خمسون عاماً مضت، شهد خلالها السوريون جرائم النظام الأسدي، بلغت ذروتها في مجزرة حماه وسجن تدمر في ثمانينيات القرن الماضي، حيث ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من السوريين. ويستمر مسلسل العنف والقتل والانتهاك لأبسط حقوق الإنسان السوري، فعشرات الآلاف إما قتلوا تحت التعذيب أو اختفوا أو ما زالوا في سجون الأسد لمعارضتهم نظام العصابة، أو لتهم مزعومة ألصقت بهم عنوة.
نهبت العصابة اقتصاد سورية، وأفقرت السوريين وشرّدتهم، وليس مصادفةً أن حوالي 20 مليون سوري يعيشون في الغربة. وعندما طالب الشعب السوري بحقوقه وحرياته التي أقرّتها القوانين والشرائع الدولية والإنسانية، انهالت العصابة على الشعب بالقتل والإبادة والتهجير القسري وتدمير البلد، تطبيقا لشعار "إما الأسد أو نحرق البلد"، وهم بالفعل حرقوا البلد. والأنكى من ذلك كله أن هناك محاميا وحلفاء لهذه العصابة، ممثلا بايران وروسيا. وهم ليس فقط يتحالفون مع عصابة الأسد، بل إنهم يبرّرون كل ما تقوم به من جرائم، ويقدمون باستمرار وعلى مدى سبع سنوات صورة كاذبة ومعكوسة لما يجري في سورية.
مَنْ يقصف السوريين؟ هل هي المعارضة، أم طائرات العصابة وروسيا؟ ومع ذلك، وبعد مقتل مليون سوري، لم نسمع كلمة إدانة واحدة من روسيا لقتل المدنيين، وخصوصا الأطفال والنساء، وتدمير المستشفيات والمنازل على رؤوس أصحابها.
استخدمت العصابة، قبل أيام، الغازات السامة للمرة الثانية في الغوطة، لأنها حاصرتها خمس سنوات، ولم تكسر إرادة أهل الغوطة، وقصفتهم وأحرقت الغوطة بنصيحة من روسيا التي لديها تجربة في الشيشان، وضربتهم بالغازات السامة، لكي تقتل المدنيين وتجبرهم على ترك منازلهم مدعومةً من حلفائها الذين لا يريدون عربا سنة بالقرب من دمشق، بل يريدون شيعة من كل أنحاء الأرض.
استخدم سفاح دمشق الكيماوي لقتل أطفال الغوطة، وهذا مثبتٌ بأشرطة فيديو، ولكن موسكو تنفي، كما فعلت ذلك عشرات المرات، وتقول إنها فبركات وحجج أميركية لقصف مواقع النظام. كل ما يقال عن النظام ويُثبَت بالأدلة تقول عنه موسكو إنه مفبرك. أما مجلس الأمن فهو عاجز عن اتخاذ أي قرار لإدانة نظام العصابة في دمشق، وبالتالي فمصير شعبنا وأهلنا أصبح رهينة بيد موسكو التي تتخذ سياسة خاطئة في سورية، وستكون موسكو أكبر الخاسرين إذا استمرت بهذه السياسة.
نصب الأميركان فخاً لروسيا، فجرّوها إلى التدخل العسكري، والانخراط في المستنقع السوري الذي قد يتحول إلى مستنقع أفغاني. ويجر الأميركان موسكو إلى حربٍ باردة وسباق تسلح، وهذا يذكّرنا بالأجواء المرافقة لانهيار الاتحاد السوفييتي. كما يفرض الغرب، وخصوصا أميركا، العقوبات الاقتصادية والعسكرية والمالية على موسكو، ويهددون بتجميد رؤوس أموال النخبة المحيطة بالرئيس فلاديمير بوتين، وهذا سيعني الإمساك باليد التي توجع.
وهناك مؤشر جديد على موسكو أن تلحظه، وهو الموقف الأوروبي الأميركي المؤيد للموقف البريطاني، بخصوص حادثة تسميم الجاسوس الروسي البريطاني المزدوج، سيرغي سكريبال، في بريطانيا، حيث نظمت ضد روسيا حملة دبلوماسية كبيرة، تنذر بمواقف عدائية لاحقة.
وقد اعتقد الروس مخطئين أنهم أبرزوا عضلاتهم في سورية، وجرّبوا أسلحة حديثة، وظنوا أنهم سيقنعون الغرب بقوتهم، لكي يحصلوا على تنازلاتٍ في الملف الأوكراني. وأخطأ الروس عندما وضعوا كل بيضاتهم في سلة سفاح دمشق ونظام الملالي، فسورية ليست الأسد، وإنما هي بلد له تاريخ حضاري كبير، وشعبها حي ومتحضر، ولا يقبل التطرّف، ولا استلاب الإرادة، وقام بأعظم ثورة في التاريخ، لكن دولة عظمى، وهي روسيا، تدخلت بقوتها العسكرية الفتاكة إلى جانب سفاح دمشق، فالأسد سقط وعصابته تعرّت للعالم، وما تحقق في سورية ليس نصرا عسكريا للنظام، بل هو لروسيا، وهذا لا يزيدها شرفا، لأنها حاربت مواطنين ومقاتلين بإمكانات متواضعة.
وتبقى أسئلةٌ تخص مستقبل سفاح دمشق، ومصير الوجود الروسي والمصالح الروسية في سورية. .. على الرغم من الانتصار العسكري المحدود لروسيا، والحفاظ حالياً على عصابة الأسد، كيف تضمن روسيا وجودها في سورية في أجواء من عدم الاستقرار والفوضى، إلى درجة أن روسيا لا تعرف من أين ياتيها الخطر؟ كيف لشخص هزيل وضعيف كالأسد أن يحمي مصالح روسيا؟ وكيف ستجني روسيا ثمار كل تدخلها وحمايتها لعصابة الأسد؟ قد يحكم بشار السفاح جزءاً من سورية، ولكن سورية مدمرة ومحطمة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وبنيةً تحتيةً، فمن أين ستحصل موسكو، متعهدة نظام العصابة، على أموال لإعادة إعمار اقتصاد سورية؟ فلا روسيا لديها إمكانية التمويل ولا إيران.
إذا استمرت روسيا بهذه السياسة الخاطئة ستخسر كل شيء. أما إذا أدركت ضرورة تعديل موقفها، بحيث تتجه نحو مصالح الشعب السوري، وتعترف بحقه في الحياة الحرة الكريمة في ظل دولة المواطنة التي لا تتناقض مع المصالح الروسية في سورية، فإنها حينها ستضمن مصالحها في سورية، لكنها لن تضمن صداقة الشعب السوري.
قد يأتي يوم تكتشف موسكو أنها ذهبت لتحارب الثورة في سورية البعيدة عنها جغرافياً، لإبعاد رياح التغيير عن حدودها، تجد أن ذلك الخطر اقترب منها على قول المثل "جنت على نفسها براقش".
يتّضح مرة أخرى، وفي سياق المحنة السورية، أن الثقافة العربية عاجزة عن وضع الأمور في نصابها. كنتُ حاضراً في الآونة الأخيرة في ثلاث حلقات تناقش المحنة السورية واكتشفت مدى التجنّي اللاحق بالذين ثاروا ضد القهر ومن أجل الحريات الأساسية والكرامة الإنسانية في أبسط تجلّياتها. فعلى فرض أن الثورة فشلت، تنهال أطنان من الكلام الذي يُحاول حاملوه أن يبيّنوا مواطن الخلل في «الثورة السورية». وهو حديث تعاظم كلّما اتّضح بطش النظام ووحشية حلفائه وغطاء المنظومة الدولية للمجازر هناك. كلّما اتضح انسداد الأفق انبرى فريق واسع من مناهضي النظام وخصومه إلى تعداد أخطاء «الثورة» وخطاياها. كأن «الثورة» هي أساس البلاء وليس النظام الوحشي وضامني جرائمه. بمعنى أن النقدية العقلانية التي ينبغي إعمالها في التعامل مع كل شيء بما فيها أداء الناس الثوريين أو الذين أردوا الخلاص من القمع اليومي، تجاوزت نقطة أرخميدس.
ربّما أن الأمر محصّلة ما يُعتبر «فشل الثورة» وانزلاق التاريخ من بين أيدي أصحاب الحق والقضية العادلة، أو بسبب خراب سورية وانزلاقها هي عن مسار التاريخ الذي كان مأمولاً له أن يتشكّل على وقع تظاهرات الجمعة وتنسيقيات الثورة! ومع هذا، لا أستطيع التحرر من الشعور بأن هناك ظلماً يقع بحقّ الناس الذين خرجوا إلى شوارع الشام شاهرين حقوقهم سلاحاً وأغانيهم لائحة اتهام للطاغية. ينسى المنتقدون في معمعان الحديث عن المحنة وتكريسها، ثلاثة أمور لا مجال لتغييبها عن أي سجال حول المِحنة السورية.
الأول، أثر أربعة عقود ونيّف من النظام الأمني القهري والوحشي في شلّ المُجتمع وتشويه بنيته العقلية والنفسية وضرب قُدرته. فالنظام الذي احتكر الدولة ومواردها وخيراتها احتكر المُجتمع واستملكه وشكّله على هواه. بمعنى أنه أجهض مسبقاً وبشكل شبه تام كل قُدرته على المقاومة. وقد فعل ذلك من خلال الإفقار والتجويع والمناورة بحصص المياه والكهرباء أساساً، أكثر مما فعله باستراتيجية الجزرة ونظام المكافآت. يعود ذلك إلى ذهنية النظام الأقلوي الذي افترض أنه يعدم الشرعية لدى أكثرية الشعب وأن لا مناص من الإخضاع.
أما الأمر الثاني الذي ينبغي أخذه بالحسبان فهو فارق القوة الذي اتّسع وصار هوّة بين الشعب الثائر وبين النظام وحلفائه من كل حدب وصوب! صحيح أن الشعب الذي ثار بدا قريباً من الانتصار في نهاية السنة الثانية وبداية الثالثة من المحنة، لكن دخول إيران وروسيا و «حزب الله» و60 ميليشيا شيعية معمعان الحرب أعطى للنظام الوحشي فائض وحشية لا تخجل به دولة عُظمى! وهو ليس فائضاً في القوة والتسلّح فقط، بل هو فائض في حرية التحرّك واستعمال أوحش الوسائل القتالية أيضاً، لا سيما السلاح الكيماوي وحرية الطيران واستخدام الصواريخ الباليستية.
أما الأمر الثالث فهو الغطاء الدولي للمجازر التي ارتكبها النظام وحلفاؤه. فبدل أن تعمل المنظومة الدولية في ردع مجرمي الحرب الروس والإيرانيين واللبنانيين وجيش النظام، شكّلت هذه المنظومة بكل مستوياتها، لا سيما مجلس الأمن الدولي، غطاء للمحنة وتبريراً مُسبقاً لوقائعها. ليس أن هذه المنظومة فشلت في تأمين مناطق حظر طيران لتأمين ممرات آمنة للمدنيين، بل إنها فشلت في مشاريع الإغاثة الإنسانية، أيضاً. فالمعونات التي كان من المفروض أن تصل المدنيين المحاصرين أو النازحين وصلت في معظمها إلى أزلام النظام ووكلائه ليُتاجروا بها ويُثروا!
صحيح أننا نستطيع اتهام فصائل معارضة كثيرة بألف خطأ وممارسة خاطئة، لكننا ينبغي ألا ننتقل بلائحة الاتهام من النظام الوحشي وحلفائه الأوحش إلى نقد المعارضين والمقاومين حتى أولئك الذين من الفصائل الإسلامية. كونهم ذوي توجهات كهذه لا يُسقط حقهم في المقاومة والمعارضة ومحاربة جيش النظام وحلفائه. مهما يكن فالنظر ينبغي أن يظلّ معلّقاً على وحشية النظام وجرائمه قبل 2011 وبعده ـ هناك مصدر العنف المدمّر وهناك أسباب المحنة السورية.
يواجه حلف شمال الأطلسي (الناتو) أزمة ثلاثية الأبعاد تتمثل حالياً في: 1- تنامي قوة روسيا الاتحادية على نحو بات يهدد جدياً بعودة شبح حرب باردة كانت سادت خلال حقبة النظام الدولي الثنائي القطبية. 2- تراجع وزن الولايات المتحدة النسبي في النظام الدولي إلى الحد الذي دفع بإدارة ترامب إلى مطالبة حلفائها بتحمل تكلفة حمايتهم التي ظلت الولايات المتحدة تتحملها نيابة عنهم لسنوات طويلة. 3- فشل كل من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، ضلعي حلف الناتو الرئيسيين، في التعامل مع تركيا، أحد أهم أعضائه، إلى الدرجة التي باتت تهدد بانسحابها الفعلي من هذا الحلف إن عاجلاً أو آجلاً. كان حلف شمال الأطلسي قد ولد في سياق رؤية استراتيجية أميركية استهدفت حصار الاتحاد السوفياتي داخل حدوده والحيلولة دون تمدد نفوذه خارج نطاق أوروبا الشرقية التي كان تمكن من إحكام قبضته عليها أثناء الحرب العالمية الثانية، ترجمتها «سياسة الاحتواء» التي تطلب وضعها موضع التنفيذ تحركاً على مستويين:
الأول: دفاعي- أمني، تم إسناده إلى»حلف شمال الأطلسي» الذي تأسس في 4 نيسان (أبريل) عام 1949، لتمكين الدول الأعضاء من مواجهة أي تهديدات عسكرية محتملة.
والثاني: اقتصادي- تنموي، استهدف تمكين أوروبا الغربية من إعادة بناء اقتصادياتها التي خربتها الحرب لتقوية مناعتها في مواجهة عدوى الأيديولوجية الماركسية، تكفل به «مشروع مارشال» الذي تعهدت الولايات المتحدة بموجبه تقديم مساعدات ضخمة لأوروبا الغربية. لا شك في أن حلف شمال الأطلسي يعد، في تقديري على الأقل، أحد الظواهر اللافتة في تاريخ العلاقات الدولية، فرغم فشله في القيام بمهمته الرئيسية، وهي احتواء النفوذ السوفياتي ومحاصرته، ومواجهته أزمات داخلية كثيرة، كان أبرزها انسحاب فرنسا ديغول من هياكله العسكرية، إلا أنه تمكن ليس فقط من المحافظة على بقائه حتى يومنا هذا ولكن من التوسع أفقياً ورأسياً أيضاً، فعلى صعيد التوسع الأفقي، ازداد عدد الدول الأعضاء في الحلف من 12 دولة عند التأسيس إلى 29 دولة حالياً. وعلى صعيد التوسع الراسي، ظل محافظاً طوال فترة الحرب الباردة على وضعه الدفاعي وحرص على عدم التورط في أي عمليات عسكرية أو القيام خارج حدود الدول الأعضاء.
لكن ما أن انتهت الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفياتي، حتى بدأ يشارك بدور في معظم الحروب والأزمات الدولية، ابتداء من «حرب تحرير الكويت» (1991/1990) وانتهاء بالأزمة الليبية التي أطاحت نظام القذافي (2011)، مروراً بحروب وأزمات البوسنة والهرسك (1993/1992)، كوسوفو (1999)، أفغانستان (2001)، بل قام بنشر سفن حربية في خليج عدن لمكافحة القرصنة (2009)... إلخ. ولم تتردد الولايات المتحدة في استخدام حلف الناتو كذراع عسكري في أزمات تعذر عليها معالجتها في مجلس الأمن أو في إطار نظام الأمن الجماعي المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة.
ويبدو أن هذا العصر الذهبي لحلف الناتو ولى إلى غير رجعة، فتنامي الوزن النسبي لقوة ومكانة روسيا الاتحادية في النظام الدولي، بالتوازي مع تراجع الوزن النسبي للولايات المتحدة، وضع حداً لهذا التوسع الأفقي والرأسي، وربما يؤدي تنامي أزمة تركيا مع الولايات المتحدة بسبب تطورات الأزمة السورية إلى التعجيل بانهياره. ولأن البعد التركي في أزمة حلف شمال الأطلسي يبدو حاسماً، فإن إلقاء الضوء عليه يحتاج إلى تحليل أكثر تفصيلاً. كانت تركيا التحقت بحلف شمال الأطلسي عام 1952، في أول موجة من موجات توسعه المتلاحقة وفي خطوة بدت حاسمة على طريق محاصرة واحتواء النفوذ السوفياتي في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يفسر كثرة المشروعات التي طرحت لإحاطة الاتحاد السوفياتي بسلسلة أحلاف عسكرية ترتبط في شكل مباشر أو غير مباشر بحلف الناتو، كالسنتو وحلف بغداد وغيرها. غير أن الرياح راحت تهب بما لا تشتهي السفن الأميركية، ففي اللحظة التي كانت فيها تركيا تستعد لقيادة منطقة الشرق الأوسط بالوكالة لحساب الولايات المتحدة الأميركية بالطبع، كانت المنطقة تبدو حبلى بمشروع مختلف لنظام إقليمي عربي سرعان ما حملت مصر الناصرية رايته عقب اندلاع «ثورة الضباط الأحرار» في تموز (يوليو) 1952. وجاءت مشاركة مصر عام 1955 في مؤتمر باندونغ ثم صمودها في وجه العدوان الثلاثي بمثابة جرس إنذار مبكر وكاشف ثغرات واسعةً في بنية «سياسة الاحتواء» سمحت للاتحاد السوفياتي باختراق المنطقة، بخاصة عقب إبرام مصر لصفقة الأسلحة التشيكية. ولأن الولايات المتحدة كانت رفضت عام 1954 طلباً سوفياتياً بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي للمحافظة على السلام في أوروبا، ورد الاتحاد السوفياتي بتأسيس «حلف وارسو» عام 1955، في خطوة بدت كاشفة عن «توازن رعب نووي» بين المعسكرين المتصارعين، فقد كان من الطبيعي أن تتكرس حالة حرب باردة توقع كثيرون أن تكون طويلة المدى وأن تصبح منطقة الشرق الأوسط وقودها. فبعد حقبة شهدت تغلغل النفوذ السوفياتي عميقاً في هذه المنطقة، راح هذا النفوذ يتراجع بسرعة عقب تمكن إسرائيل عام 1967 من إلحاق هزيمة كبرى بالحركة القومية العربية انتقلت الولايات المتحدة على إثرها من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم.
ومع ذلك ففي اللحظة التي كانت مصر تتخلى فيها رسمياً عن قيادة النظام العربي، عقب إبرامها معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل، كانت إيران تستعد لدخول الحلبة وتطرح نفسها كمشروع بديل ليس فقط للمشروع القومي العربي وإنما أيضاً للمشروع الأطلسي الذي تقوده تركيا بالوكالة. غير أن هذا المشروع ما لبث أن تعثّر تحت وطأة حرب عراقية إيرانية استمرت ما يقرب من ثماني سنوات، وحين توقفت كان الاتحاد السوفياتي نفسه أصبح على وشك الانهيار وبدأ النظام الدولي يتهيأ لحقبة جديدة من الهيمنة الأميركية المنفردة. وقتها خُيل للبعض أن العالم وصل إلى «نهاية التاريخ»، لكن سرعان ما تبين أن هذه المقولة مجرد نكتة سخيفة.
ومن المثير للتأمل أن تفرز الساحة التركية، والتي ظنّ البعض أنها أصبحت أطلسية بامتياز، جملة من التفاعلات التي ساهمت في دحض هذه المقولة، فما هي إلا سنوات قليلة حتى كانت تركيا الأردوغانية تطرح نفسها كقيادة لمشروع بديل ومختلف عن المشروع الإيراني. وبالتدريج بدأت الساحة الشرق أوسطية تشكل مسرحاً تتنافس فوقه ثلاثة مشروعات مختلفة: إيراني وتركي وإسرائيلي. ولأن حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة بدا منحازاً بالكامل إلى جانب المشروع الإسرائيلي، كان من الطبيعي أن تتيح تفاعلات الأزمة السورية فرصة نادرة أمام روسيا العائدة بقوة إلى الساحة الشرق أوسطية لإضعافه بالتعاون مع كل من إيران وتركيا برغم تباين مصالح الأطراف الثلاثة، فعندما اندلعت شرارة ثورات «الربيع العربي» راودت أردوغان أحلام عثمانية لإحياء الخلافة الإسلامية، بدا واضحاً أنها تلقى تشجيعاً أطلسياً على أمل استلهام النموذج التركي كبديل من النظم التي أسقطتها الثورات العربية. ويبدو أن التدخل التركي في انتفاضة الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد في آذار (مارس) 2011 جاء في سياق هذا التوجه العثماني الجديد، غير أن الرياح لم تأت بما تشتهي سفن أردوغان. فبعد سقوط حكم «الإخوان» في مصر عام 2013، وتدخل قوى دولية وإقليمية في الأزمة السورية التي راحت تتحول تدريجاً إلى حرب أهلية تدار بالوكالة، وإقدام روسيا على التدخل العسكري إلى جانب نظام بشار، تراجعت أحلام أردوغان وبدأت السياسة التركية تواجه مأزقاً على الجبهات كافة، خصوصاً أن التدخل العسكري الروسي كاد يؤدي بعد إسقاط طائرة عسكرية روسية إلى وقوع صدام مسلح واسع النطاق بين البلدين.
ثلاثة عوامل أدت إلى قلب معطيات الأزمة السورية رأساً على عقب ودفعت تركيا إلى تفكيك وإعادة تركيب وصـــياغة تحالفاتها الدولية والإقليمية: الأول وقوع انقلاب عسكري في تركيا في 15 تموز (يوليو) 2016 اتهم فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة بتدبيره. ولأن تركيا طالبت الولايات المتحدة بتسليمه، كان من الطبيعي أن يؤدي الرفض إلى تزايد الشكوك بين البلدين، خصوصاً أن أردوغان أقدم على حركة تطهير واسعة النطاق كانت محل انتقادات لاذعة داخل الولايات المتحدة. الثاني: اعتماد الولايات المتحدة المتزايد في تثبيت أقدامها في سورية على الفصائل الكردية المسلحة التي يعتبرها أردوغان إرهابية وامتداداً عضوياً لحزب العمال الكردستاني الذي يهدد وحدة الأراضي التركية، وتزويدها هذه الفصائل بالأسلحة الثقيلة. الثالث: تمكن نظام بشار الأسد من تثبيت دعائمه عقب انتصارات واسعة النطاق حققها نتيجة الدعم العسكري الذي حصل عليه من جانب روسيا وإيران و «حزب الله».
فإذا أضفنا إلى هذه العوامل أن الاتحاد الأوروبي ما زال يماطل في قبول تركيا عضواً فيه، برغم تقدمها بطلب العضوية منذ عشرات السنين، وأن روسيا سارعت بالاستجابة لطلب تركيا تزويدها بأحدث نظم الدفاع الصاروخية، يتبين لنا حجم الهوة التي تفصل بين تركيا وحلف شمال الأطلسي، وهو ما يدفعنا للاعتقاد بأن انسحابها منه رسمياً بات مسألة وقت، الأمر الذي قد يؤدي بدوره إلى دوران عجلة تفكك الحلف نفسه.
نام من نام ، وسهر من سهر، من السوريين والعرب ليل الإثنين/ الثلاثاء على وعيد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بضرب نظام الرئيس السوري بشار الأسد، بعدما تعزّزت القناعة الدولية أكثر فأكثر، طوال ثلاثة أيام سابقة، بشبهة استخدامه السلاح الكيميائي مجدداً ضد مدنيي مدينة دوما في غوطة دمشق.
وإذ توارت خلف حال الترقب أحداثٌ كثيرة، لعل أهمها بطش قوات الاحتلال الإسرائيلي بمسيرات العودة في فلسطين المحتلة، وكذا التصريحات والتسريبات المثيرة الصادرة عن جولة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في الولايات المتحدة، فضلاً عن بدء التحضيرات العملية لعقد القمة العربية المؤجلة في الرياض، فإن الخيط الناظم بين كل هذه المتغيرات وسواها من التطورات الإقليمية ذات الامتداد الدولي، لم يكن من الممكن إخفاؤه، لا في ثنايا غضب واشنطن المزعوم من إقدام نظام دمشق على تكرار المذابح الجماعية بحق مواطنيه، ولا في تصدّي أبواق هذا الأخير للرد على التهمة المشينة، وما رافقها من تهديدات بترديد الكلام البائس الذي طالما سمعناه جميعاً، عن المؤامرة التي تتشارك فيها إسرائيل وأميركا وأوروبا ودول الخليج مع قوى الإرهاب ضد سورية.
دع عنك هنا وصف ترامب الأسد بالحيوان، ثم ابتلاع الأخير هذه الإهانة التي صارت لازمة تتكرر كلما استخدم السلاح الكيميائي ضد شعبه، واسمع بدلاً منها تصريح المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي، بعزم بلادها على الرد على ما حصل في غوطة دمشق، أياً ما كان القرار الذي سيتخذه مجلس الأمن الدولي، لتلتقط إن شئت طرف الخيط الذي سيقودك ببساطة إلى التيقن من أن واشنطن كان في وسعها أن تتخذ موقفاً مماثلاً، فترفض التسليم باستخدام حق النقض (الفيتو) إحدى عشر مرة من روسيا والصين لحماية نظام دمشق، خلال السنوات السبع الماضية، غير أنها فضلت، عن طيب خاطر، خيار التسامح مع جرائم إبادة الشعب السوري وتهجيره.
وإنْ أنت تتبعت مسار الخيط الناظم إلى اللحظة الراهنة، ستجد أن الضربة المرتقبة، في حال وقوعها، ستكون ذات طابع محدود ومرتبط باستخدام السلاح الكيميائي، دون غيره، وهي قد تزيد شدة، أو تقل ربما، عن قصف مطار الشعيرات العام الماضي، رداً على مذبحة جماعية مشابهة في بلدة خان شيخون، لكنها لن تتوخّى تغييراً جذرياً في الوضع القائم، وأساسه بقاء نظام الأسد على سدة حكم صوري، وتقسيم سورية إلى مناطق نفوذ لقوى دولية وإقليمية، ليس بينها طرف عربي واحد.
والعرب، بالمناسبة، أعني أنظمتهم الرسمية، بأكثريتها الكاثرة، ما زال وسيظل لديهم دور ما، في اللعبة، لا يتعدّى حدود اختيار التبعية لأحد اللاعبين، وفق ما أفصح عنه محمد بن سلمان، حين قفز عن دم مئات الألوف من السوريين، ليبشّر الأسد ببقائه في السلطة، متمنياً عليه فقط "أن لا يكون دميةً بيد إيران"، وتلك تصريحاتٌ لم يكن من الممكن قراءتها بمعزلٍ عن سياق اضطلع فيه الأمير الشاب بالعمل على تهيئة المنطقة كلها لإبرام صفقة القرن مع إسرائيل، مقابل تسهيل وصوله إلى عرش بلاده. فمن أجل هذا الغرض، أشعل ولي العهد السعودي الصراعات مع أشقاء الجوار الخليجي، في حين تسامح كما لم يتسامح زعيم عربي آخر علناً مع الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثم قدم اعترافاً فريداً بالرواية الصهيونية للصراع العربي الإسرائيلي، عبر حديثه عمّا سمّاه "حق اليهود في العيش على أرضهم بسلام"، قبل أن يصل إلى منح الأسد صك غفران، وقد غاب عنه، وسط أوهام القوة التي تطغى على سلوكه، أن الدمى تتشابه، سواء كانت بيد إيران أو بأيدي أعدائها، مثلما غاب عن ترامب ربما أن ذرّ بضعة صواريخ أمام أعين السوريين لم يعد يكفي، في حال حدوثه، لإخفاء التواطؤ مع الطاغية.
دخلت العلاقات الأميركية الروسية مرحلة دقيقة وحادة، في ضوء رفض الولايات المتحدة إعطاء روسيا الاتحادية أيا من مطالبها السياسية والاستراتيجية، ما وضعها في موقفٍ حرجٍ، ودفعها إلى تصعيد خطواتها السياسية والعسكرية في أكثر من ملف وقضية تمس مصالح واشنطن وحلفائها، من مباركة هجوم إيران والنظام السوري على الغوطة الشرقية، وتغطيته سياسيا وإعلاميا، ومشاركة طائراتها في القصف والتدمير، إلى إعطاء تركيا الضوء الأخضر لمهاجمة عفرين، وضرب حلفاء واشنطن في سورية، مرورا بالتحرّك في ألبانيا لعرقلة مرور أنبوب غاز شرق المتوسط إلى أوروبا عبر مياهها، وقطع إمدادات الغاز عن أوكرانيا، والتحرّك النشط في ليبيا واليمن، وإرسال غواصةٍ تعمل بالطاقة النووية، وتحمل صواريخ نووية إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة، لإظهار قيادتها المعسكر المنتصر في الشرق الأوسط، من جهة، وتجسيد قدرتها على المسّ بالولايات المتحدة وبشركائها، من جهة ثانية. كل ذلك من أجل دفع الولايات المتحدة إلى الجلوس إلى طاولة التفاوض، واحترام روسيا لاعبا دوليا لا غنى عن التنسيق معه، بعد أن تجمعت لديها معطياتٌ عن مضي واشنطن في مساعيها إلى تعقيد الوضع أمامها أكثر، وحرمانها من استثمار إنجازاتها العسكرية في سورية، في صياغة الحل فيها، وفق أهدافها ومصالحها، وفق ما أورده موقع "مونيتور" الروسي، وإنها (واشنطن) أكثرت من الخطوات التي فاجأت الروس، سواء في جعل شمال شرقي سورية محميةً أميركية، أو في وضع اليد على معبر التنف، أو في ردع مرتزقة روسيا، حين اقتربوا من حقول النفط في محافظة دير الزور.
قاد فشل موسكو في دفع واشنطن إلى القبول بمطالبها إلى التصعيد في نشاطها العسكري، حتى لو كلفها ذلك خسائر، أو تطلب زيادة نفقاتها العسكرية في سورية، بإرسال تعزيزاتٍ عسكريةٍ إلى سورية، وسماحها بإرسال دفعاتٍ جديدة من المتعاقدين الروس الذين يقاتلون، بصفة غير رسمية، إلى جانب قوات النظام السوري، وتعزيز التنسيق الميداني مع شريكيها التركي والإيراني، وتجيير السلوك الإيراني لخدمة مخططها، لاستكمال استعداداتها من أجل توسيع المواجهة مع واشنطن، ومع الفصائل المدعومة منها، في المرحلة المقبلة.
شكل التحرك الروسي الهجومي في أكثر من منطقة، أوكرانيا وسورية، والسياسي، في ليبيا واليمن، تحولا في الاستراتيجية الروسية التي كانت قد اعتمدت سياسة التكيف والدفاع، حتى بات الرئيس فلاديمير بوتين، في نظر المراقبين "رئيسا في الحرب"، في ضوء توجهه نحو الاحتكاك بالولايات المتحدة، باعتباره (الاحتكاك) مدخلا لاستعادة عظمة روسيا. هدف يستدعي أن يكون العدو كبيرا، مع إدراكه أن واشنطن قادرةٌ، إذا قرّرت الرد على المساعي الروسية إلى تقويض موقعها الجيوسياسي في العالم، على تكبيد روسيا خسائر باهظة في الشرق الأوسط، وانخراطه في سباق تسلح معها، ورصده موازنةً ضخمة للإنفاق العسكري، فقد أعلن نائب رئيس الوزراء الروسي، ديمتري روغوزين، عن موافقة الرئيس بوتين، قبل إلقائه خطابه عن حالة الاتحاد يوم 1/3/2018، على موازنة دفاعية جديدة، تمتد بين 2018- 2027، تقدر بأكثر من 250 مليار دولار. علماً أن النفقات العسكرية الروسية عام 2011 وصلت إلى قرابة تريليوني روبل (ما يعادل 60 مليار دولار)، وشكَّلت 19% من مجموع نفقات الموازنة العامة للدولة، حسب تصريح وزير المالية الروسي السابق، ألكسي كودرين، نفقات بلغت ما نسبته 4.8% من إجمالي الناتج المحلي، يعتبر أعلى بكثير من المتوسط العالمي للنفقات العسكرية، تنفق كل من الصين والولايات المتحدة 2.2% و 3.5% من إجمالي الناتج المحلي، على التوالي. وهو ما يمثل عبئاً ثقيلاً على دولةٍ تعاني من تدهور اقتصادها، تنفق حوالي ثلث ميزانيتها على الدفاع، ويتزايد فقرها، ويتدنّى فيها الاهتمام الحكومي بالتنمية، تكرّر قيادتها أخطاء النظام السوفييتي الذي ركز على القوة العسكرية، وأهمل التنمية وتحسين حياة المواطنين عبر تطوير البنى التحية والخدمية والمعيشية، حتى شاع وصفه بعملاق بساق جبارة (العسكرية) وأخرى هزيلة (الاقتصادية)، وهذا أدى إلى انهياره المدوي.
جاءت استجابة الولايات المتحدة للتحديين، الروسي والصيني، لكنه خارج موضوعنا، بتبنّي ما أسماه الزميل البارز في مركز العمل الوقائي في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، ميكا زينكو، "سياسة القوى العظمى"، و"المنافسة الجيوسياسية"، مذكّرا بما ورد في "وثيقة الاستراتيجية الأميركية" أن "المنافسة الاستراتيجية بين الدول، وليس الإرهاب، هي الآن الشاغل الرئيسي للأمن القومي في الولايات المتحدة". و"هذا يعني أن الصين وروسيا أصبحتا على رأس أولويات مخططي الدفاع، وليس "داعش" أو "القاعدة" أو الإرهابيين الموجهين ذاتياً، والذين يقيمون في الولايات المتحدة أو خارجها". وهذا قادها إلى أخذ إجراءات عسكرية وسياسية واقتصادية متتالية، للتضييق على روسيا، بدءا من تعزيز حضورها العسكري في عدة مناطق سورية. وقد ارتفع عدد القواعد الأميركية في المنطقة إلى 25 قاعدة عسكرية، وأنهم يواصلون بناء قواعد جديدة، وفق تصريح العقيد الروسي المتقاعد، ألكسندر زيلين، ما دفع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى القول: "لاحظنا في الأشهر الأخيرة أن الولايات المتحدة أخذت ترسخ وجودا جديا على الضفة الشرقية للفرات، وعلى مساحات كبيرة من الأراضي السورية حتى الحدود مع العراق، وهي لا تنشر قواتها وتعزّز منشآتها ومواقعها العسكرية هناك فحسب، بل ترعى وتمول تشكيل هيئات سلطة محلية موازية خاضعة لها". وأضاف "إنهم يديرون حربا مباشرة وليس بالوكالة"، وانتقاد وزارة الدفاع الروسية لها "لرفضها تسليم الأجزاء التي تسيطر عليها شرق مدينة دير الزور إلى الحكومة السورية"، إلى تحميلها روسيا مسؤولية قتل المدنيين، على خلفية تغطيتها ممارسات النظام، وخصوصا في موضوع استخدام الأسلحة الكيماوية، وطرحها الموضوع على مجلس الأمن الدولي بشكل متواتر، وتنسيقها عملية طرد جماعي لدبلوماسيين روس، ردا على استخدام روسيا غاز الأعصاب، لقتل جاسوس روسي سابق يعيش في المملكة المتحدة (طرد أكثر من 150 دبلوماسيا روسيا من 24 دولة غربية)، وفرض مزيدٍ من العقوبات عليها (الأخيرة كانت يوم 6 /4 /2018، طاولت سبعة أثرياء من دائرة الرئيس الروسي بوتين، و12 شركة و 17 مسؤولاً، وشركة للاتجار بالأسلحة مملوكة للدولة الروسية، وأحد فروعها، بالإضافة إلى مصرف).
دخلت العلاقات الأميركية الروسية طورا خطيرا، وقد أكد استبدال وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، ومستشار الأمن القومي، هربرت ماكماستر، باثنين من صقور اليمين الأميركي، مايك بومبيو وجان بولتون، للمنصبين على التوالي، التوجه إلى الضغط أكثر على روسيا، اعتبر سيرغي جيليزنياك، وهو نائب في البرلمان الروسي (الدوما)، أن آمال ترامب معقودة على أن بومبيو سيكون أكثر "صقوريةً" في القضايا التي ستُملى عليه. وبهذا المعنى، علينا أن ننتظر من بومبيو مواقف أكثر تشدّدا في سياسة الولايات المتحدة الخارجية". وقد ذهبت قراءاتٌ إلى أن المهمة الرئيسة الملقاة على بومبيو هي التضييق على روسيا لإخراجها من سورية، لأن ترامب يسعى إلى الضغط على موسكو، كي تُغير سياستها في الشرق الأوسط بشكل كامل. وبهذا سيتمكّن من تحقيق وعده الانتخابي لمعالجة القضية الإيرانية، وفق رؤيته.
وقد دفع تصاعد الخلاف الأميركي الروسي ومآلاته المحتملة السفير الفرنسي السابق في سورية، ميشال دوكلو، إلى أن يكتب، في مقالة نشرها في صحيفة الشرق الأوسط (28/3/2018) "لم نبلغ الفصل الأخير في سورية بعد": "ما زلنا في خضم سيناريو الحرب بالوكالة، لكننا بتنا في مواجهة خطر التصعيد الحقيقي بين مختلف الأطراف العسكرية للقوى الإقليمية والدولية، والذي سيسفر عن نشوب صراع إقليمي مسلح".
فظاعة منظر ضحايا الهجمات الكيماوية في سورية التي يرتكبها النظام جعلت الرئيس دونالد ترامب يصف بشار الأسد وصفاً مقذعاً، ويتلقى من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اتصالين خلال ٤٨ ساعة لتنسيق المواقف إزاء الهجوم الوحشي الكيماوي على دوما الذي أدى إلى سقوط أكثر من ٥٠ قتيلاً من بينهم عدد كبير من الأطفال. هذا الهجوم الوحشي سيكون في صلب المحادثات التي يجريها الرئيس الفرنسي مع ضيفه السعودي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في الإليزيه، الذي سيعطيه صورة مفصلة عما تقوم به إيران في المنطقة بأسرها، من سورية إلى اليمن إلى العراق، وتزويدها الأسلحة القاتلة والمسمة إلى النظام السوري والحوثيين و «حزب الله».
الجهود التي قامت بها فرنسا لدفع مفاوضات للمرحلة الانتقالية في سورية فشلت كلها بسبب تعنت روسيا التي تريد حلاً يبقي بشار الأسد على رغم تمزيقه سورية وتدميرها. والانطباع العام الذي يحب الجانب الروسي إعلانه ويتباهى به بشار الأسد هو أن النظام السوري انتصر واستعاد المناطق التي كان خسرها، في حين أنه يستعيد مدناً مدمرة وبلداً بلغ النازحون فيه الملايين ولن يعودوا. وتتوسع مطامع تركيا في سورية مع تخلي الأميركيين عن الدعم الحقيقي للأكراد. أما إيران فتتركز في سورية في شكل يهدد حتى روسيا نفسها التي ما زالت تحتاج إلى حلفها مع طهران في هذه المرحلة.
ماكرون أعلن باسم فرنسا أكثر من مرة أن استخدام النظام السلاح الكيماوي في سورية خط أحمر، وإذا تجاوزه سيتم ضرب القواعد التي اطلق منها الكيماوي. وفي واقع الحال أن الكل مدرك أن بشار الأسد تجاوز الخط الأحمر في الوحشية ولن يوقفه العالم الغربي حتى بضربات محددة على مواقع وقواعد عسكرية، لأنه محمي من ديكتاتوريي روسيا وإيران اللتين لا تباليان برأيهما العام وما إذا كان شعباهما يوافقان أم لا على التدخل العسكري في سورية، فمثلاً هناك جدل في إيران على الصعيد الشعبي حول جدوى التدخّل العسكري في سورية وصرف المبالغ الهائلة لتمويل «حزب الله» ومقاتليه في لبنان، لكن النظام لا يهمه معارضة شعبه إزاء الموضوع. وروسيا استفادت من تدخّلها في سورية باعتراف العالم بأن الرئيس بوتين هو مفتاح الحل، لأن الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة، لم يعد مستعداً بعد كارثة حرب العراق للتدخل العسكري المباشر. وترامب لن يغير رأيه، على ما غرّد بأنه يريد مغادرة القوات الأميركية سورية، فهو مستعد لضرب «الحيوان» لمعاقبته ولكنها ضربة محددة الهدف لموقع بعينه. والدول الديموقراطية أضعف في التصدي لوحشية النظام السوري بعد فشلها الذريع بعد قلب نظام صدام حسين في العراق والقذافي في ليبيا.
أصبحت هذه الدول حذرة جداً من إرسال قوات أو القيام بضربات لقلب النظام وإن كان هذا النظام يهجّر جزءاً كبيراً من شعبه إلى دول الجوار وأوروبا وغيرها، ويشكل مشكلة كبرى من لاجئين صاروا عبئاً على دول الجوار بما يرتّب على الأسرة الدولية جزءاً من المسؤولية.
ولسوء الحظ أصبح الحل الوحيد في يد القيادة الروسية التي لا تتردد من إبقاء قواتها في سورية طالما سلّمها الأسد مفتاح بلده. واللافت أن القيادات الثلاث الروسية والسورية والإيرانية تتسابق في نفي استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي في حين أن كل الصور تؤكد ذلك. فإذا ضربت الولايات المتحدة وفرنسا قواعد عسكرية لسورية لن يرتدع النظام من الاستمرار مع الدعم الإيراني والروسي في تخريب البلد والمنطقة.،
الحل هو في التوصّل إلى توافق أميركي- روسي على وضع جديد في سورية يضمن انتقالاً من دون الأسد، ولكن، لا أحد يثق بالسياسة الأميركية لأنها منحازة كلياً لما تريد إسرائيل التي حرصت دائماً على حماية حكم آل الأسد، وهذا لا يدفع إلى التفاؤل بمستقبل سورية، لأن الحل معضلة والديموقراطيات لن تتدخّل عسكرياً للتصدي لإيران وروسيا، والهيمنة ستبقى للقوة على الأرض من دون حل نهائي.
استجاب نظام بشار الأسد في سورية لمطلب ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، أن يكون قويا، فتوسّل الكيمياء سبيلا في ذلك، عن خبرةٍ سابقةٍ في إحداث الترويع الدالّ على هذه القوة، ولكن، على ناسٍ آمنين. وفي هذا، يُحافظ على مواظبته المعهودة في الحرب التي يشنّها على الشعب السوري، منذ سبع سنوات، مطمئنا تماما للمألوف الذي اعتاد عليه، أي الثرثرة اللفظية التي تمارسها بعض الوقت وزارات الخارجية في واشنطن وباريس ولندن وغيرها، في إدانة جريمة الإبادة، ثم يجري العبور إلى مستجدّاتٍ أخرى، إلى أن تطرأ جريمةٌ تاليةٌ من اللون نفسه، يُردُّ عليها بثرثراتٍ مثيلة، ومن المعجم نفسه، وهكذا دواليك.. لم ترم قوات الأسد الغازات السامّة، الكلور وغيره، على من لاذوا بالأقبية من الصواريخ الروسية، المحمّلة بقنابل عنقودية، كما ذكرت أخبارٌ غير مغرضة، إلا لأن المستوى السياسي الحاكم في دمشق على ثقةٍ فادحةٍ بأن هذا مرخّصٌ له، إذ لم يُعاقَب بغير تعليقاتِنا، نحن الكتاب والصحافيين والمتحدثين في الفضائيات، غاضبين ومندّدين بصمت المجتمع الدولي، وغير ذلك من كلامنا التقليدي برطانته إياها.
لم يقتل جيش الأسد نحو مئتين من أهل دوما، ويخنق مئاتٍ آخرين، بغازي الكلور والسارين وغيرهما، ثم يستأنف رمي البراميل المتفجرة والصواريخ، فقط لأن "جيش الإسلام" يرفض صيغةً مطروحةً لرحيل عناصر منه عن المنطقة، ولأن سلطة الفتك الحاكمة، وحليفيها الإيراني والروسي، يريدون إنجازا ميدانيا محدّدا على الأرض، بل إلى الأمرين ليعرف السوريون، في كل مطرح، في الداخل والخارج، ومعهم كل العالم، أن عدو هذه السلطة ليس من يناهضها أو يقاومها فحسب، وإنما أيضا من لا يلهج بنعمة العيش في فيئها وظلها. ليس مطلوبا فقط من السوري أن يعرف مصلحته، فلا يزاول ثورةً أو احتجاجا على النظام أو تبرّما منه، وإنما أن يصبح مولعا بالأسد، وأن يُشهر ولعه هذا، وأن ينطق محيّاه بالحبور الذي يغشاه، تعبيرا عن فائض السعادة الذي يرفلُ فيه تحت جناح آل الأسد. تدلّ فعلة النائب المنحطّ الذي قايض عبوات ماءٍ لناسٍ عطاشى في الغوطة بالهتاف بمحبّة بشار الأسد على ما ينكتب هنا. ولكن، لأن أهل الغوطة، وملايين من السوريين ليسوا مستعدّين لأن يفعلوا هذا السخف، فهم مخيّرون بأن يموتوا بالكيماوي أو بغيره، بأن يُختطفوا في الزنازين أو يهاجروا. وعندما يهاجرون، فإن سورية تكسب مجتمعا متجانسا، بحسب قول الأسد غير مرة. ولصفاءٍ أكثر لهذا المجتمع، تصير أملاك المهاجرين الغائبين في مهبّ المصادرة، اقتداءً بما فعل نظام الاحتلال الإسرائيلي العنصري في إسرائيل.
عيون الأطفال غير المحدّقة في أي شيء، الأجساد المرميّة كيفما اتفق، والرّوع المهول الذي ينطق به صمت الذين أماتهم غاز الكلور وما شابه، الليلة قبل الماضية في دوما، كما مرّت مشاهد هذا كله وغيره قدّامنا في صور عابرةٍ على غير شاشة، أي مجازٍ، في لغات الأرض كلها، في وسعه أن يقع على التعبير الأدقّ عنها، وعن فظاعة المذبحة المخيفة هاته؟ لم تنفع كل المجازات والبلاغات والاستعارات التي استُعين بها في استفظاع نوباتٍ أسديةٍ سابقة في مزاولة عقاب السوريين بالكيماوي، في جائحة الغوطة الأولى في 2013، وفي خان شيخون قبل عام، وما بينهما. وعندما لا تفعل السياسة شيئا لوقف هواية الأسد الكيماوية هذه، وعندما تختنق اللغات كلها، ولا تصيبُ ما يُشتهى أن تصل إليه في لعن فضيحة الإنسان الساطعة، الماثلة في سورية كلها، فإن حال أهل هذا البلد يصبح أصعبَ مما يُظن، وأمرَّ تعاسةً.
يحتاج شعب سورية إلى معجزةٍ ما، تنقذه من الوحوش التي تأكله. أما متى نُفاجأ بها، فذلك ما لا قِبل لأحدٍ أن يحزره.
لم تعد تحسب، ربما، المرات التي استخدم فيها نظام الرئيس السوري بشار الأسد السلاح الكيميائي ضد شعبه، كما لم تؤد كل أشكال التوثيق التي قامت بها منظمات الأمم المتحدة، والمنظمات الأخرى، لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لهذا النظام، ولم تنته دعوات إحالة قادته، وحلفائه الذين يشاركون أو يغطون جرائم الإبادة الجماعية المستمرة في سوريا، إلى المحاكم الدولية المختصة، إلى أي نتيجة حتى الآن.
وكما انتهت خطوط الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما الحمراء لحظر استخدام النظام للسلاح الكيميائي في مجرور التاريخ، كذلك هبطت ردود فعل الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، (بعد ضربته اليتيمة المحدودة لمطار الشعيرات بعد قصف بلدة خان شيخون قبل عام بالضبط بغاز السارين) من التهديد للأسد بضربه إذا تجرأ مرة أخرى على استخدام السلاح الكيميائي ضد شعبه، إلى درجة أن يقرر فجأة، ومن دون سابق إنذار، أن يترك سوريا بأكملها ويرحل بدعوى التكاليف العسكرية الكبيرة التي تتحملها بلاده هناك.
أما لماذا تحسس ترامب جيبه وتضايق من مصاريف جيشه في سوريا ولم يفعل ذلك في العراق أو أفغانستان أو على الحدود مع المكسيك أو في باقي أنحاء المعمورة التي تنتشر فيها القوات الأمريكية، بما فيها دول أوروبية لا تتعرض لتهديد، كألمانيا وبريطانيا مثلا، فهذا لغز من ألغاز السياسة الكبرى، والأمل الوحيد في فهم المسألة، ربما، هو ملاحظة أن المستفيد الأكبر من انسحاب كهذا ستكون روسيا (وحليفها الأسد الكيميائي بالضرورة)، وبعد ربط هذا بالمشهد المعقد لطرد واشنطن عشرات الدبلوماسيين الروس، ومعاقبة بعض المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيما تستمر الدلائل تتوالى على تدخل موسكو الكبير في تأمين نجاح ترامب بالوصول إلى سدة الرئاسة، يتبادر للذهن أن سوريا هي التعويض الخفي المقدم لروسيا مقابل اضطرار ترامب لصد الاتهامات ضده حول تدخل روسيا في تنصيبه، وكذلك اضطراره لتصعيد العقوبات ضد الكرملين مجاراة لحلفائه الأوروبيين.
تأتي هذه المرايا المتعاكسة من المواجهات والصفقات الخفية في الوقت الذي يتضامن فيه الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، مع بريطانيا في موضوع الجاسوس الروسي السابق الذي تعرض لتسميم بغاز الأعصاب، وهو الأمر الذي دفع كثيرين للتساؤل عن سبب منطقي يدفع بوتين، وهو على أهبة تسلم عهدة رئاسية جديدة لاتخاذ قرار خطير كهذا، وقد تم طرح هذا السؤال من قبل كثير من المدافعين عن روسيا وبوتين، فما الفائدة، برأيهم، التي سيجنيها القيصر من رفع درجة التوتر والتأهب إلى صيغة حرب باردة جديدة، ثم ألا يمكن أن أمريكا وبريطانيا، كما تقول موسكو، هما من نفذتا العملية الكيميائية لتأليب العالم ضد روسيا ورئيسها القوي؟
ثم، لماذا يقوم الكرملين بمحاولة التخلص من جاسوس «خائن» سابق بسلاح يكشف دور المخابرات الروسية في الأمر؟ أما كان الأفضل أن يتم الاغتيال بالطرق الخفية المتعارف عليها بين أجهزة الأمن في العالم والتي تمنع اكتشاف القاتل ولا تحرض ضده مخابرات الدول التي يتعرض فيها الجواسيس للاغتيال، وهو ما حصل في مرات سابقة حيث غض البريطانيون، وغير البريطانيين، أنظارهم عن عمليات القتل «الناعمة» التي لا تترك بصمات القاتل؟
تذكر قضية تكرار استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي، ولاستخدام المخابرات الروسية للتسميم الكيميائي بتقليد معروف في الروايات البوليسية عن توقيع خاص يختاره القاتل ليكون إبلاغا عن قدراته الكبيرة في القيام بجريمته والإفلات من العدالة.
والحقيقة أن قصف الأسد، الذي أوقع مئات المصابين، وقتل العشرات بالسلاح الكيميائي في مدينة دوما عقابا على عدم استسلامها أول أمس، وكذلك تفسير محاولة اغتيال سيرغي سكريبال، وقبله اغتيال ألكسندر ليتفينينكو بالسلاح الكيميائي أيضا في لندن، إضافة إلى كونه توقيعا خاصا بالقاتل، يمكن أن يفسر تفسيرات عديدة، أحدها يرتبط طبعا بتقاليد الأنظمة الهمجية القديمة التي تعتبر العقاب الوحشي ضد الفرد الخارج على سلطة الحاكم أمثولة موجهة للشعب بأكمله وإعلان عام عن عاقبة التمرد والعصيان.
ما حدث ليلة أمس في مدينة دوما من غوطة دمشق ، شيء خارج تصور العقل في معارك ما بعد الحرب العالمية الثانية ، عندما قصف جيش بشار الأسد المدينة بالأسلحة الكيماوية ، وتعمد إسقاط البراميل الحاملة لغاز السارين والكلور على الأماكن التي يوجد فيها ملاجئ للأطفال والنساء يحتمون بها من الصواريخ والمدفعية ، مما أدى إلى إصابة أكثر من ألف وخمسمائة منهم حوالي مائتي قتيل حتى الآن ، وكانت الفيديوهات التي نقلتها وكالات الأنباء العالمية لصور جثث الأطفال والرغاء الأبيض يخرج من أفواههم وأعينهم مشهد مخيف ويذيب القلوب ، ويستحيل أن يوجد إنسان ـ بقي إنسانا ـ ولا يتحرك قلبه لهذه الوحشية التي يستخدمها الطاغية المجرم بشار الأسد ضد الشعب السوري ، لمجرد أنه طالب الحرية والكرامة.
بابا الفاتيكان مشكورا أبدى استنكاره الشديد للجريمة ، ووصفها بأنها "عملية إبادة غير مبررة ضد سكان لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم" ، وهو اتهام نادر الصدور عن الفاتيكان ، من هول الجريمة وبشاعة الصور الحية التي نقلت للعالم كله ، وكنت أتمنى أن يسبق الأزهر والمراجع الدينية الإسلامية في العالم العربي والإسلامي بابا الفاتيكان في إدانة هذه الهمجية التي يمارسها نظام بشار الأسد الوحشي والذي يبدو وكأنه قادم من ظلام العصور الوسطى مثقلا بإرث كئيب للطائفية المقيتة ، وأما الجامعة العربية وأغلب الحكومات العربية فلا تنتظر منها شيئا ، بل إن بعضها ربما كان سعيدا لأن بشار عندما "يؤدب" شعبه الثائر من أجل الحرية بكل تلك الوحشية ، فإنما يرسل من خلاله الرؤساء العرب رسالة التحذير إلى شعوبهم إن فكرت أن تتمرد عليهم ، أمامكم الدرس فاتعظوا ! .
المؤسف أن قطاعا غير قليل من المؤمنين بالربيع العربي ، وأبنائه والحاملين لحلمه ، ما زالوا غير مدركين لخطورة ما يحدث في سوريا ، وأنه ـ بصورة أو أخرى ـ ينعكس على مسار الربيع العربي في كل مكان ، وبكل تأكيد فإن وحشية بشار الأسد رفعت سقف التكلفة ، فبشار لم يتورع عن إرسال طائراته ودباباته وصواريخه لقصف المدن السورية الثائرة ودمر مستشفيات على رؤوس المرضى ، والمساجد على رؤوس المصلين ،والمدارس على رؤوس التلاميذ ، والمخابز على رؤوس البسطاء الذين ذهبوا يبحثون عن رغيف خبز لأولادهم ، وحاصر المدن والقرى وأخضعهم للموت جوعا أو الاستسلام ، وعند الاستسلام يعقد إعدامات ميدانية بالمئات لشباب تلك المدينة أو القرية ، وتعريض الباقين للذل الذي لا يحدث حتى لأسرى الحروب ، وعندما تستعصي عليه مدينه وترفض الاستسلام بعد كل تلك المذابح ، فإنه يقوم بقصفها بالأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا ، لإجبار ثوارها على الركوع والاستسلام ، كما حدث في دوما ، وما حدث قبلها في حمص وحلب ، هذا مستوى من الوحشية والإجرام غير مسبوق ، بل لم يصل إليه الصهاينة أنفسهم في حربهم على أهلنا في فلسطين ، ويكفي أن نصف شعب سوريا اليوم مهجر ومشرد في أرجاء الدنيا خوفا من بطش الأسد ومخابراته وأجهزة تعذيبه وقمعه .
بشار ليس مجرد ديكتاتور أو مستبد ، فالمستبدون كثر ، هذا طراز مختلف من الوحوش الآدمية ، ديكتاتور دموي لا حد لجرائمه ودمويته ، وخائن لوطنه ، لم يتورع عن أن يستحضر ميليشيات طائفية من العراق وسوريا وأفغانستان من أجل دعمه في حربه على شعبه ، ومكنهم من استباحة كرامة سوريا أرضا وشعبا ، ثم استقدم قوات الحرس الثوري الإيراني الطائفية ومنحها المعسكرات والسلطات الكاملة لبسط سيطرتها على مساحات واسعة من البلاد ، ثم استقدم الروس ومنحهم القواعد والمعسكرات في الساحل وفي بعض المطارات لكي يدعموه في حربه على شعبه ، هذا بخلاف ما تسبب فيه من دخول القوات الأمريكية والفرنسية والتركية إلى سوريا وإقامتها قواعد عسكرية وبسط السيطرة على مدن ومساحات ، هذا الخائن الفاشل ، يحاول بعض العرب اختزال كارثيته في أنه مستبد ، مثل غيره من المستبدين ، هذا تضليل وتسطيح خطير للأمور ، فضلا عن لا إنسانية مثل هذا الموقف الذي يهرب به أصحابه من أي مسئولية أخلاقية تجاه الشعب السوري المستباح .
لا شك عندي أبدا ، في أن الشعب السوري سينتصر في النهاية ، وسيفرض إرادته ، وسينتزع حريته وكرامته ، وسيبني دولة مدنية ديمقراطية هو جدير بها ، فقد دفع الثمن ، أكثر مما دفعه أي شعب آخر ، وعدل الله يأبى إلا أن ينصر هؤلاء المستضعفين ، حتى وإن خذلهم العالم القريب والبعيد ، وشعارهم من البداية كان "مالنا غيرك يا الله" .
لو توفرت فرصة مخاطبة العالم، التي هيأها مجلس الأمن الدولي بكل خبث وتواطؤ لمندوب نظام الأسد، بشار الجعفري، لأي مخلوق، حتى غوبلز، كي ينفث هراءه المسموم؛ لتواضع قليلاً. يريد الجعفري، في خطبته أخيرا أمام مجلس الأمن، أن يحرّر الجولان، في وقتٍ لا يخرج رئيسه من المخبأ إلا بحماية روسية - إيرانية. كَم يتمنى السوريون أن يتحرّر الجولان السوري. المسألة ليست بوعد التحرير المؤجل من نصف قرن، ولا بالاحتفاظ بحق الرد الذي لم يأت ولن يأتي؛ بل بتفريخ الاحتلالات التي لم يولّدها أحد إلا الذين يعدون بالتحرير أنفسهم.
إضافة إلى الجولان، يريد الجعفري أن يحرّر كل شبر من الأرض السورية. وذلك يشمل الشمال الشرقي والجنوب والشمال والوسط السوري من التحالف وأميركا وتركيا وغيرهم. السوريون، والذين يستمعون إلى هذر الجعفري، يعرفون أن الأمكنة الوحيدة التي تستطيع منظومة الاستبداد التي ينتمي إليها الجعفري أن "تحرّرها" هي بيوت السوريين من سكانها. والأمثلة حيّة وكثيرة. أما الشمال والشرق والجنوب، فهذا غير ممكن؛ لأن مَن جلب الاحتلال لا يمكن أن يكون محرِراً.
تماماً كما كانت مساهمة منظومة الاستبداد بإيجاد الإرهاب والتسلُّح به ذريعةً لقتل السوريين، كان استدعاء الاحتلالات. نهاية الإرهاب هي نهاية مشروع القتل بالنسبة للمنظومة. ومن هنا، كان إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نهاية "داعش" مؤلماً للنظام؛ فتراه يعيد حساباته ويتراجع عن إعلان "نصره" في حميميم. هكذا حال الاحتلالات التي يتحدث الجعفري "بغوبلزية" عن إنهائها، وهو يعرف أن نهاية الاحتلالات هي نهاية للمنظومة التي ينتمي إليها. فعلها الخياني هو الذي استدعاها؛ فكيف سيناضل لإخراجها؟!
يعيدنا هذا إلى حديثه عن تحرير الجولان الذي ينطبق عليه الفعل والسلوك الحالي للمنظومة تجاه الاحتلالات، ويدفعنا باتجاه تفسير قصة الجولان واستنتاجها ككل. أليس منطقياً أن يسأل المرء كيف ولماذا كان تسليم الجولان لإسرائيل أساساً؟ وهل كان ذلك غير ثمن لسلطة الأسد الأب في السلطة؟
كل الذين يستمعون إلى الجعفري يعرفون ما يهذر به، والأخطر يعرفون أبعاده. لا يستطيع الجعفري أن يقول غير ذلك. إنْ فَعَلْ، هناك إخلال بالمهمة. ما كان ليُسْمَح لتلك المنظومة أن تقتل وتشرّد وتدمّر وترتكب تلك الجرائم، لو لم يكن مستمعو الجعفري يعرفون تلك الحقائق. واحد بالألف من الجرائم التي ارتكبتها المنظومة في أي مكان في الدنيا تودي بفاعلها وبوقت قياسي. وما كان الجعفري أصلاً ليُسمَع أو يجد له مكاناً في محفل عالمي، لو لم يكن النظام الذي يمثله مأجوراً خائناً ورخيصا. من هنا يأتي عدم تواضع الجعفري؛ من هنا تأتي بلطجيته.
وهكذا هو الحال مع السوريين، أي حقائق يمكنهم الاستفادة منها، لكي يعيدوا بلدهم إلى الحياة ويخلّصوه من براثن هذا الوباء؟ ليس اختراعاً أو اكتشافاً القول إن هذا النظام يكذب كما يتنفس؛ أناني؛ متوحش؛ يسجن، يشرّد، أو يقتل مَن يقول "لا". السوري الرمادي تحت المراقبة والخوف؛ والموالي العبودية المطلقة، أو يلتحق بزميليه. السوري متيقّن أن النظام الذي لم يوفر سلاحاً إلا واستخدمه في معركته على السوريين؛ ولن يتردد باستخدامه ثانية؛ فلا يزال شعار "أحكمها أو أدمرها" هو الأثبت، بكل ما فعله أو سيفعله.
يدرك السوري أن خدمات هذا النظام بلا حدود للأقوياء، وعلى حساب أي مبدأ يرفعه ويتبجح به. محتل الأرض (إسرائيل) هو سر بقائه. خدَم أميركا في كل وساخاتها في المنطقة كأجير أمين؛ والأمر ذاته تجاه مختلف أجهزة المخابرات العالمية. تحالفه استراتيجي مع إيران؛ ليس على أسس أيديولوجية، بل سياسية بامتياز؛ فلا تعني الشيعة أو التشيُّع له أو لإيران أكثر ما تعنيه الديمقراطية أو شرعية نظام الأسد لبوتين.
بخصوص داعمي النظام الأساسيين؛ روسيا وإيران، على الرغم من تناقض مصالحهما أو توافقها أو تنافرها، إلا أن تحالفهما الاضطراري هو السائد، والمستفيد الأساس منه في بقائه هو منظومة الاستبداد. ولن ينزاح هذا الحلف غير المقدس عن كاهل السوريين إلا بفعل دولي، وبرباطة جأش وعمل دؤوب وعقل سوري.
ما تم الاصطلاح عليه "أصدقاء سورية"، إضافة إلى الأمم المتحدة ومجلس أمنها، إن لم يكونوا غير صادقين أو جادين مع القضية السورية، فهم عَجَزَة أمام المؤامرة الكبرى الخبيثة مع منظومة الاستبداد العميلة أو متواطئون.
والحال هكذا، ماذا تبقى للسوريين ليستعيدوا حياتهم وبلدهم في ظل هذا الهيجان المتلاطم الداهم على أرواحهم؟ وأي استراتيجية يرسمون للخلاص؟ بداية، ما يُقال إن أسلمة الثورة السورية وعسكرتها كانتا المقتل ليس إلا أمراً مُبالغاً به، وناتجاً عن ضيقٍ يبحث عن أسباب للكبوات أو عدم إنجاز الثورة أهدافها. كانا عاملين اضطراريين تم الشغل الحثيث عليهما من الآخر بقدر ما تم شغله على آلة القتل والدعاية والإعلام. وفي عجز مؤسسات الثورة والمعارضة وفسادها وتقصيرها وتعثرها، يمكن قول الكثير الكثير؛ وما من مرافعة أو قوة يمكن أن تبرّر ذلك. حتى القول إن السوريين يعدمون الخبرة، لأنهم لم يقوموا بثورة بعد ثورتهم على الاحتلال الفرنسي ليكونوا خبراء بالثورات، لا تشكل تبريرا.
الهزيمة الفعلية هي الاستكانة والتسليم بالواقع الجائر. الكبوة لا تقتل. والسوري يجب ألا يموت قبل أن يأتيه الموت. كل ما حدث لا بد من دراسته بعمق، واستخلاص الدروس والعبر منه.
هناك 12 مليون سوري اقتُلعوا من بيوتهم، وتبعثروا في أربع أصقاع الأرض، لم يتبخروا، ولا تزال سورية الحرة عنوانهم؛ وعودتها إلى الحياة حرة من القمع والاستبداد مطلبهم. هناك اعتراف دولي بمنظومات المعارضة (على الرغم من ضعفها وتشوّهها) لا يمكن التفريط به. هناك قرارات دولية لا يمكن أن تسقط بالتقادم أو الشيطنة. هناك ملفات إجرام لا يستطيع نظام مهما قوي أن يهرب منها. هناك سجل إجرامي للنظام وداعميه لا يستطيع أحد أن يطويه. هناك نظام خرب ودمر ويقع عاجزاً اقتصادياً، ومفلساً سياسياً، ومقعداً أخلاقياً يعيش على سيروم دموي روسي إيراني.
هناك صامتون ستكون ثورتهم بلا حدود لحظة إحساسهم بضعف سطوة منظومة القمع. هناك من يبحث عن الخلاص من المغطس السوري أكان من الداعمين، وخصوصا روسيا؛ أو من دول العالم التي لا بد تستشعر حريق القصة السورية. والأهم هناك داخل سوري غضبه بلا ضفاف، وتصميمه على الخلاص من القمع والاستبداد بلا حدود. ومن هنا، لا بد من وضع هذه الحقائق نصب الأعين، والتداعي إلى انطلاقة جديدة لثورة سورية، من أجل استعادة وطن حر كريم، لا مكان لبشار الجعفري وأسياده فيه.
كان ينتابني أحياناً وأنا أشاهد تدمير المدن السورية بطريقة ممنهجة وتهجير أهلها كحمص وداريا والغوطة وحلب وغيرها، كان ينتابني شعور بأن كل ما حدث في سوريا من دمار وتهجير كان مجرد مقدمة مدروسة لإعادة تنظيم المدن السورية عمرانياً وديمغرافياً.
كنت أظن في الماضي أنني أهلوّس، وأنه لا يمكن أن كل هذا التخريب المنظم وتشريد الناس بالملايين من مناطقها يمكن أن يكون لأهداف غير عسكرية. لكن الأيام أثبتت أن هلوساتنا كانت صائبة تماماً، خاصة بعد أن بدأنا نشهد الآن المشاريع العمرانية الجديدة التي بدأت تظهر خرائطها في أكثر من منطقة سورية تم تفريغها من أهلها. ولم ينتظر النظام وحلفاؤه طويلاً كي يبدأوا بالإعلان عن المخطط التنظيمي الجديد للبلاد، فقد أصدر الرئيس السوري فجأة قبل أيام مرسوماً جمهورياً جديداً لإعادة تنظيم المناطق التي حررها من سكانها، وكأنه يقول للسوريين: لقد كانت عملياتنا العسكرية بالتعاون مع الحلفاء الخطوة الأولى لإعادة رسم سوريا عمرانياً وبشرياً. وبموجب القانون رقم 10 لعام 2018 سيتم إنشاء وحدات إدارية أو تنظيمية جديدة في سوريا مثل البلديات، ستبتلع هذه البلديات ملكية الأراضي وتعوّض أصحابها الأصليين ( إن استطاعوا إثبات ملكيتهم لها أو حضورها وهو شبه مستحيل)، ثم ستقوم ببيع الأراضي التي تملكتها لمكتتبين جدد يكونون موجودين على الأرض، وستحذف جميع الحقوق العائدة لأصحاب الأرض الأصليين من القيود العقارية وكأنها لم تكن. باختصار شديد، طرد أصحاب الأرض منها، وإلغاء حقوقهم فيها، وتحويلها إلى مناطق سكنية جديدة بسكان جدد تماماً من طوائف وقوميات جديدة. بعبارة أخرى، يصبح التغيير الديمغرافي والعمراني حقيقة تفقأ العيون، كما لو كانت موضوعة قبل اندلاع الثورة.
إن ما نراه الآن في سوريا من إعادة توزيع وتطهير ديمغرافي وإزالة مدن بأكملها عن الخارطة لم يعد بحاجة إلى أي براهين بعد أن راح الجميع، وعلى رأسهم النظام وحلفاؤه يقطّعون سوريا ويعيدون تركيب خارطتها البشرية والعمرانية بسكين حاد جداً، وعلى مرأى ومسمع الجميع، لا بل إن الأمم المتحدة تبصم بحافرها على الخرائط الجديدة كما شاهدنا في داريا والغوطة، حيث أشرفت شخصياً على تهجير السكان الأصليين إلى شمال سوريا رغم أنهم عاشوا في ريف دمشق لمئات السنين.
لاحظوا كيف تم حرق السجلات المدنية وتهجير سكان حمص من المسلمين السنة وعددهم أكثر من مليون، ولم يُسمح لهم بالعودة إليها. لاحظوا كيف اندفع حزب الله وداعموه الإيرانيون إلى السيطرة على مدينة القصير في محافظة حمص، وطردوا أهلها قبل سنوات كي يؤمنوا مناطق حزب الله في لبنان ويدمجوها بالمناطق السورية.
لقد ظن البعض قبل ثلاث سنوات أو أكثر أنها مجرد خطوة لاستعادة بعض المناطق من المعارضة في معارك الكر والفر، لكن الأيام أثبتت أنها خطة محكمة تقع ضمن مخطط إعادة تشكيل الخارطة السورية ديمغرافياً ومدنياً.
وحينما نرى حزب الله الآن يطهّر منطقة الزبداني ومضايا الحدودية من سكانها، ويدمر عشرات الألوف من الأشجار ليحفر الأنفاق، ويحول المنطقة إلى منطقة عسكرية نتذكر كيف قام بتطهير القصير قبل سنوات. الرابط واضح بين ما فعله بالقصير وما يفعله الآن بالزبداني. ولا ننسى منطقة تدمر المهمة التي لم تأخذ نصيبها من الدعاية الإعلامية المطلوبة، فقد تم تهجير سكانها لأنها تقع على الطريق الذي يصل إيران عبر العراق إلى حمص إلى لبنان حيث معاقل حزب الله.
لكن لعبة التغيير الديمغرافي في سوريا لا تقتصر فقط على النظام وحلفائه، بل إن أطرافاً كثيرة دخلت عليها منذ زمن، وكانت تخطط لها منذ بداية الثورة، فالأكراد بدعم أمريكي وغربي طهروا المناطق العربية التي كانوا يريدون السيطرة عليها في الشمال منذ سنوات، وربما بتنسيق مع النظام. وعندما نرى القواعد الجوية الأمريكية الجديدة شرق سوريا تصبح لعبة التمزيق الديمغرافي أكثر وضوحاً.
هل يا ترى ستكون عمليتا «درع الفرات» و«غصن الزيتون» التركيتان مجرد عملية عسكرية خاطفة لتطهير الحدود التركية السورية من خطر داعش والأكراد، أم أن لها ما بعدها؟
ولا ننسى الدور الإسرائيلي في الجنوب، حيث لن تسمح تل أبيب لإيران بالاقتراب من جنوب سوريا، ولهذا فمن المتوقع أن تقتطع حصتها من الجغرافيا السورية. ما نراه الآن من مخططات بدأت تتضح. ألا يجعلنا ذلك نعيد التفكير بكل شيء؟ عمليات التهجير القسري والتغيير الديمغرافي والاجتياح الإيراني لسوريا وتقاسم مناطق النفوذ بين الأمريكيين والروس، ودخول قوى كثيرة إلى الأرض السورية بالتنسيق مع النظام وغيره، ألا تدفعنا إلى التفكير بأنها كانت حركة ملعوبة منذ بدايات الثورة لعبتها قوى خارجية ثم لحق بها النظام وحلفاؤه، فراح ينفذ ما هو مطلوب منه دولياً في سوريا على صعيد التدمير والتهجير وإعادة رسم الخرائط والمخططات التنظيمية الجديدة؟ هل كان تدمير حمص وتهجير شعبها المرحلة الثانية من مشروع «حلم حمص» الذي كان قد بدأه المحافظ السابق إياد غزال؟ اليوم يتحدث النظام عن بناء مجمعات كبرى في حي الوعر الذي يعمل الآن على تهجير سكانه الباقين. هل وضع النظام وشركات دولية مخططات تنظيمية للكثير من المناطق التي دمروها وشردوا سكانها، حتى قبل أن تنتهي عملية التهجير القسري. بعبارة أخرى، هل كانوا يخططون لهذه المشاريع منذ زمن طويل، وربما قبل الثورة؟ لاحظوا أن الطيران السوري مثلاً كان يقصف مناطق معينة في مدينة قدسيا بدمشق، ويدمرها تماماً، ويتجنب مناطق أخرى، وكأنه يقول لنا: إن المناطق التي ندمرها مطلوب إعادة بنائها بشكل مختلف حسب المخطط التنظيمي الجديد لسوريا الذي وضعناه ربما قبل الثورة. لاحظوا كيف بدأت إيران تعيد إعمار داريا بعد تهجير سكانها. ولا ننسى مشاريعها في منطقة المزة بدمشق.
إن تعقيدات الوضع السوري وتشابكه تدعونا أن نخرج من قوالب التفكير التقليدية، ولا مانع إن بدأنا نفكر بأن ما يحصل في سوريا الآن أشبه بمخطط تنظيمي جديد للبلاد وقوده تهجير ملايين البشر وتدمير ملايين البيوت وإزالة مدن عن الخارطة بمباركة كل الأطراف باستثناء الشعب السوري.
أعلنت الولايات المتحدة، قبل أسابيع، أنها باقية في سورية أمدا طويلا. هلّل الإعلام، وانتشرت التحليلات بشأن المقصد الأميركي، وتكرّر الكلام عن تقسيم سورية. الآن، يعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب أنه سيسحب قوات بلاده من سورية، فامتلأ الإعلام بالتحليلات وساد التخبط. في الحالين، ظهر أن لا أحد يفهم إستراتيجية أميركا، ولا سبب وجودها في سورية، عدا الخطاب الدعائي المرتكز على محاربة تنظيم (داعش)، وهو خطاب سخيف وغير حقيقي. لهذا تتداخل التحليلات وتسود التكهنات، ويبدأ الردح أو إظهار الانتصار، حسب مصدر التحليل وموقفه من الثورة في سورية.
عادة ما تؤخذ التصريحات من مسؤولين وكأنها قرارات فعلية، وقد أُعلنت للتنفيذ. لهذا يصبح الموضوع هو إصدار موقف منها. وهنا تكثر أحكام القيمة، والتكهنات، وعبره تمرَّر سياسات كذلك. لا أحد يعتقد أن الهدف من تصريحاتٍ كثيرة يكون "تكتيكيا"، أو للتغطية على سياسة، أو للمناورة. ولفهم ذلك، لا بدّ من فهم الإستراتيجية الأساسية، والمصالح، وبالتالي السياسة الفعلية. لا تظهر هذه كلها في التحليلات، ولا يهتم المعلقون بها. لهذا يجري التأرجح في التحليل من نقيض إلى آخر، ومن موقفٍ إلى عكسه، ولا يُقدَّم سوى أحكام قيمة ومواقف عابرة.
مثلاً، هل ستبقى أميركا في سورية طويلاً؟ لا بالتأكيد، بالضبط لأنها "باعت سورية لروسيا" منذ سنة 2012، وهذا ليس موقف أوباما، بل موقف "المؤسسة" والاحتكارات. والآن، هل ستنسحب سريعاً؟ لا بالتأكيد أيضاً، لأن وجود أميركا في سورية كان ورقةً في التفاوض مع روسيا، حيث أنها تريد السيطرة على العراق، ووافقت على أن تكون سورية من حصة روسيا، حتى حينما قرّرت التدخل العسكري لم تمانع أميركا ذلك. لكن الأمر أوسع من ذلك، حيث التفاوض بين البلدين يشمل العالم. ولهذا كان يجب أن يكون لأميركا "مسمار جحا" في سورية، خصوصاً آبار النفط والغاز التي هي لشركاتٍ روسيةٍ، وفق الاتفاقات بين روسيا والنظام. وقد تحققت السيطرة على شرق سورية في ظل إدارة ترامب، وليس في أثناء إدارة سلفه باراك أوباما، بعد أن زاد عديد قواته هناك. لهذا، يمكن فهم التصريح بشأن الوجود طويل الأمد بأنه "تهديد" لروسيا بالسيطرة على جزء من سورية، إذا ما ظلت متعنتةً في المفاوضات بين البلدين.
في المقابل، لعبت روسيا على التناقض بين تركيا وأميركا، فسمحت لها بأن تسيطر على عفرين والشمال الغربي من سورية، ولا تمانع بأن تسيطر على تل رفعت، ومنبج، وحتى الشريط الحدودي السوري التركي. الآن، إذا ما انسحبت أميركا من الشرق والشمال الشرقي من سورية: هل ستظلّ السياسة الروسية هي ذاتها؟ لا بالتأكيد، لأن روسيا سوف تسعى إلى أن يسيطر النظام على هذه المناطق، وأن تعود هي لـ "استعادة" آبار النفط والغاز. هذا يعني صداما بين روسيا وتركيا، وتخريب التكتيك الروسي. هل قصد ترامب ذلك، على الرغم من أنه انفعالي وساذج سياسياً.
ربما كان يهدف الى ذلك، حيث سيجري التسابق للسيطرة على تلك المناطق بين روسيا وتركيا، فيقع الصدام بينهما. خصوصاً أن روسيا تتبنى سورية فيدرالية، وتقرّ بفيدرالية في الشمال السوري، هي "كردية" طبعاً، وهذا ما يخيف تركيا.
إذن، كل هذه التصريحات الأميركية بشأن سورية يجب أن توضع في إطار تكتيكي، ضمن علاقة التفاوض/ الصراع مع روسيا بالتحديد. بينما لن تخرج أميركا من سورية قبل تفاهم عام مع روسيا، بما في ذلك الحل النهائي للوضع السوري. حيث ترفض أميركا أن يتحقق الحل، بانتصار روسي يفرض ما يريد.
وفي تصريح ترامب أمر آخر، ربما هو ما قصده بصفته مرابيا كبيرا، يتمثّل في الضغط على السعودية من أجل تمويل الوجود العسكري الأميركي، أي الحصول على مليارات أخرى، بعد كل تلك التي حصل عليها. قال ذلك صراحة في تصريحه بشأن الانسحاب مساء الثلاثاء.