مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٧ أكتوبر ٢٠١٦
روسيا تستغل الحرب في سوريا لزعزعة الحلف الأطلسي!

عاد الحديث عن حرب باردة بين روسيا والغرب. ففي سوريا أصبحت روسيا الدولة التي من المستحيل حل النزاع من دونها. موسكو تريد حوارًا مع واشنطن يهدف إلى استعادة مكانتها كقوة عظمى. ولهذا تلعب لعبة دبلوماسية متطورة جدًا، فالقوة وسوريا مجرد أدوات لاستعادة المكانة العظمى.

الرئيس باراك أوباما اتهم روسيا في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بأنها تبحث عن استعادة مجد ضائع. الآن هو على وشك المغادرة، وتتجه الأنظار إلى من ستختاره أميركا رئيسًا مقبلاً لها. ذلك أن تعاطي الرئيس الأميركي المقبل مع سوريا سيعتمد أولاً على روسيا ونياتها. قد تكتفي الإدارة الأميركية الجديدة بالتركيز على محاربة «داعش» ومقاتليه، لكنّ لروسيا أهدافًا أبعد من محاربة «داعش» وبقية الإسلاميين المتطرفين. ذلك أن تدخلها بالحرب في سوريا، برًا وجوًا وبحرًا، كان لإظهار رغبة الكرملين بدعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وفي الوقت نفسه للدلالة على التحالف الاستراتيجي بين روسيا وإيران، إلى درجة أنه جرى حديث عن تحالف شيعي بقيادة طهران تدعمه موسكو، لتحدي الكتلة السنية المدعومة من واشنطن.

لكن، مع هذا تبقى روسيا وإيران أبعد من تشكيل تحالف كامل. في 16 أغسطس (آب) الماضي سمحت إيران لقاذفات القنابل الروسية باستخدام قواعدها الجوية لضرب مواقع الثوار السوريين، بعد أقل من أسبوع تراجعت إيران عن قرارها. صحيح أن لروسيا وإيران كثيرًا من المصالح الإقليمية المشتركة وبالذات في سوريا، لكن تبقى هناك توترات موروثة من حروب سابقة. كما أن موسكو لا تريد أن تستحوذ إيران على السلاح النووي، وتتخوف من أن أي اتفاق نووي شامل وبعيد المدى قد يدفع إلى تقارب بين واشنطن وطهران، فيقلص هذا من النفوذ الروسي أكثر فأكثر.

في سوريا تريد روسيا إظهار أنها بالفعل تقدم الحماية لحلفائها، وترى في الوقت نفسه أن إلحاق الهزيمة بالمتطرفين السنّة هو الطريق لاحتواء النفوذ الأميركي في المنطقة، كما أنها تريد أن تحمي حليفها السوري. والمغامرة الروسية ترغب في المحافظة على حكومة صديقة لها في دمشق، وقواعد بحرية على الأبيض المتوسط، وتأكيد مكانتها كقوة عظمى. ترفض روسيا تغييرًا في النظام السوري يؤدي إلى قيام حكومة في دمشق موالية للغرب. هذا ما تريد منعه، لكن هذا لا يعني الدفاع عن قيادة بشار الأسد مهما كان الثمن.

ثم إن روسيا ترتبط بعلاقات براغماتية في الشرق الأوسط. ويقول أحد المحللين الروس إنه إذا كان هناك من شك بالنسبة إلى جدول موسكو المستقل في سوريا بالنسبة إلى إيران، فليس علينا التفتيش كثيرًا، بل أن نأخذ إسرائيل التي تقول إيران إنها العدو الرئيسي، إذ ترتبط موسكو بعلاقات وثيقة مع تل أبيب، وتضاعفت هذه العلاقات في عهد الرئيس فلاديمير بوتين. الدولتان مستمرتان بحوار سياسي، وهناك تبادل وفود بينهما على كل المستويات، ويوم الجمعة الماضي أجرى بوتين اتصالاً هاتفيًا مع بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ليهنئه بعيد ميلاده، والأعياد اليهودية، كما تبادلا التهاني لمرور 25 سنة (18 أكتوبر/ تشرين الأول)، على إعادة العلاقات بين الدولتين (كانت روسيا قطعت العلاقات مع إسرائيل بعد حرب يونيو/ حزيران 1967، وأعادتها على مستوى قنصليات عام 1987، لتُستأنف كاملة عام 1991)، كما تعهد الطرفان بتطوير العلاقات والتعاون بينهما. ناهيك بأن عددًا كبيرًا من المواطنين الإسرائيليين ولدوا في الاتحاد السوفياتي. إضافة إلى إسرائيل، تحتفظ موسكو بعلاقات جيدة مع مصر وتركيا والدول السنّية العربية التي ليست إيران على علاقات جيدة معها. ويوم الاثنين الماضي قال ألكسندر نوفاك وزير الطاقة الروسي: «بلغنا مستوى غير مسبوق في علاقاتنا مع السعودية». كما تتنافس روسيا وإيران في مجالي النفط والغاز، والدولتان تدعيان ملكية مناطق في بحر قزوين.

يقول المحلل الروسي إنه لا يزال الروس يشعرون بطعم الذل الذي لاقوه من الغرب بعد موجة الديمقراطية التي دمرت الجدار الحديدي 1989 - 1990، وتفكك الاتحاد السوفياتي. يعرف بوتين هذا، ولذلك من أجل سلطته وأيضًا بسبب غريزة وطنية حقيقية تضاعفت بسبب أيامه في استخبارات الـ«كي جي بي»، يلعب الآن بالورقة الوطنية، ولأنه يريد استعادة هيبة روسيا الدولية، كما يريد غالبية الروس، فإنه يريد فتح أسواق أوسع أمام الأسلحة الروسية. يقول محدثي: «هذا يعود إلى براغماتية بوتين. وفّرت سوريا له مسرحًا لاستعراض طائراته وصواريخه». ويضيف: موسكو تصعّد من حملتها العسكرية في سوريا الآن لأنها لا تزال تعتقد أنها قادرة على إقناع الأميركيين بقبول موقفها والتخلي عن مطلبهم برحيل الأسد. ويعتقد بوتين أنه يستطيع عندها الاستمرار بمحاربة الإسلاميين مع الولايات المتحدة، وهو يرغب في التوصل إلى اتفاق ما مع إدارة أوباما، لأن الروس مقتنعون بأن هيلاري كلينتون، كرئيسة محتملة، ستكون أكثر تشددًا مما عليه أوباما.

لكن، لا يجد بوتين ثغرة ضد المصالح الأميركية إلا ويحاول سدها بموقف روسي معادٍ، إذ، وفي مجال أوسع من منطقة الشرق الأوسط، دعمت موسكو مطالب الصين بجزر بحر الصين الجنوبي، وتصالحت مع تركيا مستغلة غضب أنقرة من الغرب بعد المحاولة الانقلابية على الرئيس رجب طيب إردوغان. يقول المحلل الروسي: قد تكون روسيا طموحة جدًا بمحاولتها سحب تركيا من الحلف الأطلسي نفسه. هي ترى أن تركيا لم تعد مهتمة الآن بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لذلك يستغل بوتين ردود فعل إردوغان على محاولة الانقلاب، لشد تركيا أكثر إلى آسيا ودفعها إلى تحالفات تجارية ودبلوماسية مثل منظمة شانغهاي للتعاون.

وكانت الغارات الجوية التركية يوم الخميس الماضي على قوات وحدات حماية الشعب الكردية لمنعها من الوصول إلى مدينة الباب الاستراتيجية شمال غربي سوريا، أثارت كثيرًا من الأسئلة حول علاقة أنقرة بموسكو والنظام السوري، إذ ما كان يمكن للطائرات التركية الإغارة من دون إبلاغ روسيا التي تسيطر على الأجواء في تلك المنطقة.

لكن في الوقت نفسه لن تسمح روسيا للمعارضة السورية المدعومة من تركيا باحتلال الباب، لأن هذا قد يهدد خطط الحكومة السورية باسترجاع حلب. وكان إردوغان تحدث هاتفيًا مع بوتين في 19 من الشهر الحالي، حيث أكد له مساعدة تركيا في طرد «جبهة فتح الشام» (النصرة) من حلب.

وكان لوحظ أنه مع بدء المعارك لاسترجاع الموصل لم تطلب أي دولة من دول التحالف استعمال القواعد الجوية التركية لشن غاراتها الجوية. وهذا ما أثار سخط أنقرة ويدفع موسكو إلى فتح أذرعها لتركيا أوسع فأوسع.

الأوراق الروسية كثيرة، تختصر برغبة الكرملين في استعادة الوضع السابق ليصبح على قدم المساواة مع البيت الأبيض، لكن في ظل إدارة أوباما التي انكفأت عن كثير من الصراعات كان تدخل بوتين. في سوريا، يشعر كثيرون بأن واشنطن لعبت دورًا رئيسيًا في تفاقم الحرب، بسبب ترددها وعدم حسمها، وتفضيلها التوصل إلى اتفاق مع إيران على حساب مصير الشعب السوري. أما في العراق، فإن معركة الموصل رغم أهدافها لا تزال في البداية. عبر هذه الفوضى الدموية تستغل موسكو الحرب في سوريا لزعزعة الحلف الأطلسي؛ بأن تزيد من الشرخ بين تركيا والحلف، في حين أن إيران تراقب وقد استدعت السفير التركي في طهران للاحتجاج على طلب تركيا التدخل في معركة الموصل. تعرف إيران أن هناك خطوط أنابيب للنفط والغاز تنطلق من منطقة الشرق الأوسط وبحر قزوين إلى البحر المتوسط، وأن سوريا وتركيا من المواقع المهمة للتصدير إلى أوروبا. وتقف روسيا لها بالمرصاد.
اللعبة لن تنتهي في الشرق الأوسط.

اقرأ المزيد
٢٧ أكتوبر ٢٠١٦
سورية والعراق... مكافآت روسية - أميركية لإيران

تتنافس حلب والموصل هذه الأيام على إيلامنا وجلد وجداننا، وعلى تقريعنا لتقصيرنا وإهمالنا. قبلهما اغتيلت حمص وهانت علينا، اغتيلت بيروت، واستُبيحت القدس والخليل وغزّة، وغيرها وغيرها، وهانت علينا كلّها. أصبحت المقارنة، وربما المفاضلة، بين احتلال يشير اليه العالم على أنه احتلال لا تستطيع اسرائيل أن تتخلّص من آثامه مهما عربدت في إجرامها، واحتلال لا أحد سوى المعانين منه يسمّيه باسمه رغم أن إيران فَجَرَت وتمادت، واحتلال روسي لا يشبهه سوى احتلال أميركي وقد برع كلاهما في الاستهتار بالأرض ومَن عليها وما عليها، وبالتاريخ والحاضر والمستقبل وما تعنيه لا للسوريين والعراقيين أو العرب، ولا لسنّة وشيعة ومسيحيين، وحدهم، بل للعالم ولما تسمّى «حضارة انسانية» فشل العرب، قبل سواهم، في الاهتداء الى سبل حمايتها من صولات الوحوش المسعورة.

