قد تكون هدنة الساعات العشر التي حددها الجيش الروسي غداً الجمعة هي آخر الهدنات في حلب، والتي لم تنتج جميعها أي إجلاء للجرحى وإدخال للأغذية والأدوية وسماح للمدنيين بالمغادرة إذا أرادوا. تبدو الأمور سائرة إلى حسم عسكري يمهّد له الروس بحشد أسطولهم واستعدادات طيرانهم، كما تقدّم واشنطن، ومعها الأمم المتحدة، قدراً من الموافقة أو غضّ النظر، حين يركّز الإعلام الأميركي على «سيئات» المسلحين في حلب الشرقية الذين «يحتجزون المدنيين ويبتزّون بعضهم بدفع أموال لقاء المغادرة»، وحين يصدر المبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا بيان إدانة للمسلحين في شرق حلب لقصفهم مدنيين في غربها، ويقول: «إن من يزعمون أن القصد هو تخفيف الحصار ينبغي أن يتذكّروا أنه لا مبرر لاستخدام عشوائي للسلاح باتجاه مناطق مدنية، فذلك يمكن أن يرقى إلى مستوى جرائم حرب».
فشل الاتفاق الأميركي - الروسي في حل مشكلة حلب، كما فشل اقتراح دي ميستورا بأن يغادر المدينة المسلحون المنتمون إلى «فتح الشام» («جبهة النصرة» سابقاً). فلم يبق سوى الأفق الأسود: الحرب التي يتوقّعها المراقبون نهاية هذا الأسبوع، ويذهب بعضهم إلى موعد ذي دلالة هو الثامن من الشهر الجاري، أي أن حفلة القتل في شرق حلب تتم فيما يقترع الأميركيون لانتخاب رئيس جديد وأعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ وعدد من حكام الولايات. ولن تتحقق التوقُّعات بتزامن الهجومين على حلب والموصل، ذلك أن «داعش» أحرق مداخل المدينة العراقية، ويهدّد بإحراق منطقة نفطية داخلها بما يؤخر العمليات العسكرية لفترة غير محدودة. يبدو أن حلب ستسبق الموصل، ليس سقوط شرق المدينة فقط وإنما أيضاً موت آلاف الأبرياء الذين سيضافون إلى مئات الآلاف من ضحايا حرب سورية التي لا يأبه «أبطالها» بالمدنيين. أليس اللهاث للوصول إلى أوروبا هو استفتاء مدني أسقط النظام والمعارضة والمتدخّلين لمصلحة الطرفين من أجل سلطة لا تأبه بالمدنيين حرباً أو سلماً؟
نجاح المتحاربين في تهجير ملايين السوريين والعراقيين هو تعبير عن فشلهم في حفظ النظام أو انتصار المعارضة. كانت الهجرة الداخلية وتلك الخارجية إعلان سقوط الطرفين المتحاربين ومن يدعمهما، وقد تلطّخ هذا السقوط بدم الأبرياء وذلّ السبايا وحطام معالم تاريخية لمنطقة اختزنت حضارات أسست حضارتنا الحديثة.
وبين المعلوم الذي لا يصل والمجهول الذي يتصدّر المشهد الإعلامي، يفقد المشرق العربي مدينتين كبيرتين هما حلب والموصل، بل إن حلب تتعدّى سوريتها إلى كونها المدينة الحدودية لأوروبا الحديثة الواسعة، فهي، ومعها باكو الأذربيجانية، كانتا قبل الحرب العالمية الأولى أشبه بفيينا وبرلين وباريس في عمارتهما وتنوع سكانهما، وهما تستندان، في حالة حلب إلى التجارة العريقة المستمرة على طريق الحرير، وفي حالة باكو إلى اكتشافات النفط المبكرة.
لا بشار الأسد ولا فلاديمير بوتين ولا قادة المعارضة السورية المسلّحة وغير المسلّحة مؤهلون لرثاء حلب، فالمراثي لورثة أرميا من الشعراء والروائيين وأهل الحكمة، هؤلاء رثوها حين حكم العسكر سورية مجففين ثقافة المدينة ومحيلين تنوّعها إلى صوت واحد معصوم.
الذين يهدمون المدينة والذين مهّدوا بالتأييد أو بالاستفزاز، هم سادة الصوت الواحد، وحين يكثر القاتلون فهم سائرون إلى مصير محتوم: قاتل واحد وشركاؤه يلحقون بالضحايا ولو بعد حين.
قبل يومين، في الثانية بعد منتصف الليل، اصطحبت صديقاً إلى مطار بيروت لوداع أحد أنسبائه الآتي من حلب. هناك رأيت حوالى خمسين سورياً وسورية ينتظرون طائرة تقلّهم إلى كندا، أرضهم الجديدة، وكانت وجوههم أشبه بتماثيل حطمها «داعش» أو يكاد.
وقبل أسبوع اهتدى صديقي إلى الحلبي الدكتور محمد محفّل، أبرز المختصين باليونانية القديمة والحضارة الهيلينية، لمساعدته في بحث تاريخي، بعدما تخوّف من أن يكون محاصراً في حطام مدينته، وقد وجده ناجياً في مسكن متواضع في دمشق، بعيداً من بيت فسيح ومدينة لا تشبهها مدينة.
تتصرف إيران كأنها استثناء، تتسلح بماضيها العتيق المليء برغبات إمبراطورية باتت مصدر المآسي للشعوب المجاورة لها، فرغبة إيران بالخروج السريع من عزلتها، ولجوئها إلى خيار التوسع بدل الانفتاح وعدم الاكتفاء بالدور الإيجابي، والاندفاع نحو تحقيق النفوذ السلبي، تحول إلى تهديد للهويات الحضارية الأخرى، المقيمة منذ آلاف السنين في حيز جغرافيا معقد إثنيًا وديموغرافيًا، شكلت خصوصياته الثقافية والدينية عائقًا تاريخيًا بوجه عقيدة التمدد الفارسية ثم الإيرانية، فقد سيطرت هذه الخصوصيات على الحيز الأكبر من الذاكرة الإيرانية الورمة، المسكونة بهواجس القلق من محيطها، الذي تتهمه دائمًا بمحاولة إقصائها، معتمدًا على معضلتها الأبدية بأنها أقلية فارسية شيعية وسط أغلبية مطلقة من القبائل الهند أوروبية والشعوب العربية والتركية السنية، التي نجحت في التعامل مع التحولات السياسية والعقائدية، وعملت تدريجيًا على تعزيز هويتها القومية، مع الحفاظ على خصوصيتها المذهبية الجامعة في إطار الدولة الوطنية الحديثة، التي مرت كغيرها من دول العالم الثالث بإخفاقات ونجاحات، لكنها بقيت أقل توترًا في تشكيل هويتها الوطنية من إيران القلقة دائمًا على ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
وفي مخالفة لثوابت السياسة والجغرافيا في الشرق الأوسط الكبير، لم يخطر ببال أحد أن تتحول إيران في السنوات الأخيرة إلى لاعب صعب ومقلق، ففي لحظة استشعار بالغلبة أو القدرة على فرضها بهدف إخضاع الشعوب المجاورة لها، راهنت طهران في توسعها على منهجية طبّقها وزراء السلاجقة، قائمة على أن القوة تهزم الكثرة، إما بإخضاعها أو بتشتيتها. وتحاول الآن تطبيقها في أكثر من مدينة عربية تاريخية، فهي تهيمن على بغداد وتحاول بشتى السبل وضع يدها على النجف، وتشارك في تحويل الموصل إلى حطام، فثاني أكبر المدن العراقية بعد العاصمة تدمر، وأهلها يواجهون عملية ترحيل جماعي تهدف إلى تغيير جذري في تركيبتها السكانية، مصيرها لن يكون مختلفًا عن مصير حواضر عربية أخرى، كحمص التي حولها الأسد بدعم من إيران إلى ركام، ونفذ فيها عملية تطهير عرقي ومذهبي، وأما حلب أقدم مدن التاريخ، فتواجه مصيرًا أسوأ من مصير حمص، حيث يواصل الطيران الروسي والمدفعية الإيرانية تسوية أبنيتها بالأرض في عملية مدروسة تهدف إلى طمس تاريخها وتهجير أهلها، وهي عملية استهداف واضحة للديموغرافيا العربية وتحويل الأغلبية العربية السنية إلى أقلية، وما يجري لأشهر الحواضر العربية في الشام وبلاد ما بين النهرين وصولاً إلى دمشق التي يتم إفراغها.
ففي سفر الغلبة الإيرانية، يحاول نظام طهران تقديم بلاده كأنها الأمة الوحيدة في هذا الشرق، القادرة على استيعاب التعددية وحمايتها والحفاظ على الأقليات، مستعينة بمحطة من تاريخ فارس عندما احتل الملك الفارسي قورش بابل سنة 538 ق.م وأعطى اليهود الإذن بالعودة إلى أورشليم، وسمح لهم بإعادة بناء الهيكل، وكان الهدف من ذلك إعطاءهم حكمًا ذاتيًا يخفف من الأعباء على الإمبراطورية، وأملاً في أن تباركه آلهتهم وتعزز سلطانه، وهو النموذج الذي يحاول نظام طهران الاستعانة به من أجل الترويج لحلف الأقليات، الذي يوفر لها جغرافيا سياسية مفيدة ضمن خطة استراتيجية تقوم على تحقيق ربط ديموغرافي متجانس ضمن مساحة آمنة متفاهمة عقائديًا.
اعتاد العالم على إمكانية احتواء ردات فعل الأقليات عندما تشعر بالقهر أو بالتهديد، لكنه لم يحدث أن واجه انفعالات أغلبية باتت تشعر بتهديد وجودي، مما يضع كل الاحتمالات مفتوحة على عنف أكثر ودمار أوسع، ومهما حاولت إيران، فإن غلبتها تبقى مستحيلة، وستواجه بنفس إرادة المقدسي الذي يقاوم وحيدًا تهويد مدينته، فكما قال المفكر اللبناني د. رضوان السيد في مقاله «حلب.. يوم طويل في حياة قصيرة»: «كل هذه المدن غاصة بالغزاة الذين يريدون الحلول محل أهلها، الذين عاشوا فيها وعمروها وصنعوا حياتهم وهم يدافعون عنها ولا يقبلون موتها».
لو أردنا تحديد تطور الاستبداد وتغوّله، وعدنا إلى مرحلة نهوض الشعب العربي بعد الاستقلال في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وأخذنا سورية نموذجاً، لقلنا إن فترة الخمسينات كانت هي الفترة الذهبية، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وعلى الرغم من أن ثلاثة انقلابات عسكرية جرت في تلك الفترة، إلا أن العودة إلى الديمقراطية كانت تتم سريعاً بعد كل انقلاب.
الحياة السياسية كانت تتم على أساس مبدأ التنافس الشريف لمصلحة الوطن، والحياة الاجتماعية كانت متماسكة وتطبق قول المثل الشعبي: كل من على دينه الله يعينه " بمعناه الاجتماعي والديني معاً.. كما سادت الحرية والديمقراطية بالمعنى الحقيقي، وليس الدعائي، ومن الطبيعي أن نقول إن نسبة الاستبداد كانت قريبة من الصفر أو 1% على أبعد تقدير.
أما الاقتصاد السوري في تلك المرحلة، فكان يعد من أوائل اقتصادات العالم، بدون مبالغة، وكان خالد العظم الذي استلم رئاسة الوزارة في سورية لأكثر من مرة، يُعدّ ربان السفينة الاقتصادية، فالشركات السورية الإنتاجية، ولا سيما النسيجية، كانت من أرقى الشركات وأكثرها إنتاجاً في العالم، وكان الجوخ السوري يضاهي وينافس الجوخ الإنكليزي المشهور على مستوى العالم، كما أن الليرة السورية كانت تعادل الدولار الأميركي تقريباً وتنافسه، بينما الدولار الآن يتأرجح بين 550 و600 ل.س، وفي غد لا ندري ماذا سيكون سعر الصرف.. ويكفي أن أذكر أن غرام الدهب كان يساوي نحو ليرتين سوريتين فقط في تلك الأيام.
هكذا كانت سورية زمن ما يطلق عليه " الرفاق التقدميون " زمنَ الرجعية والرأسمالية والانتهازية.
ويكفي أن نذكر هنا أن مهاتير محمد زار سورية في الخمسينات من القرن العشرين، وكان يحلم أن تصبح بلده ماليزيا كسورية من حيث النهوض الاجتماعي والاقتصادي، وحين أصبح رئيساً للوزراء استطاع أن يقود بلده نحو نهضة اقتصادية مذهلة في التسعينات من القرن الماضي.
في تلك المرحلة كان المد القومي يجتاح العديد من بقاع الأرض، وكان من الطبيعي أن يتأثر الشعب العربي بهذا المد، لاسيما وأنه كان خارجاً من عهد استعماري بغيض إلى عهد تحرري يطمح إلى استعادة المجد التاريخي وبناء دولة عربية حديثة.
من أجل ذلك قامت في عام 1958 دولة الوحدة بين مصر وسورية، باسم الجمهورية العربية المتحدة، وهي وحدة لا غبار عليها من حيث المبدأ، في زمن المد القومي، كما أسلفنا، والذي أرسى أركانه جمال عبد الناصر في مصر والحكومة السورية برئاسة شكري القوتلي، وبإلحاح من حزب البعث العربي الاشتراكي، بأركانه الثلاثة ميشيل عفلق وأكرم الحوراني وصلاح البيطار.. وهكذا تنازل شكري القوتلي لعبد الناصر إكراماً للوحدة الوليدة.
ولكن الذي حدث أن الديمقراطية انهارت سريعاً، وحل مكانها حكم الفرد الواحد، وبدأت سورية تعاني من حكم المخابرات التي تمدد وتوسع في سورية على زمن عبد الحميد السراج رئيس المكتب الثاني في زمن الوحدة، وعلى زمن صلاح نصر رجل المخابرات الأول في مصر.. وهكذا بدأ الخط البياني لنسبة الاستبداد وتضييق الحريات بالتصاعد والنمو.
في عام 1961 جرى الانفصال كرد فعل طبيعي على التسلط الأمني وما استجره من ظلم واستبداد، وعاد الحكم في سورية إلى النمط الديمقراطي الذي كان سائداً في الخمسينات، وخلال أقل من عامين، أي في عهد الانفصال، هبطت كثيراً نسبةُ الاستبداد التي كانت سائدة في عهد الوحدة إلى أقل من واحد في المئة، ولكن انقلاب البعث عام 1963 قضى على الروح الديمقراطية التي كانت في طورها الأول، بحجة إعادة الوحدة بين مصر وسورية.
حين استلم حزب البعث الحكم بعد انقلاب 1963 دخلت سورية مرحلة جديدة، لم تعرفها من قبل، فالعسكر كانوا هم الحاكمين المتصرفين، ومع أنهم وأمثالهم في مصر كانوا يَعِدون " الأمة " بانتصارات كاسحة على مستوى الصراع العربي الصهيوني، وكذلك على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، إلا أن زمنهم شهد أكبر هزيمة عسكرية في العصر الحديث، ففي الخامس من حزيران عام 1967 احتلت الدولة الصهيونية سيناء في مصر والجولان في سورية والضفة الغربية الفلسطينية التي كانت من ضمن الأراضي الأردنية.
وكان من الطبيعي بعد تلك الهزيمة المدوية أن يبدأ التخبط العسكري والسياسي والاجتماعي والفكري في عموم الوطن العربي، إلى أن بدأت مرحلة انهزامية جديدة في المشروع القومي، وحلت مكانه النزعة القطرية المنغلقة على ذاتها، مع ما رافقها من حكم شمولي وظهور الحاكم الفرد الواحد المطلق.
كانت الطائفية في السورية تتنامى وتستشري في أوصال المجتمع السوري، وتسلمت الطائفة العلوية الحكم من تحت الطاولة ومن فوقها، وكان من الطبيعي أن يتضخم الاستبداد وأن يرتفع خطه البياني بوتيرة متصاعدة، ولا سيما بعد حركة حافظ الأسد " التصحيحية " عام 1970، ثم وصل هذا الخط إلى نسبة عالية جداً في الثمانينات أيام الصراع مع حركة الإخوان المسلمين، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت سورية تعيش حالة سياسية واجتماعية واقتصادية لا تطاق.
وحين جاء الابن بشار عام 2000 وريثاً لأبيه أضاف إلى الحالة التي تركها أبوه حالة إضافية من الفوضى العارمة حتى كاد الفساد والاستبداد يصل إلى نسبة 100%.
وكان من الطبيعي أن ينفجر الشعب السوري عام 2011 ويطالب بحريته وكرامته، كما كان من الطبيعي أن يحاول المستبدون الفاسدون الإبقاء على مكاسبهم بشتى السبل حتى تم تدمير الوطن أو كاد، وأصبحت سورية رهينة بيد روسيا وإيران.. كل ذلك في سبيل أن يبقى الأسد متربعاً على عرش هزيل صنعه له الأب القائد.!!.
وأخيراً نقول: إن مراحل الاستبداد التي مرت بها باقي الدول العربية شبيهة بما مرت بها سورية مع تفاوت في النسب بين دولة وأخرى.
.. وهــذا حـالُـنـا، والـلـيـــلُ يبقـى
يُـطـيـلُ مَقامَـه الشّـجَـنُ الـرَّتـيـبُ
وفي عُمــقِ الظــلامِ أَنيــنُ قـلــبٍ
يَـدور بأُفــقِــه الـوطـــنُ الكئيــبُ
يظن بعضهم أن تصريحات المتحدث باسم الحشد الشعبي في العراق، أحمد الأسدي، إن حشده سيدخل إلى سورية لمطاردة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، بعد خروجهم من العراق، هي للاستهلاك المحلي، لكن الأمر لا يبدو كذلك بعد نحو عامين من تأسيس هذا الحشد الطائفي الذي تم تأسيسه بناءً على فتوى المرجع الشيعي، علي السيستاني، عقب دخول تنظيم الدولة الإسلامية إلى الموصل في يونيو/ حزيران عام 2014.
تؤكد متابعة سير عمل هذا الحشد منذ تأسيسه أن هذا التشكيل العسكري الذي أسس من مليشيات شيعية، تابعة لأحزاب وكيانات شيعية، بات أقوى من الجيش العراقي، بل إن ما قدم لهذا الحشد، حتى من الحكومة العراقية، فاق ما قُدم للجيش العراقي، ناهيك عن مساعٍ حثيثةٍ، تقوم بها أطراف برلمانية شيعية من أجل استصدار قانون، يمنع مساءلة عناصر الحشد الشعبي عن أي انتهاكات قد يقوم بها الحشد خلال العمليات المسلحة.
ليس هذا فحسب، بل تحوّل الحشد الشعبي، وعبر منظومة متكاملة من التشريعات والقوانين، إلى الجناح الضارب لإيران، حتى أن مجلة نيوزويك الأميركية اعتبرت أن لدى المرشد الإيراني، علي خامنئي، نحو 80 ألف مقاتل في العراق يمثلون الحشد الشعبي في دلالةٍ على ولاء هذه المليشيات لإيران ولولي الفقيه.
جاءت تصريحات قادة الحشد إنهم سيتوجهون إلى حلب بعد الموصل، بعد أيام من تصريح مثير لرئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، إن عملية "قادمون يا نينوى" تعني قادمون يا حلب وقادمون يا صنعاء، مبشراً بحربٍ إقليمية، كما أنها تصريحات تدل على حقيقة ما تريده إيران من حشدها في العراق. وأيضا على أن هناك تواطؤاً أميركياً واضحاً وفاضحاً مع هذه المليشيات، وكيف لا، وهي التي وفرت لهذا الحشد كل الدعم الجوي في معاركه ضد تنظيم الدولة، على الرغم من أنها تعلم جيداً أن هذا الحشد متهم بانتهاكات وجرائم ضد الإنسانية، ناهيك عن مشاركة قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، المطلوب أميركيا والمتهم بالإرهاب، في قيادة هذه المليشيات.
ربما يعتقد بعضهم أن الولايات المتحدة قد لا تسمح لهذا الحشد الطائفي بالتقدم إلى حلب. ولكن، لا يبدو أن أميركا معنية بذلك، فقد قالت سابقا إنها لن تسمح للحشد بالمشاركة في معركة الفلوجة، ولن تقدم الدعم الجوي لها، إلا أن ذلك لم يحصل، على الرغم من كل الانتهاكات التي ارتكبها هذا الحشد، فكان أن دخلت المليشيات الفلوجة، وفعلت ما فعلت هناك.
تسمع الولايات المتحدة ليل نهار تصريحات قادة مليشيات الحشد الشعبي، وتهديداته تجاه الـخمسة آلاف مقاتل أميركي الموجودين في العراق، من دون أن تحرك ساكناً، فهذا قيس الخزعلي، زعيم " عصائب أهل الحق"، يصرح جهاراً نهاراً إن القوات الأميركية ستتحول إلى أهداف للحشد الشعبي، إذا ما فكرت في البقاء في العراق، عقب تحرير الموصل.
وكما فشلت الولايات المتحدة، أو هكذا حاولت أن تبين، في منع دخول الحشد إلى الفلوجة، فإنها فشلت في منع دخوله واشتراكه بمعركة الموصل، حيث فتحت تلك المليشيات السبت جبهة المحور الغربي، محور تلعفر، الأمر الذي سيؤدي، بالضرورة، إلى انتهاكاتٍ إجراميةٍ كبيرةٍ، تقوم بها تلك المليشيات، بالاستناد إلى تاريخها المشين في التعامل مع أهالي المناطق السنية.
وإذا كان اتفاق أربيل الذي سبق معركة الموصل قد وزع الأدوار، وقسّم المهام بين الفرقاء الذين تجمعوا لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، قد نصّ على عدم دخول الحشد الشعبي مدينة الموصل، فإن كل الدلائل تفيد بأن هذا الحشد لن يرضى بهذه القسمة، وسيتجاوز الدور المرسوم له، وسيدخل المدينة، وعندها لن يسكت الأكراد ولا الأتراك.
تعرف إيران جيداً أن أميركا في موقف لا يسمح لها الآن بأي تدخل كبير، سواء في العراق أو سورية، مع دخول البيت الأبيض مرحلة الموت السريري، بانتظار ساكنه الجديد. لذا، فإنها ترى أن الفرصة مناسبة لحرق المراحل، والتفاوض لاحقاً من موقف قوة.
كما أن تركيا التي ارتفع صوتها كثيراً تدرك ذلك أيضاً. وبالتالي، فإنها لا تريد أن تترك الحبل على الغارب بالنسبة لإيران. ولكن كيف؟ ذلك ما لا تجد عليه تركيا جواباً بسبب تعقيدات المرحلة في العراق.
لن تمنع أميركا الحشد من التوجه إلى حلب، إذا طلبت منه إيران ذلك، وربما تطلب، لأنها ببساطة تسعى من أجل إقامة طريقها البري الذي يمر عبر تلعفر وسنجار ثم حلب، وصولا إلى السواحل السورية.
الحشد الشعبي العراقي اليوم هو فيلق القدس الإيراني بثياب ولغة عراقيتين، هذه الحقيقة التي يجب أن نتعامل معها. وبالتالي، لن تقف مهمة هذا الحشد الإجرامي عند الموصل، وإنما ستمتد إلى سورية، وربما سنسمع "قادمون يا رياض" و"قادمون يا منامة" و"قادمون يا كويت"، فهل سيعي ما تبقى من عرب حقيقة المرحلة وطبيعة الصراع؟
تعثرت معركة الموصل في انتظار شكل مشاركة تركيا الذي سيفرض مقابلاً مذهبياً لدخول إيران، على شكل حشد شعبي ومليشيات متنوعة، كما ستشكل تركيا معادلاً عرقياً وسياسياً للكرد المتوزعين قرب الموصل، لترسّخ نفسها أمام وجود كردي، اكتسب مقاتلوه تمرسّاً وتدريباً وخبرة مضافة في السنوات الأخيرة.
قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في خطابه يوم 22 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، إنه ينوي الذهاب عميقاً في الأراضي السورية حتى مدينة الباب الواقعة حالياً تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية. وجاء هذا التصريح في ظل تعثر معركة الموصل، لاعتباراتٍ قد تكون مشتركة مع معركة الباب، وهي مشاركة الجانبين، التركي والكردي، في هذه المعركة. كانت القوات التركية قد صنعت رأس جسر لها داخل الأراضي العراقية في منطقة بعشيقة، وحوَّل التداخل التركي المباشر بين سورية والعراق خطط أردوغان من مجرد الدعم السياسي واللوجستي لحلفائه إلى الهجوم المباشر.
تعتبر الباب عاصمة الريف الشمالي لحلب، وهي آخر معقلٍ مهم لتنظيم الدولة الإسلامية في هذا الريف، وقد تجمَّع في الباب كل مقاتلي داعش المنسحبين من منبج ودابق، ويبدو التنظيم عازماً على الدفاع عن هذه المدينة، وليس في نيته الخروج منها بسرعة، لأنها أول خطوط دفاعاته عن الرقة، ويسبب فقدانها تهديداً لوجوده غرب النهر. ولـ "الباب" أيضاً أهمية كبرى لدى قوات الحماية الكردية، لأنها تقع على الطريق بين منبج وعفرين، ولا تخفي هذه القوات نياتها بالوصول إلى الطرف الكردي في أقصى الشمال الغربي لسورية، لكن خطاب أردوغان المذكور رفع سقف مطالباته إلى أقصى حدٍّ بجعل معركة منبج تالية لمعركة الباب، ما يعني رفضاً تاماً لأي وجود كردي في غرب النهر، وسبيلاً للحصول على منطقة الخمسة آلاف كيلومتر مربع، المحاذية للضفة الغربية لنهر الفرات والممتدة غرباً إلى أعزاز شاملة منبج والباب وتل رفعت. يمكن لمنطقةٍ من هذا النوع، لو تحقق لها الحياة، وهناك من يعتقد بأن ثمة اتفاقاً روسياً تركياً لتحقيق ذلك، أن تكون ملجأ انسانياً مهماً يسهل عمليات إدخال المساعدات والأغذية، قد يخفف من عبء اللاجئين المتدفقين إلى الجانب التركي، ومن ثم يخفف ضغط اللاجئين على أوروبا، ويمكن أن يتشكل فيها نواة لجيش معارض ذي طبيعة مدنية، بدون أي أجنداتٍ دينيةٍ أو مذهبية، تحت الرعاية التركية، وهذا ما يخشاه النظام، وقد يعمل على تقويضه، وربما يمكن تفسير رمايات جيش النظام على قوات التحالف التركي قبل أيام، وفقاً لذلك، فالنظام المشغول حتى أذنيه بمعركة حلب سيضع عينيه على منطقة الشمال مجدّداً، وقد كان مطمئناً لوجود قوات تنظيم الدولة فيها، وكان سيزداد اطمئناناً لو دخلتها قوات كردية، لكن وجود تحالف قوات معارضة معتدلة، تدعمها تركيا، جعل موقفه حرجاً حتى في حلب نفسها.
قد تكون معركة الباب مؤجلةً إلى ما بعد انتهاء معركة الموصل، فالاتفاق العراقي والتركي والكردي، والأميركي أيضاً، مطلوب بشدة لتنسيق عملية الموصل. وإذا قيّض لكل الأطراف الوصول إلى هذه النقطة، فإن خروج تنظيم الدولة سيصبح أكثر سهولة. ولكن، ما زال مثل هذا الاتفاق مستبعداً، بالإضافة إلى أن التنظيم لن يغادر الموصل، إلا بعد أن يتأكد أن طريق مواصلاته إلى سورية سيكون آمناً، أو متاحاً، الأمر الذي أكدت الخطة الأميركية أنه لن يمر. وعلى الرغم من أن العدو في المعركة، نظرياً، هو تنظيم الدولة فقط، لكن الوصول إلى كيفية التخلص منه يتطلب تنازلاتٍ مُرة، قد لا يقبل أحد من الأطراف بتقديمها. الوجود الكردي الكثيف قرب تجمعات حضرية عربية في الموصل ومنبج شمالي حلب، برَّره وجود تنظيم الدولة وإمكانات مواجهتها المتاحة، لكنه بدأ يُستغل لصالح أهداف إثنية ذات طابع تاريخي، تجد تركيا فيها تهديداً كبيراً. لذلك، يمكن أن تكون معركة الموصل اختباراً جدياً سيشكل "بروفا" مفيدة، قبل الشروع في معركة الباب.
شكّل الاتفاق على إخراج عناصر "فتح الشام" موضوعَ إجماعٍ تركي سعودي أميركي روسي، مقابل ذلك يتم إيقاف الدمار عن حلب، والاعتراف بوجود المعارضة، والبدء بإيصال المساعدات، وهو ما عادت روسيا عنه، وكان سبباً في إيقاف أميركا التنسيق معها؛ لكن النظام وإيران يريدان استعادة سورية بأكملها، وهذا ما ساهم بتعطيل الاتفاق المذكور. روسيا التي تعلم ضعف النظام وإيران وعدم قدرتهما، بل وهي ذاتها، على استعادة حلب وكل سورية، ما زالت وعلى الرغم من اقتراب منطقها من منطق النظام في أن كل الخارجين عنه إرهابيون، ما زالت تُعطي للحل السياسي دوراً أساسياً؛ فهي تعلم حجم التدخل الدولي والإقليمي في الحرب ضد الثورة السورية، وتخشى من تصاعد الخلافات الدولية مع أوروبا والتورّط المستنقعي في سورية. وبالتالي، لا بد أن تُؤخذ مصالح الدول المتدخلة في سورية بالاعتبار، عدا أن روسيا نفسها ليس من مصلحتها أن تعود سورية إلى ما قبل 2011، حيث كان دورها محدوداً قياساً بإيران، وكانت توجهات النظام نفسه نحو تعزيز العلاقات مع أميركا. في هذا نرفض رأياً شائعاً وكأنه مسلمة: إن علاقات روسيا بسورية كانت قويةً، وتضاعفت بعد 2011. وهذا خطأ! فسورية كانت منفتحة نحو تركيا، وتطلب من الأخيرة بناء علاقات لها مع إسرائيل وأميركا، ولا سيما بعد إخراج جيشها من لبنان 2005.
لم يكن أمام الفصائل في أحياء حلب الشرقية، وقد شعرت بأن إيران والنظام يُجهِّزان لمعركةٍ كبرى، إلا البدء بمعركة كبرى أيضاً سُميت "ملحمة حلب الكبرى"، وهم يحرزون انتصارات قوية على قوات النظام وإيران. روسيا تتمهل في الرد الجوي، ويبدو أنها تريد تلقين النظام وإيران الدرس نفسه مجدّداً، ألا وهو أنها هي بالذات من تضع خطط الحرب والسلم في سورية، وحالما تخسر قواتهما أكثر فأكثر سيذعنان مجدّداً ويطلبان النجدة، وسيكون هناك دمار كبير وخطير، ليس في أحياء حلب الشرقية، بل وكذلك الغربية. نقول الغربية هنا، لأن الفصائل المقاتلة هناك أصبحت بوضعية خطيرة، إما أن تفك الحصار عبر التقدّم نحو الغربية، وشلّ حركة الطيران الروسي خصوصاً، وإحداث أكبر ضرر فيها. وبالتالي، إجبار النظام وإيران وروسيا على البحث عن هدنةٍ حقيقية، وربما اعتراف جدي بوجود المعارضة، والإقلاع عن رؤية النظام بتحرير المدينة، كما قال وزير خارجيته، وليد المعلم، في الاجتماع الوزاري في روسيا قبل أيام، أي أن الفصائل تعي جيداً أن سحقاً قادماً سينالها لو بقيت صامتة.
لا شك أن معركة حلب الكبرى ليست من عمل الفصائل نفسها؛ هي مدعومة من تركيا والسعودية وربما أميركا، والقصد إنهاء أحلام النظام وإيران بالتحديد بتحرير المدينة، كما قال المعلم. إذاً هناك إجماع دولي وإقليمي أن حلب ستظل كما هي مع تغيّر طفيفٍ في الأماكن التي يسيطر عليها كل طرف. ولكن، لن يُسمح بانتصار أي طرف على الآخر. وبالتالي، سيكون هناك تصعيد كبير من الجانبين، وسيُفك الحصار جزيئاً، ولكن ستتوقف المعارك لاحقاً، وسيكون هناك اعتراف بالفصائل في الشرقية وبمجلسها المحلي، وربما هذا ما سيهيئ لهدنةٍ دائمة، وبداية مفاوضات جدية للحل السياسي. وما قاله الوزراء المجتمعون في روسيا، أي وزراء الخارجية، الروسي والإيراني والسوري، بخصوص الذهاب نحو المفاوضات، يأتي بهذا السياق.
ليس في التوازنات الدولية السابقة في سورية تغييرٌ كبير؛ فسيستمر التنسيق التركي الروسي بمحيط حلب خصوصاً، وسيكون للأتراك دورٌ أساسيٌ في معركة الرقة لاحقاً، وسيشعر زعيم الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، صالح مسلم، بالخذلان أكثر فأكثر، فقواته ستخرج من منبج، وسيحاول التمسك ببعض مما أحرزته قواته شرقي الفرات، وربما حتى هذه لن تظلّ تحت سيطرته، وغالباً لن يُسمح له بالمشاركة في معركة الرقة. وأما أميركا فسيظل تركيزها على داعش، وستتوضح سياساتها أكثر، بعد نتائج الانتخابات، وقد تدفع إلى حل سياسي جديّ حينها في سورية والعراق. وستشكل المعارك ضد داعش في الرقة مرحلة جديدة في التنسيق بين الأميركان والأتراك والروس، وهذا سيتطلب قوات عربية سورية، وتشير الاحتمالات إلى أن تكون قوات من الفصائل المقاتلة، وليست من قوات النظام. الجديد هذا، والذي يُعلن عنه تباعاً، أي معركة تحرير الرقة مع تحرير الموصل وبعده، وتطور الأوضاع في حلب، وشعور الروس بأنه يستحيل استعادة هذه المدينة، ونضيف هناك إرسال الأسطول البحري الروسي إلى سورية، كلها عناصر تدفع بالبحث عن حل سياسي. وستكون معادلة هذا الأمر ثلاث مسائل: إنهاء داعش، وتهميش حركة فتح الشام، وتحديد مصير الشخصيات الأساسية في النظام السوري.
وإذا كانت مسألة داعش لا نقاش فيها، ولا يلغي تأخر الحسم ضدها أنها قضية موضوعة على طاولة البحث في الأشهر المقبلة، فإن مسألة جبهة فتح الشام، جبهة النصرة سابقاً، هي الأعقد من دون شك، وعلى الرغم من توفر معطيات أولية تقول إن شقاقاً سيتصاعد بينها وبين "أحرار الشام"، حيث تشارك الأخيرة في درع الفرات التي رفضتها جبهة الفتح، فإن تصاعد الضرب ضدها في إدلب في مرحلة لاحقة، سيضعها في "خانة اليك"، أي عليها أن تحل نفسها أو تسلم السيطرة إلى "أحرار الشام" وتنزوي، وهناك أيضاً السحق. يضاف إلى هذه القضية موضوع الشخصيات الأساسية، وأيضاً تشكل معركة حلب ضد النظام نقلةً نوعيةً في حسم قضية إقصائهم عن السلطة في إطار الحل السياسي.
تضخيم دور روسيا، وأنها تبتزُّ أميركا وتريد فرض هيمنتها دولياً عبر الصراع على سورية، كلام صحيح، لكنه يصبح خاطئاً، حينما يتم تصوير روسيا كأنها تفرض خياراتها على أميركا، أو أنها فعلاً قادرة على إملاء الفراغ الأميركي في منطقتنا. وبالتالي، لا يوجد خيار روسي متفرد في سورية، وهناك خيار أميركي داعم للروس فيها، وهو ما سيعيد الصلات بين روسيا وأميركا في مرحلة لاحقةٍ بخصوص سورية، وكذلك بخصوص كل المسائل الدولية، فالدولتان تحتاجان بعضهما في مواجهة الصين.
إذاً ليست معارك التحرير الكثيرة، وكذلك الملاحم، سورية، ويُمنع أن تكون مستقلة. هي معارك لتدوير الزوايا والضغط السياسي بين الدول نفسها، لإيصال الوضع السوري نحو حلٍّ، تتحكم فيه روسيا بالتوافق مع أميركا وإسرائيل. ولكن، تتهمش فيه كل الدول المُوغلة في سورية، بدايةً من إيران، وليس نهايةً بالمملكة العربية السعودية.
إنهم يخدعون الجميع، ولا يبحثون عن تهدئة أو مصالحة وطنية أو حل سياسي. إنهم يعبدون السلطة ولا إله لهم إلا مَن يساعدهم على مصادرتها واحتكارها، بالمال أو بالسلاح أو بأي وسيلة. إنهم يتلاعبون بالوسطاء الدوليين وبما يُطرح عليهم من حلول يعرفون مسبقاً أنهم سيرفضونها، فلا يرضيهم سوى الاعتراف بسيطرتهم والتعامل مع انقلابهم على أنه «الشرعية»، ولا يقبلون حتى بتقاسم السلطة! استباحوا الدولة وجيشها ومؤسساتها، ورموا تاريخها ومستقبلها تحت أقدامهم، وأكثر ما يثير سخريتهم أن يُدعَوا إلى هدنة إنسانية فمعاناة الناس آخر ما يهمهم ولكنهم يوافقون أحياناً على هدنة ليستولوا على المساعدات ويعيدوا طرحها في السوق السوداء ليموّلوا حربهم... هؤلاء هم الحوثيّون الذين لم يتردّدوا في استهداف مكّة المكرّمة بالقصف كاشفين آخر أوراقهم وهي كانت أولاها بالأحرى، لأن مغامرتهم السقيمة في اليمن كانت ترمي إلى تهديد المملكة العربية السعودية ومقدّسات المسلمين.
لا يمكن التعامل مع هذا النموذج من المؤدلجين بمعايير الأمم المتحدة والقانون الدولي، ولا بمنطق الدولة والشرعية، إذ أنهم ألغوا الدولة ويرون في دعوتهم إلى التفاوض تقديراً لقوّتهم التي تدفع سفراء الدول إلى محاورتهم وتقديم العروض إليهم، وهذا يدفعهم إلى عدم التنازل عما سلبوه ونهبوه من أجل أي اتفاق مع الطرف الآخر، لأنهم أصلاً يرفضونه ولا يعترفون بشرعيته، بدليل أنهم وضعوا الرئيس ورئيس الحكومة والوزراء في إقامة جبرية تحوّلت إلى اعتقال، ثم لاحقوا الرئيس لقتله والتخلّص مما يمثّله من شرعية. وحين يبدي الحوثي شيئاً من المرونة، وهذا نادراً ما حصل، فإن حليفه المخلوع يذكّره بما اتفقا عليه، أي لا حل على أساس القرارات الدولية ولا عودة إلى المبادرة الخليجية ولا قيمة لمخرجات الحوار الوطني ولا التزام إلا بما يؤخذ بالتفاوض على أساس ميزان القوى. وبما أنهم اختبروا قبل «عاصفة الحزم» وبعدها أن القوى الكبرى تسايرهم ولا رغبة أو قدرة لديها للضغط عليهم بالسياسة أو بالعقوبات، فإنهم يتشبثون بشروطهم ليواصلوا التفاوض على التفاوض أو من أجل التفاوض.
لم يكن إطلاق الحوثيين صاروخاً باتجاه منطقة مكة المكرمة مجرّد تفصيل في مجريات الحرب الدائرة منذ ثمانية عشر شهراً، ولم يكن فقط ردّاً على المساعي المتجدّدة لطرح صيغة تسوية سياسية وإفشالاً للدعوات إلى هدنة، بل كان خصوصاً رسالة إيرانية مفادها أنه لا حلّ في اليمن، وأن ما رسمته طهران لليمن لم تعطّله الحرب بدليل أن الحوثيين يقومون بالمهمة الموكلة إليهم بالتعرّض للسعودية. وعبثاً القول بأن إيران أو الحوثيين يستفزّون مشاعر المسلمين باستهدافهم المقدّسات الإسلامية وحرمتها، فهم يعرفون ما يفعلون بل مهّدوا له في الأيام السابقة بصاروخ أول، وعلى مدى الشهور الماضية بالقول إن مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة «مهدّدتان»، لكنهم نسبوا التهديد إلى «داعش».
يُذكر أن الأمين العام لما يُسمّى «حزب الله» كان أشار في إحدى خطبه (16 فبراير 2015) إلى أن مكّة والمدينة هما «الهدف الرئيسي لداعش»، ثم كرّر في خطاب آخر (17 أبريل 2015) أن «مكة في خطر لكن من جانب تنظيم داعش الذي يريد هدم الكعبة، باعتبار أن الناس يطوفون بها وهي عندهم أحجار صماء سوداء، ما يتنافى مع عقيدة التوحيد كما يفهمونها». في الآونة الأخيرة، وفي إطار تهجّمه على السعودية، كثّف حسن نصرالله أحاديثه عن حلب كمعركة مصيرية سترسم ملامح المنطقة، وبسبب الأزمة التي افتعلتها إيران هذه السنة لمنع مواطنيها من المشاركة في الحج فإن نصرالله والعديد من أبواق إيران الآخرين راحوا يربطون معركة حلب بما يسمّونه معركة «تدويل مكّة». إذاً فهي استراتيجية إيرانية قبل أن تكون أهدافاً «داعشية»، وفي أي حال صار التمييز بينهما ضرباً من العبث.
كل الأدوات الإيرانية، من النظامين العراقي والسوري إلى «حزب الله» اللبناني و«الحشد الشعبي» العراقي وحوثيي اليمن والميليشيات المستوردة، بالإضافة إلى «داعش»، هي «ذيول للأفعى» تعمل في خدمة التخريب الإيراني للمنطقة العربية. لم يعد الأمر مجرّد «تدخلات» بل تخطّى كل الحدود الدينية والأخلاقية والإنسانية للاعتداء على الحرمات الإسلامية. ولم تعد تكفي التحذيرات والإدانات بل يتطلّب الخطر الداهم وقفة جدّية عربية وإسلامية لوضع حدٍّ لهذا التمادي. وبطبيعة الحال لا أحد يدعو إلى إشعال حرب أخرى في المنطقة، فهذا ما تسعى إليه «رأس الأفعى»، ظنّاً منها أنها يمكن أن تنتصر فيها، بل إن المطلوب اتخاذ كل الخطوات للتضامن الفعلي في الدفاع عن السعودية واستقرارها وعن المقدّسات وحرمتها.
أبى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلا أن يختتم عهده في الهيئة الأممية بخطوة تكرس سنوات أدائه المتعثر فيها، تمثلت في تكريم سفير سورية الدائم بشار الجعفري ومنحه وساماً تقديرياً الى جانب 10 سفراء آخرين قضوا أكثر من 10 سنوات في مناصبهم.
وإذ تزامن ذلك الاحتفال مع واحدة من أشرس حملات القصف والتجويع التي ينفذها النظام السوري وحليفه الروسي على مناطق واسعة من سورية، في حق المدنيين تحديداً، تبين أن بان كي مون لم يخصّ سفير نظام الأسد بأي معاملة تفضيلية بين زملائه. فبان معجب على ما يبدو أيما إعجاب بنهج سياسي متكامل ينتمي إليه الجعفري، ويتخطاه كشخصية جدلية. إنه نهج ينسحب على محور دولي، يمثله إلى جانب الجعفري، كل من السفيرين المكرّمين أيضاً الروسي والفنزويلي. وربما، لو أن السفير الإيراني أمضى فترة كافية في منصبه، لكان الأمين العام ضمه أيضاً إلى تلك النخبة من الديبلوماسيين.
فبالنظر إلى أداء الحكومات أو بالأحرى الأنظمة التي يمثلها هؤلاء السفراء، أي روسيا، وسورية وفنزويلا سواء على صعيد السياسة الداخلية أو الخارجية، لا يمكن تفسير التكريم إلا بصفته تكريماً لمنظومة قيم في الحكم والإدارة والسياسة الخارجية، يفترض أن الأمم المتحدة قامت أصلاً لردعها والتصدي لها.
بالحد الأدنى من الجهد، يمكن رصد حال تلك البلدان وما آلت إليه في العقدين الماضيين وليس العشرية الأخيرة فقط، لتلمّس حجم الكوارث التي ألمّت بشعوب روسيا وسورية وفنزويلا، وبعدد من البلدان المجاورة المتأثرة بسياساتها الخارجية السافرة.
داخلياً، تشترك تلك الأنظمة بأنها كرست مبدأ التوريث السياسي أو العائلي، موصدة الباب أمام أي احتمال لمداورة السلطة وضاربة عرض الحائط بمبدأ أممي أساسي يصون (أو يفترض أن يصون) حق الشعوب في تقرير مصيرها. وسخّرت تلك الأنظمة مقدرات بلدانها البشرية والطبيعية، وأفرغت خزائن المال العام ومخزونها من النفط والمعادن والثروات لخدمة حلقات فساد ضيقة تمثلها السلطة والمقربون منها.
وإلى ذلك، قمعت الحريات العامة والخاصة، وأسكتت الصحافة والإعلام، ومارست انتهاكات فاضحة بحق المواطنين من إفقار وتجويع وتهجير لم تسثن معها الاغتيالات والاختفاءات القسرية. وذلك ليس سوى غيض من فيض ما وثقته ولا تزال توثقه منظمات حقوقية دولية.
وخارجياً، يكفي استعراض سريع لما ألمّ بالمحيط المباشر وغير المباشر لتلك الدول من تعثر سياسي واقتصادي وحروب وانقسامات وقيام شبكات تهريب ومافيا سلاح ومخدرات، وغير ذلك لنتلمس حجم كارثة أكبر. فمن القرم وأوكرانيا مروراً بالعراق ولبنان، وصولاً إلى كولومبيا وكوبا، لم تفعل تلك الأنظمة إلا أن فككت بلداناً أضعف منها أو استثمرت في أزماتها فغذتها بالمال والسلاح والإرهاب (العلماني أو الديني)، ثم جعلتها ورقة تفاوض «إقليمي» بيدها، معززة بالتالي دورها كـ «محاور دولي» و «شريك لا يمكن الاستغناء عنه في فض النزاعات».
وأكثر من ذلك، ما يجمع فعلياً تلك البلدان، أعمق وأبعد من فساد سياسي وحب سيطرة على الجوار وسوق سلاح مربح. إنه إرث أيديولوجي راسخ من العداء لـ «النظام العالمي» ومؤسساته وقوانينه ومعايير الحكم فيه، لا بل احتقار قيمه في الديموقراطية وحقوق الإنسان وتداول السلطة إلخ...
إنه ببساطة ما يسمى محلياً وشعبياً «محور الممانعة» الذي انضم إليه الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز، ومده بالسلاح والمال وضمن له طرق التهريب، ثم أودع أمانته في يد وريثه الحالي نيكولاس مادورو. فما عاد سراً حجم التبادل وخدمات تبييض الأموال بين فنزويلا وإيران والتي تمر عبر مطارات الوسطاء الإقليميين.
ذاك هو النهج الذي سلّمه بان كي مون ثلاثة أوسمة، لا وساماً واحداً قبل مغادرة منصبه. نهج ما عاد يكفي اليوم تشريحه وتفسيره من منظور انهيار نظام القطبين بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ذاك أن الزلزال الذي أحدثه هذا التفكك ولا تزال ارتداداته مستمرة حتى اليوم، عمقته وزادت أضراره منظمة أممية نخرها الفساد وأصابها الترهل.
وليس التعبير الدائم عن القلق الذي طبع عهد بان كي مون إلى حد السخرية والسأم، إلا وجهاً ملموساً من سياسة الحياد والنأي بالنفس التي اعتمدتها المنظمة حيال أكبر استحقاق يواجه المجتمع الدولي وهو الحرب السورية. اعتمد بان كي مون سياسة القلق إلى أن جاءت اللحظة المناسبة لإعلانه موقفه الرسمي الذي ينقلب على أبسط المبادئ المؤسسة للأمم المتحدة في 1945.
الآمال التي تعقد اليوم على الأمين العام الجديد، أنطونيو غوتيريس، تأتي تحديداً من خبرته الطويلة في ملف إنساني شائك، سمي «أكبر كارثة تواجه العالم منذ الحرب العالمية الثانية»، ألا وهو ملف اللجوء. ويترتب على غوتيريس، المقبل من حقل النشاط المدني والحقوقي، والذي شغل منصب رئيس الهيئة العليا للاجئين لعشر سنوات، أن يبدد قلق سلفه علماً أن روسيا حاولت عرقلة وصوله وأوشكت أن تصوت ضده، روسيا نفسها التي ساهمت آلتها العسكرية في خلق تلك الأزمة ومفاقمتها. ولا يبدو أن ثمة ما سيمنعها وحلفاءها من مواصلة نهج استحقت عليه وسام شرف أممياً.
يدلّ الهجوم المضاد الذي يشنّه الثوار في حلب من أجل فكّ الحصار الروسي – الإيراني – الأسدي على مدينتهم إلى أن المدينة لن ترضخ. أكثر من ذلك، يؤكّد هذا الهجوم أنّ روسيا وإيران لا تعرفان سوريا والسوريين، اللهمّ إلاّ إذا كان هدفهما في نهاية المطاف تفتيت البلد في غياب القدرة على التحكّم به. وهذا ما نشهد حاليا فصلا من فصوله. لم يعد من خيار آخر غير خيار التفتيت يواجه سوريا التي عرفناها، والتي حاول شعبها التخلّص من نظام أقلّوي قضى عليه، كما قضى على البلد، شيئا فشيئا، خصوصا بعد تحولّه إلى نظام حكم العائلة إثر حلول بشّار الأسد مكان والده.
كان متوقّعا، في الحسابات الروسية والإيرانية استسلام حلب وذلك بعد تدمير القسم الأكبر من المدينة. لم يحصل الاستسلام على الرغم من الزج بالآلاف من العناصر التابعة لميليشيات مذهبية لبنانية وعراقية في المعركة. استطاعت المدينة الصمود في وجه الغارات التي يشنها سلاح الجوّ الروسي وطائرات مازال النظام قادرا على تحريكها لقصف المدارس والمستشفيات. استطاعت المدينة تأكيد أنّ المدافعين عنها، ومعظمهم من أهلها، لن يستسلموا مهما بلغت الوحشية الروسية، ومهما كانت درجة التواطؤ بين واشنطن وموسكو في عهد رئيس أميركي اسمه باراك أوباما يعتبر أن حماية الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني أهمّ بكثير من حماية الشعب السوري.
هناك عبرة واحدة يمكن استخلاصها من التطورات الأخيرة في حلب. تتمثل هذه العبرة في أنّ الرهان على أن النظام الذي يقف على رأسه بشّار الأسد سيحكم كلّ سوريا يوما، لم يعد واردا في أيّ شكل. هذا نظام انتهى. لن يستطيع هذا النظام العودة إلى حكم سوريا وذلك على الرغم من امتلاكه قدرة كبيرة على التكيّف مع التغييرات الإقليمية والتعايش مع الاستعماريْن الإيراني والروسي، وخلق شبكات تستفيد من كلّ أنواع عمليات التهريب ومن المساعدات الدولية.
يظلّ الرهان على النظام رهانا خاسرا سلفا، حتّى لو كان الهدف النهائي لإيران وروسيا الوصول إلى “سوريا المفيدة” التي عاصمتها دمشق. يفترض بـ”سوريا المفيدة” أن تمتلك امتدادا في اتجاه مناطق لبنانية يسيطر عليها “حزب الله” من جهة، وأخرى على طول الساحل السوري من جهة أخرى. وهذا يعني، في طبيعة الحال، تغيير جذري لطبيعة دمشق والمناطق المحيطة بها مباشرة، وإقامة منطقة عازلة على طول الحدود اللبنانية ـ السورية، وتأمين ممرّ آمن لمقاتلي “حزب الله” إلى “سوريا المفيدة” التي ستحتاج دائما إلى من يقاتل من أجل حمايتها.
ثمّة حاجة إلى من يقاتل في “سوريا المفيدة” من منطلق مذهبي قبل أيّ شيء آخر نظرا إلى أنّ المطلوب أن تكون سوريا هذه ملجأ للعلويين الذين سيتذرعون بالحاجة إلى حماية أنفسهم من انتقام أهل السنّة منهم بعدما حكموا البلد بالحديد والنار منذ العام 1966 عندما انقلب العسكر على “البعث المدني” بقيادة ضباط علويين على رأسهم حافظ الأسد وصلاح جديد.
مهّد ذلك الانقلاب لوصول حافظ الأسد إلى السلطة في خريف العام 1970 وتفرّده بها بعد زجّ برفاقه في السجن. بقي صلاح جديد في السجن طويلا، إلى أن تمكّن منه المرض. أمّا محمد عمران، الضابط العلوي الآخر الذي بدأ يواجه مشاكل مع رفاقه منذ العام 1964، فقد لحقت به امرأة إلى طرابلس، عاصمة شمال لبنان، لتغتاله في آذار – مارس من العام 1972. لم يكن حافظ الأسد يستطيع تحمّل أي وجود لمعارض له حتّى لو كان هذا المعارض في المنفى. تلك هي فلسفة تلك العائلة للسلطة… ولكيفية التعاطي مع الآخر.
بعدما كشفت حلب حدود ما تستطيع أن تفعله روسيا، فضلا عن حدود ما تستطيع أن تفعله إيران، صار مشروع “سوريا المفيدة” قادرا على شق طريقه بقوّة أكبر، خصوصا بعد فقدان أي أمل في إعادة تأهيل بشّار الأسد خارج هذا الإطار.
بكلام أوضح، دخلت عملية تقسيم سوريا وتفتيتها مرحلة جديدة. لا يمكن تجاهل أن تركيا نفذت عمليات عسكرية في الداخل السوري تصب في حماية ما تعتبره مصلحة حيوية لها. استطاعت تركيا منع الأكراد السوريين من الربط بين مناطقهم. ستُقْدمُ على خطوات أخرى في المستقبل القريب مستفيدة من التفهم الروسي للمصلحة التركية ومن أن شهر العسل، بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، قد لا يستمرّ طويلا.
في ضوء انعدام أي خيار آخر، غير خيار “سوريا المفيدة”، أمام روسيا وإيران، ثمة أسئلة كثيرة ستطرح نفسها في المستقبل القريب. من بين هذه الأسئلة ما الذي سيفعله رجب طيب أردوغان الذي يعتبر بلده الموصل وحلب مدينتين تركيتين؟ إلى متى يستمر شهر العسل التركي – الروسي والتفاهمات القائمة بين أنقرة وطهران؟ الأهمّ من ذلك كلّه، ما مستقبل العلاقات التركية ـ الأميركية، خصوصا بعد أن يغادر باراك أوباما البيت الأبيض في كانون الثاني ـ يناير المقبل؟
هناك دول أخرى معنية بالخوف من تفتيت سوريا. من بين هذه الدول يأتي الأردن الذي لديه مصلحة كبيرة في عودة السوريين اللاجئين إليه إلى بلدهم. كذلك، لا يمكن تجاهل التداخل والصلات بين العشائر والعائلات الأردنية والسورية على طول الحدود بين البلدين.
من المفيد، في طبيعة الحال، التساؤل ما الذي تريده إسرائيل؟ كيف ستضمن تكريسها لاحتلال الجولان وإقامة منطقة عازلة تمكنها من التفرّج على مشهد تفكيك سوريا على يد الروسي والإيراني والميليشيات المذهبية التي أتت بها طهران إلى مناطق عدّة، خصوصا إلى محيط دمشق؟
لا شكّ أن التنسيق الروسي – الإسرائيلي، الذي جعل بوتين يستقوي على الإدارة الأميركية وسيرجي لافروف يتعاطى بفوقية مع جون كيري، يخفي أمورا كثيرة من بينها الضمانات التي ستحصل عليها إسرائيل في سوريا، وما يتجاوز سوريا، أي في لبنان حيث القرار 1701 الصادر في العام 2006 صامد إلى حد كبير. ليس مستبعدا أن يكون ثمن “سوريا المفيدة” وقبول إسرائيل بها، تطويرا للقرار 1701، بما يغلق نهائيا ملفّ المتاجرة بجنوب لبنان…
يشقّ مشروع “سوريا المفيدة” طريقه فيما تزداد الأسئلة المطروحة، على رأسها كيف ربط سوريا هذه بالعراق الذي وقع تحت السيطرة الإيرانية؟
إنّها بالفعل أيّام مثيرة يعيشها الشرق الأوسط الذي عاش قرنا كاملا على إيقاعات سايكس- بيكو. كان اجتياح العراق في العام 2003، وهو اجتياح أميركي بالتنسيق الكامل مع إيران نقطة الانطلاق لـ”إعادة تشكيل المنطقة”. هذه العبارة استخدمها كولن باول وزير الخارجية الأميركي في سياق التمهيد للعملية العسكرية التي قررت إدارة جورج بوش الابن السير فيها إلى النهاية. صدق كولن باول، علما أنّه لم يدرك أن عملية “إعادة تشكيل المنطقة” ستجري في غياب الولايات المتحدة. لم يحسب أن باراك أوباما سيخلف بوش الابن، وأن سياسته تقوم أساسا على فكرة واحدة هي الانقلاب على كل ما فعله سلفه ولا شيء آخر غير ذلك!
ثلاث مدن عربية لها مكانة في التاريخ العربي والإسلامي، تتعرض كل واحدة منهن لمحنة خاصة بها. مدينة حلب التاريخية هذه الأيام تتعرض لتدمير شامل يشترك في عملية التدمير النظام الحاكم في دمشق (بشار الأسد) يعينه في ذلك جيش روسيا الاتحادية، برا وبحرا وجوا، إلى جانب تلك القوة، جحافل من المرتزقة الذين جندتهم وسلحتهم ودربتهم ومولتهم إيران، وكل تلك الجحافل ينتمون إلى المذهب الشيعي جيء بهم من كل مكان استجابة لدعوة الولي الفقيه. جرائم حرب ترتكب تحت سمع وبصر العالم ولا معين لهذا الشعب الذي تصدى للحروب الصليبية ودحرهم دفاعا عن الأمة العربية الإسلامية. حكام بلاد الشام تحولوا من مشروع وطني قومي عربي إلى عمل طوائف يسحقون الشعب ويدمرن الممتلكات.
روسيا وإيران وجحافل الميليشيات الإرهابية الشيعية تحارب في حلب تحت شعار تحريرها من الإرهابيين وهم بحكم الأهداف والممارسة يشكلون جوهر الإرهاب ومادته، هجّروا أكثر من 8 ملايين إنسان من أراضيهم، وقتلوا ما يزيد على 500 ألف من البشر، أشلاء الأطفال السوريين أمام أعين العالم ينتزعون من تحت الأنقاض أو من شواطئ بحار العالم، ولا مغيث ولا معين لهم ومن المؤسف أن بعض الدول العربية راحت تقوي علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع روسيا الباغية على الشعب السوري العظيم.
(2)
الموصل، أم الربيعين، شقيقة حلب عبر التاريخ، هي الأخرى تتعرض لهجمة عاتية، فإذا كانت روسيا تقود تدمير وإفناء حلب وسوريا، كما أشرنا أعلاه، فإن أمريكا تقود تدمير وإفناء الموصل بمساعدة جحافل إيرانية موغلة في الحقد والكراهية على أهل الموصل، لأنها معقل أهل السنة والجماعة كما هي حلب. لماذا لا يتحدث الغرب وأمريكا عن الإرهاب الإيراني الطائفي، وهم يعلمون بأنه يوجد أكثر من 54 منظمة شيعية إرهابية تمارس القتل والاختطاف في كل من سوريا والعراق، ماذا فعلت جحافل الحشد الشعبي الشيعي الإيراني في الأنبار، ألم تمارس الإرهاب بكل أصنافه وأسلحته بمساعدة أمريكية ولا أحد يثير تلك المجازر التي ارتكبت في الفلوجة وغيرها من مدن وقرى الأنبار؟ ألم يشاهد العالم على شاشات التلفزة العراقية والجيش الشعبي الشيعي يسوم الشبان والشيوخ سوء العذاب جلدا بأسلاك كهربائية وضربا على الرؤوس بالشواكيش حتى يغمى عليهم من شدة الضرب (المطرقة/ المطارق)، ولا أحد يحرك ساكنا من دول العالم الحر التي تدعي أنها تدافع عن حقوق الإنسان.
الموصل تعرضت عبر التاريخ لتدمير شامل عام 615 ق. م. على يدي الميديون والكلدانيون، وقتل من أهلها الكثير وشرد من بقي حيا، وعاد أهلها فيما بعد ليعيدوا بناءها ويشيدوا حضارة على ترابها، ودمرت مرة أخرى على يد المغول تدميرا شاملا، ويدور الفلك دورته وتواجه الموصل اليوم التدمير الشامل على يدي جحافل حزب الدعوة الطائفي الحاقد الحاكم من بغداد يناصره الروس والفرس والأمريكان، لكن الموصل ستولد من جديد كما ولدت بعد دمارها كما أسلفنا.
(3)
صعدة المدينة العربية الثالثة التي تتعرض للتدمير، لكن هذه المرة على يدي أبنائها، أي الحوثيين الذين جروا هذه المنطقة في العصر الحاضر إلى حروب ست من أجل إرضاء شهوة الحكم والتسلط عند زعيم الطائفة الحوثية عبد الملك الحوثي والرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، ليعيد بلاد اليمن إلى حقبة الإمامة تحت ادعاء أن اليمن لا يحكم إلا على يدي الأئمة الزيدية التي انشق عنها الحوثي ليتبنى المذهب الشيعي الاثنى عشري.
يشترط الحوثي وحلفاؤه -لأن الحرب في اليمن اليوم- إلى الخضوع الكامل لإرادته وميليشياته المسلحة والمدربة والممولة إيرانيا، بمعنى تشكيل حكومة يكون له الغلبة فيها لأن بيده السلاح، ومن حقه تعيين نائب رئيس الجمهورية، وأن تنتهي أعمال عاصفة الحزم، أي إنهاء دور التحالف العربي في الشأن اليمني، وأن يكون الرئيس عبد ربه منصور رئيس بلا صلاحيات، ومعنى ذلك تعزيز السلطة الانقلابية، وإلغاء ما سبق من معاهدات وحوارات واتفاقات يمنية- يمنية، ويمنية- عربية.
(4)
لقد أحسنت القيادة الشرعية اليمنية صنعا عندما رفضت استلام مبادرة ولد الشيخ الأخيرة، لأن استلامها بعد أن أعلنت نصوصها قبل التسليم يعني القبول بها، وتُخطئ قيادة التحالف إن هي أيضًا قبلت بها، لأن ذلك يعني في الواقع العملي إلغاء الشرعية الدولية المتمثلة في القرار الأممي 2216، ومبادرات مجلس التعاون، ومخرجات الحوار الوطني اليمني والقبول بكيان حزبي مسلح سلاحا عسكريا وعقيدة الولي الفقيه، أي القبول بسلطة إيرانية في خاصرة دول مجلس التعاون الجنوبية. إن محاولة إضعاف القيادة الشرعية اليمنية بقبول الضغوط الأجنبية هو في حد ذاته إضعاف لقيادة دول التحالف العربي، والخروج من هذه المواجهة بخسارة عسكرية وسياسية لمشروع دول التحالف الوطني وستكون العواقب وخيمة.
(5)
أنتقل إلى نقطة البدء، الموصل وحلب وصعدة، الغرب المسيحي والروس وبعض الدول العربية والإسلامية، يصنفون جبهة النصرة وجيش الشام والإخوان المسلمين وغير ذلك من المنظمات المعارضة لنظام بشار الأسد ونظام حزب الدعوة في بغداد، بأنها منظمات إرهابية ويحاربونها بكل أنواع السلاح، ولكنهم لا يصنفون حزب الله اللبناني، وحزب أنصار الله اليمني، ولا يصنفون عصائب أهل الحق وكتائب بدر وجيش المهدي، وكل هذه منظمات شيعية تمارس أعلى مراحل الإرهاب ضد المدنيين ومؤسسات عبادتهم كما تبين ذلك وسائل الإعلام المرئية، وقامت هذه الأحزاب الطائفية الشيعية الحاقدة بتهجير أهل السنة من ديارهم من العراق وسوريا، وقتل من تبقى منهم ومطاردته. إنها حرب صريحة على أهل السنة في المنطقة العربية بلا هوادة.
آخر القول: لابد من تحقيق انتصار مادي في اليمن، ذلك يتحقق بتسليح الجيش الموالي للشرعية والمقاومة الوطنية الشعبية. إن الصواريخ حول مكة من الطائف إلى جدة تستهدف مكة بعينها، ولن يوقفها إلا انتصار حقيقي على هؤلاء البغاة في صنعاء وصعدة.
يُعتقد أن أول وصف للروس في التاريخ المكتوب هو الوصف الذي دوّنه الرحالة العربي أحمد بن فضلان، في رسالته عن رحلته بين ٩٢١ و٩٢٣ للميلاد، مع سفارة الخليفة المقتدر بالله إلى ملك بلغار ال فولغا الذين كانوا قد أسلموا حديثاً. وهو يقدم مشاهداته المباشرة عن هؤلاء «الروس» الذين ربما كانوا من ال فايكنج الذين استوطنوا نهر ال فولغا بمزيج من الإعجاب والاستغراب والتقزز لعاداتهم التي لا تتفق إطلاقاً مع تقاليده الإسلامية. فهو لم ير «أتم أبداناً منهم كأنهم النخل، شقر حمر، مع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين لا يفارقه». لكنهم «أقذر خلق الله، لا يستنجون من غائط أو بول، ولا يغتسلون من جنابة، ولا يغسلون أيديهم من الطعام، بل هم كالحمير الضالة، يجيئون من بلدهم فيرسون سفنهم بآتل، وهو نهر كبير، ويبنون على شطه بيوتاً كباراً من الخشب».
هؤلاء المحاربون الأشداء والأجلاف لن يلبثوا أن يعتنقوا المسيحية الأرثوذكسية بعد رحلة ابن فضلان بقليل تأثراً ببيزنطة، ويؤسسوا لأنفسهم دولة توسعية على ضفاف ال فولغا مع عاصمتها كيي ف، التي سيدمرها مغول جنكيزخان في القرن الثالث عشر، ويستتبعوا أقوام ال فولغا جميعاً لحكمهم قبل أن تقوم دوقية موسكو بالتوسع على حساب أسيادها المغول من القبيلة الذهبية لكي تنتهي بدحرهم والسيطرة على كامل أراضي الروس الشمالية والوسطى حول نهر ال فولغا في القرن الخامس عشر. هذه الدولة الروسية التي اتخذ ملوكها لقب قيصر في منتصف القرن السادس عشر تيمناً بملوك روما، استمرت بالتوسع على حساب جيرانها في الشمال والشرق، وابتلعت ما تبقى من خانات التتر في قازان واستراخان وسيبيريا بعد زوال دولة القبيلة الذهبية لكي تضاعف مساحتها أضعافاً مضاعفة وتمد سيطرتها على أجزاء كبيرة من آسيا وصولاً إلى حدود منغوليا مع نهاية القرن السادس عشر.
لم تتوقف روسيا القيصرية عن التوسع على حساب جيرانها، على رغم بعض الانكسارات التي عانت منها في شرق أوروبا وفي القوقاز. بل كانت سياستها الإمبراطورية قائمة أساساً على التوسع عبر قضم الأراضي المتاخمة لأراضيها وضمها لإمبراطوريتها حتى وصلت إلى المحيط الهادئ، ولم تعد ثمة أرض تستعمرها سوى بالعبور عبر مضيق بهرنغ واستعمار ألاسكا في القرن الثامن عشر، لكنها ما لبثت أن باعتها للولايات المتحدة (لحسن حظ ألاسكا) عام ١٨٦٧. في الوقت نفسه، كانت روسيا تتمدد على حساب جيرانها المسلمين في القوقاز وفي وسط آسيا، وفي شكل خاص على حساب السلطنة العثمانية. وقد تمكنت من إتمام السيطرة على كامل القوقاز تقريباً وعلى خانات بخارى وخي فا مع نهاية القرن التاسع عشر لكي تصبح أكبر دولة في العالم مساحة تغطي أرجاء واسعة من شرق أوروبا ومن آسيا. ذلك كله، وروسيا وبعدها الاتحاد السوفياتي لم تعترف يوماً بأنها دولة استعمارية. فسياستها القائمة عل القضم والاحتلال والضم والتوطين وإعادة التوطين والترويس، أي نشر اللغة والثقافة الروسية غصباً عن سكان المناطق المضمومة وأحياناً كثيرة نشر المسيحية الأرثوذكسية أيضاً، تختلف عن السياسة الاستعمارية المعتادة بالاحتلال وتطويع الاقتصاد من دون ضم الأرض (إلا في حالة فرنسا في الجزائر التي فشلت، وحالة إسرائيل في فلسطين التي لها قصة مأسوية أخرى).
ربما لهذا السبب لم تنهر الإمبراطورية الروسية الاستعمارية مع انهيار إمبراطوريات فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا والبرتغال بعد الحرب العالمية الثانية. فالاتحاد السوفياتي، وريث روسيا القيصرية، لم يتعامل مع مستعمراته على أنها أراض مغايرة يسيطر عليها وإنما على أنها أجزاء أصيلة منه ستتروس عاجلاً أم آجلاً، وهو ما حصل فعلاً في العديد من المناطق التي كان فيها سكان أصليون مختلفون لهم لغاتهم وعاداتهم وثقافتهم المختلفة، والذين انتهوا بأن ارتضوا التروس. حتى عندما حاولت الإمبراطورية السوفياية التوسع في ثمانينات القرن العشرين قبل انهيارها الأخير، فقد احتلت أفغانستان الملاصقة لجمهورياتها الإسلامية متبعة في ذلك الاستراتيجية نفسها في قضم الأراضي ثم محاولة ضمها، وإن كانت عملية ابتلاع أفغانستان فاشلة. عندما انهار الاتحاد السوفياتي وانفكت عنه خمس عشرة دولة مستقلة إضافة الى خسارته الدول الأوروبية الست التابعة له عبر حلف وارسو، فقد حافظت روسيا الاتحادية على سيطرتها على أجزاء واسعة من أوروبا وآسيا مما كانت قد روسته بنجاح خلال قرون من الضم. وهكذا بقيت روسيا بعد الاتحاد السوفياتي الدولة الاستعمارية ما قبل الحداثية الناجحة في استعمارها من دون الاعتراف به، اللهم ما عدا في قمعها الشديد لثورة الشيشان (١٩٩٤ - ٢٠٠٠) وفي تلاعبها ببعض مناطق القوقاز بخاصة بعد حربها القصيرة والعاصفة مع جورجيا عام ٢٠٠٨.
من هذا المنطلق، تبدو سياسة القيصر الروسي الجديد في سورية مغايرة تماماً لقرون من السياسة الروسية الاستعمارية التي لم تحاول يوماً التوسع في أراض منفصلة عنها براً. فهي على ما يبدو تتهيأ لوجود متطاول من طريق إقامة قواعد عسكرية في أكثر من مكان في الأراضي السورية محظورة على غير الروس وفي السيطرة فعلياً على الأجواء والمياه السورية وعلى القرار العسكري في سورية. بل ويبدو أن الروس في سورية اليوم يسيطرون على أكثر من الأرض والقرار العسكري بما أن القيادة السياسية السورية وعلى رأسها بشار الأسد، قد قبلت بالانصياع لتعليماتهم وتنفيذها، حتى تلك منها التي تنتقص من كرامتهم الوطنية، ما يذكرنا بحال زعماء الدول المُستعمرة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما كان ملوكها وأمراؤها وقوادها يأتمرون بأمر باريس أو لندن. ولعل روسيا أيضاً قد تغلغلت في إدارة الوضع الاقتصادي السوري من طريق ضخ المعونات لنظام الأسد المتهالك مقابل رهونات وديون مستقبلية لا نعلم عنها الشيء الكثير.
روسيا اليوم تستعمر سورية، أو أنها في طريقها لاستعمارها بالمعنى الحقيقي للكلمة. تاريخياً، هذه خطوة طمحت إليها روسيا لقرون ولم تستطع الوصول إليها حتى الآن، أي أن يكون لها وجود دائم في المياه الدافئة. حتى المحاولات المتسرعة لإغاظة العدو الأميركي خلال فترة الحرب الباردة عبر وضع صواريخ باليستية في كوبا الحليفة عام ١٩٦١ أو الخبراء الروس الكثر في سورية ومصر والعديد من دول أفريقيا السوداء، لم تصل يوماً إلى ما يبدو أن الوجود الروسي اليوم في سورية واصله.
ربما كان هذا من دواعي فخر فلاديمير بوتين واتساع شعبيته بين جنرالاته ومواطنيه الذين ازدادت شوفينيتهم زيادة كبيرة في العقدين الماضيين. وربما كان في هذا ذر للرماد في العيون لكي تتمكن روسيا من ابتلاع القرم وشرق أوكرانيا على طريقتها المعتادة في القضم والضم تحت أعين الغرب المذهول. لكن الواضح أن روسيا قد تخرجت اليوم من مدرسة الإمبراطوريات القديمة التي تتوسع براً إلى مدرسة الاستعمار الحديث الذي يتوسع من طريق إقامة مناطق سيطرة بعيدة من مركزه. أي أن روسيا قد دخلت أخيراً القرن التاسع عشر في سياستها الإمبريالية.
لكن المؤلم أنها لكي تمارس حداثتها الاستعمارية، يبدو أن روسيا في حاجة الى تدمير سورية وإعادتها إلى العصر الحجري.
وضع الروس خطة للتعامل مع المناطق الثائرة في سورية تقوم على ركيزتين، جهد عسكري مفتوح ولا قيد عليه، يستند إلى تفوق سلاحي ساحق، يمارس أقصى قدر ممكن من الضغط على شعب هذه المناطق ومقاتليها من جهة، ويد ممدودة بحلولٍ احتوائيةٍ هدفها المعلن إخراجها من حال الحصار والقصف والتجويع، المفروضة أسدياً عليها منذ سنوات، وعانى منها المدنيون الأمرّين، وخصوصاً منها الجهات الأكثر ضعفاً كالأطفال، أما هدفها الحقيقي فهو إجبارها، بمختلف الوسائل والضغوط، على قبول هدن يقال إنها ستجنبها ويلات استخدام السلاح: سلاح من يدافعون عنها من مواطنيها، وليس سلاح النظام.
استناداً إلى هاتين الركيزتين المتكاملتين، يتم، من جهةٍ، التلويح بما تفتقر هذه المناطق إليه من مواد غذائية وأدوية وأمن. ومن جهةٍ أخرى، العمل لإحداث أجواء ترغم سكانها على الركوع أمام شروط مجحفة جداً، تمليها عليهم القوة التي تعصف بهم ليل نهار. أما آلية بلوغ الهدن فهي تبدأ بشق صفوف المدنيين، وإحداث هوة بينهم وبين من يدافعون عنهم، باستثمار عذابات الأولين التي يفرضها النظام عليهم، وما قد يوجد داخل كل منطقة من تناقضاتٍ أو خلافاتٍ تستغلها غالباً "خلايا نائمة"، تضم موالين للنظام وممثلي فئاتٍ معادية للثورة، تحرّض الحاضنة الاجتماعية ضد المقاتلين، وتحملهم المسؤولية عن رفض هدنةٍ تنهي تجويع قراها وبلداتها ومدنها ومحاصرتها وقصفها، هي مصالحةٌ مع نظام يستطيع سحقهم واستعادة مناطقهم بالقوة، لكنه يقدّم لهم عرضاً كريماً، يضع حدا لمآسيهم، ويخرج بناتهم وأبناءهم من السجون، ويعيدهم إلى أوضاع آمنة وطبيعية، بمجرد أن يتخلصوا من مقاتليهم: العقبة التي تحول بينهم وبين بلوغها، علماً أنها تنازلاتٌ يقدمها النظام لهم للي ذراع السكان. تلازم هذه اللغة المطمئنة أعمال عسكرية مكثفة ضد المدنيين بصورة خاصة، يتصاعد معها الضغط على مفاوضي المناطق، وخصوصاً أصحاب المواقف الرخوة منهم، لإقناعهم بعدم جدوى المقاومة، في ظل تفوق الجيش الأسدي عليهم، وما هم عليه من عزلة وضعف، ولاستحالة تحقيق ما يطالبون به، وخصوصاً إسقاط النظام وترحيل رئيسه.
كرّر الروس، وتابعهم الأسدي، هذا السيناريو في كل مكان، لكي يلغوا موافقتهم على هدن دولية، تلزمهم بفك الحصار، ووقف القصف العشوائي والقصف بالأسلحة الممنوعة، كالبراميل والقنابل الفسفورية والفراغية، وبالإفراج عن المعتقلين، والسماح للمواطنين بالدخول والخروج الحر إلى مناطقهم ... إلخ، ويلغوا معها الحل السياسي الدولي الذي يستبدلونه بهدن محلية وتقطيعية، يعني تعميمها نهاية هذا الحل، والالتفاف الناجح على وثيقة جنيف والقرارات الدولية ذات الصلة بها.
لا بد من أن تجابه هذه الخطة الخطيرة بخطةٍ وطنيةٍ معاكسة، تعتمدها المقاومة العسكرية والسياسية، تحول دون تفعيل أي خلية محلية لصالح السطلة وهدنها، ومن دون تولي العناصر الرخوة أي دور تفاوضي، بالنيابة عن المقاتلين والسكان، على أن تقوم "لجان محلية"، تشكلها قطاعات الثورة العسكرية والمدنية بهذا العمل، وتمارس سياسات تحبط رهانات الروس والأسد، هي تطبيق ميداني لاستراتيجية وطنية شاملة، يجب أن تضعها "هيئة وطنية عليا"، تدير معركة فك الحصار عن المناطق المستهدفة، ودعم صمودها باعتبارها ساحة معركةٍ وطنيةٍ شاملة، ولم تعد بقعاً متناثرة ينفرد النظام بها، على أن تتوسط بين الهيئة العليا واللجان المحلية "لجان مناطقية"، تشرف مكانياً على إقامة شبكة صلات وحصانات بينها، تحميها وتوحد مواقفها ضد هدن الاستسلام، ولا تسمح بعزل أي منطقةٍ أو بلدة أو قرية، أو تترك مقاتليها وساستها وحيدين في مواجهة المخاطر المحدقة بهم، وبالقضية الوطنية والثورية السورية.
تبذل اليوم جهودٌ لبلورة هذا الرد الوطني الشامل على هدن الروس والأسد، والذي يجب أن ينجز بمعونة من رحلوهم عن ديارهم، ويقوم على نشر مقاتليهم في مناطق ذات حساسية خاصة بالنسبة للنظام، كالساحل وحماة وريف حمص الشمالي وحلب، حيث سيضعون خبرتهم ووزنهم النوعي تحت تصرف ثورة انتموا إليها، بوصفهم وطنيين سوريين يدافعون عن شعبهم، وسيشاركون مقاتلي هذه المناطق في التصدّي للعصابات الأسدية والروس، وسيجعلونها تدفع ثمن إخراجهم من مناطقهم، وتندم عليه بل وتفكر في التخلي عن نهج الهدن والترحيل، ليس لأنه يصير بلا جدوى وحسب، وإنما لأنه كذلك يلحق بها ضرراً بالغاً في مناطق مهمة من سورية، ويفوّت عليها فرصة تجميع مقاتلي هذه المناطق في إدلب، حيث ستسدد لهم ضربة ساحقة، بمجرد أن تتوفر شروطها. بالتلازم مع إعادة انتشار المقاتلين، ستمارس أسرهم أنشطة تعبر من خلالها عن حقها في المطالبة بالعودة إلى ديارها، وستنظم مظاهرات، وتعقد لقاءات مع مؤسسات إعلامية وجهات سياسية محلية ودولية، تشرح خلالها ما كابدته من عذابات خلال الحصار، وفقدته من بناتها وأبنائها، وما فات أطفالها من تعليم وصحة وحياة طبيعية، وعاناه هؤلاء من أمراض جسدية ونفسية، وتعرضت هي له من تمزيق وترحيل وقتل... إلخ.
أكرّر: تمثل الخطة الروسية/ الأسدية خطراً جدياً على الثورة، لا بد من مواجهته بعمل وطني شامل، تتولاه هيئة وطنية ذات تمثيل وحضور مناطقي ومحلي، تنفذ سياساتٍ يلتزم بها كل مدافع عن شعبه. لذلك، لا تكتفي بالإدانات اللفظية، بل تقيم جميع التشابكات والشروط الضرورية للدفاع عن المناطق المحاصرة أو المهددة بالحصار، ولتوحيد مواقفها، وحل ما بين سكانها ومقاتليها من إشكالات، وتمدّها بعون إغاثي وإعلامي وسياسي وعسكري، وتحصنها ضد محاولات اختراقها والالتفاف عليها، لتجعلها حصناً منيعاً للثورة، بدل أن تكون ما هي عليه اليوم: نقاط رخوة يتسبب سقوطها في تفكّك الثورة، وانحسارها عن أرض الوطن.