مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٦ فبراير ٢٠١٥
ما بعد العملية التركية في سورية

ليس مهماً معرفة الأسباب التي أعلنت أنقرة أنها وراء العملية العسكرية في شمالي سورية، إن كانت لإنقاذ ضريح سليمان شاه جد السلالة العثمانية ورفاته، أم لإنقاذ 39 جنديا تركيا محاصرين منذ ثمانية أشهر من تنظيم داعش.
المهم الطريقة التي نفذت بها العملية وتوقيتها، ثم أبعاد هذا التدخل العسكري التركي، الأول من نوعه منذ تفجر الأزمة السورية، وانعكاساته المستقبلية على الوضع الميداني، خصوصا أن العملية ترافقت مع عدة معطيات مهمة:
ـ يطرح توقيت العملية العسكرية أسئلة كثيرة، في ظل غياب حاجة ملحة لها، إذ لم تقترب داعش إطلاقا ناحية الضريح، ولم تهدد الجنود الأتراك المحاصرين، وذلك ربما لأن تركيا لم تشارك في التحالف الدولي ضد داعش، أو ربما لتفاهمات تمت بين الطرفين منذ أشهر. بكل الأحوال، لا تعني هذه العملية سوى تحرير تركيا من عبء كان على كاهلها، حيث لا يمكنها ترك الوضع على ما هو عليه، وتخاطر، بالتالي، في ضوء المتغيرات الميدانية السريعة باحتمال شن داعش هجوماً على الضريح. وهنا، تجد أنقرة نفسها مضطرة لخوض عملية عسكرية واسعة ضد التنظيم، لا يريدها الطرفان، وهذا ما يفسر عدم تعرض القوات التركية لنيران من التنظيم.
ـ جاءت العملية بعد أيام من توقيع أنقرة وواشنطن اتفاقية لتدريب قوات المعارضة المعتدلة، وأيام من الاجتماع الذي عقد في جدة، بمشاركة مسؤولين عسكريين وأمنيين كبار في الدول المشاركة بالتحالف المضاد لداعش، وبحضور تركي على مستوى رئاسة الأركان، الأمر الذي يؤشر إلى أهمية تركيا ودورها في تغيير المعادلات على الأرض، بحكم موقعها الجغرافي، وربما يتعلق هذا الحضور بتقديم التحالف تنازلات لتركيا، قد نرى نتائجها في المرحلة المقبلة شمالي سورية.
ـ لم تنقل السلطات التركية رفات سليمان شاه إلى أراضيها، بل إلى شمالي قرية آشمة الخاضعة للمقاتلين الأكراد داخل الأراضي السورية، بالقرب من الحدود التركية، حيث رفع العلم التركي على الموقع الجديد، في إشارة إلى أن مكان رفات سليمان شاه تحول إلى أرض تركية، على غرار الأرض التي كان عليها الضريح بحسب اتفاقية 1921 مع فرنسا في أثناء الانتداب الفرنسي على سورية.
لماذا لم تنقل السلطات التركية الرفات إلى أراضيها؟ هل يتعلق الأمر بحفاظ أنقرة على تركية الأرض التي يوجد فيها الضريح؟ أم إنها تسعى إلى إيجاد مبرر مستقبلي لإنشاء منطقة آمنة، بحجة حمايته، خصوصا أن الضريح وضع على مقربة جداً من الحدود التركية، بعكس الموقع الأصلي الذي يبعد نحو أربعين كيلومترا.
ـ العملية تمت بالتنسيق مع القوات الكردية في محيط المنطقة، أو بعلم من هذه القوات التي أفسحت المجال واسعا للقوات التركية، وفي هذا دلالة كبيرة، لا سيما بعد التقارب الذي حصل بين الجانبين في أثناء تحرير عين العرب ـ كوباني من سيطرة داعش، وربما قد يترجم هذا التقارب، مستقبلاً، بتفاهمات جانبية، يكون رأسها الثالث الجيش الحر الذي كان أيضا على علم وتنسيق مع السلطات التركية في أثناء العملية العسكرية.
ـ حجم العملية، إذ تمت بمشاركة 600 عسكري، و60 مدرعة، ونحو 40 دبابة، وطائرات بدون طيار، وطائرات استطلاع، وهذا عتاد كبير لعملية من هذا النوع، ويبدو أن صناع القرار في أنقرة يوجهون رسائل عدة، لا سيما للحليف الأميركي و"الناتو" بأن تركيا قادرة على تنفيذ عمليات عسكرية كبيرة في سورية، بالاتفاق مع الحلفاء، وربما تصريحات وزير الدفاع الأميركي، أشتون كارتر، في محادثاته مع مسؤولين عسكريين أميركيين في عريفجان في الكويت، بوجود حاجة لتعزيز الاستفادة من الإسهامات الفردية لكل عضو في التحالف، في إشارة إلى تركيا، على الرغم من أنها لم توقع على البيان الختامي لاجتماع جدة في العاشر من سبتمبر/أيلول من العام الماضي الذي أعلن فيه تشكيل نواة التحالف الدولي.

اقرأ المزيد
٢٥ فبراير ٢٠١٥
ثقافتان تتواجهان في لبنان

في أسبوع واحد، تبيّن كـم عمق الشرخ بين ثقافتين في لبنان. ثقافة الحياة في مواجهة مع ثقافـة المـوت. تسعى ثقافة الحياة إلى المحافظة على لبنان، فيما هم المروّجين لثقافة الموت تحويل اللبنانيين وقودا في حـروب تفـرضها إيران على المنطقة.

كان هناك الرئيس سعد الحريري الذي ألقى خطابا “متطرّفـا” في الانحيـاز إلى لبنان في الذكرى السنوية العاشرة لاغتيال والده.

وكان خطاب السيّد حسن نصرالله الأمين العام لـ“حزب الله” الذي سعى إلى الرد على “تطرّف” سعد الحريري معتمدا “الاعتدال”. كان معتدلا في كلّ شيء، خصوصا عندما وصف اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه قبل عشر سنوات بـ“الحادثة الأليمة”. أراد “مواساة” آل الفقيد واللبنانيين من دون أن يجيب عن سؤال في غاية البساطة: لماذا يرفض الحزب تسليم المتهمين بارتكاب الجريمة التي تندرج في سياق ما خطّط له، وما زال يخطّط له، المحور الإقليمي الذي ينتمي إليه الحزب؟

في خطاب الذكرى العاشرة لتفجير موكب والده الذي أعاد لبنان إلى خريطة المنطقة والعالم، كان سعد الحريري متطرّفا بامتياز، خصوصا عندما آخذ على “حزب الله” احتقاره لجامعة الدول العربية و”اختزال العرب في نظام بشّار الأسد ومجموعة ميليشيات وتنظيمات وقبائل مسلّحة تعيش على الدعم الإيراني لتقوم مقام الدول في سوريا ولبنان والعراق واليمن”. ذهب في التطرّف إلى أبعد حدود عندما تساءل “أين هي مصلحة لبنان بالتدخل في شؤون البحرين والإساءة إلى دولة لا تقابل لبنان واللبنانيين إلّا بالمحبّة والكلمة الطيّبة”؟

هذا السياسي والزعيم اللبناني الذي اسمه سعد الدين رفيق الحريري تجرّأ على القول “بالاختصار المفيد، نقول إنّ الحرب على الإرهاب مسؤولية وطنية تقع على عاتق اللبنانيين جميعا. وخلاف ذلك، سيصيب الحريق لبنان، مهما بذلنا من جهود لإطفاء الحرائق الصغيرة. النموذج العراقي بتفريخ ميليشيات وتسليح عشائر وطوائف وأحزاب وأفراد، لا ينفع في لبنان. وتكليف طائفة أو حزب بمهمّات عسكرية، هو تكليف بتسليم لبنان إلى الفوضى المسلّحة والفرز الطائفي”.

إنّه كلام كبير صدر عن سعد الحريري في الذكرى العاشرة لاغتيال والده ورفاقه. هذا الربط بين لبنان وما يجري في الإقليم دليل على عمق في استيعاب المعادلة الشرق أوسطية التي تسعى إيران إلى فرضها انطلاقا من العراق والزلزال الذي تعرّض له قبل نحو اثنتي عشرة سنة.

ما يبعث على الأمل أنّه لا يزال هناك زعيم عربي لبناني مسلم يتجرأ على تضمين خطابه مقطعا من نوع “أنا أتيت لأقول لكم: أنا لست معتدلا. أنا متطرّف للبنان، للدولة، للدستور. أنا متطرّف للمؤسسات، للشرعية، للجيش، لقوى الأمن الداخلي، أنا متطرّف للنموّ الاقتصادي، لفرص العمل، للحياة الكريمة، أنا متطرّف للعيش الواحد، للمناصفة، أنا متطرّف لبناء الدولة المدنية. نعم، للدولة المدنية، دولة القانون التي يُحكم على كلّ مواطنيها بالقانون، وفقط بالقانون، لأنّ اختلافات الفقه والدين والمذهب والتفسير، لا يجب أن تنسحب على الدولة ولا على الحياة العامة”.

كيف كان ردّ حسن نصرالله على هذا “التطرّف”، الذي يعني، بين ما يعني، انحيازا لثقافة الحياة والتي كان مهرجان “البيال” في بيروت أفضل تعبير عنها؟

كان ردّ نصرالله بالربط المباشر بين لبنان وأزمات المنطقة، مؤكّدا أن على لبنان التورط أكثر فأكثر في هذه الأزمات ذات الطابع المذهبي في معظمها. لم يكتف بمشاركة “حزب الله” في الحرب الظالمة التي يتعرّض لها الشعب السوري. دعا إلى “الذهاب معا إلى سوريا، بل تعالوا نذهب إلى أي مكان نواجه فيه هذا التهديد (تهديد داعش)”.

بالنسبة إلى نصرالله، هناك تجاهل تام لمصلحة لبنان واللبنانيين. لبنان بالنسبة إليه مجرّد ساحة تستخدمها إيران. أما اللبنانيون، فهم وقود للسياسة الإيرانية التي لا همّ لها هذه الأيّام سوى عقد صفقة مع “الشيطان الأكبر” الأميركي.

غلّف الأمين العام للحزب خطابه بـ“الاعتدال”. لم يكن ذلك كافيا لتغطية الجريمة الكبرى التي ارتكبها في حقّ لبنان عندما قبل المشاركة في ذبح الشعب السوري. أين الفارق بين ما ارتكبه حزبه في سوريا، وما ترتكبه “داعش”. هل اللغة الناعمة تعطي البراميل المتفجّرة التي تلقى على السوريين شرعيّة ما؟

في النهاية، شارك “حزب الله” في الحرب على الشعب السوري من منطلق مذهبي ولا شيء آخر غير ذلك، تنفيذا لطلب إيراني. إنّه يضحّي بشبان لبنانيين دعما لنظام أقلّوي يحتقر شعبا يبحث عن كرامته منذ ما يزيد على نصف قرن.

ماذا فعلت “داعش”؟ سارت على خطى “حزب الله” عندما تجاهلت الحدود بين الدول ومفهوم السيادة الوطنية. فمثلما تجاوز الحزب الحدود بين سوريا ولبنان، تجاوزت بدورها الحدود بين العراق وسوريا من منطلق مذهبي أيضا.

لعلّ أخطر ما في خطاب نصرالله القراءة الخاطئة للتطورات الإقليمية. لا يوجد عاقل يستطيع الفصل بين ما يدور على أرض لبنان والأزمات الإقليمية. لكنّ لدى الأمين العام لـ“حزب الله” هناك رؤية بعين واحدة في كلّ مكان. ففي العراق مثلا، لم يتطرّق حتّى إلى الدور الذي لعبته حكومة نوري المالكي في خلق بيئة حاضنة لإرهاب “داعش” عندما شاركت في إقصاء أهل السنّة عن مراكز القرار، وتشجيع الميليشيات الحزبية على عمليات تطهير ذات طابع مذهبي في مناطق معيّنة.

بين “تطرّف” سعد الحريري المنحاز إلى لبنان وإلى ثقافة الحياة، و”اعتدال” حسن نصرالله، الذي يعني إلقاء اللبنانيين في أتون أزمات المنطقة وحروبها لا يمكن للبناني العادي إلّا أن يكون “متطرّفا”. لا مجال سوى لـ“التطرّف” خصوصا حين يتوجّب على اللبناني الاختيار بين مدرسة خرّجت خمسة وثلاثين ألف طالب وأعادت الحياة إلى بيروت وسعت إلى توسيع خطة الإنماء والإعمار لتشمل كلّ لبنان وربطه بالعالم العربي، وبين مدرسة تنتمي إلى ثقافة الموت. مدرسة تعمل يوميا على عزل لبنان عن محيطه العربي وتدمير ما بقي من مؤسسات الدولة اللبنانية وتصدير لبنانيين للقتال في حروب مذهبية لا طائل منها.

هل هذا الدور الجديد للبنان في مفهوم حسن نصرالله؟ هل يمكن التوفيق بين ثقافة الحياة وثقافة الموت؟ هذا أمر مستحيل. السؤال كيف يمكن حماية لبنان واللبنانيين في ظل استمرار هذه المواجهة وغياب أيّ قاسم مشترك بين الثقافتين؟

اقرأ المزيد
٢٥ فبراير ٢٠١٥
التمدد الإيراني ودول الخليج العربي

تغير الوضع الجيوسياسي والإستراتيجي في المنطقة الممتدة من شواطئ لبنان على البحر الأبيض المتوسط وحتى شواطئ اليمن على بحر العرب والبحر الأحمر، ومن الجولان المحتل وحتى طول سواحل الخليج العربي ومنها بالطبع الحدود العراقية الإيرانية، لصالح القوة الإيرانية المتنامية، سواء من الناحية الإيديولوجية أو من ناحية النفوذ الأمني والتعبوي لجميع الدول الموجودة ضمن هذا المجال الحيوي، بغض النظر عن حجم استقلالها وقوة حكوماتها.

ورغم معرفة حكومات دول كبيرة في المنطقة -مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة- بخطورة التمدد الإيراني العلني والمباشر ضمن محيط أمنها القومي، فإنها لم تحرك كثيرا من إستراتيجياتها الساكنة لمواجهة هذا الأمر، بل إن ما يزيد الطين بلة هو أنها أوجدت لنفسها أعداء جددا كان من أبرزهم تنظيم الإخوان المسلمين (بشكل مطلق) وتنظيم الدولة الإسلامية، ناهيك عن تنظيمات وقوى أخرى معظمها إسلامي.

وعلى هذا الأساس؛ فإن الدول -التي ما زالت دولا في حقيقة الأمر- اعتبرت في مواقع معينة الوجود الإيراني عاملا مساعدا للقضاء على القوى الإسلامية وقواعدها الشعبية، كما حصل في اليمن على سبيل المثال، ويحصل أيضا في العراق. وقد قال لي أحد المنظرين في موضوع الأمن القومي لإحدى الدول الخليجية الكبرى إن سبب عدم دعم القوى المناهضة للتدخل الإيراني في العراق هو الخشية من أن تكون هذه القوى مرتبطة بشكل أو بآخر بتنظيم الإخوان المسلمين!

إن قصور الفكر الإستراتيجي لدول المنطقة -وتحديدا دول الخليج العربي- يجعل من موضوع التمدد الإيراني مثارا لجدل كبير بين أوساط شعوب المنطقة، خاصة في الوقت الذي أصبحت فيه التنظيمات الموالية لإيران تمارس التخريب والقتل في دول عربية كانت إلى وقت قريب تمثّل بوابات منيعة أمام المشروع الإيراني الكبير -الذي أسسه الخميني منذ أكثر من 35 عاما- كالعراق واليمن والبحرين والإمارات وغيرها، تضاف إليها أيضا بوابات الإعلام التي جندتها إيران لصالح نشر الفكر العقائدي المذهبي الطائفي في الدول العربية دون أي رد فعل عربي خليجي تحديدا.

    "قال لي أحد المنظرين في موضوع الأمن القومي لإحدى الدول الخليجية الكبرى إن سبب عدم دعم القوى المناهضة للتدخل الإيراني في العراق هو الخشية من أن تكون هذه القوى مرتبطة بشكل أو بآخر بتنظيم الإخوان المسلمين!"

وتشير المصادر إلى وجود أكثر من 40 قناة فضائية تبث عبر القمرين نايل سات وعرب سات، وأن هناك حملات إعلامية منظمة للتأثير على النشء الجديد من خلال إنتاج وتسويق برامج وأفلام ومواد ترفيهية وتعليمية وتراثية عبر هذه القنوات، بينما أغلقت الدول الخليجية قنوات عربية إسلامية كثيرة كانت تقدم جرعات معقولة من المضادات الحيوية الفكرية لمواجهة تلك القنوات الإيرانية!

ما هي مآلات الموقف الخليجي إذن من موضوع التمدد الإيراني حول مناطق أمنها القومي؟ ولماذا تبدي دول الخليج هذا الضعف الإستراتيجي في وقت يمكن لها فيه أن تكون القوة الموازنة للنفوذ الإيراني في الإقليم؟ وهل هناك رؤية تخفي وراءها قوة خليجية تضمن لها السيادة وللمنطقة الأمن، وتحفظ لشعوبها خياراتها العقائدية الممتدة لمئات السنين؟

هذه أسئلة تدور بين مختلف مستويات الشعب في الخليج العربي وفي العراق وسوريا ولبنان والأردن ولاحقا اليمن وغيرها، ولا أعتقد أن أحدا يملك الإجابة العلمية والفعلية عن هذه التساؤلات. وربما يكون لموضوع مآلات الموقف الخليجي الصورة الأعتم، بحسب رؤية وتحليل الكثير من مراكز البحوث، وذلك بسبب هشاشة الأوضاع الاجتماعية والمعيشية والسياسية لدول المنطقة، وتخبط بعض قياداتها -كما ذكرنا- في موضوع العقدة الإخوانية، مما جعلهم ينظرون ويخططون في حدود ضيقة جدا، تاركين المستقبل لتحدده الإدارة الإيرانية، سواء قصدوا هذا الأمر أم لم يقصدوه.

إن دول الخليج العربي مطالبة -أكثر من أي وقت مضى- بأن يكون لها مشروع مؤسَّس له بشكل صحيح، يحفظ في الحد الأدنى أمنها القومي في صيغة مجلس التعاون الخليجي مجتمعا وليس في صيغة الدول بشكل فردي، خاصة بعد أن وضعت طهران يدها على صنعاء وبدأت تحاصر هذا المجلس مجتمعا (ربما باستثناء سلطنة عمان) من حدوده الشمالية وحتى أقصى جنوبه على حدود اليمن، وأعتقد أن الإدارة السعودية الجديدة ربما تكون لديها رؤية جديدة أكثر حزما مع المشروع الإيراني، ولديها الإمكانية لبناء مشروع مواجه إذا مكنتها بقية دول الخليج العربي من هذا الأمر بأعلى المستويات.

دولة الإمارات العربية المتحدة تمثل نموذجا آخر للعلاقة بين المشروع الإيراني والموقف الخليجي، فأبو ظبي مثلا تناست احتلال إيران لجزرها الثلاث، وانتشار عشرات التنظيمات الإيرانية الإرهابية داخل أراضيها، لتضع جل اهتمامها وهواجسها في موضوع تنظيم الإخوان المسلمين ليس في الإمارات فحسب بل في كل مكان من العالم. وهو لعمري موضوع بالغ الغرابة، وتحسس مفرط من خطر ربما يكون موجودا بشكل أو بآخر مقابل خطر حقيقي بدأ يحيط بها من خاصرتها ومحيطها الأمني!

    "إن أسلوب عمل المخابرات الإيرانية لتنفيذ مشروع الخميني مبني على أساس بناء علاقات خيطية مع الأقليات الشيعية في كل الدول العربية وغير العربية، ومن هنا فإن الخطر الإيراني موجود دائما، ويجب أن يكون هو الأول في كل دول الخليج العربي "

إن أسلوب عمل المخابرات الإيرانية لتنفيذ مشروع الخميني مبني على أساس بناء علاقات خيطية مع الأقليات الشيعية في كل الدول العربية وغير العربية، ومن هنا فإن الخطر الإيراني موجود دائما، ويجب أن يكون هو الأول في كل دول الخليج العربي باستثناء قطر ربما وإلى حد ما.

وقد تعاظمت شبكة هذه الخيوط بعد الانشغال الانفعالي الكبير لقيادات هذه الدول بالمتغيرات السياسية في مصر خلال حقبة الرئيس محمد مرسي، ثم الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، وباتت أكثر وضوحا الآن حقيقة المخطط الإيراني لتشكيل الهلال الممتد من باكستان وحتى لبنان ثم جنوبا إلى اليمن، من خلال تأجيج حركة الاضطرابات للأقليات الشيعية في دول الخليج العربي، ومن ثم تنصيب نفسها أبا روحيا وضامنا فعليا لهذه الأقليات.

إن دول الخليج العربي بحاجة فعلية إلى خطة عمل إستراتيجية واضحة للتعاطي مع التمدد الإيراني على أسس وطنية وقومية وإعلامية واثقة ومحددة، تواجه من خلالها المشروع الإيراني بكامله ومن ضمنه كل الأطراف المتحالفة مع طهران.

وعليهم ألا ينسوا أبدا ما صرح به العميد باقر زاده رئيس دائرة المفقودين في الحرب العراقية الإيرانية بالقوات المسلحة الإيرانية -خلال مؤتمر صحفي عُقد بالأحواز العربية، وبحضور كبار القادة والضباط من الصف الأول في الحرس الإيراني- حين قال: "علينا أن نرص صفوفنا، وأن نكون أقوى من أعدائنا الذين يتدخلون في شؤوننا الداخلية لشق الصف الوطني بين أبناء الشعب الإيراني".

والشأن الداخلي والصف الوطني هنا يقصد به كل شيعة المنطقة، والأخطر في تصريحات زاده هو قوله إن "خيارات الدول الخليجية أصبحت تتقلص في مواجهتها للمشروع الإيراني، ولم يعد في العراق اليوم لا صدام حسين، ولا ابن لادن في أفغانستان، وتستطيع إيران أن تصل إلى أماكن لا يتصورها زعماء العرب، بسبب تأثيرها على الشعوب الإسلامية الثائرة (شيعة الدول) ضد الظلم في العالم الإسلامي (الحكام السنّة)".

اقرأ المزيد
٢٥ فبراير ٢٠١٥
تحولات تنظيم «القاعدة» في سورية: انشقاق «النصرة» احتمال... والسبب تركيا

منذ أشهر بدأ الحديث عن الإمارة الجديدة التي تسعى إليها «جبهة النصرة» (فرع تنظيم القاعدة في سورية)، وخطورة سيطرتها على الأراضي التي توسّعت فيها أخيراً، إلا أن الأحاديث في تركيا تقلّل من أهمية هذا الموضوع، وليبدأ، منذ أكثر من شهر، وتحديداً مع اقتراب موعد اختيار رئيس جديد للائتلاف، الترويج أن «النصرة» ستفكّ ارتباطها بـ «القاعدة» تماماً، حتى أن قادة عسكريين لفصائل سورية أكّدوا هذه النية، وتحدثوا عن أن الموضوع قاب قوسين أو أدنى.

منذ ظهور اسم أبو محمد الجولاني، وهو مرتبط بأجندة «القاعدة» التي كانت تحلم بأن تطأ أرض الشام وتتوسّع إلى هُناك. فعلى رغم الشعارات التي أطلقها الثوار في أواخر 2011 عن رفضهم خطاب أيمن الظواهري، والنصائح التي قدّمها الى الثوار بأن يتنبهوا الى الوقوع في شرك أميركا، إلا أن الظواهري أشار إلى فرع العراق بإرسال بعض القادة لتشكيل ما يُسمى «جبهة النصرة». ترافق هذا الأمر مع إطلاق بشار الأسد بعض القادة المهمّين والعديد من الإسلاميين الذين كانوا في سجونه، وانسحابه من معابر حدودية ومناطق جغرافية عدّة في الشمال السوري على وقع ضربات «الجيش الحر»، الذي كان يشكّل تحدياً حقيقياً لشرعية الأسد في السيطرة العسكرية على سورية. فالحاضنة الشعبية للجيش الحر في غالبية المناطق السورية كانت كبيرة، بالإضافة إلى أن قادته كانوا محليين ويتمتعون بسمعة جيدة بين الأهالي وممن خرجوا في بدايات الثورة للمطالبة بالحقوق وتحقيق أهداف الثورة وحماية تظاهراتها.

تقلّبت المشاريع الجهادية خلال عامين على الساحة السورية، وتباينت فصائلها على رغم أن السمة الأوضح لقاداتها أنهم سجناء سابقون في سجن صيدنايا، لتنتقل اختلافاتهم الفكرية في الزنزانة إلى خلافات تمنع توحيدهم ضمن منظومة واحدة. وتشابهوا إلى حدّ كبير، فلم يطرح أي منهم رؤية مختلفة، وانحصر الاختلاف فقط في الراية واسم القائد وتمركز كل فصيل منهم في منطقة جغرافية محددة يسيطر عليها بشكل شبه كامل. ولكن بقيت «جبهة النصرة» مميّزة عنهم عبر إعلانها الارتباط المباشر بتنظيم «القاعدة» بقيادة الظواهري. وسرعان ما أُجبر التنظيم على أن يكون جزءاً من اللعبة السياسية الكبيرة في سورية، بخاصة بعد تدويلها وارتباطها بشكل مباشر بأهواء الدول المعنية، لتكون جماعة «القاعدة» في سورية ضمن محور تركيا - قطر، الذي لم يكن جلياً لولا الضغط الأميركي على تركيا بوجوب وضع «جبهة النصرة» في قائمة الإرهاب التركية مقابل ألا تضع أميركا فصائل سورية جديدة (محسوبة على تركيا) على قائمتها للإرهاب. وفعلاً، قامت تركيا بذلك وما لبثت أن أزالتها بعد فترة، لتعمل «جبهة النصرة» بفاعلية أكبر ووضوح أكثر ضمن الأجندة التركية.

تغيرت آلية عمل «النصرة» في سورية بعد هذا الحدث، إذ كانت تعتمد في البداية على خلايا صغيرة متوزّعة على كامل الجغرافيا السورية، مع عمليات نوعية تشارك فيها فصائل أخرى. لتتحوّل استراتيجية عملها العسكرية إلى تبني معارك ضد الأسد لنفسها فقط، وفي حال المشاركة مع فصائل أخرى كانت تعمد الى تغييب هذه الفصائل إعلامياً. أما ميدانياً، فقد عمدت إلى السيطرة على الشريط الحدودي بين تركيا وما يسمى بالمناطق المحررة. فشمالاً، اعتمدت على سيطرة تنظيم «جيش محمد» الذي كان متحالفاً مع «داعش»، ليعلن انتماءه الى «النصرة» عقب اشتباكات الجيش الحر مع «داعش» في بدايات العام المنصرم. وفي الشمال الغربي، قادت حملة استهدفت العابثين والمفسدين كما زعمت، لتسيطر على الشريط الحدودي في محافظة إدلب من المنطقة بجوار باب الهوى إلى حارم فدركوش، وصولاً إلى نقطة الالتقاء مع محافظة اللاذقية. أما في اللاذقية، فالسيطرة مشتركة مع الكتائب المحلية. وعقدت النصرة تحالفاً قوياً مع الفصائل المسيطرة على المنافذ الحدودية الرسمية في سورية مع عدم رغبتها في السيطرة المباشرة هناك، فيما يُعتقد أنه قد يُحرج تركيا في حال تم ذلك بسبب وجود «النصرة» على قائمة الإرهاب الأميركية.

انتقلت بعدها «النصرة» إلى التوسّع داخل «المناطق المحررة». ففي عمق محافظة إدلب، قامت بطرد فصائل سورية وتدميرها، وذلك عبر اتهامات مختلفة. ولم ترضَ أن تكون هناك مشاركة لكتائب محلية، فعملت على أن تكون الفصيل الوحيد المسيطر فيها ضمن تحالفات معيّنة مع فصائل أخرى، كـ «أحرار الشام» و»صقور الشام»، مقابل أن تلتزم ضمن مناطق سيطرتها وتتعاون قضائياً وعسكرياً مع «جبهة النصرة». أما في محافظة حلب، فقد تحالفت «النصرة» مع فصائل «الجبهة الإسلامية»، التي اتحدت لاحقاً مع فصائل جديدة تحت مسمى «الجبهة الشامية»، ضمن حملة محاربة المفسدين، ولكنها استهدفت فصائل خرجت عن قيادة «الجبهة الإسلامية» المتمثلة بأميرها عبد العزيز سلامة، والتي كان يُطلق عليها محلياً «لواء التوحيد - فرع مارع».

في حال إعلان الجولاني انفصاله عن «القاعدة» كما يروّج، سيكون هذا ثاني انشقاق لأكبر أذرع «القاعدة» دولياً، بعد انشقاق البغدادي وإعلانه «دولة الخلافة»، وسيتكرر سيناريو أنه عندما يشعر أحد أمراء «القاعدة» بأنه يحكم أرضاً ويملك مقومات دولة، فإنه مستعدّ للتخلي عن بيعته «القاعدة»، على رغم أن الجماعات الجهادية تعتبر نقض البيعات كالردة أحياناً وعقوبتها تصل الى القتل.

ستبقى قصة انفصال «النصرة» عن «القاعدة» ضمن دائرة الإشاعات، طالما لم تصدر بشكل رسمي وطالما بقي اسم «القاعدة» على رايات «جبهة النصرة» في سورية. ولكن في حال حدوثها، ستطرح كثيراً من التساؤلات عن مستقبل الفصيل والدور الذي سيؤديه في الساحة السورية، وهل من الممكن أن يشارك في الجانب السياسي بشكل مباشر؟ أم سيقتصر دوره على تحقيق المصالح المشتركة المتقاطعة مع الحليف التركي؟
تركياتحقيقاتتنظيم القاعدةسورياجبهة النصرة

اقرأ المزيد
٢٤ فبراير ٢٠١٥
الإعلام في شباك داعش

لا حديث، هذه الأيام، في معظم وسائل الإعلام والمؤتمرات الدولية والإقليمية والمحلية، إلا عن داعش، حتى بدا لكثيرين وكأن هذه "الجماعة" قدر محتوم، لا يفصلهم عنه سوى أسابيع أو أشهر، لتصبح كامل المنطقة مجموعة إمارات تدين بالولاء لما تسمى دولة الخلافة، التي تتخذ من العراق مقراً ومرجعاً لها. وفي ذلك تسويق غير مقصود من وسائل الإعلام للمشروع السياسي لهذه الجماعة، التي افتكت المبادرة من بقية الجماعات الراديكالية داخل ما تسمى دائرة الإسلام السياسي، ما جعلها الأكثر قدرة على التجنيد والتعبئة والتوسع.
يجب الاعتراف بأن داعش نجح في فرض نفسه إعلامياً، ففي كل أسبوع، على الأقل، ينتج حدثاً جديداً يجعل الإعلاميين يلهثون وراءه ويتابعون تداعياته. ولا يكاد بلد، في المنطقة، إلا ووجد نفسه منخرطاً في حرب، ضد هذا التنظيم، مفتوحة على جميع الاحتمالات، فهو لم يترك أي طرف يمكنه الوقوف على الحياد، بدءاً من العراق وسورية، وصولاً إلى ليبيا والجزائر وتونس وموريتانيا، مروراً بمصر والسعودية، وبقية دول الخليج واليمن، إضافة إلى معظم دول العالم التي انخرطت في التحالف الموجه ضد داعش.
فتح التنظيم وفروعه مواجهات مع الجميع، ويخوض حالياً حروباً متعددة ضد جيوش كثيرة، على أمل أن ينتصر عليها جميعها مهما كانت خسائره. ففي 2014 وحدها قتل من أنصاره نحو ثلاثين ألف مناصر. لم يترك خطاً أحمر إلا وتجاوزه، لأنه يعتقد أن مهمته الرئيسية تغيير موازين القوى وإطاحة المنظومة السياسية السائدة إقليمياً وعالمياً. وعلى الرغم من أن المنطق العسكري يعتبر فتح الجبهات المتعددة، من أي كان، خطأً قاتلاً، يؤدي بأصحابه نحو الهزيمة الحتمية، إلا أن ذلك لم يمنع المسؤولين الأميركيين من القول، إن الحرب ضد ما تسمى الدولة الإسلامية ستستمر سنوات! فالذي فشل في تحقيقه تنظيم القاعدة، سواء في عهد أسامة بن لادن، أو حالياً، نجح أبو بكر البغدادي، ومن معه، في إنجازه، ويتعلق بتفجير بؤر الحرب والتوتر بشكل متتالٍ، ما جر عشرات الحكومات إلى حرب استنزاف طويلة المدى.
مع أهمية هذا المشهد المعقد والمتحرك، إلا أنه لا يبرر هذا الإدمان الإعلامي الخطير على الأسطورة الداعشية. فمن شأن ذلك أن يصيب الأفراد وشعوب المنطقة بالإحباط وانتظار المصير المظلم. كما أنه سيستنزف العقول والثروات لصالح الدول الغربية وشركاتها المصنعة للأسلحة، وسيطرد الأمل من نفوسنا، في إمكانية بناء مستقبل مختلف عن الاستبداد، الإرهاب معاً. وسيزيد من قدرات هذه الجماعات على استقطاب الشباب العربي الحائر واليائس، ويجعل بعضهم لا يرى بديلاً من هذه الأوضاع المنهارة، إلا الارتماء في حرب مجنونةـ عساها تولد الظروف الملائمة لاستعادة الخلافة الضائعة.
في تونس، حالة اختناق حقيقية تلمسها في وجوه الأفراد وأحاديث المواطنين وارتباك النخب، وخصوصاً لدى النساء. فما يجري في ليبيا أصبح كابوساً يخيم على الجميع، وكأن الخطر أصبح مباشراً وجدياً، وكأن مقاتلي داعش وأشباهها أصبحوا يطرقون أبواب تونس بقوة وعنف. وعلى الرغم من حجم المخاطر التي يمكن أن تنجرّ عما يجري داخل ليبيا، إلا أن ذلك يجب ألا يحجب أو يقلل من الخطوات الجبارة التي قطعت في السنوات القليلة الماضية. لا يزال الأمل قائماً في إمكانية حماية اللحمة الداخلية، وتعزيز ما تحقق على الجانب السياسي، بتقدمٍ يمكن إنجازه على الصعيدين، الاقتصادي والاجتماعي.
ليس الإعلام مطالباً بحجب الصورة الواقعية لتطور الظاهرة الإرهابية، لأنه بذلك يفقد مصداقيته، وفي الآن نفسه، يجب ألا يحشر نفسه، والرأي العام معه، في زاوية ضيقة من دون أفق، وإنما مطالب بأن تكون له رؤية شاملة، تمكّن الناس من النظر إلى ما وراء الجبل، وتستعيد الثقة في قدراتها على صناعة الأمل.

اقرأ المزيد
٢٤ فبراير ٢٠١٥
العمليّة «الثقافيّة» التركيّة في سوريا

حرب مصغّرة خاضتها الدولة التركيّة، قبل أيّام ثلاثة، داخل الأراضي السوريّة. أمّا الهدف المعلن فنقل ضريح سليمان شاه، جدّ مؤسّس الدولة العثمانيّة عثمان بن أرطغرل، من موقعه إلى تركيّا، ومنها إلى بقعة أخرى في سوريّة تكون أشدّ قابليّة للحماية.

المعارضة التركيّة لأردوغان لم تقلّ عنه حماسة لهذه العمليّة «الثقافيّة»، المدجّجة بالجنود والدبّابات. وهي حين انتقدته عليها انتقدت ما انطوت عليه العمليّة من «تأخّر» ومن «تفريط». فسليمان شاه وعثمان بن أرطغرل إذا كانا رمزين لدولة بني عثمان المسلمين، في عرف الإسلاميّين، فإنّهما رمزان لدولة بني عثمان الأتراك، في عرف القوميّين.

في الحالات كافّة فإنّ مقارنة الحسم هنا بالتردّد حيال حرب كوباني بين «داعش» والأكراد، وما تأدّى عن ذاك التردّد من اتّهامات لأنقرة بالتواطوء، تجيز القول بأنّ الأتراك اختاروا مدخلاً «ثقافيّاً» لدورهم الكبير والمعلن خارج أراضيهم، وأنّهم غلّبوا الاعتبار هذا على كلّ اعتبار آخر، كما وجدوا فيه العنصر الأكثر قابليّة للمماهاة مع الوطنيّة التركيّة.

وليس قليل الدلالة أنّ السياسيّ الذي أعلن عن العمليّة العسكريّة الأخيرة لم يكن إلاّ أحمد داوود أوغلو، رئيس الحكومة الحاليّ، الذي سبق له هو نفسه أن أطلق، بوصفه وزير الخارجيّة يومذاك، دعوات التعاون والتكامل مع المحيط بحجج تغلب عليها حجّة المصالح الاقتصاديّة الجامعة.

بلغة أخرى، فإنّ حكّام تركيّا اختاروا، في تمثيلهم لمحصّلة الوعي الوطنيّ التركيّ، أن يكرّروا الوجهة التي حكمت مسار القوى العالمثالثيّة من قوميّة ويساريّة وشعبويّة على عمومها، أي الانتقال من التركيز على الاقتصاديّ (تنمية، استقلال اقتصاديّ، انفصال عن السوق الرأسماليّة إلخ...) إلى التركيز على الثقافيّ (دين، أصالة، كرامة، رموز إلخ...)، أي بكلمة موجزة: على الهويّة.

والحال أنّ الحكم التركيّ – وهو إيديولوجيّ وإسلاميّ تعريفاً – ليس قليل التأهيل لإدارة عمليّة انتقال كهذه. فقد سبقت حرب الضريح في الشمال السوريّ إشارات كثيرة من هذا القبيل الهويّاتيّ، بما فيها استعراض أردوغان الأزياء العسكريّة لأطوار السلطنة العثمانيّة.

فإذا أضفنا قوّة النازع الإيديولوجيّ والهويّاتيّ لدى نظام شرق أوسطيّ منافس لتركيّا، هو النظام الإيرانيّ، أمكننا الإطلال على وجه آخر من وجوه المأساة الضاربة. ذاك أنّ ما كنّا نراه سمة من سمات الجماعات الأهليّة حصراً بتنا نراه واضحاً، بل فاقعاً، في الدول وسياساتها. ولئن وعدتنا ثورات «الربيع العربيّ» في مستهلّها بالانتقال من الترميز الكاذب للأنظمة، بما فيه من إحلال الزيف اللاعقلانيّ محلّ الحاجات الفعليّة في التنمية والتعليم وسواهما، فإنّ النهايات التي آلت إليها تلك الثورات لا «تعد» إلاّ بمزيد من الغرق في هذا المستنقع الهويّاتيّ القاتل.

وحتّى إشعار آخر قد يجوز القول إنّ الفارق الوحيد بين النموذج الإيرانيّ – التركيّ (على تفاوت طرفيه) والنموذج العربيّ الصاعد أنّ الأوّل لا يزال قادراً على التعايش مع جهاز دولة قويّ، فيما الثاني متحلّل من كلّ دولة. وهو فارق يُعتدّ به طبعاً في قياسات القوّة، إلاّ أنّه قد لا يصلح للإعتداد من زاوية الشياطين التي تنمو تحت أرض الشرق الأوسط برمّته.

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٥
لماذا استمرت الحرب في بلدنا لاربع سنوات وماذا ينتظر سوريا

الشعب السوري قام بثورة سلمية مدنية دامت لأشهر كانت كافية لاسقاط 10 انظمة متأصلة في الإستبداد.

لكن هذا ليس من مصلحة انظمة المنطقة ولا يصب في مصالح الدول الاقليمية و لا مع مصالح دول العالم . وعلى الأخص الجارة المدللة التي استقرت حدودها طيلة حكم ما يسمى بنظام ” المقاومة والممانعة ” . والدليل ان قطار الثورات العربية توقف في سوريا ولم ينطلق الى بلد عربي اخر , نعم هذا ما خطط له .

تعمدوا واجتهدوا لجعل الشعب السوري عبرة وامثولة لشعوبهم . في حال فكروا بإشعال ثورة . قد يقول البعض لكن هناك من يدعمنا فعليا,

لا ياسادة انهم يدعمون مصالحهم فقط .

لقد وقف العرب و العالم يراقب قتل المتظاهرين السلميين بدم بارد , انشقاقات كبيرة حدثت في جيش النظام . الأمر الذي تترتب عليه استحقاقات سياسية واخلاقية. ما العمل هنا ؟ قدمت الوعود للمنشقين و للثوار وقيل لهم حرروا مدينة لتكون منطلق لمنطقة حظر جوي على غرار مدينة بنغازي بليبيا وسنقدم لكم الدعم المطلوب .

الثوار قاموا بما يلزم وقدموا التضحيات الكبيرة وتبنوا فكر الاعتدال و شعارات الثورة المدنية طبعا هذا احرج الجميع ووضعهم امام استحقاقات اخلاقية وسياسة كبيرة مرة ثانية , مالعمل الثورة السورية احرجتنا .!!! اذا لنخلط الاوراق بين تطرف واقليات ولنستعن بالمال السياسي , استبعاد الفكر المعتدل كان ضرورة لاستكمال المشهد المطلوب لاحقا , فالضباط الذين انشقوا عن النظام عددهم ليس بقليل وفي حال تم تنظيمهم سيشكلون نواة حقيقية وفاعلة لجيش وطني سوري سيلتف حوله الجميع, تعمد العالم اهمالهم لثلاث سنوات واستبعدهم من المشهد العسكري و تم منعهم من تنظيم انفسهم ووضعوا تحت الاقامة الجبرية وراء الحدود ولاننسى هنا عملية اعتقال المقدم حسين الهرموش الغامضة ولاحقا المحاولات المتكررة لاغتيال العقيد رياض الاسعد وعمليات كثيرة تبعتها قيدت ضد مجهول .

بدأ العمل على المرحلة الثانية وذلك بالسماح للجماعات المتشددة والمتطرفة وبمعرفة النظام واشرافه لتسهيل الدخول الى سوريا لتنظيم انفسهم واعطاء تلك الجماعات مساحة اعلامية واسعة لدعم رواية النظام ولرفع الحرج عن مايسمى ” الداعمون ” للثورة تحت ذريعة التخوف من وصول السلاح ليد المتطرفين .

الدليل واضح على ماسبق ذكره فمعظم المناطق استهدفتها طائرات وصواريخ النظام إلا مقرات تلك الجماعات لماذا ؟!

على الجانب الاخر تدخل المال السياسي من عدة جهات وجندت الكتائب لمقاتلة النظام و اشتُرط عليهم ان يتبنوا شعارات بعينها لا تنسجم مع مصلحة الثورة بل تخدم توجه وافكار تلك الجهات فالثورة السورية واهدافها لاتعنيهم بشيء, هنا وضع المقاتلون بين خيارات صعبة اما الاستسلام للنظام او الاستمرار بالقتال فالجميع خذلهم لقد قاتلوا على امل ان تتغير الظروف لاحقا فهم سوريون بالنهاية وبلدهم هي الاساس , ايضا هنا تقاطعت تلك التوجهات مع مصلحة النظام سياسيا واعلاميا .

تعددت الولاءات وبدأ اقتصاد الحرب يبرز وفسدت النفوس واختلط الامر على الجميع .

استبعدت التنسيقيات وغابت عن المشهد الثوري واستبعد اصحاب التوجه المدني وتم دعم اصحاب التوجه الاكثر تشددا. ارهقت الناس وازداد تدفق اللاجئين وراح العالم يركز على ضرورة تقديم المساعدات الانسانية وفتح ممرات انسانية يتلاعب فيها الفيتو الروسي وبمماطلة غربية ورغبة غير جادة بالحسم و تعمدوا سياسة تهميش معالجة الاسباب الرئيسية المتمثلة بنظام الاسد الذي استباح كل المحرمات وفتح البلاد لكل التدخلات الاقليمية والدولية ,

تحولت نغمة الغرب من الاسد فقد شرعيته وايامه باتت معدودة الى ضرورة التفاوض مع النظام والخروج بحل سلمي !!! حل سلمي مع نظام دمر البلاد طولا وعرضا مستخدما كل صنوف الاسلحة الثقيلة لم يكن اخرها الكيماوي .!

اجتهدوا وعملوا على تحويل الثورة عبر اعلامهم من ثورة مدنية ومطالب مشروعة للشعب السوري الى صراع مسلح على السلطة و وصف المشهد ” بالحرب الاهلية “.

ايران وحزب الله والمليشيات العراقية لم يكن ليتجرأوا على التدخل المباشر في سوريا لولا مباركة العالم واعطائهم الضوء الاخضر ,

كل من وقفوا وراء ذلك كان هدفهم اخماد الثورة السورية بشكل او بأخر والحفاظ على النظام مع مزيد من الدمار لسوريا وايصال الناس الى نقطة

لاقولنا حل بدنا نخلص

وليعطوا باقي الشعوب العربية درسا قاسيا ان فكرت بثورة حرية وكرامة ….

و الاكثر غرابة ودهشة انهم يرددون سنقدم الدعم

للجيش المعتدل ” !!! لم يحصل ذلك بعد ثلاث سنوات ونصف من عمر ثورة الشعب السوري التي عبث بها الجميع

نعم انها الثورة الكاشفة . ولكن النصر دائما هو حليف الشعوب .

قد يتسائل البعض ماهدف تلك الدول من كل ذلك .؟

طبعا هناك عدة اهداف بالاضافة الى ماجاء ضمن المقال.

هناك طرف يرغب بتدمير سوريا واضعاف قدراتها العسكرية .

وطرف يعمل على استنزاف ايران وحزب الله عسكريا و اقتصاديا من خلال الحرب في سوريا .

وطرف يضغط على دول الخليج من خلال غض الطرف عن ايران وتدخلها في سوريا للمساومة على الملف النووي ولتحقيق مكاسب اقتصادية اكبر .

وطرف يعمل على حشد المتطرفين في سوريا للقضاء على قدراتهم بعيدا عن بلاده .

واطرف متناحرة تشد الحبال لتحقيق مكاسب سلطوية على حساب عرقلة الحل في سوريا وتريد تفصيل نظام حكم وفقا لما يتناسب مع مصالحهم الاقليمية والدولية وللحفاظ على كرسي السلطة في بلدانهم .

ونظام الاسد تحول الى عميل لكل هؤلاء ضد الشعب السوري ظنا منه انه سيبقى في السلطة وسط هذا المشهد الدموي الذي بدأ به . والشعب السوري يحارب الجميع ويبحث عن الحرية وسينتصر بعد ان ينجلي غبار المعارك بين المتصارعين على السلطة

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٥
جحيم سوريا

قد يكون ما سأكتبه في السطور الآتية محض "تنظير" غير مفيد في رأي البعض، لكن آخرين قد يرون فيه دافعاً للقيام بما أسماه الفيلسوف المغربي البارز، محمد عابد الجابري، "إرادة المستقبل"، فيتعلمون من التاريخ ما يُعينهم على خلق أفضل خاتمة ممكنة لصالحهم. والأهم أن يتعلموا بأن مسار التاريخ لا ينعكس، وأن مسايرته قد تكون أفضل بكثير من العِناد معه.

للتاريخ كلمته، فكما أن الشدائد التي لا تقضي على الفرد، تؤدي إلى صقله وتقويته، كذلك تفعل الشدائد مع الأمم والشعوب، مع جرعة ألم مُضاعفة، و"غربلة" للعناصر غير المناسبة للنهوض مستقبلاً، والأهم، تجربة مريرة، تجعل المستقبل أكثر سُطوعاً من الماضي، في غالب الأحيان. استخدم الروائي الأمريكي البارز، دان براون، تعبير "إنفيرنو – الجحيم" في استعارة من ملحمة دانتي الشهيرة في "الكوميديا الإلهية"، لإيصال فكرة جدلية للعالم، مفادها ضرورة "غربلة" البشرية قبل فوات الأوان.

"إنفيرنو" دان براون، استعارة عميقة المغزى من دانتي، مفادها أن "إنفيرنو – الجحيم" هو الطريق الإجباري للوصول إلى "الجنة"، وفي رواية دان براون، تخفيض عدد السكان عبر إجراء كارثي غير أخلاقي بالمعايير السائدة لدينا اليوم، قد يكون الطريق الإجباري للنهوض بالبشرية وتجنيبها مصيراً قاتماً مع التزايد السكاني المستمر.

في حالات الشعوب والأمم، يذكر التاريخ أن لكل منها "إنفيرنو – جحيم" خاص بها. ومع وجود استثناءات نادرة تؤكد القاعدة التاريخية ولا تنفيها، يبدو أن نهوض معظم الشعوب يُسبق بشدائد ومحن، قد تكون على هيئة كوارث طبيعية، كالطاعون الذي أتى على ثلث سكان أوروبا قبيل عصر النهضة، لكنه أدى لاحقاً إلى حراك اقتصادي وعلمي واجتماعي فريد ساهم في نهوض "القارة العجوز" يومها. وفي معظم الأحيان، يكون "جحيم" الشعوب على هيئة حروب مدمرة، تأخذ، في الأغلب، هيئة الحروب والصراعات الأهلية.

وفي استرداد تاريخي لتجارب عديدة، لا يمكن إحصاؤها هنا، عشرات الحروب الأهلية التي أعقبها نهوض أمم وشعوب كان الظن قد غلب، لفترة طويلة، أنها باتت في غياهب التاريخ. وكما أنها متلازمة، شبه ثابتة، أن يعقب الكثير من الثورات حروب أهلية، فإنها متلازمة، شبه ثابتة، أن يعقب معظم الحروب الأهلية نهوض اجتماعي واقتصادي فريد.

الثورات في معظم الأحيان تؤدي إلى صراعات أهلية، فالثائرون يمسون مصالح شريحة من المجتمع، لا بد أنها ستدافع عن مصالحها المتمثلة في تسلطها على بقية شرائح المجتمع، بكل الوسائل الممكنة، ومن ثم ستندلع حرب أهلية، يكثر فيها سفك الدم، في مشهد يُظهر الفوضى للعيان، لكنه يضمن في غياهبه "غربلة" حتمية للمجتمع وللقيم في الوقت نفسه، فتكون الخاتمة كحال الآية القرآنية التي تتحدث عن السيل، وتشبه الباطل بالزبد، والحق بالماء، فتشير إلى أن الزبد الذي يعم في البداية، سرعان ما يختفي، فيما يبقى الماء الذي تمتصه الأرض بصورة تنفع الناس.

اليوم، تشهد سوريا تكراراً لتلك الحتمية التاريخية، ثورة فحرب أهلية، تعمها الفوضى ظاهراً، لكن سياقها "غربلة" للمتطرفين من كل الأطراف، وللقيم غير الصالحة، ولأولئك الذين ساقهم العِناد عكس مسار التاريخ الحتمي. المدقق في المشهد بسوريا يرى أنه خراب، ويعتقد أن هذا البلد لن تقوم له قائمة بعد اليوم، لكن التاريخ ينفي ذلك، في معظم الحالات، ولا يعني ما سبق أنه لا توجد استثناءات، لكنها استثناءات من الندرة بحيث تؤكد القاعدة التي تقول بأن الشدائد تصقل تجارب الشعوب فتنقلها بصورة نوعية نحو الأمام، نقلةً ربما ما كانت لتحدث لولا حالة "الغربلة" البشرية والقيمية التي عاشها أفرادها.اليوم تشكل سوريا مغناطيساً للمتطرفين، وساحة لتصفيتهم، من كل الأطراف، وتعم لعنتها الجوار، وتكاد تصل إلى كل من ساهم في إطالة أمد أزمتها من اللاعبين الإقليميين والدوليين. فها هي إيران تُستنزف في الساحة السورية، وبفعل الأخيرة، يمتد نزيفها إلى الساحة العراقية، ولأنها تظن أنها تُحسن عملاً، مدّت نزيفها إلى اليمن. فيما يُستنزف حزب الله في الساحة السورية، والمتطرفون من الطرف الآخر كذلك، كل من تسلق على ظهر الإسلام على أمل السطوة والحكم، ينتكس اليوم، ويُكشف عن عُقم رؤاه.

أما نظام الأسد، ومناصروه، والشرائح المحسوبة عليه، تلك التي اصطفت وراءه من اللحظات الأولى حفاظاً على مكاسب سطوتها على شركائها في الوطن، أكبر المستنزفين. في الوقت الذي تعم لعنة سوريا لتنال من أمن كل اللاعبين الإقليميين والدوليين عبر تفريخ المتطرفين في كل مكان.

ومهما طالت السنوات، ففي نهاية المطاف سينهار المتطرفون والمكابرون من كل الأطراف تحت وطأة الاستنزاف، وستبحث القوى الإقليمية والدولية عن حلول تُنهي حالة الفوضى العارمة التي ترتد إلى القوى ذاتها التي ساهمت بتحقيقها أو إطالة أمدها. وفي نهاية المطاف، ستنتهي قعقعة السلاح، وسينتحي هواته جانباً مضطرين، لصالح القادرين على القيام بزمام الأمور في لحظة إعادة الإعمار، ليس على الصعيد الاقتصادي فقط، بل على الصعيد السياسي والوطني أيضاً.

وسيرجع الكثيرون من السوريين إلى بلدهم بتجاربهم التي اكتسبوها من شعوب وبلدان أخرى خلال فترات اللجوء المريرة، وبعضهم سيعود مع سيولة مالية حصّلها خلال عمله الدؤوب حيث كان، بعد أن حثه اللجوء والمأساة على الإبداع...أولئك العائدون، مع الصامدين في بلدهم على ضفتي "التطرف"، سيُعيدون إعمار هذا البلد، ليكون كغيره من التجارب التاريخية التي تسردها الكتب، عن أمم وشعوب نهضت من تحت رُكام ورماد الحرب، لتصنع تجارب أدهشت المُراقبين وحيرت عقولهم لعقود

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٥
نهاية حرب إيران في سورية

بكثافة نيرانية غير مسبوقة، وبرمي جميع أوراقها في الميدان، حاولت إيران تغيير المعادلات في المنطقة، وإنضاج السياقات قبل أوانها؛ لكن من الواضح أن تقديرات طهران غلب عليها النزق والتسرع، وتبين أنها وقعت ضحية معلومات مضللة دسها مرتزقتها في طبق من دسم لصانع القرارات!

من حوران إلى حلب، تم التحضير لهجوم من شأنه تغيير المعطيات في المنطقة نهائيا، تسلّلت إيران وأذرعها تحت ضباب حزمة من المتغيرات التي توقعت أنها ستشكل غطاء لتحركاتها، مثل مفاوضات الملف النووي وانشغال العالم بالمسلسل الدرامي الداعشي وتداعياته المرعبة، لإعلان ساعة الصفر التي جرى التحضير لها بعناية، أما الأهداف النهائية فهي إستكمال إحكام الكماشة على المنطقة من باب المندب حتى المتوسط وإعلان طهران الحاكم الفعلي على المنطقة بقوة السلاح ومن خلال فرض أدواتها كأمر واقع، ثم الطلب من العالم أن يتفاوض على ما بعد الجولان وحلب.

هذا على مستوى المعطيات، أما السياقات التي أرادت طهران إنضاجها، فهي إعتراف العالم بشرعية هيمنتها وتعجيل هذا الإعتراف، ذلك أنه وحسب تقديرات مطبخ القرار الإيراني فقد تم رصد مؤشرات عديدة صادرة من أكثر من عاصمة غربية عن وجود تبدّل في المقاربة تجاه الأزمة في المنطقة، وفي القلب منها الحدث السوري، لذا فإن إيران من خلال فرشها لسطوتها في المنطقة إعتقدت أنها تعمل على تسريع التحولات وتظهيرها بمدى زمني أقل حتى لا تأخذ هذه الاستدارة زمنا طويلا في الوقت الذي باتت إيران تستعجل ثمار استثماراتها طوال السنوات السابقة.

لم تكن الحصائل المترتبة عن الهجوم الإيراني بحجم التوقعات التي تم بناؤها، بل تبين أن المشروع الإيراني المتوسع بات ينطوي على أعطاب كثيرة، إن على مستوى مراكز دعم القرار فيه، حيث تبين أنها مجرد أبواق إعلامية مسترزقة لا تملك الخبرة الكافية في التقدير، أو على المستوى العملاني حيث ظهر الخلل فاضحا سواء على مستوى بناء الإستراتجيات وتحديد الأهداف وتطبيقها على أرض الواقع، وقد ظهر أنّ التكتيكات التي يقوم بها قاسم سليماني لا تصلح في التطبيق العملاني للحروب بقدر ما هي صالحة لعمليات أمنية من قبيل الإغتيالات أو الإجهاز على مناطق مدنية، لذا فإن النجاح الواضح الأكيد في الغزوة الإيرانية الاخيرة تمثل بذبح عشرون مدنيا بالسكاكين في ريف حلب الشمالي وسرقة بعض البيوت قبل وصول كتائب الجيش الحر.

غير أن العطب الأكبر الذي جرى إكتشافه في هذه الواقعة تمثل بوضح في إهتراء قوة أدوات إيران من ميليشيات لبنانية وعراقية وأفغانية، وقد كشفت معارك حوران وحلب، أنه برغم التغطية النارية والجوية، التي لو توفر جزء منها للجيش الحر لكان قد أنهى الأزمة السورية منذ أشهرها الاولى، ورغم ذلك ظهر بوضوح ثقل خطوات عناصر تلك الميليشيات( الإيرانية) وضعف أداءها وترهلها، بعد أن باتت وعاء للعاطلين عن العمل والمسترزقين والباحثين عن الغنائم السهلة، كثرة جثثهم وإنهيارهم السريع كشفت عن الوهن الكبير الذي باتت عليه منظومة إيران القتالية، لم تنفع كثيرا صورة قاسم سليماني في جرف الصخر ولم تسبقه إلى حوران وحلب ذلك أن ثوار سورية كانوا يعرفون أن خلف تلك الصورة كانت الطائرات الأمريكية قد مهدّت طويلا وبأطنان من القذائف ليأتي إسطورة إيران لأخذ صورة في أرض فارغة.

لكن العملية كشفت عن ما هو أهم بكثير بالنسبة للسوريين، فقد ظهر أن البنية الثورية أقوى بكثير مما إعتقد الكثيرون، فهي الى جانب رسوخها في الارض، تملك قدرات عملانية مهمة تستطيع من خلالها عكس أي هجوم وردّه، في حوران وحلب أثبت الثوار صلابة في صد الزخم الكبير وفائض النيران الذي حاولت إيران إغراقهم به؛ وبالتالي فإن هذا الأمر كان كافيا لإحباط الأمال الإيرانية المستقبلية في إمكانية تحقيق السيطرة الكاملة على سورية... فإذا كانت بكل الإمكانيات التي رصدتها والموارد التي هيأتها، وهي غير ممكنة دائما، لم تستطيع انجاز تقدم حقيقي، فإن من الأفضل لها البحث عن مخارج مختلفة للخروج من الورطة السورية، من ناحية ثانية كشفت الإستجابة التي أبداها السوريين للتحدي الإيراني عن ظهور مقاومة شعبية رفيدة للأطر الثورية في ريف حلب الشمالي ودرعا، ما يعني أن الثورة لازالت تحتفظ ببيئتها الحاضنة رغم كل ما مرّ بها من كوارث وما عانته من صعوبات، بل أن هذه البيئة إنتقلت بإدراكها إلى خانة حرب التحرير من المحتل الإيراني وتابعه الأسد، وهو عكس ما راهن عليه حلف إيران من أن الضغط والحصار المتواصل، من شأنه تدمير البيئة الحاضنة للثورة، وجعلها تقبل أي حل.

حرب إيران إنتهت، قد يبقى منها بعض الإرتدادات هنا وهناك، على نمط ضربات غادرة، لكن بشكلها هذا لن تحدث تغييرات إستراتيجية كبيرة، كل ما يمكن أن تصنعه زيادة في الإستنزاف لنفسها والألم لبيئتها، عبر مزيد من الضحايا العائدة إلى ضاحية بيروت وضواحي طهران، كأس من السم بات جاهزا كي تتجرعه إيران كعادتها في نهاية مغامراتها الفاشلة.

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٥
أوباما وثلاثة انقلابات

حين دخل البيت الأبيض كان يحلم بأيام اخرى. كان يأمل بإعادة الجنود الأميركيين وطي صفحة الحروب التي أطلقها جورج بوش واستنزفت الكثير من الدم والبلايين. ولعل باراك اوباما كان يتمنى أن يكتفي بقتل أسامة بن لادن ومطاردة أنصاره بطائرات من دون طيار. حروب بوش أقنعته بأن مهمة تغيير العالم أكبر من قدرات أميركا منفردة، وبأنه ليس من مسؤولية بلاده اقتلاع هذا الديكتاتور أو ذاك بواسطة جيشها، خصوصاً بعدما تبدى أن زراعة الديموقراطية باستخدام الدبابات ليست محمودة العواقب.

وخلافاً لما تمناه، يسبح أوباما اليوم في عالم أشد خطورة لا يملك رؤية واضحة لاحتواء مفاجآته وانهياراته. سياسته تشبه محاولة التكيُّف مع آثار الزلازل ومطلقيها أكثر مما تشبه ضبط الاتجاهات ومحاولة التحكم بمسار الأحداث. فجأة وجد نفسه كَمَنْ يلعب بالقنابل، وها هو يواجه امتحانات متلاحقة في ثلاثة انقلابات كبيرة ومكلفة.
الانقلاب الأول يقوده رجل اسمه فلاديمير بوتين، كان يفترض أن يكون شريكه ومنافسه تحت سقف العالم الذي ولد غداة اندحار الاتحاد السوفياتي وانتحاره. أخفى بوتين طويلاً مراراته وأظافره بانتظار اللحظة المناسبة. ما زال يعتبر الولايات المتحدة عدواً وخطراً داهماً، بسياساتها وإمكاناتها ونموذجها.
من وجدوا صعوبة في فهم التشدد الروسي في الملف السوري يستطيعون الآن العثور على التفسير. في الملف السوري أراد بوتين أن يثبت أن مرحلة القوة العظمى الوحيدة المطلقة الصلاحيات قد انتهت. وأن روسيا لن تسمح لأميركا بالتدثُّر بعباءة مجلس الأمن لاقتلاع نظام هنا أو هناك. قدَّم على الأرض السورية دليلاً على محدودية القوة الأميركية بعد حربَيْ أفغانستان والعراق. ساعده الالتزام الإيراني القاطع بمنع إسقاط النظام السوري.
مع اندلاع الأحداث في أوكرانيا تبيَّن ان بوتين تخطى تسجيل الاعتراضات والمواقف والمشاكسات إلى إطلاق انقلاب على التوازنات التي قامت غداة تواري الاتحاد السوفياتي. بضلوعه الواضح في عملية تفكيك أوكرانيا، بعث بوتين برسالة صارمة الى الدول المجاورة لبلاده وهي رسالة صارمة أيضاً لأميركا وأوروبا وحلف «الناتو». انتقلت روسيا من الدفاع الى الهجوم. تحاول رسم مجال حيوي لن تسمح للدول الواقعة فيه بالتحول بيادق أطلسية أو منابر للترويج للثورات الملونة.
كانت القارة الأوروبية تعتقد بأنها ودَّعت هذا النوع من السياسات والممارسات. لعلها أساءت تقدير أن يكون الكرملين في عهدة كولونيل سابق في «كي جي بي» كان يرسل تقاريره بالحبر السرّي من قرب جدار برلين. عاودت رياح الحرب الباردة هبوبها، وها هم جنرالات الأطلسي يتولّون تحديث خطط قديمة، وها هي دول البلطيق تتحسس خرائطها وأقلياتها الروسية فيما تعاود بولندا البحث عن ضمانات ضد أشباح التاريخ.
الانقلاب الثاني يقوده المرشد الإيراني صاحب الكلمة الأخيرة بغض النظر عن قبضة أحمدي نجاد أو ابتسامة روحاني. المفاوضات النووية لم تلجم الاندفاعة الإيرانية في الإقليم، والدليل المجازفة الحوثية في اليمن. قد تكتفي إيران بامتلاك القدرة على صنع القنبلة في هذه المرحلة من دون انتاجها، لكن ذلك لا يلغي التغييرات الفعلية التي أجرتها في عدد من دول المنطقة. المسؤولون الإيرانيون أنفسهم يفاخرون بامتلاك التأثير الحاسم في أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. هذه التغييرات تشكّل انقلاباً صريحاً على التوازنات التي كانت قائمة في المنطقة قبل سقوط جدار صدام حسين.
الانقلاب الثالث يقوده «الخليفة» ابو بكر البغدادي، وهو انقلاب على التوازنات الإقليمية والقيم العالمية وعلى التعايش والحدود الدولية. عوامل عدة سهّلت للبغدادي إطلاق انقلابه. ويلات الحرب السورية. سياسات الثأر في بغداد. انتكاس العلاقات السنّية - الشيعية في الإقليم. الخوف من نجاحات البرنامج الإيراني.
أرغم انقلاب «داعش» إدارة اوباما على إعادة طائراتها ومستشاريها الى المنطقة التي حاولت الفرار من وحولها. لا خيار أمام أميركا غير إلحاق الهزيمة بـ «داعش». ثمة من يعتقد بأن اقتلاع «دولة» البغدادي سيؤدي الى ما يشبه اقتلاع نظام صدام. أي أن إحباط الانقلاب الثالث سيساهم في تعزيز موقع الانقلاب الثاني. وثمة من يرى أن الحسابات الروسية والإيرانية ليست متطابقة في سورية والمنطقة، وأن أي صفقة فعلية بين ورثة الخميني و «الشيطان الأكبر» ستشكل خسارة فعلية لروسيا.
لا يملك أوباما استراتيجية واضحة ومقنعة في التعامل مع الانقلابات الثلاثة. يراهن على إلحاق الهزيمة بـ «الخليفة» مهما تأخّر الوقت. يراهن على تسوية مع المرشد تاركاً للإيرانيين أنفسهم مهمة دفع الثورة الى التقاعد في ظل دولة طبيعية، وإن تأخّر الموعد. يراهن على ان تؤدي أوجاع الاقتصاد الروسي الى لجم الميول الانقلابية لقيصر لم ينسَ الانقلاب الأميركي الذي أطاح جدار برلين ودفع الاتحاد السوفياتي الى المتاحف.

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٥
معركة جنوب سورية: من يحرّك ماذا؟

انهالت الاتهامات من النظام السوري وحلفائه (إعلام حزب الله وإيران) على الأردن، في الأيام الماضية، بتهمة أنّه يحرّك الجبهة الجنوبية، ويقود عمليات المعارضة، من أجل السيطرة على كل درعا والوصول إلى تخوم دمشق.

وعلى الرغم من أنّ هذه الاتهامات غير صحيحة، كما يعرف النظام السوري، إلّا أنّها ليست مجّانية، ولها أهداف سياسية وإعلامية، في مقدّمتها التغطية على العملية العسكرية الكبرى، غير المسبوقة، التي يقودها حلفاء دمشق، بقيادة الجنرال الإيراني المعروف، قاسم سليماني، مع مليشيات تابعة لفيلق القدس (الحرس الثوري الإيراني)، ويشارك فيها حزب الله اللبناني مع أبرز قياداته العسكرية، لتغيير الواقع الحالي، بعدما أحرزت المعارضة السورية المسلّحة تقدماً عسكرياً ملحوظاً في القنيطرة وريف درعا.

الغاية من إقحام الأردن في الهجوم الإعلامي والسياسي وضع ضغوط شديدة، وقيود على الموقف الرسمي الأردني الرافض قيام محور النظام السوري بهجوم عنيف شامل على درعا، لما لذلك من آثار مباشرة وخطرة على الأمن الوطني الأردني الذي حافظ، خلال الأعوام الماضية، على "معادلة" عسكرية- أمنية مقبولة في جنوب سورية، عبر تهدئة تلك الجبهة، وبناء حالة من التوازن، بما يحدّ من آثار ذلك على الحدود الأردنية.

تتمثل خطورة ما يحدث، اليوم، على الأردن في جوانب استراتيجية مهمة، في مقدمتها القلق من أن يؤدي هجوم دموي كبير، كما يحدث حالياً في ريفي دمشق ودرعا، إلى الضغط على عشرات آلاف السوريين الصامدين إلى الهرب من نيران المعارك المحتدمة باتجاه الأردن، ما يعني ضغوطاً شديدة على الأمن والاقتصاد والوضع الديمغرافي- الاجتماعي.

من ناحية أخرى، إنّ انهيار قوات المعارضة أمام هذا الهجوم الشرس من عدة محاور سينقل المعارك إلى مقربة الحدود الأردنية، وسيؤدي إلى وصول إيران وحزب الله والمليشيات الشيعية الموالية لطهران إلى مناطق قريبة جداً، كانت، في الأعوام الماضية، ساكنة نسبياً، ما قد ينقل جزءاً أساسياً من الأزمة والمشكلات العسكرية والأمنية والسياسية إلى الحدود الأردنية مباشرةَ، وينهي نظرية "الوسادات" التي اعتمد عليها الأردن كـ"مصدّات" للأزمات في جنوب سورية وغرب العراق.

يعرف النظام السوري، تماماً، أنّ الأردن حافظ على حدوده الشمالية، وحرم المعارضة المسلّحة في حوران من السلاح النوعي، ولم يفتح الأبواب لجبهة قاتلة، كما حدث على الحدود التركية، لكن هذه المعادلة إذا ما تغيّرت، وأصرّ المحور الإيراني على البدء بـ"لعبة الموت" في جنوب سورية، فإنّه يمارس، بذلك، ضغوطاً شديدة على صانع القرار في عمّان، ليدافع عن الأمن الوطني، في مواجهة تداعيات ذلك، وهو ما كان الأردن قد حذّر حلفاء دمشق الروس منه قبل أشهر، بما في ذلك من تغيير جذري في قواعد اللعبة السياسية.

من الواضح أنّ القرار الأردني يتمثّل بعدم الانجرار لأي تورط في أي دور في ما يحدث في سورية، وليس من مصلحة الأردن، أمنياً واستراتيجياً، ذلك. وهذا الموقف لن يتغيّر، فمن المستبعد، على الرغم من قساوة الهجوم الحالي أن تكون هنالك تغييرات جذرية، إذ إنّ المعركة بالنسبة للمعارضة السورية وجودية، ربما تحدث تغييرات يريدها النظام السوري، سياسياً وعسكرياً، في مثلت ريف دمشق، ريف درعا والقنيطرة، لحماية دمشق وإضعاف الحاضنة الشعبية في ريفه، خصوصاً بعد الهجوم الصاروخي غير المسبوق لجيش الإسلام على العاصمة.
"تبدو النتيجة الموضوعية لضعف القوى المسلحة الحالية في الجنوب هي تحول ولاء فصائل وجزء من الحاضنة الاجتماعية نحو داعش"

إلّا أنّ الهاجس الرئيس الآخر يتمثّل، اليوم، في أنّ انهيار المعارضة المسلحة في جنوب سورية سيعزز من احتمال تمدد داعش إلى تلك المناطق، ونقل المعارك في شمال سورية وشرقها إلى الجنوب، بما يحمله ذلك من تغيير كامل على قواعد اللعبة، منذ بدء الصراع المسلح في سورية. وذلك، بالنسبة للأردن، خطّ أحمر غامق، في ظل الحرب الراهنة مع هذا التنظيم، تحديداً بعد استشهاد الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، وما تبعه من إعدام الأردن سجناء محكومين بالإعدام، محسوبين على التنظيم، وشنّ غارات جوية مكثّفة على معاقله، وزيادة جرعة الدور الأردني في التحالف الدولي، أمنياً وعسكرياً.

خلال الفترة الماضية، كانت درعا والمناطق الجنوبية بعيدة عن يد تنظيم داعش، لأسباب عديدة. لكن، مع تغيّر الاستراتيجيات الدولية والإقليمية، والمعاناة التي يجدها الجيش الحرّ والفصائل المسلّحة في تأمين السلاح والمال، نما حضور جبهة النصرة في الجنوب، وأصبح لها نفوذ كبير هناك، بل أصبح من أهم معاقلها الأساسية.

وعلى الرغم من العداء والخلافات بين النصرة والأردن، وخروج الجبهة عن الخطّ الذي رسمه الأردن لمعادلة الجنوب، إلّا أنّ مشكلتها مع الأردن لا تصل إلى العداء الذي وصلت إليه علاقة الأردن بداعش، فيما تبدو النتيجة الموضوعية لضعف القوى المسلحة الحالية في الجنوب هي تحول ولاء فصائل وجزء من الحاضنة الاجتماعية نحو داعش الذي يملك المال والخبرة المسلّحة، وأخذ يتمدد في المناطق السورية بسرعة كبيرة في الشهور الماضية.

خلاصة الأمر؛ لعبة الموت الحالية في الجنوب السوري لن تؤدي إلى حسم عسكري، كما يطمح محور النظام السوري، بل إلى انهيار القواعد التي حكمت تلك المعادلة سابقاً، والدخول في حالة من الفوضى الأمنية والعسكرية وتغيير السياسات والاستراتيجيات الإقليمية!

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٥
خرافة الحل السياسي في سورية

ليس هناك شخص عاقل واحد يعتقد أن من الممكن التوصل إلى حل سياسي مع بشار الأسد، ومن ورائه، مع خليفة قم علي خامنئي، تماماً كما لم يكن من الممكن لعاقل في عموم أوروبا أن يعتقد أن من الممكن التوصل إلى حل سياسي مع أدولف هتلر. وهذا ما أثبتته الأحداث على مدى السنوات الأربع الماضية. فالأسدية ليست بالأصل سياسة، إنها الحرب، ولم تعرف يوماً التعامل مع الشعب بغير العنف والإخضاع بالقوة والقهر. ومشروع النظام القائم على الانفراد بالسلطة والسيطرة من طغمة مافيوية فاشية، لا يقبل أي بديل عن لغة التصعيد الانتحاري، وشعارها: إما قاتل أو مقتول، ولا توسط بينهما. أما طهران التي تمسك، اليوم، بمصير هذه القيادة الانتحارية، فهي تعيش حالة من الجنون القومي المذهبي الذي يدفعها إلى الركض وراء سراب إعادة بناء الامبرطورية الفارسية على أسس دينية في المشرق العربي كله، كجزء من تحدي الغرب والتاريخ، وتنظر إلى سورية باعتبارها حجر الزاوية في مشروعها الإمبراطوري هذا، وتعرف أن التخلي عن السيطرة عليها، أو القبول بالمشاركة فيها مع قوى إقليمية أخرى، بل حتى مع الشعب السوري نفسه، يقوّض طموحها، وليس أمامها خيار سوى الاستمرار في التصعيد، مهما كانت الخسائر، إلى أن
تحقق أهدافها. تبدو قم، اليوم، مدانة بالدخول في المغامرة نفسها التي دفعت الحركة الصهيونية إلى ارتكاب جريمة الإبادة السياسية، قبل الجسدية، لشعب كامل: ترسيخ الاحتلال وإدامته لتغيير البنية السكانية، وتغيير البنية السكانية، على الأقل في المناطق الاستراتيجية، لترسيخ أقدام الاحتلال في سورية ولبنان بعد العراق. وهي تحلم أن تحقق ذلك من خلال التفاهم مع واشنطن، في سياق التوقيع على الملف النووي، والتغطية على مشروع احتلالها بفكرة المقاومة لإسرائيل، والتي تعني، في العمق، تقاسم النفوذ في المنطقة، بعد التوصل إلى تفاهم رسمي مع تل أبيب، يسمح بتقنين وجودها في سورية، تماماً كما حصل من قبل عند تقنين وجود نظام الأسد في لبنان، ثمن ضمانه أمن إسرائيل.

لهذا السبب، أخفقت كل مبادرات الحل السياسي، سواء التي بدأها أصدقاء النظام، منذ الأشهر الأولى من الثورة، القطريون والأتراك والسعوديون والأوروبيون وغيرهم، كما أخفقت مبادرة جامعة الدول العربية، ومن بعدها بعثة كوفي أنان لتطبيق بيان جنيف، ومهمة الأخضر الإبراهيمي التي انتهت مع فشل لقاء جنيف2 الذي لم يشهد أي نقاش سياسي، سوى الاتهامات بالتخوين والشتائم السوقية التي كالها وفد الأسد لوفد المعارضة. وقد اضطر المبعوثان الكبيران للاعتراف بفشلهما، ومسؤولية نظام الأسد عنه، وقدما استقالتهما.

أما المبادرات المتعددة التي يدور الحديث عنها، بعد فشل مؤتمر جنيف، فهي لا ترقى إلى مستوى المبادرات، ولا حتى الأفكار الواعدة. ومعظمها لا يهدف إلا إلى اللعب على المعارضة، السياسية والعسكرية، بهدف تأهيلها لتقديم التنازلات التي من "المحتمل" أن تساعد على تذليل العقبة الروسية، مع العلم أن روسيا، على الرغم من دورها العسكري المهم، ليست قادرة على فرض أي حل، لا على الأسد ولا على طهران. ولا يختلف الوضع عن ذلك في ما يتعلق بمبادرة مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان ديميستورا، التي تعترف سلفاً بالفشل، ولا تطمح، مع غياب أي أمل في حل سياسي أو عسكري، إلى أكثر من المساعدة على عقد هدن محلية، بهدف التخفيف من معاناة السكان، هنا وهناك.

السياسة ليست بديلاً للحرب
"تعيش طهران حالة من الجنون القومي المذهبي الذي يدفعها إلى الركض وراء سراب إعادة بناء الامبرطورية الفارسية على أسس دينية في المشرق العربي كله"

من هنا، لا يعني الاستمرار في تمسك الأمم المتحدة والدول الكبرى والعالم بالحل السياسي أن هناك اعتقاداً لدى أحد بوجود إمكانية للحل بالفعل، وإنما هو وسيلة للتهرب من الاستنتاج المنطقي لانعدام فرص هذا الحل، وما يمليه ذلك من واجبات والتزامات على الأمم المتحدة والدول التي يلزمها ميثاقها بعدم الوقوف مكتوفة الأيدي أمام حرب إبادةٍ، تقوم بها طغمة أصبحت أداة بيد دولة أجنبية، بعد أن اختطفت الدولة ومؤسساتها. بمعنى آخر، يستخدم اللعب بالحل السياسي لملء الفراغ الدبلوماسي، وتغذية الوهم بأن هناك تحركاً دولياً، وأن الشعب السوري ليس متروكاً وحده يذبح على مرأى العالم ومسامع الدول الكبرى، وهذه هي الحقيقة. كما تستخدم المبادرات أو المناورات الدبلوماسية للتغطية على الفشل الذريع للأمم المتحدة، وبان كي مون شخصياً، في اتخاذ إجراءات حاسمة، لوقف الحرب، أو التخفيف من معاناة السوريين. لكن وظيفتها الأهم والأخطر هي حرف نظر الرأي العام السوري والعربي والدولي عن الاستقالة الأخلاقية والسياسية للغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، تجاه الأزمة السورية. وقد استخدمت، خلال السنوات الأربع الماضية، لخداع المعارضة، وتبرير رفض واشنطن القيام بأي عمل جدي لإنقاذ الشعب السوري.

لن تكون هناك نهاية للحرب، مع استمرار الخيارات السياسية الراهنة للدول، وللولايات المتحدة بالذات. ولن يكون هناك أي حل سياسي، لا يكون مجرد استسلام للأسد وخامنئي، ما لم يتم تحطيم آلة الحرب المشتركة للقرداحة وطهران، والمكونة من بقايا الجيش السوري والمليشيات المذهبية المجيشة من عشرات الدول والبلدان. وكل تأخير في إنجاز هذا العمل لن يعني سوى السماح بمزيد من التصعيد في العنف والوحشية، ومن تفاقم الأزمة السورية ومعاناة السوريين، ومن مخاطر انتقالها إلى الدول المجاورة.

لا مهرب من تدخل عربي
إذا كانت الدول الغربية لا تشعر بالخطر القريب من جراء استمرار القتل والدمار في سورية، ولا تعاني من غياب الحل السياسي وانعدام إمكانية الحسم العسكري معا، فذلك لا يمكن أن ينطبق على البلاد العربية، ولا على تركيا التي تعيش في قلب العاصفة، سواء بسبب ما يتعرض له أمن هذه الدول، القومي والأهلي، من تهديدات خطيرة بانهيار الدولة السورية، والإمساك بها من طهران وقوات الحرس الثوري، واستخدامها منصة للعدوان على جاراتها والضغط عليها، أو بسبب إسقاطات الأزمة السورية، السياسية والإنسانية عليها. ولا ينبغي للدول العربية، وليس من مصلحتها، أن تقف مكتوفة الأيدي، أو تنتظر حتى يكتمل انتشار سرطان العنف والفاشية في جسدها. عليها أن تتحرك، وتجبر الأمم المتحدة، وبقية دول العالم، على السير وراءها، للدفاع عن مصالحها القومية ومصالح شعوبها.

فسورية ليست جزءاً من الوطن العربي فحسب، لكنها مركز توازن المشرق بأكمله. والسيطرة عليها ستحدد مصير المنطقة ومآلات السيطرة الإقليمية. الاستمرار في تجاهل ما يجري فيها يعني، ببساطة، تقديم سورية لقمة سائغة لطهران، والتخلي عنها لصالح سيطرة المليشيات المذهبية المتطرفة من كل دين، أي القبول بالاستسلام الكامل أمام التوسعية القومية المذهبية الإيرانية والاعتراف بالهزيمة من دون حرب، وتكريس شلل المجموعة العربية وانقسامها، وتشجيع خصوم الدول العربية جميعا على التحرش بها، والاعتداء عليها، بما في ذلك مليشيات المرتزقة والمجموعات الإرهابية، وفي النهاية، خسارة كل الجهود التي بذلتها بلدان المنطقة، للحفاظ على الاستقرار والسلام والأمن الإقليمي.

كان على الدول العربية، ولا يزال، أن تعتبر قضية الحرب الدموية في سورية قضية عربية أولاً، وتدعم مبادرتها السياسية، التي تبنتها الأمم المتحدة، وتحولت إلى مبادرة أممية فاشلة، بسبب غياب آليات العمل وأدوات التنفيذ، بمبادرة عسكرية تفرض على الأطراف السورية الإذعان لمبادئها وشروطها، وتضع حداً لسفك الدماء وتمزيق البلاد وتسابق المجموعات الإرهابية والميليشيات المذهبية على السيطرة على أراضيها، وإقامة إمارات خاصة فيها.
"يستخدم اللعب بالحل السياسي لملء الفراغ الدبلوماسي، وتغذية الوهم بأن هناك تحركاً دولياً، وأن الشعب السوري ليس متروكاً وحده يذبح على مرأى العالم ومسامع الدول الكبرى"

فأمن سورية جزء أساسي من أمن المشرق العربي، وهذه حقيقة وليست على سبيل المبالغة. وسوف يتأكد ذلك أكثر مع الزمن، بعد أن تظهر الانعكاسات الخطيرة لأزمتها على الدول والمجتمعات العربية القريبة والبعيدة، بل على العالم أجمع. وتكفي الإشارة، منذ الآن، إلى الخلل الاستراتيجي الذي أدت إليه بتمكينها طهران وحلفاءها من تطويق الجزيرة العربية، وتهميش مصر وشمال أفريقيا وإخراجهما من المنطقة، وإطلاق شياطين الحرب المذهبية والطائفية الإقليمية التي تهدد الجميع، وتفكيك نسيج المجتمع السوري، ودفع الملايين من أبنائه إلى اللجوء والتشرد والضياع، وما يعني ذلك من كارثة إنسانية للسوريين ولعموم المنطقة، من دون الحديث عما أصبحت الأرض السورية تمثله من مرتع لبؤر التطرف الديني وغير الديني، ومن قطب جذب لجميع العصابات الدموية إلى المنطقة.

والحال أن الدول العربية استهانت بالصراع السوري، ورمت مسؤولية حله على الأمم المتحدة مع علمها بأن مجلس الأمن معطل، ولن يكون هناك أي تدخل دولي. واستمرت في سياسة النعامة، خلال سنوات أربع طويلة، من دون أي رد فعل، واكتفت بتقديم فتات الدعم المادي والعسكري والسياسي لقوى مدنية، تسلحت على عجل، ولم تعرف حتى كيف تساعدها على ضبط تنظيمها وتدريبها وتأهيلها، واستهانت بإرادة الهيمنة الإيرانية، وتركتها تحقق أهدافها من دون أي رد فعل. فأعلنت طهران سيطرتها على باب المندب، وإلحاق اليمن صراحة بمشروعها الإقليمي، وإرادتها في تطوير هذا المشروع، في اتجاه دول الخليج في المستقبل. وبهذا تكون الدول العربية قد فتحت أبوابها لكل المخاطر والتهديدات.

ما كان يتوجب على العالم العربي أن يفعله لا يزال يحتاج إلى أن يُفعل. والتأخر في إنجازه لن يحل الأزمة، لكنه سوف يزيد من تكاليف مواجهتها ومخاطرها الإنسانية والسياسية والعسكرية، بصورة يمكن أن تصبح غير قابلة للاحتمال، بمقدار ما سوف يدفع إلى تفاقمها، ويوسع من دائرة انتشارها وتهديداتها. ما كان على أوروبا أن تفعله لمواجهة النازية الهتلرية هو تماما ما ينبغي على البلاد العربية وتركيا أن تفعلانه، بدعم من الأمم المتحدة والتحالف الدولي، أم بدونهما. وهذا هو الوقت، وليس بعد أن توقع واشنطن وطهران مذكرات التفاهم وحل موضوع الملف النووي الإيراني.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان