صحيح أنّ الثورات العربيّة انهزمت، كلٌّ بطريقتها، وإن تقاطعت تلك الطرق في غير موضع ومكان. لكنّها، على رغم الهزيمة، أحدثت في الواقع وفي العقل تغييرات لن تظهر كلّ آثارها إلاّ على مدى أبعد. فالثورة السوريّة مثلاً، بوصفها أكثر شقيقاتها دراميّةً وأكلافاً وتأثيراً في محيطها، يكفيها أنّها نظّفت التاريخ المحلّيّ، وجزئيّاً العربيّ، الذي سبق أن خطّه الدجل والتدليس. وكم يبدو اليوم كاذباً وسخيفاً مَن يبدأ التأريخ للمحنة السوريّة بنشأة «داعش» قبل سنوات ثلاث، ويتجاهل عام وراثة بشّار أباه في 2000، وعام الاستيلاء العائليّ – الطائفيّ على البلد عبر «الحركة التصحيحيّة» في 1970، وعام الاستيلاء الحزبيّ في 1963، رجوعاً ربّما إلى عام الاستيلاء العسكريّ الذي باشره حسني الزعيم في 1949.
وتنظيف كهذا ينطوي على درس علاجيّ بليغ، درسٍ يجعلنا استيعابه أذكى وأقدر على تعقّل عالمنا، مفاده رؤية العنف الناعم المقيم خلف العنف الخشن، والعنف المتدرّج والمتراكم وراء العنف المباشر الذي يأتي دفعة واحدة. إنّه درس يمنحنا عيوناً أكبر نرى من خلالها ما لم تكن تتيحه العيون.
وتنظيف التاريخ الذي يستعيد الحقيقة ويمتلكها فيما هو يشذّبها، هو، في أحد وجوهه، ما يعطي الصوت واللسان لملايين الصامتين والمدفوعين إلى صمت توارثوه جيلاً بعد جيل عن تلك التواريخ المؤسّسة للكارثة. لكنّه أيضاً ما يقدّم لهذه الملايين رواية تدحض الدجل المتراكم عن نظام «الأبد» والمساهمة الكبرى التي أسداها لـ «مقاومة الإمبرياليّة والصهيونيّة» وبقية الترّهات. وفي هذا لم تقتصر فضائل الثورة - والمقصود بها ثورة «التنسيقيّات» والسنتين الأوليين - على سوريّة: فالسوريّون الذين انتفضوا في 2011 خدموا الفلسطينيّين إذ فتحوا لهم طريق الخلاص من التلاعب المديد بهم وبقضيّتهم، بقدر ما خدموا اللبنانيّين إذ صدّعوا نظاماً ورواية ساهما بنشاط في تصديع بلدهم لبنان.
فوق هذا، لا يعود تنظيف التاريخ بالنفع على السوريّين الأحياء وحدهم. فهو يفضي إلى عدالة أكبر في الإقرار بأدوار مواطني سوريّة، المنتجين منهم والمبدعين والسياسيّين والجنود وسواهم، ممّن عاشوا وماتوا بوصفهم ضيوفاً ثقلاء الظلّ على «سوريّة الأسد». وإعادة تمليك الناس تاريخهم شرط شارط لإعادة تمليكهم بلدهم وتمكينهم فيه.
وقد يكفي الثورات، حتّى حين لا تملك الوعي الكافي بإنجازاتها، أنّها دمّرت تقليداً عربيّاً وإسلاميّاً لا تحول عراقته دون تفاهته، مؤدّاه أنّ العدوّ لا يقيم إلاّ في الخارج. فهي قالت، بمجرّد قيامها، إنّ عدوّاً، شرس العداوة، من «ذوي القربى»، يقيم في البيت ذاته. ولمّا كان نظام الأسد أكثر الأنظمة غَرْفاً من التقليد المذكور، يستخدمه علّةَ وجود له، كانت الثورة السوريّة أشدّ الثورات العربيّة تخليعاً وخلخلةً لذاك التقليد.
والذين يدافعون عن ذاك النظام، وعن العبوديّة التي رعاها، سيّئون بما فيه الكفاية. لكنّ من يفوقهم سوءاً أولئك الذين يقولون إنّهم يناهضون العبوديّة لكنّهم يتمسّكون بنظامها. هؤلاء، في أحسن أحوالهم، يرغبون بالتغيير من دون أن يحصل تغيير. يعلنون أنّهم يريدون دخول المستقبل شرط ألاّ تسقط شعرة من رأس الماضي بتراكيبه المراتبيّة الصارمة وبمزاعمه القوميّة والشعبويّة الكاذبة والموظّفة بخبث وسينيكيّة. ومن يريد المستقبل والماضي في وقت واحد ينتهي مزيِّفاً للماضي وحائلاً دون المستقبل. إنّه مجرّد عبد للحاضر، يلوّنه ويزوّقه ويحرص على إدامته وتجميله.
وهذا، بالطبع، لا يلغي مساءلة الثورة المهزومة عن أسباب هزيمتها، وتالياً مساءلة المجتمع والاجتماع السوريّين، والعربيّين، عن قدرتهما على إنتاج ثورة ورعايتها. لكنّه يلغي كلّ شكّ حول سقوط النظام الأسديّ بوصفه ضرورةً لأنّه نظام لا يليق إلاّ بالعبيد.
واليوم، فيما الروس والأتراك والإيرانيّون يقرّرون مصائر السوريّين، ينتشر في الأرض سوريّون بالملايين، سوريّون يعرفون أنّ الهزيمة لا تهزم الأمل، وأنّ الكذب لا يحجب الحقيقة إلى ما لا نهاية، وأنّ العبوديّة لن يكون لها مستقبل... هذا إذا كان ثمّة مستقبل!
لن يستطيع الذين يمارسون مهنة العرافة، واليوم موسمهم السنوي مع نهاية كل عام، الإحاطة بتطورات سوريا التي صارت اليوم قضية إقليمية ودولية في آن. ربما كان إتفاق وقف النار الذي بدأ سريانه بالامس أمرا يدعو الى الاسترخاء بعض الشيء، لكنه إتفاق مدعوم فعليا من روسيا وتركيا فيما كانت الولايات المتحدة الأميركية مبتعدة وإيران حذرة على رغم الالفاظ المنمقة التي أطلقها وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف.
ما يدعو الى إعتماد سياسة "إنتظر وأنظّر" هو ما كشفه ديبلوماسي روسي زار طهران منذ وقت قريب جدا أمام سياسيين لبنانيين عن الموقف الايراني من التطورات الجارية بعد معركة حلب، فنقل عن مسؤولين إيرانيين قولهم "أن الجمهورية الاسلامية لن تتخلّى عن دمشق وبيروت في أي ظرف" في إشارة الى ان أي مشروع حل قد يفضي الى تسوية تقضي بإنسحاب طهران وتاليا "حزب الله" ليست واردة في القاموس الفارسي.
ما صدر بالامس عن الكرملين من أن الرئيس السوري بشار الاسد أكد في إتصال هاتفي مع الرئيس فلاديمير بوتين "إستعداد حكومته التزام إتفاق وقف النار ومواصلة العملية السياسية " بدا وكأنه محاولة من موسكو لكي يلتزم النظام السوري علنا التحرك الجاري برعاية روسيا بغية إقناع المجتمع الدولي بعزمها الجاد على إدارة دفة الاحداث في سوريا.لكن الديبلوماسي الروسي المشار اليه أعلاه يقول أن بلاده غير متمسكة ببقاء الاسد إذا ما اقتضت التسوية النهائية تنحيه. ويضيف: "لم تعد حساباتنا في سوريا مثلما كانت أيام حافظ الاسد.أن نجله بشار غير والده تماماً، ملمحا الى ان إرتباط الرئيس الابن بطهران يتقدم على علاقته بموسكو.
في لقاء أجراه مراسل قناة "روسيا اليوم" في طهران قال وزير الدفاع الايراني حسين دهقان: "في المرحلة الحالية هناك بشار الاسد الاسد... أما أن يأتوا ويقولوا أنه يجب على بشار الاسد أن يترك السلطة فهذا هراء".
في العدد السنوي لمجلة "الايكونوميست" البريطانية والذي حمل عنوان "العالم في 2017" أن الاسد "سيبقى على ساحله بلا شك، آمنا من الاطاحة به على يد المتمردين بفضل الدعم الروسي.غير أنه وبالتوازي لن يكون قادرا على بسط سيطرته على القسم الاعظم في البلاد.إن الجهادية ستزدهر هناك بين الانقاض".
عام 2017 سيكون عام الخليفة ابو بكر البغدادي الذي صار في الرقّة كما تقول المصادر الاميركية بعدما أوشكت الحرب على "داعش" على إنجاز تصفية وجود هذا التنظيم في العراق بفضل الدعم الاميركي الواسع. كما أنه سيكون عام الاسد في دمشق بدعم إيراني واسع بفضل عشرات الالاف من العناصر الايرانية والموالية لها وفي طليعتها "حزب الله".في رأي الخبراء ستكون سنة 2017 سنة "تانغو" الاسد والبغدادي. ومن بيروت يشعر المرء بأن السنة الجديدة ستكون سنة الانفجار الكبير في سوريا.
يخطئ من يعتقد أن إيران تسعى إلى تسوية سياسية في سورية تقوم على تقاسم السلطة بين بشار الأسد والمعارضة، وأنها لا تملك سوى خيار التماهي مع المسعى الروسي لإعلان وقف إطلاق نار شامل والبدء في مفاوضات الحل في كازاخستان. فإيران التي قد تقبل بانحناء تكتيكي في انتظار مرور العاصفة الروسية، لديها أهداف أخرى، بينها استعادة سورية كلها إلى حضن نظام الأسد وإخضاع سائر مكونات الشعب السوري لسلطته، تمهيداً للمرحلة المقبلة من «تصدير الثورة» التي ستهدد دولاً أخرى في المنطقة.
تتقاطع الأهداف الإيرانية والروسية في الوقت الحالي عند تعزيز نظام الأسد وتقوية نفوذه وإعادة الاعتراف الدولي به، أو على الأقل إجبار العالم على التعامل معه بحكم الأمر الواقع. وتتنابذ هذه الأهداف حول سبل ووسائل تكريس «انتصار» النظام، ولاحقاً حول مستقبل سورية وطبيعة نظامها ودوره الإقليمي.
وترى روسيا من موقعها كدولة كبرى تربط بين ملفاتها الإقليمية استراتيجية واحدة، أنه لا بد من تكريس نتائج معركة حلب في اتفاق سياسي يثبّت أقدام النظام عبر إحداث انشقاق دائم في صفوف المعارضة، بما يحول دون أي إجماع مستقبلي على المطالبة برحيله. ولذلك دعت إلى مؤتمر في آستانة لإعلان وقف شامل لإطلاق النار والبدء في مفاوضات بين أطراف في المعارضة وممثلي النظام برعايتها.
وفي الوقت ذاته، تحرص موسكو على إبقاء خياراتها مفتوحة في حال فشل المؤتمر، فتؤكد أن وقف إطلاق النار يستثني التنظيمات الإرهابية، وهذا تعبير فضفاض يمكن توسيعه بسرعة ليشمل الفصائل التي ترفض الانضواء في الخطة الروسية ولا ترى لنظام الأسد أي دور في مستقبل سورية.
اأما إيران، وبحكم كونها دولة في حال توسع دائم، فتتعامل مع الملف السوري وفق مبدأ «القضم المتدرج»، وهو اسلوب طبقته بنجاح في دول اخرى، ويقوم على مفهوم نقل «خطوط الدفاع» عن «ثورتها» إلى منطقة أبعد في كل مرة. وهي لا تنظر إلى سورية ضمن حدودها، بل تفترض أن الحدود لم تعد قائمة بين العراق وسورية ولبنان، وتعتبر أن في هذه الدول الثلاث مجتمعة «غالبية شيعية» يحق لها أن تحكمها تحت رعايتها.
وتؤكد طهران أن المسعى السياسي الروسي يفترض أن لا يحول دون استمرار المعركة ضد «المتطرفين»، وهم في نظرها المعارضة السورية بكل تنويعاتها، وتحتفظ لنفسها، في إطار مشاركتها في اجتماع آستانة، بهامش من المناورة حول التفاصيل والمراحل. وسبق أن أجرت اختباراً لمدى قدرتها على تعطيل القرار الروسي عندما أوقفت تطبيق اتفاق أبرمته موسكو مع أنقرة لإجلاء المقاتلين والمدنيين من شرق حلب وربطته بإجلاء مدنيين من بلدتين شيعيتين في منطقة إدلب.
أما تركيا، فدروها استلحاقي، بعدما أدرك أردوغان انه لم يعد للأميركيين أي دور مقرر في الأزمة السورية، ولهذا قدم «عربوناً» إيجابياً في معركة حلب، وتبنى وجهة نظر موسكو وطهران في نزع الأولوية عن هدف إزاحة النظام.
ومشاركة إيران مرحلياً في الخطة الروسية، لا ينفي احتمال الانقلاب عليها إذا هددت خطتها البعيدة الأمد بتحويل سورية «منصة» للوصول إلى مناطق أخرى، أو عندما يصبح في إمكانها الاستغناء عن الدعم الروسي.
ولأن طهران تدير ميليشيات شتى على الأرض السورية وترتبط بنظام الأسد بعلاقات تمويل وتسليح، فهي تتحكم إلى حد كبير بالقرار العسكري، بينما يقتصر الوجود الروسي على قاعدتين بحرية وجوية وعدد محدود من أفراد القوات الخاصة. وهي ليست قلقة من أن يؤدي التقارب المحتمل بين موسكو والإدارة الأميركية الجديدة إلى تقليص نفوذها في سورية، فباستطاعتها أن تلجأ إذا دعت الحاجة إلى استهداف أمن القوات الروسية في سورية وأمن القوات الأميركية في العراق، مثلما فعلت سابقاً بالتعاون مع الأسد نفسه.
مع نهاية سنة 2016، مرّ ربع قرن عن نهاية الاتحاد السوفياتي بشكل رسمي من دون أن يكون هناك من يريد أن يتعلّم من مغزى سقوط الدولة العظمى تلك وأبعاد ذلك.
على العكس من ذلك، هناك في طهران وموسكو من يريد تكرار تلك التجربة الفاشلة ولكن على حساب المنطقة العربية هذه المرّة. يحصل ذلك في ظلّ قرار أميركي اتخذه باراك أوباما يقوم على تفسير خاص به لما هو الإرهاب ولمن يمارس الإرهاب.
الإرهاب هو الإرهاب السنّي بالنسبة إلى أوباما. كلّ ما عدا ذلك حرب على الإرهاب، بما في ذلك الحرب التي تشنّها ميليشيات تابعة لإيران في سوريا والعراق ولبنان على السوريين والعراقيين واللبنانيين.
لم يجد الرئيس الأميركي، الذي سيخرج قريبا من البيت الأبيض، وقتا للتحقّق مما تقوم به ميليشيات “الحشد الشعبي” في العراق. لم يكن لديه أيضا وقت للتمحيص في ما تقوم به الميليشيات المذهبية التابعة لإيران في سوريا…
لم تكن 2016 سنة تفرّج العالم على المأساة السورية التي أكدت حجم الأطماع الإيرانية في بلاد العرب والتواطؤ الإسرائيلي مع عملية تدمير المدن العربية بشكل ممنهج فحسب، بل كشفت أيضا كم لعب باراك أوباما دورا في تغيّر طبيعة السياسة الخارجية للولايات المتحدة في العمق. نقل أوباما أميركا من مكان إلى آخر، بعدما اعتبر أن الإنجاز الوحيد الذي يستطيع تحقيقه هو الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني!
كشفت الحملة على حلب الكثير. كشفت حقيقة ما يدور في العالم. كشفت قبل كلّ شيء كم أنّ الولايات المتحدة صارت في عالم آخر. كشفت مدى الوحشية الروسية والقدرة على استغلال الغياب الأميركي والأوروبي لإقامة منطقة نفوذ في سوريا.
كشفت خصوصا القدرة الإيرانية على استخدام الميليشيات المذهبية اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية في حروب تصبّ في خدمة مشروع توسّعي يستهدف الهيمنة على المنطقة، بدءا بالعراق وصولا إلى لبنان، مرورا بسوريا طبعا… مع تركيز خاص على اليمن.
هناك تركيز إيراني على اليمن بصفة كونه خاصرة الخليج العربي ومكانا يمكن استخدامه لإلهاء دول الخليج عن عملية استهداف البحرين والعراق وسوريا ولبنان في طبيعة الحال.
لعلّ الدرس الأوّل الذي يمكن استخلاصه من أحداث 2016 هو أنّ العالم كلّه مقبل على تغييرات كبيرة. من كان يصدّق أن المملكة المتحدة، ستخرج من الاتحاد الأوروبي؟ من كان يصدّق أن دونالد ترامب سيكون رئيسا للولايات المتحدة، آخذا القوّة العظمى الوحيدة في العالم، ومعها العالم كلّه، في رحلة إلى المجهول؟
كانت 2016 سنة المفاجآت بامتياز؛ كان خروج المملكة المتحدة، أي بريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية من الاتحاد الأوروبي مؤشرا إلى أنّ أوروبا دخلت مرحلة جديدة لا علاقة لها بالماضي.
لم يعد ممكنا الكلام عن سياسة أوروبية واحدة تجاه أيّ قضية مطروحة. هناك سياسات أوروبية مختلفة في غياب القدرة، حتّى، على اتخاذ موقف موحّد من الهجرة والإرهاب وأسئلة مشروعة في شأن الحدود المفتوحة التي مكّنت إرهابيا، مثل ذلك الشاب التونسي ابن الـ24 عاما الذي اقتحم بشاحنة سوقا في برلين عشية عيد الميلاد، من أن ينتهي في ميلانو حيث قُضي عليه بالصدفة.
عبر الإرهابي الذي كان المطلوب الأوّل في أوروبا بعد التعرف إليه، حدود ثلاث دول هي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا. لو لم يكن هناك شرطي يقظ استطاع إطلاق النار عليه، لكان لا يزال طليقا…
تغيّرت أوروبا وتغيّرت الولايات المتحدة وتغيّرت روسيا وتغيّرت إيران. صارت روسيا وإيران أكثر عدائية. تغيّرت تركيا. جعل الانقلاب الذي استهدف رجب طيب أردوغان من الرئيس التركي شخصا آخر. أعاد العلاقات مع روسيا وإسرائيل. دفن كلّ ملفات الماضي من أجل البقاء في السلطة. صارت كل المعطيات الإقليمية مختلفة، خصوصا بعدما اعتبرت تركيا أن الولايات المتحدة تخلّت عنها وبعدما شهرت قوى عدّة الورقة الكردية في وجهها.
لا تشبه 2016 سوى 1989، سنة انهيار جدار برلين. دخل العالم بعد 1989 مرحلة جديدة مهّدت لانهيار الاتحاد السوفياتي واستعادة دول أوروبا الشرقية حرّيتها. لم يستوعب كثيرون أبعاد تلك المرحلة.
لم يفهم صدّام حسين، في ذلك الحين، ماذا يعني هذا الحدث التاريخي. حاول اللعب في الوقت الضائع. احتل الكويت معتقدا أنّ هناك توازنا دوليا بين القوتين العظميين سيحميه، وأنّ في استطاعته لعب دور القوّة الإقليمية المهيمنة التي لا يردّ لها طلب. لم يأخذ علما بأنّ الاتحاد السوفياتي صار في خبر كان.
في السنة 2016، ثمّة من يحاول اللعب في الوقت الضائع. نجحت إيران وروسيا في سوريا حيث فشل العراق في الكويت في 1990. كان الاحتلال الروسي- الإيراني لحلب وتهجير أهلها بمثابة لعب في الوقت الضائع.
ستجيب السنة 2017 بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عن سؤال أساسي: هل تستعيد الولايات المتحدة دور القوّة العظمى الوحيدة في العالم، وتضع إيران وروسيا في مكانهما وفي حجمهما الحقيقي في وقت بات معروفا أن البلدين يعانيان من أزمة اقتصادية عميقة بسبب هبوط أسعار النفط والغاز التي أثّرت على دول كثيرة في المنطقة؟
كانت 2016 سنة الأسئلة، وتبدو 2017 سنة الأجوبة في ظلّ التغيّرات الكبيرة التي يشهدها العالم. من الصعب الرهان على أن دونالد ترامب سيعيد لأميركا أمجادها كما وعد في أثناء حملته الانتخابية.
الأكيد أن هناك ثورة تحصل في الولايات المتحدة. كان انتصار دونالد ترامب على هيلاري كلينتون أفضل تعبير عن هذه الثورة التي ليس معروفا المدى الذي ستبلغه، وهل ستنعكس على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط والخليج.
من القضايا الكبيرة، يمكن الذهاب إلى القضايا الصغيرة مثل قضيّة لبنان الذي فقد الكثير من أهمّيته في ضوء التطورات التي تشهدها المنطقة، خصوصا في ضوء ما يجري في سوريا التي وقعت تحت استعمارين روسي وإيراني في ظل تنسيق في العمق بين روسيا وتركيا وروسيا وإسرائيل.
ليس أمام لبنان سوى أن يحمي نفسه. لديه رئيس للجمهورية بفضل ما قام به الرئيس سعد الحريري. لديه حكومة أيضا. هذه الحكومة ليست مثالية، بل هي أبعد ما تكون عن المثالية، خصوصا أن ليس في استطاعة أيّ لبناني، شريف فعلا، تجاهل تضحيات حركة الرابع عشر من آذار، والضحايا الذين اغتالتهم يد الشرّ التي يعرف الجميع من هي.
كان محمد شطح آخر الضحايا التي قدّمت دماءها من أجل لبنان أفضل، وكي تنتصر ثقافة الحياة… هل يمكن للنواة الصالحة في الحكومة العمل على المحافظة على ما بقي من البلد ومؤسساته في وقت ليس الشرق الأوسط وحده يتغيّر، بل العالم كلّه في مرحلة مخاض؟
هل تكون 2017 أفضل من 2016 أم مجرّد امتداد لها. وهذا ما سيكون عليه العالم على الأرجح…
فرِح "اليسار الممانع" بـ "تحرير حلب"، واعتبر أن المعركة قد حُسمت، والثورة السورية انتهت. لكنه لم يلحظ زيف خطابه الذي كشفه هذا "التحرير". لقد هلل لـ "النصر على الإرهاب"، ولم يلحظ أن سكان حلب الشرقية هم الذين غادروها مكرَهين، بعد أن ذاقوا كل أصناف التدمير والقتل والتجويع. وبعد أن دمّر الطيران الروسي وطيران النظام معظم أحيائها، ومن ثم طلب من هؤلاء المغادرة، أو استمرار التدمير والقتل والتجويع، تحت حجة وجود جبهة النصرة.
ولم يلحظ هؤلاء أيضاً أن النظام سارع إلى إخراج جبهة النصرة قبل كل الآخرين، ولم يمسّها بأذى، على الرغم من أنه برَّر تدمير حلب الشرقية وقتل أهلها بوجود هذه الجبهة، فلا شك في أن لديها مهمة أخرى في مكان آخر، هو إدلب. وهكذا فعل قبلاً في مواقع عديدة، فهي الطُعم الذي يبرّر كل القتل والتدمير، من دون أن يُمسّ. فما يظهر هنا هو أن عنوان الحرب هو جبهة النصرة، لكن الهدف هو السكان، السكان بالتحديد، وهو الأمر الذي يتجاهله "يسارٌ" منساقٌ خلف أوهام، ويتوه في ضياع كامل.
قبل حلب، مارس النظام السياسة ذاتها في ريف دمشق، حتى في مناطق لا تحتوي أيَّ عنصر من جبهة النصرة، حيث فرض ترحيل السكان مع المقاتلين اشترط إخلاء المواطنين منها، كما فعل في الزبداني ومضايا، وفي داريا، وخان الشيح والمعضمية. ويقول النظام إنه يحارب الإرهاب (وهكذا تقول كل المليشيا الطائفية التي استجلبتها إيران، ويقول الروس كذلك)، من أجل "حماية المواطنين" و"تخليص السكان من خطرهم". لكنه يرحّل السكان الذي يقول إنه يدافع عنهم، ويريد تخليصهم من سيطرة الإرهابيين.
ما علاقة هؤلاء السكان في كل هذه المناطق بالإرهاب والإرهابيين؟ ألا يوضّح ذلك أن النظام يعتبر أن سكان كل المناطق التي خرجت عن سيطرته إرهابيون؟
بالضبط، هذا ما قاله بشار الأسد في أحد خطاباته، أشار إلى وجود "عشرات آلاف الإرهابيين السوريين" وليس الأجانب، وأكمل أن خلف هؤلاء "حاضنة اجتماعية، أي عائلة، قريب، جار، صديق، وأشخاص آخرين"، ويكمل أن هناك بالتالي مئات آلاف الإرهابيين، و"إذا كان هناك مئات آلاف فيمكن أن نقول ملايين". بمعنى أنه يجرّم المجتمع كله، تحت حجة وجود "إرهابيين". ولهذا، قام بكل القتل والتدمير، وفرض تهجير أكثر من نصف السكان، ويعمل على تهجير جزءٍ آخر، ليبقي "الصفوة" التي تصفِّق له، وربما لن يجدها، بعد أن وضعها في ظرف سيئ للغاية، ليكمل تطبيق الشعار المعروف "الأسد أو لا أحد"، ليبقى رئيساً على الفراغ.
حين يكون لهؤلاء "الإرهابيين" حاضنة اجتماعية بهذا الحجم، لا يمكن أن نقول إن الأمر يتعلق بإرهاب، لأن هذا الحجم من السكان الذي اعتبره النظام عدواً، ووسمه بسمة الإرهاب هو الشعب، الشعب الذي تمرّد من أجل إسقاطه. وليكون توصيف الإرهاب لديه هو "كل شخصٍ تظاهر من أجل إسقاط النظام". وبالتالي، حين عزا وجود "ملايين الإرهابيين" إلى "فشل أخلاقي واجتماعي"، فقد اعترف بعجز كل النظام التعليمي القائم على "التبعيث"، وكل الضبط العسكري الذي حكم التعليم، وكل الإرهاب الذي مارسته المخابرات، لم ينجح في إيجاد "مواطن صالح"، يقبل الخنوع المطلق، والموت جوعاً فداءً لـ "الأب القائد". ويقبل بسورية الأسد إلى الأبد.
هذا "طبيعي" لنظامٍ يقوم على النهب والاستبداد الشمولي، حيث يتعامل مع الشعب كعبيد، أو على الأكثر كرعايا. لكن المدهش أن لا يرى "يسارٌ" ذلك كله، وأن يتعلق بأوهام ذهنية عن نظام "معادٍ للإمبريالية"، وأن يصدّق أن الحرب الوحشية التي يخوضها النظام هي ضد الإرهاب (على الرغم من أنه يتلاقى هنا مع الإمبريالية التي يعلّق بمشجبها كل ما لا يعجبه). إن تهجير السكان من المناطق التي حاصرها النظام، ودفع آخرين إلى الهجرة بالقوة، يعني أن المسألة أكبر من مسألة إرهاب، لأنها مسألة شعب، بالتالي ثورة.
القرار الذي صوّت عليه مجلس الأمن في 23 ديسمبر/ كانون الأول، في الوقت الذي يطالب فيه إسرائيل بالوقف الفوري لبناء المستوطنات، فإنه يدين المجتمع الدولي ومجلس الأمن والأمم المتحدة وجميع الدول، الصغيرة والكبيرة، التي قبلت، دعمها المباشر السياسات الإسرائيلية وتواطؤها معها، وصمتت أكثر من ستين عاماً على أعمالها، بإعطاء الشرعية لمشروع استعمار استيطاني علني وسافر، قام على طرد السكان الأصليين وانتزاع ملكياتهم بالقوة والاحتيال، في الوقت الذي كان المؤرخون يعمّدونه في كتبهم وتأملاتهم باسم عصر نزع الاستعمار.
لا يختلف ما حصل، بعد الانتصار العسكري لإسرائيل على العرب عام 1967، من فتح المناطق الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية وغزة، على الاستيطان، وتوسيع قاعدة المستوطنين وعددهم فيها، عما حصل من قبل، فهو استكمال للفعل الاستعماري الأصلي بالمنطق الذي قبل به العالم ومرّرته منظماته الدولية، وحماه حق النقض (الفيتو) الذي احتكرته لنفسها الدول الكبرى الخمس، روسيا والولايات المتحدة خصوصاً، ولا تزال تستخدمه لتجنيب نفسها وحلفائها، عواقب خرق القانون. في هذا السياق، لم يكن لدى تل أبيب أي سببٍ في أن تقبل احترام حقوق الفلسطينيين، حتى في جزءٍ من فلسطين التاريخية، أعني الضفة الغربية، ومن ثم الدخول في أي مفاوضات تسويةٍ سياسيةٍ على أساس حل الدولتين، كما كان يحلم عديدون من أصحاب النيات الحسنة. ولذلك، ما كان هناك أي أمل أو فرصة في أن تجد المشكلة الفلسطينية الإسرائيلية حلاً لها، وأن تقبل تل أبيب بتطبيع علاقاتها مع دول المنطقة، وبالمناسبة نفسها، تطبيع وضع المنطقة مع متطلبات احترام القانون الدولي، أو ما اصطلح على تسميته كذلك.
لكن هذه السابقة في قبول تعليق المبادئ السياسية والأخلاقية المعمول بها عالمياً، والضرب عرض الحائط بما سمي القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان، بل الدفاع عن انتهاكها، تعاطفاً مع إسرائيل، وتعويضاً عن اللاسامية والاضطهاد الذي تعرّض له يهود الغرب، لم يتوقف فعلها على إسرائيل، لكنها سوف تسمّم علاقات دول الإقليم بأكمله، وتقوّض سيادة الدول والشعوب، وتعيد من أقبية التاريخ العمل بقانون الفتح، وتجيز التوسع والتدخلات العسكرية وإطاحة النظم، أو تثبيتها بالقوة حسب مصالح الدول الأقوى. وفي النهاية، إخراج المنطقة بأكملها من منطق الحق والقانون والعدالة، وتحويلها إلى منطقة عنف وفوضى ومنازعات خارج أي مبادئ أو قيم أو أعراف دولية وأخلاقية.
فإذا كان يحقّ لإسرائيل أن تفرض حدودها بالقوة المجرّدة، وتنتزع أراضي الفلسطينيين، وتعيد هندسة المناطق بزرع المستعمرات والمستوطنات والجدران العازلة، وتجعل من كل من يعارض خططها وسياساتها القائمة على تجريد شعبٍ من حقوقه لصالح شعب آخر معادياً للسامية، وعدواً لليهود وللإنسانية، يحق قهره إن لم يكن إبادته، وتسمح لنفسها بالضرب عرض الحائط بأي قراراتٍ دولية، حتى لو نجحت في أن تتجاوز جدار وصاية الخمس الكبار في مجلس الأمن. لماذا لا يحق لطهران، أو أي عاصمةٍ أخرى، أن تجعل من العراق مقاطعةً إيرانية، وترحل ما استطاعت من سكانها المناوئين لسيطرتها، وتحلم أن تكون خطوط دفاعاتها الاستراتيجية، على الشاطئ السوري أو اللبناني أو بحر عدن؟ ومن سيحتجّ عليها، إذا قرّرت إعادة الهندسة الديمغرافية، وبناء مستوطنات مذهبية مرتبطة بها في دمشق وحلب وحمص واللاذقية؟ ولماذا يطلب من الأسد التخلي عن "حقه" في الاحتفاظ بالسلطة، وهو لا يزال قادراً على فرض إرادته؟ ولماذا لا يحقّ للدول التي تعتقد أن لها مصالح مع نظام الأسد أن تعيد تأهيله، بعد أن أثبت أنه يملك القوة، لفرض إرادته وإخضاع خصومه، بصرف النظر عن مصدر هذه القوة والوسائل التي استخدمها لقهر شعبه، والتحالفات التي عقدها، وملايين الضحايا الذين دمرت حياتهم من أجله؟
الحقيقة أن نظام الشرق الأوسط بأكمله أعيد بناؤه، منذ منتصف القرن الماضي، للتكيف مع مبدأ استثناء إسرائيل من حكم القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان، ومن المساءلة والمسؤولية. وهو المبدأ الذي ساهم في تكريسه وترسيخه حق النقض الجاهز في مجلس الأمن، سواء من واشنطن أو موسكو أو الدول الأوروبية القديمة الأخرى. وشيئاً فشيئاً، كان لا بد لهذا القانون، أو بالأحرى الاستثناء من القانون والمساءلة، أن يصبح الأساس الأول للفوضى التي تحكم العلاقات داخل المنطقة، على مستوى النظم السياسية والجيوسياسية معاً، وأن يتحوّل احتقار القانون والاستهتار به إلى قانونٍ تسعى إلى فرضه الجماعات والحكومات والدول. هكذا، على العكس مما حصل في كل بقاع العالم، أدّى تقويض مبدأ الحق وقاعدة القانون، في فلسطين، تعاطفاً مع اليهود الناجين من المحرقة، أو لحسابات جيوستراتيجية تعني الدول الكبرى، إلى تفريغ نظام العلاقات الشرق أوسطية من أي قاعدةٍ قانونيةٍ أو أخلاقيةٍ، والقبول بكل الانتهاكات تجاه الجماعات القومية والأفراد والشعوب. وبعد أن كانت إسرائيل وحدها التي تحظى بحكم الاستثناء من تطبيق القانون، أي أيضاً من المساءلة والمحاسبة والعقاب على انتهاكه، تحوّل سلوكها إلى نموذجٍ يُحتذى، ويعبر عن التحكّم والقوة، وصار الاستهتار بمبادئ الحق والقانون، والاستهانة بالعقوبات المحتملة نتيجة خرقه، هو مصدر السطوة والسيطرة في العلاقات الاجتماعية والسياسية داخل الدول، وفي ما بينها. صارت اسرائيل النموذج والمثال، بعد أن كانت الخطيئة والانحراف.
هذه هي المقدّمات التي بني عليها نظام الشرق الأوسط لما بعد الحرب العالمية الثانية، أي منذ بداية استقلال دوله. والأحرى القول، إنه لا نظام الشرق الأوسط وفوضاه. ولن تكون استعادة الأمن والسلام والنظام فيه ممكنةً من دون استعادة حكم القانون، سواء داخل النظم الاجتماعية السياسية القائمة أو بين الدول والجماعات، وما يرتبط به من احترام مبدأ الحق والعدالة وسيادة الأفراد والدول والجماعات. وهذا يستدعي أن تتغير الأسس التي قام عليها نظام القوة، وأن تحل محلها أسس جديدة تفسح مجالاً لنظام الحق والعدل. والواقع أنه، بمقدار ما تشكّل النزاعات والحروب مصدر توازن نظام القوة وبقائه، فهو لا يستمر إلا بالإنتاج الموسع لدائرة الفوضى القانونية والسياسية والأخلاقية التي أنهت، بانهياره وتفجره في شكل حروب شاملة، وحوّلت حياة شعوب الشرق الأوسط إلى ساحةٍ مفتوحةٍ للخراب والموت والدمار. لا يمكن لنظامٍ مؤسّس على الاغتصاب، أي العنف المنفلت، أن ينشئ حياةً قانونيةً وأخلاقيةً سليمة، وبالتالي، أن يقود إلى بناء دولةٍ بأي معنى كان، بل هو السبب الأول في تقويض معنى الدولة ووظائفها وأخلاقياتها.
لا يمكن لحكم القانون أن يستمر ويحظى بالاحترام في أي دولةٍ ومجتمع مع التسامح في خرقه وتحدّيه وتجاوزه. ومتى ما خرق وانتهك، من دون مساءلةٍ أو عقاب، انهار من تلقاء نفسه. يحتاج الأمر عندئذ إلى مرور وقت طويل، قبل استعادة مفهومه وإعادة الثقة به، وفرض الاحترام له على الجميع، على مستوى علاقات الأفراد داخل المجتمع ومستوى العلاقات بين الدول نفسها والمجتمعات.
تجاوز هذه القاعدة، ووضع إسرائيل فوق القانون، وتجنيبها أي مساءلةٍ أو حسابٍ على انتهاكات حقوق الإنسان والجماعات، كرّسا تقليداً، وجعلا من خرق القانون وانتهاك حقوق الأفراد قاعدةً، بدل أن تكون استثناءً، كما حول الاستثناء الذي قامت عليه إسرائيل وجعل منها، وهي أصغر دولة في المنطقة، أكبر قوةٍ إقليمية متفوقة على شعوب المنطقة مجتمعة ومنفردة، إلى مصدر دائم لتقويض نظم الحكم والدولة في الشرق، وتدمير أسسها القانونية والأخلاقية، وذلك بمقدار ما كان برهاناً ملموساً وحاضراً على أسبقية القوة على الحق، والعنف على الحوار، والتهديد بالعدوان على التفاهم والتعاون والشراكة في المصير.
هذا هو الجذر العميق للفوضى التي تهدد وجود حياة شعوب الشرق الأوسط بأكملها، وتدمر مدنها وحضارتها وأديانها.
ليس لقرار مجلس الأمن الجديد، ولن يكون له، على الأغلب، أي قيمة عملية، لكنه مهم معنوياً، لأنه يشكل اعترافاً متأخراً للدول التي بقيت، عقوداً طويلة، تراعي إسرائيل، وتقدم لها وسائل التفوق والقوة والعنف، بخطئها، ومن ثم بمسؤوليتها أيضاً، والحاجة إلى العودة إلى حكم الحق والعدالة والقانون. إنه إدانةٌ لمبدأ الاستثناء من المساءلة الذي حوّل إسرائيل إلى مثالٍ سيء للمنطقة بأكملها، وحول حكومات المنطقة تجاه شعوبها، والشعوب المجاورة، إلى إسرائيل ثانية وثالثة ورابعة. وفي ما وراء ذلك، هو بداية التخلي عن مبدأ إسرائيل، والاعتراف بأولوية العودة إلى مبدأ الحق والقانون والعدل، أي المساواة، في فلسطين والعالم بأكمله.
تصر حركة أحرار الشام الاسلامية على التملص من تصرفاتها و سحب تواقيعها على اتفاقات تشارك فيها وبصياغتها ، وتبحث عن الفرصة المواتية لإعلان أنها لم توقع ، وتبدي تحفظاتها التي تنشرها على الاعلام ، في حين تلتزم بما تتعهد به بالخفاء.
الناطق الرسمي باسم حركة أحرار الشام علق ، يوم أمس ، ببيان مقتضب حول اتفاق الهدنة الجديدة التي وُقِعت بالأمس في أنقرة ، بمشاركة ١٣ فصيل من بينها الحركة ، أن “لدى أحرار الشام عدد من التحفظات حول الاتفاقية المطروحة والعملية التفاوضية المرتبطة بها ولذا لم نوقع عليها وسنبين تحفظاتنا على الاتفاقية لاحقاً”، وهي صياغة مشابهة لما حدث في بيان تأسيس الهيئة العليا للمفاوضات.
اتفاق الهدنة ، الذي بدأ اليوم ، تم بحضور و مشاركة فعالة من الحركة ، التي لطالما كانت الحاضر الدائم في كل المفاوضات التي تتعلق بالملف السوري ، ومع جميع الأطراف ، سواء أكانت معادية أم محتلة أو صديقة ، و لكن الحركة تنتهج اسلوب التكتم الشديد ، وفي حال انكشاف الأمر تسارع للانسحاب ببيان اعلامي ، في حين تبقى ملتزمة بالمضمون.
قبل قرابة العام فعلت حركة الأحرار ذات الأمر بعد توقيعها على وثيقة تأسيس الهيئة العليا للمفاوضات في الرياض ، أكدت في كل المناسبات أنها لم توقع بيان التأسيس ، رغم أنه قد تم التوقيع ، و حضورها ثابت وفعال ، وذات الأمر تكرر خلال الهدنة التي جرت باتفاق أمريكا و روسيا في أيلول الفائت كذلك هدنة شباط ، و أبدت تحفظات أيضاً على الاتفاق و اعتبرت نفسها بمنأى عنه، في حين كانت من بين الملتزمين به.
لاشك ان السياسة المنتهجة من قبل الحركة، قائمة على التقلب بين وجهين ( ظاهر و باطن) ، يجعل التعامل معها في غاية الصعوبة ، سيما مع تصرفات غير محمودة مع الاعلام الثوري ، اذ تعمد على التهرب من أسئلته ، إما بعدم الرد اطلاقاً أو الاكتفاء بالنفي دون أي تفاصيل ، في حين يكون الأمر شبه مخالف مع الاعلام الأجنبي رغم تلقي الحركة صفعات عدة منه.
و تحاول الحركة من خلال هذه التصرفات على تأمين طريق يجمع بين المصالح و المبادئ و الحاضنة الشعبية ، في توليفة من المستحيل تحقيقها ، وغالباً ما تؤدي إلى فقدانها الأطراف الثلاث ، لاسيما في تشكيل كـ”أحرار الشام” الذي شهد تغيرات جذرية في الايدلوجية من “مشروع أمة” إلى “ثورة شعب” سرعان ما تاهت البوصلة بين الفكرين.
و قادت الحركة سلسلة من الاتفاقات التي لم يعرف تفاصيلها أو بنودها حتى اللحظة بدأت من اخلاء حمص المحاصرة وصولاً إلى اخلاء حلب ، وما تخللهما من الاتفاقات التي كان الأشهر منها اتفاق (المدن الأربعة) أو اتفاق (الفوعة - الزبداني) ، الذي تم مع الجانب الايراني بشكل مباشر و يجري تنفيذه حاليا بوساطة الأمم المتحدة.
حركة أحرار الشام التي تجاوزت كافة المشكلات و الخسارات ، طوال سنين الثورة ، والتي كان ابرزها فقد القادة المؤسسين الـ 40 ، وكذلك مطبات عدة ، تحاول اليوم تجاوز الخلافات الداخلية المحتدمة بين تياراتها المختلفة ، التي ظهرت على الملأ بعد انشقاق جزء كبير من الحركة و تشكيلهم “جيش الأحرار” ، تم تلافيه بشكل مؤقت ليعود الصراع للاحتدام حول الاندماج مع جبهة “فتح الشام” ، الذي يدعمه مجموعة ليست بالصغيرة في الحركة و يرفضونه آخرون ، ولاسيما رئيس الجناح السياسي في الحركة “لبيب النحاس” الذي وصفه بـ”الكارثة".
ثلاث دول، روسيا وإيران وتركيا، تحاول الآن بناء حل سياسي في سورية، لكن أدوارها في مختلف مراحل الصراع تطرح السؤال عن مدى أهليتها لهذه المهمة، التي تتطلّب حدّاً أدنى من إظهار الحسّ بالمسؤولية، طالما أن ميزتَي «الحيـاد» و «الموضـوعيـة» مفــقــودتـان. فروسيا وإيران أخذتا دائماً جانب النظام، كلّ منهما بطريقته، ومعهما إسرائيل، أما تركيا فوقفت مع المعارضة وانخدعت كما انخدعت المعارضة بالموقف الأميركي الذي تبيّن أنه كان دائماً أقرب الى مواقف روسيا وإيران وإسرائيل.
لم تعترف موسكو يوماً بالجرائم والانتهاكات التي ارتكبها النظام السوري منذ عقود وليس فقط منذ بداية الأزمة، بل اعتبرت أن إدانته ومحاسبته دولياً قد تمهّدان لاحقاً لإدانتها هي نفسها. وقبل تدخّلها المباشر وبعده، وقفت روسيا ضد الشعب السوري وتجاهلت حقوقه وطموحاته، وبما أنها لم ترَ أو لم تشأ أن ترى أن النظام هو مَن عسكر ثورة ومَن دفع معظم أفراد جيشه الى الانشقاق ومَن تشارك مع إيران في هندسة دخول «جماعات الإرهاب» وإدارتها، فقد اكتفت برؤية المعادلة العسكرية كما ارتسمت على الأرض واهتمّت بتغيير موازين القوى لمصلحة النظام، ولو بالاعتماد على الميليشيات الموالية لإيران وأجندتها.
تبادل فلاديمير بوتين وبشار الأسد وحسن روحاني التهاني بعد انتهاء عملية حلب، وكلٌّ منهم يفكّر في ما بعدها. بوتين انتصر في معركة لم يواجه فيها أي عدو، بل أغارت طائراته على المدنيين وملاجئهم ومستشفياتهم ومدارسهم وأسواقهم ومخابزهم، لكنه اغتنمها لتجريب عشرات الأنواع من أسلحته الجديدة. روحاني انتصر في معركة لا يعرف عنها الكثير لأن غريمه الداخلي والخارجي الأول، «الحرس الثوري»، هو مَن خاضها بواسطة ميليشياته، لكنه سمع بالتأكيد قائد «الحرس» وهو يقول أن «الثورة الإسلامية الإيرانية استطاعت أن تهزم أعداءها من خلال معركة حلب التي أصبحت خط الدفاع الأول عن الثورة».
أما الأسد فذهب به هوسه الى تصوير نفسه صانعاً للتاريخ ولما بعده في حلب، لكنه منذ تلك اللحظة لا يعرف الى أين سيقوده هذا النصر. ولا شك في أن انتصار فاشية الدولة العظمى وطائفية إيران وديكتاتورية الأسد لا يشكّل صيغة طبيعية لتعايش هادئ ودائم بين أطرافها، ولا بدّ من أن أحدها سيفرض سلطته منذ الآن. فكما احتاجت روسيا الى ميليشيات إيران كقوات برّية تسند عملها الجوي في حلب، كذلك احتاجت الى تركيا وقنواتها مع الفصائل لتأمين إجلاء مدنيي حلب ومقاتليها، وفي مقابل امتنان روسيا لتركيا بلغ استياؤها من الإيرانيين حدّ التصويت في مجلس الأمن مع نشر مراقبين دوليين لعمليات الإجلاء.
غداة الانتهاء من عملية حلب، وعلى رغم اغتيال السفير الروسي في أنقرة، دعت موسكو الى اجتماعين ثلاثيين، سياسي وعسكري، لكن أول مَن تحدّث عن «إعلان موسكو» كان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، وأهم ما فيه اتفاق روسيا وإيران وتركيا على ضمان توجّهات مبدئية ثلاثة: وقف شامل لإطلاق النار، واتفاق سياسي بين النظام والمعارضة، ومحاربة «جماعية» لتنظيمي «داعش» و»فتح الشام/ النصرة»... ما هي حسابات الربح والخسارة في الدفع بهذا الاتجاه؟ موسكو أبلغت واشنطن بما اتفق عليه، علماً أنه سيكون شأن الإدارة المقبلة. وقبل ذلك، زار مبعوثون روس طهران للبحث في الخيارات المطروحة من دون أن يعني ذلك ارتياحاً لدى الجانب الإيراني الذي يشعر منذ شهور بأن دوره في سورية آخذ في التراجع أمام الدور الروسي المتعاظم عسكرياً وإدارياً وسياسياً، لكنه مضطرٌّ للتعامل مع الواقع الجديد. أما تركيا التي كادت تخسر كل أوراقها في سورية، باعتمادها على الولايات المتحدة، فتجد أن ما حصّلته بالتنسيق مع روسيا يعوّضها نسبياً، سواء بمنحها فرصة التدخل البرّي لمحاربة «داعش» أو بالاعتراف بدور لها في المراحل المقبلة. ومع أن المواءمة بين أهدافها وبين رعايتها المعارضة السورية ستكون مربكة لها، إلا أنها تراهن على اقتناع روسيا بأن الحل في سورية يستلزم احترام توازنات داخلية وإقليمية ساهم الصراع في تظهيرها.
لا شك في أن تقارب روسيا وتركيا بدأ يقلق الأسد والإيرانيين ويتجاوز توقّعاتهم، فبعدما اعتقدوا طوال شهور أنهم يديرون أداء روسيا ويؤثّرون في خياراتها، باتوا الآن يشعرون بوطأة قراراتها لتحصين مكوثها الطويل في سورية وترتيب معالم المرحلة المقبلة. فبدءاً من «إعلان موسكو» وخريطة الطريق التي يقترحها، يمكن القول أن الحديث عن وقف النار والاتفاق السياسي لا يلائم التفكير السائد في دمشق وطهران، أو أنهما على الأقلّ كانتا تريدان أن يبقى في معزل عن أنقرة. أكثر من ذلك، جاءت إشارة الوزير التركي مولود جاويش أوغلو الى ضرورة البحث في وجود المسلّحين الأجانب، لا سيما «حزب الله»، في مثابة إنذار مفاجئ للإيرانيين يتكامل مع الحديث عن مفاوضات في العاصمة الكازاخية أستانا. فعلى رغم أن معظم معارضي «منصة أستانا» مصنّفون مدجّنين لدى النظام أو موالين له، إلا أن البيان الختامي الذي توصلوا إليه في اجتماعاتهم السابقة (أواخر أيار/ مايو 2015) دعا الى «تشكيل جبهة موحدة لمكافحة الإرهاب، وإعادة بناء الجيش السوري، وإخراج جميع المقاتلين الأجانب».
وتمثّل إعادة بناء الجيش أحد أبرز الأهداف التي يعمل عليها الروس منذ بداية تدخّلهم، بما في ذلك إعادة هيكلته، وقد فرضوا أخيراً إنشاء الفيلقَين الرابع والخامس لاستيعاب التشكيلات الميليشياوية التي أسسها الإيرانيون وجعلوهما تحت مظلّة الجيش وعيّنوا لهما قائدين موثوق بهما لدى حميميم. وقد أدّت إعادة الاعتبار الروسية للجيش الى شعور الإيرانيين بأن لا مستقبل لميليشياتهم في سورية من جهة، ومن جهة أخرى الى تزايد حساسية ضباط النظام تجاه الإيرانيين عموماً و «حزب الله» خصوصاً، الذين عاملوهم لفترة طويلة بفوقية وبطائفية فظّة. وفي الوقت نفسه، يرى الأسد والمحيطون به أن الهامش الذي تمتّعوا به للمناورة بين الروس والإيرانيين لا ينفكّ يتقلّص. وإذا كان هناك توجّه جدّي الى وقف شامل لإطلاق النار وحل سياسي، فإن النظام قد يجد صعوبة في إحباطه على جاري عادته، تحديداً لأن الروس في حاجة إليه طالما أنهم متوجّهون الى وضع غير صراعي مع إدارة دونالد ترامب.
ماذا يعني اختيار العاصمة الكازاخية أستانا مكاناً لمفاوضات سورية مرتقبة؟ هو، أولاً، دليل على استحالة الحوار في أي مكان في سورية على رغم تشدّق النظام ورموزه بأنهم متمسّكون بـ «الحلّ السوري - السوري». وهو، ثانياً، مؤشّر الى رغبة روسية في عملية تحت سيطرتها وإشرافها الكاملين. وهو، أخيراً، اعتماد أيٍّ من معارضات أستانا أو موسكو أو القاهرة أو حتى «معارضة حميميم» لتمثيل المعارضة، بل سيستعين الروس بالأتراك لإعادة صياغة وفد المعارضة ليضم ممثلين عن تلك المعارضات إضافة الى أكراد «حزب الاتحاد الديموقراطي» الذين وقفوا دائماً مع النظام.
أما لماذا أستانا، فإن روايات مختلفة تُجمع على أن فكرة اللقاء في العاصمة الكازخية جاءت من شخص مرتبط بعلاقات بزنسية مع القيادة في ذلك البلد، وأن موسكو شجّعت الفكرة لأنها تمكّنها من الظهور بمظهر «الحياد» وتتيح بديلاً من جنيف، ثم أن مضمونها وهدفها يلتزمان السقف السياسي الروسي. لذلك، شجّعتها أيضاً دمشق من قبيل الإكثار من المعارضات الذي يوازي عندها التقليل من شأن «الائتلاف» المعارض أو إضعاف مَن تسمّيها «معارضة الرياض».
وفيما ساهمت موسكو في ظاهرة تفريخ المعارضات، راحت بعدئذ تستغلّها للتشكيك في مدى التمثيل الذي يتمتّع به وفد «الهيئة العليا للمفاوضات» الى جنيف، مستقوياً بضمّه ممثلين عن الفصائل المقاتلة، ويعتبر الروس أن هذا المعيار لم يعد ذا قيمة بعد معركة حلب. لكن إذا كانت المسارعة الى الجانب السياسي ترمي الى استثمار الحسم العسكري في حلب، فإن «الانتصار» لم يغيّر طبيعة الأزمة التي كانت ولا تزال مرتبطة بطموحات الشعب السوري. صحيح أن «إعلان موسكو» أكد العمل للحل السياسي وفقاً للقرار 2254، إلا أن موسكو تسعى الى حكومة تعيّن معظم أعضائها وتمدّها بالصلاحيات وتعمل بالتنسيق معها، وهذا ما يحصل حالياً بوجود الأسد.
سقوط الطائرة الروسية، واغتيال السفير الروسي لدى تركيا، ليسا من الأحداث الحاسمة التي يمكن أن تفرض على الكرملين أن يغير بوصلة سياسته، إنما استمرار الصراع الإقليمي والدولي، وإصرار المعارضة على الحرب، عاملان أكثر أهمية وتأثيرًا. حتى بعد سقوط حلب، واستيلاء الروس والإيرانيين وقوات النظام عليها، لم ترفع المعارضة الرايات البيضاء، وكل ما نراه يشير إلى أننا ندلف إلى عام آخر من دون أن يحتفل أحد بانتصار حقيقي.
وإضافة إلى اهتمام السلطات الروسية بإقامة الاحتفالات الدعائية في المناطق التي استولت عليها في سوريا، أيضًا، يبدو أنها حريصة على تنظيف، وإعادة هندمة النظام السوري، تحت مظلة مفاوضات الحل السياسي، وهي مهمة لا نرى بعدُ ما يوحي بإمكانية نجاحها.
وقد حاولتُ خلال الأيام الماضية فهم طبيعة التوجهات الروسية المقبلة؛ في أي اتجاه ستسير بعد الأحداث الكبيرة الأخيرة. سقوط حلب، ونهاية رئاسة باراك أوباما في واشنطن، يعنيان إما أن موسكو عازمة على استكمال الحرب وتمكين النظامين السوري والإيراني من استعادة كل سوريا، وتحقيق النصر الكامل بالقوة، الذي سيجعل العام المقبل سنة أخرى من الحروب، أو أن روسيا تريد أن تفرض حلاً سياسيًا وسطًا، مستفيدة من حضورها العسكري، وأنها القوة التي أنقذت النظامين السوري والإيراني من الهزيمة في الحرب بعد دخولها بقوتيها الجوية والاستخباراتية، إضافة إلى الدبلوماسية في مجلس الأمن.
في هذا الشأن سمعت رأيين متناقضين؛ واحدًا يؤكد أن موسكو مستعدة لفعل ما فشلت فيه واشنطن، وهو جمع الفريقين المتحاربين؛ المعارضة السورية والنظام، وتشكيل حكومة مختلطة، مع استبعاد رموز الفريقين من مشروع الحكم الجديد. والرأي الآخر ينفي ذلك، مصرًا على أن موسكو لم تغير شيئًا من طرحها الذي تقترحه منذ نحو عامين، وهو نظام برئاسة الأسد ومناصب هامشية للمعارضة، ووعود بتقليص نفوذ السلطة المركزية على مناطق المعارضة. والحل الأخير يعني تأكيد سلطة الأسد، لأن كل الوعود المستقبلية بانتخابات وصلاحيات مستقلة للمحافظات هي إغراءات وهمية، لنظام قمعي لم يتردد في إبادة ملايين الناس وتشريدهم.
أحد الذين استمعت إليهم يرى أن المعارضة السورية انتهت منذ أن تراجعت تركيا، وقبلت بنتائج الحرب في حلب، وأن أنقرة اعتبرت قضيتها الآن هي محاربة الانفصاليين الأكراد وتنظيم «داعش»، وبناء عليه، على المعارضة أن تقبل بما يجود به عليها الكبار على مائدة المفاوضات.
أما الرأي الآخر، فيُذكّر بأن الوضع في سوريا هو الذي فرض نفسه على دول المنطقة، بما فيها تركيا والخليج، وليست دول المنطقة هي التي اخترعت الأزمة، وبالتالي لن تطفأ الأنوار بمجرد خروج الثوار من حلب أو ابتعاد تركيا عن تأييد المعارضة السورية. هناك ثلث سوريا لا يزال خارج سيطرة النظام السوري، وجزء منه استراتيجي، مثل ريف دمشق، والذي عادت قوات النظام السوري مع ميليشيات إيران إلى قصفه. والآلاف من المقاتلين، سواء كانوا من المعارضة السورية المسلحة، أو من الجماعات الإرهابية، سيجعلون مشروع المفاوضات وفرض صيغة روسية أو إيرانية للحكم في سوريا صعبة التنفيذ على الأرض ما لم تحتوِ على الحد الأدنى من المطالب السياسية الرئيسية. ولو أن المفاوضين الروس فعلاً قرروا تبني حل وسط، وقدموا اقتراحات ملائمة للمعارضة، فإن ذلك سيعني احتمال نهاية الحرب، وتتبقى المجاميع الإرهابية التي يمكن دحرها بوجود تأييد شعبي للحل السياسي.
لا نستطيع أن نجزم في أي المسارين ستذهب الأحداث خلال الأسابيع المقبلة، لكن لا شك في أن روسيا وحدها في الوقت الراهن هي التي تقرر؛ ليست واشنطن ولا إيران، فهي قادرة على دفع الأمور نحو استمرار القتال أو نهاية الحرب. ولا أتوقع أنه حتى إيران، رغم حرصها الشديد على النظام السوري، راغبة في استمرار الحرب التي تكلفها الكثير داخليًا وخارجيًا، وهي تعرف أنها فشلت في حسمها مما اضطرها إلى الاستعانة بالقوة الروسية. وسيجد النظام في طهران أن العودة بنصف انتصار خير له من الاستمرار في القتال وسط منطقة معادية له تمامًا.
اعتاد الشعب السوري على سماع هدن وقف اطلاق النار، خاصة في العام الحالي، والذي كان في كل مرة يخرج عن النسق المرسوم له ضمن الاتفاقات التي تكون روسيا جزء منه، ليعود القصف بشكل ممنهج أكثر من ذي قبل، وهاهي روسيا تدخل كضامن لهدنة جديدة تشمل كافة انحاء سوريا، ولكن برعاية تركية هذه المرة، وببنود فضفاضة.
اعلان الهدنة التي ستبدء منتصف الليلة، بعد اجتماع فصائل من المعارضة المسلحة، والوفد الروسي بمباركة تركية وعلى أرضها، هو بكل تأكيد مناورة روسية جديدة، الهدنة التي لم تتضمن تفاصيل واضحة مع تذبذب بالتصريحات حول المضمون بين اطراف الاتفاق الثلاثة، مايدفعنا لوصفه كنوع من المخدر بعد معركة حلب.
روسيا لم تصدق ولن تصدق في تفاوض يصب في مصلحة الشعب السوري، وهذا الاتفاق الذي سهلت اتمامه بعد موافقتها على ضم الغوطة الشرقية وحي الوعر الحمصي ضمن الهدنة، ماهو إلا لإتاحة الفرصة لقوى الحشد العراقي الى جانب قوات النظام، التي تتجهز منذ قرابة شهر في الحسكة، لشن معركة جديدة ضد تنظيم الدولة لتظهر بمظهر مكافح الارهاب، بينما تنشغل المعارضة باصدار البيانات بين موافق للهدنة ورافض لها.
وتبدو هشاشة الهدنة من خلال ضيق الوقت الذي صرح به الناطق باسم المعارضة، "أسامة أبا زيد"، والذي لم يتجاوز خمس دقائق، تلى فيها بنود الاتفاق والذي كان واضحاً من خلالها بعدم وجود فكرة اخراج الميليشيات الشيعية التي تقاتل الى جانب قوات النظام السوري من سوريا، وانما فقط ضمان روسيا لإلتزامها بالاتفاق، في الوقت الذي لم يحدد فيه نص الاتفاق هل جبهة فتح الشام ضمن الاتفاق أم أن كلمة "فصيل ارهابي" ستلازم فترة الهدنة، مايجعل قصف كافة مناطق سوريا التي تتواجد فيها الجبهة متاحة، بدءً من ادلب التي باتت تضم كافة الفصائل المهجرة من المناطق المحررة، وأكبر تجمع للنازحين السوريين.
بدء الحديث في المؤتمر الصحفي للهدنة عن وقف عملية التغيير الديمغرافي، كان فيه نوع من الاستخفاف بعقول الناس، فلربما بات الريف الدمشفي القريب من العاصمة كله بأيدي النظام وحلفائه، بينما يشهد الجنوب الدمشقي حالة ركود عسكري منذ أكثر من عام ونصف، أما الغوطة الشرقية فالواضح أن صفقتها مع روسيا ستقتصر مع أكبر فصيل وهو جيش الاسلام، والذي كان أصلاً من ضمن الموقعين على الهدنة، وهذا يجعل جبهات الغوطة الشرقية حالياً تشهد هدوءً، خاصة وأن خروج 20 ألف مقاتل من الغوطة أمر قد يرهق النظام سواء باخراجهم أو في تجميعهم مع باقي الفصائل في ادلب، مايهدد النظام في حال اخراجهم في الشمال السوري.
هذه الفترة التي أبدت فيها روسيا لطفها بينما تعيد تنسيق أوراقها، ستكون بداية معارك جديدة للنظام والميليشيات الشيعية ضد تنظيم الدولة، بينما الشعب السوري يحلم باجتماع استانة الذي لن يكون إلا مجرد مجاملة سياسية واجتماع خلبي لا أكثر.
عندما يعلو صوت السلاح، تصبح المعارك المسلحة ومشاهدها الدامية أكثر استحواذاً على اهتمام المتابعين من الاتصالات السياسية. وهذا أمر طبيعي من زاوية أن الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى.
لكن الامتداد المقصود هنا يحمل معنى التفاعل، وأحياناً التداخل، وليس بالضرورة معنى التتابع الزمني. صحيح أن الحرب تبدأ حين تفشل السياسة في منعها. غير أن نشوب الحرب لا يؤدي في كل الحالات إلى توقف السياسة، إلى أن يقول السلاح كلمته. ولا يقتصر دور السياسة خلال الحرب على الجهود التي تُبذل سعياً إلى حل أو تسوية، بل يشمل عقد صفقات قد لا تكون لها علاقة بمثل هذه الجهود، ولكنها تؤثر في مسار المعارك الدائرة.
ولذلك لا تُعد معركة حلب فريدة من حيث إن متغيرات سياسية أتاحت عقد صفقات أثرت في مسارها وساهمت في حسمها عسكرياً، وأتاحت لنظام بشار الأسد والميليشيات التي تُدَّعمه تحقيق ما عجزت عنه منذ أن بدأت تلك المعركة للمرة الأولى في يوليو 2012. فقد اقترن الحسم العسكري في شرق حلب بصفقات سياسية عدة بين قوى دولية وإقليمية منخرطة في الأزمة السورية بدرجات متفاوتة وفي اتجاهات مختلفة، إلى جانب نظام الأسد الذي منحه هذا الحسم «قُبلة الحياة».
لم تكن تلك الصفقات سهلة، ولا هي مُرضية بدرجة كافية لكل أطرافها، خصوصاً إيران والميليشيات التابعة لها، والتي اضطلعت بالدور العسكري الرئيس على الأرض في معركة حلب. ويمكن أن نتبين ملامح الصفقات التي أثرت في مسار هذه المعركة اعتماداً على قراءة تضاريس الجغرافيا العسكرية لمحافظة حلب في مجملها، حيث توجد ثلاث مجموعات أساسية من القوى المسلحة. تستحوذ المجموعة الأولى على القسم الأكبر من المحافظة، وهي قوات نظام الأسد والميليشيات المحلية والأجنبية التي تسيطر على مدينة حلب وريفها الجنوبي، وبعض المناطق في ريفها الشمالي الغربي.
وتضم المجموعة الثانية عدة فصائل من «الجيش السوري الحر» مدعومة بقوات تركية على الأرض في إطار ما تسميه أنقرة «عملية درع الفرات». وهي تسيطر على مناطق في ريف حلب الشمالي والغربي، وتتقدم بخطى حثيثة لانتزاع مدينة الباب في ريف حلب الشرقي من تنظيم «داعش».
وتقود القوات المسماة «قوات سوريا الديمقراطية» المجموعة الثالثة التي يُعد «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي» محورها الرئيس، ومعه فصائل محلية أغلبها كردية وبعضها عربية. وهي تسيطر على جزء يُعتد به من أرياف حلب، وتتطلع للتمدد في محافظة الرقة معقل تنظيم «داعش» في سوريا، بعد أن سيطرت على منطقة واسعة في الريف الغربي لهذه المحافظة.
وتفيد قراءة تطور دور تركيا في شمال حلب خلال الفترة الأخيرة أنها قررت التخلي عن ورقة حلب التي كانت تستخدمها للمساومة، عندما ضمنت تدخلاً روسياً وأميركياً لإلزام «قوات سوريا الديمقراطية» بالتراجع إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات، والتخلي بالتالي عن سعيها إلى تواصل جغرافي للأقاليم الكردية. وهذا يفسر لماذا استقدمت تركيا قسماً كبيراً من القوات الموالية لها التي كانت موجودة في حلب الشرقية ضمن تحالف «فتح حلب»، وضمتها إلى عملية «درع الفرات»، وأوقفت بالتالي دعمها للمسلحين، الأمر الذي ساهم في إضعافهم وعجَّل بانهيارهم.
ورغم أن صفقات سياسية نجحت على هذا النحو في إعادة رسم الخريطة العسكرية في حلب، فإنها لم تفتح طريقاً واضحاً للخروج من النفق السوري المظلم.
لذلك لن يكون هناك مفر في النهاية من التفاوض رغم كل الصعوبات التي تواجه إطلاق مسار سلمي جاد، وأهمها عدم استعداد نظام الأسد، ومن ورائه إيران، لأي حل سياسي لا يقوم على استسلام كامل للمعارضة. كما أن الفصل بين قوات «جفش» (النصرة سابقاً) وفصائل مسلحة يصعب التوصل إلى حل سياسي بدونها أصبح أكثر صعوبة.
فقد نُقلت مشكلة «فصل القوات» من حلب إلى إدلب، التي صارت مكتظة بمسلحين توافدوا عليها من مناطق عدة أُخرجوا منها، وأعداد يصعب حصرها من المدنيين الذين نزحوا إليها، فضلاً عن سكانها الأصليين والقوى المسلحة الموجودة فيها من البداية.
لذلك ربما نشهد سباقاً بين السياسة التي قد يكون إعلان موسكو الثلاثي الصادر الأسبوع الماضي (الروسي –الإيراني –التركي) هو عنوانها في الفترة المقبلة، وبين السلاح الذي قد تكون محافظة إدلب هي وجهته القادمة.
يا لخيبة الزعماء العرب الذين أمضوا أكثر من خمسة وثلاثين عاماً تحت وطأة الرعب من تصدير الثورة الإيرانية إلى بلادهم.
حدث ذلك، منذ العام 1979، عقب انتصار ثورة إيران، وكان أول ما وعد به الخميني الشعوب العربية تصدير نسخ متطابقة من ثورته إليهم، للخلاص من "طغاتهم"، فكان أن أصبحت إيران العدو رقم واحد لمعظم الأنظمة العربية، باستثناء نظام حافظ الأسد الذي أدرك المقصد من التلويح الإيراني بـ"تصدير الثورة"، فتحالف مع أصحاب الثورة في عقر دارهم، وآزرهم على الحكام العرب الآخرين، وفي مقدمتهم صدام حسين، في أثناء حربه الطويلة مع إيران.
كان الأسد الراحل يدرك خفايا ثورة الملالي في إيران، وأبعادها، وطبيعة تركيبتها، ففهم جيدًا أن المقصود هو تصدير ثورة الحكام على الشعوب، وهو عين ما يرنو إليه طغاة العرب، فعقد حلفًا لم تنفصم عراه مع ملالي إيران، لأنه كان يدرك أن نظامه المستبد سيحتاج، يومًا، إلى ثمرات هذه المؤازرة التي محضها لإيران من دون حساب.
وإذا كان القدر لم يسعف الأسد الأب في جني ثمرات تحالفه الطويل مع إيران، فقد حظي الابن بها، في "ثورته" على شعبه الذي تجرأ على المطالبة بحريته، فكان أن أصبح دوام بشار على رأس السلطة معركةً مصيريةً لنظام الملالي في إيران الذي صدّر، هو الآخر، "ثورته"، بكل ما فيها من أسلحة وعتاد، وفيالق كانت معدّة "لتحرير القدس"، غير أن الأولويات تغيّرت، فأصبح تحرير طاغية الشام من شعبه هو المصير كله.
وقبل بشار، كان نوري المالكي في العراق، والنظام الطائفي من بعده، إذ تم تصدير "عبوات" من الثورة الإيرانية، محشوةٍ بما لذ وطاب من الحرس الثوري الإيراني الذي أسهم بترسيخ الطائفة على حساب الوطن، وجعل القرار العراقي كله محكومًا بخيمة المرشد الأعلى في طهران... وهكذا أسهمت إيران بتصدير ثورةٍ عكسية أخرى، لتثبيت طغاة جدد في بغداد.
على المنوال نفسه، آزرت إيران الرئيس الذي خلعته ثورة الشعب اليمني في صنعاء، علي عبدالله صالح، فصدّرت إليه "عبوة ثورة"، من لدن فائضها، لتعيده إلى الحكم من نافذة الفتن الطائفية التي أيقظتها مع الحوثيين، وها هو اليمن يرزح تحت وطأة حربٍ أهلية ضروس، بفضل النسحة الإيرانية من الثورة التي وصلت إليه بالبريد المستعجل.
على هذا النحو، اكتشفنا، نحن الشعوب العربية المخدوعة بثورة الملالي، معنى تصدير الثورة الإيرانية، وهي الثورة التي صفقنا لها، قبل أزيد من ثلاثة عقود، وآزرها بعضنا حتى في حربها مع العراق، وظننا أن "عبوات الثورة" لا بد ستأتي عما قريب، لتحرّرنا من طغاتنا، فإذ بها "عبوات ناسفة" لكل طموحاتنا بالحرية، وبأنها ثوراتٌ علينا لا لنا، فبشار الأسد الذي كان موشكًا على السقوط قبل عام لم تنقذه غير الثورة الإيرانية المصدّرة، و"طالح" اليمن تعيده إلى رقاب اليمنيين، نسخة أخرى من هذه الثورة، والعراق الذي حلم بالثورة على الظلم أجهضت ثورته "ثورة" أخرى مضادة قادمة من إيران، وكأن الثورة الإيرانية كلها ما كانت، منذ مهدها، إلا مشروعًا مؤجلاً لقطع الطريق على الربيع العربي.
أيضاً فهمنا أن الثورة الإيرانية برمتها، ماتت في مهدها، وفي بلد الثورة نفسها، حين عمد الخميني وأنصاره إلى تكريس اللون الأسود الواحد في نظام الحكم، وأعني به عباءة الملالي، أما مصير التيارات الأخرى من يمين ووسط ويسار، فكانت الإعدامات والسجون والاغتيال حتى في بلاد المهجر، على الرغم من أن بعضهم كان أطول باعاً وعمرًا في مناهضة نظام الشاه، على غرار حزب تودة.
أما الزعماء العرب الآخرون، المخدوعون عكسيًّا بالثورة الإيرانية المصدرة، فإن جلّ ما أخشاه أن يكتشفوا حقيقة هذه الثورة المزيفة، فيسارعون إلى استدراك ما فاتهم من تحالفاتٍ معها، لمؤازرتهم في رحلة الطغيان المستمرة، على غرار ما فعله ثالوث برمودا: الأسد وصالح والمالكي، وعندها سيكون على هذه الشعوب المبتلاة أن تعقد ثورتين في الآن نفسه، واحدة ضد طغاتها، وأخرى ضد الطغيان المصدر إليها في عبوات مسماة زورًا "الثورة الإيرانية".