لفضّ كل سوء فهم محتمل، ودرء كل اتهامٍ مسبق الصنع، يميل الكتّاب والمثقفون، من ذوي الخلفيات الفكرية المستنيرة، إلى الحذر بشدة من الوقوع في براثن الخطاب الطائفي، والابتعاد ما أمكنهم عن بواطن الشبهة، وذلك بعدم تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، ورفض الخوض في مستنقعات الظواهر الاجتماعية المعيبة، خصوصاً وأن من شأن المقاربات الجارحة لوجدان العامة من الناس أن تزيد الوحل بللاً، ولا تسدي معروفاً إلى أيٍّ من ضحايا مثل هذا الخطاب المترع بالضحالة والتفاهة.
لكن السؤال المؤرّق للبال، والمثير للحفيظة في أغلب الأحيان، هو هل التعالي عن الحقائق الصادمة، والاستدارة من حولها كيفما اتُّفق، أو حتى تجاهلها بالمطلق، يلغي الحقائق الساطعة سطوع الشمس في نهارٍ قائظ، أو يشطبها هكذا من الذاكرة المستباحة؟ وهل الهروب من ضرورات التقاط جمرات المسؤولية الأخلاقية برؤوس الأصابع العارية، يخمد أوارها المتقد تحت غلالةٍ رقيقة من الرماد الساخن؟ وهل إغماض العين عن تجليات الحالة القبيحة يمنع الحالة المرفوضة هذه من الانتشار والتجذر؟
ولا أحسب أن هذه الأسئلة المتبوعة بعلامات الاستفهام، وليس بإشارات التعجب بعد، بنت هذه اللحظة التاريخية النازفة، ولا هي مستلهمةٌ من فانتازيا نص روائي خصب الخيال، لا سيما وأن المشهد المفعم بالرايات المذهبية، والمليشيات الطائفية، وتعبيرات الكراهية والثارات التاريخية، المحمول على أكتاف الأقليات المذهبية، أبلغ من كل قولٍ متعففٍ عن تسمية الولد باسم أبيه الحقيقي، ومن اجتراح الكلام المراوغ في حضرة الاعتراف الضمني بأن البحر هو البحر، وأن الماء لا يعرّف إلا بكونه ماء.
وبالانتقال من هامش الهامش إلى متن الرواية، فإنه يمكن القول، إن ما يجري تباعاً في مدينة حلب منذ عدة أشهر، وما يتواصل الآن في الموصل على قدم وساق، يقدّم مثالاً نموذجياً على ما نحن بصدده في هذه المعالجة، الرامية إلى فضّ التباسات الخطاب الرائج بقوة، وفرز طيف ألوان الصورة الجاري تظهيرها بأقل قدرٍ من الكياسة، وتشخيصها على نحو تعسفيٍّ لإخفاء جوهر هذه الحروب المذهبية التي تتقدّم فيها الاعتبارات الدينية الفجّة على الاعتبارات الوطنية الخجولة.
ذلك أنه مهما برعت ماكينات الدعاية الإيرانية على وجه الخصوص، وخاض أربابها في فنون التعمية الإعلامية بكل اقتدارٍ وبراعة، فإن ذلك لا يحجب حقيقة أن المدينتين السنيتين الكبيرتين في شمال سورية وشمال العراق، حلب والموصل، تتعرّضان الآن، كلٌّ على حدة، إلى حملةٍ حربيةٍ منسّقة، أولاهما بقيادة روسيا، وثانيتهما بزعامة الدولة العظمى الوحيدة، لإعادة هندسة ديمغرافيا المشرق العربي، تحت ذرائع وجيهة من حيث المظهر، كالحرب ضد آفة الإرهاب المستشرية، ومسوّغات باطنها فيه العذاب لأمةٍ مستهدفةٍ من الأقليات المذهبية، المستقوية بتحالفاتٍ خارجية هجينة.
وإذا كان صحيحاً أن الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، هذا المخلوق الذي استعدى كل من في محيطه القريب، واستجرّ على نفسه انتقام أبعد دولةٍ في العالم البعيد، حرب لها ما يبرّرها، فإن من الصحيح أيضاً، أن القوى المتجحفلة حول أقدم وأهم حاضرتين باذختين في العراق والشام (حلب والموصل)، وهي، في جوهرها، قوى ذات طبيعة مذهبية صارخة، أتاح لها خطاب "داعش" الوحشي وممارساته الإجرامية، التساوق بنجاح، مع حملتين عسكريتين عرمرميتين، وتوظيف مدخلاتهما ومخرجاتهما معاً في لعبة قمار كل أوراقها مكشوفة.
وليس من شكٍّ في أن دمشق وبغداد، العاصمتين التاريخيتين لأقدم إمبراطوريتين عربيتين (الأمويين والعباسيين) شهدتا، مع مرور الوقت، تبدلاتٍ ديموغرافية كثيرة، حيث تمكّنت الأقليات، في غضون العقود القليلة الماضية، من الاستيلاء التدريجي على روحهما السنيّة، وتغيير موازينهما السكانية بهذه الدرجة أو تلك، فيما ظلت حلب والموصل، وهما الأعرق والأقدم من العاصمتين السياسيتين، بمنأىً عن ذلك التبديل الاجتماعي البطيء، الذي وقف على تخوم الحاضرتين الشماليتين المنكوبتين الآن، ولم يدخل إلى قلبهما بقوة.
ويبدو أن اللحظة المواتية لتسديد الحساب المؤجل قد أزفت، بفعل عوامل ذاتية وموضوعية، لا حصر لها، وأن السانحة قد باتت مواتيةً أكثر من أي وقت مضى، لاستكمال تلك الهجمة الضارية التي بدأت في دمشق قبل نحو أربعة عقود. وفي بغداد منذ الغزو الأميركي لبلاد الرافدين، وإن مد بحر الرايات المذهبية الهائج يقول؛ لقد آن أوان غمر حلب والموصل بالمياه المالحة، اغتناماً لفرصةٍ نادرةٍ لن تتكرّر، كان من شبه المستحيل استثمارها على هذا النحو، من غير دخول أقوى قوتين عسكريتين على وجه الأرض، في معمعان هذه الحروب المتزامنة.
وعليه، يمكن الافتراض بسهولة أن حلب والموصل اللتين تتعرّضان، في هذه الأيام، لهجمتين ضاريتين، أو قل عملية تدمير منهجية في رابعة النهار، هما أقرب ما تكونان إلى أختين شقيقتين، مهدّدتين بالاغتصاب أمام الملأ، وسط ما يشبه الرضى، أو غضّ البصر على الأقل، من جانب أولياء الدم، ممن يشيحون بأوجههم عن الفعلة المذلّة بحقهم، فيما لم يتورّع بعضهم من الرقص في حفلةٍ تجللهم بالعار إلى يوم القيامة.
خلاصة القول؛ إن الوجود السني في بلاد الهلال الخصيب يتعرّض في هذه الآونة إلى تهديدٍ وجوديٍّ، لا سابق له منذ قرون بعيدة، ليس بفعل ما تشهده هذه المنطقة من تهجيرٍ منهجيٍّ وتشتيتٍ سكاني فقط، وإنما أيضاً، بفعل افتقار هذا الوجود الذي يشكّل عماد الأمة، للعمق الديموغرافي القادر على الدفاع عن حق البقاء أولاً، وللزعامة المؤهلة للتعبير عن ضمير الأمة ثانياً، الأمر الذي يمكن الاستنتاج معه أن ما بعد معركتي حلب والموصل لن يكون كما قبلهما.
هجرة مركبة، مناطقية وطبقية وإثنية، رسمت شكل مدينة حلب المعاصرة. وعدا عن التقسيم الواضح بين حَلَبين؛ شرقية وغربية، يبدو أن أكثر من حلب أخرى نمت خلال الأعوام الستين الماضية على تخوم الانتماءات الأهلية المتنوعة للوافدين الجدد إلى أطراف المدينة الكبرى.
شرقية وغربية
حلب الشرقية، التي تسيطر عليها المعارضة حالياً، لم تكن سوى حزام فقر، بدأ مع "دولة الوحدة"، وتسارع نموه منذ انقلاب حزب "البعث العربي الاشتراكي" مطلع الستينيات من القرن الماضي. فمراسيم الإصلاح الزراعي التي توجهت لإضعاف الأرستقراطية الإقطاعية، وهي الطبقة السياسية الحاكمة السابقة على "البعث"، تسببت في تضاؤل الحيازات الشخصية وانخفاض مردود الزراعة، وشكّلت مدخلاً لبداية تهميش الريف وقواه السياسية، لمصلحة تحالف النظام والبرجوازية المدينية.
وفي حين وجدت الأقليات الريفية/الطائفية، مدخلاً أوسع إلى "الدولة" عبر الشبكات الزبائنية والقرابية، بقيت الأكثرية السنية الريفية الأكثر تضرراً وتهميشاً، وسط معدلات نموها السكانية العالية جداً. الأمر الذي دفع بها إلى أحزمة الفقر والعشوائيات، والتوسعات السرطانية على أطراف المدن الكبرى. وبحسب تقريرٍ سابق لـ"الأمم المتحدة"، في أواخر الثمانينيات، فالريف الحلبي الجنوبي هو من أشد المناطق فقراً في العالم، وقامت المنظمة الدولية بتمويل مشروع "جلّ الحص" الإنمائي للمساعدة فيه.
وحلب منذ ما قبل دخولها الثورة، كانت تعيش انقسامها الخاص؛ الشرقية للطبقات الفقيرة، والغربية للشرائح الوسطى والطبقات العليا. الشرقية، للوافدين من الأرياف القريبة، على تلاوينهم الثقافية والإثنية، ومن "المُفقرين الجدد" الهابطين إلى حدود الفقر من غير القادرين على تحمل تكاليف البقاء في الغربية. والغربية، للشرائح العليا من الطبقة الوسطى والبرجوازية الصناعية والتجارية الحلبية، وللصاعدين طبقياً من الشرقية والأرياف.
مع الثورة، ودخول العمل المسلح إلى حلب، صار الفرز واضحاً؛ حلب الأغنياء تحت سيطرة النظام، وحلب الفقراء مع المعارضة. لكن، هل هذه صورة كاملة؟
حَلَبان: معارضة وموالية
منذ منتصف العام 2012 دخلت المعارضة مدينة حلب، ومع الوقت سيطرت على 80 حيّاً فيها يقطن فيها ما يقرب من مليون ونصف المليون شخص، وتشمل معظم أحياء حلب الشرقية، ونسبة 65 في المئة من كامل المدينة. ففصائل المعارضة المنتمية والمتشكلة في أرياف حلب، امتدت إلى حيث الحواضن الاجتماعية لها، بالمعنى المناطقي، في حلب الشرقية.
والشرقية في معظمها، هي مناطق توسع وعشوائيات، نَمَت على الطرف الشرقي للمدينة القديمة، وتوسعت شمالاً وجنوباً، خلال أكثر من نصف عقدٍ مضى. وغالبية سكان الشرقية، ما عدا حلب القديمة، هم من أبناء الريف. ومعظم أحياء الشرقية تُعتبر مناطق فقيرة بالمقارنة مع الغربية، حتى أن بعض المواقع في مساكن هنانو والأرض الحمرا افتقرت إلى الشوراع الإسفلتية. هذا عدا عن غياب الخدمات الرئيسة لمعظم أحياء الشرقية، وغياب حضور الدولة "الخدمي" لمصلحة التركيز على حلب الغربية، مدينة الأغنياء.
الصحافي عقيل حسين، أوضح أن الهجرة من الريف إلى المدينة، بدأت مع تأميمات "دولة الوحدة" في عهد جمال عبدالناصر، وفتح باب التعليم للفقراء، الأمر الذي ترافق مع بداية نهاية المهن والحرف التقليدية في الأرياف القريبة.
وتركزت هجرات أهل الريف في مناطق محددة ضمن أحياء الشرقية، رسمت خطوطاً متمايزة للمنشأ المناطقي لكل مجموعة. فسكن أبناء الريف الجنوبي في أحياء السكري والصالحين والشيخ سعيد والفردوس. في حين استقطبت كرم الميسر والشعار وطريق الباب والصاخور والمواصلات أبناء الريف الشرقي. واستقر أبناء الريف الشمالي في الحيدرية والهلك وبعيدين والشيخ فارس والشيخ خضر.
المنشأ المناطقي لهجرة الريف إلى المدينة، حمل معه أيضاً بصمات المهاجرين الإثنية؛ مع التركمان والأكراد والماردلية والعشائر العربية، بالإضافة طبعاً إلى مخيمين فلسطينيين؛ حندرات والنيرب.
الهجرة إلى الشرقية، شهدت عمليات تفارق وتمايز طبقي بدورها، وتمايزت أحياء عن الأخرى، وكلما اقتربت المنطقة من حلب القديمة ارتفع مستوى العيش فيها. كما أن هجرة داخلية أشد التباساً ظلت تحدث بين الشرقية الغربية؛ فالأغنياء الجدد الصاعدون في الشرقية سرعان ما وجدوا طريقهم إلى الغربية، في حين أن مَن يفقد منزلته الطبقية في الغربية يجد ملاذاً له في الشرقية.
وكانت حلب الغربية قد شهدت هجرة ريفية، منخفضة الحدّة، من أغنياء ووجهاء الريفين الغربي والشمالي. وحتى الثمانينيات كان شارع النيل وحي سيف الدولة في الغربية، مستقراً لموظفي الدولة، ممن يعتبرون من الشرائح الوسطى. بعد الثمانينيات أصبح تكيّف الموظفين مع تكاليف المنطقة أكثر صعوبة، بالتزامن مع تدني قيمة صرف العملة وسقف الدخل المحدود، الأمر الذي دفع موظفي القطاع العام الوافدين من الريف للبحث عن سكن لهم في الشرقية.
في حلب الغربية 300 ألف مسيحي وأرمني، بعضهم مهاجرٌ من الحسكة، يقطن موسروهم وأغنياؤهم السليمانية والعزيزية، في حين يسكن فقراؤهم الميدان وامتداده في بستان الباشا بالتشارك مع التركمان والأكراد. "بستان باشا" التركمان صارت في يد المعارضة، في حين بقيت أجزاؤه المسيحية والكردية في يد النظام.
الصحافي خالد الخطيب، قال إن كل شيء كان مختلفاً بين الشرقية والغربية، وعلى جميع الأصعدة، منذ ما قبل الثورة. وإذا خلت الشرقية من الطبقات العليا بفعل الفرز التاريخي المستمر، ففي الأجزاء التابعة للمعارضة من حلب القديمة، وبعد المعارك التي شهدتها بين العامين 2012 و2013، هاجر أثرياؤها إلى الغربية، ومَن بقي فيها هم من الشرائح الدنيا في الطبقات الوسطى والفقراء.
لكن، لماذا لم تنتشر العشوائيات على الأطراف الغربية لحلب الغربية؟ الجواب يبدو كامناً في تركز انتشار المناطق الصناعية والمعامل على أطراف الشرقية. وعلى الرغم من وجود حزام معامل شمالي حلب، من الليرمون إلى حريتان، إلا أن تلك المناطق لم تصبح سكنية كما هو الحال في جوار معامل الشرقية. وإذا كان إنجاز "المنطقة الصناعية" في الشيخ نجار قد تأخر حتى أواخر التسعينيات، إلا أن أطراف الشرقية كانت موطناً للكثير من المعامل والمحالج والمطاحن ومعامل الزيوت والنسيج، البعيدة نسبياً من مركز المدينة. وغالباً ما عمل سكان الشرقية في تلك المعامل، وقطنوا قربها، وقاموا بحراستها. البرجوازية الصناعية من حلب الغربية، أقامت صناعاتها في الشرقية حيث العمالة الرخيصة.
حتى "معامل الدفاع" التابعة لوزارة الدفاع، أقيمت جنوبي حلب الشرقية. والمعامل استخدمت عمالة مدنية من حلب الشرقية في صناعاتها غير القتالية، كالصابون والزيت. وغالباً ما تهكم الحلبيون بالقول إن موظفي "معامل الدفاع" من الغربية، وعمالها من الشرقية.
حلبيو حلب
التقسيم الاجتماعي/الطبقي لسكان المدينة، بما يتوافق مع خطوط الصراع معارضة/موالاة، يبدو زائفاً قليلاً؛ فالعقبات أمام هذا التفسير، تظهر مع تتبع خطوط الانقسام الإثني والثقافي.
وإذا رصدنا الأطراف المحلية المشاركة في الصراع الراهن، نجد بالإضافة إلى العرب السنة، ثلاث جماعات متمايزة: الفلسطينيون قاطنو مخيم النيرب جنوب شرقي حلب ومخيم حندرات شمال شرقي حلب، والأكراد سكان حي الشيخ مقصود شمالي حلب، وخليط من العشائر العربية والماردلية الموزعين في مناطق مختلفة من حلب الشرقية.
فلسطينيو حلب
مسيرة اللجوء الفلسطيني كانت قد وصلت ريف حلب الشرقي منذ العام 1949، عندما أُعطيت لهم ثكنةٌ عسكرية فرنسية قديمة في النيرب، سكنوا مهاجعها واستخدموا حماماتها الجماعية. كل مجموعة عائلات أعطيت "براكس"، تقاسمته بتقطيعه ببطانيات ثم بجدران بلوك، قبل أن يبيع البعض حصصهم للبعض الآخر. ويعتبر مخيم النيرب من أفقر المخيمات في سوريا، وهو على خلاف مخيمات دمشق وحمص، بعيدٌ من مركز المدينة، إذ أقيم بالقرب من منطقة عسكرية أنشئ فيها مطار النيرب، ولم تفصله عن المخيم سوى الأسلاك الشائكة.
في دراسة بعنوان "أثر المتغيرات في سوريا على فلسطينيي سوريا وكياناتهم السياسية" يُميّزُ الكاتب الفلسطيني ماجد كيالي، بين مرحلتين للنشاط السياسي للاجئين؛ الأولى تشمل بدايات اللجوء، وافتقد فيها الفلسطينيون الكيانات السياسية، فانخرطوا في الحركات والأحزاب الموجودة في مناطق اللجوء. حالة مخيم النيرب، تبدو مطابقة لهذا التمييز الأولي، الأمر الذي ساعد الأنظمة السورية المتعاقبة على اختراق النسيج الاجتماعي والسياسي لمخيم النيرب، تاريخياً. كما أن بُعد المخيم من حلب وفقر سكانه، جعله أشبه بمعسكرٍ معزول عن العالم المحيط به، ما ساهم في المراحل التالية، في إضعاف نفوذ الفصائل الفلسطينية فيه، وسيطرة المخابرات السورية وحزب "البعث" عليه. حتى "حركة فتح" كانت ضعيفة الحضور، في حين أن تنظيمات سورية كـ"الحرس القومي" كان لها دورٌ كبير فيه.
قُبيل الثورة السورية كان 300 ألف شخص يقطنون مخيم النيرب، ضمن مساحة لم تتجاوز الكيلومتر المربع الواحد، انتشرت فيها أربع مفارز أمنية.
على العكس من النيرب كان مخيم حندرات أفضل حالاً لسكانه، فجبل حندرات المشرف على نهر قويق بالقرب من المشفى والسجن، كان أملاك دولة استأجرتها "وكالة الغوث" نهاية الستينيات، وعرضت على سكان النيرب أن يستلموا الأرض ويعمروا فيها بيوتاً صغيرة من الحجر. وسرعان ما حوّل اللاجئون، وهم في الأصل فلاحو الشمال الفلسطيني، الجبل الصخري الأجرد، إلى منطقة خضراء، بعدما نقلت النسوة الماء من نهر قويق المجاور إلى المخيم، على أكتافهنّ.
حندرات أقيم ضمن المرحلة الثانية من فترة النشاط السياسي للاجئين، أي بعدما ظهرت حركة المقاومة الفلسطينية، ما جعل الكيانات السياسية الفلسطينية فيه أكثر تمايزاً عن نظيراتها السورية، وأكثر تعلقاً بقضيتها الفلسطينية. كما أن قرب حندرات النسبي من مناطق التوسع السكاني في حلب الشرقية، خفف عزلته، وساهم في رفع المستوى المعيشي لسكانه، بالإضافة إلى وجود نسبة كبيرة من المغتربين منه، ممن ساهمت تحويلاتهم المالية في تحسين وضع أهل المخيم. قبيل الثورة كان يقطن مخيم حندرات 7000 شخص يعملون في وظائف حكومية والقطاع الخاص.
أكراد حلب
يقطن الأكراد حي الشيخ مقصود شمال شرقي مدينة حلب، وهو حيٌ مُحدث كتوسع وعشوائية في الستينيات، وفي الأصل كان منطقة مسيحية اسمها "جبل السيدة" وفيه "كنيسة السيدة". الحي أخذ اسم "الشيخ مقصود" في السبعينيات، مع تركز الهجرات الكردية إلى مدينة حلب، من عفرين وكوباني، فيه. والحي يقع على مدخل حلب الشمالي الشرقي على طريق حلب-عفرين، ويتصل بمدينة حلب عبر الأشرفية ومحطة بغداد، وتفصله عن المدينة مقبرتان مسيحيتان قديمتان.
الهجرة في البداية إلى الشيخ مقصود كانت من الطلاب وموظفي الدولة، في الستينيات، بالتزامن مع تضخم بيروقراطية الدولة السورية. وكما معظم أحياء الأطراف والأحزمة حول المدن الكبرى، يمثل الشيخ مقصود، حالة تمركز لجماعة بشرية ذات جذر مناطقي أو إثني واحد. ولا ينفي ذلك أن أغنياء و"آغوات" الأكراد كانوا قد استقروا في أحياء حلب الغربية الغنية كالسبيل والسريان، في حين بقي الفقراء في الشيخ مقصود الذي تمدد باتجاه الكاستيللو ووصل عدد سكانه، مطلع الألفية الثانية، إلى 150 ألف شخص معظمهم من الأكراد، وذلك بحسب ما قاله مسؤول المركز الإعلامي في حزب "الاتحاد الديموقراطي" في الخارج إبراهيم إبراهيم.
كما يمكن ملاحظة تمايز اجتماعي آخر في الأجزاء الغربية من "الشيخ مقصود" الأقرب إلى بني زيد، حيث تسود حالة من الفقر الأشد بين السكان ومنهم أكراد وعشائر عربية من الأرناؤوط والبقارة، ولا يوجد مخطط تنظيمي للمنطقة. وتسود في هذا الجزء العمالة الرخيصة، ويعمل جزءٌ مهم من السكان في مهن تغلب عليها الموسمية، كالعمل في المطاعم والفنادق في حلب الغربية. ولشعبيته وفقره، انجذب له طلاب الجامعات والثانوية القادمون من عفرين وكوباني.
في حين تحظى الأجزاء الشرقية من الحي، باهتمامٍ أكبر، نتيجة سكنه من قبل موظفي الدولة والطبقات الوسطى الكردية. والحي الشرقى كان يقطنه قبل الأكراد، ومنذ الخمسينيات، "المارديل" المهاجرون من الحسكة.
كما أن تجمعات كردية أصغر وتعود إلى أكراد كوباني، ظهرت في الحيدرية ومساكن هنانو المحاذية لطريق حلب-كوباني.
هوياتٌ معقدة
ورغم أن الجماعات البشرية السابقة، تشاركت ظروف التهميش والإفقار، طيلة عهد "البعث"، إلا أن مواقفها كانت مختلفة تجاه الثورة. فالنظام من جهته، تمكّن من استغلال الهويات المختلفة، لإثارة صراعات بين أصحابها، كما أن عوامل داخلية ضمن هذه الجماعات ساهمت بدورها في تظهير ما يشبه موقف عمومي لكل جماعةٍ منها؛ مع النظام أو ضده، أو حافظت على مسافة من الالتباس كانت كافية لتطوير مطالب خاصة بها.
الصراعات بدورها، وكعادتها، أضافت عوامل تمايز جديدة إلى الهويات الأصلية القائمة على الانتماءات الثقافية والإثنية. وصارت عملية تخليق سمات جديدة للمجموعات البشرية المتصارعة، منوطة بأحزاب أو قوى عسكرية. فهل بات ممكناً الحديث عن "كتل تاريخية" تصوغ الخطاب المهيمن لجماعاتها، وتضيف عوامل افتراق لها عن بقية المكونات؟
فلسطينيو "لواء القدس"
انشدّ انتباه النظام إلى فلسطينيي حلب، بعد رصد اتجاهٍ مساند للثورة في مخيم النيرب، الأمر الذي اعتُبر شديد الخطورة أمنياً. المحامي أيمن أبو هاشم، قال إن الأجهزة الأمنية بالتعاون مع المخبرين والمرتبطين بها مثل محمد السعيد، سعوا بعد ذلك إلى تأليب الرأي العام الفلسطيني في المخيمات، فكانت عملية "مجندي جيش التحرير" في منتصف العام 2012.
وخُطِفت حافلة مبيت تُقلّ 17 مجنداً من "جيش التحرير الفلسطيني" كانت تُقلهم من مركز تدريبهم في مصياف إلى حلب، في 28 حزيران/يونيو 2012. عملية الخطف التي اتُّهمَ بها مباشرة "الجيش الحر" تمت في سهل الغاب بالقرب من كفريا والفوعة، واستمرت أسبوعين، قبل أن تظهر جثث 14 شاباً منهم في مشفى إدلب العسكري، وآثار التعذيب والقتل بالبلطات والسكاكين بادية عليها.
اتهام "الجيش الحر" بالعملية من قبل فلسطينيي النظام في مخيمي النيرب وحندرات، لاقى آذاناً صاغية لدى الأوساط الشعبية الفلسطينية، وبدت العملية لحظةً تأسيسية في اصطفاف فلسطينيي حندرات والنيرب مع النظام ضد الثورة. ورغم عثور المعارضة على صورتين للمجندين محمد أبو الليل وأنس كريم، المخطوفين والمقتولين، وعليهما أرقام خاصة بالقتلى تحت التعذيب، في مبنى الأمن الجنائي في إدلب، في آذار/مارس 2015، أثناء "تحرير" المدينة، إلا أن أثر العملية كان قد أُنجز نهائياً، ولم يعد في الإمكان عكسُهُ.
رعى النظام تشكيل "لجان شعبية" فلسطينية للدفاع عن المخيمات، واستخدمها لقمع مظاهرات مدينة حلب وجامعتها، والعمل على ضبط الأمن في مخيمي حندرات والنيرب، وملاحقة واعتقال الفلسطينيين المتعاطفين مع الثورة.
المعارضة المسلحة كانت قد سيطرت مطلع العام 2013 على مخيم حندرات شمال شرقي حلب، بعد سلسة مضايقات نفذها 50 مقاتلاً من "اللجان الشعبية" ضد مواقع المعارضة المجاورة للمخيم، وضد سكان المخيم. عناصر "اللجان" سلموا أسلحتهم للمعارضة، وبقي سكان المخيم فيه. وسرعان ما نكثت "اللجان" بالاتفاق مع المعارضة، وساعدت قوات النظام في استرداد المخيم، ما تسبب في قتل عددٍ كبير من مقاتلي المعارضة السورية.
"اللجان الشعبية" الفلسطينية كانت قد بدأت عملية تحوّلٍ بنيوي ووظيفي، خلال هذه الفترة، وتطورت إلى ما سيُعرف منذ تشرين الأول/أكتوبر 2013 بـ"لواء القدس الفلسطيني".
في نيسان/إبريل 2014 عادت المعارضة وسيطرت على المخيم الذي نزح سكانه عنه هذه المرة؛ الموالون للنظام انتقلوا إلى مخيم النيرب والسكن الجامعي ومساكن الصناعة في مدينة حلب، في حين فضّل المعارضون النزوح إلى ريف حلب الشمالي.
النظام بدأ بدعم "لواء القدس" بالسلاح، ليتحول تدريجياً إلى أبرز مليشيا رديفة لقوات النظام في حلب، بقوام 2000 مقاتل، رُبعهم من فلسطينيي مخيمي النيرب وحندرات، والبقية من السوريين. ويقاتل نصف فلسطينيي "لواء القدس" في المخيمات، في حين أن نصفهم الآخر شارك في العمليات القتالية خارجها في جبهات حلب الساخنة؛ في الزهراء وصلاح الدين والحمدانية وحلب الجديدة والمنطقة الصناعية. وتوكّل اللواء بالمرابطة على جبهة الراشدين في مدينة حلب.
وينتشر اللواء في مخيم النيرب وجنوبي مطار النيرب حيث "كتيبة أسود القدس"، وفي مخيم حندرات، وفي قرى عزيزة والشيخ لطفي وحيلان، وحول مبنى "المخابرات الجوية" وجامع "الرسول الأعظم" في مدينة حلب حيث "كتيبة أسود الشهباء"، وغربي السجن المركزي، وفي "جمعية الود" جنوبي نبل والزهراء حيث "كتيبة الردع".
ويُشكّلُ "لواء القدس" الفلسطيني خليطاً من بعثيين وفتحاويين وقيادة عامة، ولأعضائه سمعةٌ سيئة كأصحاب سوابق وشبيحة ومتعاونين مع المخابرات. ويطلق مقاتلو "القدس" على أنفسهم لقب: "فدائيو الجيش العربي السوري".
محمد السعيد، زعيم "لواء القدس"، كان قد فتح خطاً أمنياً مبكراً مع النظام قبل الثورة، من خلال الجمعية الإنسانية الفلسطينية "بيت الذاكرة" التي ساهمت في تأمين مِنح للحجاج، وحل مشاكل الفلسطينيين في المخيمات مع النظام. وعمل محمد السعيد مع "المخابرات الجوية" في حلب لاحتواء الحراك الثوري في ريف حلب، وتأمين لقاءات بين الأهالي والوجهاء مع القيادات السورية، وحل مشاكل الموقوفين لدى النظام مقابل تعهدات خطية. مهمة السعيد للتهدئة بين الناس والنظام، تُمثّلُ دوراً أُوكِل للأعيان الجدد، القادمين من مهن مرتبطة بالدولة كالتعهدات والمقاولات. والسعيد مهندس ميكانيك من سكان مدينة حلب، لديه أقارب في مخيم النيرب، وأصله من ترشيحا في قضاء عكا. كما يحمل السعيد دبلوماً في الدراسات التراثية العربية والإسلامية، وكان عضواً في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين/القيادة العامة"، القوية تاريخياً في النيرب.
عاش "لواء القدس" تحولاً إضافياً، منذ بدأ القتال خارج المخيمات، بالتزامن مع اتخاذ "الحرس الثوري" و"حزب الله" من مطار النيرب منطلقاً لعملياتهم في حلب. ومنذ مطلع العام 2015، بدأ الدعم الإيراني للواء، عبر فتح قناة اتصال مباشرة معه. ومع ذلك ظلت بندقية "القدس" متأرجحة بين كتفي "الحرس الثوري" و"المخابرات الجوية". ورغم ما يقال عن إن جزءاً كبيراً من أعمال اللواء استعراضية، إلا أن انخراط اللواء في عمليات "الحرس الثوري" زودت قيادته بفرصة الانتماء إلى شبكة مليشيات "الحرس الثوري" الإقليمية.
أكراد "وحدات الحماية"
وعلى غرار مجتمعات الأكراد السوريين، كان "الشيخ مقصود" مركزاً سياسياً ناشطاً، خصوصاً من "يكيتي" و"الحزب الشيوعي" و"القومي السوري" و"اتحاد الشعب الكردي". إلا أن "العمال الكردستاني" وجناحه السوري "الاتحاد الديموقراطي" كانا قد هيمنا على الساحة السياسية في الحي، وجميع مناطق الأكراد في سوريا، منذ بداية الثورة السورية.
الحي الذي سيطرت عليه "وحدات الحماية" رغم وجود قوات النظام فيه، كان قد شهد تنسيقاً نادراً بين "الوحدات" والمعارضة في آذار/مارس 2013، تُوّج بخروج قوات النظام منه. إلا أن إشراف "الشيخ مقصود" على طريق الكاستيللو ودوار الجندول، كان مصدر الأزمة المتجددة بين "وحدات الحماية"-الذراع العسكري لـ"الاتحاد الديموقراطي"، والمعارضة السورية. فالكاستيللو ظلّ شريان إمداد الحياة إلى حلب الشرقية، قبل أن تقوم قوات النظام، بدعمٍ روسي إيراني، بإغلاقه، منتصف العام 2016.
العلاقة بين المعارضة التي دخلت حلب منتصف العام 2012، وبين "وحدات الحماية"، بدأت بالتأزم منذ أيلول/سبتمبر 2015، إلى درجة الاشتباكات المسلحة بين الطرفين، وذلك بعد فتح معبر بين حي "الشيخ مقصود" ومناطق سيطرة النظام في حلب الغربية. أنهت الأزمة علاقة "اللاحرب-اللاسلم" بين المعارضة والوحدات، خصوصاً بعدما بدأت الأخيرة قصفاً على طريق الكاستيللو، ردت عليه الفصائل بقصف الحي. الأمر الذي ظل يتكرر عندما نفّذت "وحدات الحماية" هجمات متزامنة مع قوات النظام والمليشيات الشيعية، تسببت في إغلاق الكاستيللو نهائياً. إبراهيم إبراهيم نفى أن تكون عمليات "الوحدات" بالتنسيق مع قوات النظام، وإن لم ينفِ تزامنهما. فالغرض بالنسبة لـ"الاتحاد الديموقراطي" هو إبعاد خطر قصف "الشيخ مقصود" بسكانه المتبقين (حوالى 40 ألفاً)، من منطقة دوار الجندول.
الفصائل بدورها ترفض ادعاء "الوحدات" عدم تنسيقها مع النظام، خصوصاً مع ظهور قادة المليشيات الشيعية في الشيخ مقصود بعد إحكام حصار حلب مؤخراً. وإن يكن، فالواضح أن أجندة "الوحدات" ليست متطابقة تماماً مع تلك الخاصة بالنظام، وإن كان تحالف مؤقت يجمعهم ضد المعارضة.
حلب الماردلية والعشائرية
الماردلية، وصف يطلق على من يعود أصلهم إلى ماردين التركية، ممن نزحوا بعد الحرب العالمية الأولى وتفكيك السلطنة العثمانية، إلى الحسكة في سوريا، ومنها وجدوا طريقهم إلى حلب.
ورغم أن هناك خلطاً بين "المحليمية" و"المارديلية"، نتيجة وجود أكراد ومسيحيين وأرمن وعرب بين نازحي ماردين، إلا أن كثيراً من مارديلية حلب هم في الأساس من "المحيلمية". وسكن الماردلية الجابرية والسيد علي والنيال، وهي مناطق حديثة نسبياً، أنشئت في أواخر أربعينيات القرن الماضي. ويقال إنهم سيطروا على الجابرية بعدما زاحموا سكانها المسيحيين الذين فضلوا الانتقال والسكن في العزيزية والسريان.
تقاسم زعماء "الماردلية" تجارة الممنوعات في حلب، مع زعماء العشائر، بالتعاون مع النظام. وبلغوا من القوة أن نشروا بسطاتهم وأكشاكهم في باب الفرج، وفَرضوا أتاوات على التجار.
لم يشكل الماردلية فصائل خاصة بهم، بل قاتلوا في مناطقهم، وتوزعوا في مليشيات النظام التي تقاتل في السليمانية والتلفون الهوائي والأشرفية والشيخ مقصود. وكانت "كتائب أبو عمارة" قد أعلنت في كانون أول/ديسمبر 2014، اغتيالها "زعيم شبيحة الماردل" حبيب مردلي، في الحمدانية في حلب الغربية.
وعشيرة بري المشهورة، هي في الأصل عربية سنّية من ريف حلب الجنوبي، ويردوّن انتماءهم إلى قبيلة "قيس" في الرقة ودير الزور. عشيرة بري انتشرت في باب النيرب، وشكّلت عصابات تشبيح تاريخية، وعملت في تجارة الممنوعات، وكانت مشهورة بعلاقاتها الأمنية. منذ منتصف السبعينيات، أصبح آل بري بمثابة وكلاء للنظام، وحازوا حصة الأسد من اهتمامه ورعايته، حتى أصبح بعضهم من أغنياء حلب، وشكلوا عصابات فرضت نفسها بالقوة على بقية العشائر في مدينة حلب، وأرهبتهم.
كبار عشيرة بري، كانوا قد تشيّعوا قبل الثورة، وافتتحوا حسينيات في باب النيرب. مع الثورة، انخرط آل بري في أعمال التشبيح ضد مظاهرات حلب السلمية. وحين دخلت المعارضة حلب في آب/أغسطس 2012، كانت أول مواجهة لها مع آل بري، الذين انهزموا ونزحوا من باب النيرب إلى مناطق النظام في الحمدانية.
شكلت عشيرة بري مع مجموعات عشائرية وقبلية من العساسنة والبقارة، ما يُعرف باسم "لواء محمد الباقر". ومجموعة البقارة المشاركة في "لواء الباقر" هي بزعامة أحد شيوخ آل مرعي.
كما أن قسماً من العشائر السابقة، كان قد انضم للمعارضة، وكما يقول خالد الخطيب، الفئة المستفيدة من تجار الأغنام والمخدرات تحالفت مع النظام، في حين أن الفئات الفقيرة و"العتالة" انضمت إلى صفوف الثورة، وشكّلت فوجاً في "لواء التوحيد" السابق بقيادة حسن مخيبر.
صراعات على خطوط الهوية
من أصل 35 فصيلاً معارضاً مسلحاً في حلب الشرقية، ينشط 11 منهم في صد هجمات المليشيات الشيعية عن الأحياء المحاصرة. وبقية الفصائل كانت قد نقلت معظم قواتها للمشاركة في عمليات "درع الفرات" المدعومة تركياً ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" شمال شرقي حلب. فصائل المعارضة الحلبية، يمكن ردّ معظمها إلى "لواء التوحيد" الذي كان سباقاً في دخول الشرقية في العام 2012. مقتل قائد "لواء التوحيد" ومؤسسه، عبدالقادر صالح "حجي مارع"، في غارةٍ جوية، تسبب في تفكك التحالف الذي مثّله اللواء، إلى مكونات مسلحة أكثر تنوعاً تتبع روابط مناطقية أو عقائدية. وجميع فصائل المعارضة المسلحة في حلب، تنهل عقائدياً من مدراس "الإسلام الشامي"، وإن استجد على قلةٍ قليلة منها مزيج يجمع "السلفية الجهادية" مع "الإسلام الشامي".
وكانت الصوفية هي الأكثر انتشاراً في أرياف حلب، قبل أن يغلق النظام الزوايا والتكايا، خلال العام 2003، ويبدأ بدعم محموم لـ"السلفية الجهادية" لتأمين المقاتلين في المعركة ضد الأميركيين بعد غزو العراق. العملية لم تلقَ رواجاً شعبياً، وظلت "السلفية الجهادية" محصورةً في أوساط ضيقة، وسط التشكيك الأهلي في رموزها وارتباطاتهم بالنظام. في المحصلة، لم تزدهر "السلفية الجهادية" في حلب، إلا أن الصوفية وطرقها كانت قد تراجعت بشدة، بعد تجاهل النظام لدعمها.
أما فصائل الشرقية المسلحة، على تعددها، فقد بدأت تواجه معضلةً عويصة، في ظل الحصار والقصف الروسي، لتأزيم العلاقة مع حواضنها الشعبية. إلا أن الأمر ليس بهذه السهولة، فالشرقية التي يقطنها اليوم ما يقارب 250 ألف إنسان، في ظروف لا إنسانية، وسط حصار تفرضه مليشيات شيعية تدور في فلك "الحرس الثوري" الإيراني، تجد نفسها أمام خياراتٍ صعبة للغاية. وقد تكون أولى المؤشرات هي انضمام "حركة نور الدين زنكي" إلى غرفة عمليات "فتح حلب" وسط حديث عن قرب اندماجها و"فيلق الشام" مع "حركة أحرار الشام الإسلامية".
الأعمال العسكرية المحمومة، لعسكر إيران، على أطراف حلب الشرقية، بالتعاون مع قصف جوي روسي، بات عاملاً إضافياً لزيادة التصاق أهل الشرقية بهويتهم العقائدية. الأمر الذي بات يفصلهم، جوهرياً، عن مواطنيهم الذين فضلوا الاصطفاف مع المحور الإيراني-الروسي. فـ"لواء القدس" و"لواء الباقر" وإلى حدّ ما "وحدات الحماية"، بات يُنظر إليها كقوى متحالفة مع "الاحتلال" الإيراني/الروسي.
عملية "الأَجنَبة" لفصائل محلية تُقاتل مع قوى أجنبية غازية، قد تكون فصلاً حاسماً، في تفتيت المكونات المحلية، وأقلمة الصراع. الأمر غير المسبوق، هو انتماء هذه الفصائل "المتأجنبة" إلى المنشأ الطبقي ذاته لمَن يعادونهم اليوم.
وإذا كانت نسبة الفصائل "المتأجنبة" في مجريات حصار الشرقية، بسيطة وغير مؤثرة في الأعمال القتالية، بالمقارنة مع أعداد الفصائل الشيعية الإيرانية والأفغانية واللبنانية والعراقية والباكستانية، إلا أن أثرها المعنوي أقوى.
فالحرب التي تخوضها فصائل طرفية "متأجنبة" ضد حلب الشرقية وأهلها، ليست حرب المُهمشين ضد طغاتهم، بل حرب هوامش ضد هوامش، حرب أطراف ضد أطراف، يتم خلالها تخليق أسباب مستوردة للعداء، وتحويل جزء من قوى المجتمعات المحلية إلى وكلاء للقوى الغازية. في حروبٍ كهذه، تُفتقد فيها الأسباب الإقتصادية والاجتماعية للنزاع، لمصلحة بُعدٍ "ثقافي" تفرضه القوى الغازية الأجنبية، تكون الإبادة والتهجير، هي الوسيلة الوحيدة لإرضاخ الخصم. فالحرب هنا، لم تعد وسيلة، بل صارت هي الغاية. لذلك، فهي في أحد أخطر وجوهها: حرب إبادة "الحلبيين الأجانب" للحلبيين المحليين.
لا تنشب الحرب وفق خطة مسبقة في كل الأحوال. الحروب أنواع عدة. أحدها ينتج من أخطاء سياسية أو عسكرية، أو سياسات تبدو لصانعيها محسوبة قبل أن تؤدي إلى تداعيات تصعب السيطرة عليها.
وليست الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وحدها التي اندلعت بسبب أخطاء ارتكبتها قوى أوروبية كبرى، وأدت إلى أحداث تداعت حتى وجدت هذه القوى نفسها أمام حرب لا مفر منها. ولكنها تُعد المثال الأكثر دلالة على هذا النوع من الحروب، ربما لهول ما ترتب عليها من ضحايا وخسائر ودمار.
وعلى رغم أن العالم تغير كثيراً، بل ربما جذرياً في العقود السبعة التي أعقبت انتهاء تلك الحرب، ينطوي الصراع الروسي - الغربي في سورية على ملامح يبدو بعضها قريباً من المقدمات التي أدت إليها.
لقد تمكنت القوى الدولية الكبرى من تجنب نشوب حرب واسعة منذ انتهاء الحرب الثانية، وسعت إلى تحقيق مصالحها بوسائل أخرى. لجأت أحياناً إلى نمط الحرب بالوكالة في مختلف مناطق العالم. كما أصبحت حروب الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا أدوات فاعلة في الصراع الدولي.
وهذا التغير الهائل في العالم يُضعف احتمال نشوب حرب عالمية كبرى أخرى (ثالثة)، لكنه لا يُلغيه أو يجعله مستحيلاً. لذلك تصعب مقاومة إغراء التفكير باحتمال تصاعد التوتر الذي ازداد في الأسابيع الأخيرة بين روسيا والغرب حول الأزمة السورية باتجاه حرب واسعة النطاق.
كما يصعب حصر دلالة تحذير موسكو من مثل هذه الحرب في السعي إلى منع أي دعم غربي للمعارضة السورية يُغير ميزان القوى في حلب، ويحول دون سقوطها في أيدي قوات نظام الأسد والميليشيات المتعددة الجنسية التي تعمل معه. قد يكون هذا «الردع» الهدف الرئيس للخطاب الروسي عن زلزلة الشرق الأوسط، واللعب الخطر في سورية، والتحولات المرعبة في المنطقة كلها في حال إقدام الغرب على أي تدخل مؤثر.
غير أن هذا الخطاب التحذيري القوي يحمل في طياته معنى أن الحرب الضارية في سورية قابلة للتوسع، ولكن لغير ما تقصده موسكو بل لعكسه تحديداً. فهذا احتمال يزداد بازدياد ارتباك الغرب وعجزه عن الفعل، فيما يقلّله التدخل بوسائل كالتسليح النوعي للمعارضة. لذلك لم يعد ممكناً الاستمرار في استبعاد هذا الاحتمال إذا بقيت الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي تأمل بوقف مذابح حلب مرتبكة وعاجزة.
وربما يكون السبيل الوحيد إلى تجنبه الإسراع بتقديم دعم عسكري نوعي إلى المعارضة السورية يُمكّنها من الصمود في حلب ومناطق أخرى صار وجودها فيها مُهدَّداً. فالبديل عن هذا الخيار هو أن تجد الدول الغربية نفسها بعد حين في موقف شديد الصعوبة قد يدفعها إلى التدخل المباشر الذي تحذر منه موسكو.
ويتطلب ذلك تحرر واشنطن من فوبيا وقوع أسلحة نوعية تقدمها إلى المعارضة في أيدي عناصر متطرفة. وقد يكون هذا خطراً محتملاً، ولكنه ليس كبيراً. فإذا افترضنا استيلاء جبهة فتح الشام (النصرة) مثلاً على بعض الصواريخ المضادة للدبابات، لن يكون لديها ترف تخزينها في ظل القصف الجوي المتوحش الذي يفرض استخدامها فورياً. كما أن عدد عناصر هذه الجبهة في حلب محدود، ويُعدَّ بالمئات وليس بالآلاف، بشهادة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا الذي لم يُعرف عنه أي تعاطف مع المعارضة، بل العكس.
غير أن استمرار التردد الغربي في حسم خيار إمداد المعارضة بهذه الأسلحة يزيد احتمال توسع الحرب حين تجد الدول المترددة في شأن هذا الخيار أنها لم تعد قادرة على تحمل التحدي الروسي الذي يُتوقع له أن يتنامى في حال سيطرة حلفاء موسكو على حلب.
وعندها قد يصبح توجيه ضربات صاروخية ضد مطارات وقواعد عسكرية تابعة لنظام الأسد، وإسقاط طائراته، خياراً جدياً بما قد يفتح الباب أمام توسيع الحرب وتدويلها.
وهكذا يزداد احتمال نشوب حرب واسعة كلما تأخر الغرب في اتخاذ موقف قوي ضد روسيا يفرض عليها مراجعة سياستها المغامرة عبر تمكين المعارضة من إلحاق خسائر بطائراتها وقواتها في سورية. فالارتباك والتردد الغربيان يشجعان موسكو على المضي قدماً في سياسة التوسع المدفوعة بحلم قومي متطرف لاستعادة أمجاد إمبراطورية.
ويصح، هنا، أن نستعيد درس الحرب العالمية الثانية التي كان ارتباك بريطانيا في مواجهة التوسع الألماني السبب الرئيس لإشعالها. صحيح أن العالم تغير كما سبقت الإشارة. كما أن روسيا البوتينية تختلف عن ألمانيا النازية الهتلرية. ولكن الاختلاف بينهما يتعلق بمرجعية النزعة القومية المتطرفة، وليس بجوهرها وطابعها المغامر وميلها التوسعي.
غير أن أوجه الشبه بين الارتباك الأميركي تجاه روسيا الآن، والارتباك البريطاني إزاء ألمانيا قبل ما يقرب من ثمانية عقود، تبدو أهم. كما أن المقارنة بين شخصيتي أوباما ورئيس الوزراء البريطاني حينئذ تشمبرلين قد تكون أهم من المقارنة بين شخصيتي بوتين وهتلر.
كان تشمبرلين مؤمناً بإمكان الحل السلمي لأية أزمة مهما بلغت حدتها، وراغباً في تجنب أي عمل عسكري. ولذلك ظل يراهن على أن يكتفي هتلر أو يشبع، فتغاضى عن ضم النمسا، ثم رضخ لضغوط هتلر في شأن إقليم السوديت في تشيكوسلوفاكيا، وقدمها «هدية» له في مؤتمر ميونيخ المشهور في أيلول (سبتمبر) 1938 على رغم ارتباطه معها بمعاهدة تعاون دفاعي. وكان لديه اعتقاد قوي بأن الأمر سينتهي عند هذا الحد.
لكن هتلر فسر موقف تشمبرلين وحلفائه بأنه ضعف، ما فتح شهيته لمزيد من التوسع. ولم يمض عام على مؤتمر ميونيخ حتى كانت ألمانيا قد غزت بولندا في 1 أيلول (سبتمبر) 1939 فاشتعلت الحرب العالمية.
وإذا أردنا أن نحدد البداية الحقيقية لتلك الحرب، في سياق السعي إلى استيعاب درس من التاريخ، لا بد أن نعود إلى الاتفاق الذي أسفر عنه مؤتمر ميونيخ في 1938، قبل عام على اندلاعها.
والسؤال الآن هو: أليست هذه أوجه شبه معتبرة بين بعض أهم مقدمات تلك الحرب، وخصوصاً السياسة البريطانية تجاه التوسع الألماني في وسط أوروبا وشرقها، وبعض ما يحدث الآن وخصوصاً السياسة الأميركية تجاه الهجمة الروسية في سورية؟
بعد هدنة أو ثلاث، لا بد أن تتواصل معركة حلب، حتى إن تم إخراج مقاتلي جبهة «تحرير الشام» («القاعدة» سابقًا) من حلب، فهذا لن يكون إلا فصلاً من المعركة، وليس خاتمتها على نحو ما يقول البعض، أو يتوهم آخرون. وثمة سببان معروفان لهذا المآل؛ أولهما أنه ليس من برنامج للحل السياسي لدى الطرف المصر على أخذ المدينة بالحرب قتلاً وترحيلاً لمن فيها ودمارًا لمعالمها، ثم احتلالاً بالقوة وفق النموذج الذي طبقه حلف النظام في محيط دمشق على مثال داريا في غوطة دمشق الغربية، وعلى نحو ما سيؤول إليه الحال في أكثر مدن غوطة دمشق الشرقية. أما السبب الثاني فيتصل بالفريق الآخر من المجتمع الدولي والموصوف باسم «أصدقاء الشعب السوري» بقيادة واشنطن، الذي لا يملك الإرادة بالمضي نحو حل سياسي، بات يتطلب تغييرات ميدانية، توقف الذاهبين إلى الحل العسكري عن مسارهم، وتدفعهم إلى طاولة المفاوضات، للوصول إلى توافقات للحل السياسي عبر تنازلات متبادلة، وتكمن في خلفية هذا الموقف مخاوف من اندلاع حرب تخرج من الداخل السوري إلى محيطه الإقليمي، قبل أن تتحول إلى حرب عالمية كثرت التحليلات حول مساراتها ونتائجها الكارثية.
في ظل الوقائع القائمة، التي تعكس صلفًا في معسكر حلف الروس والإيرانيين ونظام الأسد، وإحساسًا بالقوة، وإصرارًا على الهدف بالاستيلاء على حلب، وضعف وغياب للإرادة في الطرف الآخر، تبدو معركة حلب محسومة النتائج، وهي سقوط المدينة بيد المهاجمين الذين سينتقلون إلى مرحلة تالية في حرب الشمال السوري، ستكون إدلب ميدانها، وفق سيناريو لن يكون بعيدًا عما تم في حلب، وإن اختلف بعض تفاصيله بحكم المعطيات المحلية ليس أكثر من ذلك، وسيكون المدافعون عن إدلب في وضع، لن يختلف كثيرًا عما كان عليه حال المدافعين عن حلب إلا في بعض التفاصيل، لأن بيئة الحرب الإقليمية والدولية، لا ينتظر أن تتغير كثيرًا في الفترة القريبة، وهو عامل يشجع حلف الروس والإيرانيين ونظام الأسد على إنجاز سريع لهذا الفصل في حرب الشمال السوري.
إن الخلاصة المنتظرة لما بعد معركة حلب مزيد من الخسائر في صفوف السوريين في حرب غير متكافئة من الناحيتين السياسية والعسكرية، تبدو معالمها الرئيسية في الداخل في ثلاثة تعبيرات؛ أولها انحسار مساحات الأراضي الخارجة عن سيطرة النظام، وتمدد الأخير وحلفائه فيها، والثاني مزيد من الخسائر البشرية والمادية في صفوف معارضي النظام وحواضنهم الاجتماعية، وبالتالي مزيد من معاناة سكان مناطق الشمال، والثالث تراجع قوة تشكيلات المعارضة المسلحة، وقد تختفي بعض تلك التشكيلات من مسرح الشمال.
ولا يكمن سبب هذه الخلاصة في العامل الإقليمي والدولي بوزنه المؤثر فقط، بل يمتد إلى العامل المحلي الذي ساهمت في تكريسه سياسات وممارسات، شكلت الأساس فيما لحقه ويلحقه من خسارات وهزائم، ولعل أول تلك السياسات والممارسات، هي انفصال السياسي عن العسكري، ومحاولة الأخير تحت حجج مختلفة، أن يزاوج بين الدورين العسكري والسياسي لصالح مشروعه في نظام أكثري لسوريا المقبلة، باعتبارها عربية - إسلامية - سنية، مقابل مشروع سياسي، يقوم على «سوريا لكل السوريين، دولة ديمقراطية تعددية»، وهو مشروع استدعى مسايرة السياسي للعسكري، ولو على حساب مشروعه الأشمل والأقرب إلى أهداف ثورة السوريين، كما استدعى في آن معًا سكوته عن وجود وممارسات جماعات مسلحة متطرفة، ومصنفة في القائمة العالمية بوصفها تنظيمات إرهابية، مثل «جبهة النصرة»، فرع «القاعدة» في سوريا، التي غيرت اسمها إلى «جبهة فتح الشام»، وأعلنت انفصالها عن «القاعدة»، دون الذهاب إلى تغييرات عميقة في قياداتها وبناها التنظيمية وفي منظماتها الفكرية والسياسية وأهدافها، التي بقيت على أرضية «القاعدة»، ومثل «جند الأقصى»، التي وصفتها التشكيلات المسلحة للمعارضة، بالتابعة لتنظيم داعش الموصوف بـ«الإرهاب والتطرف»، ثم سكتت عن مبايعة «جند الأقصى» لـ«جبهة فتح الشام» واندماجها فيها.
والخط الثاني في السياسات والممارسات باعتبارها سببًا فيما صار إليه الوضع الحالي، تمثله الصراعات البينية، ليس في المستوى السياسي فقط، ولا بين السياسي والعسكري، بل في الطرف الأخير رغم تقارباته الآيديولوجية والسياسية الإسلاموية. فثمة حذر وتوجس وعصبوية، وتنافس محاط بالشك والشكوك والاغتيالات، وحروب غير معلنة بين الجميع.
أما الخط الثالث في سياسات وممارسات التشكيلات العسكرية، فقد بدا في علاقتها مع الحاضنة الشعبية. وبدل أن تبذل جهودها في خدمة الحاضنة، التي منحتها معظم عوامل «القوة» التي صارت إليها، فإنها عملت على إخضاعها آيديولوجيًا وسياسيًا، واستخدمت مختلف الوسائل مزاوجة بين الترغيب والترهيب، وبدل أن تحسن سبل الحياة، جعلتها أصعب.
وسط تلك السياسات والممارسات وبالتزامن مع بيئة إقليمية ودولية سلبية التأثير، بدا من الطبيعي الوصول إلى ما صار إليه الوضع في الشمال السوري، وصار بالإمكان لروسيا وحلفها مع الإيرانيين ونظام الأسد تحقيق تقدم ميداني على الأرض وتحقيق تقدم سياسي من شأنه تغيير موازين القوة والمضي على طريق استعادة السيطرة في الشمال الذي تمثل معركة حلب فصلاً أساسيًا فيه، وقد تكون إدلب فصله الثاني، إن لم تحصل معجزة، تبدل النتائج التي تلوح في الأفق.
تهجير ممنهج للعرب السنة في الموصل وفي ريف دمشق، ولا تزال عيون إيران وروسيا على سكان حلب.. بات من الواضح للجميع أنه ليس هناك حل يلوح في الأفق لتخليص الشام والعراق من الهيمنة الإيرانية وأدواتها في الدولتين اللتين راحتا ضحية الشعارات الزائفة والجمهوريات الفاسدة، فلم يكن من الغريب تفتت العراق وسوريا بعد أن اندلعت الحرب في إحداهما والثورة في الأخرى، على خلاف دول الربيع العربي الأخرى التي لم تتأثر وتنهار بشكل كلي كحال سوريا والعراق، فلطالما كان الناس في البلدين على اختلاف انتماءاتهم الطائفية مقموعين وممنوعين من التعبير عن ثقافاتهم في ظل نظامين طاغيين أسدي وصدامي.
كانت نتيجة القمع وطمس الهويات حروب دموية في البلدين استشرست كل طائفة فيها للدفاع عن هويتها المطموسة، فما كان من الأكراد إلا أن لملموا قواهم و بنوا جيوشهم و مؤسساتهم ووجدت إيران في الشيعة العرب الأداة المجانية التي تقاتل فيها أعدائها في المنطقة وهم العرب السنة الذين تجد نفسها في سباق على النفوذ معهم في المنطقة العربية، فجهزت إيران كذلك الميليشيات وسلحتها وأضفت عليها سحنة طائفية خلقت جدار لن تهدمه السنين بين الشيعة العرب ومواطنيهم في بلاد الشام والرافدين، أما ممثلي السنة ففشلوا في إيجاد معبر عن التيار السني المحافظ بتمثيل حداثي يقود إلى جعل العرب السنة جزء من الحكم في سوريا والعراق في المستقبل، بينما نجحت تنظيمات كداعش والقاعدة في تشكيل حالات سنية ذات شعبية بين السكان، حتى أن الفصيلين نجحوا في إرساء أسس دولة تمارس التجارة وتقوم ببعض الصناعات و تفتح المدارس رغم أنها دولة غير صالحة للاستمرار في ظل معاداتها لكل القوى العالمية الإسلامية منها والغربية.
الحل يكمن في إيجاد ممثل حداثي للعرب السنة في العراق والشام يلتف حوله السكان ويكون قادر على تمثيلهم دون أن تكون له أي شبهات بالإرهاب
البكاء على الحليب المسكوب لن يفيد كثيراً فلا أحد سمع صوت بكاء الطفل عمران رغم أننا رأينا العالم كله يشاهد وجهه المدمى في الصحف والشاشات، ولن يسمع أحد كذلك صوت النازحين من الموصل الذين لم يختاروا داعش، بل داعش اختارتهم لتنشأ دولتها بينهم.
في الانتخابات الأميركية هناك أربعة مرشحين للرئاسة، كلينتون وترامب واثنين آخرين غير معروفين يمثلون أحزاب ثالثة لن تنجح حتماً، السياسيون ينصحون الناخبين بالتصويت إما لترامب أو لكلينتون حصراً، فإذا كنت تفضل هيلاري على ترامب وامتنعت عن التصويت لهيلاري وبدلاً عن ذلك صوتت للمرشح الثالث أو الرابع فهذا يعني أنك أعطيت صوتك لترامب حين صوتت لمرشح ليس لديه أي فرص للفوز.. وقوف العرب السنة إلى جانب داعش أو القاعدة هو بمثابة التصويت للمرشح الرابع أو الثالث، وبالتالي تعود الفائدة على المرشح العدو وهي ميليشيات إيران التي تنكل بالعرب السنة والتي تحتكر السلطة والتمثيل السياسي في سوريا والعراق، إذا أنت صوت لمرشح غير صالح أصلاً للحكم ولن يسمح العالم له بتمثيل العراق أو سوريا يوماً وهذا هو سبب استمرار الحرب في البلدين.
الحل يكمن في إيجاد ممثل حداثي للعرب السنة في العراق والشام يلتف حوله السكان ويكون قادر على تمثيلهم دون أن تكون له أي شبهات بالإرهاب، ولعل تجربة الحريري في لبنان تجربة رائدة حيث أنها مثلت السنة اللبنانيين بمحافظين وليبراليين بشكل دفع العالم بأسره للوقوف ضد قيام نظام الأسد باغتيال الحريري، إلا أنها تجربة ارتبطت تماما بشخص الحريري ولم ترتكز على أرضية فكرية مما أضعفها مؤخرا على حساب التيارات السلفية التي رأى فيها جزء من سنة لبنان معبرا يجابه عقيدة حزب الله الفاشستية.
ولعل تجربة تيار المستقبل هي تجربة تستحق الدراسة للاستفادة من أخطائها كي يشكل كيانا سياسيا وفكريا يكون نداً لميليشيات إيران الإرهابية أمام المجتمع الدولي لمواجهة داعش وكل أشكال التطرف التي يتخذها الغرب حجة لاستمرار قصف المدنيين في المناطق ذات الغالبية السنية.
فمع كل استفراد حزب الله في لبنان وهيمنته بسلاحه على جميع قطاعات الحياة فيه إلا أن وجود تمثيل سياسي للسنة ممثل بسعد الحريري يحمي سنة لبنان من الكثير من التجاوزات ويجعلهم شركاء في حكم البلاد حتى أن مسألة كتعيين رئيس جديد للبلاد لا تمر دون موافقة ممثل السنة والذي سيكون رئيس حكومة في ظل الإدارة اللبنانية الجديدة.
لم يكن مقدراً لـ «دولة البغدادي» أن تعيش طويلاً. العراق لا يستطيع احتمالها. والمنطقة لا تقدر على التعايش مع وجودها. والعالم لا يستطيع غضّ النظر عن ارتكاباتها. حين تختار مجموعة إرهابية العيش تحت عنوان ثابت ومعروف، ترتكب خطأً قاتلاً. قوة الإرهاب تكمن في سرّيته وقدرته على التخفّي. حين يصبح له عنوان، يبدأ العدّ العكسي لشطبه. ثم إن تنظيم «داعش» بفكره وطبيعته وأساليبه هو عملية انتحارية واسعة. اللافت هو أن رحلة «داعش» ألحقت أفدح الأضرار بمن ادعت أنها جاءت لنصرتهم والدفاع عنهم. يعاقب المكون الذي ينتمي إليه أصلاً أبناء «داعش» مرتين، الأولى على يديه والثانية على أيدي خصومه.
قال المسؤول الكردي: «أنا لا أقلل من تضحيات الجيش العراقي والبيشمركة، ولكن من دون الغارات الأميركية كان يمكن معركة الموصل أن تكون مريرة وطويلة وشبه مستحيلة». واعترفَ بأنها قد تستغرق بعض الوقت «لأن أوباما لا يستطيع أن يفعل في الموصل ما فعله بوتين في غروزني أو ما يفعله حالياً في حلب. لدى أوباما معارضة ورأي عام وصحافة حرة، في حين نجح بوتين في تطويع المؤسسات والأصوات وإلحاقها بمطبخ القصر».
رأى أن الموصل ستعود «لكن السؤال هو إلى أين تعود؟ إذا استعيدت على قاعدة التوازن والمسؤولية الوطنية وتبادل الاعتراف بين المكونات، ستكون استعادتها خطوة على طريق استعادة العراق. وإذا استُخدِمت نتائج معركتها لتعزيز الخلل في التوازن بين الشيعة والسنّة، فإن فكرة داعش ستبقى حية أو ستستيقظ عند أول فرصة».
صحيح إلى أين سترجع الموصل؟ وماذا يريد حيدر العبادي وماذا يستطيع؟ وماذا يريد نوري المالكي وجنرالات «الحشد الشعبي»، وماذا يريد قاسم سليماني من الموصل؟
في ظل الانشغال بدخان حرائق الموصل، قد يتقرر مصير مدينة عربية عريقة أيضاً هي حلب. وتقع حلب، كما الموصل، على خطوط تماس مذهبية وإقليمية. لا يمكن تشبيه ما يفعله الروس في حلب بما يفعله الأميركيون في الموصل. الأزمة مختلفة وهوية اللاعبين وحساباتهم. أزمة حلب سابقة على وجود «جبهة النصرة» فيها وأبعد. أزمة سورية سابقة على وجود «داعش» ولا يمكن اختصارها بوجود الإرهابيين، على رغم خطورتهم.
يصرّ الروس والإيرانيون ومعهم النظام السوري على استعادة حلب الشرقية. يصرّون على الانتصار في هذا الفصل المهم من الحرب، وإن كان واضحاً أنه انتصار لا ينهي الحرب على رغم أهميته. مرة جديدة يطرح السؤال عن اليوم التالي. إلى أي سورية ستعود حلب علماً أنها تعيش أزمة مكونات؟
خدع القيصر كثيرين. كان الاعتقاد أنه سيمنع سقوط النظام، لكنه سيرغمه على السير في حل سياسي شبه معقول. ثم ساد الاعتقاد بأنه سيكتفي بمحاصرة المدينة ليطلق مبادرة جدّية للحل. ثم اكتشف الجميع أن حلب مجرد محطة في برنامج الانقلاب الكبير الذي ينفّذه بوتين ضد الغرب وحلفائه، لإعادة تطويب روسيا قوة عظمى مرهوبة الجانب. إذا حلّت عقدة حلب بأسلوب غروزني، فإن الحرب السورية ستنجب مزيداً من الانتحاريين، وسيمتد حديث «المظلومية السنّية» من الأنبار إلى حلب.
من حسن الحظ أن بيروت لا تعيش ما تعيشه الموصل وحلب. لكنها معلّقة في النهاية بمصير المدينتين من زاوية الجغرافيا والانخراط والمشاعر، ولأن هذا الكعك من ذاك العجين. قطعت توتّرات المنطقة رأس الجمهورية اللبنانية. أبقتها بلا رئيس منذ سنتين ونصف السنة. الذين حلموا بفوز سريع للمعارضة في سورية عادوا خائبين. ومثلهم الذين حلموا بهزيمة سريعة للمعارضة.
كانت بيروت مدينة مهمة يوم كانت رئةً وملاذاً وشرفةً ومختبراً. انكمشت قامتها كانحسار القامات على مسرحها. وعلى رغم ذلك يبقى لما تعيشه شيء من المعنى. تشهد بيروت حالياً محاولة لإنهاء عهد الرأس المقطوع. تسير في الاتجاه المعاكس لحروب التفكُّك والطلاق في العراق وسورية.
في وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، حفلة لتوزيع كؤوس السمّ على مؤيديه ومعارضيه. أغلبهم كانوا يفضّلون تفادي رؤيته مجدداً في القصر. جملة من العوامل الداخلية والإقليمية دفعت كثيرين إلى التسليم بتناول هذا الدواء المر. ثمة من يعتقد بأن الجنرال الثمانيني سيضطر إلى تجرُّع بعض السمّ بعد فوزه. سعد الحريري تحوَّل خبيراً في تجرُّع الكؤوس الصعبة. أغلب الظن أن مشاهد حلب والموصل كانت بين العوامل التي دفعته إلى الإقدام على «مخاطرة كبرى»، تتمثّل في ترشيح عون المقيم في الضفة الأخرى.
هناك ما هو أهم من قصة الجنرال. هل يستطيع اللبنانيون أن يبعثوا برسالة جديدة في هذه المنطقة المهددة بأن توغل أكثر في عصور الظلام؟ رسالة مفادها أن بيروت يمكن أن تتّسع ليعيش الشيعي والسنّي والمسيحي في دولة واحدة، وعلى قاعدة تبادُل الاعتراف واحترام الحقوق والمخاوف. أنا لست سائحاً غريباً. لا أطالب بأكثر من شبه جمهورية وشبه دستور وشبه قانون. مثل هذه الخيمة ضرورية للسنّي والشيعي والمسيحي، مهما توهّم أي طرف منهم، أنه قوي ويستطيع إملاء إرادته. ولا خيار أمام العراق وسورية غير التفكير بخيمة من هذا النوع، كي لا يتحول الانتصار في الموصل وحلب مجرد وعد بحروب أشد وأدهى.
هناك.. تحت الأرض، في الرطوبة والعتمة والهدوء الرهيب، مع فأس ورفيق، كان يحفر نفقاً، ربما للتفجير أو للتسلل أو للإمداد، حسبما تختار المعركة حينها، تفاصيل الخاتمة لا تعنيه ما دام الطريق واحداً وهو يحفر نفقاً إلى الحرية.
وفي الهدوء الرهيب، ومع كل ضربة فأس وانفلاق حجر، كان يظهر وجه طفلٍ قتيل في الحولة، ذعر معتقلة في دمشق، قصيدة شيخ في دوما، عوائل معدة للحريق في بانياس، مدارس وزعت أطفالها أشلاء في حلب.. حين عاد إلى بيته، اضطر أن يحفر مرة أخرى، كان أهله تحت أنقاضه ميتين.
حربنا طويلة لأن جيل الظلم طويل.. قضيتنا حق ثابت وطريقٌ طويل، وأمانةُ شعب من الشهداء وحقّ جيل قادم بالحرية والكرامة، وستدومُ ما دام الظلم.
وفي النفق المجاور، كان يجلس من فقد ستة من إخوانه شهداء يتحدث بيقين عن معركة قادمة، وبجانبه من فقد أربعة، ومن فقد اثنين، وبصمت كان يستمع من أعدّ نفسه للفقد العظيم كي يجد أهله طريقاً للهواء.
"ربما ننفق كل العمر كي ننقب ثغرة.. ليمرّ النور للأجيال مرّة"
وفوق غابة الأنفاق والمرابطين في العتمة، كانت الأرض القيامة.. هنا حلب، أخطر مدن العالم، وأجمل مدن العالم، فقيرة بالغذاء، غنية بالرجال.
بين كل مجزرتين، تطبخ أم لأبنائها الميتين عمّا قليل، ويجهّز مقاتل جعبته لخندق سيغدو قبراً للأعداء.. أو لنفسه، وتحفر مقابر عاجلة بين البيوت والحدائق، وتزفّ عروس لشهيد قادم، ويلعب الأولاد بجدية عابثة لعبة الحرب، ويولد طفل بعينين من ثأر وغضب، وتستكمل الحرية نشيدها السعيد في قلوب الثائرين..
وقريباً جداً من حافة المذبحة، كانت تمر حياة العالم وأهلها بحالتها العادية جداً.. بعاديّتها المرعبة! وجربنا جميع أنواع الموت، ومسارات الشظايا، وخيارات الركام، واحتمالات الأشلاء، وأشكال الفجيعة، وألوان الدم، وأعداد الضحايا، ودروب الشهادة، وبعد أيام.. بعد شهور.. بعد سنين في المذبحة، وقفنا وسط المقبرة الشاسعة بلامبالاة.. ضاحكين -بكامل جذوة القلب- للحرية العظيمة.
في مجزرة مدرسة ما، وبعدما انتُشلت أشلاء الإرهابيين الصغار، بقي جسد طفلة عالقاً تحت أنقاض البناء، بقيت أمها وأبوها أسبوعاً واقفين أمام الركام بينما تزيحه القبعات البيض، ولما وجدوا في النهاية جسد الطفلة القتيل ارتاحوا.. فرحوا.
وفي مجزرة مدرسة ما، كانت المعلمتان معاً على المقعد أمام الطلبة الصغار في درس الظهيرة، وبعد ثانيتين كاملتين، كانت المعلمتان معاً على المقعد نفسه.. بلا رأسين.. بلا طلبة.
وفي مجزرة مدرسة ما، على الأرض الحافلة بالموت والأشلاء، تمدد جسد الطفلة بسكينة هادئة، والدم انساب فوق الوشاح.. قانياً حتى دفتر الرسم المفتوح على جملة ملونة "أنا أحب سوريا".. وكانت سوريا تدفن المحبين بلا ملل.
وفي مجزرة قادمة، سوف نخبر الضحايا أن يموتوا متأنقين، وأن يتركوا احتياطاً بجانبهم كاميرات دقيقة، ربما تحتاجهم أوراق صحيفة توزع مع شاي الصباح، وسوف نخبر النساء أن يكتبن في وصاياهن المعطرة اقتباسات من سيمون دو بوفوار، حتى يصبح لموتهنّ معنى في حديث المنظمات والوزيرات الجدد، وسوف نخبر الطفل القتيل أن يدوّن عشر مرات في دفتر الرسم عن الفارق الدقيق بين مجلس الأمن والإرهاب، ولكننا سنخبر الناجي الوحيد من الرحيل الكبير بالحقيقة الوحيدة: كم أنت وحدك.
وبينما كنّا نموت، والمذبحة تهيم على رؤوس الناس، والموت يأتينا بكلّ سلاحه البري والجوي والبحري، كانت الإبادة المعلنة مجرد بند محتمل في غرف المؤتمرات، وكانت المذبحة كأي فعل سياسي تُطرح بهدوء للنقاش أو التعديل أو المساومة، كانت مذبحة أنيقة وشرعية وحديثة كما يليق بالدول الكبرى، ولم تكن فعل تنظيمات صغرى أو خطاب جهاديين كلاسيكيين لكي تصبح -عند الخبراء- من "الإرهاب".
وكانت الدول التي وزعت الشعارات الأخلاقية والإنسانية على شعوب الأرض قروناً، تتباحث بجدية عن حجة بليغة أو تبرير علميّ دقيق للمذبحة الكبرى، كأن يكون ثمة فرد بين كل ألفين ينتمي لفصيل يكرهونه.
قد يعيش الآخرون في سكينة العائلة والمدن الهادئة والترف الجميل، دون حصار أو قصف أو موت سريع في الطرقات، ولكنهم لا يعرفون أن طعم الحرية أجمل من كل ذلك.
وكانت تجتمع "الأمم" لتناقش الحلّ الأثير أمام المذبحة: ترحيل الشعب عن مدائنه، وكانوا يشكرون السفّاح إن أوقف المذبحة ساعتين، ويطلبون منا بوادر حسن نية بالمقابل، كأن نلقي السلاح والشهداء وما نزعمه من ضمير ونمضي للعار والهزيمة راضين بالمكافأة.
وكانت أرومتنا الكبرى وقومنا العرب الأقحاح مشغولين بجداول الكرة والغاز، ولم يتجاوز أحد الزعماء المحترمين أناقته وهدوءه الحكيم كي يستنكر أو يدين أو يشجب موتنا العلني، كانت حتى كلمات المواساة أكثر مما يستحق الميتون.
وقد يسألوننا مرة أخرى: هل كانت تستحق الحرية كل هذا الموت؟!
ولكن السؤال الأجدى بعد هذا الموت: هل عالمٌ بكل هذا العار يستحقّ الحياة حقاً؟!
إن حربنا طويلة لأن جيل الظلم طويل.. ولا تقف الثورة عند شخص أو معركة أو مدينة، قضيتنا حق ثابت وطريقٌ طويل، وأمانةُ شعب من الشهداء وحقّ جيل قادم بالحرية والكرامة، وستدومُ ما دام الظلم.
قد يعيش الآخرون في سكينة العائلة والمدن الهادئة والترف الجميل، دون حصار أو قصف أو موت سريع في الطرقات، ولكنهم لا يعرفون أن طعم الحرية أجمل من كل ذلك.
ولم نندم على الكرامة.
لا تفتأ وسائل الإعلام العالمية، تمطرنا صباح مساء بأخبار عدوان ملالي إيران، وإرهابهم في المنطقة العربية بدءاً بالعراق وليس انتهاء باليمن. هذا العدوان الذي يحظى بصمت أوباما وساسة دول الغرب والمنظمات الدولية، يعني بلا أدنى شكّ أن ما يفعله الملالي أحد أمرين، إما استفزاز وإما ابتزاز لأولئك الصامتين المتواطئين والمرتجفين مما قد ينالهم من (نعيم) الملالي، وفي كلتا الحالتين، فالملالي هم الرابحون من إرهابهم ولن يكونوا خاسرين أبدًا في ظل منظومة التراخي الدولية.
ومن مؤشرات ابتزاز الملالي واستفزازهم كما ورد في وسائل الإعلام العالمية:
تصريح وزير الخارجية الأمريكي الذي نشرته مجلة " فورين أفيرز" الأمريكية من أن سياسات طهران في اليمن، ودعمها لرئيس النظام السوري وحزب الله،تعقّد الاتفاق النووي! وما لبثت أمريكا أن جاءها رد الملالي سريعًا على لسان مساعد وزير خارجيتها بقوله:"إن قضايا المنطقة لا علاقة لها بالاتفاق المبرم بين الدول الست الكبرى وطهران"! أما كبيرهم خامنئي الذي كان يتحدث أمام حشد من الناس فقد قال مخاطبًا وزير الخارجية الأمريكي دون ذكر اسمه: "هل يمكن التفاؤل بكم بعد هذه التصريحات؟". وهذان الردان يثبتان مخاوف كثيرين في أمريكا وفي دول العالم كلها، من أن باراك أوباما قدم للملالي امتيازات باتوا يستغلونها لمشاريعهم العدوانية والتوسعية في المنطقة العربية، بل إنهم أصبحوا أكثر وقاحة وجرأة في التباهي بسيطرتهم على عدد من العواصم العربية، وأن لهم ميليشيات في تلك الدول، وهم من يزود الأقزام الحوثيين بالصواريخ التي يطلقونها على حدودنا الجنوبية، كما تمادوا في الوقاحة حدّ مطالبتهم أمريكا وروسيا بنصيبهم من الكعكة السورية، أو نصيبهم من تركة الرجل المريض بشار، وذلك في حديث اللواء يحيى رحيم صفوي للقناة الخامسة للتلفزيون الرسمي الإيراني، الذي عبر فيه عن قلقه إزاء محاولات أمريكا خداع روسيا في الملف السوري، محذراً موسكو وواشنطن من أن تتجاهلا نصيب إيران في هذا الملف خلال تعاملاتهما الثنائية!
ومما يؤكد استخفاف الملالي بأوباما ودول الغرب الداعمة لهم في الاتفاق النووي، قول المستشار العسكري لخامنئي منذ أيام، إن حضور المستشارين العسكريين الإيرانيين في سورية والعراق، ودعم طهران للميليشيات الحوثية في اليمن، وحزب الله في لبنان يأتي تماشياً مع أهداف الثورة الإسلامية.. مضيفا أنه :"منذ اليوم الأول لانتصار الثورة، قال الإمام الخميني إننا سندافع عن المسلمين والمظلومين في العالم، وهذه هي خصوصية التفكير الثوري والديني والإنساني " حسب تعبيره .
وإمعاناً في الاستخفاف بالداعمين لعدوان الملالي، وجّه قائد الحرس الثوري الأسبق محسن رضائي، رسالة إلى زعيم ميليشيات الحوثيين في اليمن حثه فيها على الاستمرار في "المقاومة" ضد عمليات التحالف لإعادة الشرعية، واعدًا باستمرار الدعم الإيراني لهذه الميليشيات الموالية لطهران.
وحسب كثير من المتابعين لعدوان الملالي، فقد "ظهر تحوّل كبير في وسائل الإعلام الأمريكية تجاه الحوثيين وطهران؛ حيث حذروا من أن ضعف الردّ الأمريكي على الحوثيين بقصف راداراتهم سوف يشجع هذه الميليشيات المدعومة من طهران، على إعادة هجومها. كما استغل الجمهوريون هذه الهجمات، فاتهموا إدارة أوباما بمساعدة طهران على تمويل وكلائها الإرهابيين في المنطقة عبر شحنها أموالاً تقدّر بمئات الملايين من الدولارات".
لهذا تساءلت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية عن سخاء إدارة وباما في تعاملها مع إيران، بمواصلة تخفيف العقوبات عليها في إطار الاتفاق النووي، وكيف أن طهران تردّ على هذا السخاء باستهداف القطع البحرية الأمريكية في الخليج العربي. وأضافت الصحيفة أن إيران تريد فكّ التحالف بين الولايات المتحدة والمملكة السعودية، فتساءلت ثانية عن توقيت حادثة الصاروخين الذي جاء بعد يوم واحد مما أسمته (ضربة بالخطأ أدّت إلى مقتل مدنيين في صنعاء)، مؤكدة أن الهجوم الفاشل على المدمرة التي كان على متنها مئات البحارة الأمريكيين، تذكيرٌ آخر بأن الاتفاق النووي زاد من طموحات إيران بدل تحجيمها، على الرغم من التنازلات الهائلة من جانب الولايات المتحدة!!
وكان السيناتور جون ماكين وهو رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، قد قال في بيان يوم الجمعة الماضي: إن "النظام الإيراني هو من وفّر على الأرجح الصواريخ التي أطلقت على المدمرة الأمريكية "، مشيدًا بـالضربات الناجحة على رادارات في مناطق تخضع لسيطرة الميليشيات. ولم يفته أن يؤكد أن "تزايد السلوك العدواني الإيراني تجاه الولايات المتحدة، سببه تقديم تنازلات لا حصر لها من قبل إدارة أوباما التي دفعت فدية 1.7 مليار دولار، للدولة الأولى الراعية للإرهاب في العالم، وذلك من أجل إطلاق سراح الأسرى الأمريكيين، لذا فإنها تستخدم هذه الأموال لدعم مذابح بشار الأسد في سورية، وتمويل المتمردين الحوثيين في اليمن الذين يطلقون صواريخ على السفن الأمريكية ".
يتزامن هذا القول مع إعلان وكالات إيرانية إطلاق الميليشيات الحوثية وقوات المخلوع صالح، صواريخ ايرانية من نوع زلزال 3 على أهداف سعودية منذ أيام، كما يتزامن مع الكشف عن حركة تهريب نشطة لأسلحة إيرانية للحوثيين، عبر منطقة مجاورة للحدود اليمنية قال مسؤولون أمريكيون: إن إيران وظفت علاقتها الجيدة مع تلك المنطقة في زيادة كميات الأسلحة المهربة إلى الحوثيين، وإن بعض تلك الأسلحة قد يكون استخدم في مهاجمة سفن أمريكية وإماراتية في البحر الأحمر والبحر العربي..
وعن تصاعد النشاط الملالي الإرهابي وتوسعه خصوصاً في سورية واليمن - واستخفاف الملالي وأتباعهم برعاة الاتفاق النووي وابتزازهم – أكد الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي، تشارلز كراوثامر، في مقابلة على شبكة فوكس نيوز، أن سبب ذلك يرجع إلى أن الأطراف اللاعبة، وهي: روسيا وإيران وحزب الله وقوات النظام السوري، تدرك تماماً أن الرئيس الأمريكي أوباما، لن يحرك حتى إصبعه، لتغيير الواقع في الفترة المتبقية له في البيت الأبيض.
واستكمالًا لمشروع الملالي الإرهابي التوسعي، أسس المعممون بالتعاون مع القيادات العراقية، ميليشيات الحشد الشيعي، بذريعة محاربة داعش، لكن الأهداف غير المعلنة أبعد من ذلك بكثير، يأتي على رأسها التغيير الديموغرافي للمدن العراقية التي يشكل فيها السنة أغلبية سكانية، إضافة إلى إنشاء طريق إلى البحر المتوسط، لربط العاصمة الإيرانية ببوابة بحرية تطل عليه لتسقط الحواجز بينها وأوروبا، لهذا سيطرت الميليشيات الإيرانية والعراقية، على مناطق عراقية يسكنها عرب سنة جرت فيها عمليات قتل وتهجير يندى لها جبين الإنسانية التي فرغها الملالي وأتباعهم وكل المجتمع الدولي من معانيها. وفي هذا الصدد يذكر مراسل صحيفة الأوبزرفر في بيروت، أن مقابلات أجريت على مدار الأشهر الأربعة الماضية مع مسؤولين وعراقيين نافذين، ومواطنين في شمال سورية، أكدت تلك المقابلات أن معالم الطريق الإيراني نحو المتوسط بدت معروفة، ما يجعل من مهام ميليشيات الحشد الشعبي تحقيق طموحات طهران، بداية من محافظة ديالى العراقية نحو محافظة صلاح الدين حيث شهدت كلتاهما أسوأ حملات التطهير العرقي والطائفي لإفراغ المكون السني، قبل أن يصل الممر الإيراني إلى الموصل حيث تفتقر إيران للعناصر الموالية لها في هذه المنطقة، ولذا زرعت الحكومة العراقية وميليشيات الحشد عناصر طائفية غرب المدينة، بحجة منع مسلحي داعش من الفرار، بينما الواقع تأمين الممر الإيراني في المناطق الحدودية، إلى أن يشق طريقه نحو طرطوس.
ويعدّ تزويد إيران الميليشيات بالسلاح انتهاكاً للقوانين الدولية، وفق ما أكده المتحدث للشؤون السياسية في الأمم المتحدة. لكنها ما زالت تزود الميليشيات الشيعية في مختلف الدول بالسلاح، وبعشرات من صواريخ سكود والقذائف والراجمات.
لقد بات واضحاً لعقلاء العالم، أن الاتفاق النووي كان قرارًا خاطئاً، وأنه ساعد الملالي على الاستمرار في العدوان والاستخفاف بالدول الداعمة، بابتزازها تارة، واستفزازها تارة أخرى، يفعلون هذا في الوقت الذي يعلنون فيه براءتهم من زعزعة أمن المنطقة، متهمين دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا بأن "التدخل اللامسؤول لهذه الدول في شؤون سائر الدول أدى إلى اتساع نطاق انعدام الأمن والحروب والإرهاب، وانتهاك سيادة الدول المجاورة لها.. وأن تردي الأوضاع في سورية واليمن والبحرين والعراق وليبيا جاء نتيجة تدخل أغلب الدول.. ولذلك فإن هذه الدول ليست في موقع يؤهلها لتنصح الآخرين بعدم التدخل في شؤون المنطقة" وذلك ردًا على انتقادهم تدخلات إيران في شؤون دول المنطقة!
ختاماً لن يغير إرهابيو إيران عداءهم لدول الخليج العربي، ولن يحول الاتفاق النووي دون أحلامهم التوسعية في المنطقة، ولن يكفوا عن إثارة النعرات المذهبية، وادعاء المظلومية للشيعة العرب، ولن يتوانوا عن تقويض الأمن القومي العربي، وزعزعة الاستقرار في الوطن العربي، مادام هناك من يتواطأ معهم مستفيدًا من أموالهم وتآمرهم، تتساوى في ذلك دول الغرب وبعض دول العرب.
تسلك روسيا في سورية سلوك "رجل أعمال" غِنم صفقة كبيرة، ولن يدعها تفلت من يده بأي ثمن، وسيحاول، ما وسعه الجهد، تعظيم هذه الصفقة التي تتمثل ببسط وجودٍ عسكريٍّ دائم في هذا البلد، والتمتع بحرية حركةٍ مطلقةٍ حاضراً ومستقبلا، والقيام بمناوراتٍ عسكريةٍ فعلية، وليس على سبيل المحاكاة، كما يتم في المناورات التقليدية، وذلك باستعراض أسلحته المتطورة وتجريبها، وتحقيق نتائج "فعالة"، مثل تهديم شرق حلب على رؤوس عشرات الآلاف من سكانها. وكانت حلب، منذ العام 2012، قد شهدت تدميراً واسعاً على يد النظام، باستخدام أسلحةٍ روسيةٍ، لا قيد على استخدامها داخل الحدود، ومنها طائرات ميغ وسوخوي، وصواريخ غراد وسام. هذا قبل أن يتدخّل الروس بصورة مباشرة في خريف العام 2015، ويستكملوا تهديم الحاضرة التاريخية التي زيّن لهم من زيّن أنها، في مكونها الديمغرافي وثقافة أهلها ومعتقداتهم، تشبه غروزني الشيشانية التي جرى تهديم 98% منها، وعدد سكانها نحو 300 ألف نسمة في نهاية القرن الماضي. والآن، يقول مسؤولون روس إن غروزني حديثة قد أنشأوها. وبمعنى أنه لا مشكلة في هدم مدينةٍ كاملةٍ تخص شعباً آخر، وبكل إرثها الإنساني والروحي، ما دام في الإمكان بناء مدينةٍ حديثة على أنقاضها، تتبع السلطة فيها لموسكو. وهذا هو المصير الذي يبّيتونه لحلب الشهباء التي تماثل في عظمتها القاهرة وبغداد والقيروان وفاس.
نقلت الأربعاء الماضي (19 أكتوبر/تشرين الأول الجاري) وكالة تاس الروسية عن أناتولي بونتشوك، وهو نائب مدير دائرة التعاون العسكري والتقني، قوله إن العملية الجارية في سورية أثبتت أن التجهيزات القتالية الروسية ذات خصائص تكتيكية وتقنية عالية في ميدان القتال، وإن نجاحاتنا في مكافحة الإرهاب (في سورية) زادت اهتمام الزبائن الأجانب بالأسلحة روسية الصنع، بما فيها العتاد البحري. ويعلم الجميع أن روسيا لا تكافح "داعش"، بل تكافح المدنيين بممارسة إرهاب الدولة الأجنبية عليهم. ومن الطبيعي أن تؤدي أية أسلحة تقليدية متطورة إلى الفتك بالمدنيين، وتقويض المنشآت المدنية، كالأسواق الشعبية والأحياء السكنية والمخابز والمشافي، وهي الأهداف المفضلة لـ "الأسلحة الروسية ذات التقنية العالية". ويتطلع الروس، في هذه الغضون، إلى سحق المعارضة السورية المسلحة، وأكبر قطاع ممكن من البيئة الديمغرافية للمعارضة خلال الشهور الثلاثة المقبلة، قبل أن يصل رئيسٌ جديدٌ إلى البيت الأبيض، مستغلين ولع الرئيس أوباما في عقد الاجتماعات، وتأمل الوضع في سورية عن بُعد، والامتناع عن الإتيان بأي فعل "حتى لا تسوء الأوضاع أكثر"، علماً أن العزوف الدولي عن اتخاذ أية مبادرة على الأرض وفي الجو هو بالذات ما جعل الوضع يسوء أكثر، وبالذات منذ عامٍ مضى.
يُسهم ترويج الأسلحة الروسية في منح هيبةٍ للدولة الروسية في نزوعها القيصري، ومنافسة الصناعات العسكرية الغربية، وتكريس الاعتماد على السلاح الروسي، كما يُسهم في رفد الخزينة، في ظل انخفاض أسعار البترول، والعقوبات المفروضة أوروبياً وأميركياً، على خلفية التدخل الروسي في أوكرانيا. وقبل أيام، كان أناتالي بونتشوك قد أعلن، في تصريحاتٍ بثتها قناة روسيا اليوم، أن صادرات الأسلحة الروسية بلغت ثمانية مليارات دولار، حتى أغسطس/ آب الماضي، وكان الرئيس فلاديمير بوتين قد أعلن، في وقت سابق، أن روسيا باعت، في العام 2015، أسلحة بمبلغ 14.5 مليار دولار إلى 58 دولة، في حين يبلغ مجموع الطلبات للسنوات المقبلة حوالي 50 مليار دولار. ويفاخر الروس بأن صادراتهم من الأسلحة تمثل ما نسبته 25% من مجمل صادرات السلاح في العالم، ولا تتقدم، حتى الآن، على روسيا سوى الولايات المتحدة التي تحتل 33% من سوق السلاح العالمي.
وتقدّم موسكو تسهيلاتٍ للتزود بأسلحتها، فقبل أيام، جرى الإعلان في موسكو أن الأخيرة عرضت على الأردن اتفاقاً ملزماً بشراء أسلحة وتجهيزات تقنية بمبلغ 387 مليون دولار، وذلك لسداد قرض للقوات المسلحة الأردنية بقيمة 350 مليون دولار (مع فوائد هذا المبلغ)، وقد تم منح القرض في العام 2006 لشراء تجهيزاتٍ عسكريةٍ روسية، وجرى شراؤها بالفعل كما تقول موسكو. وقد جاء العرض الروسي الذي وافق عليه مجلس الدوما (البرلمان) رداً على طلب الأردن منذ العام 2012 إلغاء الديون الروسية عليه. وبهذه الطريقة، تضمن موسكو التزود بمزيد من أسلحتها، مع تقديم تسهيلات كبيرة.
على هذا النحو، تتم المراهنة اقتصادياً في موسكو على بيع الأسلحة، وربما بأكثر من المراهنة على صادرات الحبوب والنفط والغاز. وتشجّع موسكو، كما واشنطن، السباق بين دول العالم قاطبةً على التسلح، وذلك لضمان ازدهار صناعة الأسلحة الروسية، كما الأميركية.
ولهذا، فإن التدخل الروسي المباشر في سورية، قبل أزيد من عام، قد استهدف، في المقام الأول، الإجهاز على الحل السياسي، المتمثل بمفاوضات جنيف، والاستعاضة عن الحل التفاوضي بلقاءاتٍ يجريها وزير الخارجية، سيرغي لافروف، في عواصم أوروبية، مع اعتماد الحل العسكري على أوسع نطاق (أو بالأحرى تكريس الحل العسكري الذي اعتمده النظام وتوسيعه)، وهو ما يتوافق مع المصلحة الروسية، بصرف النظر عن رأي السوريين، وكذلك بصرف النظر عن أن المدنيين المنكوبين هم من يتم تجريب الأسلحة المتطورة على أبدانهم.
ولهذا، فإن ما يتواضع العالم والضمير البشري على تسميتها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية على يد القوات الروسية في حلب وإدلب، وغيرهما من مدن منكوبة، فإنه، في نظر أصحاب هذا "الإنجاز"، لا يعدو أن يكون فرصةً ثمينةً سانحةً، لاستعراض الأسلحة في عرضٍ حيٍّ أمام زبائن مستهدفين في الخارج.
ومنذ أيام، يجري الحديث عن تحضيرات روسية لـ "حلّ نهائي" في حلب، تتهيأ له سفن حربية في المتوسط، تحمل قاذفات مقاتلة. وبما أن أجزاء واسعة من الشهباء قد جرى تهديمها من قبل بأسلحة روسية استخدمها النظام، أو استخدمها الروس أنفسهم، فإن مهمة تحويل الأجزاء الكبرى من حلب إلى غروزني أخرى تبدو سهلة التحقيق في أنظار الخبراء العسكريين الروس. ولا يؤدي تباطؤ المجتمع الدولي في فرض عقوباتٍ على موسكو سوى لتشجيعها على ارتكاب مزيدٍ من جرائم الحرب، فيما ينشط الوزير لافروف في عقد لقاءاتٍ مع وزراء أوروبيين وسواهم، لإثارة انطباعاتٍ زائفة بالبحث عن حلول مزعومة، فيما الهدف الوحيد روسياً لهذه اللقاءات هو كسب الوقت، وصرف الأنظار عما تفعله القوات الروسية بأسلحتها المتطورة ضد ما تبقى من حلب ومن حلبيين، إضافة إلى أدلب وريف دمشق.
يدلي بشار الأسد بتصريحاتٍ عنترية، يريد بها إظهاره بمظهر رئيس مستقل، وإنكار حقيقة أنه صار "دميةً" بيد موسكو وطهران، منذ استدعى جيشي الدولتين لاستعمار سورية، ووافق على أن يكون لهما وجود عسكري وسياسي غير محدود زمنيا فيها.
عندما يدعو حاكمٌ على وشك السقوط قوىً استعمارية لاحتلال بلاده، يتحوّل إلى دميةٍ يتلاعب بها، ويحرّكها سادتها الذين يحمونها؟ وبما أن بشار الأسد غدا دميةً في أيدي غزاة استعماريين يحتلون بلاده، فإنه لم يعد رجل خيار وقرار، للسبب السابق، ولأن الحرب السورية تتحوّل إلى حرب إقليمية كونية الأبعاد، لا علاقة له برسمها وتقريرها، ولا سيطرة له على قواتها. لذلك، يضحك السوريون، عندما يعلن تصميمه على استعادة كل شبر من بلادٍ غدا دميةً بيد محتليها الذين ربط مصيره الشخصي بمرتزقتهم، ويتساءلون: بأي قواتٍ ستستعيد "الدمية" أكثر من 70% من الأرض السورية، إذا كان ما بقي من عسكره عاجزين عن صد أي هجوم على مواقعهم، كما حدث، أخيراً، في ريف حماة، حيث نشرت صور الفرار الجماعي لمئات من ضباطه وجنوده الذين كان قد أخبرهم، مراتٍ عديدة، في عامي الثورة الأولين بأنها "خلصت"، وها هو يحتمي بجيش الاحتلال الروسي، بعد مرور نحو من ستة أعوام على حربه ضد شعب يدّعي أنه موال له، بدلالة ما يلقيه عليه، هو والروس، من براميل متفجرة وقنابل ارتجاجية وفراغية وفسفورية، من طائرات جيشه الذي فرّ ثلاث مراتٍ خلال أقل من خمسة عشر عاماً أمام الجيش الإسرائيلي، بعد أن سلمه الجولان، وسوّغ فراره بافتقاره إلى أسلحة وذخائر، ثم تبين بعد الثورة أن لديه من الأسلحة والذخائر ما مكّنه من شن الحرب ضد شعب سورية الأعزل طوال ستة أعوام، لم يستخدم خلالها معظم الذخائر التي تزوّده روسيا بها يومياً.
قال حسن نصر الله عام 2013 إنه أرسل مرتزقته إلى سورية لإنقاذ بشار الأسد الذي كان على وشك السقوط. وفي نهاية عام 2015، قال بوتين لجنرالاته إنه تدخل في سورية لإنقاذ بشار الأسد من السقوط. لكن من كان على وشك السقوط طوال ثلاثة أعوام يستمتع بدور المهرّج، ويتعنتر على السوريين، مؤكّدا اقتناعهم بأنه يستقوي عليهم بمن يحرسونه منهم، من دون أن يدرك أن تدخلهم جعله من مخلفاتٍ ماضٍ ثاروا عليه، نصّب هلفوتاً مثله رئيساً عليهم، لن يذكر التاريخ من "إنجازاته الوطنية"، غير استدعاء غزاة أجانب، وقطاع طرق، وأفاقين، ومرتزقة من حثالات البشر، لشن الحرب عليهم.
إذا كانت إيران وروسيا قد أنقذتا رجلاً متهالكاً، تسبب في حربٍ يرجّح أن تتسع لتصير إقليمية في الأشهر المقبلة، هل يكون من المقبول التمسك به، بحجة تحقيق حل سياسي، هو الجهة الرئيسة التي تحبطه؟ أم يجب التخلي عنه، وردع منقذه وحاميه: فلاديمير بوتين الذي غزا سورية، ودمر ما كان سليماً من عمرانها وقتل شعبها، وها هو ينقل حربها إلى المجال الدولي، بسياسات حافة الهاوية التي تثير توتراً خطيرا مع أميركا، يرتبط منع انفجاره باتفاق موسكو مع واشنطن على تسوية خلافاتٍ ليس لسورية علاقة بها، وحلول لها تلبي مصالح الكرملين، صار من المؤكد أن الحل السياسي السوري لن يتحقق قبل بلوغها، بعد أن كان اتفاق واشنطن وموسكو على أولويته سبيلهما إليها؟
من دون ردع بوتين، سياسياً وعسكرياً، لن يحول شيء دون انتقال الحرب على سورية إلى المجال الإقليمي، أو تتوقف حرب روسيا ضد سورية. والآن: هل تخطط واشنطن لردع روسيا، أم إنها تخطط لحربٍ إقليمية تمعن في تمزيق دول المنطقة، وتغرق روسيا في لجاجها، كانت دوماً هدف البيت الأبيض وقصده الخفي الذي ساق سورية، ويسوق اليوم الدول الإقليمية، وبوتين الأحمق، إليه؟
طالت، في سورية، الأزمة، الحرب، الثورة، الانتفاضة، المذبحة... إلخ، سمّها ما شئت. طالت أكثر مما قدّرت أكثر التوقعات تشاؤماً، وتوغلت في الدم والحاجة إلى حدودٍ فاقت كل توقع. نعم، تُخرج الأزمات، الحروب، الثورات أجمل ما في الإنسان من تضامناتٍ، فهي لحظة تاريخيةٍ فارقةٍ وتحولية، يسعى أجملنا إلى المساهمة في دفع هذه التحولات إلى المواقع المرغوبة، من خلال دعم الساعين إلى التغيير بالوسائل المالية، أو بدعم الفئات الأكثر حاجةً بين كتلة العائلة القريبة أو الأصدقاء الأقرب لاستمرارهم بالعيش بكرامة. يستحق المستقبل هذه الوقفة وهذا الانحياز، ويستحقّ، كحد أدنى، دعم هذه المتغيرات، هذا مما لا شك فيه، فالحلم بسورية أخرى بات في متناول اليد. كل من يعرف سورية، يعرف قصصاً من تضامن العائلات والأصدقاء لا تصدّق، قصص فيها من الإيثار ما يجعلها نموذجاً استثنائياً في الوفاء، ففي مواجهة الموت والحاجة، هناك دائما ما هو استثنائي في العلاقات بين البشر.
الامتداد الزمني الطويل للحدث السوري، قلب المعادلة أكثر من مرة بين من يدعم، وبين من يحتاج إلى الدعم، هناك مقتدرون كثيرون قدموا الكثير، ليجدوا أنفسهم، في سياق عملية الطحن المستمرة، غير قادرين على إعالة أنفسهم، ما حوّلهم من داعمين إلى محتاجين إلى الدعم. هناك كثيرون ممن عاشوا بنفسٍ عزيزة طوال حياتهم، وكانوا نسيج وحدهم، عصاميين حتى العظم، لم يطلبوا من أحدٍ يوماً أي شيء، كسرتهم الأحداث، وأجبرتهم على طلب حاجتهم من آخرين، ولم يكن الآخرون قادرين على ردهم في أحلك الظروف. هناك عاملون في الخليج تعهدوا حماية عائلاتهم من الحاجة، بعد سنواتٍ وجدوا أنفسهم يفقدون عملهم، لم يعودوا قادرين على إعالة أنفسهم، وانضموا إلى المحتاجين الذين كانوا يعيلونهم. يقول صديقي المقتدر الذي ينحدر من منطقةٍ منكوبةٍ إنه أخذ على عاتقه إعالة كل إخوته وعائلاتهم الذين يعدّون خمساً وأربعين شخصاً، موزعين على ثماني عائلات، الذين فقدوا أعمالهم جميعا، وهو يعتقد أنه سيحتاج أن يصرف عليهم عشر سنوات مقبلة على الأقل. ويقول: لا أعرف إذا كنت أستطيع الاستمرار كل هذه المدة، لكني متأكّد، أنهم سيحتاجون إلى المساعدة سنوات طويلة، وفي هذه السنوات سيزداد عددهم، وهذا من سنّة الحياة، على الرغم من كل الأوضاع الصعبة التي ستعيشها سورية.
إذا كان هذا المثال قريباً إلى تقدير الواقع المقبل، بصرف النظر عن نتائج الصراع على الأرض، حتى لو سقط النظام اليوم، أو تم التوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ، تحتاج إلى أكثر من عشرين عاما لتقف على قدميها، فكيف في حال استمرار التدمير الذي نراه، والذي لا يعرف أحدٌ متى يمكن أن يتوقف؟
هناك آخرون ممن تعهدوا أسرهم في الدعم، وجدوا أن القصة طويلة، وأن لا مجد لهم فيها، بعد أن استطالت كل هذا الوقت، وأخذوا ينسحبون من الوقوف إلى جانب عائلاتهم لأسبابٍ واهية، في وقتٍ يزداد وضع هؤلاء تدهورا.
يبدو أن الاستثمار الأفضل، في ظل الأوضاع اليائسة التي تعيشها سورية اليوم، هو هجرة العائلة، أو أفراد منها على الأقل، وعلى هؤلاء الناجين من "المحرقة السورية" تقع مسؤولية إعالة عائلاتهم التي ستبقى في سورية زمناً طويلاً. في تقديري، أن الأغلبية الساحقة من السوريين الذين سيبقون في سورية، أكانوا يعملون أم عاطلين عن العمل، سيبقون بحاجةٍ إلى مساعدة دائمة ومستمرة ودورية، سنوات طويلة ما بعد توقف التدمير في سورية.
كما أن الأزمات تخرج أجمل ما في الإنسان، ففي المقابل، تخرج أسوأ ما عند الآخرين، ولأن السوريين ليسوا شعباً من الملائكة، فإن حجم الصراع على الفتات بين المحتاجين صورة أخرى لاستطالة الأزمة السورية. أصدقاء وأقارب كثيرون عاشوا علاقاتٍ اجتماعيةً جميلة في ما بينهم قبل انطلاق الاحتجاجات في سورية، وجدوا أنفسهم، بسبب التهجير، يعيشون مجتمعين في أماكن صغيرة ضيقة، استمرار ضيق الحال بين الجميع جعلهم يصطدمون مع بعضهم على تفاصيل تافهة، والعلاقات القوية التي بين أشخاصٍ كثيرين عملت الأزمة وضيق الحال على تدميرها، وكانت هذه العلاقات أجمل ما في حياتهم. تقول ابنة أحد الأصدقاء، إنهم كانوا مجموعةً جميلة ومترابطة من الأصدقاء والأقارب قبل الاحتجاجات، أجبرتهم الأزمة على العيش المشترك في منزل واحد في جرمانا قرب دمشق، خرجوا جميعاً من تجربة العيش المشترك مختلفين ومتخاصمين، تحولت الصداقات القوية عداوة، ونميمة تجاه بعضهم البعض مستمرة.
الأزمة الطويلة، والتهجير والاقتلاع الجماعي، والإفقار المستمر، والقهر الواقع على الجميع، كل ذلك وغيره، دفع إلى متغيراتٍ هائلةٍ داخل المجتمع السوري، وداخل العائلة الواحدة في السنوات التي تلت انطلاقة الاحتجاجات، والتي خلفت آثاراً اجتماعية وصحية ونفسيةً، من الصعب الخلاص القريب منها. ليس كل السوريين اليوم أنفسهم الذين كانوا مطلع العام 2011، لم يتغيروا بفعل الزمن فحسب، بل تغيروا، بفعل هول الحدث العاصف والصادم الذي شهده بلدهم، والجريمة الكبرى التي ارتكبها النظام بحق شعبه، والجروح العميقة التي أوقعها في كل بيت سوري. لا يشبه السوريون اليوم السوريين الذين عاشوا في البلاد قبل الانتفاضة. تغير السوريون كما تغيرت معالم كثيرة في بلدهم، وكذا كثير من تكويناتهم وعلاقاتهم الاجتماعية. اختفى الشعب السوري الذي عاش في "مملكة الصمت" الرهيبة للنظام الأسدي. ولكن، لم يولد بعد شعب "جمهورية الحرية". تبدو كل العوامل تلعب دوراً سلبياً في ولادة هذه الجمهورية، وفي الطريق الطويل المليء بالمآسي والصعاب، للوصول إلى هذا الهدف، كل شيء يتغير في سورية، بما فيها التضامنات الاجتماعية الجميلة التي أخذت في الانهيار، تحت الضغوط الهائلة للأزمة السورية. إنها التراجيديا السورية، تراجيديا إنسانية معممة، غير قابلة للرواية والتوثيق، بحكم اتساعها الهائل والمذهل.
سؤالٌ يبدو أبدياً، يُطرح على كل مثقف سوري يكتب مقالات ينتقد فيها النظام، وخصوصاً ممارسات الأجهزة الأمنية وسلطة الأمن، أو يتحدّث عن معتقلي الرأي، والسؤال الأبدي هو: هل ستجرؤ على العودة إلى سورية بعد كتابتك هذه؟.
أسافر كثيراً خارج وطني سورية، لكنني أعود إليه دوماً، لأنه انتمائي، ولأني أؤمن أن لي كل الحق أن أعيش فيه، وأن أتكلم بنزاهة ومصداقية، والأهم بحرية. ولست وحدي من يتلقى تحذيرات وتخويفا من الأصدقاء، بعد أن نكتب مقالات عن انتهاكات الأجهزة الأمنية وعن المعتقلين، وتحديداً مُعتقلي الرأي، وعن عنف السلطة من استعمال البراميل المتفجرة والدبابات لمحاربة ما تسميها جماعات إرهابية مسلحة.
ما الذي يعنيه في علم النفس أن يُسأل الشعب السوري (23 مليونا قبل الثورة، ونزح حوالي نصفه بعد العنف الفظيع): هل تجرؤ، أيها المثقف الذي تنتقد النظام وأجهزته الأمنية القمعية، على العودة إلى سورية؟ سؤال يعني أن كل الشعب السوري مُروّع من الأمن، وأن ثمة حالة من الرُهاب النفسي التي تقارب الذعر من مجرّد انتقاد النظام والمخابرات، حتى أن العملية التربوية في سورية (بشكل عام وواسع) تعتمد على استمرار تحذير الأولاد من التحدّث بالسياسة، أو الانتماء إلى أحزابٍ معادية للنظام، والذاكرة الجمعية للشعب السوري لا تنسى المعتقلين الإسلاميين، والمنتمين لرابطة العمل الشيوعي، وحتى المدافعين عن حقوق الإنسان، أفواجاً بالآلاف، غُيبوا في السجون، بعضهم عشرين سنة.
أصابت تلك الاعتقالات الناس بحالةٍ من الذعر الأخرس، بل أصبحت لدى بعضهم حالة رهيبة من العُصاب النفسي، تُسمى التماهي مع المُعتدي. وقد أبدع مصطفى حجازي في كتابيه "سيكولوجية الإنسان المقهور" و"سيكولوجية الإنسان المهدور" في تحليلها، وهي أن هول الذعر ممن يمثلون الأجهزة الأمنية يجعل المواطن يبرّر لها استبدادها، ويلوم كل من تجرأ مُعترضاً أو مُخالفاً الرأي الوحيد السائد في سورية. بل يتعمد بعض هؤلاء من ضحايا حالة التماهي هذه أن يجهروا بأن الأجهزة الأمنية على حقّ في اعتقال الشبان الذين سيخرّبون الوطن بأفكارهم المُعادية لسياسة الممانعة والمقاومة التي تمثلها سورية وحدها! ومفهوم المؤامرة أحد ركائز الأجهزة الأمنية في سورية، فكل رأي مُخالف للرأي الأوحد مؤامرة، وصاحبه مدفوع من الخارج، وربما يقبض أموالاً لتخريب البلد، حتى أن مئات الشبان، ومعظمهم دون الثامنة عشرة، اعتقلوا بسبب جرأتهم على تصوير المُظاهرات السلمية بالموبايل، والأكثر إيلاماً الحالة النفسية التي يشعر بها معظم السوريين بأنهم متهمون حتى يثبت العكس، كما لو أن السوري مُضطر لتقديم براءة ذمةٍ يوميةٍ للأجهزة الأمنية، ولأن يسلمها، بكل رضى، عنقه، لكي لا تعتقله ويعدها ألا يفكّر، وبأن لا يتكلم إلا عن نظرية المؤامرة، ولا يؤمن إلا بالله عز وجل، وبأن سورية دولة الممانعة والمقاومة ضد العدو الإسرائيلي.
هذا هو النمط الذي تم فبركة السوري على أساسه عقوداً. لكن، بعد أن انتفض السوريون مطالبين بالحرية، لم يعد هذا السؤال مقبولاً لدى الكتاب الذين ينتقدون النظام وأجهزته الأمنيه: هل ستجرؤ وتعود إلى سورية. وكم أحزنني حين راهن أصدقاء ومعارف على عودتي إلى سورية بعد نشر مقالي "مؤامرة بندر بن سلطان" (العربي الجديد، 23/12/2014)، عن المسرحية الهزلية، حرق المسؤولين في المشفى الوطني في اللاذقية هضبةً من حبوب الهلوسة (كما ادّعوا)، أرسلتها إليهم قناة الجزيرة. ثم مقالات أخرى، وصفت في أحدها شاحنةً محملة بأكوام جثثٍ مشوهة لشبان قُتلوا بالبساطة التي تُقتل فيها الحشرات، مرّت تستعرض بضاعتها في شوارع اللاذقية، ليرى الناس مصير الإرهابيين(!). بعد كل مقال لأصدقائي الكتاب الذين أصرّوا على البقاء في سورية، والتحدّث بحرية، مستعدين لدفع ثمن كلمة الحق، يتساءل السوريون: هل ستجرؤون على العودة إلى سورية، في كل مرة تغادرونها وتكتبون بجرأة؟ وقاطع سوريون مذعورون هؤلاء الكتاب الشجعان، وحذفوهم من صداقاتهم في "فيسبوك"، أو تعمّدوا أن يسخروا من أفكارهم، لإرضاء الأجهزة الأمنية، وإرضاء عنصر المخابرات الصغير المزروع في دماغ كل سوري؟ المنطق الغريب الذي تستعمله معظم أجهزة المخابرات في سورية حين يستدعون كاتباً، بسبب مقالٍ لم يعجبهم: لا يجوز نشر الغسيل الوسخ أمام العالم. .. ما مهمة الكتابة إن لم تنشر الغسيل الوسخ، وتحك عن الفساد والسلبيات في مؤسسات الدولة؟.
سأعود إلى سورية، مع أصدقائي الكتاب الذين يعتبرون الكتابة شرفاً، وكلمة حق، ودفاعاً عن حقوق الإنسان بالحرية والعيش الكريم. وسنستمر بنشر الغسيل الوسخ أمام عيون العالم كله.