعب بالتوازن السكاني للمدينة وما حولها.

فخديعة مشاركة بعض الأطراف في هذه المعركة تحت ذريعة محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، ما هي إلا غطاء من أجل فرض الهيمنة على هذه المنطقة. وفي قناعة الأتراك ودول الخليج أن هذه الجهات لن تتوانى، من أجل الوصول إلى أهدافها، عن دفع ميليشياتها الطائفية إلى تكرار ما فعلته في مناطق أخرى تم طرد التنظيم الإرهابي منها، والقيام بعملية تطهير عرقي تؤدي إلى تغيير ديموغرافي، مما سوف يخرج المعركة عن أهدافها، ويتحول الخلاص من «داعش» إلى كابوس، يؤدي إلى إخلاء الموصل من أهلها، في إطار سياسة تهجير منظم، تنفذها ميليشيات مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، الطامح إلى تأمين ممرات برية بين إيران وسوريا عبر شمال العراق، تؤمن لعدده وعتاده عبورًا آمنًا إلى الشمال السوري وصولاً إلى مدينة حلب، وهذا ما استفزّ أنقرة، ودفع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى رفع مستوى التحدي في تصريحاته، حيث أكد أول من أمس (الاثنين) أن قواته ستشارك في معركة تحرير الموصل «شاءوا أم أبوا».

تستحوذ الموصل وحلب على الحيز الأكبر من الذاكرة التركية العثمانية، خصوصًا بعد أن أعادت أحداث المنطقة المتسارعة الاعتبار لموقعهما الجغرافي، ضمن المجال الحيوي التركي، مما دفع أنقرة إلى المجاهرة بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي في لحظة اضطراب جيو - سياسية تعصف بالمنطقة، دفاعًا عن فضائها الاستراتيجي في سوريا والعراق. هذا التحول في الموقف، يعتمد في جزء من حساباته على الذاكرة العربية - التركية في غلافها العثماني، وفي محاولة استرجاعها، لتوظيفها في إطار المصالح المشتركة بين الجانبين التركي والعربي، حيث يتوجب عليهما تنقية الذاكرة من رواسب تاريخية أليمة وضرورة تجاوزها.

ففي بداية القرن السادس عشر، لم تتأخر السلطنة العثمانية في الرد السريع والحاسم على تواطؤ الحاكم الجديد لإيران، شاه إسماعيل الصفوي، مع البرتغاليين والمماليك، ومحاولته المبكرة الالتفاف على الدولة العثمانية والاستعانة بالبرتغاليين من أجل الوصول إلى اليمن والحجاز، وبالمماليك بهدف الحصول على موطئ قدم في بلاد الشام، لكنه دفع الثمن سريعًا على جرائمه المذهبية في بغداد، التي احتلها سنة 1508، والتي فرضت عليه منازلة حاسمة مع العثمانيين في جالديران في عام 1514، وتلتها معركة مرج دابق سنة 1516 بين العثمانيين ومماليك مصر، الذين وقفوا إلى جانب الصفويين ضد العثمانيين، وقد شكل الانتصار العثماني في كلتا المعركتين نهاية للطموحات الصفوية في الولايات العربية، وإلى سيطرة السلطان سليم الأول على بلاد الشام ومصر، لتعيش إيران طوال قرون عقدة الجدار العثماني، الذي حاصرها داخل الهضبة الإيرانية وجعلها بين فكي كماشة تركي وعربي يشكلان الأغلبية الإسلامية.

وعليه، فقد شكل لقاء الرياض الذي جمع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي مع نظيرهم التركي يوم الخميس الماضي، نقطة تحول بنّاءة تؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات الثنائية، تفرض التوصل إلى حد أدنى من توافق المصالح،
الذي يعزز القدرة تدريجيًا على التوصل إلى تفاهمات استراتيجية طويلة الأمد، تهيئ لقيام رؤية مشتركة حول أغلب قضايا المنطقة، من خلال إعادة تجميع للمكونين الرئيسيين العربي والتركي، باعتبارهما يشكلان الجدار العثماني، الذي كان لقرون عدة السد المنيع بوجه أغلب الغزاة الذين حاولوا العبور باتجاه شرق المتوسط.

مرة جديدة تستغرق طهران في قراءة الأحجام والإمكانيات وفقًا لشروطها، وتراهن على الطائرات الروسية في حلب، والأميركية في الموصل، من أجل القفز فوق حدود سايكس – بيكو، وتجاوز ثوابت مائة عام من الموروث العثماني الذي تتشارك أنقرة والعواصم الخليجية في الحفاظ على حدوده التاريخية في العراق وسوريا، حماية التوازن السكاني الذي يتعرض لعملية تغيير مدروسة، مما يجعل احتمال الرد التركي السعودي الخليجي على العبث الإيراني والغطرسة الروسية أمرًا غير مستبعد، خصوصًا بعد التصريح الأخير لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير، الذي قال إن بلاده ستقدم المزيد من السلاح للمعارضة السورية، الذي لن يتم دون المشاركة التركية، التي ستجد نفسها قريبًا مضطرة للتوازن في علاقتها مع موسكو وطهران، حيث لن تقف مصالحها الاقتصادية معهما عائقًا أمام الدفاع عن حلب والموصل، بعدما أصبحت عملية درع الفرات والانتشار في قاعدة بعشيقة تحظيان بغطاء إقليمي.

دون أوهام أو رهانات مصيرية، حسم الأتراك وعرب الخليج أمرهم وأصبحوا أكثر استعدادًا لإنجاز تقاربات تحفظ لكل طرف خصوصياته، وما التحية التي ألقاها وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد على قبر مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك إلا المؤشر الصريح للمكان الذي تنطلق منه ورشة إعادة التأسيس للعلاقات التركية – الخليجية.

اقرأ المزيد
١٩ أكتوبر ٢٠١٦
الولايات المتحدة الأمريكية مخطئة في تجاهل وجود حزب الله في سوريا

تسربت مؤخراً إلى العلن تسجيلات كان من المفترض أن تبقى قيد السرية لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري، ما ورد في هذه التسجيلات من كلام كيري عندما خاطب مجموعة من المعارضين والناشطين السوريين، ربما تعكس الأسباب الحقيقية وراء عدم استهداف الولايات المتحدة لعناصر حزب الله العاملة في سوريا.

فبحسب وزير الخارجية كيري، فإن حزب الله "لا يتآمر ضد" مصالح الولايات المتحدة، واستناداً لهذه الحقيقة قررت الإدارة الأمريكية غض الطرف عن أنشطة الحزب في سوريا. قد لا يظهر الخطر من التغاضي عن نشاطات حزب الله في سوريا مباشرة على المصالح الأمريكية، لكن المشكلة في أن التغاضي عن نشاطات حزب الله في سوريا لها آثار بعيدة المدى، فالرؤى والمصالح المختلفة التي لدى الطرفين فكونه لا يستهدف حالياً المصالح الأمريكية لا يعني ذلك أن هناك توافقا في الرؤى لدى الطرفين ولا يعني أيضاً أن الحزب لا يتآمر بشكل مباشر أو غير مباشر ضد المصالح الأمريكية.

بعض الخبراء والمحللين السياسيين الغربيين يعتقدون بأن ظاهرة الميليشيات الشيعية المتطرفة ليس لديها ذلك الصدى والتأثير على المصالح الغربية في المنطقة مقارنة بنظيرتها السنية مثل داعش والقاعدة، من المرجح اليوم أن نشهد عودة قوية لظهور ما يسمى بالهلال الشيعي في المنطقة سببه الدفع لفرض واقع جديد بالقوة المسلحة من خلال الدعم الإيراني لميليشيات مسلحة كحزب الله وغيره من الميليشيات الشيعية المتطرفة في سوريا والعراق واليمن ولبنان والبحرين، إضافة إلى تجنيد عناصر مدفوعة طائفياً من أفغانستان وباكستان. هذا التحول سوف يؤجج حالة عدم الاستقرار في حال ترك الأمر على ما هو عليه وسيؤثر على المصالح الأمريكية في المنطقة بغض النظر عن من يتآمر بشكل مباشر أو غير مباشر على المصالح الأمريكية بل سيرسل المنطقة كلها إلى الجحيم.

الفيلسوف الألماني هيجل يقول إن التاريخ يعيد نفسه كما تعيد الشمس دورتها من نقطة الانقلاب، مقولة هيجل تلك وباستعراض تاريخي سريع يتبين أن الدول الراعية والداعمة للجماعات الفاعلة غير الحكومية بهدف التدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى، هو عبارة عن عامل زعزعة للاستقرار ككل، فقد عانت مثلا دول الخليج السنية، حلفاء الغرب والولايات المتحدة ولفترة طويلة من أطماع إيران الجيوسياسية لفرض هيمنتها على المنطقة.

نصّبت طهران نفسها من خلال ولاية الفقيه، المدرسة التي استحضرها وبلورها مؤسس جمهورية إيران الإسلامية آية الله الخميني، كممثل عن المسلمين الشيعة في العالم. تبدو الاختلافات بين إيران وباقي المجتمعات الشيعية في العالم العربي في المعتقدات واللغة والثقافة غير مهمة وليست ذات علاقة طالما أن حزب الله يلمع في هذه المجتمعات كعلامة تجارية لشرعنة أسباب وجوده مدعوما من إيران في المنطقة.

خلق هذا الرابط الخاطئ بين إيران والمجتمعات الشيعية من خلال حزب الله هو بمثابة حجر أساس لاستيراد فكر الفكر الثوري الإيراني والتفسير المتشدد للدين الإسلامي. إذا كانت سياسة "الاحتواء" هي سياسة أمريكا تجاه إيران، فإن رسالة كيري تعتبر غير منطقية بعض الشيء. إنه من مصلحة الجميع وليس فقط أمريكا كبح جناح نشاطات حزب الله وتحجيمه.

تاريخياً ظهر حزب الله في لبنان مدعوماً من إيران عام ١٩٨٢، ومنذ تأسيسه، أعلنت هذه الميليشيا الشيعية هدفها الرئيسي وهو تدمير والقضاء على إسرائيل، حليف أمريكا الأساسي في الشرق الأوسط. اعتنق حزب الله الفكر الإيديولوجي المتطرف لإيران والذي ينادي بإقامة جمهورية إسلامية بناء على تفسير متعصب ومتشدد للقرآن. عقيدة حزب الله وداعش قد تكون تختلف ولكنهما يلتقيان في التطرف بغض النظر عن المسميات.

لقد عمل حزب الله على تثبيت أقدامه من خلال تكتيكات حرب العصابات والتي كانت واضحة بشكل جلي وحتى قبل ظهور القاعدة أو أي حركة إسلامية سنية متشددة للقتال في العراق أو سوريا. يملك حزب الله تاريخا في الهجوم على أهداف أمريكية وإسرائيلية حول العالم. فتفجيرات بيروت عام ١٩٨٣ والتي نتج عنها خسارة ٢٤١ من الأمريكيين العاملين في الحكومة الأمريكية خير دليل، وقد قادت التحقيقات إلى ضلوع حزب الله في العملية. إن سجل حزب الله حافل ويعبر عن الكثير من النوايا الانتقامية تجاه أمريكا وحلفائها.

تجاهلت الاستراتيجية الأمريكية الحالية وبشكل فاضح قلق حلفائها في المنطقة. فبعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران، عبرت كل من إسرائيل والمملكة العربية السعودية عن حالة عدم الثقة تجاه إيران وعدم الرضا من العلاقة الجديدة التي نشأت بينهما. أفضى توقيع المعاهدة إلى رفع العقوبات عن إيران، وبالتالي أعطى هذا الأمر للحرس الثوري الإيراني- فرع من الجيش الايراني- مساحة جديدة للعمل بشكل حر وبدون قيود في المنطقة وبالأخص في سوريا والعراق من خلال استخدام الأموال التي تم تحريرها لدعم جماعاته المسلحة في المنطقة كحزب الله. نتيجة لذلك، لم تعد تستطيع الولايات المتحدة الضغط على إيران لتغيير موقفها في سوريا مما أدى إلى ارتفاع حدة التوتر بين الطرفين الأمريكي والإيراني.

الأمر هو مسألة وقت ليس أكثر قبل أن يقوم "محور المقاومة" بتفعيل سلسلة من العمليات المباشرة والكاملة لاستهداف ليس فقط المصالح الأمريكية في المنطقة بل أيضا مصالح حلفائها. هذا إذا افترضنا جدلا أن القائمين على وضع السياسات الأمريكية على علم كامل بتبعات ونتائج الفكر الإيديولوجي القائم على بناء جمهورية إسلامية مشابهة للخلافة الإسلامية بفكر داعش من خلال تفسير متشدد للقرآن واستخدام القوة العسكرية لتطبيقه وإرهاب الآخرين. تماما بشكل مماثل للفكر السلفي الجهادي لجماعات مثل داعش والقاعدة، فإن ولاية الفقيه تؤمن بأهمية تقديم الأسباب الدينية لتبرير وشرعنة تجنيد المقاتلين ودفعهم للموت تحت غطاء الشهادة من خلال استهداف "الشيطان الأكبر" الغرب وحلفائه.

هناك توافق دولي على أن الأمل الوحيد في سوريا لوضع حد للحرب هو العمل على تسوية سياسية تقبل بها جميع الأطراف المتناحرة. يتم من خلال هذه التسوية السياسية وضع حل لمشكلة الأسد والجماعات المسلحة الشيعية التابعة له، وروسيا من جهة، والجماعات المتطرفة الأخرى كداعش وجبهة فتح الشام من جهة أخرى. كل هذه الأطراف يجب أن تتحمل المسؤولية وتبعات الموقف في سوريا>

ومع هذا، على الغرب أن يفهم أن الأسد هو السبب الرئيسي لاستمرار دوامة العنف في سوريا. ولا يمكن للأسد أن يكون جزءا من الحل، ولكن على الأرجح ووفق ما تفيد به وقائع الديموغرافيا والنماذج الموجودة لهياكل أنظمة الحكم في المنطقة، قد يكون من الأفضل استبدال شخصية الأسد بشخصية سنية لتقود مجلسا وطنيا مكونا من ممثلين عن كافة الأطراف المتنازعة بما فيها المعارضة المسلحة المعتدلة وممثلون عن النظام. بالإضافة إلى وضع دستور وعقد اجتماعي جديد يحمي حقوق الأقليات الدينية والعرقية في سوريا. يمكن لهكذا مقترح أن يلقى أذنا صاغية لدى روسيا و بالأخص أن ميدفيديف سابقا عبر أن مصلحة روسيا تكمن في إبقاء سوريا حليفا لروسيا وليس في شخص الأسد.

المهمة القادمة التي ستضطلع بها الإدارة الأمريكية الجديدة وحلفائها في الغرب هي العمل على إعادة بناء الثقة مع حلفائهم التقليديين في المنطقة كتركيا، والأردن، ودول الخليج. هذا يعني إشراك الأوربيين في محادثات ثنائية وجماعية مع باقي الأطراف لبحث تسويات مختلفة يمكن أن تتوافق عليها هذه الأطراف. من الممكن أن الوزير كيري ينظر إلى أن القضاء على المتطرفين السنة كأولوية في الصراع، لكن لا يمكنه أن يشيح بنظره عن قوة طائفية متطرفة أخرى في المنطقة كحزب الله. في وضع فوضوي كما هو حال المنطقة الآن، الموضوع ليس سوى مسألة وقت قبل أن تصبح الميليشيات الشيعية المتطرفة خطرا مباشرا جديا على الولايات المتحدة الأمريكية.

اقرأ المزيد
١٩ أكتوبر ٢٠١٦
إرث أوباما عربياً

مع بلوغ إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، نهاية الشوط، أخذ الحديث عن إرثه يتسع، والجدل بشأنه يتعمق. يجد أنصار الرئيس ومحازبوه الكثير لقوله في إنجازاته الداخلية، بدءاً بمشروع الضمان الصحي الذي انتشل نحو 46 مليون أميركي من براثن الموت والإهمال، وصولاً إلى إنقاذ الاقتصاد من أزمة الرهن العقاري، وانتهاء بتخفيض البطالة من نحو 9%، عشية توليه الحكم، إلى أقل من 6% اليوم. أما عندما يصل التقييم إلى السياسة الخارجية، وتحديداً ما يتصل منها بالمنطقة العربية، هنا تبدأ عملية التبرير، من ذلك القول إن الرجل بدأ "كارتر وانتهى نيكسون"، وهو زعمٌ يراد منه أن أوباما بدأ عهده رافعاً لواء نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، لكن ظروف المنطقة وفشل الثورات العربية في بلوغ نهاياتها المأمولة، انتهت به (واقعياً) مكيافيلياً، كما ريتشارد نيكسون الذي قدّم مصالح أميركا الأمنية والاستراتيجية على ما سواها، حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بالديمقراطية ودعم الانقلابات العسكرية، كما حصل في تشيلي، عندما رعت المخابرات الأميركية إطاحة الحكم المنتخب لسيلفادور الليندي، والمجيء بديكتاتورية أوغستو بينوشيه.

مشكلة هذا التشبيه ليست فقط أنه لا يصلح تبريراً لاختلاف الظروف وانعدام أوجه المقارنة، بل لأن فيه كثيرا من عدم الدقة والمراهنة على قصر الذاكرة أيضاً. فمنذ أيام حكمه الأولى، اختط أوباما لنفسه منهجاً في السياسة الخارجية، لا يراعي فيه إلا المصالح الأميركية، كما رأتها إدارته. وعليه، لم يتردّد أوباما يوماً في دفن كل الطموحات الديمقراطية لأبناء المنطقة، وفي تسفيه أحلامهم في حياةٍ حرةٍ كريمةٍ، عندما اقتضت المصلحة ذلك، وهو أمرٌ، حصل، بالمناسبة، قبل وقت طويل من اندلاع ثورات الربيع العربي. ولأنه كان يطمح إلى تعاون إيران في تحقيق استقرار نسبي في العراق، يسمح له بإنجاز وعده الانتخابي بسحب قواته من هناك، بحلول نهاية عام 2011، رفض أوباما دعم الثورة الخضراء التي اندلعت في يونيو/ حزيران 2009، احتجاجاً على مزاعم بتزوير الانتخابات لصالح الرئيس محمود أحمدي نجاد. وقد راقب أوباما حينها، بصمتٍ ملفتٍ، كيف سحق الباسيج والباسدران الحركة الاحتجاجية، وزجّوا رموزها في السجون، بمن فيهم مير حسن موسوي ومهدي كروبي اللذين مازالا قيد الإقامة الجبرية.

للسبب نفسه، ضحّى أوباما، في السنة التالية، بنتائج "العملية الديمقراطية" في العراق، وساند المسعى الإيراني إلى إعادة نوري المالكي إلى الحكم، على الرغم من أن ائتلاف دولة القانون الذي يقوده خسر انتخابات مارس/ آذار 2010 أمام القائمة العراقية التي كان يتزعمها إياد علاوي. ولم يكتف أوباما بمحاولة استرضاء إيران بدعمه بقاء المالكي، بل جعل يضغط على الأطراف الإقليمية المعارضة لهذا الخيار لتغيير موقفها، ولم يوافق على إعادة السفير الأميركي إلى دمشق، إلا بعد أن وافق النظام السوري على إسقاط معارضته المالكي الذي كان اتهم دمشق بالمسؤولية عن تفجيرات "الأربعاء الدامي" في 19 أغسطس/ آب 2009، وطالب حينها مجلس الأمن بتشكيل محكمةٍ خاصة لمحاكمة المسؤولين عن "الجريمة".

في هذا السياق، جاء الربيع العربي بمثابة مفاجأة غير سارة لإدارة الرئيس أوباما. ليس فقط لأنه هدّد الهدوء الذي حاولت فرضه في المنطقة، تمهيداً للانسحاب منها، بل لأنه كاد أن "يلخبط" لها ترتيباتها الإقليمية الأخرى، فالرئيس أوباما كان مطالباً بموقفٍ واضح من الثورات العربية، وهو أمر أخذ يتدرّج في الصعوبة، كلما انتقل الربيع العربي إلى محطة جديدة. كانت تونس أسهل المحطات، فهي صغيرة وليس فيها مصالح كبيرة، ازداد الأمر صعوبةً في مصر. مع ذلك، لم تشكل إزاحة حسني مبارك مغامرة كبرى، لأن الجيش كان ممسكاً بزمام الأمور. وفي ليبيا، لم يكن هناك، ربما باستثناء الروس، من ذرف دموعاً على رحيل معمر القذافي. كان التحدّي الحقيقي في سورية، حيث اتضح الموقف الفعلي للرئيس أوباما من مجمل مسيرة التحول الديمقراطي في المنطقة العربية. هنا، بدا أوباما شديد الحرص على عدم إزعاج إيران، ولو أدى ذلك إلى إزالة سورية عن الخريطة، حتى بعد إتمام مسيرة الانسحاب من العراق، لأن طبخة الاتفاق على حل قضية البرنامج النووي الإيراني كانت قد وضعت على نار هادئة في عُمان.

اقرأ المزيد
١٨ أكتوبر ٢٠١٦
روسيا والفخ السوري

قبل ما يقرب من عام، قال باراك أوباما "إن المجموعات المتقاتلة في سورية يجب أن تجد لنفسها طريقة للتعايش السلمي، وإلا لن نجد مناصاً من التدخل العسكري". ربما كان يشير إلى أن الخيار العسكري هو آخر أساليب العلاج، ولم يخفِ ألمه من تدخلٍ من هذا النوع، فتابع "وتدخلنا حالياً لن يفيد إلا قليلاً، فسندخل في صدامٍ محليٍّ قد يصعب الخروج منه. بدلاً من ذلك، سيدخل الروس والإيرانيون، ولن ينجح تدخلهم، وسرعان ما سيجدون أنفسهم عالقين في مستنقع". تنبأ أوباما بذلك، وهو يستعيد الدروس الأميركية السابقة في فيتنام والعراق، وعوّل عليه رداً نهائياً واستراتيجياً لمواجهة الروس، وليس لإنهاء الكارثة السورية، فقد كانت الحسابات الأميركية مع روسيا تتعدّى سورية، وصولاً إلى أوكرانيا، وتهديدات تعاظم القوة الروسية وطموحات فلاديمير بوتين الكبيرة.

تعلم بوتين دروساً من التدخل السابق في أفغانستان، فجعل قوته الضاربة في سورية، بحشد أسطول من الطائرات الحديثة. وكانت الطائرات ذات الذراع البعيدة طريقة أوباما في مواجهة التنظيمات الإرهابية. وحالياً، حقّق سلاح الجو الروسي لجيش الأسد تقدّماً مهماً، وقدّم له دعاية عالمية، حين سانده في استرجاع تدمر من يد تنظيم الدولة الإسلامية، وترك مهمة الإمساك بالأرض لجيش النظام، مدعوماً بحزب الله، مع مليشياتٍ ذات طبيعة مذهبية. وأتقن بوتين اللعبة بإعلانه، في وقت سابق، عن سحب جزء كبير من سلاحه الاستراتيجي، حين قال إن العملية قد حققت أهدافها، ولم يعد من داعٍ لوجود هذا العدد من الطائرات. وقد تلقت تلك الشائعة تصديقاً فعلياً من جهات مختلفة في العالم، قبل أن يُكتشف أن روسيا تستخدم مطاراتٍ إيرانيةً لانطلاق طائراتها نحو سورية. والآن، بعد عام على التدخل الروسي، ما زال بوتين يحافظ على السياسة العسكرية نفسها، وهي استخدام جوي مكثف، مع دعم سياسي غير محدود.

حققت روسيا هدفاً بمنع سقوط الأسد، ومنحته تفوقاً عسكرياً في مناطق كثيرة، وأصبح مصير الأسد رهن إشارة بوتين، وليس النظام القائم هو خيار الشعب السوري، كما يدّعي الروس.

وكسرت روسيا، بتدخلها في سورية، عزلةً كانت مفروضة عليها، بعد أحداث أوكرانيا، فقد صار الغرب مجبراً على التفاوض معها، بشأن دخول المساعدات إلى المناطق المنكوبة في سورية، والضغط على الأسد، كما زاد بوتين من حجم وجوده الدولي بتسيير أساطيله نحو المتوسط، ونصب صواريخه الاستراتيجية على حدود منطقة الأطلسي، وذلك بعد أن وطّد علاقاته مع إسرائيل وتركيا، كما حقق هدفاً تجارياً بتسويق أسلحته إلى دول عديدة. وأصبحت الهند والصين على قائمة الزبائن التي تطلب صواريخ "إس 400"، ومجموعة من الدول الأخرى مرشحة لدخول القائمة. تحقق لبوتين ذلك كله على حساب المناطق التي تحوّلت إلى عصفٍ مأكول في إدلب وحلب، وقد أعطب، أخيراً، قراراً دولياً بشأن وقف القصف على حلب والشروع في إدخال المساعدات.

كان جنون موسكو في حلب أكثر وضوحاً من تمسّكها باتفاقيةٍ ولدت ميتةً مع الولايات المتحدة، ولم تثمر المحاولات الدبلوماسية في لوزان، أخيراً، عن أكثر من اتفاق لمواصلة الجهود. أما أوباما فغارق في تقليب خططه البديلة، ويبدو الروس في منأى عن المستنقع الذي تنبأ به، فتكلفة الهجمات بالطائرات ما زالت مقبولة، وما زال النظام في إيران قادراً على دفع فواتيرها، والخسائر البشرية الروسية أيضاً ما زالت بحدود المقبول لدى الشعب الروسي. ومن المفروض حالياً جر الروس إلى المستنقع الذي لم يعثروا عليه بعد، فقد يصدر أوباما أوامره للتوماهوك بالتحرّك، وهو غاية ما يستطيع أن يفعله الآن. وعندها قد يسدّ الروس طرق المساعدات الإنسانية بشكل كامل، وكانوا قد وجّهوا رسالة بهذا الخصوص، عندما قصفوا قافلة المساعدات الحلبية، وفي وضعٍ مثل هذا، سيكبر مستنقع أوباما ليشمل كامل الأراضي السورية، ويصبح قادراً على ابتلاع الجميع.

اقرأ المزيد
١٨ أكتوبر ٢٠١٦
نهج الإنكار الروسي

يثير نهج الإنكار الذي يتّبعه المسؤولون الروس، في التغطية على ما ترتكبه قواتهم من جرائم في سورية بحق المدنيين في مناطق سيطرة المعارضة، استهجان معظم المتابعين للوضع السوري وساسة بعض الدول المعنية به واستغرابهم، حيث ينكر المسؤولون الروس، باستمرار، استخدام مقاتلاتهم وقاذفاتهم القنابل العنقودية والفوسفورية والارتجاجية وسواها في قصف المرافق المدنية، من مستشفياتٍ ومدارس وأسواق في مختلف المدن والقرى السورية، وخصوصاً في المناطق الشرقية من مدينة حلب، على الرغم من مئات الصور والفيديوهات التي تظهر استخدامها هذا النوع من الأسلحة غير التقليدية والمحرّمة دولياً.

ووصل الإنكار الروسي الرسمي لما يرتكبونه من فظائع إلى حدّ إنكار وزير الخارجية الروسي استهداف المقاتلات الروسية قافلة المساعدات الإنسانية في قرية أورم الكبرى في سورية، مدعياً أن المعارضة قصفتها، أو أنها تعرّضت لحريق، واتهم الطرف الأميركي بفشل الهدنة، الأمر الذي دعا إلى وصف وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، نظيره الروسي، سيرغي لافروف، بأنه "كاذب"، و"يعيش في عالمٍ مواز"، أي أنه منفصل عن الواقع، الأمر الذي يذكّر بنهج الإنكار الذي يتبعه رأس النظام السوري، المنفصل بدوره عن الواقع، مع أن تقارير مصورة وموثوقة عديدة تظهر بشكلٍ، لا لبس فيه، ارتكابهم جرائم حرب في سورية.

ولا يصمد الإنكار الروسي أمام الوقائع على الأرض، حيث أظهر أحد التقارير المصوّرة التي بثتها قناة روسيا اليوم الرسمية، عملية "تذخير" طائرة سوخوي 34 روسية بقنابل "RBK-500" العنقودية والمحرّمة دولياً، لكن التقرير، حين أعيد بثه مرة ثانية، كان ناقصاً، وتمت إعادة "المونتاج" حذفت خلالها اللقطة التي تظهر فيها القنابل. وكانت مناسبة بث التقرير، في نسخته الأولى، زيارة وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، قاعدة حميميم في ريف اللاذقية، وظهر، في سياق التقرير، جندي روسي قرب طائرة سوخوي 35، وهي تحمل قنابل عنقودية، ثم تمّت عملية إعادة بث التقرير بعد حذف اللقطة التي تظهر فيها القنابل.

ومع بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، أنكر الروس تدخلهم، وادّعوا أن مقاتلاتهم تقوم بعمليات "محدودة" فقط، وتستهدف ضرب مواقع تنظيم داعش، في حين أن عشرات التقارير الدولية أظهرت أن 80% أو أكثر من غارات المقاتلات الروسية تستهدف مواقع الجيش السوري الحر، أو ما تعرف بالمعارضة المعتدلة، مقابل أقل من 20% من الغارات الروسية التي تستهدف مناطق وجود عناصر داعش، وهي تصيب المدنيين في تلك المناطق، وليس مواقع عناصر التنظيم. وعلى الرغم من كل الأدلة، تصرّ روسيا على المضي في الإنكار في كل وسائل إعلامها.

وأظهرت صور ومقاطع فيديو للعالم أجمع استهداف المقاتلات الروسية المدنيين السوريين، واستشهاد مئات الأطفال والنساء بسبب الصواريخ الروسية، إلا أن المتحدّثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، تدّعي، على الدوام، أن كل التقارير عن قتلى بين المدنيين السوريين منحازة وملفقة وخاطئة، ولا أساس لها من الصحة، في حين أن المسؤولين الآخرين، بمن فيهم الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، يصرّان على أن معلومات تلك التقارير مغلوطة، وتستند إلى معطياتٍ كاذبة، وأن مقاتلاتهم لا ترش سوى الأرز والورود على المناطق التي تقصفها.

وتوظف روسيا آلة دعايتها الكاذبة، لتدعيم نهج الإنكار لما تقوم به في سورية، مثلما استخدمتها في الحرب على أوكرانيا، حسبما تملي عليها مصالح الإدارة الروسية، وتسيّرها امتداداً للاتحاد السوفييتي السابق، وعلى المنوال نفسه، من دون أي تغيير في نهجه الإعلامي.

وتثير تصريحات المسؤولين الروس بشأن دور مقاتلات بلادهم في سورية سخرية المتابعين للوضع في سورية، لأن أكاذيبهم باتت تحتاج إلى موسوعة غينيس خاصة بحكام روسيا الذين اعتمدوا نهج الإنكار، منذ نجاح الثورة التونسية في إسقاط رأس النظام الاستبدادي في بلادها، حين لجأوا إلى إنكار وجود حالات التشابه بين الأنظمة السياسية العربية والنظام التونسي، وسارع الساسة الروس إلى القول إن تونس ليست مصر وليست ليبيا وليست سورية، وحاولوا إنكار وجود مظاهر الاستبداد والطغيان والفساد ومواطنها في هذه البلدان، على الرغم من أنها تشكّل في كل هذه البلدان، ومن لفّ لفها، القاسم المشترك الأعظم بينها.

وبعد هروب زين العابدين بن علي، وتنحّي حسني مبارك، بقيت الآلة الإعلامية الروسية متمسكةً بالنظام الليبي حتى مقتل العقيد معمر القذافي، بل وشعر الساسة الروس أن الغرب خدعهم في ليبيا. أما حين وصلت الثورة إلى سورية فقد كان الإنكار، سياسة ونهجاً، العنوان الرئيس لخطاب جميع المسؤولين الروس ومسؤولي النظام السوري، وتوحّدت أجهزة ووسائل الإعلام في البلدين في التمسّك بنهج الإنكار، بل وحاولت، تسويق مقولة فارغة، مفادها بأن الثورات التي أطاحت نظامي بن علي وحسني مبارك لأنهما من نظم الاعتدال، وعقاباً على سياسات الإذعان والسير في ركب المخطّطات الإمبريالية والصهيونية في المنطقة. وبالتالي، فإن نظم الممانعة والمقاومة عصية على الثورات الشعبية، لأنها نظم شعبية، وتقف في وجه الهجمات والمشاريع الأميركية والصهيونية.

واتخذ الإنكار أشكالاً متنوعة، منذ بداية الحراك الاحتجاجي السوري، جسّدتها ممارسات وسياسات تنفي وجود احتجاجاتٍ شعبيةٍ، سلمية الطابع، تطالب بالحرية والكرامة، وبتغيير النظام نحو دولة مدنيةٍ تعدديةٍ وديمقراطية. وتنفي كذلك حالات القتل والقمع والاعتقال والملاحقة. وراح ساسة النظامين، الروسي والسوري، يروّجون نظرية المؤامرة، بتصوير النظام هدفاً لمؤامرةٍ خارجية، واستتبع ذلك تصوير المحتجين بصورة المغرّر بهم، وتتلاعب بهم أيد خارجية، وعملاء لقوى لا تريد الخير لسورية، وأطلقوا عليهم تسميات مندسين ومهلوسين ومخدرين وصياصنة وعرعوريين وسلفيين وعصابات إجرامية وإرهابيين، وسوى ذلك.

وكان الميل إلى إنكار وجود أزمة سياسية في سورية واضحاً وعاماً، وسياسةً رسمية، بل طاول الإنكار وجود معارضة وطنية للنظام، ورميها بتهم الإرهاب والعمالة والخيانة والارتهان للخارج.

ويشير نهج الإنكار ليس إلى حالة متعددة المظاهر والمركبات فقط، بل إلى انتفاء السياسة ومصادرتها، واغتيال صوت العقل لصالح الجنوح إلى نهج الحسم العسكري الذي لا يعرف سوى التوغل في استخدام العنف المنفلت من عقاله، والذي حصد، ومازال يحصد، أرواح مئات آلاف السوريين، إلى جانب ملايين الجرحى والمفقودين، فضلاً عمّا يزيد عن تشريد وتهجير أكثر من نصف سكان سورية.

ويصدر نهج الإنكار عن عقلٍ جامد، شعبوي التفكير والأيديولوجيا، يسكنه هوس المؤامرة، ويرمي كل المشكلات والأزمات على الآخر، ممثلاً بالغرب الاستعماري، ودول النفط، ومعها القنوات الفضائية المغرضة التي تفبرك الأحداث في سورية، وتهوّل من حجم الكارثة. وهو عقل تآمري، يقسم الناس إلى قسمين، فسطاط معنا، وآخر ضدنا، ويبيح فعل أي شيء لإسكات الفسطاط الآخر وقمعه وتصفيته.

اقرأ المزيد
١٨ أكتوبر ٢٠١٦
تغريبة الثقافة السوريّة زمن الحرب

السؤال الثاني الذي طرحته أحداث الثورة السورية عام 2011 – بعد السؤال الأول المتعلق بالموقف من «سورية الأسد» – كان عن دور المثقفين ومكانهم في خارطة الحراك.

بدا السؤال آنذاك في غاية التعقيد، مضمخاً بآثار تسطيح الثقافة وتسييس مفرزاتها على مدى عقود أربعة. ارتكز الموقف الشعبي المبدئي على مطالبة المثقفين بمناصرة الحراك انتصاراً لقيم الحرية والعدالة، والذي ما لبث أن وقع ضحية الخلط مع موقف مزاود يطالبهم بمناصرة «شعبوية الحراك» ككل، من دون التطرق إلى إشكالية التمييز بين بعد شعبوي اجتماعي وآخر ثقافي.

أدى القمع الهائل الذي مارسه النظام بحق الثورة، إلى راديكالية مفرطة في مواقفها التي عبرت عنها، بما في ذلك قوائم سوداء طويلة بحق كثر ممن عبروا عن «مخاوف»، وقوائم شرف أخرى تحفل بأسماء من أطلقوا البطاقات البيضاء للحراك ككل، وانغمسوا في تقريع الذات وضرب المقارنة المكرورة بين حذاء أصغر المتظاهرين وأكبر منجز ثقافي. ساهم هذا الخلط الباكر الذي نفذ من مسام الحراك، في تحويل بوصلة الثورة من «الديموقراطية» إلى «ديكتاتورية الأكثرية»، وهو ما ساهم في شكل واضح في تحويل «المظلومية الثورية» لاحقاً إلى «مظلومية سنية».

آنذاك، لم يكن من السهل إعادة نبش التاريخ السوري الحديث لتحديد مفهوم الثقافة المعني بهذا الخطاب، أو هوية المثقفين الذين يطلب منهم دور «رائد». هل تقتصر هذه الشريحة على المزودين بوثائق رسمية تثبت أن ثقافتهم صدرت عن اتحاد الكتاب العرب أو نقابة الفنانين أو المسرح القومي أو المعهد العالي للموسيقى والفنون المسرحية؟ أم تمتد إلى كل شخص مارس أي نشاط ثقافي في أي ناد أو صحيفة أو صفحة من صفحات الشبكات الاجتماعية؟

اجتهد كل على هواه، فلم يتح المجال واسعاً لهذا النوع من النقاش الاستطرادي. اختارت غالبية الشخصيات التي تتداول الشأن الفني أو الإعلامي، تنميط دور «المثقف» في قالب الاستعراض ضمن تظاهرات ووقفات احتجاجية في الداخل أو الخارج تنزّه الحراك عن أي نقيصة بوصفه حراك الشعب كل الشعب، وتحصد كمية ضخمة من التبريكات والمدائح و «اللايكات» جزاء انخراطها في صفوف «الثائرين» وانصهارها في بوتقتهم بإيمان مطلق.

بذلك، أصبح معيار «الوطنية» و «الثورة» مرتبطاً بمدى السباب والشتم الموجّهين إلى البعث ودولته، وانساقت هذه الفئة طوعاً أو كرهاً في وضع الحراك السوري موضع الدفاع منافحة ومدافعة عنه في كل محفل، من يساريين منافحين عن النفس الإسلامي للحراك (الذي بدوره لم يبخل عليهم بكل ذم وتقريع) إلى شخصيات تؤكد مراراً وتكراراً لا طائفية الحراك مستشهدة بتجاربها ومشاركاتها (وهي شهادات سوقت إعلامياً لا لشيء إلا لكون أصحابها منتمين إلى أقلية طائفية بعينها)، إلى وجوه سورية معروفة جرت لاهثة خلف الظهور السياسي، فخلعت عباءة الثقافة والتنوير والرؤية السياسية التي كانت تمارسها في زمن القمع والحصار الفكري، وارتدت بدلاً منها عباءة الائتلاف في «تمثيله الشرعي والوحيد للشعب السوري»، ممارسة دورها المهم في إصدار البيانات والمطالبات والإدانات والتقريع على الشاشات. وإن لم ينفع تقريع النظام والمجتمع الدولي، فإن البعض وجد في تقريع الذات خطاباً آمناً، فاندفعوا يلومون أنفسهم بوصفهم «عاجزين» و «لا يرتقون إلى تضحيات الشعب السوري العظيم».

في ظل هذه الفوضى العارمة التي ساهم النظام في تأسيس أصولها وصيانة محفزاتها، انغمس أصحاب الشأن المدني في مشاريع لا تحصى تنحصر في «إنقاذ ما يمكن إنقاذه» على مستوى شديد الراهنية مقيدين بشروط تمويلية وإدارية شتى. ولم يظهر على السطح مشروع ثقافي سوري بالمعنى العريض، أي بالمعنى غير الشخصي وغير الراهن. تبدد أصحاب الفكر والقلم والإبداع في شرق الأرض ومغربها في صحف ومجلات وشبكات تلفزيونية غير سورية، وانشغل كثير من الروائيين والكتاب في ما يمكن تقديمه عن سورية «لغير السوريين». الروائيون والشعراء في المهجر يسعون إلى ترجمة أعمالهم وكسب جولات متعددة المحطات في أوروبا والعالم، فيما تتجلى غاية كل إعلامي وصحافي في الداخل في عرض مادته أو تقريره على إحدى الشبكات العالمية.

الثقافة السورية تعاني تغريبتها الحقيقية عن السوريين أنفسهم، وتنحاز عما يحتاج السوريون إلى قوله إلى ما يستحب سماعه عند الجمهور «العالمي». إنها وصفة انهيار الثقافة السورية إلى مجرد ثقافة حرب، وهي ثقافة زائلة يمحوها المنتصر لاحقاً.

اقرأ المزيد
١٨ أكتوبر ٢٠١٦
«شرق أوسط» أوباما بين التكبيل والتواطؤ

أن يتمتع باراك أوباما، قبل أسابيع من نهاية فترة رئاسته الثانية، بنحو 55 في المائة من رضا الناخبين الأميركيين، وفق أحدث استطلاعات الرأي، لأمر جدير بالاهتمام. إنه كذلك، خصوصًا، مع تراجع سمعة أميركا في الخارج، وتدني وقارها.. لدرجة تجرؤ ميليشيا يمنية تابعة لإيران على استهداف إحدى سفنها الحربية ثلاث مرات خلال بضعة أيام!

نهاية الفترات الرئاسية، الثانية بصفة خاصة، في الولايات المتحدة تشير إلى «تعب» الناخب من سيد البيت الأبيض. وحتى الرؤساء «الكاريزميون»، مثل رونالد ريغان وبيل كلينتون، لم يحظوا بالشعبية التي ما زال يحظى بها أوباما، إذا كنا نصدق الاستطلاع الأخير. وبالأخص، أن نسبة 55 في المائة أعلى بكثير من أعلى رقم تقديري حصل عليه حتى الآن أي من المرشحين الحاليين للرئاسة؛ الديمقراطية هيلاري كلينتون والجمهوري دونالد ترامب. فما السرّ في شعبية أوباما داخل أميركا، وهو الذي فقد كثيرًا من وهجه خارجها، بل بلغ الحضيض في بعض مناطق العالم، لا سيما الشرق الأوسط؟

الأرجح أن ثمة سببين مهمين جدًا:
السبب الأول، هو الاستقرار الداخلي الذي حققه أوباما على صعيد شبكة الأمان الاجتماعية، سواء بالنسبة للرعاية الصحية، وتدني معدلات البطالة، وتحسّن أوضاع الاقتصاد ومستوى معيشة المواطن العادي الذي هزّته الأزمة المالية الكبرى عامي 2008 و2009 وتداعياتها. ومعلوم أنه في الدول الديمقراطية يحكم المواطن على أداء حاكمه في ضوء مصالحه المباشرة، قبل أي اعتبار آخر. ولهذا السبب، كسب بيل كلينتون معركته الانتخابية مع جورج بوش الأب عام 1992، تحت شعار: «إنه الاقتصاد، يا غبي».. بينما كان الرئيس الجمهوري وقادة حزبه مستغرقين بنشوة إنجازهم تحرير الكويت عام 1991. ثم فاز باراك أوباما بالرئاسة عام 2008، تحت شعار «التغيير» السحري الذي شكل الرفض الفعلي للغزو والاحتلال الكارثيين للعراق والأزمة المالية الخانقة التي اضطرت معها سلطة تبشّر بقدسية «اقتصاد السوق» عمليًا لـ«تأميم» مؤقت لبنوك وشركات صناعية وصناديق إقراض عقاري.

والسبب الثاني، المرتبط بسابقه، هو قنوط الأميركيين من المغامرات العسكرية والسياسية الخارجية، وميلهم إلى الانكفاء للاعتناء بأولوياتهم المعيشية. ومن ثم، فإن ما يعتبره كثيرون - وبالذات في منطقة الشرق الأوسط - تخاذلاً، بل خيانة من واشنطن لحلفائها على امتداد العالم، يراه المواطن والناخب العادي الذي لا يفهم لماذا على أولاده أن يموتوا في أصقاع بعيدة، سياسة حكيمة وحصيفة.

إضافة إلى هذين السببين، من الواضح أن الحزب الجمهوري، المُفترض فيه أن يشكل البديل الآيديولوجي للديمقراطيين، ذهب بعيدًا في استسلامه لغلاة اليمين، سواء من داخل أجنحته الحزبية أو اليمينيين المتطرفين الهامشيين من خارج المؤسسة الحزبية. هؤلاء - ومنهم جماعة «حفلة الشاي» وزمر الإنجيليين الأصوليين والعنصريين البيض المسيحيين - اخترقوا الحزب، وتغلغلوا في بنيته خلال العقود الأخيرة، واستولوا على شبكة تنظيماته، وفرضوا جدول أعمالهم عليه. ومن الثابت أن الحزب الجمهوري اليوم يمكن أن يكون أي شيء إلا الحزب الذي رشح أبراهام لنكولن للرئاسة، وسلّمه لواءه.

مجرّد عبارة «حزب لنكولن»، التي يحلو للجمهوريين تردادها كالببغاوات خلال المؤتمرات الوطنية لحزبهم، إهانة حقيقية للرئيس العظيم، الذي خلّد اسمه بالمحافظة على وحدة أميركا، وأسهم بتحرير العبيد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وليس أدل على ذلك من أن الأصوات الإنجيلية والعنصرية المتزمتة في ولايات الجنوب حوّلت هذه الولايات معاقل حصينة للحزب الجمهوري، بعدما كانت الحرب الأهلية (1861 - 1865) التي انتصر فيها لنكولن (الجمهوري) على انفصاليي الجنوب قد أنهت عمليًا وجود الجمهوريين السياسي فيها حتى الحرب العالمية الثانية. وفعلاً، لم يبدأ الحزب الجمهوري مسيرة العودة إلى الجنوب إلا بعدما صار حزب «اليمين المحافظ» في وجه الديمقراطيين المتجهين يسارًا.. نحو الليبرالية.

يوم 8 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، يختار الأميركيون رئيسًا جديدًا (أو رئيسة جديدة) يبدأ (أو تبدأ) عهدًا جديدًا في البيت الأبيض يوم 20 يناير (كانون الثاني) 2017. والمرجح أن يكون العهد الجديد مختلفًا عن عهد باراك أوباما، بصرف النظر عمن سيفوز، المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون أم منافسها الجمهوري دونالد ترامب؛ ذلك أن أيًا من المرشحين الاثنين يختلف جوهريًا عن الرئيس الحالي.

وبجانب الاختلاف البديهي في أن كلينتون - إذا فازت - ستكون أول امرأة تتولى الرئاسة، وأن ترامب سيكون أول «طارئ» لم يسبق له تولي أي مسؤولية سياسية يدير المكتب البيضاوي، فإن شخصيتي كلينتون وترامب وثقافتيهما السياسيتين (على تنافرهما) ونظرتيهما إلى الولايات المتحدة ودورها في العالم تختلفان عن شخصية أوباما وثقافته ونظرته. فكلينتون وترامب لا يؤمنان، مثلاً، بأن أميركا بالضرورة قوة متغطرسة ومتجبرة وعدوانية عليها الاعتذار من خصومها والانقلاب على حلفائها.

أيضًا كلينتون وترامب - رغم الفوارق بينهما - أقل اعتمادًا على «مافيا» صغيرة من المقرّبين، وأكثر التزاما بالتوافقات العريضة.. كلينتون مع كتل الكونغرس و«اللوبيات» الليبرالية والمطلبية، وترامب مع «اللوبيات» المالية والصناعية والدينية المحافظة.

ربما من السذاجة، أو التفاؤل المفرط، أن يتوقع المتابع انقلابًا في سياسة «الرئيسة» هيلاري كلينتون إزاء الشرق الأوسط، مثلاً. لكنها تظل غير مكبّلة بالاتفاق النووي الإيراني، ولا متواطئة مع طهران ضد حلفاء واشنطن التقليديين في العالم العربي وغرب آسيا، كحال أوباما. وطبعًا «الرئيس» ترامب، على الرغم من مواقفه المثيرة للجدل - وبالأخص إزاء روسيا - ستكون لديه مقاربات مختلفة عن مقاربات أوباما و«مطبخه السياسي» تجاه قضايا العالم والشرق الأوسط والإسلام والإرهاب وعلاقات واشنطن مع خصومها.. وما تبقى لها من أصدقاء.

يوم 8 نوفمبر، ستطوى في واشنطن صفحة مؤلمة بالنسبة للعالم العربي، بقدر ما هي طيبة لـ55 في المائة من الأميركيين. ولكن مع أن القرار أميركي والمصلحة أميركية، من حقنا مصارحة الناخب الأميركي بأن السياسة الخارجية بذر وحصاد، وما بذره أوباما من سلبية لن تظهر سنابله إلا بعد حين.

وحينئذٍ، طال الزمن أو قصر، سيكون تقييم التاريخ لرئاسته وتركته السياسية أصدق وأكثر موضوعية.

اقرأ المزيد
١٧ أكتوبر ٢٠١٦
قاسم سليماني وحقيقة التواجد الإيراني في سوريا

بعد أن ظل النظام الإيراني يسوق مبرراته في التدخل في الأزمة السورية، ويقدم ذريعة الدفاع عن المراقد الشيعية ليدفع بالمزيد من المقاتلين في الساحة السورية، جاء قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني ليعطي مبرراً جديداً ظل دائماً بعيداً عن تصريحات مسؤولي النظام. نسير مع القارئ الكريم لنستطلع ذلك المبرر الذي اعتبره سليماني السبب الرئيس للتواجد في سوريا. خلال الذكرى السنوية لمقتل حسين همداني في سوريا، أشار قاسم سليماني إلى أن السبب الرئيس وراء الدعم الإيراني لسوريا هو دعم هذه الدولة لإيران في الوقت الذي وقفت سائر الدول العربية ضدها في الحرب العراقية الإيرانية. كما أشار كذلك إلى أن تواجدهم في سوريا ليس دفاعاً عن سوريا فحسب، بل دفاعاً عن الإسلام وعن الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسها، مضيفاً أن «داعش» والتنظيمات التكفيرية لم يتم تشكيلها من أجل مواجهة سوريا، بل من أجل مواجهة إيران. مع بداية أحداث ما يطلق عليه «الربيع العربي» وبالرغم من تصريحات الرئيس السابق أحمدي نجاد حيال الأزمة السورية ومطالبة الأسد بالالتفات لمطالب الشعب، إلا أن الدولة العميقة في إيران تحركت باتجاه مسار آخر يضمن لها استمرار بقاء نظام الأسد وبالتالي المحافظة على مكتسباتها في هذه الدولة.

مع تزايد الضغوط على النظام السوري، انتقل النظام الإيراني بالإضافة إلى الدعم اللوجستي والتسليحي له، إلى ضرورة الدفع بعناصر مقاتلة ضد المعارضة السورية. فجاءت المراقد الشيعية بوصفها المبرر لاستقطاب عناصر شيعية للقتال في الساحة السورية.

من ذلك المنطلق، أصبح مرقد السيدة زينب العنصر الرئيس في الخطب الحماسية التي كانت تنطلق من مدينة «قم» للدفع بتجنيد عناصر للقتال. وهذا الأمر ساهم في توجه عدد من المقاتلين الأفغان والباكستانيين وغيرهم لينضموا جميعاً تحت ما عُرف ب«لواء فاطميون». في حين جاء من العراق من انضوى تحت «لواء العباس» ناهيك عن عناصر «حزب الله» اللبناني.

وبالرغم من استمرار النظام الإيراني وإعلامه التركيز على مبرر القتال في سوريا من منطلق الدفاع عن المراقد الشيعية إلا أن المكمن الرئيس الذي أعلنه قاسم سليماني أخيراً كان يتجلى بين فترة وأخرى في تصريحات عدد من المسؤولين الذين أشاروا إلى أن الدفاع عن سوريا يأتي في المقام الأول للدفاع عن إيران.

إن الأهمية الجيوستراتيجية لسوريا من المنظور الإيراني تؤكد أن الدفاع عن المراقد الشيعية في سوريا لم تكن تعدو كونها وسيلة ومبرراً من قبل النظام الإيراني للزج بتلك العناصر للقتال في سوريا.

وبالرغم من الإعلان المتكرر من قِبل النظام الإيراني أن الضباط الإيرانيين المتواجدين في سوريا لا يعدو دورهم كونه مرتبطاً بالجانب الاستشاري، إلا أن ارتفاع عدد القتلى بينهم يظهر أن القتال في الساحة السورية وانتشار تلك العناصر ليسا مرتبطين بمرقد السيدة زينب، وإنما يتعدى ذلك ليصل إلى الهدف الرئيس من التواجد في سوريا وهو ما قاله قاسم سليماني.

لاشك أن النظام الإيراني سيستمر في توظيف المذهب الشيعي لتحقيق طموحاته وتوسعاته في المنطقة، مستغلاً بذلك جوانب أخرى من الفقر والحاجة خاصة بين صفوف اللاجئين الأفغان ناهيك عن مراكزه الدينية والثقافية المتواجدة في عدة دول والتي بموجبها يستطيع تجنيد العناصر والدفع بهم إلى تلك المناطق.

واستغلال لمذهب يقع ضحيته للأسف كل من الشعب الإيراني العريق بتاريخه وحضارته ليصبح ضحية العقوبات الاقتصادية وغيرها مع استمرار هذا النظام في التدخل في شؤون المنطقة ورعايته للإرهاب، وأولئك الذين غُرِر بهم وهم لا يدركون أنهم أول الخاسرين من ذلك التوظيف.

اقرأ المزيد
١٧ أكتوبر ٢٠١٦
عندما يتحول اشتباك موسكو - واشنطن جزءاً من الأزمة!

الصراع الدائر في مرحلة الاستعداد لتحرير الموصل لا يشي بأن الولايات المتحدة تمسك جيداً بمسرح العمليات. كانت ولا تزال ترفض مشاركة «الحشد الشعبي». وعولت بداية على موقف رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي لم يبد حماسة لمشاركتهم. لكنه تراجع ودعاهم إلى الميدان بعدما نجحت إيران في إخماد الصراع بين قوى التحالف الشيعي، وأعادت لملمة صفوفه. وبعدما كبحت جماح حملة نوري المالكي لإسقاط الوزارة كلها وليس الاكتفاء بإقالة وزير الدفاع والمال. ولم تفلح دعوة واشنطن الرئيس رجب طيب أردوغان إلى التفاهم مع بغداد لتسوية وجود القوات التركية في بعشيقة. وغسلت أيديها من مشاركة القوات التركية في معركة استعادة ثاني أكبر مدن العراق. ويبدو أن أنقرة لن تتوانى عن الانخراط في الحرب، كما حصل شمال سورية، يوم اندفاعها نحو جرابلس. وهي بالطبع لن تعول على سير العمليات بقدر ما يعنيها المشهد السياسي بعد تحرير المدينة. أي خريطة توزيع القوى التي ستتقاسم «الغنيمة». فهي حريصة على عدم استئثار الميليشيات الشيعية والكردية بجغرافيا محافظة نينوى. تخشى أن يؤدي ذلك إلى تغيير ديموغرافي لا يبقي لها فرصة بناء حضور ونفوذ تعدهما جزءاً لا يتجزأ من فضائها الأمني الوطني. لذلك كرر الرئيس التركي قبل يومين أن بلاده لن تسمح لتنظيم «الدولة الإسلامية» ولا لأي تنظيم آخر بالسيطرة على الموصل.

تركيا مصممة إذاً على المشاركة في تحرير الموصل. وإذا لم تكن هذه في إطار عمليات التحالف الدولي بقيادة أميركا، فإن ثمة خطة «باء» وخطة «جيم» كما أعلنت حكومتها. لم تفصح عن تفاصيل الخطط البديلة. سيبقى غامضاً دور الأتراك في المعركة المقبلة، وكذلك حضورهم في المدينة. تماماً مثلما يظل غامضاً إلى حد ما تفاهمهم مع الروس في شأن سورية وشمالها ومدينة حلب خصوصاً. ولكن يرجح أن يكرروا ما حصل في شمال سورية: الاعتماد على قوات خاصة تتقدمها قوات من أبناء محافظة نينوى بقيادة أثيل النجيفي، المحافظ السابق للموصل، أشرفت وحدات تركية على تدريبها وتمويلها، لتشكل رأس حربة على رغم معارضة بغداد مشاركة هذه القوة المحلية. لذلك ثمة مبالغة في اعتبار حدة الخطاب السياسي للرئيس أردوغان في مواجهة حكومة بغداد، مجرد سلعة استهلاكية موجهة إلى الداخل التركي. لعله جزء من الاستعداد لمرحلة ما بعد تحرير الموصل. إذ لا يمكن أن تجازف أنقرة بإخراجها من العراق، سواء عبر علاقاتها المتينة مع رئيس الإقليم الكردي مسعود بارزاني وحزبه الديموقراطي الكردستاني، أو مع قوى سنية واسعة. إن هذا التصميم الذي تعبر عنه تصريحات كبار المسؤولين الأتراك دافعه إذاً إصرارهم على دور لبلادهم في الأزمة الدولية المتعاظمة حول سورية والمنطقة عموماً، من أجل أن تكون لها حصة في الإقليم حين يأتي زمن الصفقة الكبرى أياً كان شكلها ومآل بلدان الإقليم. ولا شك في أن تفاهمهم مع الروس يثمر بخلاف ما عدّوه «خيانة» غربية، أو تقاعساً سواء من أوروبا أو الولايات المتحدة أثناء المحاولة الإنقلابية وبعدها.

ولا يبدو أن إيران بعيدة عن التفاهم الروسي - التركي، وإن كانت تشعر بأنه يقتطع من طريق نفوذها في كل من سورية والعراق. وهو ما يخشى أن يتفاقم بعد تحرير الموصل إذا اشتعلت بين الميليشيات الشيعية والقوى السنية والتركية في المدينة والمحافظة كلها بعد انتهاء المعركة. ذلك أن طهران حريصة على إبعاد أي نفوذ لأنقرة عن بلاد المشرق. ولا ترغب في أن تقيم شريط نفوذ واسعاً يمتد من الموصل وأجزاء واسعة من كردستان إلى شمال سورية وريف حلب، يسهل لها ضبط طموحات الكرد. علماً أن بغداد ومن خلفها الجمهورية الإسلامية، تدعمان حزب العمال الكردستاني الذي اندفع إلى مناطق سنجار تحت شعار الدفاع عن الإيزيديين. كما أن طهران تحرص على عدم قيام إقليم سني في المحافظات الشمالية والغربية يلقى دعماً عربياً ويشكل تهديداً لنفوذها في بلاد الرافدين وحاجزاً يعيق سعيها إلى إقامة هلال واسع يربطها براً بدول «الهلال الخصيب» حتى شاطئ المتوسط.

لا شك في أن المشاركة المرتقبة لتركيا في معركة الموصل ستساهم في مزيد من خلط الأوراق. تماماً كما حصل إثر تدخلها المستمر شمال سورية. عرفت حكومة بن علي يلدريم كيف تعيد تموضعها في خضم الصـــراع الحاد بين الكبار والذي بات جزءاً أساسياً من الأزمة. انحازت إلى معسكر روسيا التي يبدو أنها غلّبت المســـار العسكري على الديبلوماسي في اشتباكــــها الواضح مع الولايـــات المتحدة والغرب عموماً. هكذا فعلت في أوكرانيا وقبلها فـــي جورجيا حيـــث فرضت وقائع جديـــدة تثقل على الاتحاد الأوروبي وعلى جمهوريات البلطيق. بينما كانت إدارة الرئيس باراك أوباما ولا تزال تغلب السعي الديبلوماسي مع الكرملين لعله ينتهي إلى تفاهم يوقف الحرب في سورية ويساهم في تدمير «دولة أبي بكر البغدادي» سريعاً، وينهي الفوضى في الشرق الأوسط انطلاقاً من سورية، ويمهد لبحث مشترك في نظام جديد للإقليم. لكن موسكو عبّرت وتعبّر كل يوم عن سعي إلى الاستئثار برسم هذا النظام. لذلك فشلت المحادثات بين وزيري الخارجية جون كيري وسيرغي لافروف. ولذلك تأخرت معركة تحرير الرقة. ذلك أن القوى الكردية التي راهنت عليها واشنطن منيت بخسائر بشرية فادحة في تحرير منبج. وجاء دفع تركيا قوات إلى جرابلس ورسمها خطوطاً حمراً للانتشار الكردي ليساهما في خسائر «حزب الاتحاد الكردي» وميليشياه «وحدات حماية الشعب»، وليعقدا الحرب على الإرهاب، وكذلك التفاهم على تسوية أو هدنة لوقف القتال.

سقطت وتسقط كل الخطوط الحمر التي رفعتها الإدارة الأميركية في كل من سورية والعراق من دون أي تحرك فعال سوى الإصرار على سكة ديبلوماسية انتهت وتنتهي برفع الآخرين خطوطاً حمراً يصعب المجازفة بتجاوزها. هكذا حذر الكرملين من توجيه أي ضربة إلى قوات النظام السوري لأنه يعد ذلك ضرباً لقواته. وهكذا لحقت به أنقرة التي ترفع هنا وهناك خطوطاً حمراً بوجه الكرد، خصوصاً حزب العمال والمرتبطين به وبسياسته. وكذلك تفعل إيران التي تتشدد في التمسك بالنظام السوري ورأسه وبدورها في حروب المشرق تحت شعارات وشعارات. لذلك لم يسقط الحل السياسي فحسب أمام مصالح المنخرطين في الصراع بل سقط الرهان على تفاهم الكبار منطلقاً لتسوية أزمات الإقليم. صار الرهان على فك الاشتباك بين الكبار، بين روسيا وأميركا الحائرة بحثاً عن سبل لمنع استئثار غريمتها برسم النظام في الشرق الأوسط بعدما باتت هذه تمسك بالورقة السورية كلها تقريباً، وتتقدم نحو استعادة ما كان للسوفيات في المنطقة، في مصر وأماكن أخرى... فضلاً عن تحييدها تركيا وإن لم تضمن بقاء هذه إلى جانبها في نهاية المطاف! انكسر ميزان القوى العسكري في سورية، أو في الطريق، لذا يستحيل إرساء حل سياسي. وقد يحدث الشيء نفسه في العراق بعد تحرير الموصل.

نجحت روسيا حتى الآن حيث أخفقت أميركا. حالت دون اندلاع حرب مفتوحة بين حليفيها اللدودين اليوم، إيران وتركيا سواء في سورية أو العراق، على رغم أن الدولتين تتصارعان على تركة عربية وازنة. نجحت في استدامة حوار مع الدول العربية على رغم تعارض مواقفها مع كثير من هذه الدول بخصوص العلاقة مع الجمهورية الإسلامية ومع نظام الرئيس بشار الأسد. في حين لم تستطع المقاربات المزدوجة لواشنطن في وقف الفوضى في الإقليم. لم تنجح في إقامة نوع من التوازن في العلاقات بما يسمح بتحريك الديبلوماسية. لم تنجح في تبديد العداء بين إيران والمملكة العربية السعودية وعدد من أشقائها. ولم تنجح في إعادة ما انكسر بين حكومة حزب العدالة والتنمية التركي وحزب العمال، وبينها وبين وحدات حماية الشعب. فيكف لها غداً أن تقيم توازناً بين كل القوى المتصارعة على الموصل قبل تحريرها؟ ظلت تتمسك بشعار «ماذا عن اليوم التالي؟» لئلا تنزلق إلى الساحة السورية. وهي بالتأكيد لا تضمن ماذا سيحل بهذا اليوم بعد تحرير ثاني كبرى مدن العراق. بينما تنهج روسيا سياسة تعرف بموجبها ما عليها فعله في المقبل من الأيام.

اقرأ المزيد
١٧ أكتوبر ٢٠١٦
لماذا منتدى لوزان السوري؟

 هل بلغ أسماعَ السوريين في شرقي حلب المحاصرين، والذين يتعايشون مع النكبة الحادثة بين ظهرانيهم، وهم في مرمى الصواريخ العمياء والبراميل المتفجرة والنيران المليشاوية، قول وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إن الاجتماع الذي انعقد بطلبٍ منه، لبحث الحالة السورية، في فندق (قصر) بوريفاج، البالغ الفخامة، في لوزان "كان صريحاً وشهد بعض التوّتر"؟ هل في وسع الواحد منهم، مثلا، أن يتخيّل أيَّ جنسٍ من التوتر زاوله المجتمعون هناك، وهم يرفلون بفائضٍ من الوداعة بين تلال خضراء، ولا تُصادف عيونهم، إذا ما تفرّجت من الشرفات والنوافذ هناك، سوى حدائق بديعة، وفضاء يشيع هناءة البال؟.

أراد كيري تبادلاً للأفكار بين وزراء استحسن، أولاً، أن يكونوا أضيقَ عدداً، غير أن القرار ليس له تماماً في هذا الأمر (وغيره) فأُلحق آخرون، ثم انعقد الاجتماع، وعلى هامشِه كانت لقاءات ومشاورات، غير أن ذلك كله لم يكن إلا لاستعراض الآراء والاجتهادات، وكأن السادة الوزراء، وبينهم كيري وزميله الوزير الروسي سيرغي لافروف، تداعوا إلى المدينة السويسرية الباذخة للتعرّف بشكلٍ أفضل على ما لديهم من رؤىً وتصورات، في ورشة نقاشٍ ليس أكثر، أما "بعض التوتر" الذي جرى، كما أوجز الوزير الأميركي، فبدا تنويعاً من لوازم الصراحة التي قال إنها مورست هناك.

لم يكن ثمّة ما يستدعي حضور سوريين هذا النقاش الحر الذي في وسع الواحد منا أن يستشعر صفته الأقرب إلى دردشاتٍ مفتوحة. لا لزوم لهؤلاء، معارضين أو غير معارضين، أو بين بين. لا صلة للسوريين بالأمر، وكانوا قد أَخذوا فرصتهم في التحاور والتفاوض، غير المباشر، غير مرة، في جنيف غير البعيدة عن لوزان. وإذ لم ينجم عن تلك الصراحة وبعض التوتر ذاك، في مناقشات قصر بوريفاج، غير اتفاق المنتدين على مواصلة الاتصالات بين من يمكنهم التواصل بين بعضهم، فإن ذلك ينذر بأن ورشة حوارٍ شبيهةً قد تنعقد تالياً، في المكان المترَف نفسه أو في غيره. والمعلوم أن كل مداولات الورشات الحوارية في فيينا وبرلين ولندن وميونخ وجنيف، أمثلة، لم تُزحزح عنصراً من الحرس الثوري الإيراني من مطرحه في الغوطة أو في أطراف حلب، ولم تمنع صاروخاً روسياً أو برميلاً متفجراً أسدياً عن وجهته في أي موضع في سورية.

ليست ندوة لوزان، إذن، غير وصلة حوار بين ما سبقها وما سيليها. ولكن، من دون أن يكون لأيّ من هذه الندوات أي صلة بالحادث في الأجواء والمياه والأراضي السورية، ومن جديده أن حاملة الطائرات الروسية "أميرال كوزنتسوف"، السوفييتية التاريخ، مع سفنٍ حربيةٍ وسفن أخرى ضخمة مضادّة للغواصات، كانت تتقاطر إلى المياه السورية. لا لنقل 900 محارب من "فتح الشام" (جبهة النصرة سابقاً) يقال إنهم في داخل حلب (العدد يتناقص في تقديراتٍ أخرى) إلى مطرح آخر في سورية (هل هو إدلب؟)، وإنما لتعزيز روسيا وصورتها بلداً غير الذي كان يُرمى بالتنكيت عليه، إبّان رئاسة بوريس يلتسين مثلاً. هناك الفيتو في مجلس الأمن في نيويورك، وهنا، في حميميم وطرطوس واللاذقية البوارج والعتاد لحربٍ موضعية راهنة، ولغيرها مما قد يستجدّ في المشرق العربي المنتهك، وفي غيره إن لزم الحال.

ما الذي أضافه منتدى لندن في الشأن السوري، أمس، بين وزراء أوروبيين وعرب، وبمشاركة جون كيري، على ما تم تداوله في منتدى لوزان؟ لا يستثير سؤالٌ مثل هذا رغبةً بالبحث عن إجابةٍ عليه. هي متواليةٌ من اجتماعاتٍ لا تتوقف، وبضاعةٌ من الكلام الذي لا طائل منه، تتوزع في الأثناء. أما انتظار حلّ للاستعصاء السوري، وضمن أيّ أفقٍ، من هذه الاجتماعات، فلا يتبدّى أنه في محله، فالصراع الماثل في حلب وشقيقاتها في جغرافيا المحنة السورية ليس من الطراز الذي تأخذه اجتماعاتٌ كهذه، في لوزان ولندن وغيرهما، إلى أي حلٍّ منظور. .. سورية موضوعٌ عويصٌ جداً، تبدأ أولى خيوط حله بمفاجأة غير ميسورة التوقع، وإلى أن تحدُث، ثمّة تهديم وتحطيم وتمويت كثير.

اقرأ المزيد
١٧ أكتوبر ٢٠١٦
الدّولة .. عندما نفقدها ..!

أيّام طويلة مّرت على هذه الثورة يتصارع فيها "النظام السوريّ" مع "المعارضة" : من يمثِّل الشعب ..؟
وفي حين يستميت النظام ، ويدفع بكلّ ثِقله إلى اعتبار أنّه هو فقط "الدولة" التي تمثِّل الشعب (الواقف على الحياد) يدعمه أنصاره "القسم الثاني من الشعب" ويستبيح كلَّ ما لدى القسم الثالث (الحاضن للثورة) لدرجة أنّه يعتبرهم ليسوا بشراً ليستحقّوا الحياة ..
في هذه الأثناء يقوم الثوّار ومن وراءهم بمحاولات يدفعون ثمنها أرواحهم ودماءهم ليقولوا للعالم : نحن نمثِّل الشعب ، والصامتون الخائفون ينتظرون من يزيل عنهم الطغيان ليتنفسوا الصّعداء ويعيشوا بكرامتهم وحريّتهم .
أهم مظهر من مظاهر هذا الصراع يتجلى في مناطق بسط السيطرة والنفوذ ، فالثوار عندما يحررون منطقة ، ويخرجونها من تحت سيطرة النظام يسارعون إلى المؤسسات الهامة لدى النظام فيرفعوا عليها علم الثورة ويحطموا أي أثر لطغيان هذا النظام وظلمه وبطشه .
يعجز الثوّار في لحظات التحرير الأولى أن تكون ردات فعلهم متوازنة فتكثر العفويات ومعها تكثر الأخطاء .
ويعجزون أيضاً في أيام التحرير الأولى عن رص صفوفهم ، وبسط الأمن والأمان وإعادة حياة الدولة من جديد إلى تلك المناطق ، ويأخذ ذلك وقتاً يكون فيه المواطن يتساءل عن أمنه وأمانه ومعيشته وحقوقه : متى يحصل عليها .
ومن أهمّ ما يحصل في تلك الفترة قضيّة هامّة تبرز للمواطنين الذين يبقون أنفسهم على مسافة من الثوار قبل أخذ قرارهم بالرضى أو عدم الرضى بهذا التحرير ، وهي : هل ستعود الحياة مستقرة ؟!
في الطرف الآخر يلعب النظام على هذا الوتر فيعتبر كل أرض خارجة عن سيطرته هدفاً مشروعاً لقذائفه وصواريخه وبراميله المتفجرة بمن فيها من نساء وأطفال وبنة تحتية ..!
وهو الذي كان يستميت في الدفاع عنها ويتغنى بأمان الناس فيها قبيل أيام .
ويصوّر النظام السوري بإعلامه وإعلامه الرديف الفروقات في الحياة بين المناطق التي تحت سيطرته والمناطق التي تحت سيطرة الثوار ، ويستثني نفسه من المعادلة حين يضع اللائمة على الثوار الذين أدخلوا المدن في الصراع وجعلوا المدنيين هدفاً مشروعاً لحرب لا تعرف المحاباة والرحمة..!
وتصبح كلّ المناطق المحرّرة أقلّ أمناً مما كانت عليه ، لاسيّما أن الثوّار يتورعون عن استهداف تلك المناطق ويحصرون معركتهم على الجبهات فقط تحت ضغط المبادئ والأخلاقيات والإيمانيات والشعارات التي يرفعوها ..
ورغم محاولات الثوّار بسط نفوذ الدّولة على هذه المناطق إلا أن هذا النفوذ يبدوا ضعيفاً مشتتاً ، غير مقنع للنّاس ..
فكلّ قرية هنالك فصيل عسكريّ يسيطر عليها ، وبالتالي فإنّ شؤون الحياة فيها تتعلّق بالفصيل وأجندته وسياسته في التعامل .
ويصبح القضاء والعدل محصوراً بأيديولوجيا الفصيل ، فتختلف المسألة من قرية لقرية ، أو من مدينة لمدينة ، ولربما في المدينة الواحدة تجد محكمتين ، كلّ محكمة تتبع لفصيل ، وعدّة سجون كلّ سجن له قضاءه الخاصّ به .
ورغم محاولات الثوار القيام بمحاكم مدنية ، وقضاء مشترك ، وسجن واحد ، وحصر القضايا بالمكاتب القضائية أو حتى الشرعيّة ، إلا أن هذا لم يثمر بشكل حقيقيّ ، وما تزال المحاولات هذه بحاجة جديّة أكثر وإيمان أكبر بالشعب والناس ، وتنازلات حقيقيّة من قبل القادة لتصبح واقعاً يلمس الناس أثره بأنفسهم.
بالمقابل أيضاً : نجد النظام عندما يحتل منطقة ، أو يهادن ثوّارها أو أهلها ، أوّل ما يقوم به هو تأهيل البنى التحتيّة وفتح مؤسسات ودوائر الدولة ، ويصوِّر الحياة فيها تعود بشكل تدريجيّ مستفيداً من عمق دولته ، وحفاظه -في أصعب الحالات التي مرَّ بها والهزَّات التي تعرَّض لها- على مؤسسات الدولة بكوادرها وبنيتها ، ولم يقم يوماً بقطع رواتب موظفيه في أحلك الظروف ولو كانوا يقيمون في المناطق المحررة (المعادية بالنسبة له) وبالتالي ساعده ذلك بالظهور أمام الناس بمظهر القوة ، ومظهر "الدولة" التي تقوم على شؤون الناس وترعى خدماتهم ، ويرى فيها النّاس صورة النظام المتماسك ذو الهيكليّة الإدارية المعروفة ، والمؤسسات المنظّمة ، وبالتالي يشعر بأمانه الشخصيّ ، بل ويستفيد من ذلك على الصعيد الشخصي والمادي والنفسي.
ورغم أن الثوار وحاضنتهم استفادوا كثيراً من حفاظ النظام على مؤسَّساته ، واستغلّوا ذلك في الكثير من الأحيان ، إلا أنه لم يخرق مؤسسة ولم يكسر قواعده ولم يتنازل عن "الحكومة" ، و"الدّولة" ككيانات ترعى مصالح الناس .

الخلاصة أن أربعين سنة أو أكثر من عمر النظام السوري الشموليّ ليس من السهل إسقاطه بدون التفكير بنفس المنطق الذي يفكّر فيه ..
وليس من السهل إعادة كرامة المواطن ، وحريته ، ورفع الظلم والاستبداد دون العمل جدّيَّاً بمنطق "الدولة" بمؤسساتيّة لا بثورّية ، وبمنطق خدمة الناس لا المنِّ عليهم ، وبفكر تحرير النّاس لا ُحكم الناس ، وبإعادة العدل لا بتغيير الحاكم ..
فإن عجزت المعارضة السياسيّة في الخارج الحصول على تمثيل ديبلوماسي، ولو لمسألة خدمات الناس بتجديد وإصدار الجوازات والوثائق ..
وعجزت الحكومة المؤقتة عن القيام بشؤون الناس خدمياً في الداخل، ولو مجرد إصدار الشهادات الثانوية للطلاب لدخول الجامعة ..
وعجز الثوّار عن حماية المناطق بعد تحريرها .. والاتفاق على إدارات مدنيّة موحّدة بقانون موحد ..
فكيف يمكن أن يقتنع الناس أن النتيجة لن تكون كما وعد "بشار الأسد" الناس : أنا أو الفوضى ..؟؟

اقرأ المزيد
١٦ أكتوبر ٢٠١٦
فلاديمير بوتين حبيب هوليوود لا يمكن أن يكون عدو أمريكا

إذا أردت أن تتعرف على أعداء أمريكا الحقيقيين فيجب أن تنظر إلى صورتهم في أفلام السينما الأمريكية، فمن عادة السينما الأمريكية أن تشيطن الأعداء وتحتفل بالحلفاء في أفلامها الهوليودية. ومن المعلوم أن «هوليوود» هي أقوى سلاح إعلامي في أيدي المؤسسة الحاكمة في أمريكا منذ عقود وعقود، فهي ليست أبداً شركة ترفيهية تجارية ربحية كما تروج لنفسها، بل هي الذراع الإعلامي الفني الأخطر للولايات المتحدة. وقد لعبت الشركة على مدى تاريخها أدوراً رهيبة في شيطنة أعداء أمريكا وخاصة أيام الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفياتي.

وقد نجحت هوليوود في إقناع الغالبية العظمى من الأمريكيين والغربيين عموماً بأن روسيا الشيوعية شيطان رجيم يجب على الغرب أن يفعل كل ما بوسعه لإسقاطها بكل السبل والوسائل. وقد كانت هوليوود تصور الشيوعيين في أفلامها على أنهم أسوأ رموز الشر في العالم.

ولا ننسى كيف عمل السيناتور الأمريكي الشهير جوزيف مكارثي على ملاحقة أي مشتبه يتعاطف مع الشيوعيين في أمريكا، ولم يسلم من المكارثية حتى الممثل البريطاني الشهير تشارلي تشابلن وقتها. وقد سخر بعض الأدباء الأمريكيين كالمسرحي الراحل آرثر ميلر من ذلك الهوس الأمريكي بملاحقة المتعاطفين مع الشيوعيين من خلال مسرحيته الشهيرة «البوتقة» التي تناولت ما أسماه «صيد الساحرات» كناية عن الشيوعيين وأتباعهم. باختصار شديد، فقد كانت شركة هوليوود الأمريكية رأس الحربة في الحرب الإعلامية الأمريكية ضد الاتحاد السوفياتي.

كيف نصدق الآن إذاً أن أمريكا دخلت في صراع جديد مع روسيا إذا ما علمنا أن هوليود بدأت تعد العدة الآن لإنتاج فيلم كبير عن حياة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ربما يكون من بطولة الممثل الهوليوودي الشهير ليوناردو كابريو بطل الفيلم العالمي «تايتانك». إن الحديث عن وجود صراع روسي أمريكي ينذر بحرب عالمية ثالثة انطلاقاً من الساحة السورية لا يستقيم أبداً مع التوجه الهوليوودي الجديد للاحتفال بالرئيس الروسي سينمائياً، ولا يستقيم أبداً مع لغة الغزل التي يستخدمها مرشح الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب مع بوتين، فقد صرح المرشح أكثر من مرة بأنه معجب بشخصية الرئيس الروسي ويتطلع إلى التعامل معه فيما لو فاز في انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة.

لو كانت أمريكا قد دخلت فعلاً في حرب باردة جديدة مع روسيا كما يشيع بعض أبواق المماتعة والمقاولة، لكانت هوليوود أول من بدأ بشيطنة روسيا ورموزها الجدد، ولما كان قد التقى الممثل الأمريكي الشهير دي كابريو الرئيس الروسي ليعبر عن رغبته في تجسيد شخصيته في الفيلم الهوليوودي الجديد.

وفي تعليق لصحيفة Welt am Sonntag الألمانية قال دي كابريو، «إني مستعد وبكل ترحيب للعب دور الرئيس بوتين في أي عمل فني، فذلك سيكون ممتعاً جداً بالنسبة لي!». وأعاد دي كابريو إلى الأذهان أنه كان قد حظي بشرف لقاء بوتين شخصياً في مدينة سانت بطرسبورغ خلال فعاليات منتدى إنقاذ نمور سيبيريا قبل بضع سنوات. وبحسب وكالة الأنباء «نوفوستي»، وفي معرض التعليق على روسيا وانطباعاته عنها، جدد دي كابريو التأكيد على إعجابه الشديد بها. وختم بالقول، إن «لعب دور الزعماء الروس مثل لينين وراسبوتين، من شأنه أن يكون ممتعاً للغاية، وأرى أنه ينبغي تصوير كم أكبر من الأفلام التي تحكي تاريخ روسيا.

هذا وقد أعلنت إحدى شركات صناعة السينما العالمية لتصوير فيلم «بوتين» ومن المنتظر أن تبدأ شركة «كنايتس بريدج انترتيمنت» للصناعة السينمائية قريباً، بتصوير فيلم روائي بطله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ولم تعلن الشركة التي يقع مقرها في الولايات المتحدة الأمريكية، اسم الممثل الذي سيقوم بدور البطولة في هذا الفيلم، مشيرة إلى أن هنالك 4 مرشحين كل منهم يتمتع بنجومية من الدرجة الأولى في العالم للعب دور بوتين في فيلم ينتجه مخرج يحوز على جائزتي «أوسكار».

ولا ننسى أيضاً أن المخرج الأمريكي ذائع الصيت أوليفر ستون قد أخرج فيلماً وثائقياً عن فلاديمير بوتين. وصرح المخرج الروسي إيغور لوباتيونوك الذي ساعد أوليفر ستون على إنتاج وإخراج فيلم «سنودن»، لـ»سبوتنيك»، أنه لا بد أن يستأثر الفيلم الذي أخرجه أوليفر ستون باهتمام الجمهور وخاصة الجمهور الأمريكي. وكان أوليفر ستون أعلن منذ عامين نيته لتصوير فيلم وثائقي عن الرئيس الروسي، لكي يعرض للأمريكيين وجهة نظر مغايرة حيال أهم أحداث العالم.

عندما توافق هوليوود ومثيلاتها الأمريكية على الاحتفال بالرئيس الروسي سينمائياً، يجب أن نفهم أن الروس والأمريكيين باتوا حلفاء يتقاسمون منطقتنا وخاصة سوريا بمحبة ووئام. لا عجب إذاً أن بوتين كان أيضاً شخصية العام 2015 في إسرئيل.
كيف نصدق إذاً أن أمريكا وروسيا أعداء في سوريا ويمكن أن تدخلا في حرب عالمية ثالثة إذا كان ممثلو هوليود يتسابقون على تجسيد شخصية بوتين، وإذا كانت إسرائيل تعتبر الرئيس الروسي أفضل حليف لها في تاريخ روسيا؟

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان