هناك حركة دبلوماسية كثيفة وسريعة بشأن الحل في سوريا منذ سقوط حلب، فقد تم التوقيع على عدة اتفاقات، وقسمت العملية السياسية إلى ثلاث مراحل، وحددت تواريخ ومدنا لعقد المفاوضات، 23 هذا الشهر يناير (كانون الثاني) في مدينة آستانة، للتفاوض على تثبيت الهدنة في حلب ووقف إطلاق النار في أنحاء سوريا، و27 الشهر المقبل، فبراير (شباط)، لعقد مفاوضات الحل السلمي في جنيف. وقد اتفق الإيرانيون والأتراك والروس ليكونوا ضامنين لوقف إطلاق النار. الإيرانيون رفضوا إشراك السعودية في مفاوضات الآستانة، وفق ما صرح به وزير الدفاع الإيراني، في حين اعتبر الروس مشاركة السعوديين مفصلية دون أن يوضحوا في أي مرحلة من خريطة الطريق.
ومؤتمر آستانة، العاصمة الكازاخستانية، لا يحظى بإجماع ولا شرعية دولية! تشكك فيه الأطراف الدولية المهتمة بالأزمة السورية، مثل ألمانيا وفرنسا، وكذلك يبدو أن دور الأمم المتحدة فيه محدود. فقد قرر الإيرانيون والأتراك والروس الاجتماع في الآستانة، وجلب المتقاتلين من نظام الأسد والمعارضة السورية المسلحة إلى طاولة الترتيبات الأولية في هذه المدينة المحسوبة على الروس. وبعدها بخمسة أسابيع يقول المنظمون إنهم سيسلمون الملف للأمم المتحدة لإجراء مفاوضات الحل السياسي في جنيف. فهل تكون الآستانة مؤتمرا لفرض توقيع الاستسلام على تركيا والقوى السورية المعارضة، مثل خيمة صفوان، التي وقع فيها صدام حسين وثيقة الهزيمة بعد حرب الكويت؟ أم أن آستانة مؤتمر ترتيبات هدنة ومصالحة أولية تسبق المفاوضات؟ المسألة مريبة حقا.
يزيدها ريبة إغلاق الستائر في الآستانة، وحجب الآخرين من المشاركة، وحتى من الحضور! فتركيا في وضع ضعيف قد لا تستطيع وحدها مواجهة الروس والإيرانيين ونظام الأسد عند فرض ترتيبات الهدنة. ومن العسير على تركيا أن تكون الضامن للفصائل السورية المسلحة، ذات التوجهات المختلفة. وهذا قد يفسر عملية الاستفراد الإيرانية الروسية بأنقرة، التي اشترطت فقط عدم إشراك «حماية الشعب الكردية»، وهي ميليشيا كردية سورية تحظى بدعم غربي. تركيا تعتبرها جماعة تريد بناء منطقة كردية داخل سوريا محاذية لحدود تركيا. كما تم الاتفاق بين الدول الثلاث على استبعاد تنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة»، وهناك فصائل أخرى لم تدع ولَم يعلن عن استبعادها، وتم تجاهلها في الوقت الحاضر.
مؤتمر آستانة همه تثبيت وقف إطلاق النار في كل سوريا، الأمر الذي يهم النظام السوري في الوقت الحاضر حتى يتمكن من إعادة الانتشار ومحاولة السيطرة إداريا على البلاد التي أفلتت منه خلال خمس سنوات من الحرب. ووقف إطلاق النار لا يخدم المعارضة في شيء، لأن معظم الممرات أصبحت مغلقة، ويتم استهدافها فرادى من قبل تحالف النظام السوري المدعوم من قوات إيرانية وروسية وميلشيات «حزب الله» والميليشيات الطائفية الشيعية الأخرى التي تحت قيادة الحرس الثوري الإيراني. ويبدو أن الهدف الروسي الإيراني جر القوى السورية المسلحة المعارضة إلى مشروع تفاوضي بطيء في الوقت الذي يتمتعون فيه بحرية الحركة ويمارسون خرق وقف هدنة إطلاق النار في مناطق يختارونها للضغط على الجماعات المسلحة وإجبارها على القبول بشروطهم. كما أن تحالف نظام الأسد يعيد ترتيب موضعه على الأرض، حيث يتم تكليف القوات الروسية بالوجود في المناطق القريبة من تركيا، بما فيها حلب. أما إيران وميليشياتها فتتمركز جنوبا في درعا وبالقرب من الحدود الأردنية، وكذلك في مناطق الحدود مع العراق ومحيط العاصمة السورية، دمشق.
بقي نحو عشرين يوما على مفاوضات آستانة، وهي مهمة لأنها ستوضح لنا أكثر الدور الروسي، إن كان لا يزال متطابقا مع الإيرانيين أم يميل نحو منطقة سياسية متوسطة، لإقرار حل مقبول للجميع. أيضا، سيتبين لنا في المؤتمر موقف تركيا بعد تبدل مواقفها الأخيرة، إن كانت قد قررت التخلص من علاقتها بالثورة السورية والاعتراف بنظام الأسد أو أنها لا تزال تقود العملية السورية إلى جانب أغلبية الشعب السوري.
تحاول "إيناس" ، هذه الأيام ، السير بالشوارع بشكل طبيعي ، دون حاجة لأن تسرّع الخطوات أو تلتفت بكل الاتجاهات بحثاً عن خطة هرب في حال بدأ القصف ، وتفكر ملياً بأن تبحث عن نزهة قد تكون بلا موت ، بعد أن تقرر أخيراً تطبيق "هدنة" تشمل مدينتها التي نالت من الموت ما يشبع الأرض.
لدى ايناس ، وهي ممرضة في أحد المراكز الطبية في الغوطة الشرقية ، تخوف من كلمة "هدنة" فهي تعني أنها مفتاح لمجازر دموية ، طريق مميز لتنفيذ مخططات خبيثة .
و دخلت سوريا في هدنة جديدة منذ ٣٠ كانون الأول الفائت ، بعد أن توصلت تركيا و روسيا لاتفاق يقضي، بالبدء بهدنة مؤقتة يتبعها في حال النجاح الدخول بمفاوضات حددت عاصمة كازخستان “الاستانة” مقراً لها ، وسط ضبابية في الرؤية و الكيفية التي ستظهر فيها هذه المفاوضات ، التي لاتعد جديدة أو نوعية ، اللهم إلا من تحكم دولتين (تركيا و رسيا) وحدهما فيها.
لم تخفي “ايناس” ارتياحها نفسياً مع سماعها كلمة “هدنة” ، رغم يقينها أن الهدنة لن تكون فاعلة، فالهدنة برأيها هي “ضحك” على المدنيين ، وتستهزئ ايناس بالهدنة بطريقة أهل الغوطة المعروقين بكثرة “المزاح” ، وتقول :”صوت القصف ماتغير ...بالعكس أشتد ...الجبهات مولعة نار ورصاص وقذايف.... طيران ما عم يهدي لا نهار ولا ليل ....والهدنة بعدها متربعة عالطاولة المفاوضات معززة مكرمة”.
الغوطة الشرقية لعبت دوراً محورياً في مفاوضات الهدنة التي استمرت لفترة ليست بالقصيرة في “أنقرة” ، إذ أصر الجانب الروسي على استثنائها من الاتفاق كما هو حال وادي بردى ، الأمر الذي رفضه ممثلو الفصائل المشاركين بالمفاوضات ، الأمر الذي أجبر روسيا استحياء ضمن المنطقتين ، و لكن عملية الضم كانت على الورق فقط اذا لازالت الغوطة تتعرض للقصف و محاولات الاقتحام من الأسد و حلفاءه و ذات الشيء و إن كان بسوية أعلى بكثير في وادي بردى.
خروقات الأسد و حلفاءه للهدنة ، سواء بالقصف أو غارات الطيران أم بالهجوم البري ، جعلت روتين حياة ايناس ، المقيمة في مدينة دوما وتعمل في مركزها الطبي كممرضة ، لا يتغير فرعايتها لبيتها و زوجها و كذلك قطتها ، فعجلة الحياة لا تتعطل وفقاً لها.
حصار الغوطة الشرقية الذي بدأ قبل أربع سنوات ، صعّب من حياة المدنيين الذين يقدر عددهم ، في تلك الرقعة الملاصقة لدمشق ، بـ ٤٠٠ ألف مدني ، فزوج ايناس يعمل طوال اليوم متجولاً على دراجته الهوائية، مع انعدام أي آفاق أخرى للعمل في منطقة مساحتها تتآكل بشكل مستمر نتيجة الهجمات التي لم تعرف التوقف عليها طوال السنوات الخمس الماضية.
و تسرد ايناس اللحظات القليلة التي سبقت الهدنة ، والتي شهدت مجزرة أودت بحياة ١٤ شهيد غالبيتهم من النساء و الأطفال ، وتقول ايناس أن أقسى مشهد حينها كان لجثمان طفلة لم تتجاوز الـ ١٢ عاما ، تم احضارها إلى المركز دون رأس ، ولا يكاد صوت أنين المرضى و المصابين يغادر آذانها طوال فترة دوامها الممتد من الثامنة صباحاً و حتى الرابعة عصراً ، وفق لنظام دوام ليس بيومي.
حرب النظام و حلفاءه على الشعب السوري التي تنهي عامها السادس ، لم تعرف التوقف أو الانخفاض بالدموية ، وباتت الحرب هي الكابوس الذي يعيشه السوريين ، وما “الهدنة” و لو “كاذبة” إلا فترة راحة من مواجهة الموت بلا أي درع إلا بقايا لباس .
أثار تحول الموقف التركي إزاء الأزمة السورية الكثير من التساؤلات حول طبيعة ذلك التحول وأبعاده المترقبة على مسار الثورة، في حين ربطت الكثير من المصادر تحولات السياسة الخارجية التركية بالمحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو الماضي. والتي نشطت الدبلوماسية التركية بعدها بصورة ملحوظة، وخاصة فيما يتعلق بمحاولة تفكيك العقدة السورية من خلال التوصل إلى تفاهمات إقليمية ودولية.
لكن الحقيقة هي أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان قد قام قبل محاولة الانقلاب الفاشلة بنحو شهرين بانعطافة حادة في سياسة بلاده نتج عنها استقالة رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو وتولي بن علي يلدريم في 24 مايو عام 2016، والذي أخذ على عاتقه تبني عملية تحول جذرية في السياسة الخارجية التركية، ومن أبرزها ملامحها:
أولا: إعادة العلاقات مع تل أبيب
بعد شهر من تولي يلدريم رئاسة الحكومة، عادت العلاقات التركية-الإسرائيلية إلى سابق عهدها عقب اعتذار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الشفهي، ومن ثم تنازل أنقرة عن القضية المرفوعة ضد تل أبيب في المحكمة الدولية، ورأت دراسة نشرها موقع "ديفينس ون" العسكري (27 يوليو 2016) أن عودة العلاقات بين البلدينجاءت نتيجة إحباط أنقرة من إصرار إدارة أوباما على دعم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ووحدات حماية الشعب الكردية المرتبطتان بحزب العمال الكردستاني، مشيرة إلى أن العامل الكردي هو العنصر الأساسي الذي يقود تركيا للتطبيع مع إسرائيل، حيث ترغب أنقرة في تخفيف نزعة تل أبيب لدعم استقلال أكراد العراق، وتفويت فرصة إقامة علاقة بين أكراد سوريا مع إسرائيل، وإقناع إسرائيل بالتوقف عن دعم طموحات أكراد سوريا لتحقيق الاستقلال.
ونظرا للاعتقاد السائد بأن نفوذ تل أبيب قد يغير توجهات واشنطن، فقد حرص أردوغان على الالتقاء بقادة اليهود الأمريكيين مرتين في الربيع الماضي، وأعرب عن أمله في أن يختار اليهود الوقوف في صف الأتراك حينما تشتد المنافسة على الاختيار بين الأكراد وبين أنقرة، كما أن خيبة الأمل التركية والفشل في التقارب مع معظم الدول العربية قد سرع من وتيرة هذا التقارب الذي قام على أنقاض محاولات فاشلة لإنشاء تحالفات عربية -كردية في مرحلة ما بعد الربيع العربي.
ثانيا: الانتقال من حالة العداء إلى إبرام تحالف إستراتيجي مع موسكو
وفي غضون الأشهر الثلاثة عقب تولي يلدريم بذلت تركيا وساطات عديدة لإصلاح العلاقات مع روسيا. وتوجت تلك الجهود بزيارة أردوغان لنظيره بوتين في مدينة سان بطرسبرغ يوم الثلاثاء 9 أغسطس 2016، مصطحبا معه عددا من القادة الأمنيين والعسكريين للتباحث مع نظرائهم الروس حول سبل التعاون الميداني في الملف السوري، وتم الاتفاق على إنشاء غرفة عسكرية مشتركة للتنسيق في الشأن السوري، وأكد تقرير "ديبكا" (12 أغسطس 2016) أن روسيا وأنقرة قد اتفقتا على تفعيل دور المجلس المشترك في منع قوات سوريا الديمقراطية من التقدم نحو الحدود السورية -التركية، وأن يتاح للقوات التركية مجال التوغل في الحدود السورية.
وأشار موقع "ستراتفور" الأمني (12 أغسطس 2016) إلى أن بوتين عرض تبادل المعلومات الاستخباراتية مع أنقرة، وتضمنت المباحثات الأمنية كذلك قيام الفريق التركي بعرض فكرة إدماج فصائل المعارضة شمال البلاد في تشكيل موحد وتدشين عملية سياسية بإشراف روسي -تركي مشترك، وذلك مقابل الحصول على ضمانات روسية تخص الملف الكردي والحدودي، كما تضمنت المباحثات بين الجانبين سبل تعزيز التعاون الاقتصادي واستئناف العلاقات التجارية مقابل "تنسيق أكبر" لإعادة الهدوء وتثبيت آليات وقف إطلاق النار داخل سوريا.
وفي تصديق للتكهنات بوجود تفاهمات بين موسكو وأنقرة حول سوريا، تحدث بوتين عقب سقوط الأحياء الشرقية من مدينة حلب عن اتفاقه مع نظيره رجب طيب أردوغان في شهر أغسطس المفضي إلى استسلام المعارضة المسلحة في شرق حلب، وفتح مسار تفاوضي جديد يوازي مسار جنيف دون انخراط واشنطن والقوى الإقليمية الفاعلة، وأكد بوتين في مؤتمر صحافي مع نظيره الياباني في 16 ديسمبر أن: "كل شيء يجري وفق التوافقات التي أبرمناها، بما في ذلك الاتفاقات مع الرئيس التركي خلال زيارته سان بطرسبورغ "، مضيفا: "اتفقنا أن توفر تركيا كل مساعدة ممكنة بالنسبة لإزالة هؤلاء المسلحين المستعدين للاستسلام في حلب ".
ثالثا: تعزيز العلاقة مع الإدارة الأمريكية الجديدة
عقب توتر شاب العلاقات بين تركيا وإدارة أوباما، فتحت الانتخابات الأمريكية بابا جديدا لإعادة الحرارة بين البلدين من بوابة الحزب الجمهوري، وذلك عقب تغريدة أطلقها دونالد ترامب في 24 أغسطس الماضي أشار فيهما إلى وجود أدلة لديه بتورط 13 ضابط من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) في محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، مؤكدا أن: "قيادة أوباما الفاشلة" هي السبب في وقوع هذه: "الأخطاء الغبية التي تعرض مصالح أمريكا للخطر".
في هذه الأثناء تحدث مستشارو ترامب عن دور الإدارة الأمريكية في دعم تنظيم فتح الله غولن، وتغلغلهم في دوائر الحزب الديمقراطي ودعمهم لكلنتون في حملتها الانتخابية، فقد أكد الجنرال مايكل فلين الذي كان يترأس جهاز الاستخبارات العسكرية أن إدارة أوباما كانت ترغب في إنجاح المحاولة الانقلابية ضد أردوغان لتعزيز دور غولن وجماعته في أنقرة، ورأى أن كلنتون كانت ترغب في تحقيق دفعة كبيرة على الصعيد الخارجي من خلال استبدال أردوغان بجماعة غولن "الأكثر انفتاحا" كجزء من إستراتيجيتها لدعم حركات التغيير في الشرق الأوسط منذ عام 2011.
وأشار التقرير إلى أن مستشاري ترامب قد تحدثوا عن وجود الآلاف من مؤيدي غولن في صفوف حملة كلنتون الانتخابية، في حين أسهمت الاتهامات التي أطلقها فريق كلنتون لبوتين بدعم ترامب في التقريب بين الزعيمين بالفعل، ويتوقع أن تسهم علاقة التقارب بين بوتين وأردوغان مع ترامب في إنشاء تحالف بين الدول الثلاثة لحسم الملفات العالقة في المنطقة العربية، وعلى رأسها الملفين السوري والعراقي.
واتهم تقرير "ديبكا" (14 نوفمبر 2016) أوباما بمحاولة إفساد التعاون بين فريق ترامب مع موسكو وأنقرة بإرسال شحنة ضخمة من السلاح إلى وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا، لإفساد أية ترتيبات يمكن أن يصيغها فريق ترامب مع أنقرة وأربيل قبل توليه الإدارة مطلع العام القادم.
كما تحدث التقرير عن وجود تفاهمات تركية-روسية بدعم من فريق ترامب لتمكين الأتراك من السيطرة على الرقة بدعم جوي روسي لطرد تنظيم "داعش" منها بحلول منتصف يناير 2017، وذلك في مقابل دعم تركيا لمفاوضات سرية مباشرة بين الروس والفصائل الرئيسية في حلب تمهيدا لاتفاق بين الطرفين، وبذلك يكون ترامب قد دشن عهده بإنجازين مهمين في كل من الرقة وحلب، ولذلك فإن فريقه يعمل بجد في الفترة الحالية على تكثيف التواصل مع أنقرة وموسكو، وكذلك أربيل لتعزيز التعاون بين هذه القوى الإقليمية، وذلك في ظل تعثر حملة أوباما في الموصل وفشلها في تحقيق أي تقدم يذكر.
ويدور الحديث في واشنطن عن قيام الإدارة المنتخبة بإعداد خطة لمعالجة الأزمة السورية بالتعاون مع موسكو، وتتضمن الإبقاء على بشار الأسد مع تخلیھ عن بعض الصلاحیات لحكومة تشارك فيها جهات من المعارضة، وذلك بالتزامن مع إخراج القوات الإیرانیة والميلشيات التابعة لها من سوریا، وعلى رأسها "حزب الله "، وتنفيذ خطة رديفة لاستیعاب المعارضة في صفوف قوات" شبھ نظامیة "تمهيدا لضمها إلى جيش النظام في مرحلة لاحقة.
رابعا: إضعاف دور الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي
جاء التقارب التركي مع موسكو ومع مجموعة ترامب بواشنطن على حساب العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ورأت دراسة نشرها معهد "أتلانتيك كاونسل" (12 أغسطس 2016) أن إصلاح العلاقات التركية-الروسية قد جاء بعد إبداء أنقرة استعدادها للنأي بنفسها عن حلف شمال الأطلنطي وحلفائها الغربيين التقليديين، وذلك عقب تدهور العلاقات بين أنقرة والغرب بسبب شكوك حزب العدالة والتنمية وجزء كبير من المجتمع التركي في تعاطف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع المحاولة الانقلابية الفاشلة وعدم إظهار التضامن الكافي مع تركيا التي تطالب الإدارة الأمريكية بتسليم فتح الله غولن.
وقد أثار التقارب بين موسكو وأنقرة قلقا في غرب أوروبا وإدارة أوباما من أن تركيا قد تبتعد عن حلفائها التقليديين، وستمنح روسيا فرصة إضعاف حلف الناتو، خاصة وأن السياسيين الأتراك يشعرون بأن حلفاءهم الغربيين قد تخلوا عنها بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، في حين يثور القلق لدى العسكريين من أن حلف شمال الأطلسي "ناتو" قد أهملهم ومارس عليهم نوعا من الابتزاز خلال السنوات الخمسة الماضية، إذ لم ينشر الحلف سوى عدد قليل جدا من بطاريات "الباتريوت" في تركيا حتى عندما تعرضت الأراضي التركية لتهديدات بالغة عقب إسقاط المقاتلة الروسية.
وتشير تقارير أمنية غربية إلى تنامي قلق دول الاتحاد الأوروبي من مخاطر سماح تركيا بتدفق أفواج اللاجئين باتجاه أوروبا، وهو أمر يرغب بوتين بالاستفادة منه في الضغط على الغرب لرفع العقوبات المفروضة على روسيا وتقديم تنازلات أساسية فيما يتعلق بالملفين : الأوكراني والسوري، وفي هذه الأثناء يثور القلق في أوساط الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي من الاتصالات السرية الدائرة بين فريق ترامب والكرملين، حيث بشر ترامب خلال حملته الانتخابية بتحقيق انفراج في العلاقات بين موسكو وواشنطن، في حين بدا غير مهتم بتعزيز التحالف معهم، حيث طالب الدول الأعضاء بإجراء مراجعة شاملة لقدرات حلف الناتو وحث الدول الغربية على المزيد من الإنفاق العسكري بدلا من الاعتماد على واشنطن، ودعاهم في الوقت نفسه إلى التعاون مع روسيا في "محاربة الإرهاب".
خامسا: كبح النزعات الانفصالية الكردية في الشمال السوري
دفعت السياسة الخارجية التركية خلال الأشهر الثلاثة الماضية نحو كبح النزعات الانفصالية الكردية شمال سوريا، وذلك بالتزامن مع تدشين الجيش التركي عملية عسكرية شمال سوريا، يوم الأربعاء 24 أغسطس 2016، وكان هدف العملية واضحا منذ الأيام الأولى عندما صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن : " العملية العسكرية لا تقتصر على ضرب داعش، وإنما تستهدف القوات الكردية "، مما شكل ضربة قاسية لمشروع" وحدات حماية الشعب "الكردية بتأسيس كيان مستقل، في ظل وجود مؤشرات على أن التحرك التركي جاء ضمن توافقات مع موسكو، حيث جاءت العملية في أعقاب قمة أردوغان -بوتين في بطرسبرغ.
وترمي تركيا من هذه الحملة إلى تأمين حدودها مع سوريا في مسافة يبلغ طولها 100 كم وعمقها نحو 15-17كم، ومنع الانفصاليين الأكراد من الوصل بين الأقاليم الثلاثة: عفرين والقامشلي والحسكة، كما تخطط في الوقت ذاته للتوغل في الأراضي السورية وصولا إلى مدينة الباب التي تحاصرها في الوقت الحالي.
سادسا: فتح قنوات تواصل مع نظام دمشق
جاء حديث رئيس الوزارء بن علي يلدريم عن إمكانية تطبيع العلاقات مع دمشق في شهري يوليو وسبتمبر عام 2016، مؤكدا لتسريبات نشرت بشأن اتصالات سريةجرت بين ضباط أتراك ومسؤولين سوريين، حيث تحدث زعيم حزب الوطن الاشتراكي المعارض، دوغو بيرنيسيك، ونائبه الجنرال إسماعيل حقي بيكين، وهو قائد سابق للاستخبارات العسكرية التركية لمجلة "فورين بوليسي" الأميركية عن تبادل رسائل بين مسؤولين أتراك وسوريين. وكشفا أنهما أجريا لقاءات مع مسؤولين من روسيا والصين وسوريا وإيران، ونقلا رسائل تلقوها خلال تلك اللقاءات إلى مسؤولين في وزارة الخارجية والجيش التركي.
وأكد تقرير مجلة "فورين بوليسي" أن قادة ذلك الحزب لا يزالون يمررون رسائل بين مسؤولي الحكومتين التركية والسورية، خاصة وأن: "أزمة اللاجئين المتصاعدة والحملة العسكرية الروسية في سوريا وسيطرة الميليشيات الكردية على الجزء الشمالي من البلاد، لا تترك لتركيا خيارا سوى التعامل مع نظام الأسد ".
وأضافت المجلة أن "بيكين" قد زار دمشق ثلاث مرات برفقة ضباط أتراك متقاعدين، والتقوابمسؤولين سوريين، بينهم محمد ديب زيتون رئيس فرع المخابرات العامة، وعلي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني، ووزير الخارجية وليد المعلم ونائبه فيصل المقداد، وعبد الله الأحمر، مساعد الأمين العام لحزب البعث السوري، وركزت تلك اللقاءات على كيفية تمهيد الأرضية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية والتعاون السياسي بين تركيا وسوريا، ومؤكدا أن لقاءه مع مملوك مكنه من التواصل مباشرة مع رأس السلطة في سوريا، إذ: "كان مملوك يستأذن للانتقال إلى غرفة مجاورة من أجل التحدث إلى الأسد مباشرة ".
وأوضح أنه نقل إلى مسؤولين كبار في الجيش التركي ووزارة الخارجية خلاصة محادثاته بعد كل زيارة قام بها، وأنه لمس، خلال الأشهر الأخيرة، تحولا تدريجيا في مواقف المسؤولين الأتراك.
وكان موقع "ديبكا" (يوليو 2016) قد أكد قيام مجموعة من عناصر الاستخبارات التركية بزيارة سرية إلى دمشق، في شهر يوليو الماضي للتباحث مع رئيس الأمن الوطني اللواء علي مملوك حول قضايا تتعلق بتأمين الحدود بين البلدين، كما عقدت اجتماعات سرية أخرى في إقليم " هاتاي "، وأشار التقرير إلى أن الاتصالات التركية مع النظام تجري ضمن عملية التقارب مع روسيا وتهدف إلى تحييد عوامل التوتر بين موسكو وأنقرة.
سابعا: تغلب النزعة اليمينية الدافعة باتجاه مشروع "أوراسيا"
عقب تطهير أجهزة الدولة من جماعة غولن، ارتفعت أسهم مجموعة من القوميين الذين تم تعيينهم في مناصب دبلوماسية رفيعة وفي حلف شمال الأطلسي "ناتو"، وكشفت صحيفة "تايمز" البريطانية أن عملية التطهير تلك لم تقتصر على مناصب رفيعة بحلف الناتو، بل طالت أكثر من مائة ملحق عسكري في السفارات التركية في العالم، وعزت الصحيفة تلك التوجهات إلى التوافق الذي حققه أرودغان مع بوتين في الأشهر الماضية، مؤكدة أن فوز ترامب، وما أعقبه من اتصالات مع مستشاره للأمن القومي، الجنرال المتقاعد مايكل فلين، قد عزز اتجاه أنقرة للابتعاد عن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو مقابل التوصل إلى تفاهمات تركية-أمريكية-روسية حول الملفات الإقليمية العالقة، وخاصة فميا يتعلق بالعراق وسوريا والأكراد.
وتحدث الباحث التركي مصطفى أكيول في مقال نشره بموقع "ألمونيتور" (15 ديسمبر 2016) عن وجود "مجموعة من الأشخاص المقربين من أردوغان" لديهم "خطة مفصلة" لإعادة رسم مستقبل تركيا على أساس الانفصال الكامل عن المؤسسات الأوروبية، وأطلق على هذه المجموعة اسم: "الأوراسيويين" والتي تتكون من قوميين علمانيين تجمعهم روابط بالصقور في المؤسسة العسكرية، والذين يعارضون عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتتطلع بدلا من ذلك إلى التقارب مع روسيا والصين والتقدم باتجاه الانضمام إلى "ميثاق شنغهاي"، مشيرا إلى أن هذه المجموعة ترفع إحاطات إلى وزارة الخارجية التركية حول مسائل متنوعة، وتمارس دورا أساسيا في تطهير مؤسسات الدولة من جماعة غولن، وتحض على ترك الغرب والبحث عن مستقبل تركيا في "أوراسيا"، لا سيما من خلال العلاقات مع روسيا والصين، وكان لهذه المجموعة تأثير واسع في رأب العلاقات التركية -الروسية إبان الأزمة التي تسبب بها قيام تركيا بإسقاط طائرة حربية روسية العام الماضي، وحتى في إطلاق حوار غير مباشر مع نظام بشار الأسد.
وعزا أكيول تلك التوجهات في "حزب العدالة والتنمية" إلى مكونين أساسيين هما: رجال الأعمال الذين يملكون استثمارات كبيرة في روسيا، وزمرة أكثر أيديولوجية مؤلفة من بعض مستشاري الرئيس أردوغان، وبعض الشخصيات الأساسية في البيروقراطية، والذين يعتقدون فعلا أن هناك مؤامرة غربية كبرى ضد تركيا، وأنه على أنقرة أن تتحالف مع بوتين في مواجهة الغرب، لكنها تعتقد بوجود "جانب مشرق" في الغرب يتمثل بدونالد ترامب الذين يتوقعون منه ترحيل غولن ووقف الدعم الأمريكي للمقاتلين الأكراد في سوريا.
ثامنا: التعاون مع ترامب وبوتين لإضعاف النفوذ الإيراني
تترقب أنقرة باهتمام بالغ توجهات ترامب ومجموعته نحو التصعيد مع طهران، والضغط عليها لوقف برامجها الصاروخية وسياساتها المتطرفة في المنطقة، وقد تم إعداد قائمة بالعقوبات الاقتصادية والدولية التي يمكن فرضها لدى تولي الإدارة الجديدة مقاليد الحكم في 20 يناير المقبل.
ويرى مسؤولون بوزارة الخارجية التركية في الإدارة الأمريكية المنتخبة فرصة سانحة لإضعاف النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة، حيث عزز ترامب فريقه بشخصيات أمنية وعسكرية ترى ضرورة مراجعة الاتفاقية النووية التي أبرمتها إدارة أوباما معها عام 2015، وممارسة المزيد من الضغوط عليها لاستعادة التوازن في المنطقة، وذلك من خلال إنشاء علاقة تعاون مع موسكو وأنقرة للسيطرة على تصرفات إيران، حيث يعمل نائب الرئيس المنتخب مايك بنس، والمرشحين لوزارة الخارجية تيليرسون والدفاع جيمس ماتيس، والمرشح لمنصب نائب وزير الدفاع مكفرلاند، للتوصل إلى اتفاق مع موسكو وأنقرة على إخراج القوات الإيرانية والميلشيات الأجنبية التابعة لها من العراق وسوريا.
ويتحدث دبلوماسيون في أنقرة عن خلاف حقيقي بين موسكو وطهران أثناء مفاوضات إخراج المدنيين من مدينة حلب، حيث دأبت الميلشيات الإيرانية على إفساد جميع الترتيبات التي أبرمها الروس مع أنقرة، وعمدت قواتها إلى ارتكاب انتهاكات بحق المدنيين، مما دفع روسيا للتهديد بقصف أي طرف يخرق الاتفاق.
ولا يقتصر الخلاف بين البلدين على حيثيات الاتفاق، بل يتعدى ذلك ليشمل الجوانب العسكرية، ففي مقابل مخططات قاسم سليماني لإنشاء قوة "شيعية" في سوريا والعراق، تعمل موسكو على مشروع منافس يطلق عليه اسم: "الفيلق الخامس-اقتحام" الذي أعلن عن تأسيسه في سوريا في الأعضاء 22 نوفمبر الماضي، والذي يشرف على تشكيله العماد فلاديمير بابوف، نائب رئيس هيئة الأركان الروسية بصورة شخصية، وتهدف روسيا من خلال هذا التشكيل الجديد إلى تجنيد نحو مائة ألف من العلويين بهدف تمكين النظام من الاحتفاظ بالمناطق التي سيطر الروس عليها مؤخرا.
وفي تأكيد لتلك الخلافات، نشر موقع "يوارسيا ريفيو" دراسة (13 أكتوبر 2016) تناولت أبعاد الصراع الروسي-الإيراني في سوريا، مؤكدة أن التنافس الإيراني-الروسي الكبير على الطائفة العلوية يمثل حلقة أساسية منه، إذ إن أية تسوية سياسية مرتقبة ستقتضي وجود تقاسم طائفي للسلطة، ولا شك في أن العلويين سيشغلون مراكز سياسية ومؤسساتية هامة، مما يدفع بروسيا وإيران للتنافس على كسب الطائفة العلوية لضمان المصالح الروسية أو الإيرانية في سوريا وبقاء نفوذهم فيها.
ولاحظت الدراسة أن التنافس الإيراني-الروسي على الطائفة العلوية يشتد حينما يخبو القتال، أو عندما يتم بذل جهد حقيقي نحو المفاوضات السياسية، ولذلك فإن إيران تسعى لإفساد أية هدنة لتمنع موسكو من التوصل إلى حل لا يخدم مصالحها، وتمنع أية محاولة لدمج قوات الدفاع الوطني بجيش النظام السوري، وهذا ما وقع بالفعل لدى موافقة موسكو على الالتزام بهدنة في سوريا، بينما استمرت المليشيات الإيرانية وجيش النظام في شن المعارك دون غطاء جوي روسي.
وكشف تقرير نشرته صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية أن ما وراء إرسال موسكو لحوالي 4500 من رجالها إلى سوريا، يتجاوز خوض الحرب ضد الثورة إلى زرع أتباعها في الجيش وأجهزة المخابرات السورية، وحتى التضييق على الإيرانيين وحلفاء آخرين لبشار الأسد. ويرى كاتب التقرير أن النظام في دمشق ليس لديه خيار سوى القبول بالأمر الواقع، ونقلت الصحيفة عن خبير أجنبي في دمشق، قوله: "الروس عينوا أتباعهم في القنوات الرئيسة لاتخاذ القرار".
في هذه الأثناء يتصاعد التوتر بين أنقرة وطهران حول العديد من القضايا، أبرزها: دور ميلشيات الحشد الشعبي في الموصل، ومحاولات إيران إفساد الاتفاق التركي-الروسي في حلب، ودعم طهران لحزب العمال الكردستاني، وذلك إثر سعي أردوغان لتعزيز موقف التركمان في كركوك وتلعفر في مواجهة المد الإيراني، حيث تدعم إيران نحو مائة ألف مقاتل من الحشد الشعبي في العراق، وتحشد نحو سبعين ألف مقاتل أجنبي في سوريا في أكبر خطة انتشار تشهدها المنطقة تحت قيادة قاسم سليماني.
وتأمل أنقرة أن تسهم عملية "درع الفرات" في استعادة بعض التوازن الإستراتيجي من خلال جمع فصائل المعارضة السورية، وبعض القبائل التركمانية تحت قيادة القوات التركية بهدف حماية الحدود التركية من خطر توسع الميلشيات التابعة لإيران في تلك المناطق.
وقد اضطر أردوغان إلى تعجيل إبرام الاتفاق مع موسكو وطهران عقب تلقي أنباء استخباراتية مؤكدة تفيد إرسال إيران قوات من الحرس الثوري و "حزب الله" لمناوشة الأتراك وعرقلة عملياتهم الجارية ضد تنظيم "داعش" في بلدة الباب، وكان موقع "ألمونيتور" (10 نوفمبر 2016 ) قد تحدث عن توتر إيراني-روسي في ظل تقارب موسكو مع أنقرة، مما يؤكد مخاوف لدى الإيرانيين من أن موسكو تعمل على تحقيق مصالحها في سوريا وليست معنية بإقامة تحالف إستراتيجي معهم.
تاسعا: تعزيزدور الاستخبارات التركية في الشمال السوري
كشف موقع "إنتلجنس أون لاين" الأمني (14 سبتمبر 2016) عن خطة شاملة تنفذها أنقرة لتعزيز قدرات المؤسسة الأمنية التركية بإشراف وزير الداخلية الجديد سليمان سيولو الذي عمل كمسؤول في جهاز الأمن الوطني التركي لفترة طويلة، ورئيس جهاز الشرطة الجديد سلامي ألتينوك، وتتضمن دمج قطعات من مختلف الوكالات الاستخباراتية ووضعها تحت إشراف وزارة الداخلية، وإنشاء جهاز مركزي للتنسيق بين مختلف الأجهزة الأمنية.
وبموجب هذه الخطة سيتركز عمل جهاز الأمن الوطني (MIT) على الأنشطة الخارجية، حيث تم تكليف رئيس الجهاز الحالي حقان فيدان بمهمة مكافحة التجسس، والإيعاز له بتعزيز قدرات الجهاز خارج البلاد، ونشر موقع "ألمونيتور" دراسة (6 نوفمبر 2016) أكد فيها الباحث بينار تريمبلاي أنمؤسسة الاستخبارات الوطنية (MIT) التي كانت تضم أربعة مكاتب يدير كل واحد منها وكيلا عن قائد المؤسسة، سيتم توسيعها لتشمل ستة مكاتب، حيث سيتم استحداث منصب: "وكيل العمليات الخاصة" مما ينبئ بأن تركيا تستعد للقيام بعمليات خاصة في دول مجاورة، وخاصة في سوريا والعراق، حيث يتوقع أن يتولى هذا المكتب مهمة التنسيق مع القوات العسكرية التركية، وسيتعاظم دوره في الأشهر القادمة مما يجعل من جهاز الأمن التركي اللاعب الأهم في الشأنين السوري والعراقي.
وعلى الرغم مما تعرض له حقان فيدان من انتقادات إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة، إلا أن الخطة التي أقرها أردوغان مطلع نوفمبر الماضي تشير إلى أن فيدان قد نجح في إصلاح علاقاته مع الرئيس التركي وحافظ على موثوقيته داخل نظام الحكم، ويبدو أن جهاز الأمن التركي سيصبح لاعبا أساسيا في الشؤون الإقليمية، ومن المتوقع أن يزيد انخراطه في الملفالسوري، وأن يتعزز دوره في التنسيق الداخلي بين مختلف الوزارات والمؤسسات التركية، وذلك ضمن منظومة جديدة يسعى أردوغان لتحقيقها ضمن ترتيبات تحويل نظام الحكم في تركيا ليصبح رئاسيا، وعندها سيصبح الجهاز خاضعا بشكل مباشر لسلطات الرئيس.
محركات السياسة الخارجية التركية في طورها الجديد:
تعتمد السياسة الخارجية التركية نهجا واقعيا يعمد إلى الاستفادة من المستجدات الإقليمية لتحقيق المصالح العليا للدولة، وتتغير مواقفها وفق المتغيرات الدولية لتحقيق توازنات مرحلية قد تختلف مع المبادئ التي تعلن عنها السلطة السياسية، ولذلك فإن العديد من القوى الإقليمية قد فشلت في استقطاب أنقرة لمنظومات أمنية أو تحالفات عسكرية صلبة، لكن ذلك الفشل لم يرتق في أية مرحلة إلى صراع عسكري مفتوح.
ويمكن ملاحظة الدهاء الدبلوماسي لأنقرة من خلال العلاقات التي احتفظ بها أردوغان مع الحكم في إيران على الرغم من التباين الواضح في السياسات إزاء الأزمة السورية، فعلى الرغم من الدعم العسكري الذي قدمته تركيا للثوار وإيوائها للجسد السياسي والعسكري للمعارضة السورية إلا أن علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع إيران لم تتأثر بذلك التباين في مواقف الدولتين.
وعلى الرغم من تدهور العلاقات مع موسكو وتل أبيب إلا أن الخلاف بقي منضبطا في إطار التصريحات الرسمية والحملات الإعلامية دون أن يرتقي إلى مستوى المواجهة.
وفي ظل التحولات الإقليمية والدولية، يمكن الحديث عن أربعة محركات رئيسة للسياسة الخارجية التركية منذ استقالة أحمد داود أوغلو وتولي بن علي يلدريم في شهر مايو عام 2016، وذلك على النحو التالي:
المحركات السياسية:
بعد رفع شعار "صفر مشاكل" مع دول الجوار، وجدت أنقرة نفسها في موقف صعب على الصعيدين: الإقليمي والدولي، حيث توترت العلاقة مع إدارة أوباما والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، في حين اشتعلت المناطق الجنوبية الشرقية من البلاد عام 2015 عقب هدنة دامت عامين بين الجيش التركي والانفصاليين الأكراد، ووقفت تركيا على شفير حرب مع موسكو عقب إسقاط المقاتلة الروسية في نوفمبر من ذلك العام، كما ساهم توتر العلاقات مع تل أبيب والقاهرة وبغداد وطهران في إضعاف موقف تركيا الإقليمي، ممادفع بأنقرة لتبني سياسة مصالحات لفتح صفحة جديدةفي علاقاتها الدولية لفك عزلتها الإقليمية والدولية.
المحركات الاقتصادية:
تم تتويج المصالحة التركية-الروسية بزيارة أردوغان لروسيا في شهر أغسطس، ومن ثم زيارة بوتين لتركيا في 10 أكتوبر، وإبرام اتفاقية تاريخية لبناء خط الأنابيب "تورك ستريم" لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر البحر الأسود، وإعادة فتح الأسواق الروسية أمام البضاعة التركية، والتعهد باستئناف مشروع "أكويو" (Akkuyu)، والذي تقوم به الشركة المملوكة للحكومة الروسية "روساتوم" (روساتوم) لبناء أول محطة طاقة نووية تركية، وتزامن ذلك مع رغبة موسكو في تحسين علاقتها مع أنقرة لإدراكها أن إبعاد تركيا بصورة أكثر في هذه المرحلة سيدفعها بصورة أكبر نحو الاقتراب من "الناتو"، خاصة وأن العقوبات الروسية السابقة ضد أنقرة قد أثرت سلبا على الاقتصاد الروسي، فالكثير من التجار الروس يرغبون بالسلع التركية الرخيصة، ويعانون من العقوبات الأوروبية والأمريكية ومن انهيار أسعار النفط، ويحتاجون في النهاية إلى الحصول على الصفقات المتاحة في الأسواق التركية.
المحركات العسكرية:
بالإضافة إلى اتفاقيات بناء محطة "أق قويو" لتوليد الطاقة النووية، وخط الغاز الإستراتيجي "ترك ستريم"، شكل التقارب الروسي-التركي فرصة لأنقرة لتطوير قدراتها العسكرية، فقد كان عرض بناء منظومة للدرع الصاروخي للجيش التركي الموضوع الأبرز في لقاء الزعيمين بأنقرة في شهر أكتوبر الماضي، لما يحمله من أبعاد إستراتيجية تتعلق بعلاقة تركيا مع حلف شمال الأطلسي "الناتو"، الذي يعارض بشدة استخدام تركيا لأي منظومة درع صاروخي غير منظومة "باتريوت" التابعة للحلف الذي عمل في مراحل سابقة على إفشال أي مساع تركية لشراء منظومة أخرى، حيث يفتقر الجيش التركي إلى منظومة متطورة للدرع الصاروخي، وخلال المؤتمر الصحافي الذي أعقب اللقاء، أبدى بوتين استعداد بلاده للتعاون المشترك مع تركيا في مجال النظام الدفاعي، معربا عن أمله في تحويل المباحثات في هذا الصدد إلى تعاون مادي ومحسوس بين البلدين، وقد تم عقد اجتماع على مستوى رؤساء الأركان والاستخبارات من البلدين لمناقشة التفاصيل.
وعلى إثر ذلك التصريح، تحدث تقرير "جينز" العسكري (17 نوفمبر 2016) عن توجه وكالة التنسيق العسكري الروسية لتعزيز التعاون مع الجيش التركي في مجال الدفاع الجوي، وأنها قدمت عرضا لأنقرة يتضمن بيعها منظومة صواريخ (T-LORAMIDS) بصفقة تتراوح قيمتها ما بين 3.5 و 4 مليار دولار.
المحركات الأمنية:
تضمنت التفاهمات الروسية-التركية موافقة بوتين على إنشاء منطقة نفوذ تركي شمال سوريا، لتأمين حدود تركيا من تنظيم "داعش" ومن الجماعات الانفصالية الكردية، حيث ينوي أردوغان إنشاء مدن بكاملها عندما تفرغ قواته من مهمة تطهير المنطقة التي يتوقع أن تبلغ مساحتها خمسة آلاف كيلو متر مربع شمال سوريا، وتدور مباحثات مع شركة "توكي" الضخمة المسؤولة عن بناء عشرة في المائة من الوحدات السكنية التركية كل عام، لإنشاء مدارس وشققومنشآت اجتماعية، وربما تكون هذه الوسيلة الوحيدة لحمل بعض من ثلاثة ملايين سوري يقيمون في تركيا على العودة إلى بلادهم وبدء عملية إعادة بنائها.
في هذه الأثناء تحقق عملية "درع الفرات" تقدما ملحوظا إثر سيطرتها على مدينة "دابق"، وتأمين منطقة شرقي "مارع"، والتقدم على مسافة أقل من 13 كم من جنوب "اخترين"، وحصارها لمدينة "الباب"، حيث يتوقع أن تبسط سيطرتها بعد ذلك على "منبج"، ويبدو أنه بات في حكم المحتم تحقق الحلم التركي الذي طال انتظاره بإنشاء منطقة نفوذ تركية في الشمال السوري تمتد مسافة 55 ميلا من جرابلس، لتأمين حدودها من هجمات الانفصاليين الأكراد وتنظيم "داعش"، ويأمل الأتراك بإقناع واشنطن أن تمثل الفصائل السورية الموالية لها رأس الحربة في عمليات استعادة مدينة الرقة من تنظيم "داعش"، بدلامن الاعتماد على "قوات سوريا الديمقراطية".
تأثير التحولات التركية على الثورة السورية: المخاطر والفرص الكامنة
على الرغم من عمق تحولات الموقف التركي، إلا أن اعتبارها مفاجئة هو أمر مناف للحقيقة، فالسياسة الخارجية التركية تقوم على أسس براغماتية تتكيف مع المشهد الدولي الذي يمر بمرحلة تحول كبير، حيث تتجه بوصلة السلطة في الدول الغربية باتجاه اليمين، ويتحدث ترامب علنا عن دعمهلرئيس الحزب القومي البريطاني فاراج والمرشح اليميني للرئاسة الفرنسية فيون، ويعرب عن رغبته في إنشاء تحالف مع بوتين وأردوغان باعتبارهما زعميان قويان يمكن الاعتماد عليهما لاستعادة التوازن في المناطق المشتعلة بالشرق الأوسط، وذلك في ظل تضعضع الاتحاد الأوروبي، والصعوبات التي يمر بها حلف شمال الأطلسي، وحالة الشلل التي أصابت مجلس الأمن إزاء تكرر استخدام حق النقص من قبل روسيا والصين.
وفي ظل غياب الموقف الخليجي الواضح إزاء التطورات الأخيرة، والعدائية التي يبديها الحكم في مصر إزاء تركيا، تشعر أنقرة أنها مضطرة لإبرام تفاهمات مع موسكو وواشنطن وتل وأبيب وطهران في ظل غياب عربي مثير للقلق.
أما على الصعيد المحلي، فإن المشكلة الرئيسة تكمن في عجز قوى المعارضة عن استيعاب تلك التحولات فضلا عن الاستجابة لها، وخاصة بالنسبة للفصائل التي لم تتمكن من تطوير أدواتها، بل أخذت في التراجع أمام الضغوط الإقليمية والدولية، ويمكن الحديث عن أهم المؤثرات فيما يلي:
1-مشاريع إعادة التشكيل العسكري للمعارضة:
في مقابل النزعات الاستئصالية وصراعات المحاصصة العبثية التي لا تزال المعارضة السياسية تخوض غمارها، تقبع فصائل الثورة أسيرة التشكيلات السلبية التي لم تنجح في الفكاك منها، حيث تعصف بكياناتها مظاهر الخلافات المرجعية التي يذكي أوارها تباين فتاوى "الشرعيين"، وتشتت شملها الصراعات البينية التي بلغت حد الاقتتال، وتفتقد مجموعاتها ميزة الانضباط الذي تتمتع به التشكيلات العسكرية وشبه العسكرية المعادية لها، وتثير تيارات الأفغنة والأدلجة والغلو الفوضى في صفوف قياداتها، وتمنع صراعات الاستئثار بالموارد فرص تطوير كياناتها نحو الاحترافأوتوحيد الجهود لمواجهة النظام وحلفائه، في حين تنشغل مكاتبها السياسية بصياغة بيانات الاندماج ومبررات الانفصال التي سئم منها السوريون.
ومثل سقوط الأحياء الشرقية لمدينة حلب مجهرا لكشف تلك المظاهر السلبية أمام الإعلام العالمي، حيث انشغلت بعض الفصائل عن "حماية المدنيين" بمهاجمة فصائل أخرى تحت وقع القصف الروسي على رؤوسهم مجتمعين، وصمت بعض القيادات آذانها عن أي نصح مخلص مؤثرة خوض معارك الفتاوى والبيانات من سراديب المدينة المدمرة.
وأسهم اختراق الاستخبارات المعادية لها في كسر شوكة فصائل حلب واضطرار بعضها لإلقاء السلاح دون قتال، ومن ثم الخروج من المدينة المنكوبة للعمل على مشروع اندماج مع خلايا تنظيم القاعدة وكأنها تعيش في كوكب آخر لا علاقة له بالتحولات الإقليمية والدولية.
ومثلت المفاوضات مع الضباط الروس اختبارا لم تبد فيه الفصائل أي مراس دبلوماسي، حيث دأبت على الاستجابة لضغوط "الأصدقاء"، ولم تحاول جمع أية أوراق تفاوضية لتعزيز موقفها التفاوضي، واضطرت لتوقيع وثيقة هدنة تختلف عن الصيغة التي وقعها النظام، وكشفت الكواليس عن خلافات مستشرية بين بعض الفصائل أثناء المفاوضات التي خاضتها في معزل عن شركائها السياسيين، واستمر بعضها في إصدار بيانات متناقضة وتصريحات متضاربة تعكس الخلافات بين السياسيين والشرعيين والعسكريين في مكوناتها دون إدراك لعمق الأزمة أو تحولات المرحلة.
وانعكست هذه المظاهر المخزية على تقارير أمنية أبرزها تقرير موقع "إنتلجنس أون لاين" (7 ديسمبر 2016) الذي تحدث عن بذل جهات خارجية جهودا مضنية للتأليف بين الفصائل، ورأب الصدع بين الفرقاء بالتزامن مع التصعيد الروسي-الإيراني-الأسدي في حلب، لكن جهودهم باءت بالفشل نتيجة الصراعات الداخلية التي دفعت بالمسؤولينلكتابة تقرير متشائم عن مستقبل الفصائل في ظل الظروف الحالية.
وأبدت هذه الجهات قلقها من حجم الاختراق المتمثل بوجودعملاء وجواسيس النظام وحلفائه في كافة البنى العسكرية والأمنية والاقتصادية والإعلامية للفصائل التي تم اختراقها على مستويات قيادية مؤثرة، والتي كانت تزود غرف المعلومات التابعة للنظام وحلفائه بمعلومات وصور وإحداثيات مهمة، بل إنها في بعض الحالات كانت على اطلاع تفصيلي بما يجري من نقاشات داخل بعض غرف عمليات الفصائل، ما أسهم في إضعاف الثقة بين الفصائل وتبادل التهم بينها.
وفي مقابل مشاريع الاندماج المثيرة للجدل، يتردد الحديث عن مبادرة ترعاها الاستخبارات التركية لإنشاء قوة عسكرية من فصائل المعارضة بحيث تتولى مهام حماية البنى التحتية وتوفير الخدمات الأمنية ويمكن أن تشكل القوة الضاربة للمعركة المرتقبة ضد تنظيم "داعش" في الرقة.
2-إضعاف سيطرة بشار الأسد:
في ظل المداولات الإقليمية والمفاضات الجارية بدا بشار الأسد فاقدا للمبادرة تماما، حيث كانت تصريحاته تسير بصورة مغايرة لتوجهات حلفائه، وأظهرت المقاطع المصورة هيمنة الإيرانيين واللبنانيين على الأرض بينما كان بشار يتحدث من فقاعته اليوطوبية بأحد سراديب القصر الجمهوري عن فلسفة التاريخ.
وبخلاف سيناريوهات التصعيد التي تحدث عنها بشار، فإن روسيا بادرت إلى تعزيز مكتسباتها من خلال الاتفاق مع طهران وأنقرة على وقف للقتال، مدركة أن النظام لا يستطيع تعويض نقصه العددي إلا من خلال الاعتماد على الميليشيات الأجنبية، مما دفع موسكو لإرسال كتيبتي مهمات شيشانية خاصة لحماية مقراتها الإستراتيجية عقب الفشل الذريع لقوات النظام في تدمر.
وبدا من الواضح أن بشار الأسد بات أكثر ارتهانا بحلفائه الأجانب، وأشد اضطرارا إلى القبول بفقدان مساحات من سوريا ووجود جيوب لمعارضة لن يتمكن من سحقها، فالانتصارات التي تحققت في ساحة المعركةلم تؤمن حكم الأسد، وإنما عزززت النفوذ الروسي والإيراني على حساب جيشه المنهك.
وعلى الرغم من الانتصار المكلف في حلب، إلا أن المعركة قد عززت البعد الطائفي للصراع، وأسهمت في تهجير المزيد من السوريين، وفاقمت الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها نظام دمشق في ظل العقوبات الغربية المفروضة عليه منذ عام 2011، في حين تقتصر سلطة بشار في دمشق على إدارة هيكل دولة فاشلة لا مستقبل لها مما يمثل خطرا على الأمن الإقليمي والأمن الدولي.
وأثارت المفاوضات الروسيةالمباشرة مع الفصائل حفيظة نظامي دمشق وطهران، خاصة وأن موسكو رفضت تمثيل النظام بأية صورة في المفاوضات التي أجراها الضباط الروس مع فصائل المعارضة في تركيا، كما أنها اعترفت رسميا بالوجود العسكري التركي وبدور فصائل المعارضة في محاربة تنظيم "داعش" ببلدة الباب، مما يؤكد أن النظام قد فقد أية قدرة على التأثير في سياسات موسكو، وأنه بات يخضع بالكامل لإملاءات الضباط الروس الذين أصبحوا يتحكمون بسير المعارك ويتفاوضون مع الأتراك والإيرانيين على مستقبل سوريا دون مشاركة الأسد.
ومثل فرار قوات النظام أمام مقاتلي داعش في 11 ديسمبر خطرا كبيرا على القواعد الجوية وأنظمة الدفاع الجوي S300 و S400 في تدمر، حيث ألقى الضباط الروس اللوم على قوات النظام التي فرت من الموقع تاركة للتنظيم حرية الحركة في المدينة وضواحيها، بعد أن أخلت فرع الأمن العسكري والقاعدة العسكرية المجاورة له دون مقاومة.
ولا يخفي المسؤولون السوريون خلافاتهم مع الروس، حيث نقل تقرير غربي عن أحد المقربين من الأسد، قوله: "نريد أن نسترجع كل سوريا، وأما الروس، يريدون سوريا المفيدة، وهذا هو الاختلاف الرئيس، فبالنسبة لموسكو، فإن الهدف هو استعادة المدن الكبيرة والضواحي المحيطة بها وشبكة خطوط أنابيب النفط والغاز في البلاد "، لكنه اعترف أنه:" ليس لدينا بديل... نحن لسنا سادة الموقف على طاولة المفاوضات حول عملية الانتقال السياسي ".
3-إضعاف النفوذ الإيراني لصالح المصريين:
يشعر الإيرانيون بالقلق من توجه روسيا لإضعاف نفوذهم في سوريا، ولا يخفي عناصر "حزب الله" امتعاضهم من تدخل الاستخبارات الروسية لمنعهم من بناء منشآت عسكرية سرية كانوا قد بدأوا في تشييدها بالقرب من مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل، وذلك حرصا على علاقات جيدة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كما يتردد الحديث عن وقوع اشتباكات بين الروس والإيرانيين نتيجة خلاف حول الحرس الشخصي للأسد، الذي يضم سوريين وإيرانيين من وحدة المهدي.
وبينما تمنع موسكو إيران وحلفاءها من تشييد المزيد من القواعد، تقوم في الوقت نفسه بتعزيز قدراتها في مناطق مختلفة من البلاد، حيث تقوم فرقة هندسة من القوات الجوية الروسية ببناء قاعدة جوية أخرى في "أخترين" شمال شرقي حلب، وتعمل على إنشاء مدرجات جديدة لمقاتلات القوات الجوية والقاذفات وبناء مرابض لبطاريات الصواريخ المتقدمة المضادة للطائرات.
وفي مقابل التعليمات المشددة لأجهزة الأمن السورية بإضعاف العنصر الثقافي الإيراني في البلاد، يكثف ضباط النظام المقربون من روسيا اتصالاتهم مع القاهرة التي تتبنى برنامج تعاون عسكري -أمني مع دمشق، حيث تم توزيع ضباطمصريين على أكثر من مركز تنسيق، بدأت في رئاسة الأركان السورية في دمشق وفي قاعدة حماه الجوية، وتوسعت مؤخرا لتشمل قاعدة حميميم الجوية ومطار "تي فور" في ريف حمص الشرقي، فضلا عن انتشار مجموعة من المستشارين في عدد من غرف العمليات العسكرية السورية، من درعا إلى حماه إلى جورين في منطقة سهل الغاب، ويتوقع أن يتم تعزيزها بإرسال قطعات بحرية مصرية وكتيبة هندسية من الجيش المصري، مهمتها نزع الألغام والعبوات الناسفة لتبدأ أولى مهماتها في أحياء مدينة حلب الشرقية بالتعاون مع القوات السورية والروسية.
وأكد تقرير أمني (7 ديسمبر 2016) أن مصر تمثل أحد أهم عناصر تغير معادلة الصراع ف
لا احتفالات في رأس السنة للسوريين، ثمة احتفالات من نوع آخر تقتحم حياتهم، الاحتفال بالراية السوداء.
في ليلة رأس السنة، أتحف ما يسمى “أهل العالم في الشام” السوريين ببيان يبشرهم بسرقة آخر ما تبقى من ثورتهم، وبتحويل الثورة إلى ميليشيا أمراء، تُكفّر وتُتاجر بالإسلام والوطن والطوائف، حين أعلنوا توقيع ما يُسمى اتفاقية الاندماج في الشمال السوري.
“أحرار الشام، فتح الشام، نور الدين زنكي، أجناد الشام، لواء الحق، أنصار الدين، الحزب الإسلامي التركستاني”، ولاحقًا “أجناد القوقاز”، هم الموقعون على الاتفاقية التي سترفع العلم الأسود شعارًا لهم، وسترمي العلم الأخضر “المعادي للأسد” بالرصاصة غير الرحيمة.
وبين الاندماج والانشقاقات، رفضت “أحرار الشام” الاندماج، واشتعلت معارك افتراضية على الـ (تويتر) بين لبيب نحاس (رئيس العلاقات الدولية في حركة أحرار الشام)، وآراء قريبة من “فتح الشام”، أو مُحتجة على شق الصف من مختلف الآراء الإسلامية، وبات خبر الاندماج ما بين تأكيد ونفي، أشبه بأخبار معارك الفصائل التي تزغرد للتقدم شبرًا، وتولول للتراجع شبرين، ولا تزال الراية السوداء بانتظار خضوع كل من يرفض الضرب بسيفها وسيف “جبهة الشام”.
في العودة إلى الفصائل التي من المفترض أنها وقعت على الاندماج للقتال ضد نظام بشار الأسد، عدو السوريين والثورة، فإن ثمة اسمين لفصيلين لا يعرفهما أحد من السوريين: “الحزب الإسلامي التركستاني” و”أجناد القوقاز”، ذلك أن الفصيلين ليسا سوريين، فعن أي ثورة تتحدث “فتح الشام”، ولمصلحة من يجب أن تُوقّع فصائل سورية على وثيقة ستضعها جميعها تحت سيف صفة الإرهاب، وستضع كل متعاطف معها تحت السيف نفسه؛ هل فعلًا هؤلاء الزعماء يُقاتلون ضد النظام، أم يُقدمون أغلى هدية لبشار وبوتين؟
المعارضة السورية المسلحة، كما تحب القنوات الإخبارية العربية أن تسميها، والثوار كما كان يسميها السوريون، أصبحت اليوم عددًا لا متناهيًا من الفصائل، لا هي تعرف الشعب، ولا الشعب يعرفها، لا بتسمياتها ولا بأعدادها، ولكنهم يعرفون أن الداعم السياسي والمادي هو الحد الفاصل للتفريق بينها.
وللشمال السوري تناقضات لا تنتهي، إذ بعد الإعلان عن توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار قبل أيام قليلة، خرجت بعض الفصائل لتُنكر توقيعها على الاتفاقية “أحرار الشام وفتح الشام”، وبعد أن اكتشفت المعارضة المسلحة التي وقّعت على الاتفاق أن ثمة خديعة من الجانب الروسي، وأنهم وقّعوا على اتفاقية مختلفة عن تلك التي وقعها النظام، سارعت “جبهة فتح الشام” و”أحرار الشام” للشماتة والضحك.
بمن يشمت أولئك ولصالح من؟ ومن سلّم حلب للنظام ولروسيا، وكيف خرج “الأحرار” و”فتح الشام” من الشهباء خلال ساعات، تاركين وراءهم مخازن الطعام والسلاح ممتلئة، ومن اتّخذ قرار تسليم حلب، وهل يأتي الاندماج اليوم؛ للتغطية على النكبة التي تركوا حلب والسوريين فيها، بعد ذلك السقوط المريع والسريع والمفاجئ؟
فصائل معارضة مسلحة، إسلامية، لها شرعيوها وقضاتها ومشايخ فتاوى بحسب الطلب، تُوقّع أو لا توقّع، تنسحب أو تُحارب، ترفع علمًا أسودَ، وفي أحسن الأحوال ترفع علمًا باسمها، معارك تويترية، اندماج يتجمّل بفتاوى دينية؛ للتأثير في الشعب الذي لا يتوقف عن الموت برصاص كل دول العالم، وأمام ناظريه، ومعارضة سياسية فاشلة غائبة ومُغيّبة، شعبوية منافقة، أو نرجسية حمقاء، تستنكف عن إطلاق تصريح حول ما وقّعت عليه الفصائل، فتُسارع تركيا لـ “فرك أذنها”؛ لتكون النتيجة تصريحات سريعة ومباشرة لمباركة الاتفاق، الذي لا يزال الشعب غائبًا عن تفاصيله، وبينما تنص الاتفاقية على إلزام الدول الضامنة “تركيا وروسيا” مراقبة وقف إطلاق النار، يخرج صحافيون وناشطون بمجموعة “فيسبوكية”؛ لتوثيق الانتهاكات، مجموعة تغيب عنها معايير التوثيق، ويحضر فيها تجميع “لايكات”، وتموت “بوستات” التوثيق ويموت معها إحساسنا بالهدنة، أو كما يُحب العالم أن يسميها “وقفًا لإطلاق النار”، ويتوقف بردى، ويدب اليأس في قلب فصائل بردى، ويناشدون فصائل الشمال، ولا حياة لمن تُناشد، فأولئك مُنشغلون بالاندماج وعدم الاندماج، ويصيح السوري “لله المشتكى”.
بعد ان حاولت روسيا الكيل بمكيالين، ودفع المعارضة المسلحة للتوقيع على هدنة مزعومة برقابة تركية – روسية، جاء تصعيد قوات النظام السوري على وادي بردى، كنوع من لّي الئراع لإنهاء منطقة ريف دمشق بشكل شبه كامل، والسيطرة على مكنون المياه فيها، إلا أن الروس لم يتوقعوا صموداً من فصائل وادي بردى، خاصة أنها تضم 100 ألف مدني يمكن الضغط من خلالهم على الفصائل للانسحاب منها وتسليمها للنظام، في وقت قليل.
روسيا التي لم تستطع كظم غيظها، عادت الى قصفها الجوي في ادلب وريفها، كإشارة منها لنقض الهدنة الموقعة في ال29 من كانون الأول، وهذا النقض لم يكن الأول في عهد التواجد الروسي في سوريا، فقد سبقه نقض الهدنة الروسية - الأمريكية قبل أشهر، بعد استخدام ذات أسلوب الضغط الجوي، والتفنن في الاجرام ضد المدنيين، وهو امر متوقع في السياسة الروسية بل إنه الشيء الطبيعي على أقل تقدير.
روسيا التي "تبولت" في طبق طعامها، بعد أن حاولت أن تدفع بعجلة الحل السياسي لأنها لم تعد تحتمل المزيد من الخسائر، عادت الى أصلها ونجست طبق طعامها، لأنها لن تستطيع أن توصل سوريا الى الحل السياسي الذي يتلاءم ومصالحها، بالإبقاء على جذور النظام مع تغييرات طفيفة، وكأنها تريد أن توقد امبراطوريتها السوفيتية المزعومة من خلال اثبات حيويتها في سوريا، من خلال اتباع أسلوب الهمجية السوفيتية لإعادة أمجادها من جديد.
فلاديمير بوتين الذي خطط لإلباس قميص الإنتظار لكافة الفصائل الموقعة على الهدنة ، ليجبرها على الإلتزام بشروط مزيفة ، تتماهى الى جانب النظام السوري ، لم يتوقع في هذه الفترة من الحرب التي أنهكت الروس أنفسهم بالرغم من امتلاكهم ترسانة بحرية وجوية، ألا تكون قوى الفصائل قد أنهكت خاصة بعد معركة حلب الأخيرة، ما يجعلها أكثر سلاماً وقبولاً بالشروط المدرجة في الهدنة، خاصة بعد سيطرة النظام على حلب وعلى معظم المناطق المحيطة بدمشق، إلا ان الفصائل وبالرغم من هفواتها لم ترضى بمواصلة الإلتزام بالهدنة، التي كان لتركيا دور في دس السم في المعارضة السورية بما يتناسب ومصالحها.
وماكان أمام روسيا إلا أن تعود من جديد الى القصف الجوي، خاصة مع التصعيد الأمريكي الأخير بطرد دبلوماسيين روس من الولايات المتحدة، لتثبت للرئيس الأمريكي الجديد الجديد "دونالد ترامب"، أنها محور البوصلة في الشرق الأوسط، وإن كان يتوجب عليها أن تتبول في طبق طعامها فليس هناك مشكلة، المهم ان تبقى امبراطورية بوتين تصدح في سوريا، حتى تتاح له الفرصة لعب لعبة جديدة من خلال عرض هدنة مزعومة جديدة، قد تؤدي الى حل سياسي في سوريا ذات يوم.
مع تصاعد السجال الحالي داخل التشكيل الأكبر و الأبرز في الثورة السورية ، بشأن الاندماج من عدمه مع المعروض حالياً في الساحة ، تدخل حركة “الأحرار” في نفق مظلم لا يبدو أنها ستخرج منه قريباً كما كانت من قبل ، وسط توقعات بأن الانشقاق الداخلي قد ضرب أطنابه و تجذر.
تختلف النظرات و التحليلات التي تبحث في مسببات ما وصلت إليه الحركة ، التي قادت ، ولازالت (و إن كان بزخم أقل) مسيرة الثورة السورية ، واستطاعت أن تدير مفاصل مهمة من العمل الثوري بأنواعه المختلفة ، لكن هذا الأمر لم يدم على ذات السوية و بنفس النَفس ، إذ أن الخط داخل الحركة اختلف بطريقة ، يجعل البنيان العملي فيها آيلاً للسقوط.
يكفي أن تُطلق لحيتك و تتفقه ببعض الدين ، وبالطبع وجوب المبايعة بلا عودة أو ردة ، حتى تحظى بفرصة جيدة جداً ، لأن تكون ذو شأن و دور فاعل في مختلف مناحي الحياة (العسكري - المدني - الاغاثي - السياسي - الاعلامي …. ) ، ولا حاجة لشهادات اختصاصية ولاخبرات عملية ، فالأمر ليس بهذه الأهمية ، وهذه القضية لاتتعلق بـ “الأحرار” وحدها و لكنها دخلت مفاصل هذه الحركة ، وانتشرت.
قد يكون الانتقاد مزعجاً و يُتهم بأنه خبيث ، والأهم بأنه نابع عن “كاره” ، و لكن من يراجع مسار الحركة منذ أول كتيبة حتى وصولها إلى الانتشار الأوسع في كافة المناطق السورية ، ويستذكر قياداتها و آلية الادارة التي كانت تنتهج ، يشعر بواجب الانتقاد ووجوبه , علّه يفيد في تدارك ما يمكن تداركه.
اليوم حركة الأحرار التي تواصل عمليات تهميش الخبرات جميعها ، ووضعها في مفاصل غير ذات أهمية ، و الأهم لاتملك أي قرار بأي أمر مهما صغر أو كبر ، وظهرت طبقة كانت محصورة في نطاق ضيق بـ”الشرع” و الافتاء ، إذ بها اليوم تتصدر المشهد و تتخذ القرارات في أعقد الأمور ،حتى يصل إلى حد التدخل في سياسات الدول ، مع عنجهية مبنية على أوهام ، نتيجة الضعف في الخبرة و ضبابية النظرة.
اليوم تقف الأحرار أمام مشهد مصيري ليس لها كتشكيل أو مجموعة ما ، وإنما الأمر متعلق بشعب بأكمله تتحمل مسؤوليته و وزره ، والغريب هو الاصرار على الاعتماد على أشخاص يتمتعون بنوع عالي من الولاء حد التبعية العمياء ، وابعاد أي خبرة حتى بات اليوم التعامل مع الحركة بحاجة لبدائية مقيتة حتى توصل فكرتك أو تفهم ما يرغبون.
لايقتصر الأمر على جناح معين في الحركة بل الأمر أشمل من أي يحصر ، والشق العسكري ليس ببعيد اطلاقاً بعد سلسلة من المعارك الغير موفقة سواء ضد النظام وحلفاءه أو الخوارج ، اضافة للجانب الأمني المتفلت ، وجميعها يصب في ذات السبب ألا وهو التركيز على الولاءات و استبعاد الكفاءات .
الشلل في حركة “أحرار الشام” ، هو أمر مريب و يتطلب وقفة جادة و حادة من الأصلاء الذين عاصروا القادة الشهداء ، الذين قدموا نموذجا أكثر من رائع في توزيع العمل تبعاً للاختصاص ، نجحت في تأسيس مناطق بإدارات مدنية و تنسيق الخدمات بالتوازي مع نشاط توعوي شامل ، واستيعاب للجميع لحد الاحتضان .
مع قرب دخول ترامب للبيت الأبيض، أطلق أوباما آخر أوراقه بغية صناعة مجد أخير، كانت إدانة الاستيطان الإسرائيلي، ومن ثم طرد الدبلوماسيين الروس، وهي إجراءات شكلية لا تؤثر على جوهر التمدد الروسي، ولن توقف الاستيطان الإسرائيلي.
بالنسبة لترامب، فإن التفاهم مع الروس سيكون مهمًا فترة ولايته، وثمة أنباء عن أدوار مرتقبة لمن خبر الروس ودرسهم مثل هنري كيسنجر، لكن في ظل كل تلك التحليلات، كيف ستكون الأمور بين دول الخليج وزمن ترامب؟ وخصوصًا بعد أن أثبتت الدول الست قدرتها على تنظيم الاختلاف حول بعض الملفات، وبدا ذلك بعودة سلطنة عمان إلى البيت الخليجي، منضويةً مع التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب... كيف سيتعاطى ترامب مع دول الخليج؟!
ربما من أهم ما صرّح به فريق ترامب، عزمه الحقيقي على تأسيس حلف يضم دول الخليج ومصر وتركيا، وذلك للحد من مدّ إيران الطغياني، وتهيئة الأجواء لمحاصرة الإرهاب، وتأمين دول الخليج... المشروع كان رفضه أوباما المنعزل. الخطط المزمعة لدى ترامب في المنطقة ستصبّ في صالح دول الخليج وأمنها، قد نعيش عقبات الاتفاقية الإيرانية، وتغول المارد الطائفي بالمنطقة أكثر مما هو عليه الآن، غير أن الفارق يكمن في وجود رئيس قوي مثل ترامب، بفريق حكومي لديه وعي شديد بألاعيب إيران، على عكس تراخي أوباما، وكيري، الخطير مع إيران، ومحورها الأشر.
الضرب في الميت حرام، لكن يمكن التذكير باستسلام غير مسبوق، لإدارة أوباما أمام ملالي إيران! وذلك رغم إنشائها لأكثر من أربعين فصيلاً ميليشياويًا، يدربهم، ويصرف عليهم، ويقودهم الحرس الثوري الإيراني. بينما الحشد الشعبي الطائفي في العراق، يشكّل أكبر التهديدات التي تواجه دول الخليج، إذ جنّدت إيران، ومعها المحور الموالي لها بالعراق عشرات الآلاف من المقاتلين، أخذتهم من الحياة الطبيعية، والدكاكين، وممارسة اليوميات إلى جبهات القتال، وهي الآن تبشّر بالذهاب إلى سوريا، ومن بعدها الانتقال للقتال باليمن، وربما أطلقت هذه الذئاب الجائعة لدول الخليج، بغية ممارسة عمليات إرهابية، والانتقام من السعودية والبحرين، وربما استهدفت الكويت، ولن توفّر بقية الدول المنضوية مع السعودية في التحالف العربي، لإعادة الشرعية في اليمن.
أمام ترامب تحدٍ أساسي، يتمثل في إدراج الإرهاب الشيعي ضمن الحملة على الإرهاب، ليعكس النظرية الأوبامية الطائفية الناظرة للإرهاب فقط، بوصفه منتجًا سنيًا، بينما الميليشيات الشيعية «تحارب (داعش)»!
كنتُ اطلعت على دراسة مهمة لمريم سلطان لوتاه، عن «أمن الخليج، والتحديات الراهنة، والسيناريوهات المستقبلية»، وبقدر جدّية الطرح، فإن الخلاصة التي وصلت إليها الباحثة ترصد مخاطر حقيقية أمام الأمن الخليجي في المستقبل المنظور. الدراسة ترى أن «تجاوز حالة الضعف، والانطلاق نحو تحقيق الأمن بمفهومه الإنساني، لن يتأتى إلا من خلال علاقة تعاونية عربية، كفيلة بأن توفر لكل بلدٍ عربي عمقًا أمنيًا إقليميًا، يجعله أكثر صلابة في حال تعرضه لأي تهديد خارجي»، ثم تعوّل على أمر داخلي لدول الخليج، وهو «الاستقرار السياسي»، وهذا بالطبع أمر مهم، إذ إن الوحدة الداخلية للمجتمعات الخليجية مع الأنظمة السياسية، تسهم في رفع مستوى التحدي للتدخلات الإيرانية، وخصوصًا أن الإعلام المعادي يرسم سيناريوهات تقسيم كارثية، لكن سرعان ما ردّت مصادر من فريق ترامب، بأن التقسيم بالمنطقة ليس من أجندات ترامب السياسية.
مستقبل الخليج مع الإدارة الأميركية القادمة، يرجح أن يشهد تعاونًا أكبر مما كان عليه في الحقبتين الرئاسيتين لأوباما، ذلك أن الملفات المشتركة والتعاون الأمني والسياسي ضروري، لتحصين المنطقة من الإرهاب بأشكاله السنية والشيعية. لا فضل لإرهاب على آخر، ولا فرق بين إرهاب سني أو شيعي.
يدرك ترامب وفريقه، أن المدّ الإيراني يدمّر مصالح أميركا التاريخية، كما يقول هنري كيسنجر نفسه، وبالتالي فإن تعديل الاتفاق النووي الإيراني، وتقليم أظافر الملالي ونظامهم، يؤمّن مصالح الولايات المتحدة، وخصوصًا أن إيران تخدم حضور روسيا في الخليج، ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، وهذا يضعف من الهيمنة الأميركية التاريخية، وتجعل حلفاءها أقل حضورًا وتأثيرًا.. وحين ينحسر الاعتدال تحضر قوى الظلام والقتل!
أغلقت سنة 2016 على إعلانٍ ثالث لوقف إطلاق نارٍ شاملٍ فوق الأراضي السورية.. الأمر يختلف قليلاً في المرة الأخيرة عن سابقيْه، فقد جاء الإقرار بعد اجتماعاتٍ بين روسيا وإيران وتركيا، ولهذه الدول قواتٌ عسكريةٌ على الأرض، ولها تداخل مباشر وفعال، ولكل منها مصالح قوية، بعضها متعارض. جرى الاتفاق بغياب قوى إقليمية ودولية مؤثرة، وإن لم تمتلك قوات عسكرية في الميدان، ولكن انجاز الاتفاق بغيابها لا يعني أنها غير موافقة. أما توقيع الإعلان فقد تم بواسطة قادة الفصائل العسكرية الرئيسية، واستُثني تنظيم الدولة الإسلامية. تبدو كل هذه الفعاليات ذات شكل عسكري، ابتداءً من الأطراف الراعية والضامنة، وهما روسيا وتركيا، المنخرطتان عسكرياً، ومن ثم الأطراف المقاتلة على الأرض، مثل جيش النظام مع المليشيات المتحالفة معه، وجبهات المعارضة المسلحة.
وعلى الرغم من بعض الاعتراضات التي رافقت الإعلان، إلا أن الالتزام يبدو واضحاً على الجبهات الرئيسية حتى هذه اللحظة. لا تتضمن الوثائق التي وقع عليها الطرفان بنوداً كثيرة، ولكنها تحمل التزاماً بتشكيل وفد، والبدء بالحوار لإقرار خريطة طريق. التوقيع على وقف إطلاق النار ليس مشكلةً لأحد، فيمكن العودة عنه، أو إليه في أية لحظة، وتحت أية ذريعة، وتشكيل الوفود أيضا مسألة في غاية السهولة. العقبة في خريطة الطريق، وهو الطريق الذي غابت معالمه بغياب كل آثار المدن الرئيسية والفرعية، الواقعة تحت تأثير القصف، وسُجل فيها نصف مليون قتيل، وتشريد لنصف السوريين المسجلين رسمياً في دوائر نفوس وزارة الإدارة المحلية.
المطلوب، بحسب الاتفاق الطازج، من جهات عسكرية الطابع ونزقة الطباع، إقرار خريطة طريق لمن تبقى في سورية، للخروج من تحت الأنقاض، وبداية حياة جديدة. تبدو المسألة عسيرةً لأن الطريق المطلوب رسم خريطة لها غائبة الملامح ومقطعة الأوصال، والتوقيع ذاته الذي أعقب أعنف هجوم على مدينةٍ عريقةٍ كحلب انتهى بتهجير ربع قاطنيها، بعد أن تحوّل جزؤها الأكبر إلى كومةٍ من الحجارة. التباينات واسعةٌ جداً بين الأطراف الموقعة للوثائق، وهي تبايناتٌ ستجعل الوصول إلى خريطة طريق موحدةٍ مهمة شديدة الصعوبة، تصل إلى مرتبة المستحيل، بالإضافة إلى وجود أطرافٍ عسكريةٍ أخرى، ذات حضور واسع وفعال، من الصعب على أي خريطة طريقٍ الظهور إلى الحياة، قبل أن يُعرف مصيرها، كتنظيم الدولة الإسلامية، وقوات سورية الديمقراطية، وهما قوتان إرهابيتان، بحسب تعاريف مختلفة للدول الراعية والجهات الموقعة على الإعلان. أما الخلاف الرئيس، والذي قد لا تتوفر له حلول مقبولة، فهو بشار الأسد نفسه، الذي لا زالت قوى المعارضة تصرّ على اختفائه بشكل كلي. أما طرف النظام، فلا يرى لنفسه وجوداً إلا بترؤس بشار الأسد زمام السلطة، وبالطريقة التي توحي بها قافية اسمه "إلى الأبد"، بالإضافة إلى الوضع الغائم للقوى السياسية المعارضة، الممثلة في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والذي لا يقترب منه الاتفاق، وكأنه مدعوٌّ، بطريقةٍ خفيةٍ، إلى أن يحل نفسه، حيث لا مكان متوافرا له في المشهد العسكري الحالي. وهذا ما يمكن أن يُدخل الحل ضمن مضمار "الخطير"، وقد اصطبغ كل شيء بلون عسكري، ما يعني أن المشهد كله أصبح معقداً، ونحن نتحدث عن تطبيق الديمقراطية.
شكل الإعلان المقتضب المصرّ على وقف النار، وبالوضع الراهن، يبدو كأنه غاية بحد ذاتها، وليس وسيلةً لبدء المفاوضات، والشروع برسم معالم طريق الخروج، تريد منه روسيا تثبيت شكل جغرافي محدّد، وتسجيل بضع نقاط في الأمم المتحدة التي أصدرت للتو قراراً يثني على إعلان وقف النار. يساهم الإعلان، بالفعل، في تثبيت خطوط وقف النار، وربما تعميقها، وقد تتحول مباحثات خرائط الطريق في أستانا إلى محادثات هدنةٍ، تُضبط فيها المعابر، وتُرَسّم فيها الحدود. وهذه بكلام صريح محادثاتُ تقسيمٍ مؤقت، قد يتحوّل إلى وضع نهائي. وبهذا، نكون قد كسبنا وقفاً للنار مقابل خسارة سورية موحدة، وإلى الأبد.
تفرض نفسها عبارة "شر البلية ما يُضحك"، فالسخرية وحدها تلطف الألم الشديد. ومثل ملايين من المتابعين للأحداث في عالمنا الذي يغلي بأفظع أشكال العنف، أقارن بين أداء المخابرات السورية وأداء المخابرات (أو الشرطة) في دول أوروبية عديدة. ومنها فرنسا وألمانيا اللتان شهدتا، في العام الماضي، جرائم مروّعة من دهس مواطنين عزّل إلى قتل قسّ في كنيسة (كان قد تبرع بأرض لبناء مسجد) إلى تفجير ملعب وإطلاق النار عشوائياً في مطاعم في باريس.
تتمتع المخابرات السورية بالسلطة المُطلقة، ويشعر كل سوري أنها تقبض عليه من عنقه. ويرتعب كلما اضطر أن يغادر سورية أو يعود إليها، إذ لا يعرف أي تهمةٍ قد تكون فُبركت ضده، ويشعر السوري أنه متهم دوماً من المخابرات، وعليه أن يقدّم براءة ذمة يومياً بأنه مواطن صالح، وشعاره في الحياة "الحيط الحيط ويا رب السترة". وكم من مواطن سوري أوقف على الحدود أو في المطار، بتهمة تشابه أسماء، واحتجزته أياماً أجهزة الأمن للتحقيق معه. وبعد أيام، وحين يكتشفون أن ثمّة خطأ وتشابه أسماء، يطلقون سراحه مع "لا تؤاخذنا". وأعرف مئات من هؤلاء المنكوبين قرّروا العودة من حيث أتوا، مضحّين بلقاء أهلهم، وتاركين بلدهم في قبضة الأمن.
لا تفوّت السلطة اللامحدودة للمخابرات السورية شاردة أو واردة، وأنا ممن لم أسلم من تحقيقاتهم، منعوني من السفر إلى البحرين، وأجبروني على مراجعة فرع أمن الدولة في دمشق (مع أنني أسكن اللاذقية)، ولا أعرف التهمة حتى اللحظة، لكن المحقق قال لي غاضباً: أنت تكتبين مقالات في جرائد معادية لسورية، وتنشرين الغسيل الوسخ. فقلت له إنني أفهم الكتابة بأنها نشر للغسيل الوسخ، كي ننقّي حياتنا من الأخطاء. واضطررت، لأحمي نفسي، ولخوفي من ألا أخرج من فرع أمن الدولة، أن أستشهد بقول حافظ الأسد: السكوت عن الخطأ مشاركة فيه. ويا للتأثير العجائبي لهذه العبارة. خرجت أدندن بأغاني الفرح بأنني لم أعتقل. بل في اليوم التالي كتبت مقالاً عن شجرة الفتنة الرائعة في حديقة فرع أمن الدولة، وكنت قد شعرت بالدهشة والصدمة إذ كيف تجرؤ شجرة الفتنة هذه على أن تنمو هناك.
لا يوجد نشاط ثقافي أو اجتماعي في سورية إلا ويحتاج لموافقة الأجهزة الأمنية، وأذكر أنني قدمت محاضرة في المركز الثقافي في اللاذقية (قبل بداية الثورة) عن الأدب النسائي، ويبدو أن عنصري الأمن المُكلفين بحضورها وكتابة تقرير عنها لم يتمكّنا من الحضور، لأسباب أعاقتهما. ثم فوجئت بعد ساعتين، في عيادتي، بدخول شابين مذعوريْن، طلبا مني أن ألخص المحاضرة، لأنهما من المخابرات ولم يتمكّنا من الحضور. حتى السفر وتقديم طلب إجازة إدارية لموظف أو طلب استقالة يحتاج موافقةً أمنية، من دمشق تحديداً، وقد ينتظر المواطن أياماً طويلة، وربما أشهرا، لكي يحصل عليها. باختصار، يشعر كل سوري أن عنصر أمن يشاركه العيش في بيته، أو بفرع مخابرات صغير محفور في دماغه، حتى أن أسرا كثيرة تصرخ بأولادها بأن يُخفضوا صوتهم، وهم يتكلمون عن فظاعات الأمن بأن للجدران آذانا.
عجيب أداء المخابرات الفرنسية والألمانية (مثلا) الرحيم، وغير المنطقي، فكل الذين ارتكبوا عمليات إرهابية في فرنسا أو ألمانيا كانت لهم سوابق جنائية وإجرامية والدولة على علم بها، ومع ذلك، ظلوا طليقين، يتنقلون من دولة إلى دولة. وأسخف حجة قرأتها أن المجرم المشتبه به (الطليق طبعا) يضعون في يده إسوارة معينة تدل على مكانه، ويبدو أنها تزيينية، فمن قتل الكاهن العجوز في الكنيسة كان يلبس الإسوارة، وارتكب جريمته من دون أن تفيد الأجهزة الأمنية بشيء. كيف يمكن تبرير بقاء هذا المجرم طليقاً بتنقلاته ولقاءاته مع العقول المدبرة، ويكون الحل الأمني والتفكير المخابراتي الفرنسي بأن يضعوا في معصمه إسوارة تدل على مكانه. وكانت لمن دهس بشاحنته أكثر من مائة شخص في مدينة نيس سوابق إجرامية كثيرة، ومع ذلك أطلق سراحه القضاء الفرنسي. وكم بدا مضحكاً وسخيفا لكثيرين اقتحام نحو ثلاثمئة عنصر أمني مسلح في الرابعة فجرا منزل شقيقة المجرم الذي ارتكب التفجير في ملعب باتلاكان في باريس، واستغرق الاقتحام ساعات. ورجحت معظم الصحف الفرنسية أن المرأة هي من فجرت نفسها. لو أن هذه المشكلة في سورية لكان الحل يستغرق ثانية واحدة (لا مبالغة)، يقصفون البناية التي تسكنها أخت المجرم ببرميل متفجر وينتهي الأمر. ويكون كل سكان البناية شهداء.
على أي أساس يتم إطلاق سراح هؤلاء والسماح لهم بالتنقل من دولة إلى دولة، بينما القوانين شديدة الصرامة، حين ينتقل طبيب مثلاً حاصل على تأشيرة إلى السويد، ليقيم ويعمل في فرنسا، لا تتوانى السلطات الفرنسية عن إعادته إلى البلد الذي أعطاه التأشيرة خلال 48 ساعة، كما لو أنه المجرم.
الفرق شاسع بين سلوك المخابرات السورية وتلك التي في ألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، كما المسافة بين الأرض والسماء. وكان صديق جاداً في مزاحه بقوله إن على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إرسال عناصر من مخابراتهم، ليتم تدريبهم في سورية، حيث كل مواطن مُتهم حتى يثبت العكس.
جاءت الصفعة الكبرى لفصائل المعارضة السورية مع بداية العام الجديد، ولم تبخل روسيا وتركيا بهدية "بابا نويل" على الشعب السوري، أرسلتها لهم في زوبعة من المكر مستبعدة هيئة المفاوضات، لتستغل هشاشة السياسية لدى الفصائل، وتجرفهم لتوقيع وثيقة مختلفة عن تلك التي وقع عليها النظام السوري مع ابرة مخدر يذهب مفعولها مع فوات الأوان.
الاختلاف في لب الوثيقتين، يشد حبل الحل السياسي باتجاه "النظام السوري"، في الوقت الذي كانت فيه كلمة "تأييد وإقرار" الفصائل المعارضة واضحة في الوثيقة التي وقعوا عليها، لتبدوا الفصائل المعرضة وكأنها تابعة لرأي النظام السوري، وما يزيد الطين بلة هو أن وثيقة النظام تضمنت بند يؤكد على تشكيل النظام لوفد في 31 كانون الأول، ليقوم بمفاوضات التسوية السياسية في أسيتانة، لتقدمه في اجتماع مجلس الأمن، فيما جاء في وثيقة المعارضة تشكيلهم وفد حتى 6 كانون الثاني، الأمر الذي سيجعلهم "مثل الأطرش بالزفة"، في ذات المجلس.
الصدمة التي لن تصحوا منها فصائل المعارضة حتى يكون السم قد أخذ مفعوله في المعارضة، في الوقت الذي شمتت بعض "الفصائل الخارجة عن الاتفاق" بالطعنة التي تلقتها الفصائل الموقعة، ليكون النظام وروسيا نجحوا في عملية الشرذمة وشق الصفوف بين المعارضة بامتياز.
في هذه الأثناء ومع الإبرة الصاعقة التي تعطى للحامل عند الولادة لتخدر طرفها السفلي ريثما يتم توليدها، تجد طريقة جديدة متبعة في الأعوام الأخيرة لا سيما مع سنوات "الربيع العربي"، تروج لأمر خطير، إنه إعلام "التكهن"، الذي يستمع له الناس على أنه نوع من الفضول، إلا أنه في الحقيقة إعلام مدروس يؤثر في العقل الباطن للإنسان، ويجعل العوام يرددون كلام "توقعات المنجمين لبداية العام" كالببغاء لينتشر الهدف من هذا الإعلام، إنه الإعلام الذي يصدر للأفكار التي يرغب بها صاحب النفوذ أو توجيه الدفة باتجاه إرادة الدول الكبرى.
المنجمون العرب الذين اشتهروا على مدار الأعوام الأخيرة رددوا على القنوات الفضائيات، فكرة "بقاء الأسد بدعم روسي إيراني عراقي"، وهي رسالة سياسية مبطنة بأن الحل السياسي سيفضي ببقاء الأسد وبوجود النظام، الأمر الذي يؤثر في اللاشعور لدى الإنسان السوري بأن وجود الأسد هو أمر حتمي لا مفر منه.
يعتبر الكثيرون أن فكرة التنجيم أقرب للشعوذة ودليل عن قلة الوعي والثقافة، إلا أن أكثر من 70 بالمائة من الشعوب العربية تتفاعل وهذه التوقعات، وتؤثر عليها سلباً أو إيجاباً بفعل علم الطاقة والعقل اللاواعي، التكهن الذي يحرك بعجلة العقول باتجاه السياسات المفروضة والمقررة من قبل المجتمع الدولي.
وأكبر دليل على ذلك تزامن الخدعة الروسية التركية لفصائل المعارضة بوثيقة مغايرة عن وثيقة النظام، مع عرض شاشات التلفاز لتوقعات المنجمين ببقاء الأسد، وعودة العلاقات بينه وبين الأنظمة العربية، الأمر الذي يحمل رسالة في المرتبة الأولى لقادة الفصائل المعارضة بأن الشعب السوري سيبرمج بما يتلاءم مع المرحلة المقبلة، والأخيرة بدورها ستضغط باتجاه الحل الذي تروج له الجهة الأقوى إعلامياً ودولياً، ولا نستطيع أن ننكر أن النظام السوري هو المالك للإعلام الأقوى في هذه المرحلة من خلال حلفائه دون منازع.
لا شك أنّ عمليات التشكيك بالقيادات السياسية التوافقية المعارضة التي لاقت قبول الرأي العام السوري، هو أسلوب مخابراتيّ هدفه التشويش و إسقاط كل القيادات المعتدلة وغير المتطرفة القادرة على قيادة المرحلة الانتقالية وإعادة بناء سوريا على أساس ديمقراطي خال من تجارة الدماء والاستبداد والعسكرة والأجهزة الأمنية مسلوبة الإرادة والتابعة للإرادة الخارجية التي لا تتقاطع مصالحها مع مصالح ومتطلبات الحراك الشعبي السوري.
لذا ملحوظ لدى متابع الواقع والإعلام أنّ المافيا السياسية وتجار الدم والسلاح والمخدرات يفلّتون صبيانهم المأجورين في مرحلة صناعة الحل السوري للتشهير بهذا وذلك، وإيقاع الثورة بهذه المرحلة الحرجة في مصيدة الاستنزاف الداخلي لصالح الروس والنظام، وما يبدوا أنّ استراتيجيتهم هؤلاء الصبية هي الشكيك بالقيادات المشهود لها بالاعتدال والالتزام والقدرة على انتزاع حق الثورة وإرادة الحراك دون تفريق أو تمييز أو اعتداء، وبذات الوقت يسعون لتعويم قيادات غير مقبولة شعبياً ولا يمكن أن تتقاطع مصالحها إلّا مع إرادة النظام السوري وأجهزته الأمنية المدجنة ومسلوبة الإرادة والتي يتحكم فيها كل زناة الأرض إلّا السوريين!.
فدعوة هؤلاء الصبية المأجورين لصالح تجار السلاح والدم والقرار السوري، إلى ضرورة وصد الأبواب في وجه ما يصفونه تعنت الفريق التفاوضي لهيئة التفاوض العليا ، بحجة أن مفاتيح الحل اليوم أمست بيد الدب الروسي ولا بدّ أن نغيّر فريق المعارضة بما يتفق مع إرادة الروس كقائد عسكري أثبت وجوده في المشرق العربي!.
متناسياً هذا السياسي الفذ أنّ الدب الروسي ورغم قوته وسلطانه العسكري لا يمكنه تحقيق الاستقرار إلّا بتنفيذ إرادة السوريين وتطلعاتهم، وإنّ ما يصفونه بتعنّت الفريق التفاوض هو ليس بتعنّت، ولكن هذا الإصرار السياسي للفريق التفاوضي على ثوابت الثورة "قسم" لا يمكن الحنث فيه و أمر لا يمكن تجاهله أو الالتفاف عليه لأنّ شرعية حجاب وفريقه التفاوضي متعلّق وجوده بمدى نجاحه في المحافظة على ثوابت الحراك وعدم المتاجرة بها، لأنّه لا يملك حق التنازل عنها، خاصة وأنّ مثل هذه الخطوة لن تزيد الواقع إلا دماء ومماطلة لا يعرف حدّ لها.
لكن ما يبدوا أنّ الرصاص الروسي والطيران الحربي استطاع أن يفقد بعض المتثورنين ثقتهم بإرادة السوريين كشعب مقهور دفع الفاتورة من دمه وأولاده وكل ما يملك، والغريب أنّهم يستخسرون عليه أن يقبض الثمن، بل يريدون تحويله من شارٍ للحرية والديمقراطية والحياة الكريمة، لمجرد ورقة ضغط يتجاذبها السياسيون لتحقيق مصالحهم الشخصية المغمّسة بدماء الأطفال وقهر الرجال.
على السوريين أن يدركوا بأنّ النصر صبر ساعة وأنّ الأطراف الأخرى تابعة لإرادة السوريين وليس العكس، ولولا أنّها فقدت صبرها وتزعزع كيانها وفقدت صوابها لما أقدمت على التفاوض، وعلينا أن نؤمن ونيقن بأنّ الروس يحتاجوننا ولا نحتاجهم، وأننا الأساس وهم التابع، وغايتهم التفرد بالأشخاص وهدمهم للفريق ومفاوضة أنفسهم بانتقاء أدعدائهم!، فحجاب ليس هو المستهدف بل الثوابت والفريق الذي يقوده باحترافية. وأخيراً وباختصار، هناك حقيقة واحدة لا يمكن لأحد التشكيك فيها، وهي أنّ الكل يسقط ويبقى الشعب والجميع متغيرات ثانوية في حضرة صاحب الأرض.
لا يملك المرء أمام حالة الدمار التي وصلت إليها سورية سوى الوقوف برهة، والتأمل في مآلات الثورة، متنقلاً بين محطاتها وتعرّجاتها وانتكاساتها ومآسيها. وهي الثورة التي أعادت تعريف موازين القوى في المنطقة وخارجها، ليس لصالح السوريين للأسف، وإنما على حساب حريتهم وأرواحهم وديارهم. وهو الأمر الذي تلمحه في الاتفاقات الثلاثة التي تم توقيعها أخيراً (اتفاق وقف إطلاق النار، واتفاق مراقبة خروق الهدنة، واتفاق المفاوضات السياسية أو اتفاق أنقرة كما بات يُسمّي) بين الروس ممثلين عن النظام السوري، والأتراك ممثلين عن الفصائل السورية.
وبمعنى من المعاني، سوف تنتهي الثورة إلى حالةٍ تفاوضية بين طرفين لم يكونا يوماً في حسابات من أطلقوها. فمن كان يتخيّل يوم أن بدأت الثورة أواخر فبراير/شباط 2011، بشعارات الحرية والكرامة التي رسمها أطفال درعا على جدران مدارسهم قبل أن تنطلق رسميا منتصف مارس/ آذار التالي، أن يصبح مصيرها معلّقاً على أبواب الكرملين والقصر الرئاسي في منطقة بشتبيه في أنقرة؟ ومن كان يعتقد أن يقبل السوريون بتركيا التي كانت، عقوداً، جارة غير مرغوبة فيها، إن لم تكن عدوّة، بسبب استيلائها علي لواء الاسكندرون الذي كان تابعاً لولاية حلب ضمن سورية العثمانية في ثلاثينيات القرن الماضي، أن يقبلوا بها ملجأ أخيراً لهم إنسانياً وسياسياً، والمفاوض باسمهم ضد نظام بلدهم؟ ومن كان يتخيّل، من شباب الثورة وحركاتها، أن تكون روسيا التي تبعد عنهم آلاف الأميال هي التي سوف تحدّد مصير ثورتهم ومستقبلهم؟ إنه مكر التاريخ الذي لم يترك شيئاً على حاله.
لا يختلف حال السوريين كثيراً عن حال بلدانٍ كثيرة عاشت تحت وطأة أنظمةٍ عفنةٍ سياسياً وساقطة أخلاقياً، لا تعبأ بالكثير بالتفريط في سيادتها وأرضها وقرارها، من أجل البقاء في السلطة بأي ثمن. لا يهم، هنا، أن يكون المحتل فرنسياً أو بريطانيا أو روسياً، وإنما الأهم هو السلطة، ولو كانت لعائلة أو طائفة، والسيادة ولو كانت ناقصةً ومنتهكة. سوف يضع التاريخ بشار الأسد وعائلته ضمن الإطار الذي وُضعت فيها عائلاتٌ وطوائفُ كان الأجنبي أقرب لها من بني جلده ووطنه، كما كانت الحال مع عائلات وطوائف وجماعات عملت لصالح الاحتلالين، الفرنسي والبريطاني، مطلع القرن العشرين في سورية ولبنان ومصر وغيرها. وهي حال قرأنا عنها ولم نعشها، حتى جاء اليوم الذي نرى فيه حكوماتٍ وأنظمةً تذبح شعوبها، وتفرّط في سيادتها، وتغتال أطفالها من أجل السلطة.
جرى التفاوض بين الروس والأتراك حول مصير الثورة، وتوصلا إلى اتفاق هشّ للهدنة، كغيره من الاتفاقات السابقة التي لم يلتزم فيها الأسد ولا بوتين بالتوقف عن ذبح السوريين. وجرى الاتفاق بينهما، بينما العرب غائبون عن المشهد، وكأن سورية لم تعد عربية، بعد أن مزقتها الصراعات السياسية والطائفية. في حين ينظر الإيرانيون والأميركيون بحذرٍ إلى "اتفاق أنقرة" المفترض أن يمهد الأجواء إلى الجولة الأولى من المفاوضات في العاصمة الكازاخية، أستانة، أواخر يناير/كانون الثاني الجاري. في وقتٍ يبدو أن قوى المعارضة استسلمت للأمر الواقع، بعد الخسارة الموجعة في حلب التي سقطت في أيدي النظام قبل أسبوعين. وحسب وثيقة الحل السياسي أو التفاوض، فإن على فصائل المعارضة تشكيل وفد للتفاوض بحلول منتصف يناير الجاري. وهو أمر تبدو فيه شكوك كثيرة في ظل حالة الانقسام التي تبدو عليها المعارضة السورية، والتي كانت سبباً فيما آلت إليه أوضاع الثورة. وهي المعارضة التي تبدو شكوكها أصلاً في جدوى التفاوض، وأن بقية الأطراف سوف تلتزم به، في ظل عدم وجود ضمانات حقيقية، خصوصاً من جانب نظام الأسد لتنفيذ أي قراراتٍ قد يتم التوصل إليها بعد انتهاء المفاوضات. وقطعاً، لن يكون التفاوض في صالح هذه الفصائل، بقدر ما سيكون للطرف الآخر في المعادلة، وهو الأسد، ومن خلفه روسيا وإيران.
ينظر المرء إلى الخلف، ويسأل: إذا كان مآل الثورة السورية قد انتهى، ليصبح مجرد لعبة سياسية على رقعة شطرنج إقليمية ودولية، فهل كانت تستحق كل هذا الثمن والأرواح التي دُفعت لأجلها؟ صحيحٌ أن أي صراع سياسي لابد وأن ينتهي بالتفاوض. ولكن، بشرط أن تكون الأطراف المتفاوضة على قدم المساواة نفسه، أو على الأقل قريبة منها، بحيث لا يطغى طرفٌ على آخر، وهو أمر غير متحقق في الحالة السورية التي تبدو فيها قوى المعارضة على درجة كبيرة من التفكّك واليأس وعدم الانسجام. حتى وإن افترضنا أن اتفاق الحل النهائي سوف يتم تحت سقف بيان جنيف 1، والذي يشترط رحيل بشار الأسد من السلطة، وعدم وجود أي دور مستقبلي له، فإن الأسد، بعد معركة حلب وخسائرها، لن يقبل بهذا الشرط، مهما كان الثمن.
ويظل العائق الرئيسي في كيف يمكن تنفيذ أي اتفاق يتم التوصل إليه، فضلاً عن تحديد إطاره الزمني. وهو أمر قد يبدو الآن ثانوياً، لكنه أحد المطالب الرئيسية لقوى المعارضة، في حين لا تهتم به روسيا أو تركيا، لانشغالهما بملفات أخرى.
سيجري التفاوض، إذا، على ما تبقّى في سورية من أطلال، بعد أن حوّلها الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس وغيرهم إلى كومةٍ من التراب الذي لو نطق للعن كل من أراق دماء الأبرياء فوقه.