هناك طعَم نهايات مريرة وبدايات أكثر مرارة في ما تشهده حلب والموصل. لا، ليس التراث الانساني الذي هشّمه المدعو «أبو بكر البغدادي» أو يدمّره المدعو فلاديمير بوتين أو يطرحه سماسرة الحروب في مزادات التهريب هو ما سيفتقد فقط، بل انه الانسان نفسه الذي صبر على الطغاة القدامى والجدد، بمن فيهم صدّام حسين وجورج بوش ونوري المالكي وبشّار الأسد وقاسم سليماني و «داعش»، وصنع تجربة العيش بهذا المزيج من الأقوام والأديان. هذا الانسان تحطّم بدوره وتدمّر، فقد الثقة والأمل، فلا الدولة/ النظام تحميه ولا هو يعني شيئاً لها، ولا القوى الخارجية ترحمه بل تمعن في تقطيع أوصاله. وفي السياق الحضاري التاريخي سيكون واضحاً أن روسيا دمّرت حلب وأميركا دمّرت الموصل وإيران صنّعت «داعش» لاستدراجهما كي يلعبا لعبتها القذرة فتحصد المكاسب. وعلى رغم أن الوحشية لا تُعرف إلا باسمها ولا مجال فيها للمقارنات إلا أن «داعش» المنشغل بالنحر والحرق والنهب والسبي قد يبقي في الموصل مستشفيات ومدارس ومخابز وأسواقاً، خلافاً لما ارتكبه بوتين لتوّه في حلب وهو منشغل بتدمير سورية لتأمين قضمه أوكرانيا أو لتقاسمها بصفقة مع أميركا.

«ممرات آمنة» غير آمنة هي كل ما تبقّى من المدينتين لأهلهما. حُوصرت الموصل ويراد لأهلها أن يغادروا كي يسهل تحريرهم من تنظيم «داعش»، وبعضٌ ممن يحاصرونها أو جلّ من يريدون «تحريرها» ساهم في صنع «داعش» وتسعير توحّشه. هناك أكثر من معركة في الموصل، واحدة لأهل الموصل وخمسة لأميركا وإيران وتركيا وحكومة بغداد والأكراد، وكلٌّ منهم يخوضها وفقاً لأجندته. صحيح أن الهدف طرد «داعش» لكنه يختلف بالنسبة الى الإيرانيين والأتراك بين تمكين و/ أو عدم تمكين «دواعش الحشد الشعبي/ الشيعي» من دخول المدينة. لا شك في أن «داعش» سيُهزم، لكن هذه معركة يراقبها العالم موقناً بأن النصر فيها يعادل الهزيمة اذا أفسدها صبية قاسم سليماني و «حشده». شيء من هذا يشوب أيضاً معركة حلب، حيث لا وجود لـ «داعش» بل إن «فتح الشام/ النصرة/ القاعدة» يحاول الذوبان في نسيج الفصائل، فيما ينتظر «دواعش» الأسد وسليماني والحشد العراقي و «حزب الله» اللبناني وأقرانهم متعدّدو الجنسية أن لا يبقي الروس حجراً على حجر فيها ليعلنوا الانتصار على ركام المدينة. يُذكر أن الروس والإيرانيين يتغطّون بـ «شرعية» نظام مجرم تعاقد معهم على قتل الشعب السوري وتدمير حواضره، لكن حكومة بغداد لم تعلن أن الأسد تعاقد معها لاستيراد «دواعش الحشد» الذين جعلهم حيدر العبادي جزءاً من الجيش العراقي.

لا خلاف على إرهابية «داعش»، لكن كمَّ الإجرام الذي مورس في سورية والعراق وعدد المشاركين فيه يبرز إرهابية الآخرين ويحمّلهم مسؤولية مضاعفة في ترك ظاهرة «داعش» تكبر وفي استغلالهم لها، بل في استنساخ «منطقـ»ـها السياسي الذي ربط بين البلدين، حتى قيل إن هذا التنظيم هو الذي جهر بإعادة النظر في ترتيبات معاهدات «سايكس – بيكو» و «سيفر - لوزان»، فيما تطرح الأطراف الأخرى إعادة النظر هذه سرّاً. وعلى رغم مساهمة الجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية بالجهد الأكبر في تحرير الموصل، إلا أن سنّة نينوى لجأوا الى تركيا وإلى تذكيرها بصلتها التاريخية بالموصل طلباً للحماية منذ الآن تحسّباً لمرحلة «ما بعد داعش»، وثمة مؤشّرات الى أن المحافظات السنّية الأخرى تشاركهم هذا الالتماس، فهي تعاني من تداعيات الغزو الإيراني المتنكّر بـ «دواعش الحشد الشعبي» بعد تحريرها من «داعش». وتستند مخاوف الموصل وبالأخصّ تلعفر الى أن هذه الأخيرة بمقدار ما تشكّل معبراً لـ «الدواعش» الهاربين الى الشطر الآخر من «دولة الخلافة» بمقدار ما يحتاج اليها الإيرانيون كممرٍّ لا بد منه للاتصال جغرافياً بسورية، كما أنهم يحتاجون الى حلب لتأمين تواصل سورية - العراق - إيران.

يدور السيناريو حالياً كما يفترض له بدءاً من 1916، كما لو أن المئة عام لم تكن أو كأنها محكومة بأن تعود الى الفراغ الذي بدأت به، لا دول لا مؤسسات لا فكر لا نُخَب. هناك أمة قذفها الفرس الهائج من على متنه فارتمت أرضاً ليكثر ذبّاحوها. قبل مئة عام توافقت مصالح «الحلفاء» المنتصرين في الحرب العالمية الأولى على تقسيم التركة العثمانية بإرضاء العرب كقومية، وبعدها التقت مصالح الأطلسيين والسوفيات على مباركة سرقة الاسرائيليين أرض فلسطين التاريخية، بل التقت أيضاً على منع العرب من أن يتصرّفوا كقومية يلتقي أبناؤها على أهداف مشتركة، وقد سهّل العرب للقوى الخارجية الاستهانة بمصالحهم وطموحاتهم.

رغم كل ما بذله العرب (بالأحرى ما بذلته الأنظمة) من أخضاع لمصالحهم في ما ظنّوه مصادقات وتحالفات مع العالم، فإنهم اتّهموا أولاً بقوميتهم ويتّهمون اليوم بإسلامهم، كمصدري خطر إقليمي وعالمي، ولم يعد يُرى منهم سوى «إرهابهم»، بل إنهم يُحاسبون ويُعاقَبون على هذه كلّها. وها هم يقفون اليوم على قارعة التاريخ فلا يجدون صديقاً أو حليفاً، وتكاد العودة الى كنف الدولة العثمانية تشكّل ذروة طموحاتهم، ولن ينالوها. أما الكبار، وهم الأميركيون والروس هذه المرّة، فيستخلصون من تجربة الـ 100 عام ضرورة «شرعنة» تطلّعات القوميّتين اليهودية والكردية بما تتطلّبه من تقسيم وتغيير خرائط، ويتوافقون على تنصيب الفرس والاسرائيليين أوصياء على العرب، كمكافأة على ما ارتكبوه في حق العرب. وربما يراد، بشيء من التردّد، إشراك الأترك لكن كأوصياء من الدرجة الثانية.

بعد كل المقدّمات التي تفاعلت سورياً وعراقياً واقليمياً ودولياً تؤشر الى نهاية مرحلة، ولم يعد حديث التقسيم مجرّد تكهّنات واحتمالات، بل توغّل أكثر في التداول. ليس هناك أبسط من القول، مثلاً، أن تعايش السنّة مع بغداد بات استحالة من دون أن يقال لماذا وكيف صار كذلك ومَن المسؤول، بل من دون النظر الى الفارق بين تعايشهم الممكن مع الشيعة وبين إجبارهم على الخروج من عراقيتهم والخضوع للاحتلال الإيراني. ولو أن أتباع ولي الفقيه بنوا تجربة راقية تحترم خصوصيات العراق لما كان «داعش» ظهر أصلاً، لكن الحاصل هو أنهم منعوا قيام دولة وهمشوا الجيش وأرهبوه بـ «دواعش الحشد» وهتكوا كل ما تبقّى من روابط أهلية غير متأثرة بالشحن الطائفي وساهموا في مأسسة الفساد. فهل أن هذه مقوّمات «تفاهم» أميركا وإيران على العراق؟ واقعياً، لم يثبت أنها عكس ذلك ولم يتبرّأ الأميركيون مما حصل بعد انسحابهم.

لكن هل هناك أي مبرر، طائفي أو سياسي، يبرّر مدّ هذا «التفاهم» الى سورية والاعتراف بالدور الإيراني كجزء من «التفاهمات» الأميركية - الروسية ومن دون أي اعتبار لخصوصيات سورية إنْ لم يكن لحقائق مجتمعها؟ لا مجال لإخراج السوريين من سوريتهم وإخضاعهم لاحتلال إيراني جنباً الى جنب مع احتلال روسي، لذلك صمتت أميركا عن اقتلاعهم من مدنهم وبيوتهم، وهي وروسيا تغضّان النظر عن تغيير ديموغرافي تعمل إيران على هندسته لإدامة احتلالها. فإذا لم يكن هذا من ارهاصات التقسيم، كما تتمنّاه واشنطن وموسكو، فما عساه يكون؟

اقرأ المزيد
٢٧ أكتوبر ٢٠١٦
الحل الأفغاني:هل ستكون نهاية الأسد كنهاية نجيب الله؟!

في لقاء صحافي نشرته إحدى الصحف العربية قبل أيام، تحدث المسؤول الأميركي السابق المعروف ريتشارد ميرفي، الذي عمل سفيرًا لبلاده (الولايات المتحدة) في كل من دمشق والرياض، عن مسألة غدت مطروحة ويكثر الحديث عنها بكل جدية هنا في هذه المنطقة وأيضًا في أوروبا وأميركا، وهي أنه لا حل لمشكلة بشار الأسد إلا «الحل الأفغاني»، وأنه لإنهاء هذه الأزمة السورية التي باتت معقدة وشائكة لا بد من «سيناريو» كـ«السيناريو» الذي تم تطبيقه في أفغانستان.

وحقيقة، فإن هذا الذي قاله ريتشارد ميرفي كمبادرة كان قد اقترحها، كما يتردد وكما يقال، على بعض كبار المسؤولين في بعض دول الخليج العربي كان قد طُرِحَ وجرى الحديث عنه مبكرًا عندما كان نظام بشار الأسد قد أصبح آيلاً للسقوط قبل أن تنتقل روسيا بتدخلها في الشؤون السورية الداخلية من مجرد المساندة السياسية والدبلوماسية والدعم الأمني إلى التدخل العسكري السافر الذي كان بدأ في نهايات سبتمبر (أيلول) عام 2015 ثم ما لبث أن تحول إلى احتلال فعلي غاشم وبأبشع أشكال الاحتلال.

لكن كل الذين تحدثوا عن هذا الحل وعن هذا «الخيار» وعن هذا الـ«سيناريو»، ومن بينهم ريتشارد ميرفي نفسه، هذا الذي يُعتبر أحد كبار الخبراء الأميركيين في الشؤون العربية وشؤون هذه المنطقة، لم يحددوا بالضبط ما الذي يريدونه وهل أنهم يقصدون إيجاد مخرج لرئيس النظام السوري بشار الأسد بالتنحي على غرار ما حصل عندما تنحى الرئيس الأفغاني الأسبق بابراك كارمال وحل محله مدير المخابرات الإيرانية السابق محمد نجيب الله الذي كانت نهايته مأساوية بالفعل عندما جرى إعدامه، بعدما وصل الحكم في أفغانستان إلى حركة طالبان، بالتعليق على أحد أعمدة الكهرباء في كابل وحيث بقي معلقًا لنحو أسبوع بأكمله؟!

وحقيقة فإنَّ المشكلة الأفغانية، التي كانت بدأت بذلك الانقلاب العسكري الذي نفذه الجنرال محمد داود خان ضد ابن عمه الملك محمد ظاهر شاه في عام 1975، قد ازدادت تفاقمًا أولاً بانقلاب حفيظ الله أمين على رفيقه في حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني محمد نور طرقي في عام 1979 الذي كان بدوره قد انقلب عليه رفاقه، وثانيًا بذلك التدخل السوفياتي الذي كان احتلالاً عسكريًا بكل معنى الكلمة، والذي جاء لسوريا كنسخة شبيهة له في وجوه متعددة وكثيرة، وثالثًا عندما تحولت أفغانستان، خلال حكم حركة طالبان المتطرفة، إلى معسكر كبير لتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، ورابعًا عندما ارتكب هذا التنظيم الإرهابي، أي «القاعدة»، تلك الجريمة التاريخية البشعة في نيويورك وواشنطن في سبتمبر عام 2001، أمّا خامسًا فعندما ردت الولايات المتحدة على هذه الجريمة بتحشيد عسكري دولي واحتلال هذا البلد كله وإنهاء نظام هذه الحركة وفرض نظام جديد لم يستقر سياسيًا ولا أمنيًا حتى الآن رغم مرور كل هذه السنوات الطويلة.

وهكذا وعندما يجري الحديث عن الخيار الأفغاني لحل الأزمة السورية، التي قد ازدادت استعصاءً وازدادت مأساوية بعد التدخل العسكري الروسي الآنف الذكر، الذي تحول بعد عام واحد إلى احتلال يوصَف بأنه دائم، فإنه لا بد أن تخطر على البال هذه الـ«سيناريوهات» الأفغانية كلها وآخرها الغزو العسكري الدولي الذي قادته الولايات المتحدة، بعد كارثة برجي التجارة العالمي في نيويورك و«البنتاغون» في واشنطن في عام 2001، لإسقاط نظام حركة طالبان وإقامة نظام انتهى إلى الانتخابات الديمقراطية «المعقولة والمقبولة»، لكن ورغم مرور كل هذه الفترة الطويلة فإن هذا البلد لم ينعم بالاستقرار حتى الآن وهو لا يزال بحاجة إلى الحماية العسكرية الخارجية.. الأميركية بالدرجة الأولى.

فهل يا ترى أن هذا هو المطلوب بالنسبة لسوريا التي أصبح حالها، بعد نحو ستة أعوام من عدم الاستقرار، وفي جوانب كثيرة كحال أفغانستان قبل وبعد التدخل العسكري السوفياتي في عام 1979 ولكن دون انقلابات عسكرية كتلك الانقلابات الأفغانية التي تلاحقت بعد انقلاب الجنرال محمد داود خان في عام 1975، والتي لم تتوقف عمليًا، إلا بذلك الغزو الدولي الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2001، وأسقطت حكم حركة طالبان، لكنها في حقيقة الأمر لم تنهِ هذه الحركة التي بقيت حاضنة فعلية وحقيقية لـ«القاعدة»، وأصبحت أيضًا حاضنة لكل الحركات الإرهابية في تلك المنطقة الاستراتيجية الخطيرة؟ وحقيقة أنه بالإمكان الاتفاق ومرة أخرى على أن هناك صفات كثيرة بين أوضاع أفغانستان خلال فترة حكم حركة طالبان وقبل ذلك، ووضع سوريا تحت حكم بشار الأسد، فهناك الاحتلال السوفياتي وإلى جانبه «القاعدة» سابقًا ولاحقًا، وهنا الاحتلال الروسي ووجود «النصرة» و«داعش»، وأيضًا التدخلات الخارجية التي يقابلها تدخلات أخطر وأكثر من تلك التدخلات التي شهدتها ولا تزال تشهدها التجربة الأفغانية، ثم وإذا كان نظام بابراك كارمال ولاحقًا نظام محمد نجيب الله لم تكن لأي منهما أي سيطرة فعلية إلا على جزء محدود من البلاد، فإن المعروف أنَّ هذا النظام السوري لا يسيطر عمليًا وفي حقيقة الأمر إلا على «نُتفٍ» صغيرة حتى في دمشق نفسها، وكل هذا وإذا كان القرار هناك في كابل عند القيادة السوفياتية، فإنه ما بات مؤكدًا أن القرار هنا في دمشق إنْ لم يكن في قاعدة «حميميم»، فإنه عند فلاديمير بوتين في العاصمة الروسية.

وهنا، وبينما أن البعض يرى أن الحل الأفغاني المقصود الذي يُطرح كنهاية للأسد ونظامه هو ليس أيًا من كل هذه الحلول والـ«سيناريوهات» المشار إليها آنفًا، وإنما ذلك الحل الذي كان بدأه محمد نجيب الله بعد تسلمه الحكم، قبل أن ينتهي إلى تلك النهاية المأساوية المعروفة، فإن السؤال هو: ألمْ يكن بإمكان الرئيس السوري يا ترى أن يأخذ بهذا في بدايات انفجار ثورة عام 2011، وعندما كان حل تلك العقدة بالأصابع ممكنًا قبل أن تتطور الأمور وأصبح من غير الممكن حلها حتى بالأسنان؟!

وهكذا فالمهم أنه بينما لجأ بشار الأسد لمواجهة مطالب الشعب السوري بالحديد والنار ودفع سوريا دفعًا إلى كل هذه المآسي التي تواجهها الآن، فإن نجيب الله بمجرد وصوله إلى سدة الرئاسة قد رفع راية المصالح الوطنية وأعلن أنه عفا الله عما مضى، وبادر إلى إجراء تعديلات دستورية نصت على أن يكون النظام السياسي تعدديًا، وعلى حرية الرأي ووضع قانون إسلامي لمجلس حاكم على رأسه سلطة قضائية مستقلة، وهذا بالإضافة إلى الإعلان رسميًا عن ضرورة انسحاب القوات السوفياتية من بلاده، وإلى الانفتاح على المعارضة (المعتدلة) ممثلة بالقائد الكبير المعروف أحمد شاه مسعود، والاتفاق معه على تسوية شاملة لإنهاء الحرب الأهلية.. لكن ما لبث أنْ انهار كل شيء بسبب تعنت «المجاهدين» وتشددهم، وبسبب التدخلات الخارجية فكان أنْ سيطرت حركة «طالبان» على الحكم فتم إعدامه، أي نجيب الله، دون أي محاكمة بطريقة بشعة ومرعبة، وبذلك تكون قد انطوت صفحة واعدة في التجربة الأفغانية.. وهذه مسألة من المفترض، بل يجب، أن يتعلم منها بشار الأسد الشيء الكثير، وذلك مع أن أغلب الظن أن مصيره سيكون هو هذا المصير.

اقرأ المزيد
٢٧ أكتوبر ٢٠١٦
رئاسة عون برعاية الأسد ونصرالله

اياً تكن قصيدة الزجل التي سينظمها أنصار ميشال عون للتغني بـ «قدراته» الرئاسية، ومهما تضمنت من مواصفات «استقلالية» فضفاضة تتناسب وعنترياته المعتادة، فإن الرجل لا يعدو كونه «انتقالياً» جاء في مرحلة انتقالية يُرسم خلالها مصير سورية ولبنان معاً بأيدي قوى خارجية، تتقدمها إيران وروسيا، ولن يملك إلا أن ينضوي في المسار الذي ستحدده هذه الأيدي، ويذعن لإرادتها، وينفذ الجزء البسيط المتعلق به في عملية إعادة ترتيب الهلال الشرق أوسطي الجارية بالطائرات والمدافع.

فإيران التي تعتبر نفسها الوصي على النظامين السوري واللبناني، وتشعر بأنها تملك حرية تصرف شبه مطلقة في البلدين، ترى تكاملاً بين العلويين والشيعة، يمتد أيضاً إلى العراق، لا يمكن أن تسمح بفك عراه، حتى لو أدى ذلك إلى تقسيم سورية. وهي لا تنظر إلى لبنان سوى باعتباره «ضلعاً» في «محور المقاومة» يخدم هدف توسيع نفوذها الإقليمي وتكريسه. ويلعب المسيحيون السوريون واللبنانيون في هذا المحور دوراً «فولكلورياً» على غرار النواب الأرمن واليهود في مجلس الشورى الإيراني. ولا يخرج منصب الرئيس اللبناني المسيحي بالنسبة إليها عن هذا الإطار، بما لا يشكل تهديداً للنسيج العابر للحدود، وهي حدود لم تعد قائمة عملياً سوى في الخرائط الرسمية، بعدما خرقتها دمشق أكثر من مرة في اتجاه، وبادلها «حزب الله» خرقها في الاتجاه الآخر.

ولأن سورية أهم بالنسبة إلى طهران التي تؤكد أن نتائج الحرب فيها قد تحدد مصير النظام الإيراني نفسه، فإن عون لن يكون في أفضل الأحوال أكثر من «نائب» لبشار الأسد، معيّن على «ولاية لبنان» التي يديرها من الخلف وكيل «الولي الفقيه» في الضاحية الجنوبية، مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الرئيس الإيراني الذي تخضع صلاحياته وسياساته لرقابة المرشد خامنئي.

ولا بد أن سعد الحريري يدرك هذا الواقع أو بعضه، لكنه على رغم ذلك أقدم على ترشيح عون وقرر دعمه في تحقيق هدفه الدائم بالوصول إلى الرئاسة. وربما هناك من نصحه بالانحناء أمام العاصفة الإيرانية ريثما تخف قوتها وتتغير بعض المعطيات، كي لا يبقى هو ومن يمثل خارج المعادلة الجديدة. أو ربما خشي من أن يكون مصير السنّة في لبنان مماثلاً لمصير نظرائهم في العراق وسورية، حيث القتل والتهجير، واعتقد أنه بتنازله قد يحميهم من اجتياح الحلف غير المقدس القائم بين الخبث الإيراني والبطش الأسدي.

لكن أياً تكن نتائج خطوته «الوقائية»، فإن ما تخطط له إيران أسوأ بكثير مما يظن، ويقوم على استبدال المرجعية العربية في اتفاق الطائف بمرجعيتها هي في «اتفاق» جديد، مكتوب أو غير مكتوب، يطبق تدريجاً ويُحكم قبضتها على لبنان. ولن يكون أمامه بعد اليوم سوى أن يقدم المزيد من التنازلات بعدما مشى الخطوات الأولى في هذا الاتجاه، وهو ما ستثبته مشاورات تأليف الحكومة العتيدة، سواء كلف تشكيلها هو أو غيره، والتي ستكون وظيفتها في أفضل الأحوال تغطية ما تحيكه طهران، وما «يتفاهم» عليه الثنائي نصرالله وعون في شأن أدوار مكوناته.

وإذا اجتاز الحريري «قطوع» تشكيل الحكومة، فستكون يداه مكبلتين بمطالبات عون باستعادة صلاحيات رئاسية منحها اتفاق الطائف إلى رئيس الوزراء السنّي، فيما الشيعة الذين يملكون القدرة على تعطيل دور كل منهما يتفرجون على الكباش، ويلعبون دور الحكم المقرِر. أما الكلام عن «المشاركة» و «التوافق» و «الميثاقية» فسيصبح مجرد ذكرى من الماضي.

اقرأ المزيد
٢٧ أكتوبر ٢٠١٦
في حاس .. “ يلي مضيع ابنه وكان بالمدرسة يروح ع الجامع يدور عليه بين الجثث”

تصر “أم محمد” أن الانسان خطّاء حتى لو كان امام المسجد، تركض في شوارع القرية المعدودة ، تطرق الأبواب التي تعرف ساكينها أو تلك الغريبة عنها، سؤال واحد على شفتيها “محمد عندكم ؟؟” ، و المأذنة تواصل التكرار “ يلي مضيع ابنه وكان بالمدرسة يروح ع الجامع، يدور عليه بين الجثث”.

أصابها الكلل ، وقررت كسر “قاعدة الخطّائين” و ذهبت للمشفى تتفحص أكياس الجثامين الغضة، التي لاتزال تنزف ما بقي منها من دم، و نداؤها المتواصل لابن رحمها “محمد” ، ومع صمتها أيقن الجميع أنها اجتمعت مع من تنشد، بقميصه و بنطاله و بقايا جسد مفتت .

ليس ببعيد ، كان الدكتور خالد الضعيف يعيد في كل محاضرة له أو لقاء بتلاميذه ، أن “المرأة عماد المجتمع” ، واعداً بأن يصرف كل ما يملك لتدريس ابنته، ابنته التي وقف بالأمس فوق الكيس الذي جُمعت أشلاؤها فيه، يلقي نظرة قد تكون الأخيرة و لكنها الصورة الدائمة التي ستحفر في روحه.

“هدى” تلك الطفلة التي كانت سعيدة بنهاية يومها الدراسي، و تهم بوداع رفاق المقاعد، تركض مبتعدة عنهم بهلع، همها الأوحد أن يأتي شيء غريب يمسح من ذاكرتها ما رأته، هذا الشيء لا يعبر عنه إلا بكلمة “بدي أمي”.

اليوم بلدة “حاس” الصغيرة مساحة، و البعيدة عن الأذهان أو حواف الذاكرة ، تقف صامتة فلا صوت للحياة فيها ، و صفير للرياح في مكان خاو، بل هي أشبه بمدينة مقفرة روحاً و قائمة جسداً.

في حاس تلك تم توديع ٢٢ طفلاً و ٦ من مدرسيهم ، دفعة واحدة، قيل أنها “الأكثر دموية” تبعاً لمنظمة الطفولة ، أمر “فظيع” بفعل السفاح مرتكب الفعلة، و لكن في نظر الخاسرين هي “نهاية الحياة” و ابادة حرفية لها ، وإن كان هناك ناجين.

اقرأ المزيد
٢٦ أكتوبر ٢٠١٦
... والحربُ في الموصل تُقرأ بالحربِ في حلب!

إذا أردنا أن نفهم الحرب في الموصل، علينا أن نفهم الحرب في حلب وتلك الحرب في صنعاء. وإذا شئنا الدقّة علينا أن نتجاوز سطح الأحداث وغُبارها إلى ما هو تحت. وهذا مهم في ثقافة مُصابة بالتسطيح وبثنائية الأسود والأبيض و «معي» و «ضدي». فقد رأيت شيوعيين يهتفون لانتصارات الحشد الشعبي في الموصل وحلب. ورأيت قوميين يفعلون الأمر ذاته كأن المعارك معاركهم هم وكأن لا فرق بين شيوعي أو شيعي أو أصولي إلا بالاسم! ورأيت قوماً يُسقطون على هذه وتلك من حروب عقائدهم المندثرة وعُقَدِهم وأمانيهم وإرهاصاتهم وعجزهم. وهو عجز عام تجسّد في هذه الحروب وفي التعاطي معها.

في الموصل - وبحجة وجود «داعش» - وهي حجة - يتمّ إخضاع سُنّة العِراق لشيعته وتصفية نزعة ظاهرة إلى استعادة السنة زمام الأمور على الأقل في جزء من العراق الذي عرفناه. أما الوجود الأميركي أو غيره فهو هناك لالتقاء مصالح مع القوى المسيطرة راهناً في هذا البلد الذي تزيد موارده عن طاقته وعن قُدرته على استثمارها. أما الوجود التركي فهو يعكس، أيضاً، نوعاً آخر من المصالح وفي مقدمها إجهاض مشروع الدولة الكردية المستقلّة أو المستقلّة على نحو ما في شمال العراق تكون متواصلة جغرافياً وبشرياً بالتجمع الكردي في جنوب تركيا وشرقها. وهي تسعى في الوقت ذاته لضمان حصّة في موارد العراق بالضغط العسكري والحضور الفعلي لتعطيل المشاريع الأخرى أو التهديد بنسفها في حال لم تتمّ مراعاة المصالح التُركية. أما إيران - فمهما يكن - ستظلّ صاحبة الحظ المضمون في نسبة عالية للاستفادة من أي تطور ينشأ هناك. ففي كل الأحوال، ستظلّ إيران فاعلة بقوة على أرض العراق وبأدوار متعدّدة في رأسها ضمان حيز جغرافي وسياسي وبشري حليف أو متفاهم يوصلها كدولة ونفوذ وحُلم بأرض سورية ولبنان.

في حلب - يتمّ أمر مشابه مع خصوصيات تتصل بالحالة السورية. هناك، أيضاً، نشهد الجهود الجبارة لقمع ثورة الشعب السوري - وغالبيته سنّية - ضد نظام حكم أقلّوي. وهي ثورة بدأت مدنية سلمية وتحوّلت في مظاهرها وقواها وخطابها، لكنها ظلّت رغم كل شيء تجسّد الرغبة في تبديل نظام أمني قمعي جثم على صدور السوريين والسوريات عقوداً طويلة أطول مما ينبغي. ظلّت تجسّد رغبة في إقامة دولة أكثر عدلاً ومجتمع أكثر مدنيّة ونظام أقلّ شمولية. ولا ضير أن تكون غالبية المنتفضين في 2011 من السنّة. فهذه نتيجة حتمية لعقود من نظام امتيازات الطائفة العلوية وسؤددها. أما حديث العروبة والأمة والبعث فهو غبار قُصد به لسنوات طويلة التستّر على انحياز الدولة لمصالح أقلية - أقليات في فلكها - توجّست من أن تفقد السيطرة. وهنا يحضر «داعش» كفزّاعة وحجّة وأداة.

يتمّ تصوير الفصائل المسلّحة الإسلاموية الخطاب كخطر على العالم بأسره، فنراه يتجنّد بقواه المتنفّذة مع النظام وحلفائه في قصقصة أجنحة المعارضة على فصائلها كافة - السياسية والعسكرية والمدنية والعلمانية والمتدينة. إما بالخذلان أو بالقوة المباشرة أو بحرمانها من منظومات سلاح ودعم عسكري وسواه كان يُمكن أن يحسم الحرب هناك من مدة. وإلا كيف ينتقل النظام من الدفاع إلى الهجوم ومن الانزواء إلى محاصرة الشعب وقواه في أقلّ من سنتين؟ وكيف يكون حرّاً في التجويع والتهجير والتدمير وارتكاب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية؟ أما تركيا فتتدخل هنا أيضاً لضمان مصالحها التكتيكية والاستراتيجية - ضد الثورة أو فصائل فيها أو معها وضد الأكراد أو في اتفاق معهم!

أما صنعاء التي انقلب فيها رأس النظام هناك - علي صالح - على الثورة الشعبية التي أطاحت به بالتحالف مع إيران ووكلائها هناك، أعدائه الطيبين الذين استعملهم سنوات طوال في تأخير الثورة وتطوير النظام والمؤسسات وتوزيع الموارد؟ وهو علي صالح - لمن نسي - الذي قاد حرباً ضد اليمن الجنوبي وصفّاه تماماً باسم فرض الوحدة بين اليمنين ابتداء من العام 1994. وهو - لمن نسي - اليمن ذو الحلم الاشتراكي التقدمي! وعبدالله صالح هذا فتح مناطقه لإيران وللحوثيين الذين شكّلوا قوة ضاربة ضد الثورة المدنية التي فازت بتأييد عربي واسع. بل رأتها إيران فرصة لتحقيق مصالح متعددة ومنها إجهاض الإمكانية ليمن أكثر ديموقراطية أو استقراراً، تعزيز قدرات الحلفاء على شاطئ البحر الأحمر ممثلين بحوثيين وصالح نفسه، والأهم - مشاغلة السعودية في حدودها الجنوبية وإقلاق راحتها وهي الداعمة للثورة الشعبية في سورية.

الحروب إذاً حروب مصالح ومشاريع سياسية إقليمية. لكن علينا أن نتبيّن تلك القوى التي تقف ضد ثورات الشعوب في هذه المناطق وتلك التي دعمتها. صحيح أن للدول الداعمة مصالحها في هذه الثورات أو هذه القوى التي خرجت ضد أنظمة ومشاريع تظلمها، لكن للدول الداعمة للأنظمة الدموية وللاستبداد مصالحها. وهي لا تقف ضد المشاريع الأميركية أو الاستعمارية بل مع هذه المشاريع وتلتقي معها. فالنظام في العراق الآن ليس نظاماً صدّامياً ولا هو نظام سنّي أقلويّ بل هو نظام شيعي بامتياز صنعته أميركا وتحميه وتربّيه على أكفّها كزغاليل الحمام. ليس لأنها تحبّ الشيعة أو إيران فجأة، بل لأنها تريد أن تضمن مصالحها بخاصة تلك التي يحددها مجمع الصناعات النفطية الأميركي - الكوني! وهي موجودة في خليج عدن لتضمن مصالحها هي - ولن يهمها كثيراً إذا كانت هذه المصالح ستُضمن من الرئيس هادي منصور أو علي عبدالله! فالمصلحة الكونية - نظام العولمة - تقتضي أن يبقى مدخل البحر الأحمر الجنوبي مفتوحاً لحركة الملاحة العالمية.

وعليه، إذا شئنا أن نقرأ خارطة الحروب فلنقرأها بعيون الشعوب التي أرادت التغيير والديموقراطية والكرامة ودولة المؤسسات لكنها خُذلت كلياً أو جزئياً بأيدي قوى إقليمية وكونية تريد تثبيت مصالحها التكتيكية والاستراتيجية. علينا أن نكون جريئين ونفكّر خارج النسق المعهود لنعطي الشعوب حقوقها ولو في لغتنا وحساباتنا. أما أن نذهب نحن أيضاً في قراءة الشعوب ومصالحها وفقاً لتوازنات القوى وخارطة المصالح المعادية للشعوب، فهذا يعني أننا سنخطئ بالضرورة وسنظلم. ومن أوجه الظلم الآن مثلاً أن ينشر الناشطون في الميديا أخبار الموصل كأنها انتصارات بينما المجازر على أبواب المدينة و «داعش» حجّتها لا الفاعل بدلالة أن 95 في المئة من التقتيل في سورية - مثلاً - حصلت وتحصل بأيدي النظام والطاغية وحلفائه لا بأيدي «داعش». وهكذا في الموصل - إن قوة التدمير التي يمتلكها مهاجمو المدينة تفوق مليون مرة القوة التي يمتلكها المتمترسون داخل المدينة وفي الخلفية مدّ شيعي مسكون بالتاريخ المفخّخ. فإذا كانت هناك من مؤامرات فهي ضد الشعوب والفئات المستضعفة فيها، أما النظام في سورية وعبدالله صالح والحوثيون والعراق في الراهن وفي هذه اللحظات الدموية فهم رأس الحربة في المؤامرة!

اقرأ المزيد
٢٦ أكتوبر ٢٠١٦
معركة الباب في نظر تركيا والنظام السوري

تسير التطورات العسكرية في محافظة حلب نحو مزيد من التصعيد ضمن مرحلة يمكن تسميتها بكسر العظم قبيل وصول رئيس جديد إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، وما يمكن أن يستتبعه ذلك من تغير في التعاطي الأميركي مع الأزمة السورية.

ولذلك يحشد النظام السوري وحلفاؤه قواتهم لاقتحام مناطق سيطرة المعارضة في الأحياء الشمالية الشرقية للمدينة وفي الأحياء الجنوبية الغربية وامتدادها في الريف الجنوبي الغربي، لا سيما نحو خان طومان ومحيطها.

وتبدو الأيام المقبلة على موعد مع دخول المعارك مرحلة جديدة بعد حصول ثلاثة تطورات:

الأول، فشل اجتماع لوزان، وما يعنيه ذلك من فشل روسي في تحصيل اتفاق أو هدنة تتوافق مع مصالح النظام.

الثاني، نجاح عملية «درع الفرات» في قضم مزيد من الأراضي لمصلحة فصائل «الجيش الحر» ومن ثم اقترابها نحو إطلاق معركة مدينة الباب.

ويبدو أن وصول عملية «درع الفرات» إلى هذه المرحلة قد استفز الأكراد بقدر ما استفز النظام الذي أعلن للمرة الأولى منذ بدء العملية أنه سيتعامل مع القوات التركية كقوات احتلال.

والغريب أن النظام لم يطلق مثل هذا التصريح منذ بدء عملية «درع الفرات» قبل نحو شهرين، لكن سيطرة فصائل «الجيش الحر» على دابق ثم التوجه غرباً نحو تل رفعت على غير ما هو متوقع، ثم إعلان الرئيس التركي أن بلاده مصرة على التوجه نحو الباب، تدل على أن النظام بدأ يشعر بتهديد حقيقي من العملية التركية التي إذا وصلت إلى الباب فإنها ستكون على تماس مباشر معه.

الثالث، معركة الموصل وتصريحات وزير الدفاع الأميركي عن ضرورة عزل تنظيم «داعش» في مدينة الرقة.

ولا تفضل روسيا والنظام وإيران انطلاق معركة الرقة من جانب حلفاء الولايات المتحدة، خصوصاً الأتراك و «الجيش الحر» وبعض القوى العربية داخل محافظة الرقة، لأن من شأن ذلك أن يمنح الأتراك سيطرة تامة على ضفتي الفرات، أي على شريط حدودي يمتد من أعزاز غرباً إلى تل أبيض شرقاً، وهي مسافة كبيرة جداً.

وفقاً لذلك، تتسارع خطوات الأطراف المتقاتلة، فبالنسبة إلى تركيا، الأولوية الآن هي لإكمال السيطرة على مدينة الباب، أو على الأقل السيطرة على محيطها الشمالي، قبل الضغط على منبج لدفع الأكراد إلى مغادرتها، وبالتالي إنهاء الترابط الجغرافي الكردي ليس فقط بين شرق الفرات وغربه، وإنما أيضاً تقطيع التواصل الجغرافي للأكراد في غرب الفرات وحصرهم في أقصى الغرب نحو عفرين وأجزاء من مدينة حلب.

أما بالنسبة إلى النظام وإيران وروسيا، فالأولوية الآن لمدينة حلب عبر خطين، الأول السيطرة على الأحياء الشمالية الشرقية للمدينة، والثاني قطع أي تواصل بين مدخل المدينة من الناحية الجنوبية الغربية والريف الجنوبي الغربي، أي منع أي تواصل للمعارضة في هذا الريف مع المدينة.

ولذلك شن النظام هجوماً على كتيبة الدفاع الجوي في ريف المدينة الجنوبي لخلق أسفين جغرافي بين المدينة والريف مع التحضيرات التي تجريها «جبهة فتح الشام» والفصائل الأخرى لشن هجوم على المدينة من الريف الجنوبي الغربي.

ولن تكون بلدة خان طومان بعيدة عن سيناريو المعارك بين الطرفين لما تشكله من أهمية كبيرة في معادلة الصراع في هذه المنطقة، فالبلدة تتمتع بموقع جغرافي هام كونها البوابة الجنوبية لمدينة حلب، وقربها من الأوتوستراد الدولي بين دمشق وحلب، فضلاً عن طبيعتها الجبلية.

أما الأولوية الثانية للنظام، فهي الحيلولة دون سيطرة فصائل «الجيش الحر» المدعومة من تركيا على مدينة الباب، ذلك أن السيطرة على الباب تعني وفق القاموس العسكري للنظام أن أنقرة ستكون مهيمنة على كامل الريف الشمالي والشمالي الشرقي لحلب.

وليس مفاجئاً أن التعزيزات العسكرية للنظام المرسلة إلى حلب كبيرة جداً، وبعضها جاء من مناطق بعيدة، مثل القلمون وحمص، وهي تتجه نحو موضعين هما الراموسة جنوب مدينة حلب، ومطار كويرس في الريف الشرقي لحلب.

المنطقة الأولى من أجل إحكام السيطرة على المنفذ الجنوبي لمدينة حلب قبيل الانتقال إلى مرحلة توسيع النطاق الجغرافي لقوات النظام في الريف، والمنطقة الثانية من أجل إطلاق معركة الباب قبل الأتراك.

لكن المشكلة التي يواجهها النظام في مدينة الباب هي ذاتها التي يواجهها الأتراك وفصائل «الجيش الحر»، وهي أن كلا الطرفين لا يملك القوة العسكرية الكافية للسيطرة عليها، فالمدينة تشكل الرقم الأصعب للتنظيم في عموم المحافظة، فهي عبارة عن قلعة متينة بسبب مساحتها ووزنها الديمغرافي، وبسبب الترتيبات الدفاعية التي جهزها التنظيم في المدينة منذ نحو عامين.

النظام ليس لديه هو وحلفاؤه العديد البشري والعسكري الكافي لإطلاق معركتين كبيرتين ومتزامنتين في حلب والباب، والأتراك لن يكون في مقدورهم تأمين الغطاء المدفعي للفصائل أثناء معركة الباب بسبب بعدها الجغرافي، في حين لا يمتلك «الجيش الحر» القوة البشرية والعسكرية وحده لدخول مثل هذه المعركة.

أما «قوات سورية الديموقراطية»، فقد أصبحت خارج معادلة معركة الباب بعد توسيع «درع الفرات» لمساحة سيطرتها الجغرافية في الريف الشمالي، بالتالي لم يعد للأكراد أي منفذ نحو الباب.

وعليه يمكن القول إن المشهد العسكري المقبل سواء في مدينة حلب أو في مدينة الباب لا يزال غير واضح بسبب تعقيدات التداخلات الإقليمية الدولية الحادة وتعقيدات موازين القوى المحلية وتداخلاتها.

اقرأ المزيد
٢٦ أكتوبر ٢٠١٦
نحن الأرقام... من حلب إلى الموصل

نكتة سوداء أن يتقاسم وزيرا الخارجية الأميركي جون كيري والإيراني محمد جواد ظريف جائزة «تشاتام هاوس» الديبلوماسية، عن دوريهما في إبرام الاتفاق النووي الإيراني، فيما الأميركي يكتفي بدموع باردة يذرفها على السوريين ضحايا الجحيم الروسي- الإيراني.

نكتة مبتذلة أن تعرض طهران التوسُّط بين بغداد التي تقاتل «داعش» في معركة الموصل، وأنقرة التي تصرّ على دور في محاربة التنظيم في شمال العراق، ومطاردة «إرهابيي» حزب العمال الكردستاني. فالأتراك يدركون أن إيران هي الحاكم الفعلي للعراق، بغطاء أميركي، وإصرار حكومة حيدر العبادي على استبعاد أي دور لأنقرة في معركة تحرير الموصل، يعكس رغبة إيرانية في التصدّي لسعي الرئيس رجب طيب أردوغان إلى تكريس نفوذ إقليمي لبلاده، في انتظار مرحلة التسويات الكبرى لملفّي العراق وسورية... وربما تغيير الخرائط.

وإذا كان التراشق العراقي- التركي بالاتهامات ولغة «الاستفزاز»، مرشّحاً لفصل آخر من التصعيد، نتيجة إصرار أنقرة على ما تراه «حقاً مشروعاً» في الدفاع عن النفس وراء الحدود، فاللافت هو توسيع حملة إعلامية تركّز على «الحقوق التاريخية» لتركيا في أراضٍ في الإقليم، ووثائق تتناول خطاً من حلب إلى كركوك فالموصل.

لم يرَ أردوغان ما يحول دون تبديل عقيدة الأمن القومي لتركيا، مثلما بدّل قيصر روسيا فلاديمير بوتين عقيدة الجيش الروسي الذي بات يعتبر سورية والسوريين حقل تجارب، لاختبار أسلحته الجديدة. وَضَعَ الرئيس التركي خطّين للأمن القومي خارج الحدود، أحدهما من حلب إلى الموصل وكابول، والثاني ينتهي في الصومال... أصرّ على «منطقة آمنة» في سورية، ويصرّ على منطقة «عازلة» في شمال العراق.

وبعيداً من جبهتي الحرب في سورية وفي العراق، وبعيداً من الفظائع التي يرتكبها «داعش»، قد يبدو «المشروع» أو الحلم التركي محاولة استباقية قبل أن تستقر الهيمنة الإيرانية ضمن خطوط جغرافيا توسُّع «الهلال الشيعي» وتشرّعه، وهذه المرة برضا روسي وتغاضٍ من الغرب الذي لا يريد أن يدفع ثمن العجز الأميركي عن لجم شهية روسيا وإيران.

لا يضير واشنطن في عهد الإدارة الأميركية الجديدة، أن يتفاقم صراع النفوذ التركي- الإيراني، ولا أزمة الثقة مع أردوغان، ولا تمديد دور المتفرّج على «استنزاف» الروس في الحرب السورية. فبين بوتين وتحقيق «الانتصار» هناك بدءاً من حلب، فصول من الدماء والدمار، فيما الخمول الأميركي يشجع القيصر على التمسُّك برهانه على الحل العسكري مع كل المعارضين للنظام في دمشق.

آخر مشاهد فضيحة الدعم الأميركي للمعارضة السورية «المعتدلة»، ما سرّبته صحيفة «واشنطن بوست» من توضيحات للنهج الحالي للإدارة، الذي يركّز على إحالة ملف تسليح تلك المعارضة على خَلَف الرئيس باراك أوباما. وتلك نكتة، لأن الرئيس المتردّد المتلعثم بأهدافه «الإنسانية» الكبرى، لن يُقدِم في أيامه الأخيرة على «مغامرة» وقف المجزرة، بعدما تفرّج عليها طويلاً. وأما الفضيحة الجديدة فهي تشديد مسؤولين أميركيين على أهمية فحصٍ جديد للنيات، يخضع له مقاتلو المعارضة «المعتدلة»، للتحقُّق مما إذا كانوا لا يزالون معتدلين!

وللمرة المئة، يتبيّن التطابق الروسي- الأميركي أو توافق المصالح على تدمير تلك المعارضة، فلا يبقى سوى إمعان واشنطن في التفرُّج على «جرائم حرب» اتّهمت الروس بها... فردّوا بالتهمة ذاتها لقصف التحالف الدولي مواقع في الموصل.

وإذ يبدو ما يرتكبه الروس في حلب إبادة، بذريعة استئصال «الإرهابيين»، لا يبقى بينها وبين إبادة «الدواعش» مدنيين في سورية والعراق، أي خيط رفيع.

بين مدن القتل وبلدات المشرّدين والنازحين ونعوش الأطفال التي لا تصفع وجداناً لدى الأميركيين والروس، الكل مُدان بالجريمة الكبرى، مُدان بتفريخ «داعش»، بعد سنوات طويلة من استخدام الإرهاب سلاحاً «سرّياً» في الصراعات الإقليمية والدولية، ومُدان بتدمير قدرات العرب.

وحدة العراق وسورية تحقّقت، بنكبات الإرهاب بعد الاستبداد، وأما العرب فليسوا لدى الأميركيين والروس سوى أرقام في المذبحة.

اقرأ المزيد
٢٦ أكتوبر ٢٠١٦
الصراع السوري من جنيف إلى لوزان

هل تزيح توافقات لقاء لوزان في 15 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري مقرّرات بيان جنيف، بحيث تصبح بمثابة المرجعية الجديدة لحل الصراع السوري؟ الفارق بين هذه وتلك، أنه في جنيف كان الطرفان المتصارعان، أي النظام والمعارضة، يتفاوضان وجهاً لوجه، بغضّ النظر عن جدّية هذه العملية أو رأينا فيها، أما في لوزان، فقد أضحينا أمام مشهدٍ مختلف تماماً، إذ اختفى، أو أزيح، الطرفان المعنيّان، وأصبحت الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة، والموجودة على الأرض، تتفاوض مع بعضها مباشرة، بدلاً من أدواتها، لأول مرة منذ بداية الصراع السوري، وهذا ما توفّر بجلوس كل من وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا، مع وزراء خارجية إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية وقطر ومصر والأردن والعراق، وفي غياب الدول الأوروبية (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا).

هذه نقلة كبيرة في مسار الصراع السوري، على الرغم من معرفتنا أن القضية السورية خرجت من أيدي السوريين، نظاما ومعارضة، منذ زمن، إذ أضحى الأمر، هذه المرة، بيد الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وتوابعهما، من الناحية العملية وعلى المكشوف، كأن أصحاب القضية باتوا مجرد أدواتٍ تنفيذية لهم، وذلك نتيجة هيمنة القوى الخارجية على الطرفين المتصارعين، لتغدو هذه القوى كأنها العامل الداخلي، نتيجة ارتهان النظام لحليفيه الإيراني ثم الروسي، ونتيجة اعتمادية فصائل المعارضة على القوى الخارجية.

على ذلك، هل تحلّ توافقات لوزان محل مقرّرات جنيف، أو مفاوضات لوزان غير المعلنة محل مفاوضات جنيف العلنية؟ في الإجابة على تساؤلٍ كهذا، ربما يمكن القول بإمكان حصول ذلك، بحسب ما تفيد مجمل التسريبات والوقائع، إذ هذه المرة ثمّة توافقاتٌ يجري ترجمتها من الناحية الفعلية على الأرض، وعلى جبهات القتال، وفي الفصل بين المتحاربين، وفرض خطوط تماس، إضافة إلى حديثٍ عن العودة إلى مسار تفاوضي، لكن على أساس الاتفاق الأميركي الروسي الذي جرى في 9 سبتمبر/ أيلول الماضي، وثمة خبراء روس وأميركيون يجتمعون بشكل منتظم في جنيف، في ما يشبه ورشة عمل جماعية، مع خرائط وتفصيلات، بل ومع توجيهات وأوامر للنظام والمعارضة.

ما كان يمكن الوصول إلى هذا الوضع، لولا إخفاق المجتمع الدولي، ممثلاً بمجلس الأمن الدولي، في فرض صيغةٍ لاتفاق ما يضمن وقف إطلاق النار، ووقف القصف الجوي وتأمين المساعدات الإغاثية للمناطق المحاصرة، واستئناف عملية جنيف؛ هذا أولاً. ثانياً، يبدو أن إطلاق عملية لوزان تم برغبة روسيا، لتأمين ما يشبه سلّماً للنزول لها، بعد أن شعرت موسكو بعزلتها في مجلس الأمن الدولي، وبعد أن تبيّن أن لعبها بالورقة السورية لن يجدي نفعاً في دفع الغرب إلى تقديم تنازلات لها في الملفات الأخرى (أوكرانيا، الدرع الصاروخي، رفع أسعار النفط، رفع الحظر التكنولوجي). ثالثا، تحاول روسيا، ومعها الولايات المتحدة، فتح مسارٍ يجمعها وروسيا بالدول الأخرى التي تعتبر منخرطةً بالصراع السوري، ولا سيما إيران وتركيا والسعودية وقطر والأردن، مع استبعاد الدول الأوروبية التي بات موقفها ينحو نحو التشدّد وفرض مزيد من العقوبات على روسيا بدلاً من رفعها؛ وهذا ما تمخضت عنه قمة الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والفرنسي فرانسوا هولاند ومستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل في برلين أخيراً.

بالنسبة للمعارضة السورية، من الواضح أنها تفتقد للخيارات المناسبة، السياسية أو العسكرية، لمواجهة الحل المطروح، بمعنى أنها غير مخيّرة، وليس لها إلا القبول، بحكم اعتماديتها على الدعم الخارجي، وأيضاً بسبب تشتّت قدراتها وفصائليتها وتعدّد مرجعياتها، وضعف إمكاناتها، وأخيراً بسبب الكارثة المحدقة بالسوريين، في ظل واقع اللجوء والحصار والتشرد.

يستنتج من ذلك أنه لا يوجد لدينا في الساحة الآن سوى الاتفاق الأميركي ـ الروسي، وعملية لوزان، بغض النظر عن رأينا في هذا وذاك، ولا يوجد لدينا، ولو مضطرين، إلا الوصفة الأميركية للحل السياسي القائمة على الحفاظ على رسم خطوط فصل بين الأطراف المتحاربة في سورية، وإنهاء القصف الجوي (من روسيا والنظام) وإغاثة المناطق المحاصرة، والتوجه نحو محاربة الإرهاب (داعش وجبهة النصرة)، ثم الانتقال إلى عمليةٍ سياسيةٍ لا تتطرّق إلى مصير الأسد، أو لا تشترط رحيله، في المرحلة الانتقالية، مع إقامة حكومة انتقالية بالتفويض بصلاحيات غير واضحة حتى الآن، بالشراكة بين النظام والمعارضة.

هذه هي الوصفة الأميركية للحل، ولا يبدو أن ثمة قدرة لأحد على مقاومتها، لا من النظام ولا من المعارضة، بل إن جلب الأطراف المعنية (تركيا وإيران وقطر والسعودية) إلى لوزان كان بهدف وضع هذه الدول أمام مسؤولياتها (إلى جانب روسيا)، كي تأتي الخطوة التالية، وهي جلب الفصائل السورية المقاتلة، لتضع توقيعاتها على هذه الوصفة، وإلا اعتبرت ضمن الجماعات الإرهابية، وجرت مقاتلتها.

عموماً، تم التمهيد لذلك، بإعلان تركيا والمملكة العربية السعودية باعتبار جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقا) تنظيماً إرهابياً حسب السعودية، ويجب أن تخرج من حلب حسب تركيا، ودعوة الفصائل العسكرية إلى فصل مواقعها عن تلك الجبهة، والتحريض على التبرؤ منها، وإخراجها إلى إدلب، وتبدو قطر ملتزمة بهذا التوجه بحضورها اجتماع لوزان.

لعل هذا كله يؤكد أننا إزاء مسارٍ جديد في مسيرة الصراع السوري على مختلف الأصعدة، أي على صعيد مواقف الدول الكبرى، الولايات المتحدة وروسيا، ومواقف الدول الإقليمية المشاركة في الصراع (إيران وتركيا والسعودية وقطر)، كما على صعيد الموقف من جبهة النصرة، ولا سيما أن هذه لا تعتبر نفسها محسوبةً على الثورة السورية، بل إنها تناهض أهدافها، وحتى إنها لعبت دوراً رئيساً في إزاحة الجيش الحر من المشهد، بل وسهّلت استعداءها برفضها التخلي عن منهجها المرتبط بالقاعدة.

قد يشمل التغير الحاصل في مشهد الصراع السوري أيضاً تجميد قواعد الاشتباك السائدة، والدخول في عمليةٍ سياسية، وما يرجح ذلك تصاعد التبرم الأوروبي من روسيا، والتغير الآتي في الإدارة الأميركية، ووصول الأطراف المتصارعة في سورية إلى مرحلةٍ كبيرةٍ من الإنهاك والاستنزاف.

في كل الأحوال، نحن أمام واقعٍ يلغي تماماً النظام كرأي مستقل، ويضيق خيارات المعارضة، حتى لتغدو صفراً، إذ لا خيارات بديلة، أو أنها غير قادرة على اجتراح خياراتٍ بديلةٍ، في حال بقيت تدور في واقعها الحالي، بعيداً عن متابعة خطواتها الإصلاحية التي أعلنت عنها، بدءاً من إنهاء حالة الفصلنة العسكرية، مرورا بتوسيع دائرة التمثيل والمشاركة بصناعة القرار السياسي.

اقرأ المزيد
٢٥ أكتوبر ٢٠١٦
عن التبشير بانتصار إيران في الموصل وحلب

كرّر كتاب صحافيون عرب قريبون من إيران خلال الشهرين الماضيين مقولة إن سقوط الموصل على يد ميليشيات «الحشد الشعبي» المدعومة بالقوّة الجوّية الأمريكية (تحت إطار «التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية») وسقوط حلب على يد جيش النظام السوري والميليشيات اللبنانية والعراقية الموالية له مدعوما بالقوة الجوّية والصاروخية الروسية سيصبّان في صالح إيران.

تجد هذه المقولة مصداقيّة لها في السيطرة الإيرانية الهائلة على مقدّرات الوضع العراقي، وتشي التحرّكات الأخيرة التي تجريها طهران، من خلال رعايتها مصالحات بين أطراف القوى الشيعيّة، بدءاً من لقاء بين مقتدى الصدر، الزعيم ذي الشعبية الكبيرة، مع قادة ميليشيات «الحشد الشعبي»، وما تبعه من تمهيد للقاء آخر بين الصدر وخصمه اللدود نوري المالكي، صاحب الألقاب العديدة: نائب رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء السابق، ورئيس «ائتلاف دولة القانون»، وصاحب النفوذ المستمر في «حزب الدعوة» (الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي) والذي جمع خلال رئاسته للوزراء نفوذاً كبيراً في السلطات التنفيذية والقضائية وكذلك ضمن «الحشد الشعبي» نفسه. بل إن المالكي قام الأحد الماضي (في مؤتمر «إسلاميّ» برعاية إيران في بغداد، بالربط المذكور بين معركتي الموصل وحلب (وأضاف إليهما الحرب في اليمن)، فيما سارع قائد «فيلق بدر» في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني بالحضور إلى جبهة عمليات الموصل (وقبلها كان موجوداً في حلب).

تحضر إيران في عناصر المشهد السوري من خلال «حزب الله» اللبناني، وميليشيات «النجباء» و»عصائب الحق» ولواء أبو الفضل العباس» العراقية، وكذلك لواء «فاطميون» الأفغاني وغيرها الكثير، ولكن هذه التنظيمات جميعها، ورغم تبعيتها المباشرة لإيران، وتحوّلها في أحيان كثيرة إلى ما يشبه الدولة من خلال امتلاكها شبكة ماليّة وعسكرية (وحتى سجوناً خاصة بها)، فإنها لا تملك وضعيّة سياسية (أحزاب سياسية وبرلمان) تتطابق مع نفوذها العسكري، كما هو الحال في العراق، واذا كانت السيطرة على شرق حلب – لو تمّت – ستصبّ في خانة محور النظام السوري ـ إيران ـ روسيا، لكنّ حسابات الغنائم السياسية والعسكرية لن تكون بالتأكيد ربحاً خالصاً لإيران، كما يفترض محازبوها وأنصارها.

تتجاوز مقولة «انتصارات إيران» في العراق وسوريا (واليمن ولبنان) فوارق وازنة ليس بين الوضعين العراقي والسوري فحسب بل ضمن الساحتين نفسيهما، وهي فوارق إشكاليّة فالسيطرة الجوّية في العراق هي لأمريكا، وعلى الأرض توجد قوّات إقليم كردستان «البيشمركه»، كما تحضر القاعدة التركيّة في بعشيقة والمسلحين العراقيين الذين دربتهم، بالمقابل، فالسيطرة الجوية في سوريا هي لروسيا، فيما تتواجد أيضاً قوات كرديّة تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (لا تنفكّ تتراجع أمام التدخّل العسكري التركيّ الكبير).

يضاف إلى هذه الفوارق أن ما يجمع القوى المحلّية والإقليمية والعالمية المتنازعة في الموصل هو العداء لتنظيم «الدولة الإسلامية» أما في شرق حلب فلا وجود لهذا التنظيم وهو ما تم تعويضه بحجة الوجود (الضئيل أصلاً) لـ»جبهة فتح الشام» («جبهة النصرة» التي غيّرت اسمها وأعلنت انفكاكها عن «القاعدة»)، وهي حجّة لا يمكن أن تبرّر استخدام منهجية تدمير روسيا لمدينة غروزني الشيشانية في حلب.

تفضح معادلة الموصل – حلب لدى نوري المالكي و»حزب الله» ومحازبي إيران العرب انتهازية فظيعة في تهافتها وجمعها للأضداد، فإذا كانت الموصل مثل حلب، و»داعش» مثل الفصائل المعارضة للنظام السوري، وروسيا مثل أمريكا، وكل الحجج والوسائل الطائفية والوحشيّة عسكرياً تبرّر تسييد إيران على المنطقة فما معنى استخدام سرديّات المقاومة والممانعة ومحاربة الإرهاب والتكفيريين إذا كان كل ذلك يتمّ بالتعاون (وأحيانا بالعمالة) لروسيا وأمريكا؟

اقرأ المزيد
٢٥ أكتوبر ٢٠١٦
لماذا حلب .. لماذا تعز؟

شكل تركيز نظام الأسد الدموي على حلب، كما هو الحال في اليمن في استهداف المخلوع ومن ورائه الحوثيين مدينة تعز، لغزًا في تحول بعض المدن في الدول إلى نقطة فاصلة في انهيار الدولة وأفولها، حيث يسقط النظامان البعثي والحزبي في سوريا واليمن ليس بتحرير صنعاء أو دمشق بل بسقوط حلب وتعز لأسباب تتصل بالتاريخ والجغرافيا وطبيعة الكتل الثقافية والسياسية، إضافة إلى التركيبة السكانية، وهي عوامل تلغي محددات الأقلية والأكثرية التي باتت موضة الغرب في قراءة ملفات المنطقة السياسية.

وإذا كان الغرب بدا مضطربًا في فهم تاريخ المنطقة الحديث وتشكلات القوى الفاعلة فيه، فإنه أكثر ارتباكًا في فهم جغرافيا المنطقة ومناطق ثقلها السياسي باعتبار وجود مدن مفارقة لجغرافيتها، لأنها تختزل قوة الأنظمة القمعية بسبب تراكم العمل الحزبي من جهة كما في تعز، أو بسبب تضخم كتلة المعارضة والممانعة لانفراد النظام بالسلطة المطلقة كما في حلب.

حين نجح حلفاء الأسد في دفعه لقطع الطريق على حلب، تحول مسار الأزمة السورية بالكامل في وقت كان الجميع يعتقد جازمًا أن أيام النظام باتت معدودة قبل أن تدخل روسيا على الخط لتعزز قراءة الأنظمة الشمولية لمناطقها بعيدًا عن التعميمات والترسيمات الغربية الفضفاضة، فأصبح سقوط حلب بوابة لقطع الطريق على طول الحدود التركية السورية، وهو ما يعني قطع شريان الإمداد وتراجع قوة المعارضة السورية في المدينة ودفع كل المناطق الأخرى للتحالف مع
نظام الأسد على طريقة فرض الأمر الواقع، وهو ما دفع قوات النظام محمولة بمقاتلي الميليشيات الشيعية إلى ملاحقة المقاومة السورية في مناطق الريف وإهمال وجود تنظيم «داعش» على الشريط الحدودي الضيق بين تركيا وحلب «أعزاز»، وكانت العلامة الفارقة في الحضور السوري هي تجاهل الأكراد أيضًا في هدفهم لإيجاد صيغة استقلال ولو جزئية، لأن النظام يدرك أن حملاً كهذا يمكن أن تنوء به تركيا إردوغان، وهو ما يفسر خروج تركيا من المشهد السوري بطريقة مثيرة للتساؤل ودخولها في معركة الموصل بشكل فعّال وقوي بل وباشتراطات تصل إلى حد التلويح بالتصعيد ضد الحكومة العراقية، وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة تجاه كل الدول المتداخلة عسكريًا في المستنقع السوري عن أهدافها الحقيقية، التي ربما كانت نصرة الشعب وإنهاء الأزمة مجرد شعارات تستبطن مصالحها الخاصة، وهذا متفهم في عالم السياسة لكن بطريقة زادت من تعقيد الأزمة وأصبحنا في مقامرة عسكرية تتبدل معادلاتها مع تبدل الظروف على الأرض من تقدم النظام أو المعارضة.

أهداف روسيا في سوريا واضحة حتى وإن بدت غير معلنة، وهي إبقاء النظام على قيد الحياة ولو في حال شلل سريري لا يتجاوز المنطقة العلوية الساحلية، وهو ما يفسر نشر قواتها اللوجستية هناك وطرد المقاومة من المدن الكبرى وإرجاعهم إلى مربع الثوار الريفيين الذين يهددون مصلحة البلاد والسيطرة على الإمدادات الخارجية، بحسب فابريس بالونش الذي كتب دراسة مهمة عن استهداف حلب باعتبارها رقعة الشطرنج السورية، مضيفًا أن أهداف روسيا تحققت بفعل هذه الاستراتيجية لتجزئة جغرافيا سوريا والتعامل مع كل منطقة بحسب أهميتها الجغرافية، حيث لم تقع أي مدينة كبرى منذ التدخل الروسي تحت سيطرة المقاومة، كما أن الغطاء الجوي وميليشيات المقاتلين الشيعة عوضت هشاشة جيش نظام الأسد الذي يبدو أنه في أسوأ حالاته.

وكما هو حال نظام الأسد يبدو نظام المخلوع علي صالح ومن ورائه ميليشيا الحوثي على نفس خطى الأسد، كما كتبت سابقًا، ليس في اختزال الدولة في حزبه ونظامه بل وفي اللعب على عامل الوقت أكبر فترة ممكنة وانتهاك كل المواثيق والمعاهدات وخرق إيقاف الحرب، لعلمه أنه لا يملك أوراقًا تفاوضية بعد أن تحررت أكثر من 80٪ من البلاد، لكنه يملك ورقة مفصلية وهي «تعز» بما تحمله من عمق سابق لحزبه السياسي وللكتل السياسية الفاعلة في اليمن، ولإدراك النظامين أن العالم بمؤسساته ودوله الكبرى بدأ يشعر بالملل من هذا الجزء من العالم ويسعى الجميع لخلق تسويات سريعة قد تساهم في تضخم نظام الأسد وصالح احقًا في حال بقاء حالة اللاحسم لفترة طويلة، فالنظامان ليس لديهما ما يخسرانه، وهما يدركان أن الوقت مبكر للوصول إلى حالة الاختناق للدوائر الضيقة المحيطة بهما وإن ذهب معظم الشعب إلى جحيم الموت والفقر والأمراض، ففي النهاية يمكن تحويل هذه الكوارث إلى أوراق تفاوضية بالضغط على الجماعات الحقوقية أو الدول الكبرى التي تحاول معالجة العرض وإهمال المسبب في ظل حالة الهلع من التنظيمات الإرهابية، وهو هلع مشروع ومبرر، لكنه غير كاف لاستبدال إرهاب الدولة والميليشيات المسلحة الموالية لها بإرهاب التنظيمات.

وإذا كان الأمر بدا معقدًا في حلب فإنه أكثر وضوحًا في تعز اليمنية، فكل الثورات اليمنية منذ سقوط الإمامة مرّت بهذه المدينة، كما أن التركيبة السياسية لها يمكن أن تشكل النواة الأكبر لأي حكومة مقبلة بفضل تاريخ الممارسة السياسية، كما أن منسوب المواطنة بعيد عن شكلانية حزب المؤتمر بقواعده القبلية في الشمال أو بارتباكه في جنوب اليمن وعدن، عطفًا على تداخل حركات ما قبل الوحدة وما بعدها وعدم وجود هويّة تسع اليمن كاملاً بعيدًا عن نوستالجيا الجنوب المنفصل الذي ربما كان حلاً سهلاً لكنه سيزيد من تعقيد باقي المناطق في حال اللجوء له مع اليأس من تطور الحالة السياسية اليمنية.

مدينة تعز هي بوابة تحرير اليمن، ولذا يمكن فهم هذا التحالف بين نظام المخلوع وجماعة الحوثي؛ الأول في استثمار قوته الحزبية سابقًا في المدينة، والثاني في محاولة الوصول إلى شريان اليمن السياسي الذي إذا تمكن من السيطرة عليه قاده إلى تعميم انتشاره بقوة السلاح في باقي المناطق.

ورغم بقاء صنعاء كل هذا الوقت في يد المخلوع والحوثي ليس بسبب سهولة السيطرة العسكرية على المدينة بل لسهولة الحشد القبلي والسياسي والمناطقي لما يسمى «أهل مطلع» باعتبار أنها معركتهم الوجودية، فإن هذا لن يكون كافيًا أبدًا حتى للتفاوض على أي صيغة سياسية في ظل بقاء تعز صامدة ومستقلة كما هو الحال في حلب الشهباء.. هكذا قدر مدن شكلها التاريخ لتصبح عواصم تختزل قوة الدولة «قيامًا وحطامًا».

اقرأ المزيد
٢٥ أكتوبر ٢٠١٦
روسيا تظهر الرأفة

في اجتماع لندن بشأن سورية، مباشرة بعد اجتماع لوزان الفاشل، حضّ (مفردة الخبر الذي نقلته وكالات الأنباء العربية) وزير الخارجية البريطاني، لوريس جونسون، روسيا على إظهار الرأفة في حلب. وكانت هذه العبارة المفارقة الأكثر طرافةً في الاجتماع، وإن كان هناك عبارات أخرى نافستها، فما كشفه وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، عن توجهات الولايات المتحدة تجاه الأزمة السورية مثير للاهتمام أيضاً، فهو قال حرفياً: "لم يستبعد الرئيس أوباما أي خيارٍ للرد على روسيا في سورية، مع التأكيد أنه لا يوجد خيار عسكري).

وقد قام الاجتماع بحد ذاته على فرضيةٍ ظريفة، حيث دعت الولايات المتحدة حلفاءها ممن لم يشاركوا في اجتماع لوزان، لتطلعهم على ما جرى في الاجتماع، وتتشاور معهم في الأفكار الجديدة التي طرحت فيه، والتي تهدف إلى إنهاء الحرب السورية. وكان اجتماع لوزان، بحد ذاته، "فرصة لتبادل الأفكار" بين أطرافٍ تملك جميعها قوة عسكرية على الأرض السورية، أو تدعم بشكل مباشر قوىً أخرى ترتبط بها. وخرج الاجتماع بنتائج أقل قليلاً مما يمكن أن يكتبه أي شاب سوري على "فيسبوك". أي أنه اجتماع أفكار، والأفكار أكثر ما يحتاجه اليوم ملايين السوريين القابعين تحت الحصار في حلب، وغيرها من المدن السورية. تقصفهم الطائرات من فوق، وتنخسف الأرض تحتهم من تحت، ويحيط الدمار بهم من كل مكان، وينهش الجوع أمعاءهم. وبالتالي، هم يملكون كل شيء، وتنقصهم الأفكار فقط.

وينقصهم أيضاً أن يؤكد وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أن "تدمير روسيا حلب في شكل كامل، على طريقة غروزني، لن ينهي الحرب السورية"، فهم لم يكونوا يعرفون هذه المعلومة، وكانوا يعتقدون أن تدمير حلب على طريقة غروزني سينهي الحرب في سورية، حتى أن السوريين كانوا يستيقظون، في الصباح الباكر، ليدعوا الله أن تدمر روسيا حلب على طريقة غروزني، ظناً منه أن الحرب ستنتهي، وسيعودون إلى منازلهم، ويعود المفقودون والمهجّرون، لذلك، أردفها كيري بوعد لأهالي حلب بأنه ونظيره البريطاني، جونسون، سيواصلان إيصال رسالةٍ إلى موسكو بضرورة وقف النار الفوري، ووقف قصف حلب، ومع الإصرار والاستمرار بإرسال الرسائل، عبر كل وسائط التواصل، يبدو أن روسيا قد أذعنت واستجابت. وبعد جهدٍ جهيد، قرّرت أن تعلن وقفاً لإطلاق النار ثماني ساعات كاملة، وكأنها تريد أن تقول للعالم: رأفة هذه أم ليست رأفة (يا متعلمين يا بتوع المدارس)؟

وبعد أخذ ورد وشدٍّ وجذب، تصريحات وتصريحات مضادة، قرّرت تمديد الهدنة ثلاث ساعات إضافية، فيما يعتبر أكثر بكثير من الرأفة التي طلبها الوزير البريطاني. وفي الوقت نفسه، كانت الخارجية الروسية تذكّر بشروطها لتواصل تقديم "الرأفة"، وتؤكد أنه لكي ينجح اتفاق أميركي - روسي لوقف النار "يجب فصل المعارضة السورية المعتدلة عن جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً) وغيرها من الجماعات الإرهابية التابعة لها".

بعد اجتماع لندن الملحق باجتماع لوزان، بدأ الكلام عن اجتماع برلين الذي لا يقل أهميةً وعمقاً عن سابقيه، وهو أيضاً اجتماع أفكار من تلك الاجتماعات الكثيرة التي تتداول الأفكار، فيما تمرّ أهم الأفكار من فوق رؤوس الناس المقيمين في حلب، وتتساقط فوق بيوتهم فكرةٌ تلو فكرة، ويهرعون لانتشال أطفالهم من تحت الأفكار. فيما يكرّر كيري: "هناك أفكارٌ كثيرة، يجب التعمُّق فيها سريعاً، على أمل أن تساهم في حل المشكلات التي تعيق تطبيق وقف النار السابق الذي تم التوصل إليه، لا يمكنني الخوض علناً في تفاصيل هذه الأفكار، ولا أريد إفساح المجال للتكهُّنات".

في المحصلة، ما زال الدولاب الذي يدور منذ خمس سنوات ونصف السنة يدور، حاصداً في طريقه أرواح السوريين وبيوتهم ومستقبل أطفالهم، ولقمة عيشهم، وما تبقّى من أملٍ بالحياة لهم، فيما القوى الكبرى التي تدعى يومياً حرصها على الشعب السوري، وتدّعي نصرته وصداقته والعمل لأجله، لم تفعل شيئاً، طوال هذا الوقت، سوى تبادل الأفكار ومزيد من الأفكار، وعقد الاجتماع تلو الاجتماع، لتؤكّد، في نهاية كل واحد منها، على أن لا حل عسكرياً لسورية، وأن من الضروري البدء بعمليةٍ سياسيةٍ تنهي الحرب في هذا البلد الممزّق، وتوقف سيل الموت والنزوح المستمر من دون توقف.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان