مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٣١ أكتوبر ٢٠١٦
تركيا والخليج... الرد على الاستهداف

تواصل تركيا التصعيد ضد السياسة الأميركية في شمال سورية التي ما زالت تحمي وجود مجموعاتٍ لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ووحدات الحماية الشعبية في مدينة منبج غرب الفرات، وتعلن (تركيا) أن "شراكتنا ستنتهي". وسخِر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من أميركا التي طالبت بلاده بعدم الدخول إلى العراق، من دون إذن من الحكومة العراقية، قائلاً: قبل 14 سنة، هل قال لكم صدام حسين تعالوا حتى دخلتم العراق؟

وأعلنت تركيا، من دون تردّد، أن قانون "جاستا" الأميركي يستهدف السعودية، ويعمل على الابتزاز السياسي والاقتصادي ضدّها، لكنّه أيضاً يستهدف المنطقة بكاملها، إلى جانب دول الخليج، هذه المرة، في مواجهة التصعيد الإيراني والسلوك الأميركي، وتفعيل خطط تحقيق رغبات شعوب المنطقة، وتطلّعاتها في رفض سياسات التفريق والشرذمة، كما قال وزير خارجيتها، مولود شاووش أوغلو.

استقبلت أنقرة، قبل أيام، ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن نايف، ووزير الخارجية الإماراتي، الشيخ عبد الله بن زايد، وشاركت في القمة التركية الخليجية في الرياض بجدول أعمال ثنائي إقليمي موسع، وكانت جنباً إلى جنب مع السعودية وقطر في تنسيق المواقف حيال تطورات الملف السوري في اجتماع لوزان. وقال ولي العهد السعودي "الاستهداف واضح، ولا يختلف عليه اثنان". وأكد الوزير الإماراتي على أهمية التنسيق مع تركيا لحل أزمات المنطقة، خصوصاً في سورية والعراق واليمن وليبيا، شاكراً لتركيا وقوفها مع حق الإمارات في إعادة الجزر التي تحتلها إيران، متجاوزاً التوتر في العلاقات بعد الانقلاب في مصر، وصرح إن هناك حاجة وسبباً قوياً لتطوير العلاقات الخليجية التركية.

كانت تركيا، حتى الأمس القريب، ترى في منطقة الخليج جدول أعمال شامل وموسّع، يتضمن عشرات الفرص السياسية والأمنية والمشاريع الاقتصادية والإنمائية، وهي لم تتنبه إلا أخيراً إلى موقع الخليج وأهميته مركزاً استراتيجياً يفتح لها أبواب العبور إلى أكثر من مكان، لكنها، في لقاء القمة التركية الخليجية في 13 سبتمبر/ أيلول 2008 في الرياض، رأيناها توجه رسائل علنية واضحة، مخاطبها هو إيران، بقدر ما هي موجهة إلى أميركا وإسرائيل، لمراجعة سياساتها الإقليمية، خصوصاً في الخليج، لناحية التمدّد والتمسّك بالمشروع النووي والأزمة المستمرة مع الإمارات. كان الأهم قرار إنشاء المنظومة المشتركة التي تساهم في تأطير هذه العلاقات وتعزيزها عبر آليةٍ للحوار السياسي المنظم، وتطوير العلاقات الاستراتيجية بين تركيا ودول الخليج، وتوقيع وثيقةٍ وضعت في مقدمة أهدافها طرح بناء صرح أمني سياسي إنمائي إقليمي، منفتح على كل الراغبين في تبني لغة الحوار حلاً للمشكلات والنزاعات.

وقيل، في قمة شهر يوليو/ تموز 2009 في إسطنبول، إن تركيا تولي أهمية كبيرة لأمن الخليج واستقراره، وستكون في طليعة الدول التي قد تتأثر، مباشرةً، من أي تدهور أمني هناك، لكننا رأينا أن التصعيد والانتشار الإيراني لم يتوقف، وتمدّد أكثر فأكثر نحو التصعيد مع الإمارات، ومحاولة تهديد أمن البحرين مباشرة، واختراق بنية اليمن السياسية والاجتماعية، وإيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم، مستفيدة أكثر فأكثر من التجاهل الأميركي المقصود لسياساتها الخليجية.

مع وصوله إلى السلطة في بداية العام 2002، أطلق حزب العدالة والتنمية استراتيجية إعادة هيكلة السياسة التركية مع دول الخليج العربي، والرغبة في توسيع رقعة التعاون والانفتاح لدفع العلاقات نحو الأفضل، وقد ترجمت هذه سياسات الانفتاح اقتصادياً وتجارياً واستثمارياً في الجانبين. وبدأت أنقرة تكرّر موقفها في أنها لن تسمح بمثل هذه السهولة لأيٍّ كان أن يهدّد مشروعها الانفتاحي التقاربي على دول الخليج الذي يضع أمن دول مجلس التعاون الخليجي واستقرارها في مقدمة تطلعاته.

وفي الأعوام الثلاثة الأخيرة، قادت التطورات الإقليمية، وتحديداً ثورات الربيع العربي والمستجدات المتلاحقة على الساحة السياسية والأمنية في مصر والمواقف التركية حيال ذلك، إلى توتر سياسي انعكس سلباً على العلاقات التركية مع معظم دول الخليج في ملفاتٍ سياسيةٍ واقتصادية وأمنية.

المستجدات المتلاحقة في سورية واليمن وليبيا والعراق ولبنان هي التي استدعت مزيداً من التعاون بين تركيا من جهة، والمملكة العربية السعودية وقطر تحديداً من جهة ثانية، وخصوصاً في الأشهر الأخيرة، فتركت الكثير من نقاط التباعد والخلاف جانباً، وتم توقيع عشرات من العقود والاتفاقيات الاقتصادية والسياسية والأمنية المشتركة، وتأكدت ضرورة وضع خطط تحرك شمولي باتجاه سياسات واقعية عملية، تهدف إلى الرد على محاولات قلب التوازنات على حساب هذه الدول، وتكون مقدمة صلبة باتجاه قمة الرياض التركية الخليجية.

عكس البيان المشترك لقمة الرياض التركية الخليجية، أخيراً، حقيقة تجاوز المشهد المصري، وعبر عن القلق من التصعيد العسكري الإيراني في المنطقة، واستمرار إطلاق إيران صواريخ بالستية قادرة على حمل سلاح نووي، والدعوة المشتركة للمضي في الحوار الهادف والمستمر بشأن مختلف قضايا المنطقة، بما يتلاءم مع متطلبات العمل الاستراتيجي. وكانت المصالحة التركية الروسية وانعكاساتها الإقليمية حاضرة في جدول الأعمال الموسع حتماً، وربما هذا التقارب التركي الروسي هو الذي شجع أنقرة على الإسراع في التقدم العسكري في شمال سورية، باتجاه تطهير مزيد من المناطق هناك من تنظيم داعش، والتركيز في المرحلة المقبلة على إبعاد الوحدات الكردية تماماً إلى شرق الفرات، تمهيداً لإعادة منبج إلى سكانها الأصليين، تماماً كما جرى في جرابلس، حيث تتقدم خطة المنطقة الآمنة التركية خطوةً خطوةً، وحيث تراهن تركيا على دعم خليجي، لبناء هذه المنطقة للاجئين السوريين لإبقائهم داخل أراضيهم.

المخاطر والتهديدات الإقليمية، وفي مقدمتها التوسع والانتشار الإيراني أخيراً، بعد التفاهم مع الغرب على قوة إيران النووية، وما يقال عن أدوار جديدة كلفت طهران القيام بها إقليمياً بالوكالة عن قوى دولية أخرى، بين الأسباب التي دفعت تركيا ودول الخليج إلى إعادة النظر في حسابات مواقفهم وسياساتهم وخياراتهم الاستراتيجية والتحول نحو قراءةٍ جديدةٍ لمسار العلاقات ومستقبلها.

باتت دول الخليج ترى في تركيا اليوم القوة العسكرية الإقليمية القادرة على أن تأخذ مكانها في خطط التصدّي للتهديدات والاستفزازات الإيرانية، والقوة القادرة على توفير الخبرات الواسعة في مجال الصناعات العسكرية الدفاعية المتقدمة، وتنويع مصادر التسليح وسط قناعةٍ خليجيةٍ بشأن وجود فرص تنسيق مشتركة كثيرة إزاء القضايا والنزاعات الإقليمية. ويرى الخليج في تركيا أيضاً فرصة صناعية زراعية مائية استثمارية، وترى تركيا في الخليج وسيلة تعزيز موقفها على طريق العضوية الأوروبية، بكل ما يحمل لها من حظوظ تجارية واقتصادية ومالية وإمدادات نفطية. ويكفي التوقف، مثلاً، عند حجم التبادل التجاري الذي تضاعف أربع مرات في السنوات السبع الأخيرة، لنكتشف أبعاد قرار تركيا ودول الخليج في توسيع تعاونهما هذا، وتحويله إلى تحالف استراتيجي متعدّد الجوانب.

تتقدّم العلاقات التركية الخليجية نحو مزيد من التنسيق والتعاون، تفرضه متطلبات المخاطر الإقليمية المحدقة والمهددة، وضرورة مواجهة خطط الاستهداف الإيراني والتخبط الأميركي واللامبالاة الروسية. وكانت قمة الرياض أخيراً اللقاء التنسيقي التركي الخليجي قبيل قمة لوزان، ونقاشات الملفين السوري والعراقي، وتحديداً خريطة العمليات السياسية والعسكرية في الموصل، والمخاطر المحدقة بها عند أية محاولة للمساس ببنية المدينة وديمغرافيتها. والواضح أن العلاقات التركية -الخليجية ستلزم عواصم غربية عديدة، وفي مقدمتها واشنطن، بمراجعة مواقفها، من خلال قراءة هذا التقارب الذي يجاهر في رفض مواقف إقليمية أميركية وإيرانية عديدة. لكن الواضح أيضاً أن التعاون التركي الخليجي الاستراتيجي لا بد أن يتضمن نقاشاً حقيقياً أيضاً في تفعيل أدوار مؤسسات المجتمع المدني وحوار النخب ورجال الفكر وإطلاق يد المؤسسات الأكاديمية والتعليمية، يتمم جهود التنسيق البنيوي المنظم والشامل في المجالات السياسية والإنمائية والأمنية والدفاعية، لنقل التعاون والتنسيق من مستوى القيادات السياسية إلى بقية شرائح المجتمعات في الجانبين. المؤكد كذلك أن تركيا والخليج سيحتاجان حتماً إلى مصر، بطاقاتها وقدراتها، لتكون لاعباً أساسياً في هذا التحرّك الاستراتيجي، كون الجميع يسلم بالدور والموقع المصري في بناء المعادلات الإقليمية.

