يبدو المبعوث الدولي للأزمة السورية ستيفان دي ميستورا منهمكا في جولات لا تنتهي بين عواصم العالم والدول الإقليمية، فضلا عن جولاته بين النظام والمعارضة، وذلك في محاولة تبدو الأخيرة لإنقاذ خطة “تجميد القتال” في مدينة حلب.
مرت أشهر عديدة على طرح دي ميستورا لخطته، مستفيدا من لحظة شهدت نمو خطر تنظيم الدولة الإسلامية، آملا في أن يدفع هذا الخطر طرفي الصراع الرئيسيين، النظام والمعارضة، إلى قبول خطته والتفرّغ لمواجهة داعش. وكانت رغبة دي ميستورا في تحويل المعارك بين مختلف الأطراف إلى مواجهة شبه وحيدة مع داعش مدفوعة، أيضا، بتشكل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وما أعلنه ذلك التحالف من هدف رئيسي وواضح، وهو القضاء على التنظيم الإرهابي في سوريا والعراق.
هكذا كانت أميركا آخر محطات المبعوث الدولي في محاولة لإقناعها بأن تأخذ خطته على محمل الجد. فالإدارة الأميركية ورغم أنهـا أعلنت موافقتها المبـدئية على أي جهود للتهدئة ومن ضمنها خطة “تجميد” القتال، لم تول تلك الخطة أي أهمية تذكر، إذ تتركز جهودها على العراق بشكل مكثـف، وقد بات لها تواجد عسكري واسع ومتزايد هناك.
أما الساحة السورية فتكتفي فيها الولايات المتحدة بضربات جوية لزيادة الضغط على تنظيم الدولة الإسلامية في معاقله ومنع محاولات إسناده لمقاتليه في العراق. كما تركزت معظم الغارات الجوية لقوات التحالف على جبهات قتال الأكراد مع داعش خصوصا بعد نجاح تجربة الدعم الجوي المساند للقوات الكردية في بلدة “كوباني”، ودحر داعش منها ومن عشرات القرى المحيطة. بكلمات أخرى، تتركز الجهود الأميركية في سوريا على داعش بصورة خاصة ومباشرة، ولا تولي اهتماما يذكر، حتى الآن، لما يجري في مناطق أخرى حيث تشتد المعارك بين النظام والمعارضة، وحيث يحاول دي ميستورا التوصل إلى تهدئة جزئية فيها.
وفي محاولة لتنشيط الاهتمام الدولي بخطته، يحمل دي ميستورا في جعبته وعدا قطعه عليه الرئيس السوري بشار الأسد خلال لقائهما الأخير قبل أيام في العاصمة دمشق، حيث أبدى الأسد استعداده لوقف كل عمليات القصف الجوي والمدفعي لمدة ستة أسابيع في كل أنحاء مدينة حلب. إنه جديد المبعوث الدولي إذن وبعد أشهر من العمل على خطته. غير أن هذا الجديد يعاني، كما كل خطته، من نقص فادح في التفاصيل، ومن ضبابية تجعل من تطبيق الخطة إمكانية شبه مستحيلة.
في الحقيقة، لم يبذل دي ميستـورا جهودا كبيرة لحل التفاصيل المعقـّدة، بل كان يقلص من نطاق خطته باستمرار في محـاولة لتجـاهل تلك التفاصيل كنعامـة تدفن رأسها بالـرمـال. ففي حين كـانت الخطـة تستهدف كل محافظة حلب وريفها، باتت، في طبعتها الأخيرة، تقتصر على ذلـك الجزء الذي تسيطر عليه المعارضة في مدينة حلب.
ويأتي ذلك في ظل اشتعال مختلف جبهات محافظة حلب، إذ شنت قوات النظام مدعومة بمشاركة كبيرة من حزب الله هجوما واسعا ومباغتا على مختلف مناطق ريف حلب الشمالي، واستطاعت التقدم قبل أن تعيدها قوات المعارضة إلى مواقعها السابقة. هكذا يبدو واضحا أن خطة “تجميـد القتال” تعمل على “إذكاء القتال” وتوسع المعارك في حلـب، في محاولة مـن قبل النظام للتقدم بشكل يكبّد المعارضة خسائر فادحـة تجعلها ترفـض تطبيق الخطة.
كما يؤشر ذلك إلى الضعف الرئيسي في خطة دي ميستورا، وهو عدم وجود إعلان عن نوايا من الطرفين، وخصوصا من قبل النظام السوري، في الرغبة بالتوصل إلى حل سياسي شامل وذلك عبر تهدئة مختلف الجبهات والدخول في مرحلة انتقالية سياسية تمهّد لإجراء انتخابات، إذ يبدو واضحا أن نظام الأسد لا يزال بعيدا عن تلك القناعة.
إن المشاركة المباشرة لإيران، كما أقر النظام السوري أخيرا، في قيادة العمليات العسكرية في جنـوب سوريا وفي تعزيز قوات النظام بالحرس الثوري الإيراني وبأدواتها الطائفية في المنطقة المتمثلة بحزب الله والميليشيات العراقية، تشير إلى أن النظام وحلفاءه يعقدون رهاناتهم الحقيقية على الحل العسكري، مع إدراكهم بأن أي حل سياسي سيشكل نوعا من الخسارة لهم، وسيعطي الشرعية لمعارضة سورية ضعيفة ومهتزة تعمل كل ما في وسعها منذ أربع سنوات لاكتسابها من دون جدوى.
هكذا يتوه دي ميستورا حاملا خطته بين دهاليز القوى المحلية والإقليمية والدولية، خصوصا بعد تصاعد حدة تدويل الصراع السوري، والانخراط المباشر من قبل إيران وحزب الله في الحرب من جهة، وأميركا من جهة أخرى. ففي الوقت الذي يحطّ فيه المبعوث الدولي في الولايات المتحدة، تعلن هذه الأخيرة عن اتفاق مع تركيا لتدريب وتسليح المعارضة السورية.
هكذا يكتمل المشهد، فباستثناء السوريين المنهكين، وعدد من فصائل المعارضة التي لم تعد اللاعب الأقوى على الساحة السورية، لا يوجد من يراهن، فعلا، على حل سياسي للأزمة السورية ضمن الظروف والمعطيات الحالية.
ندخل عام جديد في العمل الإعلامي الذي بدأناه بخطوات متئدة ، متسارعة ، تنتقل على الدماء ، تبحث عن الحقيقة لنقلها و عكس الصورة المؤلمة التي ألَّمت و تلم بشعبنا السوري الأبي .
الشعب الذي انتفض ضد ظلم واستبداد لا يمكن أن نشبّهه بأي شيء مر أو يمكن أن يمر على البشرية جمعاء.
طوينا الأيام و حشيناها آلام ، فقدنا أخوة و أحبة و استمرينا ، حاصرتنا الأزمات و استمرينا ، خَنقنا النقص تعالينا و استمرينا ، و حُربنا بأهالينا تجاوزنا و استمرينا ، نالت منا سهامٌ كثير فدسنا على الجرح و استمرينا.
فالقضية ليس وجع شخص أو مجموعة خسرت الكثير فالقضية قضية شعب يرزخ تحت نير الموت المحيط به من كل جانب، فلا وقت للتوقف أو الاستراحة ، فالأمر أمر شعب يستحق أن نعمل أكثر مما طاقتنا .
لا توجه و لا توجيه، لا إيدلوجية و لا سياسة مرسومة، فالبوصلة واضحة وضوح الشمس ، البوصلة هي الثورة بكل ما فيها بحلوها ، بمرها و بانتصاراتها ، انكساراتها ، ببراءة أطفالها ، بنضوج شبّانها ، بعزة رجالها ، وشرف حرائرها ، إنها ثورة البشرية و ثورة أمة و ثورة الحرية.
أخطأنا و أصبنا ، لكن لم نته .. تعبنا و استُنزفنا لكن لم ننكسر .. مقياسنا واحد و توجهنا واحد ..
"الدمعة" محركنا... دمعة على عجز و قهر لحِق بالشعب والوطن .. و دمعة من انتصار بتحرير أرض ..
أكدت الولايات المتحدة مرة أخرى أنها بصدد تقديم التدريب والتسليح للمعارضة السورية، وأهم حدث كان قرار الرئيس الأميركي، باراك أوباما، منح الحكومة الأميركية سماحاً بتدريب أعداد أكبر من مقاتلي المعارضة، وتخطّي عقبات علاقاتهم السابقة.
وجاء القرار بعد توقيع اتفاق تدريب بين أنقرة وواشنطن على استعمال إحدى الثكنات العسكرية التركية لهذا الغرض، ليؤكد أن الأميركيين جادون في مسعاهم.
"عليه أن يرحل"
وخلال الأيام الأخيرة، أرسلت الولايات المتحدة إشارات مختلفة حول حقيقة موقفها من النظام السوري، وفهم الكثيرون من أن تدريب عناصر المعارضة السورية سيكون موجّهاً لمواجهة داعش وليس لمواجهة النظام السوري، وهذا أقلّه ما أكده الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية، الأدميرال جون كيربي، خلال أحد المؤتمرات الصحافية.
مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية لدى التحدث إلى "العربية.نت" رداً على سؤال حول أن الولايات المتحدة تتجه نحو القبول بنظام بشار الأسد، قال "دعني أكن واضحاً، الأسد فقد شرعيته وعليه أن يرحل، ولن تكون هناك سوريا مستقرة وتشمل كل مكوناتها في ظل بشار الأسد"، واعتبر المسؤول الأميركي أن نظام الأسد "ما دام يختار إرهاب مواطنيه بدلاً من التحدث إليهم عن حل سياسي، فهو يتسبب في نمو التطرف".
خلال عام
ويبدو أن التذبذب في الموقف الأميركي من الموضوع السوري يعود إلى سلسلة الأولويات، فقد أكد أكثر من مصدر لـ"العربية.نت"، أن الحملة العامة ضد تنظيم داعش هي حملة ناجحة، كما قال متحدث باسم القيادة المركزية خلال إيجاز صحافي، يوم الخميس، إن العملية تسير بشكل أفضل مما هو مرسوم.
لكن من الواضح أن الأميركيين يعطون الأولوية لـ"شمال العراق" ويريد الأميركيون تحقيق انتصار في الموصل، وأشار أحد القريبين من إدارة باراك أوباما إلى أن هناك تفاهماً بين الأميركيين والحلفاء العرب حول هذه الأولوية، ويعود هذا التفاهم إلى بداية الحملة الجوية وتشكيل التحالف.
وأشار أيضاً إلى أن تأخر تسليح المعارضة وتقدّم قوات النظام في بعض الجبهات، أعطى الانطباع كأن النظام يحقق انتصارات، "لكن هذه الانتصارات ستكون قصيرة المدى ومحدودة".
ويرسم الأميركيون خطة تدريب المعارضة السورية، بحسب مصادر "العربية.نت"، ويقولون إن تشكيل نواة جيّدة للمعارضة السورية المعتدلة سيستغرق عاماً أو أقل، على أن تصبح هذه القوة جاهزة لاحتلال مناطق تخليها داعش، وتمنع قوات النظام السورية وأعوانه من احتلال هذه المناطق.
هذه الخطة الأولية تتناسق أيضاً مع استمرار الحملة الجوية على تنظيم داعش في سوريا، فمع بداية العام المقبل تكون الضربات الجوية قد تمكّنت من تصفية آلاف من عناصر التنظيم، وتسببت بتدمير هيكليته وضرب قدرته على السيطرة، ومع قطع طرق الإمداد البشري له عبر الحدود التركية ومنعه من تمويل سيطرته على هذه المدن يكون قد أصبح أشلاء.
"بدون الأسد وبدون داعش"
وكان من الملاحظ جداً أن وزير الدفاع الأميركي الجديد، أشتون كارتر، وخلال جلسات الاستماع إليه في لجنة القوات المسلحة، أشار إلى ضرورة أن "يُهزم تنظيم داعش ويبقى مهزوماً"، وأضاف "أن ذلك سيتطلب الجمع بين قوات المعارضة المعتدلة وقوات إقليمية".
وأشارت شخصيات قريبة من إدارة أوباما إلى أن مسألة تدخّل قوات إقليمية مثل القوات التركية في الشمال ربما تكون طرحت في وقت ما، لكن المطلوب بالفعل هو أن تأخذ الحكومة التركية إجراءات حازمة ونهائية على الحدود المشتركة مع سوريا، لمنع تسرّب المتطوعين الجدد. وحذّرت هذه الشخصيات من أن المشكلة مع الحكومة التركية الحالية هو أنها تقول شيئاً وتفعل أشياء أخرى، لكن تصرفاتها على الحدود ستكون حاسمة.
وستكون الأشهر المقبلة وقتاً حاسماً لمستقبل سوريا، فتنظيم داعش لن يقوى على البقاء في مواجهة تحالف إقليمي ودولي تتزعمه وتنسقه الولايات المتحدة، وسيكون السؤال الحاسم هو من سيملأ الفراغ.
النظام السوري يريد إعادة تأهيل نفسه، والأميركيون يقولون إنهم سيدعمون المعارضة، و"نظام الأسد يجب أن يتحمّل مسؤولية قمعه وعنفه ضد الشعب السوري"، بحسب مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية، الذي شدد على "أن هدفنا هو مساعدة الشعب السوري للوصول إلى مرحلة انتقالية يتمّ التفاوض عليها، وتلبّي طموحات السوريين للحرية والكرامة"، وأضاف المسؤول الأميركي لـ"العربية.نت": "وهذا يعني مستقبلا بدون الأسد وبدون داعش".
نفذت تركيا عملية عسكرية/استخباراتية لافتة أمس، إذ قام فريق يضم عناصر من القوات الخاصة، وجهاز الاستخبارات، بعملية انطلقت حوالي الساعة 23، واستغرقت 9 ساعات، ونقل من خلالها رفات "سليمان شاه" من ضريحه إلى تركيا، على أن يدفن في مكان أكثر أمنا ضمن سوريا مجددا.
اليوم ستتضح تفاصيل العملية، وستدور نقاشات واسعة حول الأسباب، والهواجس الكامنة وراء العملية، وما الذي دفع أنقرة للشعور بالحاجة إلى القيام بها، وحول الاحتمالات المتوقعة أو التي لم نستطع توقعها.
استهداف ضريح سليمان شاه: هناك شركاء لهم في الداخل
عملت بعض الأوساط داخل تركيا لا سيما في حزب الشعب الجمهوري، مؤخرًا، على الترويج لشائعات تقول إن ضريح "سليمان شاه" سيتعرض لهجوم، سيما أن الضريح يحمل أهمية خاصة لتركيا.
لقد كانت تحاك مكيدة، وبعض الأوساط على دراية بذلك، وربما كان هناك تعاون، فبعض الجهات من داخل وخارج تركيا، كانت تستعد لتنفيذ خطة عبر تنظيم داعش، أو الإيهام بأن التنظيم قام بذلك.
وفي هذا الإطار كانوا يخططون لاستغلال قضية الضريح من أجل إثارة الرأي العام التركي، قبيل الانتخابات العامة المرتقبة، أكثر من لفت الأنظار إلى التهديد الذي يشكله داعش.
لقد وصلت الادعاءات التي يروج لها حزب الشعب الجمهوري، وبعض الأوساط في الداخل، إلى حد إزعاج الشارع التركي، وجاءت العملية عقب الشائعات القائلة بأن داعش سيهاجم الضريح، وأن تركيا باتت عاجزة عن تبديل عساكرها المكلفين بحماية الضريح.
إن المنطقة بأسرها تشهد تغيرات خطيرة بارزة، كنت لفتُّ الانتباه إليها في مقالاتي الأخيرة، هناك مخطط يجري تنفيذه عبر داعش ومنظمات أخرى، لا يقتصر على العراق، وسوريا، بل يشمل المنطقة الممتدة حتى ليبيا، وهذا المخطط قد يفضي إلى هزات في القريب العاجل، لأن هناك سيناريو يستهدف إيقاع الدول في الفخ، عبر استغلال منظمات، وهذا السيناريو لا يعد علامة خير على الإطلاق.
مساعٍ لإيقاع تركيا في الفخ
هناك احتمال آخر في هذا الإطار، يتمثل في الاحتمال المتزايد للقيام بعملية واسعة ضد داعش الذي أخذ يطال تأثيره الأردن، ومصر، وليبيا، ويكتسب بعدًا إقليميًا، وفي مثل هذه الحالة فإن أول اعتداء لداعش ضد تركيا، التي من الوراد مشاركتها في التحالف، كان سيطال ضريح "سليمان شاه"، ما يعني التضحية بجنودنا الموجودين هناك.
كما أن بعض المصادر تتحدث منذ فترة عن استعداد التنظيم لشن هجمات داخل تركيا، ومن المحتمل جدًا توجيه هذا التنظيم المخترق من قبل الاستخبارات الأجنبية، ضد تركيا.
إن احتمالات الاعتداء على الضريح، وتنفيذ هجمات داخل تركيا، ربما دفع أنقرة للقيام بالعملية، والشيء الملفت للنظر أكثر، أن العملية جرت بالتعاون مع الأكراد، ورغم الأهمية الكبيرة لهذا التعاون في العملية الأخيرة، فإن داعش قد يستخدم ذلك التعاون كذريعة لاستهداف تركيا.
زج تركيا في حرب مع داعش
في الثامن عشر من الشهر الجاري كتبت مقالًا بعنوان "داعش ربما يهاجم تركيا"، وسلطت الضوء على الخطر، وفق نظريتي، فإن الهدف الأول لداعش كان الشيعة، لقد تحرك عناصر التنظيم ضد التأثير الإيراني في سوريا، والعراق، عبر استخدام المذهب السني، وفجأة تغيرت الاستراتيجية، وجرى توجيه التنظيم ضد الأكراد السنة، هذا كان أمرًا محيرًا، وحتى الآن لم أصادف تفسيرًا سليمًا له.
وعقب ذلك تم توجيه التنظيم لحرق الطيار الأردني بصورة وحشية، لتحريض الأردن، الذي أعلن الحرب على داعش، إلا أنه أُوقع في الفخ، وإثر ذلك مباشرة، بث التنظيم مشاهد تصفية 21 مصريًا قبطيًا على يد مقاتليه، وردت الطائرات المصرية الحربية، بمهاجمة بعض المواقع في ليبيا، وانجرت القاهرة إلى الصراع مع داعش، وكانت مصر في الحقيقة، جزءًا من السيناريو الرامي لخلق عدم الاستقرار في الدول عبر استغلال التنظيمات.
تلك الأوساط هي من نصب الفخ وليس داعش
كان من الوارد تحديد تركيا كهدف جديد للتنظيم، مثلما جرى توجيهه للحرب مع الأكراد فجأة، إن عملية ليلة أمس، كانت لإحباط هذه المخططات كافة، وإخراج ضريح "سليمان شاه" من دائرة الخطر، وإفشال الفخ المنصوب لتركيا.
لقد أحبطت تركيا مؤامرة كبيرة، ليست لتنظيم داعش، إنما مؤامرة أجهزة المخابرات الأجنبية المخترقة للتنظيم، الساعية لضرب الضريح عبر التنظيم، وجر تركيا إلى مصيبة كبيرة.
فجأة تذكّر حلف "المقاومة"، وذراعه السورية، أن إسرائيل تريد صناعة شريط حدودي وجيش مناصر لها في حوران والقنيطرة، يشبه جيش أنطوان لحد الذي أسّسته إسرائيل في قرى جنوب لبنان. على ذلك، فإن المعركة هي ضد العدو وأدواته، وهي جزء من عمل المقاومة ووظيفتها، وبذلك ضمن الحلف العدة التبريرية للهجوم الذي يرتّب له منذ مدّة، وتكفّل إعلامه بصناعة سياق متكامل، ورواية لها حيثيات وأسماء وأهداف، وصنَع أحداثاً وهميّة، وخلّق تقاطعات وقواسم مشتركة بين الثوار في جنوب سورية وإسرائيل، بأسلوب مخابراتي، جمع بين معطيات مخابراتية مصنّعة وصياغة إعلامية إنشائية، تستأنس بنظرية المؤامرة وخرافة المقاومة.
وفي الواقع، تمثل معركة الجنوب انعكاساً لتطورات سورية وإقليمية، وتقديرات إيرانية بخصوصها. لذا، يرى صانع القرار الإيراني ضرورة تعديلها بما يتناسب ورؤيته دوره ومصالحه، عبر إيجاد تموضع جديد له، في سياق الحدث، وخصوصاً بعد أن تكشف أن المعركة جاءت بطلب من قاسم سليماني، كما يوضّح إعلان طهران عن مشاركتها مباشرة مدى رغبتها في توظيف المعركة سياسياً.
يقع الاستنفار الأردني في الحرب على داعش، والحديث عن حرب برية قد تقودها الأردن، في صلب تلك التطورات الإقليميّة والقراءة الإيرانية لها، وإذ يجري الحديث عن تشكيل قيادة تضم العشائر العربية السنيّة بين الموصل والرقة لمحاربة داعش، ما يعني بالنسبة لإيران تأسيس بنية عربية مقاومة لوجودها، وجداراً يقطع الانسياب والتواصل داخل إقليم الممانعة. لذلك، تسارع إلى وضع الأردن أمام خيارات جديدة، ودفعه إلى إعادة حساباته، والرجوع عن حالة الهجوم إلى حالة الدفاع.
وعلى مدار الأيام السابقة، شنّت أذرع إيران هجوماً سياسياً وإعلامياً قاسياً ضد الأردن ودوره ومواقفه، وذهبت إلى أبعد من ذلك، عبر تهديده، تلميحاً وصراحة. ولدى تفحص الأمر، يتضح وجود مخاوف إيرانية من إمكانية قيادة الأردن ودول الخليج عملاً عسكرياً قد لا يتوقف عند حدود محاربة داعش في شرق سورية، بل يتعداه إلى جنوبها، ويأتي ذلك بالتزامن مع تقدير القيادة الإيرانية وجود أجندة متكتّمة، لا تعرف عنها شيئاً، تجري في الكواليس الدولية، وخصوصاً أن هذا الأمر يتزامن مع بدء الحديث عن توجه أوباما إلى طلب موافقة من الكونغرس على شن معارك برية، غير محددة، وبالتزامن مع الخطة التي قدّمها جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، القاضية بتفويض تركيا بالتدخّل البرّي في سورية، وتقدير إيران أن ثمة ترتيبات مقبلة على الأرض ستظهر قريباً، وخصوصاً في ما يتعلّق بذراعها السورية. وبالنسبة لطهران، فإنّ الجزء الواضح لها من تلك الترتيبات هو ما يتعلق بصناعة بنى بديلة لنظام الأسد.
وتدرك إيران أن جبهة الجنوب مرشحة لإسقاط نظام الأسد، والأهم أنها باتت تملك ليس فقط ذراعاً عسكرية قوية، وإنما رؤية عسكرية وسياسية وإعلامية، وخريطة طريق لما بعد سقوط النظام، وهو ما ورد في إعلان تأسيس"الجيش الأول" منذ أيام، وما ظهر من سلوكه حاضنة للقوى الثورية المعتدلة في جنوب سورية، وهو المكون الذي تستهدفه إيران وحزب الله في حربها اليوم، وثمّة سبب تكتيكي آخر يشكل حافزاً للهجوم الإيراني على جنوب سورية، يتمثل بمحاولة إيران منع تحول الجنوب إلى سياق مشابه لسياق كوباني، وخروج الأكراد من سيطرة إيران وحلفائها في دمشق والعراق، وتحوّلهم إلى حالة خاصّة منفصلة بعلاقاتها مع الخارج ونوعية الدعم الذي تحصل عليه، وحقّها في الحماية الدولية.
على ذلك، ثمّة رسالة إيرانية يهم طهران وصولها إلى العالم، على وقع هجومها على جنوب سورية، وهي أنّها وأذرعها الجهة الوحيدة التي يمكن لأميركا الاعتماد عليها في المنطقة، ويعود لها تقرير مصائر المسارات، فلا جيش العشائر في العراق سينجح بوجود قاسم سليماني والحشد الشعبي، ولا قوات المعارضة الجنوبية بوجود حزب الله. وحتى لو تم الاتفاق على عزل الاسد، فإنّ التطورات قد تجاوزت مثل هذا الأمر، وأنّ طهران صار لها وضع مقرّر في سورية، بالأسد أو من دونه. وبالتالي، يجب أن تكون البدائل إيرانية، ما يجعل هدف العملية الأساسي في جنوب سورية تحطيم البنى التي قد تشكل بدائل، أو نويات جيوش سنّية موازية للجيوش الشيعية في المنطقة، وعزل أي تأثير ممكن لقوى عربية في المنطقة، ولعل تصريحات الرئيس الإيراني، حسن روحاني، تشكل ترجمة حقيقة لهذا الواقع، حين أكد أن إيران فقط هي الطرف الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه، لتحقيق الاستقرار في المنطقة.
"إلى أي درجة تضمن إيران عدم وجود رد أميركي عليها"
تذهب التقديرات الإيرانية إلى أن الأردن بات يشكّل ملتقى لجميع الاحتمالات السلبية ضدها، وأن هناك دفعاً خليجياً وقبولاً أميركياً بهذا الاتجاه. لذا، يقوم التكتيك الإيراني، على عكس هذه التطورات، على الوضع الأردني، سواء لجهة دفع عناصر جبهة النصرة للالتجاء إلى الداخل الأردني، أو وصول الضغط الإيراني إلى حدود الأردن، ما يدفع عمّان إلى الانشغال بمشكلاتها الأمنية، والانكفاء تالياً عن قيادة أي دور، من شأنه تغيير ديناميكيات الحدث السوري.
لكن السؤال إلى أي درجة تضمن إيران عدم وجود رد أميركي عليها، وهي تخرق قواعد اللعبة في جنوب سورية، بتهديدها أمن حلفاء واشنطن، وما هي ضماناتها بعدم حصول اشتباك إقليمي، نتيجة اقترابها من منطقة تمثل الحرم الأمني لإسرائيل؟ أم أن طهران تخوض مغامرة غير محسوبة النتائج، مدفوعة بتقديرات عن اقتراب سقوط هيكل ذراعها السورية. وبالتالي، هي تحاول استباق الأمر، لتثبيت ما ترى أنها مصالح حيوية لها، وإبعاد أي دور أردني محتمل، على اعتبار أنّ الأردن أكثر طرف تأهيلاً لقيادة التطورات في المنطقة؟
لم تنطوِ الإحاطة التي قدّمها المبعوث الدولي الى سورية السيد ستيفان دي ميستورا الى مجلس الأمن على خطة واضحة ومتكاملة، وجلّ ما حوته عرض لتطّورات مهمته ولقاءاته ومفاوضاته مع النظام والمعارضة، ومشاوراته مع عدد من الدول المؤثرة في الملف السوري، وقد اقتصر إنجازه، بعد أكثر من نصف عام على تكليفه بالمهمة، على الحصول على موافقة النظام على وقف قصف مدينة حلب لفترة ستة أسابيع، لتسهيل تنفيذ تجميد القتال في المدينة، وهو إنجاز هزيل قياساً الى حجم العمل المطلوب لوقف القتل المعمّم، والدمار الهائل الذي لحق بالمدن والبلدات والقرى السورية.
غير أن المشكلة ليست في عدم نجاح السيد دي ميستورا في تحقيق تقدّم واضح وكبير فقط، بل في أنه ارتكب أخطاءً جعلت دخول خطة التجميد حيّز التنفيذ محلّ شكّ كبير.
لقد تحرك السيد دي ميستورا للترويج لفكرته وتسويقها سورياً وإقليميا ودولياً بمعزل عما حصل طوال السنوات الماضية، وبخاصة ما قام به المبعوثان السابقان السيدان كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي ومحصلة محاولتيهما (المبادئ الستة للسيد أنان، وبيان جنيف 1، واجتماع جنيف 2)، وقرارات الأمم المتحدة 2139 و2165 و2170 و2178 ذات الصلة، وحصر لقاءاته ومفاوضاته في فكرة ليس في الإمكان تقدير جدواها والجزم بقدرتها على تجاوز العقبات وكسر الجمود الذي ترتّب على فشل مفاوضات جنيف 2، وخصوصاً عدم تنفيذ النظام القرار 2139 المتعلّق بوقف قصف المدن والبلدات والقرى بالبراميل المتفجرة، ورفع الحصار عن الأحياء والبلدات والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، ومن دون ربط الفكرة بالإطار الدولي المتّفق عليه، بيان جنيف، ما أوحى بأنه يشقّ طريقاً جديدة مجهولة النهاية.
وهذا أثار حذر وهواجس المعارضة وجهات إقليمية ودولية داعمة لها، ناهيك عن استخفافه بالجسم المعارض الرئيس، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، حيث لم يتكرّم ويقدّم فكرته له مكتوبة، وسعى الى تجاوزه عبر الاتصال بقادة الكتائب ليس من دون تنسيق معه فقط، بل من دون إعلامه بذلك.
لذا لم يكن مستغرباً أن يناقش مجلس الأمن الدولي جدوى العملية والتفكير في وقفها، في ضوء تقويم ما تم، واستنتاج أن السيد دي ميستورا «يملك أفكاراً ولا يملك خطة عمل»، وجاء تصريحه الأخير الذي اعتبر فيه رأس النظام جزءاً من الحل، في تحديد لنتيجة المسار السياسي قبل أن يبدأ، ليثير ردود فعل رافضة (وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة)، وليقضي على ما بقي من قناعة وثقة بفكرته وشخصه لدى المعارضة السياسية والمسلّحة، وهذا ما عكسه صدور بيان عن مجلس قيادة الثورة يقول بعدم التعاطي معه، وطلب «الائتلاف» ضمانات دولية بإصدار مجلس الأمن قراراً تحت الفصل السابع «يشكّل إلزاماً حقيقياً لنظام الأسد ويفرض حلاً عادلاً، ويشمل خطوات فورية تضمن حماية المدنيين في سورية بما يتوافق مع القانون الدولي».
وهذا بالإضافة الى التشكيك الأميركي في نجاح الخطة، وتعرّض دي ميستورا للإحراج عندما سئل، بعد تقديمه الإحاطة من جانب مندوب دولة غربية دائمة العضوية في مجلس الأمن، عن موقف المعارضة المعتدلة من فكرته، وتنبيهه الى أهمية التحدّث الى المعارضة الحقيقية في سورية، وليس فقط الى المعارضة المدعومة من النظام وموسكو، والى ما أثاره التصعيد العسكري من جانب النظام وحلفائه في حلب وريفها خلال فترة وجوده في الأمم المتحدة وتقديمه إحاطته.
لقد واجهت فكرة تجميد القتال في مدينة حلب، التي يعمل المبعوث الدولي على تنفيذها في الأيام المقبلة عبر إرسال وفد من فريقه لتقويم الوضع والتحضير لزيارته هو إليها، واختيار قطاع أول من المدينة للبدء به، تجزئة مدينة حلب ذاتها الى قطاعات، الى الآن عقبات جوهرية لعلّ أولها النظرة المتعارضة من جانب طرفي الصراع، حيث قرأها النظام كتكرار لما حصل في مدينة حمص، وحدّد لذلك محدداته في نقطتين، الأولى ما أسماه «حفظ سيادة الدولة السورية على أية منطقة يتم تطبيق التجميد فيها، ومنع أي شكل من الإدارات الذاتية والمحلية فيها يمكن أن تتجاوز سلطة الدولة»، والثانية تتعلّق بمكافحة الإرهاب من خلال «إغلاق الحدود أمام الإرهابيين، ووقف الدعم»، بما في ذلك عمليات التدريب التي ستتلقاها الكتائب المعتدلة.
فالنظام يرفض ما يعتبره إعطاء أية مشروعية للمعارضة في مناطق التجميد، سواء عبر إدارة ذاتية أو حكم محلي، وما شابه. في حين تقرأها المعارضة كتمهيد لتطبيق بيان جنيف، وإقامة هيئة حاكمة كاملة الصلاحيات لإدارة المرحلة الانتقالية، التي لن يكون لرأس النظام دور فيها. وقد أضاف تصريح دي ميستورا حول دور رأس النظام، عقبة من الوزن الثقيل، فإذا تمسّك بتصريحه فقد تعاون المعارضة، وإذا تراجع عنه اصطدم بموقف النظام وحلفائه. وتجاوز آثار التصريح وحده لا يعني أن الطريق سالكة، ذلك أن النظام، وفق تصريحات بعض مسؤوليه، يسعى الى دفع الطرف الآخر الى الرفض، وتحميله مسؤولية فشل العملية عبر التمسّك بتصوّره، وإغراق العملية بمطالب تستند الى اعتبار النظام يمثّل الدولة والشرعية والسيادة، وهذا ما منحه له دي ميستورا بتصريح ولم يقلل من سلبيته التوضيح الذي أعلنه، وتجاهل ما فعله في البلاد والعباد، وتجاهل الثورة ومطالبها المحقة بالحرية والكرامة.
كان مخططاً للأسطورة أن تكتمل، فقائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني يبدو كأنه للتو أنهى انقلابه بواسطة حوثيي اليمن، وأخبار الإدارة الأميركية تشير إلى قرب الحملة البرية على داعش، الأمر الذي لا بد أنه استلزم تنسيقاً وتفاهماً مع الحرس الثوري الذي يقود المعارك في العراق. الانقلاب على التوازن اللبناني الهش مُحضّر له سلفاً بانتظار حسم الجبهة السورية. في الواقع، كل المعطيات تدفع بسليماني كي يأتي بنفسه إلى الجبهة الجنوبية في سورية ويقود الانتصار النهائي، لا يهم إن كان بحضوره العلني سيجهز على ما تبقى من مفاخرة فارغة للنظام السوري بقدرته الذاتية على الصمود، بل ربما هي مناسبة أيضاً لإفهامه بصرامة أن مكانته لم تعد تصل إلى مرتبة الحليف.
حضور سليماني في جبهة حوران احتفى به موالو النظام بلا أدنى حرج، هم الذين احتفلوا سابقاً بانتصارات حزب الله في القصير ويبرود، أي أنهم كانوا يعترفون صراحة بالتدخل الإيراني وبعدم قدرة نظامهم على البقاء من دونه. عملياً، يجوز القول إن موالي النظام يقرّون ضمناً بأنهم فقدوا احتكارهم «سورية الأسد»، وأن رهانهم اقتصر منذ زمن طويل على ألا تكون لسوريين آخرين. من جهة المعارضة والكتائب المقاتلة، كان معلوماً منذ زمن طويل التدخل الإيراني في أدق الشؤون السورية، ولعل المناسبة التي ظهر فيها ذلك إلى العلن هي انسحاب المقاتلين من حمـــص القديمة بضــمانة إيرانية، وليس سراً حضور ممثلي الحرس الثوري مفاوضات أخرى بين ممثلي بعض الفصائل المعارضة والنظام لإبرام هدن محلية، وحتى مطالبة تلك الفصائل بالحضور الإيراني وضمانته أي اتفاق محتمل.
إذاً، من كافة النواحي، حضور سليماني شخصياً تتويج لسنوات من الانخراط الإيراني في سورية، لكنه في الوقت نفسه لفتة ذات دلالة معنوية كبيرة لجهة الإعلان عن القيادة الإيرانية المباشرة، والدفع بالنظام علناً إلى الصفوف الخلفية. وأن ترى المعارضة في ذلك تدشيناً لحقبة «الاحتلال الإيراني» المعلن، فهذا ينبغي ألا يتوقف عند التغيير اللفظي، لأن انتهاء مفاعيل «سورية الأسد» يعني تغيير قواعد اللعبة السياسية المتبعة حتى الآن، ومن ذلك تغيير قواعد الحديث عن الحل السياسي.
لا يجوز مثلاً على هذا الصعيد أن تبقى المعارضة على موقفها من أن إيران هي جزء من المشكلة ولا يمكن أن تكون جزءاً من الحل، في الوقت الذي تقبل فيه بالتفاوض مع النظام، فالأقرب إلى الواقع هو ما فعله بعض الفصائل باشتراط حضور ممثلي إيران في المفاوضات، ولعل الأشد قرباً إلى الواقع أن تعلن المعارضة قبولها بالتفاوض مع إيران مباشرة، وبأصالة الأخيرة عن وكلائها في سورية، وحينها لا يوجد مبرر فعلي حتى لحضور ممثلين عن النظام.
لا بأس في استغلال الوجود الإيراني، المكشوف أخيراً في معركتي حوران وحلب، لإعلان سورية بلداً تحت الاحتلال الإيراني، والسعي في المنابر الدولية لتكريس هذا الفهم لأنه يتضمن سحب الشرعية من النظام، ولا يقرر واقعاً جديداً من حيث أن الحل السياسي، إذا كان ثمة حل سياسي حقاً، سيكون بالتفاوض مع نظام الوصاية الإيراني. لقد بذل معارضو نظام الوصاية السوري في لبنان جهوداً حثيثة من أجل استصدار القرار الدولي 1559، القاضي بانسحاب قواته من لبنان، وهي تجربة جديرة بالدراسة على رغم عدم نجاحها التام.
مع ذلك ثمة فخ قد تنزلق إليه المعارضة بسهولة، فغطاء الاحتلال يوفر ذريعة للتنصل من المسؤوليات الذاتية، لأنه وهو يعفي النظام من مسؤولية التحكم بالقرار يوحي بتحول القضية السورية برمتها إلى مسألة خارجية، ويختزل الصراع في الميدان بشقه العسكري. أن تتحول المعارضة، في أحسن حالاتها، إلى حركة تحرر وطني أمر لا يبشّر بخروجها من واقــعها المتردي الحالي، إذ يعكس فعلياً العودة عشرات الســـنين إلى الوراء، إلى مرحلة يُفترض أنها انقضت من التاريخ السوري. فوق هذا، يُفترض أن حكم البعث هو واحد من الاستطالات البائسة لتلك المرحلة.
واحدة من أهم المشكلات الذاتية التي يجب ألا يطغى عليها الاحتلال هي نظر جزء من السوريين إلى الثورة بوصفها حرباً أهلية، بناء على تلك الرؤية كانت مواجهة الثورة وإفشالها قضية وجود، وكان بعض المذابح «بما فيها المذابح ذات الطابع الطائفي» سلاحاً مشروعاً في الحرب. دخول الميليشيات الشيعية بقيادة الحرس الثوري هو نتيجة توصيف أولئك لما يجري بالحرب الأهلية، حيث من النموذجي في مثل هذه الصراعات أن تنفرد مجموعة من السكان بسياسة وتحالفات خارجية خاصة بها ومنافية لمصالح المتضررين من تحالفها. هكذا أيضاً يُقرأ ترحيب قسم من موالي النظام بمجيء قاسم سليماني، وهكذا تُقرأ دعوات قسم آخر إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد المناطق الثائرة. لذا، لا أمل في دور إيجابي يؤديه الاحتلال الإيراني بتوحيد ما تفرق من السوريين، على العكس سيكون الافتراق بينهم أمضى كلما تقدم الإيراني إلى الواجهة.
المشكلة التي لا تقل «ضراوة» على الصعيد المفهومي أن تتراجع قضية الحرية لمصلحة قضية التحرر، ولم يكن مصادفة أبداً أن يتحول سلوك النظام منذ مستهل الثورة إلى نهج أشبه بقوات الاحتلال، بينما يحاول تقمص دور الوطني الذي يتصدى لمؤامرة خارجية، فالأساس هنا في دفع مطلب الحرية إلى الوراء ودفع طالبيها إلى مرتبة أدنى تكاد تتوقف على التخلص منه. ثم إن دفع قضية الحرية إلى الوراء يجرّدها من أولوية حقوق المواطنة والحقوق الفردية، ويغلّب عليها العصبيات الاجتماعية الأهلية فيحطم فكرة المواطنة والدولة معاً. الاحتلال الإيراني قد يكمل إنهاء الثورة إذا لم تتجشم عناء كونها حركة تحرر وثورة في آن واحد، مع خفض سقف التوقعات من الآخرين والقول بأنها تفعل هذا لنفسها ولجمهورها أولاً.
لقد تآكلت «سورية الأسد» بفعل نقيضين هما الثورة والاحتلال، بقي ألا تتآكل الثورة بفعل الصراع مع المحتل، وألا تنتظر عوناً خارجياً ضخماً لن يأتي الآن، فالظروف الدولية والإقليمية الحالية لا تؤشّر إلى مواجهة المد الإيراني المتفاقم، لكن ذلك لا يمنع وجود قوى عديدة لا تريد عودة قاسم سليماني إلى طهران ظافراً.
تحدث الرئيس الأميركي عن ضرورة التصدي للتطرف والإرهاب مدافعا عن الدين الإسلامي، وضرورة تصحيح المفاهيم، ورغم سلامة كل ذلك، ونبله، فإن ما قاله الرئيس أوباما لا يتجاوز أن يكون تنظيرا، ولم يتبقَ إلا أن يعلن الرئيس عن تأسيس دار إفتاء أميركية!
دفاع الرئيس أوباما عن الإسلام، والمسلمين، وقوله إن المتطرفين لا يمثلون مليار مسلم أمر جيد، ويستحق الثناء، لكن هذا الحديث كان مقبولا أوائل فترة الرئيس السابق جورج بوش، وخصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية، وليس الآن لأن العالم قد تغير كثيرا، وتحديدا منطقتنا التي أكدت أنها تؤثر في الأمن الدولي، وهذا يتطلب خطوات عملية، وليس محاضرات، وتنظيرا، أو «صبرا استراتيجيا» كما تقترح إدارة أوباما، ومع نهاية فترة الرئيس الثانية!
المطلوب اليوم هو الأفعال، وليس الأقوال. ومكافحة الإرهاب ليست تنظيرا كما يحدث الآن، وبشكل مرسل، خصوصا أن هناك حقائق على الأرض، وهناك دماء، ودول تهدم.
الرئيس أوباما، مثلا، يتحدث عن ضرورة توفير وظائف للقضاء على التطرف، وهذا أمر سليم، لكن القضية أعقد من ذلك، «داعش» مثلا لا تبحث عن وظائف، ولا «القاعدة»، ولا حزب الله؛ حيث لم نسمع حسن نصر الله معنيا بالوظائف والتعليم، بل بالدم والدمار، والسيطرة. مشكلة لبنان مثلا ليست في توظيف الشباب العاطل، بل في إيجاد رئيس لأهم وظيفة شاغرة! في سوريا الناس لا تبحث عن وظائف، بل عن وقف آلة القتل الأسدية التي قتلت، وشردت، ملايين السوريين، وتدمر سوريا ككل، وعلى يد الأسد الذي استخدم الأسلحة الكيماوية، وخلافها، وبدعم إيراني.
وما دام الحديث عن إيران فلا بد هنا من التعليق على أمر تطرق له الرئيس الأميركي؛ حيث يقول إن قمع المعارضين يؤدي إلى التطرف والإرهاب، والحقيقة أن قمع النظام الإيراني للثورة الخضراء، ووجود القيادات الإيرانية المعارضة التي قادت تلك الثورة وحتى الآن تحت الإقامة الجبرية لم يؤدِيا إلى ظهور إرهاب وتطرف في إيران، ولا عمليات انتحارية، ولا تفجيرية، وهذا يدفع لعدة تساؤلات جادة، لماذا المنطقة كلها مستهدفة بالإرهاب وإيران لا؟ ولماذا بعض قيادات «القاعدة» أصلا في إيران؟ والأدهى من كل ذلك أن إدارة أوباما تنفتح على النظام الإيراني، ورغم كل ما فعله ويفعله بالإيرانيين، والمنطقة!
ولذا فالقصة ليست بالنوايا الحسنة، ولا الدفاع عن الإسلام، وخصوصا أن في المنطقة جماعات تستغل الإسلام بشكل سيئ، وهذا ما لم تتنبه له إدارة أوباما التي اندفعت مع الإسلام السياسي، وتحديدا الإخوان المسلمين، وهم أس بلاء تفتيت الأوطان، والتجارب واضحة من السودان إلى مصر. ومن هنا فالمطلوب الآن أفعال لا أقوال، المطلوب ضبط الدعاية المتطرفة في وسائل التواصل الاجتماعي، وليس إنشاء مركز مضاد لها، وحسب. المطلوب الآن وقف الدم والقتل في المنطقة، ووقف تدمير الدول، وليس الدفاع عن الإسلام بالتنظير، فللبيت رب يحميه.
طلب التفويض الذي أرسله باراك أوباما إلى الكونغرس في 12 من الشهر الحالي، لإجازة استخدام القوة العسكرية ضد «داعش»، لن يغيّر شيئا من الأسلوب الاستعراضي الذي غلب حتى الآن على الأداء الأميركي ضد الإرهابيين منذ 8 أشهر، وتحديدا في العراق.
المشهد بدا مثيرا للتساؤل، عندما وقف أوباما متوسطا نائبه جو بايدن ووزيري الخارجية والدفاع، ليقول إن طلب التفويض لا يعني أن أميركا سترسل قوات برية إلى العراق أو سوريا، وإنها لن تنجرّ إلى التورط في حرب برية طويلة، وإن طلب إرسال قوات خاصة قد يقتصر على إرسال خبراء ومستشارين لدعم الجيش العراقي في الميدان!
عظيم، ولكن ما الجديد في طلب التفويض، إذا كان المعروف أن المستشارين العسكريين الأميركيين يعملون مع العراقيين منذ أشهر، ويحاولون إعادة لملمة شتات الجيش العراقي، الذي تبيّن أن نوري المالكي لم يجعل منه جيشا وهميا على الورق فحسب، بل جعله فئويا عمّق المشاعر المذهبية بين الشيعة والسنة، وهو الأمر الذي لم يتم التخلص منه حتى الآن؟!
وإذا كان أوباما قد شدد تكرارا على أنه لا ينبغي لأميركا أن تتورط في حرب برية طويلة في الشرق الأوسط، فإنه اعترف مرة أخرى أن القتال ضد تنظيم داعش مهمة شاقة وستستغرق وقتا طويلا، ولهذا من المفيد الحصول على دعم الكونغرس «لأن هذا سيبعث برسالة قوية مفادها أن الولايات المتحدة موحّدة في معارضتها وتصديها للإرهابيين»!
يدفع هذا الكلام إلى التوقف مليا أمام الغموض والالتباس في موقف أميركا من هذه الحرب، رغم أن أوباما كان قد أعلن بعد قيام التحالف الدولي الذي يضم 40 دولة، أن الأمور تتجه إلى إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش بداية في العراق، ريثما يتم الانتهاء من تدريب المعارضة السورية المعتدلة بعد ثلاث سنوات!
واضح أن أوباما يحرص على أن يبعث برسالة عن أن أميركا موحّدة في مواجهة «داعش» لأنه ليس هناك في الواقع موقف موحد من هذا، لا بين البيت الأبيض والكونغرس، ولا بين الجمهوريين والديمقراطيين داخل الكونغرس، ولا حتى بين البيت الأبيض والبنتاغون، ولعل التعارض في المواقف هو الذي يدفع المستشار السابق للبنتاغون أنطوني كوردسمان إلى تكرار القول: «أوباما لا يملك استراتيجية لمحاربة الإرهاب، بل يملك فوضى استراتيجية»!
التناقض في مواقف أوباما يبدو واضحا ومحيّرا؛ ففي 12 من الشهر الحالي قدم مشروع قرار طلب التفويض باستخدام القوة، لكنه كان قبل 4 أيام فقط، وتحديدا في 8 فبراير، قد حذّر من مغبة اتخاذ قرارات متسرعة في إدارة أميركا للأزمات الدولية، داعيا إلى التحلي «بصبر استراتيجي»، والحديث عن هذا الصبر الغريب جاء في سياق مهم جدا، وهو مقدمة «وثيقة استراتيجية الأمن القومي»، التي ترسم سياسة أميركا لسنوات.
عندما يرى أوباما أنه في عالم معقد «لا يجوز مواجهة عدد من التحديات والمسائل الأمنية التي نواجهها بأجوبة سهلة وسريعة»، وأنها «تفرض علينا الصبر الاستراتيجي والمثابرة»، فذلك يعني أنه لن يكون هناك أي قيمة للتفويض الذي يطلبه، ولن يغيّر شيئا في مسار السياسة الخارجية التي يطبقها، ومن الواضح أنه يريد عبر تلك الوثيقة إلزام من يخلفه بهذه الاستراتيجية، ولكن لا «أيوب» ربط صبره بالاستراتيجية، ولا معارضو أوباما يقبلون هذه السياسة!
ولعل أفضل تعليق على وثيقة أوباما ما قاله السيناتور ليندسي غراهام من أن إضافة المزيد من الصبر إلى سياسة أوباما الخارجية لن تؤدي إلا إلى إطالة أمد فشل هذه السياسة، وإنني أشك كثيرا في أن تكون سياسة الصبر الاستراتيجي قد أخافت تنظيم داعش والملالي الإيرانيين أو فلاديمير بوتين.. فمن وجهة نظرهم، كلما تحلّى أوباما بالصبر ازدادوا قوة!
ما هو أسوأ من «استراتيجية الصبر»، يتضح عبر مسلسل الانتقاد اللاذع الذي دأب رئيس مجلس النواب الأميركي جون بينر على توجيهه إلى أوباما؛ فقد سبق له أن قال تعليقا على تهافت أوباما على مصالحة إيران «ما مصلحة أميركا في الابتعاد عن حلفاء موثوقين ومحاولة التقرّب من أعداء مؤكدين؟»، في إشارة إلى تهافت أوباما على اتفاق مع إيران وبأي ثمن، ليستعمله بديلا، ولو سيئا، لفشل سياساته الخارجية حيال القضية الفلسطينية والوعد بإقامة الدولتين، وبإزاء تعاميه عن المذبحة السورية وتركه العراق نهبا لنوري المالكي رجل طهران، وترك بوتين يعربد في أوكرانيا!
في هذا السياق لم يكن كافيا صدور بيان إيراني ينفي أن يكون المرشد علي خامنئي قد رد على مبادرات أوباما وإيجابياته بإرسال رسالة سرية إليه، ذلك أن صحيفة «وول ستريت جورنال» كانت قد نقلت عن دبلوماسي إيراني أن رسالة خامنئي جاءت ردا على رسالة كان قد تلقاها من أوباما في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي «تتسم بالاحترام»، وتتضمن اقتراحا حول إمكان قيام تعاون بين أميركا وإيران في القتال ضد «داعش»، إذا تم التوصل إلى اتفاق في الملف النووي!
ما يؤكد تبادل الرسائل بين أوباما وخامنئي إعلان المرشد في الأسبوع الماضي أنه يمكن أن يقبل بحل وسط في المحادثات النووية، وفي هذا المجال كان من اللافت أنه قدم أقوى دفاع له حتى الآن عن قرار الرئيس حسن روحاني التفاوض مع الغرب، هذا في حين كان المتشددون يطالبون باستجواب محمد جواد ظريف، لأن صورا التقطت له وهو يتمشى مع جون كيري في شوارع جنيف!
ومن شأن تهافت أوباما على إيران وعرضه على خامنئي التعاون في مواجهة «داعش» أن يطرح طوفانا من الأسئلة الدقيقة والحساسة؛ فهل يريد أوباما مثلا أن يؤجج النار في المناطق السنية العراقية التي تشكو من أن عناصر في قوات «الحشد الشعبي» الشيعية التي تقاتل مع الجيش والبيشمركة لم تتوانَ عن إحراق البيوت في المناطق السنية، وحتى عن قتل البعض، وهو ما دفع المرجع الأعلى علي السيستاني إلى إدانة هذه الأعمال؟
وإذا كان أوباما يريد أن يتحالف مع إيران للقتال في المناطق السنية، فهل يعني ذلك فعلا أنه يريد أن يلحق الهزيمة بـ«داعش»، أم أنه يريد أن يلحق الهزيمة بالمسلمين سنّة وشيعة عبر محاولة «تدعيش» معظم السنة، وإشعال فتنة مذهبية شاملة تحرق المنطقة كلها، لينام على وسادة صبره الاستراتيجي ويعربد الإسرائيلي في المنطقة؟!
ليس هناك إنسان بكامل عقله في بلدان الربيع العربي يريد للدمار والفوضى والتناحر وسفك الدماء أن يستمر. ولا يمكن لأحد فيه أبسط المشاعر الإنسانية أن يقبل ببقاء اللاجئين والنازحين السوريين والعراقيين واليمنيين والليبيين خارج بيوتهم يعانون شتى أنواع العذاب. ولا بد من بذل كل الجهود لإنهاء مأساة الشعوب، وخاصة في سوريا والعراق وليبيا واليمن، حيث عمل أعداء الثورات في الداخل والخارج على تحويل الربيع إلى جحيم حارق انتقاماً ممن ثار من أجل قليل من أوكسجين الحرية. لنتفق إذاً على ضرورة إنهاء مأساة الشعوب في تلك البلدان. لكن لا بد أن يكون ذلك على أساس عقد اجتماعي جديد كي لا تذهب تضحيات الشعوب ومعاناتها أدراج الرياح، وكي لا تعود الأنظمة الحقيرة التي ثار عليها الناس من النافذة بعد أن أخرجوها من الباب.
إن الذين يتباكون على وضع الشعوب في سوريا وليبيا واليمن والعراق إنما يذرفون دموع التماسيح، وأن الحل السياسي الذي يدعون إليه هو حق يُراد به باطل. فلو كان الحل يـُفضي إلى أنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة فلا بأس أبداً، لكن الحلول المطروحة هي مجرد ألعاب قذرة مفضوحة هدفها إعادة الشعوب إلى زريبة الطاعة بحجة وضع حد لمأساتها الحالية. ما الفائدة بربكم أن تعود الشعوب إلى المربع الأول، وكأنك يا بو زيد ما غزيت؟ لا نريد من هذا الكلام أبداً أن نطيل من مأساة الشعوب، لكن علينا أن ننظر إلى تجارب الثورات التي قبلت بالحلول السياسية الكاذبة، فكانت النتيجة وبالاً عليها، كما حدث للشعب الجزائري في تسعينات القرن الماضي. لقد ثار الشعب الجزائري لعقد كامل، وقدم مئات الألوف من التضحيات، ثم التف الجنرالات على ثورته بالقتل والإجرام والتجويع والتعذيب والإفقار والإخضاع، فجعلوه يلعن الساعة التي ثار فيها، ويقبل بأي حل يعيده إلى أيام الطغيان الخوالي. وهذا ما حدث فعلاً، فلم يجن الجزائريون من ثورتهم سوى العذاب والتهجير والقتل والجوع والفقر، ثم عادوا مجبرين إلى تحت السلطة التي ثاروا عليها، وتكبدوا أفدح الخسائر المادية والإنسانية بسببها.
للأسف الشديد تبدو بعض الشعوب العربية الآن وكأنها تطبق مقولة المفكر الانكليزي الشهير ألدوكس هكسلي الذي قال يوماً: «الدرس الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ أن لا أحد يتعلم من التاريخ». وقد قال آخرون أيضاً إن من ينجز نصف ثورة كمن يحفر قبره بيديه. وهذا ما حصل للجزائريين، ثم حصل من بعد لليمنيين. فبدل أن يمضي اليمنيون بثورتهم حتى ينجزوا مطالبهم، قبلوا بحل سياسي كارثي، فكانت النتيجة أن النظام الذي ثاروا عليه، وتركوه طليقاً، تآمر مع خصومه الحوثيين كي ينتقم من الشعب اليمني. وها هم الحوثيون وقد أعادوا الثورة اليمنية إلى نقطة الصفر بعد أن انقلبوا على كل أهدافها. ألا يشعر اليمنيون الآن بأن ثورتهم سُرقت، وبأن كل تضحياتهم ذهبت سدى، لأنهم قبلوا بأنصاف حلول سياسية كاذبة؟
وحدّث ولا حرج عن سوريا التي يطالب الكثيرون الآن بإيجاد حل سياسي فيها. مرحباً بالحل السياسي إذا كان سيلبي للسوريين أبسط متطلبات ثورتهم. لكن هل الحل فعلاً سيداوي جراحات السوريين، ويجعلهم يشعرون بأن تضحياتهم الجسيمة لم تذهب أدراج الرياح؟ ألم تصف الأمم المتحدة الوضع في سوريا بأنه أكبر مأساة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية؟ هل يُعقل بعد كل ما عاناه السوريون على أيدي أفظع نظام فاشي في العصر الحديث أن يقبلوا بحل سياسي يُعيد الشرعية لمن دمر وطنهم وهجّر أكثر من نصفهم؟ أليست وصمة عار في جبين البشرية أن يُعاد السوريون إلى حظيرة الطاعة بحجة أنهم عانوا كثيراً بسبب الثورة؟ ما فائدة الحل السياسي في سوريا إذا سيكون نسخة مفضوحة عن السيناريو الجزائري الذي أعاد الجنرالات إلى الحكم بشرعية جديدة رغم كل ما اقترفوه بحق الجزائريين؟
هل تعلم بشار الأسد ونظامه شيئاً من الكارثة التي ألحقها بالشعب؟ لا أبدا. هل يريد أن ينتقل بسوريا إلى مرحلة جديدة، أم إنه يتوعد السوريين بالويل والثبور وعظائم الأمور فيما لو تمكن من رقابهم مرة أخرى؟ ألم يقل بشار في مقابلته الأخيرة مع البي بي سي إنه لا يتذكر خطأً واحداً اقترفه بحق السوريين على مدى أربع سنوات؟ ألم يستبدل قوانين الطوارئ الرهيبة بقوانين أشد وأمضى، وهي قوانين الإرهاب التي جعلت السوريين يترحمون على قوانين الطوارئ؟ هل يعقل بعد كل ما حصل في سوريا من تضحيات أن المخابرات السورية تعتقل الناس، وتعذبهم حتى الموت في السجون لأن بعضهم وضع «لايك» على منشور لمعارض سوري في الفيسبوك؟ هل يعقل أن الإنسان السوري حتى هذه اللحظة يخسر وظيفته لمجرد كلمة قالها ضد النظام الفاشي؟ هل يعقل أن نظام المخابرات القذر يصادر أرزاق السوريين بسبب مقالة أو برنامج تلفزيوني؟ هل سمعتم بشار الأسد على مدى أربع سنوات يتلفظ بكلمة مواساة واحدة بحق خمسة عشر مليون نازح ولاجئ سوري، أم إنه يظهر على الشاشات وهو يقهقه؟ هل سمعتموه يعترف بمسؤوليته عما حدث؟ ألا يعترف القائد الحقيقي بالمسؤولية بصفته المسؤول الأول عن مصير البلاد والعباد؟ أليس من السخف الشديد أن يقبل السوريون بحل سياسي يعيدهم إلى تحت أحذية العسكر وأجهزة الأمن الفاشية التي تتوعدهم بكل أنواع العقاب، فيما لو تمكنت السيطرة على الوضع ثانية؟ انظروا إلى وضع المناطق التي صالحت النظام. ألم يبتزها بلقمة عيشها، ويغتصب أهلها كي يعيدها إلى زريبة الخضوع؟ أليس حرياً بالسوريين أن يعلموا أن النظام الذي استخدم ضدهم كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً سيفعل بهم المزيد فيما لو استعاد شرعيته من خلال حل سياسي؟
أيتها الشعوب الثائرة: هل شاهدت ثورة على مدى التاريخ انتهت بحل سياسي بين الطغاة وشعوبهم، أم بكنس الطواغيت إلى مزبلة التاريخ؟
ما زالت المعلومات عن وقوع أكثر من 30 عنصرا من "حزب الله" أسرى بيد المعارضة السورية في ريف حلب أولية. بالتأكيد ان النبأ شديد الوطأة على عائلات الشبان الذين نقلهم الحزب الى سوريا ليشاركوا في القتال على جبتهي الجنوب وحلب. لكن وسائل إعلام الحزب التي لم تفصح عن النبأ بعد، اكتفت فقط بتأبين المنتج التلفزيوني في قناة "المنار" حسن عبدالله الذي سقط أثناء تغطية هذا القتال ضمن قافلة سبقته "على جبهة العدو الصهيوني كما جبهة العدو التكفيري"، وفق "المنار".
بالطبع لا داعي للسؤال عما تفعله كاميرا "المنار" في مناطق الخطر في سوريا طالما ان الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله قال في إطلالته الاخيرة: "... لنذهب سوياً الى سوريا"، ردا على "... من يدعونا للانسحاب من سوريا". وربما ضمن توقعات نصرالله ان الحشود الراغبة في الذهاب إلى سوريا تحتاج الى إثبات ان هذه الرحلة ليست أكثر من سياحة في هذا البلد فكان القرار بأن تكون هناك كاميرا تلفزيونية ترافق مقاتلي الحزب الذين ستنظر اليهم الحشود بإعجاب لو حالفهم الحظ في مهمتهم وسيهتفون بأعلى صوت أن الذهاب الى سوريا هو حقا نزهة ولنقل إنها "سياحة جهادية".
لم يقل نصرالله حتى اليوم السبب وراء استعجاله إرسال المئات وربما الآلاف من عناصره الى جبهات ليس خطر نيران الاسلحة وحيدا فيها بل أيضا هناك خطر الصقيع الروسي الذي يلفح الشرق الاوسط حاليا. هناك مَن يتكهن بأن الحديث عن قيادة الجنرال الايراني قاسم سليماني المعارك في الجنوب السوري والريف الحلبي في شباط هو لاستباق معارك المفاوضات على طاولة الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن. لكن النتائج حتى الآن ليست كما تشتهيها إيران. وهذا ما يثير تكهنات أخرى تفيد بأن رياح الحرب في سوريا لن تشتهيها أيضا سفن الاتفاق النووي، وبالتالي ستتسبب بمزيد من التدهور وسيكون نصيب لبنان منها، كما قال وزير الداخلية نهاد المشنوق، "سنة 2015 ستكون صعبة جدا".
أطل الرئيس سعد الحريري بقوة على المسرح الداخلي مشددا على ضرورة حماية لبنان من الحريق السوري الكبير. وللمفارقة فإن الحريري يتصرف كمن صار طاعنا في السنّ، يتمتع بحكمة الشيوخ في حين ان السيّد نصرالله الذي يتقدم به العمر ما زال يظهر أهواء الشباب. وكم تبدو عبارة "إستراتيجية وطنية لمكافحة الارهاب" التي يرددها "المستقبل" رومانسية طالما ان "حزب الله" لا يعترف إلا بـ"المقاومة" التي "... لم تنتظر أي إستراتيجية وانتصرت".
إذا كانت الانتصارات التي يبشر بها نصرالله على غرار ما حققته الاندفاعة الاخيرة في الجنوب السوري وريف حلب فيعني ذلك مزيدا من الانباء عن سيّاح وقعوا في الاسر!
بعدما تكررت مراسلات باراك اوباما – علي خامنئي، هل يمكن أحداً في واشنطن أن يقدم إجابة عن هذا السؤال: لماذا السرية؟ بالطبع لكل «صفقة» أسرارها، ولكل لعبة حيلتها، ولكل إخراج خدعُه. وفي حال اميركا – ايران لا بد من أسرار وحيَل وخدَع كثيرة لتمرير طبق الاتفاق النووي فوق رؤوس الـ 5 + 1 وتحت يد اسرائيل، وخصوصاً من خلف ظهر العرب بل رغماً عنهم. بديهي أن المراسلات تتعلّق بالصفقة السياسية الموازية وهي تستوجب السرّية لأنها تتم على حساب أطراف آخرين قد يكون اوباما قدّم اليهم تعهّدات مناقضة لالتزاماته تجاه الايرانيين. صحيح أن بإمكان اوباما الإيحاء للجميع بأنه معهم، لكنه قياساً الى ما أظهره طوال ولايتيه بات يرفع شعار «ايران أولاً».
أما الاتفاق النووي فلا مجال للسرّية فيه لأنه سيأتي في نص قانوني - تقني يُحال على الوكالة الدولية للطاقة الذرّية للاشراف على تنفيذه ومراقبة أي مخالفات، فلا مجال اذاً للغموض طالما أن لكل تفصيل تقني ترجمته في تحديد قدرات البرنامج النووي، مدى سلميته، وإمكان عسكرته: فإمّا أن يصدق اوباما وسائر قادة الدول المفاوِضة بأنهم نجحوا في منع ايران من الحصول على سلاح نووي، وإمّا أن يصدق خامنئي وروحاني اذ يقولان أن المفاوضات لن تؤثر في البرنامج النووي، وإمّا أن يصدق بنيامين نتانياهو حين يحذّر من أن الاتفاق بحاله الراهنة سيمكّن ايران من انتاج القنبلة في موعد قريب.
هذه ليست المرّة الأولى التي يلجأ فيها الاسرائيلي الى التلفيق فالتهويل فالتصعيد، للتذكير بأنه «العضو السابع» في المفاوضات ولديه وسيلتان للابتزاز واستخدام «الفيتو» سواء بالتهديد بعمل عسكري أو بتفعيل الكونغرس الاميركي. ولا هي المرة الأولى التي تردّد فيها ايران أن العقوبات لم تكن السبب الرئيسي لدخولها المفاوضات وانما تأمين الاعتراف بنفوذها الاقليمي، ومع ذلك فإن رفع العقوبات كلها دفعة واحدة يبقى الشرط الايراني الأبرز لإنجاز الاتفاق والتوقيع عليه. كما أنها ليست المرة الأولى التي يبدي فيها اوباما استعداداً الى حد «القتال» مع الكونغرس من أجل الحصول على اتفاق مع ايران، اذ إنه راهن كثيراً عليه وأخضع له مجمل سياسته الشرق أوسطية، ولذلك فهو يحارب احتمالات الفشل سواء جاءت من خامنئي أو من نتانياهو.
يوحي الجدل الذي ثار فجأة بشأن المفاوضات، والاصطفاف الجاري مع التمديد أو ضدّه، أن «الاتفاق» شبه جاهز. وقد عارض اوباما التمديد معتبراً أن «ما يكفي من التقارب قد حصل» وأن على الايرانيين أن يقرروا اذا كانت لديهم الارادة والرغبة للتوصل الى اتفاق. كذلك عارضته ايران، مدعومة من روسيا والصين، وهي نصحت اوباما بـ «حل مشاكله الداخلية» كي يتمكّن من اتخاذ «قرار نهائي». ولا تفسير للموقفين سوى أن كل طرف لا يزال ينتظر تنازلاً أخيراً من الآخر لتسهيل مهمته حيال معارضيه: اوباما في مواجهة الجمهوريين و «اللوبي الاسرائيلي»، وروحاني في الردّ على هجمات المحافظين. وقياساً الى الصعوبات يبدو وضع اوباما أكثر صعوبة، اذ ليس لديه «ولي فقيه» ليحميه.
ليس في التسريبات عن رسالة خامنئي سوى أنها تعرض مساعدة ايرانية للولايات المتحدة في «الحرب على داعش» في مقابل الاتفاق النووي. غير أن هذه «المساعدة» المزعومة لم تنتظر الاتفاق، بل سبقته وتجاوزته، اذ لا تفوّت واشنطن مناسبة للاشادة بإنجازات أصبح معروفاً أن مَن يحققها هو «الحرس الثوري» والميليشيات التي أنشأها ودرّبها. لم يعد الدور الايراني في العراق وسورية متخفياً أو متستّراً بل ظاهراً وعلنياً، ويعزى الفضل في ذلك الى عاملين أولهما تنظيم «داعش» متعدد الاستخدامات والخدمات لايران، والثاني سهولة ابتزاز الادارة الاميركية اللاهثة سعياً الى اتفاق نووي... لكن عدم ثقة ايران بالتقارب «الكافي» الذي أشار اليه اوباما دفعها أخيراً الى لعب اوراقها في مقامرة قصوى: في اليمن ذهب حوثيّوها الى خيارات هوجاء من شأنها أن تفكك الدولة وتفاقم أجواء الحرب الأهلية، في العراق تكررت الجرائم التي ترتكبها ميليشياتها عمداً ضد عشائر السنّة مع ما في ذلك من اساءة للعملية السياسية، وفي سورية زجّت بـ «حزب الله» في حملة لاستعادة الجنوب من أيدي فصائل المعارضة مجازفة باحتمالات الاحتكاك بإسرائيل، وفي لبنان استخدمت سلاح «حزب الله» لمصادرة الانتخابات الرئاسية وإبقاء الجمهورية بلا رئيس مع ما يعنيه ذلك من خطر على صيغة الحكم ومستقبل الدولة.
كل هذه «انجازات» ايرانية تحفر الانقسامات عميقاً داخل كلٍّ من البلدان الأربعة وتدفع بشعوبها الى حافة الهاوية. وكلّها «انجازات» تتغاضى الولايات المتحدة عن مخاطرها، كما لو أنها ثمرة تواطؤ بين طرفين توصلا لتوّهما الى «تحالف استراتيجي» وليس فقط الى مجرد اتفاق نووي. بل إنها تحدث باستغلال بالغ الخبث لعالم عربي غارق في تحوّلاته الداخلية. وفي غضون ذلك تحاول اميركا اقناع حكومات المنطقة وشعوبها بأنها عادت، «مضطرّة»، لمحاربة الارهاب. والواقع أن كل يوم يمرّ على هذه الحرب يأكل من صدقيتها، واذا كانت شريحة عرب «نظرية المؤامرة» آخذة بالاتساع اذ يعتقدون بأن «داعش» صنيعة اميركية - غربية، فإن الشريحة الواقعية باتت ترى أن للحرب الراهنة مبرراً هو حماية النفوذ الايراني وتمكينه للاعتماد عليه لاحقاً تأكيداً لادعاء حسن روحاني وايرانيين آخرين بأن دور ايران «ضروري لمكافحة الارهاب وتأمين الاستقرار والسلام» في الشرق الاوسط. وطبعاً ليس أدلّ الى هذا الدور من الاستقرار والسلام المبتعدين عن العراق وسورية ولبنان واليمن وأي بلد آخر قد يتبع.
في غضون ذلك اكتشف الغرب أخيراً، في ضوء تجربته الاوكرانية، أن روسيا ابتكرت نمطاً جديداً من الحروب، مع أن هذا النمط كان ولا يزال أمام الجميع، لو كان هناك من يرغب في رؤيته. انها «حرب هجينة» تلك التي تخوضها روسيا في اوكرانيا، هذا ما توصّل اليه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (لندن) في تقريره السنوي عن توازن القوى حول العالم. ويعني بـ «الهجينة» دمج أنواع من العمليات العسكرية في «حرب محدودة ذات أهداف محدودة» بالاضافة الى حملات اعلامية مكثّفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تتبنّى سياسة «إنكار» تزعزع قدرة الرد لدى الطرف الآخر. وإذ يعتبر التقرير أن هذا النوع من الحروب يهدد بـ «نسف استقرار» الدول الغربية «سريعاً» على غرار ما حصل في اوكرانيا، فإنه يقيم مقارنة لتقنيات الدعاية الروسية ليجد تشابهاً بينها وبين الإداء «الداعشي» في تجنيد المقاتلين واستقطاب المتعاطفين. أما الخلاصة التي توصل اليها فهي أن هذا النمط قد يشجع دولاً مثل الصين وايران على استيحائه.
الخلاصة الأهم أن الغرب لم يرَ شيئاً مما فعلته ايران طوال العقدين الماضيين في محيطها العربي، اذ انشغل بوسوسته الدائمة على «أمن اسرائيل» والأخطار المحتملة عليه من البرنامج النووي الايراني، فلم يتعرّف الى «الحرب الهجينة» إلا عندما اقتربت منه ووقعت عند أحد أطرافه. كان التوصيف الذي أعطي قبل نحو عام لبدايات التدخل/ التخريب الروسي في اوكرانيا بأنه يتم بعقلية القرن التاسع عشر والحرب الباردة، أما ايران فتخوض حربها الهجينة مدفوعة بأهداف وأطماع ومفاهيم وعقلية تعود الى الامبراطورية الفارسية، أي الى ما قبل الاسلام. وقد يكون استنهاض العصبية ببدائيتها الغريزية (الانتماء القومي/ الروسي، أو المذهبي/ الشيعي...) من أهم أدوات «الحرب الهجينة» للعودة بالدول والأقوام الى ما قبل التمدّن. هنا يمكن أن تشكّل الحوثية في اليمن حالاً نموذجية لهذا النمط من الحروب.