اقرأ المزيد
٣١ أكتوبر ٢٠١٦
من مشاهد دمشقية

كان المشهد الثقافي في دمشق، مطلع العام 2013 قد انهار تماماً، من حيث إيمان المشتغلين بعدم جدوى الفعاليات الثقافية، والدم لا يغادر عناوين النظام ومؤسساته، بعد مرور أشهر قليلة على مجزرة داريا في أغسطس/ آب 2012، وتصفية "خلية الأزمة" بتفجير "الأمن القومي" وسط العاصمة. الرعب يجتاح الشوارع، الحواجز الأمنية بدأت تتناسل، وشاشة إعلام النظام تدخل في شحّ قناعة لتبرير جرائم سلطات الأسد وأحزابه الرديفة. لا ضيوف يقتربون من مبنى التلفزيون، خوفاً من ردة فعل الشارع. أوراق الاتهام مختلطة، ولا صوت سوى للترقب: ماذا سيحدث؟

هنا، ذهب مثقفون سوريون، لم يتبنوا خطاباً واضحاً بشأن الثورة السورية، سعى معظمهم إلى تلميع صورته "دفاعاً عن الحياة" حسب وصف أحد هؤلاء، ذهبوا ليبتكروا منابر ثقافية أهلية "معقمة"، حاولت أن تهرب "تاريخياً" من لعنة تحوّل العمل الثقافي إلى دائرةٍ حكوميةٍ مشروطةٍ بقوانين وأنظمة تراهن على التحشيد، بدل تنوع الفكر والمعتقد والانتماء الليبرالي. قامت منابر في مقاهٍ وسط دمشق، يعزفون فيها الموسيقى، ويقرأون الشعر ويوقعون الكتب الجديدة، من دون أن يكون هناك رعاية لأي هيئة "رسمية" للنظام. انتشر هذا التقليد أسابيع، من دون انتباه وزير الثقافة، حتى أن أحد معاونيه الذي يشغل الآن منصب رئيس اتحاد الكتاب العرب في دمشق قال لي شخصياً: "لو كان الأمر قراراً خاصاً بي لدعمت ملتقى أضواء المدينة الثقافي مالياً، ولمنحت المشاركين فيه مكافآت... واقترحتُ ذلك... ولكن.... آه آه"، ها هو اليوم في منصبٍ يمكن أن يدعم الشباب والملتقيات، ولكن على طريقة السلطة، و"محاشي" شعاراتها التي حولت المؤسسات الثقافية إلى جمعيات خيريةٍ، تجند أمناء الفرق الحزبية وسائقي سيارات الأفرع الأمنية للتناوب على حضور أمسيات الشعر الخارجة عن المألوف تلك، ونقل الصورة وتسجيل ما يقرأ لتبقى "تحت السيطرة".

مثلاً، اختارت أجهزة الرقابة الناعمة، حزباً "معارضاً" من أحزاب النظام، لتوكل له مهمة دعم أحد تلك الملتقيات، مالياً وإعلامياً، فاخترع هذا الحزب مهرجاناً وجوائز، تغيب عنها صورة بشار الأسد، ويحضر علم الجيش السوري وشعراؤه ومطربوه. ملتقى وسط دمشق يسمح فيه للشباب من قوات "الدفاع الوطني" الموالية للأسد، بالحضور مع المسدسات النارية وأحيانا الثياب العسكرية، فيتحوّل الملتقى إلى ساحة لتبادل التحيات بين "الدفاع الوطني لحي الدويلعة" مع "كتائب البعث لحي جرمانا". وعلى هواء القصائد وتصفيق الحضور الذي انقسم إلى شعراء لم يجدوا من يسمعهم في وزارة الثقافة وكتّاب لم تسدّ رمقهم صفحات جريدة "الأسبوع الأدبي" لامتلائها بترّهات "النصر".

ربما نجا ملتقى أو اثنان من سيطرة تلك الأجواء. كانت اللقاءات نصف شهرية أو غير معلنة، فوجد النظام حلاً لدحر المسؤولين عنها بملاحقتهم من أجل الالتحاق الإجباري بجيشه، أو إيصال رسائل تهديد مباشرة باعتقالهم تحت بند "تجمع سري مشبوه"، ولك أن تضع تهمة من قبيل "قراءة قصائد تدعم حراك الإرهابيين معنوياً"، أو "هذا الملتقى يقرأ لشاعر معارض أو يتذكر قصص كاتب كان سجيناً سياسياً" (!)، فيقوم المشرفون، مثلاً، بدعوة معاون مدير التلفزيون الذي يعمل "شاعراً" في أوقات الفراغ ليقيم أمسية شعرية، مزيلاً "شبهة" هذا الملتقى عن وجه الإعلام الرسمي، وذلك بعد تسجيل ساعة الملتقى وبثها على التلفزيون، لـ "هضم" هذه المحاولات الأهلية التي سعى إليها بعض الشباب السوري في دمشق، فلم تكن مستقلةً عن خطاب النظام الذي أرادها خطوة "إصلاحية ثقافية"، كما يصفها أحد المشرفين على تلك الملتقيات، حيث تورّط بالظهور على شاشة التلفزيون الرسمية، وعليه أن يتحدث ثلاثين دقيقة عن نشاط الملتقيات، وفي اعتباره أن ثمة عشرات المخبرين ينتظرون إشارته غير المباشرة عن "ثقافة" جديدة، نجحت بالوصول إلى الناس، من دون فضل أجهزة السلطة الثقافية وقادتها.

تضاءلت أحلامنا قبل عامين، بالانزواء بعيداً عن خطوط التماس، نرثي خيبات الثقافة التي أنتجت صمتاً مخيفاً، وسط أدلجة الثقافة مديح "البوط العسكري" الذي يدوس على المبادرات الأهلية، لأنه على "حق"، حين يدافع عن وجود الطغاة فوق صدور المنابر الهاربة من نعوش ثقافة النظام السوري، و"منتفعاتها". هناك اغتيلت أية مبادرة لا تدبغها "الوطنية"، ولا تفوح منها رائحة "الشعب الذي يشرب دماً"، كما كان يردد الموالون للأسد في ساحة السبع بحرات في دمشق الحواجز.

اقرأ المزيد
٣١ أكتوبر ٢٠١٦
الثورة السورية.. بأي ذنب قتلت!!!

في تعليق له على أن القصف الأخير الذي تعرضت له مدرسة في إدلب وأودى بحياة اثنين وعشرين طفلا وستة معلمين، قال المبعوث الخاص للأمم المتحدة المعني بالتعليم العالمي السيد غوردن براون، إن ذلك يعد تدنيا في الأعمال الهمجية، ويضيف أنه الأسوأ من بين 98 هجوما سابقا على المدارس السورية حصل خلال العامين الماضيين، ويضيف أدعو مجلس الأمن إلى الموافقة فورا على أن تقوم المحكمة الجنائية الدولية بإجراء تحقيق فيما أعتقد أنه جريمة حرب، مع نية ملاحقة الجناة ومحاكمتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية إذا ثبت تورطهم.

ينص البند "2 ب" من المادة الثامنة لنظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، أن جرائم الحرب وما يسمونها الانتهاكات الخطيرة تشمل تعمد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للتعليم".

للعام الخامس على التوالي لايزال النظام الوحشي في سوريا وبمظلة الدعم الروسي والإيراني، يعطي للعالم درسا جديدا ويفتح فصلا جديدا في حقل العلاقات الدوليه، في درس مفاده بأن التسبب في الظلم والعدوان واستهداف وقتل المدنيين والأبرياء وتهجيرهم واستخدام الأسلحة الكيمياوية والمحرمة دوليا وتجاهل العهود والمواثيق الدولية والقرارات الصادرة من المنظمات الدولية لا تعد كافية لأن تتحرك القوى العظمى والمنظمات الدولية المعنية بفرض السلم ولإيقاف هذا النزيف، وأن العالم لن يتحرك لصدها.

وذلك بالإضافة إلى جعل الغايات النبيلة التي انطلقت منها الثورة السورية لتتحول سوريا إلى مستنقع للجماعات الإرهابية، وذلك من خلال فتح أبواب البلاد لتدفق المتطرفين وعصابات التطرف والإرهاب، هذا فضلا عن إطلاق المحتجزين من المجرمين وغيرهم من السجون لتتغذى من الفوضى وليقلب الطاولة على المجتمع الدولي لتغييب القضية الأساسية والجوهرية التي اندلعت لأجلها الثورة السورية، وهي إزالة هذا الدكتاتور ليظهر للقوى الدولية كطرف في محاربة الجماعات الإرهابية والمتطرفة.

منذ اندلاع الثورة السورية، أفلت الرئيس السوري من ضربة عسكرية دولية لجريمته الأولى بعد استخدامه غاز السارين في هجوم على الغوطة الشرقية بريف دمشق في أغسطس من العام 2013 سقط بها مئات القتلى، وأوقع حوالي 1400 قتيل، وذلك عندما انضمت سوريا إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيمياوية في أكتوبر من نفس العام، في إطار اتفاق روسي أميركي أتاح تجنب ضربة عسكرية أميركية. (تلك الضربة العكسرية التي كانت في يوم ما خيارا مطروحا دائما على طاولة الرئيس الأميركي، ولم تعد كذلك منذ ذلك الحين)، وانتهت قضية السلاح الكيمياوي مع تقدم دمشق بطلب للانضمام إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيمياوية، ابرا كادابرا.

كان بالون اختبار أطلقه ليقيس رد الفعل على الفضائع التي ارتكبها وكما يبدو فقد نجح هذا الاختبار، منذ ذلك الحين استمر الرئيس السوري وبشكل متعمد وممنهج ومتواصل بارتكاب فضائع بحق شعبه، متجاهلاً القوى الدولية، والآن بمساعدة روسيا وإيران والميليشيات التابعة لها والجماعات الإرهابية المقاتلة وما ترتكبه من فضائع كلها هي المسؤولة عن تلك الانتهاكات المنتظمة.

ووفقا للأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية، فإن جرائم الحرب في سوريا تشمل انتهاكا لاتفاقية جنيف ونظام روما الأساسي والاتفاقيات والمعاهدات الدولية والاتفاقيات المصادق عليها والمعترف بها دوليا، فضلا عن اتفاقية منع الإبادة الجماعية التي تضع قيودا على الأطراف المتحاربة، بما في ذلك إعدام أسرى الحرب والاغتيالات، والعمليات الواسعة لقتل المدنيين، والاختطاف واستخدام المدنيين كدروع بشرية، وقطع الرؤوس، وعشوائية التفجير، والتعذيب، وجرائم العدوان، وتشريد السكان المدنيين، والتي شددت على أهمية إيقاف مثل هذه الممارسات والدفاع عن حرية الإنسان وكرامته وسلامته.

يجب أن يحمل الرئيس بشار الأسد والفصائل التابعة له والجماعات الإرهابية المسؤولية أمام المحكمة الجنائية الدولية عن الفظائع التي ارتكبوها ضد المدنيين السوريين الأبرياء. وعلى الرغم من النظام الذي مازال ينفي ارتكاب أي من تلك الجرائم إلا أن الأدلة كثيرة ومستمرة حول مسؤوليته عن موت مئات الآلاف من المدنيين والكثير من عمليات الترحيل القسري والتشريد، كما أن هناك أدلة تربط بين استخدام القوات السورية الحكومية للأسلحة الكيمياوية المحظورة والتي من ضمنها استخدام البراميل المتفجرة، والذخائر العنقودية، والأسلحة الحارقة، وتسببت في أضرار أو تدمير 5 مستشفيات جزئيا على الأقل، وذلك بحسب أبحاث أجرتها منظمة هيومان رايتس واتش، ما يعني ضمناً أن الأسد وشركاءه يجب أن يتحملوا مسؤولية تلك الأفعال.

كانت وماتزال المملكة العربية السعودية من بين أبرز الدعاة لأن يتحرك المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات صارمة وملموسة على أرض الواقع ضد الرئيس الأسد وحكومته، حيث تدعم المملكة المعارضة المعتدلة من خلال توفير وسائل "غير قاتلة"، ومن خلال دعمها للحل السياسي في سوريا وفقا لبيان جنيف 1. بالإضافة إلى وقوفها الإنساني بجانب أشقائها السوريين، كما بين صاحب السمو الملكي ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء أمام مؤتمر اللاجئين المنعقد على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام بأن المملكة تعمل بصمت من أجل أشقائها السوريين بأن المملكة استقبلت 2.5 مليون سوري على أراضيها، يتمتعون بحق الرعاية الصحية والتعليم. وأن المساعدات السعودية للاجئين السوريين بلغت 800 مليون دولار، بالإضافة إلى مساعدات لحكومات دول الجوار ومنظمات الإغاثة العالمية.

وبالعودة إلى المجتمع الدولي الذي يقف حائراً في مواجهة هذه الجرائم بمواقفه المتباينة، لا يمر يوم دون أن نسمع تلك المصطلحات تتردد على في اجتماعات القادة من شجب واستنكار وإصدار بيانات وإقامة مؤتمرات دعم ومؤتمرات أصدقاء وتعيين وسطاء مبعوثين وغيرها بدون أي نتائج ملموسة على أرض الواقع، بالإضافة إلى استخدام حق النقض (الفيتو) من جانب روسيا وصل إلى خمس مرات. إن من غير المفهوم ألا تعطي المحكمة الجنائية الدولية الأولوية القضائية إزاء الوضع السوري على الرغم من الأدلة الواضحة للجرائم المرتكبة ضد الإنسانية والموثقة من شهود العيان والمنظمات الدولية. وتحقيقا لهذه الغاية، من الضروري أن يتدخل المجتمع الدولي باستخدام الوسائل القانونية لضمان الحصول على العدالة للشعب السوري كل في نطاق اختصاصه، لضمان أن مثل هذه الفظائع سوف لن تجد لها مكانا في العالم مستقبلاً.

اقرأ المزيد
٣٠ أكتوبر ٢٠١٦
إيران وشمّاعة الوهابية

إذا كنت ممن يتابعون الإعلام الإيراني الذي يسيطر المحافظون على غالبيته الساحقة، ويمكنك أن تضم إليه إعلام التابعية الإيرانية في الدول التي يسيطر عليها الأتباع، كما هو حال العراق ولبنان وسوريا وجزء من اليمن، فضلا عن خطاب الشبيحة المنبثين في الإعلام ومواقع التواصل.. إذا كنت ممن يتابعون ذلك كله (نفعل بحكم المهنة طبعا)، فستلاحظ أن المصطلح الأكثر ترددا في ذلك الإعلام هو مصطلح «الوهابية»، حتى لكأن معركة إيران الراهنة في المنطقة هي مع «الوهابية» دون غيرهم، ولا وجود لمعركة مع البقية الباقية من الأمة.

وإذا جئنا نحرر المصطلح بحسب السائد، فإن من يدخلون تحت مظلته هم أقلية في الأمة، أعني التيار السلفي بتجلياته المختلفة (التقليدي، والجهادي والإصلاحي)، مع العلم أن غالبية الأمة باتت تخلط في بنيانها الفقهي والاعتقادي، ولم يعد سوى القليل منها يتبع مذهبا واحدا، بما في ذلك التيارات الإسلامية المسيّسة، إذ تجد مثلا في صفوف الإخوان المسلمين، سلفيين وأشاعرة، في حين تجد أكثر الناس يتبعون رأي من يفتيهم، أو من يرتاحون إليه من العلماء والدعاة، وكثير منهم يدخل إلى «جوجل» ليسأله عن الرأي في هذه المسألة أو تلك ويختار من بين الأقوال التي يجدها ما يرتاح إليه.

لم يسبق للأمة أن حُشرت في مذهب معين، لا في الفقه ولا في الاعتقاد، بخاصة أهل السنّة الذين يمثلون غالبية الأمة، والإقصاء مشكلة وقع فيها الكثير من المذاهب في لحظات قوتها، أو انحياز السلطة السياسية إليها.

حتى في السعودية التي تحتضن المذهب السلفي الذي يسميه إعلام إيران الوهابية، يمكن العثور على طيف واسع من الآراء الفقهية والاعتقادية أيضا، وإن بدا الخط السلفي هو الأكثر حضورا.

الحقيقة أن هذا الخطاب الإيراني هو خطاب سياسي يُستخدم للتضليل ليس إلا، فمعركة إيران هي مع الغالبية الساحقة من أهل السنّة، الذي يشكلون بدورهم الغالبية الساحقة من المسلمين، وليست مع الوهابية، ولا مع السعودية، وهذه المحاولة السخيفة لحشر المعركة في فئة معينة هي محاولة مفضوحة بامتياز، ولا تمر حتى على عقول الأطفال. هل الأتراك مثلا وهابية؟ وهل أهل سوريا الذين تقتلهم إيران وهابيون؟ أم أن أهل اليمن الذين يواجهون العدوان الحوثي وهابيون؟!
إنها معركة سياسية بامتياز تنخرط فيها غالبية تعتقد أن هناك عدوانا إيرانيا يريد تغيير حقائق التاريخ والجغرافيا في المنطقة، وهي غالبية لم تكن طائفية في يوم من الأيام، والسنّة أصلا لم ينظروا إلى أنفسهم يوما كطائفة، بل اعتبروا أنفسهم الأمة التي تحتضن جميع الأقليات الأخرى.

أهل السنّة وقفوا مع الثورة الإيرانية حين واجهت الشاه، وساندوا قتال حزب الله ضد العدو الصهيوني، لكنهم غيروا موقفهم حين أسفر المشروع الإيراني عن وجهه الطائفي البشع، وهو وجه تفضحه وسائل الإعلام والتصريحات اليومية التي تنقصها الدبلوماسية، ولا يغيره بعض الكلام الدبلوماسي من هذا السياسي أو ذاك.

غالبية الأمة ترفض العدوان، ولا شأن لها بالمذهب، وإذا ما توقف العدوان، فليتبع كل أحد المذهب الذي يريد، وأي حوار ديني يكون بالحسنى، وليس بالقتل والعدوان، والسنّة لا يخشون على مذهبهم، لأنه لم يتسيّد مشهد الأمة بسطوة السلطة كما يشاع، بل بقوة الحضور والإقناع.

الخلاصة أن استخدام حكاية الوهابية من قبل إعلام التابعية الإيرانية لا يمر على عقول الناس بحال، ويجب أن يدرك حكام إيران أنهم استعْدوا الغالبية الساحقة من أهل السنّة، ولن يربحوا هذه المعركة، لأن لهذه الغالبية تراثها الطويل في صدِّ الغزوات، وهذه الغزوة لن تكون استثناءً بحال.

اقرأ المزيد
٣٠ أكتوبر ٢٠١٦
حمى الله لبنان

ليس شخص الجنرال ميشيل عون أهم ما في المسألة اللبنانية، فالجنرال ليس ذلك العسكري المحنك أو السياسي البارع، بل هو قامة عادية من قامات عسكر الهزائم الذي أنتجته هزيمة العرب في فلسطين، المعروف بولهه بالسلطة وتفرّغه للصراع عليها، ولا برنامج له غير السعي إليها، وإقصاء غيره عنها بجميع الوسائل، مهما كانت مخالفةً للقوانين والأخلاق، وعنيفة.

وليس شخص الجنرال ما يدّعيه أنصاره: مساوياً للمسألة اللبنانية، وما يكتنفها من تحدياتٍ داخليةٍ وخارجية، كما أنه ليس الرجل القادر على التصدي لما يحيق بها من مخاطر محلية وعربية وإقليمية، بل هو اليوم تفصيلٌ صغيرٌ من تفاصيل معركةٍ كبرى، تدور في كل مكان من المنطقة، لم تبلغ بعد ذروتها، لكنه تفصيل مهم، ولكن ليس بالمعنى الايجابي للكلمة، بل بمعناها السلبي الذي يترتب على انحناء سعد الحريري أمام حزب الله، بما فيه من دلالاتٍ من الصعب القول إنها حمّالة تهدئةٍ وتطبيع لعلاقات القوى السياسية اللبنانية، وضامنة لمصالح لبنان العليا التي صارت، بقرار الشيخ سعد، مصالح تتجه نحو التطابق مع خيارات (وارتباطات) حزب الاحتلال الإيراني الذي يكتم أنفاس لبنان بالسلاح، ويثبت اليوم أن إيصال عون إلى سدة الرئاسة يعني أنه بدأ يحتل إرادة زعمائه الذين يستسلمون له، وأنه سيستطيع، من الآن فصاعداً، تحديد خياراتهم، وتقليص قدرتهم على مقاومته، والإفلات من بنية أقامها، ما يسعون للخروج منها، خشية ما يرتبه سعيهم عليهم من عقابيل وخيمة، ينتجها ارتطامهم بسلاح الحزب، ويعتقدون أن في وسعهم تفاديها.

ولجنوحهم إلى مواقف سياسية النتائج نفسها التي ينتجها السلاح، وعبر عنها قبول رئاسة الجنرال عون، بعد "صمود" دام عامين ونصف العام قبل أن ينهار، تردّى وضع لبنان السياسي خلالها، وتراجعت قدرات تيار "14 آذار" بدل أن تتحسن. لذلك، من الصعب اعتبار الرضوخ لإرادة السلاح وخياراته التي ليست لبنانية الأولويات، محاولة تريد استباق عاصفة قادمة على بلاده، ويحتم الوضعان الإقليمي والدولي أن نرى فيها العكس: وضع لبنان في عين العاصفة، وإسقاط سياسات عدم الانخراط في الحرب التي يشنها الحزب على الشعب السوري، وتوسعة للغطاء السياسي لجريمته، ستنضم إليه من الآن فصاعداً أطرافٌ ناهضت سياساته السورية، واستفزازاً لقوى سورية، اتخذت مواقف غلب عليها ضبط النفس، لكنها لن تتمكّن من مواصلتها، في حال أفاد الحزب من أجواء لبنان الجديدة، لتوسيع جرائمه ضد السوريين إلى لبنان، بغطاءٍ من رئيسٍ لا يتوقف يوماً عن تحريض اللبنانيين ضد اللاجئين، وعن توجية إهاناتٍ لا تحتمل إليهم، إذا لم يحفظ لسانه من رئاسته، فصاعدا لن يسهم موقفه في حماية لبنان، ولن يتمكّن الشيخ سعد، في حال صار رئيساً للحكومة، من كبح التصعيد المؤكد لاعتداءات حزب إيران على اللاجئين، وما قد يترتب على ذلك من تعقيداتٍ لا يحتاج أحدٌ إليها غير إيران وحزبها، واللذان يعتقدان أن غلبة الروس والإيرانيين الظاهرة في سورية لا بد أن تترجم إلى غلبة داخلية في لبنان. ربما كان الشيخ سعد يعتقد أن ملاقاة الحزب في ثمانين بالمائة من الطريق سيجّنب لبنان عقابيلها، لكن جميع الدلائل تشير إلى أن نهج إيران سيكون تصعيدياً وتركيعياً في لبنان، سواء انتصرت في سورية أو فشلت.

لذلك، كان من الضروري ربط مقاومة خطط حزب الله السورية بتوحيد اللبنانيين على برامج يمكن، بمساعدتها، احتواء تفوق الحزب العسكري سياسيا، لكن من قرّر القبول بعون رئيساً غفل عن هذا، واتخذ قراراً أدى إلى إضعاف الصف القريب منه، بما لا يبشر بخير أو يسهم في منع الصراع على سورية والمنطقة من أن يصير مفتوحاً وعنيفاً على لبنان أيضاً.

سيضيف الجنرال عون بعض الشرر إلى نيران الحرب الشرق أوسطية، أضرع إلى الله أن يجنب لبنان لهيبها الذي لن يزيده رئيسٌ بمواصفاته غير استعار وضراوة.

اقرأ المزيد
٣٠ أكتوبر ٢٠١٦
التغيير الديموغرافي بين زمنين

تصاعد الاهتمام بقضية التغيير الديموغرافي في سوريا في الفترة الأخيرة في المستويين السوري والدولي، خصوصًا في ظل عمليات التهجير القسري الذي يواصله نظام الأسد وحلفاؤه في المناطق المحيطة بالعاصمة دمشق، وترحيلهم إلى مناطق أخرى، وهي سياسة تكمل عمليات التهجير الواسعة، التي دفعت ملايين السوريين للخروج من مدنهم وقراهم، والانتقال إلى مناطق أخرى، فيما غادر سوريا أكثر من خمسة ملايين نسمة إلى الخارج، الأمر الذي يعني تغييرات عميقة في البنية السكانية لسوريا، ليس لناحية عدد السكان فقط، وإنما لهوياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية، ومما يزيد الأمر خطورة، أنه في الوقت الذي يتم فيه إجبار سوريين على الخروج من سوريا، أو الانتقال من موطن مولدهم وإقامتهم، يتم استقدام آخرين إلى مناطق الإخلاء، وإسكانهم فيها في إطار عملية التغيير الديموغرافي الحالية.

وبالعودة إلى عملية التغيير الديموغرافي، يمكن القول إنها ليست جديدة. وقد بدأت مع مجيء بشار الأسد إلى السلطة عام 2000، والأهم فيها قيام الإيرانيين بشراء أراضٍ وعقارات واستئجار أخرى بالقرب مما يصفونه بـ«المزارات الشيعية» المعروفة، مثل مقام السيدة زينب جنوب دمشق، أو تلك التي «اكتشفوها» في مناطق متعددة من الأراضي السورية، ومنها مقام السيدة رقية بنت الحسين في دمشق القديمة، ومقام أويس القرني في الرقة، ومقام النبي هابيل في ريف دمشق الغربي على طريق دمشق/ الزبداني. وعبر بوابة المزارات، أخذت تظهر ملامح شيعية إيرانية في مناطق سورية عدة عبر ثلاثة من المظاهر؛ أولها توسيع تلك المزارات وإعطاؤها طابعًا معماريًا ومذهبيًا خاصًا، والثاني افتتاح مكاتب وحوزات دينية للشيعية الإيرانية ومن يدور في فلكها، والثالث إقامة وتطوير بنية سكانية وأنشطة اقتصادية، ترتبط بتلك المزارات والقادمين إليها، وكان المثال الأوضح في دمشق، حيث تحولت مدينة السيدة زينب بأغلبيتها السنية إلى مدينة ذات أغلبية شيعية، وصار الوجود الشيعي ظاهرًا في محيط مقام السيدة رقية في منطقة العمارة بوسط دمشق القديمة.

ورغم استمرار هذا الخط بشكله الاجتماعي - الاقتصادي والثقافي، وبالتالي السياسي من عملية التغيير الديموغرافي، فقد خلق الصراع المسلح في سوريا خطًا آخر موازيًا من طبيعة أمنية عسكرية، والإشارة تتصل غالبًا، بما قام به «حزب الله» والنظام في الخط الممتد على الحدود السورية - اللبنانية في محافظتي حمص وريف دمشق الغربي. ومنذ بداية الصراع المسلح، عمل «حزب الله» والنظام على تدمير مدن وقرى هذا الخط بالهجوم على قصير حمص، وتهجير سكانها، واستيطان «حزب الله» بمسلحيه وعائلاتهم فيها، وبناء معسكر لتدريب الأطفال على القتال، وضمهم إلى قواته، وجرى اتباع المسار نفسه تقريبًا في التعامل مع مدينة يبرود، التي تحولت إلى قاعدة عسكرية وسكنية لـ«حزب الله» في القلمون الغربي، فيما كانت ميليشياته بمشاركة قوات النظام، توسع نشاطها غرب دمشق، وتحاصر مدنًا وقرى، منها الزبداني ومضايا، التي جرى في العام الماضي ترحيل أغلب سكانها قسريًا، مما مهد فعليًا لإحلال مستوطنين مكانهم باستقدام سكان من بطانة «حزب الله» ومؤيديه، وهو الأمر المنتظر في داريا، التي تم ترحيل من تبقى من سكانها أخيرًا.

ورغم أن لهذا الخط نفس هدف الخط السابق من تأمين وجود اجتماعي - اقتصادي وثقافي وبالتالي سياسي، فإنه يزيد عليه هدفًا في غاية الأهمية، وهو هدف أمني - عسكري، أساسه سيطرة شيعية مؤيدة لنظام الأسد وإيران على جانبي الحدود السورية - اللبنانية، وتأمين طريق دمشق - شتورا وصولاً إلى بيروت.

وإذا كانت عملية التغيير الديموغرافي، قد أظهرت استهداف المسلمين السنة، باعتبارهم أكثرية سكان المدن والقرى، التي كانت موضع تهجير قسري، فإن الأمر لم يقتصر على هؤلاء وحدهم، كما تدلل الوقائع. ففي القصير ويبرود، كما في الزبداني ومضايا وداريا سكان من المسيحيين السوريين، جرى ترحيلهم قسريًا أيضًا في إطار السيطرة الأمنية - العسكرية على المناطق الحساسة، وهذا ما جرى ويجري العمل عليه في قلب العاصمة دمشق، إذ تتواصل ضغوطات على المسيحيين في أحياء القيمرية وباب توما المجاورين لحي الأمين الذي تعيش فيه أغلبية شيعة دمشق لبيع بيوتهم والخروج من المنطقة، كما يجري الاستيلاء على البيوت، التي خرج منها سكانها لسبب أو لآخر، وإحلال آخرين مكانهم في إطار تشييع المنطقة كلها، وقد تعرضت مدينة السويداء، التي تسكنها أغلبية من الدروز السوريين في العامين الأخيرين إلى حملة تغيير سكاني، عبر سعي لشراء بيوت وعقارات فيها بأسعار خيالية، بهدف خلق نواة لاستيطان «شيعي» موالٍ لنظام الأسد وإيران، لكن انتباه أهالي السويداء، حد من تحقيق هذا الهدف، وتتكرر بعض تفاصيل هذه الظاهرة في كثير من المدن الخاضعة لسيطرة النظام في دمشق وطرطوس واللاذقية.

وكما يتنوع السكان الذين يستهدفهم التغيير الديموغرافي، فإن الذين يحلون مكانهم متنوعون أيضًا، فإضافة إلى عناصر الميليشيات الطائفية من «حزب الله» اللبناني إلى حركة النجباء والفاطميين وغيرها من العراقيين والميليشيات الأفغانية والإيرانية وعائلاتهم الذين يحلون مكان السكان المرحلين قسريًا، فإن السلطات السورية فتحت الأبواب لمؤيديها من الجنسيات العربية والأجنبية للحصول على الجنسية السورية، لتمكينهم من شراء الأراضي والعقارات، والانخراط في الأعمال الاستثمارية، الأمر الذي يجعلهم جزءًا من التغييرات الديموغرافية الحالية.

إن عملية التغيير الديموغرافي بما تمثله من مسارات أغلبها دموي وله طابع الإكراه، ومن أهداف أبرزها دعم نظام الأسد وحليفه الإيراني وميليشياته، تمثل واحدة من أخطر جرائم الصراع السوري، بل إنها فتحت الباب واسعًا أمام قوى التطرف، وفي مقدمتها «داعش»، لممارسة هذه السياسة وتعميمها في أنحاء مختلفة من البلاد، مما جعل سوريا ميدانًا لتغيير ديموغرافي متسارع، إذا استمر الوضع على ما هو عليه، وتواصل الصراع المسلح لفترة أطول، الأمر الذي يتطلب تحركًا دوليًا لوقف عمليات التغيير الديموغرافي ومحاسبة المجرمين القائمين عليه وفق مضامين القانون الدولي والإنساني.

اقرأ المزيد
٣٠ أكتوبر ٢٠١٦
أسئلة لم يسمعها الأسد من أصلاموفا

سألت صحافية روسية بشار الأسد: آلاف الشباب في سن القتال يملأون المقاهي وصالات التدريب الرياضية والمسابح والمراقص والملاهي الليلية، لماذا لا ترسلونهم إلى الجبهة، أليست هذه حربكم المصيرية وقضيتكم الوطنية، ألا ينبغي أن يكون جميع الرجال السوريين على الجبهات؟

شخصياً، لا أتخيّل أن هذا السؤال كان مفاجئاً لبشار الأسد، فلم يعتد هذا، ولا والده، ولا جميع الحكام الشموليين إجراء لقاءاتٍ صحافية مع صحافيين انتقوهم لإجراء اللقاء (مقابل أجر) من دون أن يطلبوا الأسئلة مسبقاً، بل وقد يضع بعض مساعديهم أسئلة محدّدة، يرغبون هم بالإجابة عنها لتوجيه رسائل محددة لجهاتٍ يقصدونها (لذلك وقع الاختيار على الروسية داريا أصلاموفا بالذات).

اشتملت المقابلة مع الصحافية الروسية على أسئلة كثيرة، كان واضحاً أن بثينة شعبان أو لونا الشبل، مستشارتي بشار، أو أحد جهابذة الإعلام من جوقة حزب البعث، قد وضعها، لكي يجيب عنها بأجوبة كان مستشاروه قد صاغوها له، ليقولها لصحافيةٍ مهمتها، كما معظم صحافيي السلطان في الدول الشمولية، تأييد ما يقوله الطاغية، بل والمبالغة في استحسان وجهة نظره وتأييدها.

تسأل أصلاموفا عن سبب وجود شباب سوريين في المقاهي والساحات، في حين أن الحرب تشتعل في كل أنحاء سورية، والانفجارات تُسمع في كل مكان، ولماذا لا يتم تجنيدهم للدفاع عن دولتهم في معركتها المصيرية، فيجيب بشار أن نظامه لم يعلن التعبئة العامة، بل هي تعبئة من الدرجة الثانية. يريد أن يوحي بأن الأمر ليس خطيراً إلى درجة أن يعلن التعبئة العامة، وأن وضع نظامه ليس بهذه الخطورة، ما يتيح له أن يستثني شباباً وطلاباً وعاملين مدنيين كثيرين من عملية التعبئة والتجنيد.

لو كان المحاور غير السيدة التي اختارها مستشارو الديكتاتور، ولو كانت هذه تعمل في صحافة دولة اعتادت احترام المهنية في العمل الصحافي، لكان سؤالها: إذا كان الوضع لا يستدعي تعبئة عامة، كما يحصل في جميع الحروب المصيرية التي تخوضها الدول ذات الحكومات التي تحترم نفسها، وتصون كرامتها واستقلال أوطانها، فما هو سبب جلب عشرات آلاف المقاتلين الطائفيين الذين جندتهم إيران في مليشيات مسلحة من لبنان والعراق وأفغانستان، ويرتكبون جرائم حرب ضد السوريين بخلفية طائفية، ما يعمق الانقسام المجتمعي في سورية، ويساعد التنظيمات التكفيرية الطائفية في الطرف الآخر على استقدام متطرفين وتكفيريين من خارج سورية، وإيجاد تربة خصبة لأفكارها في المجتمع السوري المعروف باعتداله وتنوعه؟ وما هي الحاجة إلى عشرات آلاف الجنود الإيرانيين، وآلاف الجنود الروس وأساطيلهم الجوية والبحرية وقنابلهم العنقودية والارتجاجية التي أحرقت مدن سورية وقراها؟ وإذا كانت هذه الحرب التي تخوضونها دفاعا عن سورية وشعبها ضد أعداء وطنكم وشعبكم، فلماذا هرب الملايين من السوريين، وبينهم مئات آلاف من الشباب، ولم يبقوا هنا لدعمكم، وصد ما تقولون إنه عدوان على وطنهم وشعبهم، بل فضلوا الموت غرقاً واجتياز البحار هرباً من حربكم هذه.

يحاول طاغية دمشق مدعوماً من الصحافة الروسية، وجوقة إيران الإعلامية، تغطية الشمس بغربال، لكن القاصي والداني على يقين أنه أصبح بلا جيش ولا مواطنين. لا أحد لديه الرغبة في الدفاع عن فساده وفساد المافيا العائلية التي يقودها، ولولا عصا الإرهاب والتنظيمات التكفيرية التي أشهرها في وجه شريحةٍ كبيرة من الشعب السوري، تلك التنظيمات الإرهابية التي اختلقها وسهَّل نموها، بالتعاون مع كل من أراد أن يجعل من الشعب السوري مثلاً سيئاً للشعوب التي تثور على طغاتها، لتخلى عنه، حتى أقرب المقربين إليه من غير أعضاء المافيا المستفيدة مباشرةً من ريوع الفساد، أو الخائفين على رؤوسهم من أي محاسبةٍ أو محاكمةٍ، قد يتعرّضون لها بعد ما ارتكبوه من موبقاتٍ وجرائم ومجازر.

لم تعد حقيقة وضع بشار الأسد وهشاشة نظامه واعتماده الكلي على قوى ومليشيات أجنبية للحفاظ على بقائه خافية على أحد، وخصوصاً على السوريين الذين أصبح صغيرهم، قبل كبيرهم ومواليهم، يعلم أنه لم يعد أكثر من عبد مأمور لسيدين، كل منهما قادر على ضربه على قفاه متى شاء. ولا يكترث خامنئي وبوتين كثيرا لما يقول، فهما قادران على ركله خارج سورية متى أحسوا أنه لم يعد قادراً على خدمة استراتيجيتهم في المنطقة، كما تستطيع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية تقويض نظامه، متى أحسا أنهما استنفدا أغراضهما من الحرب التي يشنها على شعبه ووطنه.

اقرأ المزيد
٢٩ أكتوبر ٢٠١٦
هل نجحت أمريكا في العراق كي تنجح روسيا في سوريا؟

هل تدخلت القوى الكبرى في بلد إلا وتفتت أو بقي في حالة صراع داخلي مرير لسنوات وربما عقود؟ لا شك أن الصراعات والحروب الأهلية تترك البلدان التي تحدث فيها في حالة خراب ودمار وفوضى لردح طويل من الزمن. لكن تلك الصراعات تصبح أسوأ بكثير عندما تتدخل فيها قوى خارجية لمصلحة هذا الطرف أو ذاك.

وعلى ضوء تجارب العراق وأفغانستان والصومال واليمن ويوغسلافيا نستطيع أن نؤكد أن التدخل الأجنبي لا يهدف بأي حال من الأحوال لحل كوارث تلك البلاد بقدر ما يكون عاملاً مساعداً على تفاقم الأزمات وإطالة أمدها أو تقسيم البلاد كما حدث في يوغسلافيا، وكلما أرى دولة عظمى تتدخل هنا وهناك بحجة إحلال السلام أو وقف القتال أضع يدي على قلبي، لأن النتيجة تكون في غالب الأحيان ليست في صالح تلك البلاد ولا شعوبها، بل تزيد الطين بلة، وتصب الزيت على نار الحروب الأهلية.

ماذا فعل التدخل الخارجي في أفغانستان؟ لقد تدخل السوفيات في بادئ الأمر لصالح الرئيس الشيوعي نجيب الله لتثبيت حكمه دون أن يدروا أنهم بذلك سيستثيرون قسماً كبيراً من الشعب على بعضه البعض وعلى الغازي الخارجي طبعاً. وكانت نتيجة الغزو السوفياتي لأفغانستان قيام ثورة داخلية على النظام الذي جاء السوفيات لدعمه.

وبسبب التنافس بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وقتها على مراكز النفوذ في العالم، راحت أمريكا تدعم المجاهدين الأفغان بالمال والسلاح لطرد السوفيات وتثبيت جماعتها هناك. وقد نجح المجاهدون في طرد الغازي السوفياتي. لكن ماذا كانت النتيجة؟ لقد حدث صراع مرير بين المجاهدين أنفسهم أدى إلى تدمير البلاد حتى تمكنت حركة طالبان من القضاء على كل منافسيها من الفصائل الأخرى، واستفردت بحكم أفغانستان. لكن الأمور لم تستتب لطالبان لفترة طويلة، فقد تعرضت أفغانستان لغزو جديد هذه المرة من القوة التي ساعدت الأفغان في طرد السوفيات.

لقد تحججت أمريكا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وغزت أفغانستان، وقضت مبدئياً على حكم حركة طالبان، ونصبت محلها نظاماً عميلاً لها لا يختلف عن نظام نجيب الله الشيوعي الذي كان عميلاً للسوفيات. وماذا كانت النتيجة؟ لقد تحولت طالبان إلى حركة مقاومة ضد عملاء أمريكا وتوابعها في أفغانستان، مما أدخل البلاد في حال انقسام وحرب أهلية جديدة لم تنته حتى الآن. وسيظل الصراع قائماً بين طالبان والحكومة المدعومة أمريكياً حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

طبعاً لم يتعلم الأمريكيون من التدخل في أفغانستان، فعادوا الكرة في العراق لاحقاً وبنفس اللعبة والطريقة، فأسقطوا نظام الرئيس صدام حسين، وعينوا محله عملاءهم من شراذم المعارضة العراقية. وماذا كانت النتيجة؟ لقد تحول أنصار صدام وكل المتضررين من الغزو الأمريكي للعراق إلى حركات مقاومة لم تطرد الأمريكيين من العراق فحسب، بل جعلت من العراق ساحة حرب أهلية ممتدة منذ دخول الأمريكيين إلى العراق عام 2003. ولو نظرنا إلى العراق الآن لوجدنا أنه أصبح مضرباً للمثل في الخراب والدمار والفوضى والفشل.

وكما أن الأمريكيين لم يتعلموا من خطيئة السوفيات في أفغانستان، فإن الروس لم يتعلموا بدورهم من خطيئة أمريكا في العراق.

ها هي روسيا الآن تتدخل في سوريا لصالح طرف ضد الأكثرية في سوريا، فبدل أن تساعد الأكثرية التي ثارت على نظام طائفي أقلوي حقير، راحت تدعم النظام الفاشي ضد إرادة غالبية الشعب السوري الذي عاني الويلات منذ خمس سنوات. وكما تحججت أمريكا بإزالة النظام الديكتاتوري في العراق، تحاول روسيا تغطية غزوها السافر لسوريا بحجة محاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم الدولة الإسلامية وغيره من الفصائل. ولتجميل تدخلها الفاشي في سوريا، تزعم روسيا أنها تبحث عن حل يجمع السوريين، مع العلم أنها تأخذ موقفاً صارخاً لصالح طرف ضد بقية الأطراف السورية كما فعلت من قبل في أفغانستان، وكما فعلت أمريكا في العراق. صحيح أن الوضع في سوريا مختلف عن الوضع في أفغانستان أيام الغزو السوفياتي. وصحيح ايضاً أن أمريكا وروسيا حليفتان في سوريا ضد الجماعات الجهادية. لكن ذلك لن ينجح أبداً في إيجاد حل للسوريين، لا بل سيعمق الأزمة، وسيزيد من التخندق الطائفي والمناطقي.

لا نعتقد أبداً أن القوى الكبرى تتدخل في البلدان المضطربة من أجل الحل، بل بالتأكيد من أجل مصالحها الحقيرة أولاً وأخيراً. وقد شاهدنا كيف أدى التدخل الروسي الأخير في أوكرانيا إلى تقسيمها وقبلها جورجيا. ولو صدقنا جدلاً أن روسيا تريد فعلاً أن تجد حلاً للكارثة السورية، فعليها أن تنسى الأمر، وأن تخرج من سوريا تاركة السوريين يتوافقون على حل فيما بينهم بأنفسهم دون وساطة أو تدخل خارجي مسموم كالتدخل الروسي الآن. إن التغيير الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه، ويمكن أن يحقق نتائج إيجابية مستدامة في أي مكان هو التغيير من الداخل. أما التغيير المفروض من الخارج فسيفشل، وسيؤدي إلى خراب البلدان حتى لو دعمته كل قوى الأرض. هل نجح التدخل الأمريكي في العراق في تشكيل نظام أفضل يقبله كل العراقيين؟ بالطبع لا.

لقد أدى إلى تفتيت العراق والعراقيين على أسس طائفية ومذهبية وعرقية مقيتة. لماذا؟ لأنه لم يأت بمباركة كل العراقيين، بل حاول أن يفرض الشيعة على السنة. لهذا كانت نتائجه كارثية. وإذا فشلت أمريكا سيدة العالم في فرض نظام على العراقيين بكل جبروتها العسكري والاقتصادي والسياسي، فإن روسيا الضعيفة لن تستطيع أن تفرض على السوريين نظاماً لا يقبل به كل السوريين.

اقرأ المزيد
٢٨ أكتوبر ٢٠١٦
«لوزان 2» لتثبيت خطوط الاشتباك وتحديد مصير الأسد

لم تحسم الإدارة الأميركية خياراتها تجاه القضية السورية، والتي لا زالت تتراوح بين تدخّل دبلوماسي والحؤول دون امتلاك المعارضة أسلحة فعالة ودعوة الأطراف المتصارعة إلى تقديم تنازلات بالجملة، وصولاً إلى احتمال القيام بتدخّل عسكري محدود يسمح للصراع بالاستمرار، ولا يتيح لأي طرف تحقيق الغلبة على الآخر، لا النظام ولا المعارضة، وذلك بدعم المعارضة بأسلحة دفاعية غير قادرة على صناعة نهاية حاسمة لأي معركة.

بين كل من هذه الخيارات تأتي عملية «لوزان ١» إلى الحضور الدولي، وكأنها عملية إنعاش صعبة لميّت اسمه هدنة حلب، أو الاتفاق الأميركي- الروسي الذي ولد معوقاً أو غير قادر على النمو. يعود الحديث عن لوزان جديدة إذاً على رغم أن «لوزان ١»، التي تم تدشينها في منتصف هذا الشهر بحضور الولايات المتحدة وروسيا وكل من إيران وتركيا والسعودية وقطر والأردن والعراق ومصر، لم تأخذ إعلامياً أي صدى حقيقي لما تم داخل أروقتها، إذ لم يصدر إعلان عن مجريات نقاشاتها التي توحي بأنها كانت أكثر من صريحة بين الأطراف الفاعلة على أرض سورية. فليس مصادفة أن الأطراف المشاركة هي الأطراف المنخرطة مباشرة في الصراع على الأرض (باستثناء مصر والأردن)، طبعا عبر أدواتها أو استطالاتها المحلية، من طرفي النظام أو المعارضة، مع ملاحظتنا تغييب الدول الأوروبية عن هذا الاجتماع، المتحمسة للحسم السياسي، الأمر الذي يؤكد الأهمية العملية لهذا الاجتماع وطابعها الميداني.

ما الذي طرحته «لوزان 1» (15/10) أو ما الذي يفترض أن تحسمه كي يعود الحديث من جديد عن «لوزان ٢»؟

لعل هذا هو السؤال الذي تدارسته الأطراف جميعها خلال الفترة الماضية ويفترض أن تقدم الإجابة عنه في الجلسة المزعم عقدها قريباً حسب التسريبات الصحافية، والتي تفيد بأن الأمر لا يتعلق هذه المرة فقط بهدنة تبدأ من حلب، ولكن أيضاً بمنفذ سياسي يقود إلى إحياء مفاوضات قد لا تتجاهل مصير الأسد، وهو عقدة الاستعصاء في الصراع السوري، بحسب التسريبات الموثوقة، وذلك من خلال تظهير، بدل تجهيل هذا المصير باستفتاء شعبي، يتاح فيه لكل السوريين، أينما كانوا، التعبير عن رأيهم، ولعلّ هذه المسألة تحديداً هي التي تقف وراء تغيب مجريات النقاش التي جرت في «لوزان 1» عن وسائل الإعلام، بحيث لم يصدر أي بيان عما توافقت عليه الأطراف المجتمعة أو ما لم تتوافق عليه.

أيضاً، كان الحراك الديبلوماسي اللاحق لاجتماع «لوزان١»، والطلب المتلاحق من كل الأطراف سواء التي اجتمعت أو التي غُيبّت، يوحي بأن عودة الاتفاق الأميركي الروسي (9/9) بات ممكناً، بل وفي طريقه للتنفيذ، وفي مقدمة ذلك يأتي فصل قوات المعارضة المسلحة عن قوات جبهة «فتح الشام» (النصرة). الدليل على ذلك أن بعض الدول المتّهمة بدعمها غير المعلن لـ «جبهة النصرة» صرحت علناً بضرورة خروج هذه الجبهة من حلب، وإعادة تصدير تصنيفها كمنظمة إرهابية وخفوت الأضواء عن حراكها العسكري داخل سورية، بعد أن حظي بتغطية إعلامية أوحت وكأن « النصرة» هي صاحبة الباع الكبير في عملية الحسم العسكري في مواجهة النظام، ليتبين لاحقاً أن عدد عناصرها في حلب المستهدفة لا يتجاوز مئتي مقاتل على الأرض.

كل ما تقدم أيضاً يطرح تساؤلاً ملحاً بشأن ما إذا كانت الدول الفاعلة في الصراع السوري وجدت أخيراً طريقاً إلى تفاهمات تفضي إلى وضع حد لهذا الصراع؟ وأنه إذا كانت وصلت إلى ذلك فما الذي يؤخّر تنفيذها له ووقف هذا العدوان المستمر من النظام وحلفائه على حلب؟ وعلى ضوء ذلك فهل نحن بانتظار انتظام خطوط الفصل بين الطرفين حسب خريطة محددة لا تسمح للمعارضة وبالتالي لتركيا بكسب كل شرق حلب، كما لا تسمح بتوغل النظام على كامل حلب غربها وشرقها؟

على ذلك يبدو أن الحديث عن «لوزان ٢» يتضمن شبه إجابة عن هذه التساؤلات لا سيما أن الدعوة ستقتصر على الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا والسعودية وقطر، أي القوى التي تملك أدواتها العسكرية ومساحاتها الجغرافية على الأرض كما تملك جهاز التحكم السياسي والدعم المالي أيضاً لمختلف الأطراف.

الآن، وبعيداً عن النظام والمعارضة، تحصل التوافقات في الملف السوري، لكن السوريين هم من يدفع ثمن الاختلافات في الرأي والخطط المؤجلة ومحددات خطوط الفصل المطلوبة بين الطرفين المتقاتلين، وإلى أن تستقر الأطراف الفاعلة، سيما الولايات المتحدة وروسيا، على الصورة النهائية للاتفاق المأمول ضماناً لمصالحها. ومعنى ذلك استمرار النزيف السوري ومواصلة تقديم التنازلات من ثورة تطالب بالحرية والكرامة وإسقاط نظام الاستبداد وإقامة دولة ديموقراطية تعددية، تحفظ حقوق المواطنين والجماعات القومية والإثنية، إلى تفاهمات محدودة على حكومة تشاركية تجمع بين النظام والمعارضة، يفوّضها رئيس النظام بصلاحيات تنفيذية لا ترقى إلى صلاحيات سيادية، ورغم هذه التنازلات لا يزال النظام حتى الآن يناقش في حقه برفضها بناء على وهم انتصاراته العسكرية التي تقودها روسيا في السماء وإيران على الأرض.

اجتماعات «لوزان ٢» إذا تم تسهيل انعقادها، بأطرافها روسيا وإيران من جهة والولايات المتحدة مع السعودية وقطر من جهة ثانية، وتركيا الطرف الثالث في المعادلة التي تتقاطع مع روسيا بعلاقات متجددة ومصالح كبرى، ومع الولايات المتحدة بتحالف دولي يصعب الانسحاب منه، وإزاء سورية بعلاقة متداخلة يصعب الفصل بينها مع فصائل المعارضة المسلحة والسياسية ويصعب حل مشكلاتها مع قوات سورية الديموقراطية، «لوزان ٢» هذه ستأتي لتكون المرجعية الدولية للقضية السورية بدلاً من «جنيف ١» وكل ما تم التوافق عليه في «جنيف ٢» و «جنيف ٣».

إذاً نحن في «لوزان 2» سنكون، على الأرجح، في مواجهة استحقاقين: الأول يتعلق بتثبيت خطوط الاشتباك بين المتقاتلين. والثاني يتعلق بتحديد مصير الأسد في العملية الانتقالية، وهذا سيتوقف على نتائج التجاذبات الأميركية- الروسية.

اقرأ المزيد
٢٨ أكتوبر ٢٠١٦
ما العمل من أجل سورية الوطن؟

على قدر ما تحمل الحالة السورية من ألم وحزن وقتل، فإنها تجعل الأسئلة تأخذ مداها لتصل إلى هذا الترابط فـي عالم اليـوم، حيـث تـتـداخل المصالح وتتفاعل في الساحة السورية إلى درجـة تبدو سورية في حالتها الراهنة كأنها تلخيص لحالة عالمية.

السياسيون السوريون (وبمعنى ما كل سوري له رأي سياسي)، ينتظرون نتائج انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية، بينما يدوس الدب العسكري الروسي على مجمل القيم الإنسانية في سورية عسكرياً وسياسياً. النظام الإيراني الشمولي يرى عودة إمبراطوريته الفارسية ممكنة مع التراخي الأميركي المستمر معه حتى اللحظة، بينما يعتقد تابعه «حزب الله» اللبناني أن ساعة قطف ثمار معركة سورية قد حان لبنانياً، وذلك من خلال قضية الرئاسة اللبنانية.

بشار الأسد يشعر بأنه سيبقى طويلاً في الحكم بعد كل هاتف بوتيني له، ويرجو من الله أن ينصر ترامب لا كلينتون.

ومعارضات سورية متنوعة الشكل واللون والهدف، صار بعضها عبارة عن عارضات أزياء سياسية أمام كل الدول المتدخلة عسكرياً في الشأن السوري، وكل معارض سوري يرى أن تأخر النصر سببه أن العالم لم ينتبه لمقدرته في التحليل السياسي.

على الأرض السورية الآن، أكثر من نصف مليون مقاتل يتعاركون عسكرياً وسياسياً وثقافياً أيضاً، بينما تئنّ الناس تحت وطأة وضع معيشي اقتصادي هو الأسوأ والأعنف، إلى درجة صار معها الحفاظ على العيش بيولوجياً يُعتبر مطلباً سياسياً عاجلاً أيضاً.

تمزق وتشتت سوري - سوري، تشتت وتمزق عالمي في الساحة السورية، أمم متحدة هي محضُ عدّاد أرقام غير دقيق تجاه الحالة السورية.

وميشال عون سيصل إلى سدة الرئاسة محمولاً على أسوأ لحظة يعيشها لبنان، مُذ خرجت قوات الاحتلال الأسدية من لبنان عقب اغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري.

ويطل السؤال الصعب «ما العمل»؟ وألف إشارة استفهام معه حول الجدوى من أي عمل سياسي سوري في ظل أسوأ إدارة أميركية عاشتها الكرة الأرضية ومعها الثورة السورية اليتيمة.

ما العمل؟ وكيف نوقف هذا الانهيار السوري؟ وكيف نوقف هذا الانهيار في الشرق كله؟

مع كل ما يحمل المشهد السوري من تعقيدات، ثمة بارقة أمل يمكن أن تحمل معها جواب عن سؤال «ما العمل؟». بارقة الأمل يمكن أن تكون فعلاً سياسياً حقيقياً إذا قيّض لكل أشكال المعارضات السياسية السورية الآن أن تتفق في ما بينها على برنامج عمل آني واستراتيجي. والحامل الأساسي لهذا البرنامج السياسي هو السوريون أنفسهم.

من هنا يصبح مطلب إيقاف الحرب أهم مطلب سياسي آني.

اقرأ المزيد
٢٨ أكتوبر ٢٠١٦
مغامرات ترامب وغارات بوتين: تكامل الحياء والدماء

خلال الأسبوع المنصرم، وحده، الذي شهد كثافة عالية لعمليات الطيران الحربي الروسي ومروحيات النظام السوري ضدّ مناطق في إدلب وريفها؛ ارتفع عدد الشهداء السوريين المدنيين إلى 90، بينهم 22 طفلاً و20 امرأة، فضلاً عن عشرات الجرحى. ذروة هذه الوحشية وقعت قبل يومين، حين قُصف تجمّع للمدارس في بلدة حاس، القريبة من كفرنبل، فبلغ عدد الشهداء ـ حتى ساعة كتابة هذه السطور، بالطبع ـ 35 مدنياً، بينهم 11 طفلاً و7 نساء. قبل مجزرة حاس، كانت أعمال القصف قد استهدفت مدن وبلدات وقرى جسر الشغور ومعرة النعمان والبارة والشيخ مصطفى والنقير، ومعرشمارين وبابولين…

في وسائل الإعلام الروسية، حتى تلك التي تُلصق صفة «المعارضة»، أو الليبرالية، أو النأي عن سياسات الكرملين، أو تعكس وجهة نظر رجال الأعمال الأقرب إلى الغرب (والمرء يضع جانباً إعلام المافيا الروسية، لأنه مرآة بالغة الإخلاص للنظام)… ثمة تطبيل وتزمير لتصريحات وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، حول توقف المقاتلات الروسية عن قصف حلب خلال الأيام الماضية/ وثمة، في السياقات ذاتها، ولع بحديثه عن «الممرات الآمنة» لتأمين خروج المدنيين من حلب؛ ومباركته لمقترحات المبعوث الأممي، ستافان دي ميستورا، حول ممرات أخرى موازية لانسحاب مقاتلي جبهة النصرة (الإعلام الروسي، في غالبيته، لا يعترف بالتسمية الجديدة: «جبهة فتح الشام»!).

ماذا عن إدلب؟ ماذا عن مدارس حاس؟ ماذا عن تلامذة المدارس؟ لا شيء، تقريباً؛ أو لا وقائع خارج تلك التي يتحدث عنها الوزير شويغو.

ولا غرابة، أيضاً، في واقع الأمر. هذه قوة عظمى تمارس جرائم الحرب في سوريا، بصفة يومية؛ فلا تستثني مستشفى، أو مدرسة، أو مخبزاً، أو سوقاً شعبية، أو مسجداً. وهي تستخدم كلّ صنوف الأسلحة، خاصة المحرّمة منها دولياً، وبالأخصّ تلك الصنوف التي عفا عليها الزمان، ومن الأجدى إسقاطها على مدن وبلدات وقرى سوريا، بدل تلويث أراضي روسيا الأمّ عن طريق إتلافها أو طمرها (كما يتفاخر فلاديمير جرينوفسكي، زعيم «الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي»!). وهي قوة عظمى لا تجد رادعاً يردعها، ضمن صفوف ما يُسمّى «المجتمع الدولي»؛ وتجد أكثر بكثير مما تحتاج من خنوع وتبعية بشار الأسد، وشهيته لتحليق القاذفات الروسية في أربع رياح سوريا، وإفناء البشر والشجر والحجر…
فماذا، في المقابل، عن القوة العظمى الأولى: الولايات المتحدة الأمريكية؟ وماذا عنها، ليس على صعيد السياسات الرسمية لإدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، فهذه باتت كلاسيكة؛ بل على صعيد الإعلام الأمريكي المستقل، أو الذي يزعم استقلالية أوسع بكثير من تلك التي تُنسب إلى الإعلام الروسي؟ ثمة مقالات الاحتجاج على خيارات البيت الأبيض، التي مكّنت موسكو من هذه الحال في سوريا؛ ولا يخلو المشهد من كتابات الإشفاق على الضحية السورية، وتقارير التعاطف مع الأطفال بصفة خاصة، واستهجان السلوك الروسي، وتقريع سيد الكرملين فلاديمير بوتين نفسه. وبين هذه وتلك، ثمة أولئك الغيارى على انحسار السطوة الأمريكية في العالم عموماً، وفي الشرق الأوسط خصوصاً؛ وأولئك الذين يعلقون الآمال على احتمال استئناف نفوذ واشنطن الكوني، على يد إدارة هيلاري كلنتون إنْ فازت، أو حتى دونالد ترامب!

وإذا كان في الوسع تفهم انشغال أمريكا بالانتخابات الرئاسية الوشيكة، فإنّ مقدار الانهماك بغارات بوتين الدموية يبدو مكمّلاً ـ من حيث معدّل النفاق الأخلاقي، بادئ ذي بدء ـ لانهماك أمريكا بتعقّب افتضاح الأسرار حول مغامرات ترامب الجنسية: غارة لا تجبّ مغامرة، ولكنّ المغامرة تفعل… فلا تجبّ فقط، أو تُلهي وتُنسي وتحرف الانتباه فحسب، بل تحثّ أيضاً على مزيد من النفاق! فإذا جرى ربط ما، وهذا إجراء نادر تماماً، بين الغارة والمغامرة؛ فإنّ الغائب الأكبر ـ أو بالأحرى: المغيّب، عن سابق قصد وتصميم ـ سوف يكون مقدار التنافر بين التباكي على الأخلاق الجنسية للمرشح ترامب، والتباكي على الأخلاق العسكرية للرئيس بوتين! وفي كلّ حال، شائع أيضاً ذلك المقدار من التعامي عن مستويات التورط الأمريكي الفعلي على الأرض السورية، مقابل الزعم بعدم الرغبة في التورط!

والحال أنّ عناصر كثيرة في المشهد الأمريكي الراهن تعيد التذكير بمغامرات جنسية أخرى، لرئيس أمريكي هذه المرة، وليس مجرد مرشح للرئاسة: بيل كلنتون، ومونيكا لوينسكي، وغراميات المكتب البيضاوي، ودراما التحقيقات، ودراما المحاكمة، ودراما التبرئة… وبذلك فإنّ المرء لا يلوم الأمريكيين هذه الأيام، إذا ما استعاد مناخات تلك الأزمنة المشحونة بالمسرح السياسي والجنائي والبوليسي والقضائي. وبعد أكثر من نصف قرن على صدور رواية جورج أورويل «1984»، ولكن على نحو كان سيقشعرّ له بدن «الأخ الكبير» نفسه، كان الأمريكي يصل الليل بالنهار وهو يكدّس معرفة أورويلية كاملة الشفافية، حول تفاصيل الحياة الجنسية لرئيسه الحبيب، الذي انتخبه مرّتين. كل شيء، تقريباً: أيّة فانتازيا جنسية كانت تستهويه أكثر، وأيّ شعر إيروسي ألهب مخيّلته، وأيّ الأماكن كانت الأنسب للغرام، أيّ الأوقات، أيّ الثياب…

آنذاك تحدّث البعض ــ بهمس خافت، سرعان ما تعالى تدريجياً ــ عن الأبعاد النفسية الأعمق وراء هذا السعار الجماعي المحموم لهتك الأستار الشخصية للرجل الأوّل في البلد، الذي يزعم أبناؤه أنه بلد هو العالم بأسره. يومئذ، بالفعل، حلّ زمان أمريكي عجيب أتاح لنا أن نقرأ كبار المنظّرين الليبراليين وهم يذكّرون الدهماء بأن تفاصيل الحياة الشخصية هي مكوّن أساسي في صناعة الوجود الإنساني المتمدّن (كما ينبغي أن يُقارن بالوجود الإنساني البربري، في الأدغال على سبيل المثال!). «لماذا يجد الأمريكيون كلّ هذه المتعة في هتك الأعراض»، سأل أنتوني لويس، قبل أن يجيب بأسى عميق: «ألأننا فقدنا الإحساس بقيمة الحرّية الشخصية في المجتمع الأمريكي»؟ ولكن ماذا عن حرّية ترامب، اليوم؟ وأيّ نفاق يسحب هذه «الحرّية» من تلك؟ وهل هذه المغامرات الجنسية هي، حقاً، أمّ القضايا التي تشغل الناخبين قبل أسابيع قليلة تسبق التصويت؟

في غمرة هذا الاقتران بين المغامرة الجنسية والغارة الدموية، بين أمريكا وروسيا؛ تظلّ على الألسن، وطيّ المقالات والتقارير والتحليلات، عبارة «محاربة الإرهاب»، بوصفها مقتصرة على جهاديي سوريا والعراق، من السنّة حصرياً. الميليشيات ذات التمذهب الشيعي، القادمة من أصقاع شتى؛ و»حزب الله» اللبناني، الذي صار في سوريا جيشاً كامل العديد والعدّة؛ وضباط وعناصر «الحرس الثوري» الإيراني، وغيرهم وسواهم… ليسوا، البتة في عداد الإرهاب. ومثلهم، بل قبلهم، ليس إرهابياً أبداً العدوان العسكري الروسي، الذي أتمّ سنة أولى ونيف؛ وليست إرهابية أعمال القصف الوحشي التي لا تُبقي ولا تذر…

صحيح أننا نقرأ، في الصحافة الأمريكية، نقداً شديداً للتدخل العسكري الروسي؛ ونقرأ، في الصحافة الروسية، نقداً لا يقلّ شدّة لاحتضان البنتاغون بعض الفصائل العسكرية «المعتدلة» في صفوف المعارضة السورية؛ ولكن هيهات أن نعثر، هنا أو هناك، على ما يوحي بصفة «الإرهاب» لدى أيّ من الفريقين. وبذلك فإنّ انشغال واشنطن وموسكو بالملفّ السوري له حيثيات متنافرة غالباً، أو متناقضة أحياناً؛ ولكنّ المآلات، بصدد توصيف فعل القوتين العظميين، سياسياً وعسكرياً ـ ثمّ أخلاقياً، لمن يشاء! ـ ليست على درجة مماثلة من التنافر أو التناقض. وليست هذه خلاصة جديدة، في أية حال، ما خلا أنها تتجدد تلقائياً؛ كلما أريق ماء الحياء في فضيحة جنسية عند ترامب، أو أريقت دماء سورية، في قصف وحشي يأتمر بأمر بوتين.
تكاملٌ بين الحياء والدماء، ليس أقلّ!

اقرأ المزيد
٢٨ أكتوبر ٢٠١٦
ولادة عسيرة للخيارات الأميركية بشان سورية

استنزفت أميركا طاقات حلفائها، وهي تتحدّث عن نيتها تصنيع خياراتٍ بديلة في سورية، بل وضعت الثورة السورية نفسها في سلسلةٍ من المخاطر غير المسبوقة، والأخطر أن سياستها هذه جعلت من روسيا شريكاً واقعياً في إدارة السياسات الدولية، على الرغم من أنها طرف غير مؤهل لهذه الأدوار، نظراً لضعف خبراتها في الإدارة السلمية للأزمات.

ماذا فعل أوباما؟ استنفر وكالاته وأجهزته، وطلب منها اقتراح خيارات وبدائل للتعاطي مع الحالة السورية، شرط أن تكون تلك الخيارات عملية، ويمكن تنفيذها، بهدف تعديل موازين القوى، أو تصحيح الخلل الذي أحدثته روسيا وحلفاؤها في حلب، وذلك لانعكاس هذا الخلل على مصداقية أميركا ومصالحها. والمعلوم أن لدى الأجهزة الأميركية تقديرات وقوائم خيارات كانت قد أعدتها في مناسبات سابقة، سواء بقصد الوقوف الدائم على تطورات الأزمة وتداعياتها المنفلتة، أو حتى تلبيةً لطلب من الإدارة نفسها التي طالما وقفت على عتبة الأزمة، متأبطة ملفها بين جنيف وموسكو، وكانت هذه الخيارات على الدوام تحتاج إلى تحديث وتعديلاتٍ، نظرا للمتغيّرات السريعة الحاصلة في مواقع الأطراف وظروف الحرب.

من الواضح اليوم، ومن الاجتماعات الكثيفة وطول مدة التشاور أن واضعي الخيارات للرئيس أوباما يعملون ضمن مناخاتٍ صعبة، فالرجل يطلب منهم المشورة، نتيجة ما يتعرّض له من ضغوط. وفي الوقت نفسه، يقيدهم بمحاذير كثيرة، تكاد تكبّل قدرتهم على الحركة والفعل، حيث يقع هامش البدائل المقبولة من أوباما بين حدي انعدام المخاطر وعدم تورّط أميركا بإرسال قواتٍ إلى سورية.

وتكشف تصريحات أوباما المتواترة أنه يجري، على الدوام، موازنةً بين المخاطر والفرص في القرارات التي سيتخذها، من دون أن يلتفت إلى أن التغيرات جارية بشكل متدفق، وما قد يكون اليوم فرصةً يصبح غداً، وفي حال التلكؤ في التنفيذ، خطراً أو أقله فرصةً قليلة الجدوى والفعالية، فماذا سيعني السماح بتسليم مضادات للمروحيات، في وقت تكون روسيا قد استعادت حلب، وهدّدت الفصائل في مناطق أخرى. حينها لن تكون ثمة حاجة لسلاح المروحيات. أو ماذا يعني احتمال قصف مطارات محدّدة، فيما تتولى روسيا القوة النارية الجوية من مطار حميميم؟

الأهم أن الخيارات التي تسعى أميركا إلى اجتراحها لن تترجم على شكل التزامات دائمة، ولا أعمال مستدامة، إلى حين تغيير موازين القوى على الأرض، لن تكون أكثر من ضربة واحدة إن حصلت، أو دفعة محدّدة من الأسلحة. وهنا، على القيادة الأميركية أن تتنبه بالفعل للمخاطر التي ستجلبها مثل هذه السياسات، حيث إنها ما لم تردع روسيا وتجبرها على التراجع عن أساليبها، فإنها ستدفعها إلى استعمال أقصى أنواع العنف تجاه الشعب السوري، وستفعل ذلك بذريعة أنها تخوض حرباً مقدّسةً ضد أميركا والغرب، كما أن نظام الأسد سيزاود على السوريين بأنه يواجه مؤامرةً كبرى لإسقاطه وإسقاط الدولة السورية. أليس من الأفضل لخياراتٍ على هذه الشاكلة أن لا ترى النور؟

لم تفعل دراسة الخيارات الأميركية سوى تحفيز روسيا على توسيع انتشارها في سورية، وإرسال مختلف صنوف الأسلحة. وهنا أيضاً مكمن خطورة آخر، ذلك أن عدم اتخاذ واشنطن إجراءاتٍ رادعة ضد روسيا سيعني أنها لم تفعل شيئاً آخر، سوى تغيير ديناميكية الصراع لصالح روسيا في سورية. وهي وضعيةٌ لن يستطيع الرئيس القادم أن يفعل تجاهها شيئاً له قيمة.

أسقطت أميركا، بتردّدها وسلوكها المتهاون، عدة خيارات، كانت، حتى وقتٍ قريبٍ، ممكنة التحقق: خيار تشكّل ائتلاف إقليمي، تقوده تركيا والسعودية، يسقط نظام الأسد، وخيار إمكانية إسقاطه من الثوار، وخيار إنشاء منطقة آمنة، حتى وإن كانت هناك مصاعب عملية تقف في وجه تنفيذ هذه الخيارات، فإنه مع الاستعدادات الروسية وطبيعة الانتشار وحجم الأسلحة صارت كلها في حكم الماضي.

ويمكن للمراقب لصيرورة الإجراءات الروسية في سورية ملاحظة بعدٍ تقنيٍّ خطير فيها، ذلك أن تلك الإجراءات كانت، في الغالب، ذات طابع تكتيكي اختباري (أوراق ضغط تكتيكية)، طبيعة الاستعدادات ومستوى التحضير وحجم الموارد والأصول كانت مؤشرات واضحةً على ذلك، لكن الرد الضعيف من أميركا حوّلها إلى إجراءات مستدامة واستراتيجية، ولم تأخذ الإجراءات الروسية وقتاً طويلاً، في طور الاختبار، قبل أن تتحول من مجال المناورة المتحرّك إلى الواقع الاستراتيجي الصلب. لذا من المقدّر أن يحصل تمدّد وانتشار روسي في الأشهر القليلة الباقية من حكم أوباما، بما يوازي أضعاف ما جرى حتى اللحظة، وليس في سورية وحدها، وإنما على مستوى العالم.

لم تكن أميركا بحاجةٍ إلى دراسة مديدة لخياراتها، لقد وفّرت لها ظروف الحرب السورية وتطوراتها الفرصة تلو الأخرى، للقيام بعملٍ يؤيده المجتمع الدولي كله. كان يمكن إنزال الإمدادات الإنسانية فوق حلب، وغيرها من المناطق المحاصرة، بطائرات نقل أميركية من مسؤولي الأمم المتحدة. وكان يمكن أن يكون ذلك بدايةً لتأسيس آلية تدخلية خالية من المخاطر، لو أن إدارة أوباما التقطتها وطوّرتها.

غالباً ما تنتهي الخيارات الأميركية بفرض عقوباتٍ من نمط منع بعض ضباط الأسد وقادة نظامه من السفر إلى أميركا، والذين في الواقع لا يفكرون أصلاً بزيارة أميركا، ولن يكون لديهم وقت لزيارتها، في ظل انشغالهم في الحرب. وعند انتهاء الأزمة، سيكون القسم الأكبر منهم قد غادر الحياة، أو عقوبات اقتصادية تطاول بعض رجال الأعمال القريبين من بشار الأسد، وهم من المفترض أن يكونوا، بدون هذه الواسطة، مطلوبين للانتربول الدولي، نتيجة فسادهم وجرائمهم الاقتصادية.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان