انتهى زمن البروتوكولات السياسية والتصاريح المنمّقة في العالم، بما يتعلق بالملف السوري. الزمن الآن هو زمن السياسة المقترنة بالحراك العسكري. لم يعد كافياً الاكتفاء بالوجود الإقليمي في سورية، من إيراني وعراقي ولبناني وغيره. لم يعد وجود مقاتلين من جنسيات مختلفة في العالم، مرتزقةً كانوا أم مدفوعين بروحية أيديولوجية، قادراً على صياغة واقع جيوبوليتيكي جديد، في الداخل السوري. تحوّلت الأمور إلى "هرولة" أممية سريعة. سباقٍ حتى. قَدَمَ الروس، ليُسيطروا على السماء السورية والبحر السوري وأجزاءٍ من البرّ السوري. لم ينسوا التفاهم مع الإسرائيلي في هذا الصدد، ولم يفوّتوا التدريب المشترك مع الأميركيين حتى.
الأميركيون يقرعون أبواب سورية، بـ50 مستشاراً، في استعادة لمشهد جنود المارينز، العائدين إلى العراق، في يوليو/تموز 2014، بعد توسّع مناطق نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). عديد "المستشارين" سيزداد مستقبلاً "لأسبابٍ متعلقة بالحاجات الأمنية الأميركية"، هكذا ستُعلن بيانات الإدارة الأميركية والبنتاغون لاحقاً، أو شيء من هذا القبيل.
لم يشأ الفرنسيون البقاء بعيداً. يُعيدون رمز الاستقلال عن ألمانيا النازية في 1944، شارل ديغول إلى بلاد الشام، بحاملة طائرات هذه المرّة، لا بشخصه. كولونيالية تذكرت جذورها، بفعل تمدّد كولونيالية أخرى. الأتراك مستنفرون. أساساً عادوا إلى "العمل" مطلع الصيف الماضي، بفعل عودة "العمال" الكردستاني إلى ساحة القتال.
بدأ الجميع ينساق إلى الثقب السوري، والثقب سيبتلع الجميع. قوانين الطبيعة واضحة في هذا المجال. كل من يستولد ثقباً سيغرق هو، وغيره فيه. دول الجوار قريبون بما فيه الكفاية للغرق، واحداً تلو الآخر. ليست أوروبا بعيدة بعد وصول جحافل اللاجئين إليها، وتحوّل منطقة البلقان، بفعل تداعيات الهجرة، إلى بركان خامد، ينتظر أن يرمي حممه في الجوار الأوروبي. للبلقان حكايات دموية تاريخياً.
مسببات كثيرة جعلت من "الثقب" أمراً واقعاً، تراوحت بين تراخي المجتمع الدولي في التعامل والتفاعل مع سورية من جهة، وتغييب محاولات فرض حالة تغييرية تلائم إرادة الشعب السوري، مع تجنّب السيناريوهات العراقية والليبية، في الوقت عينه، من جهة أخرى. بدا وكأن ترك الأمور على غاربها كفيل بمعالجة الأمور "بهدوء"، بعيداً عن السواحل الأوروبية والشواطئ الأميركية. ربما يُترجم هذا الفكر مدى النقص في فهم الجغرافيا السياسية، لدى مهرولين أمميين كثيرين في الوقت الحالي. نقص فهم الجغرافيا السياسية، جعل أكثرية هؤلاء يتجاهلون الإرادة الشعبية، التي حرّكت كل شيء قبل أكثر من أربعة أعوام، قبل بدء محاولات سلبها كل شيء.
وبعد هذا، يتجاهل العالم حقائق متعلقة بحقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية، فقط لأن مصلحته تطغى على أي محاولة للمحاسبة، لو كان فعلاً ينوي المحاسبة. حسناً، رمى بعض هؤلاء قنابل نووية، في أوقات سابقة من التاريخ، وتفاخر آخرون ببناء "قيصريته" خلف ستارٍ حديدي، على شلال من الدماء. بالتالي، لن يكون صعباً فهم كيف يفكرون.
حالياً، لا تعبر سورية والشرق الأوسط من حال عسكرية إلى أخرى سياسية. الأفق العسكري لا يزال يتّسع، ولا مؤشرات على نهايته، ولو وصلنا إلى "فيينا مليون". لا أحد يرغب في أداء دور "شرطي السلام". الجميع يفكر بالحصص المُمكن كسبها في سورية، وفي الحيّز الاقتصادي لاحقاً. ووفقاً لهذا، يعمد المهرولون إلى سورية إلى محاولة التصرّف بشكل سريع ميدانياً قبل إتمام المحاصصة. لا اتفاقية وستفاليا جديدة قريباً، بل "سايكس بيكو" متجدد بصورة أكثر دموية، وبعدد لاعبين أكثر، وبغياب أي وعدٍ "بلفوري" جديد.
هنا، وحده الشعب السوري في هذا الثقب يدفع الثمن. يموت في صراع القوى، من دون أن يدري أنه يموت، لأن كثيرين من "كبار" هذا العالم لم يروا فيه سوى أرقام فحسب، لا مجموعة بشر يستحقون الحياة.
نشرت صحيفة الأوبزيرفر البريطانية، قبل أيام، تقريراً حسّاساً أثار لغطاً سياسياً كثيراً في المملكة المتحدة، بعنوان "أساقفة الكنيسة الإنجليزية في توبيخ لاذع لرئيس الوزراء البريطاني حول أزمة اللاجئين السوريين"، شرحت فيه الصحيفة ازدراء ديفيد كاميرون الرسالة التي أرسلها 84 من أساقفة الكنيسة الإنجليزية، في مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، يعرضون فيها مواجهة أزمة اللاجئين السوريين بتحريك إمكانات الكنيسة الإنجليزية على مستوى "الكنائس، والأديرة، وكل الكوادر البشرية فيها"، لأجل تحريك "الأمة البريطانية" لتأمين "المسكن، والمأكل، والعناية، والدعم" لما لا يقل عن 50,000 لاجئ سوري، خصوصاً الأطفال منهم الذين تشكل معاناتهم "أزمة أخلاقية" خانقة لضمير المجتمع المدني في بريطانيا، كما عبر عن ذلك أسقف مدينة درهام البريطانية، بول بتلر، أحد الموقعين على الرسالة، والتي أفصح كاميرون عن ازدرائه مطالبات أساقفة الكنيسة البريطانية فيها بتجاهل الرسالة أصلاً، وعدم تقديم أي رد فعلي يتناسب مع الوزن النوعي الرفيع للموقعين عليها في المجتمع المدني البريطاني.
وتقوم خطة رئيس الوزراء البريطاني، الفعلية والمعلنة، للتعامل مع الفاجعة السورية على مثلث من النقاط، أولها بتصوير أن حلّ الأزمة السورية يبدأ حتماً بقصف مسلحي تنظيم داعش في سورية جواً، وتجاهل أن السبب الجوهري للمأساة السورية المتمثل بنظام الدولة الأمنية السورية، وممارسات الإبادة الجماعية، والأرض المحروقة التي مثلّت الحالة اليومية لسلوكه، منذ نهاية العام 2011. وثانيها بالعمل تدريجياً على تجريع الشعب البريطاني، والحكومات الأوروبية الشريكة للمملكة المتحدة في الاتحاد الأوربي، بضرورة القبول بحل سياسي مجتزأ للأزمة السورية، يتضمن إقامة حكومة مؤقتة، يرأسها بشار الأسد ستة أشهر، أو لأمد غير محدود، كما أدلى بذلك وزير الخارجية البريطاني، في لفلفة للأزمة السورية، وكأنّ شيئاً لم يكن، ولم يفعل الحدّاد ما فعله بالشعب السوري، ولسنوات أربع من الموت المقيم. وثالث تلك النقاط يتمثل في تسكين أزمة ضمير الشعب والمجتمع البريطاني بالرياء الذي لا ينقطع لرئيس الوزراء البريطاني بالمساعدات المالية التي قدّمها لمساعدة اللاجئين السوريين، ولا تتماشى، في مجملها، مع هول الفاجعة السورية، والوزن السياسي والاقتصادي الكوني للمملكة المتحدة، إذ أنها عاجزة عن أي حلّ جزئي لمأساة أي من السوريين، لكونها لا تقترب من جوهر المأساة، المتمثل في النظام الفاشي الذي انتفض الشعب لتغييره في مارس/ آذار 2011، وتم تحويل انتفاضته إلى حرب بالوكالة لكلّ اللاعبين الدوليين والإقليميين، وقودها وضحاياها من أولياء الدم السوري، في الغالبية الساحقة من تفاصيل جلجلة الشعب السوري.
أما خطة رئيس الوزراء البريطاني بقبول عشرين ألف لاجئ سوري في خمس سنوات، فيبدو
"يريد رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، تهشيم تنظيم داعش عسكرياً الآن، بدل المساهمة في استئصال الأسباب الطبيعية التي أفرزته، بالمساعدة الحقيقية في تحقيق طموح كل عربي مقهور بالحرية، والعدالة"
أنها كانت دعائية موجهة لامتصاص غضب الشعب والمجتمع المدني البريطاني، عقب انتشار صورة الطفل السوري الغريق على الشواطئ التركية، والتي لخّص تقدمها بنفسه رئيس الوزراء البريطاني بأنه ليس لديه أي أسماء أو أرقام لمن تم قبولهم فعلياً، بناءً على ما تعهد به، لكنه سوف يعمل على قبول ألف لاجئ سوري في المملكة المتحدة، قبل عطلة عيد الميلاد المقبلة، وكأنّ اللاجئين السوريين يحتاجون للانتظار شهوراً أخرى، حتى يكتمل نصاب معاناتهم ويصبحوا مؤهلين للنظر إلى معاناتهم بشراً يحتضرون إنسانياً، وروحياً، واجتماعياً بين مهاوي الهجرة من الوطن وأهوال اللجوء الكارثية.
في الأشهر الأولى من عُمْرِ الثورة السورية، حذّر رهط من العقلاء السوريين المقيمين في بريطانيا، وفي اجتماعات متعددة مع وزارة الخارجية البريطانية، من أنّ تجاهل الأزمة السورية سوف يقود، بشكل طبيعي، إلى أن تصبح مشكلة ضاغطة على المجتمعات الأوربية، نظراً إلى القُرب الجغرافي بين الحياضين السوري والأوروبي، واتعاظاً من التجربة المهولة التي قادت مئات آلاف اللاجئين الأفغان والصوماليين إلى أعتاب دول الاتحاد الأوروبي، وبريطانيا تحديداً. وتم اقتراح عشرات الأفكار، لمساعدة الشعب السوري في الانعتاق من نظامه الحاكم إلى أفق نظام ديموقراطي تعددي، كان أبسطها مطالبة السوريين المقيمين في بريطانيا بأن تبادر حكومة المملكة المتحدة بإحالة الأسد وأركان نظامه إلى محكمة الجنايات الدولية، خطوة أولى على طريق تقويض بنيان النظام الفاشي في سورية على المستوى الدولي، وإرغام القوى الدولية والإقليمية للبحث عن بديل أكثر ملاءمة من الذي انتهت صلاحيته بقوة القانون الدولي. وكان الرد السلبي على الاقتراح، المبسط والمتاح تنفيذه، كما نفذته بلجيكا بجلاد تشاد حسين حبري، بالشكل السلبي الذي تم الرد به على كل الاقتراحات الأخرى لدعم الشعب السوري المظلوم بشكل فعلي يتجاوز الحالة الدعائية، والالتزام بشرط المحافظة على توازن اللاغالب واللامغلوب في سورية. وتم تبرير ذلك بأن إحالة نظام بشار الأسد إلى المحكمة الجنائية الدولية سوف تحشره في الزاوية، وتقوده إلى تدمير سورية على طريقة "عليّ وعلى أعدائي". وبعد أن دمّر نظام بشار الأسد سورية أرضاً، وشعباً، ومجتمعاً، ظلَّ الموقف البريطاني الرسمي كما هو عليه، رافضاً اتخاذ وقفة قيادية على المستوى الدولي، لإحالة نظام الأسد وأركانه إلى المحكمة الجنائية الدولية، في تناقض مزمن وعميق مع الواجب الأخلاقي الضاغط الذي يشعر به المجتمع المدني ومؤسساته في بريطانيا، وعبّر عنه أساقفة الكنيسة الإنجليزية بجلاء منقطع النظير.
وعلى المقلب الآخر، قد يحق لبعض السوريين والعرب تذكير الحكومة البريطانية بواجبها الأخلاقي الذي لا يسقط بالتقادم بالتكفير عن ذنبها التاريخي في المنطقة العربية، ابتداءً من النكوث باتفاقاتها مع من والاها من العرب، في حربها ضد السلطة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، والتنصل الأفعوي من اتفاقاتها مع الشريف حسين وأبنائه، مروراً بكارثة الانتداب وتقسيم الأرض العربية إلى دول لم تتمكن، حتى اللحظة، من التعرف على هويتها الوطنية الطبيعية، لكونها اجترحت قسراً بما يتناقض بنيوياً مع قوانين تاريخ نشوء الأمم، ومأساة وعد بلفور وإقامة الكيان الصهيوني، وترك الجرح الفلسطيني متقيحاً مقيماً، وصولاً إلى كارثة احتلال الدولة والمجتمع العراقيين وتهشيمهما في العام 2003، بحجة حماية المملكة المتحدة من خطر أسلحة التدمير الشامل لدى صدام حسين، والتي زعمت حكومة جلالة الملكة أنه يحتاج لما لا يزيد عن 45 دقيقة فقط لإطلاقها، للنيل من أهداف استراتيجية تتبع للمملكة المتحدة، والتي فند الباحث البريطاني المجتهد، مارك كورتيس، في كتابه المهم (اللابشر، الانتهاكات السرية البريطانية لحقوق الإنسان) استناداً إلى الوثائق السرية البريطانية المفرج عنها، كل تلك الأكاذيب، والتي كانت تهدف فقط إلى تهيئة الرأي العام البريطاني، ليقبل جريمة احتلال العراق وتدميره. وقد كتب كورتيس أنها كانت استعادة لنموذج الاستعمار الكولونيالي المباشر، بغرض السيطرة على موارد الطاقة في العراق، وخصوصاً في منطقة البصرة حسب الاتفاق الضمني لتقاسم ثروات العراق مع الساسة الأميركان، ولتعويض خطر نضوب نفط بحر الشمال البريطاني في العام 2005. وهو احتلال العراق وتدميره، ما ولّد بواكير الغول الداعشي، واشتقاقاته، وتلاوينه، والتي يريد رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، تهشيمه عسكرياً الآن، بدل المساهمة في استئصال الأسباب الطبيعية التي أفرزته، بالمساعدة الحقيقية في تحقيق طموح كل عربي مقهور بالحرية، والعدالة، والكرامة، ورغيف الخبز، لا البندقية التي تبيعها له مصانع السلاح البريطاني.
ولأن التاريخ السياسي يؤكد الدور الدعائي المحض لشعارات الالتزام بحقوق الإنسان، حينما تدلي بها أي من الحكومات البريطانية، وعدم اكتراث الأخيرة بالتكفير عن ذنوبها التاريخية الكثيرة في كل أصقاع المعمورة، وفي المنطقة العربية خصوصاً، فمن الحري برئيس الوزراء البريطاني الإنصات لصوت أساقفة الكنيسة الإنجليزية، ومؤسسات المجتمع المدني البريطاني، والتي لا بد لكل العرب المقيمين في المملكة المتحدة من العمل، كُلّ حسب استطاعته، في دعم جهودها في كشف خزي حكومة جلالة المملكة المتحدة، بدل القعود وانتظار أن يصحو ضميرها الأخلاقي الذي تفيد كل كتب التاريخ السياسي بأنه لم يبارح أبداً سباته العميق.
اعتقد كثيرون أن التدخّل الروسي العسكري المباشر في سورية جاء لحساب التحالف المعلن بين إيران وروسيا والنظام السوري، ونشرت صحيفة السفير اللبنانية، المقربة من حلفاء الأخير، أنّ قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، التقى، الصيف الماضي في موسكو، القيادة الروسية، ووضعها في صورة الميدان السوري، نقلاً عن خبراء ومستشارين إيرانيين هناك، وذاع أنه طلب تدخّل الروس جوّاً، وتعهّد بزيادة حجم الضغط الإيراني البرّي على قوات المعارضة، لأن وضع الميدان لم يعد يسمح بمزيد من نزف قوات النظام، فهذا أمر يهدد بانهياره المفاجئ.
طبّل وزمّر النظام السوري وحلفاؤه في لبنان والمنطقة، وحتى في إيران، لهذا التدخّل تحت عنوان "عاصفة السوخوي"، حتى أن قيادات محسوبة على هذا المحور تحدثت عن فترة شهر لظهور بدايات التغيير، وعن ستة أشهر لانتهاء المعركة وحسمها لصالح هذا المحور، إلاّ أنّ نتائج الميدان، بعد شهر من التدخّل، جاءت مخالفة تماماً. فلم يتغيّر شيء لمصلحة النظام على الأرض، على الرغم من الغارات الجوّية الروسية، بل تمكّنت قوات المعارضة من إلحاق هزيمة كبيرة ومدوّية بقوات النظام في أرياف حماه وحلب وإدلب، فيما عُرف بمجزرة الدبابات، فضلاً عن أنّها أحرزت تقدّماً في بعض الأماكن. والأهم أنّ العدد الكبير لخسائر الحرس الثوري الإيراني في سورية سقط بعد التدخّل الروسي المباشر، وبالتالي، فإنّ ما خطّط له الجنرال سليماني، يمكن القول، إنه ذهب أدراج الرياح، وكل الحديث عن زيادة حجم القوات الإيرانية في سورية لم يحمل جديداً ميدانياً.
تمثلت الإشكالية الأهم بين روسيا وإيران في سورية بالموقف السياسي من الأحداث والتطورات، ففي وقت جاهرت روسيا مراتٍ بعدم تمسّكها ببشار الأسد على رأس النظام، بل أيضاً الذهاب إلى حدّ الحديث عن دعم الجيش السوري الحر، وفتح علاقات معه، وصولاً إلى حديث عن تشكيل مجلس عسكري انتقالي، يجمع ضباطاً من النظام والمعارضة، بقيادة العميد المنشق، مناف طلاس، تحت عنوان محاربة تنظيم الدولة. فضلاً عن تجاهل حضور إيران في المحادثات الرباعية التي جمعت وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، إلى وزراء خارجية تركيا والسعودية والولايات المتحدة الأميركية، ومن ثمّ دعوة إيران لاحقاً إلى الاجتماع الموسّع في فيينا. ناهيك عن الحديث الروسي المتكرر عن تنسيق روسي إسرائيلي في الأجواء السورية، وصولاً إلى تدريبات مشتركة، وكذلك مع الولايات المتحدة، وذلك كله جعل إيران تبدي تبرّمها من الموقف الروسي، وتكشف عن حجم الخلاف في الموقف بينهما.
فالمرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، صرّح أن أحداً لا يستطيع أن يقرر مصير سورية بمفرده، في إشارة إلى المبادرة الروسية لأنها الوحيدة المطروحة، وتبعه نائب وزير الخارجية، حسين أمير عبد الله اللهيان، في التهديد بانسحاب طهران من محادثات فيينا "باعتبارها غير بنّاءة"، وصولاً إلى التصريح الواضح لقائد الحرس الثوري الإيراني، محمد علي جعفري، إن همّ روسيا في سورية مصالحها، وليس الحفاظ على بشار الأسد.
هي شكوك إيرانية، إذن، بدأت تحيط بالموقف الروسي، سرعان ما يمكن أن تتحوّل إلى موقف
"باتت سورية عبئاً على الذين أقحموا أنفسهم فيها، ومحرقة للجميع، وشعبها وحده يدفع الثمن"
عدائي، في ظل تصاعد حجم الخسائر الإيرانية النوعية في سورية، إلاّ أنّ السؤال: ماذا تملك إيران لإرباك المخططات والمشاريع التي تسير فيها روسيا في سورية، بموافقة وربما بتنسيق مع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة؟ أول بوادر الإمكانيات والرسائل الإيرانية تمثّلت باستقبال مساعد وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد، الذي رفض من طهران الحديث عن مرحلة انتقالية في سورية، وأصرّ على شرعية الرئيس بشار الأسد، ولافت أن الزيارة والموقف تزامنا مع زيارة المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي مستورا، إلى موسكو لبحث سبل الحل السياسي.
وفي السياق، أفرد أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، لمناسبة يوم عاشوراء، معظم خطابه في "عاشوراء" لمواجهة مشروع أميركا في المنطقة، وكان، قبل فترة، قد تحدث عن هزيمة المشروع الأميركي فيها، وهو ما فسّره بعضهم رسالة إلى روسيا عبر الشيفرة الأميركية، وانعكس ذلك مزيداً من التعقيد في المشهد اللبناني، بعدما كان اللبنانيون ينتظرون حلولاً لمشكلات يعانونها.
هل يتحوّل هذا الخلاف أو التباين الروسي الإيراني في سورية إلى صدام، ولو بحدود بسيطة ومحدودة؟ أم يمكن أن يدخل الأمر تسوية ثنائية بين الطرفين ضمن التسوية الشاملة؟ ستحرص إيران على تسوية تحفظ لها دورها ومصالحها في سورية، بعدما باتت مهددة في ضوء التدخّل الروسي، ومن ضمن التسوية الشاملة التي يتمّ الحديث عنها، لكنها حتى تحقق هذا المطلب قد تلجأ إلى توجيه رسائل ميدانية إلى روسيا في سورية، وهي قادرة على ذلك. ولكن، من دون أن يعني ذلك إطاحة مصالح الدولتين معاً إلا في حال شعرت أن الطرف الآخر يحاول التضحية بكل مصالحها.
هي سورية، إذاً، باتت عبئاً على الذين أقحموا أنفسهم فيها، ومحرقة للجميع، وشعبها وحده يدفع الثمن، تُستنزف يومياً بمقدار ما تَستنزف الجميع أيضاً حتى الوصول إلى حالة الإنهاك التي يأتي بعدها الحلّ.
هل وصلت روسيا إلى قناعة بضرورة تغيير موقفها من مسألة مصير بشار الأسد، وفتحت تالياً الباب أمام مقاربات جديدة للأزمة، أكثر ديناميكية وقابلية للتفاهم. وهل تتجه علاقاتها مع إيران في سورية إلى التناقض والاختلاف، كما بيّنته بعض التصريحات، وتسعى إلى اصطفافات عملية أكثر جدوى؟ أم أنّ الأمر لا يعدو كونه أكثر من تكتيك مرحلي، تطرحه موسكو لمواجهة الضغوط الدولية عليها، والتأثير على الجبهة المقابلة لها في سورية؟.
نظرياً، ثمّة معطيات كثيرة تعزز إمكانية حصول تحوّل في الموقف الروسي، وتدفع إلى تصديق احتمالية حصول تغيّرات في هذا الشأن، مع الإشارة إلى أنّ هذا الموقف يأتي بعد شهر تماماً من بدء الضربات الروسية، ونتيجة تقييم عقلاني لحملتها العسكرية التي لم يعد خافياً استنفادها القدرة على تغيير المعادلات على الأرض لصالح نظام الأسد وحلفائه، بعد انكشاف حجم اهتراء هذه البنية، بحيث لا يمكن الاعتماد عليها في إنجاز تغييرات مهمة، وخصوصاً بعد استطاعة المعارضة استيعاب الصدمة، والتكيّف مع الوقائع الجديدة، والعودة إلى المبادرة على الأرض.
إضافة إلى هذا العامل، إدراك موسكو أنّ فترة الشهر كانت مرحلة سماح من الأطراف الإقليمية والدولية لروسيا، فلم يقابلها أي تدخل عنيف من هذه الأطراف التي لديها خيارات وأوراق كثيرة من شأنها تحويل التدخل الروسي إلى كارثة، معطوف عليه حقيقة أن روسيا لا تملك في سورية ما يكفي من الأصول العسكرية القادرة على احتواء ومواجهة تحركات طارئة، قد تضطر الأطراف المواجهة إلى القيام بها، بالإضافة الى ضعف قدرتها التقنية في الإمداد اللوجستي.
وفوق ذلك كله، لا زالت الأطراف المواجهة لها في سورية، السعودية وتركيا وقطر، تصر على سياسة النوافذ المفتوحة مع روسيا، وهي سياسة على الرغم من مرونة أطرافها، إلا أن احتمالية استمرارها في ظل تعنت روسيا وإصرار قيادتها على تجاوز مصالح الآخرين، والعبث بأمنهم الإقليمي، لا وجود لضمانات باستمرارها طويلاً، وبالتالي، تتسرب مع إغلاقها مصالح وفرص كثيرة، وتضيع كل إمكانيات المساومة.
ونظرياً أيضاً لا بد أن روسيا صارت على إحاطة تامة بطبيعة المشروع الإيراني وأهدافه،
"لايرغب الروس في التورط في صراع مذهبي، يؤلب عليهم ليس فقط المسلمين في العالم، بل أكثر من عشرين مليون مسلم من أصل روسي"
وهي، وإن كانت تتقاطع معه في الحفاظ على النفوذ داخل سورية، إلا أن نقاط الاختلاف والتفارق حاضرة بكثافة أيضاً، ولعلّ أولها عدم رغبة الروس في التورط في صراع مذهبي، يؤلب عليهم ليس فقط المسلمين في العالم، بل أكثر من عشرين مليون مسلم من أصل روسي، بالإضافة إلى تناقض هذا التحالف مع مشروعها في سورية، القائم على دمج المكونات العسكرية السورية حصراً، ضمن جسد عسكري واحد، واستبعاد المنظومة المليشياوية التابعة لإيران.
كما أن استمرار تلك العلاقة مع منظومة إيران يعد استفزازاً وتحدياً للطرف العربي، الذي طالب بإخراج إيران وأذرعها من المعادلة السورية، وهذا النمط من التحدي سيجعل من أي سلوك معاد للوجود الروسي عملاً مشروعاً، ليس فقط بالنظر للارتباطات القومية والدينية مع الشعب السوري. ولكن، أيضاً لأن ذلك سيعني بصراحة دعماً واضحاً للطرف الإيراني في الصراع الإقليمي، وتشكّل إسرائيل عاملاً مهماً في هذا الاتجاه، إذ إن إعلان قادة الحرس الثوري الإيراني أن روسيا غير سعيدة بالتعامل مع حزب الله لا يعني نقداً لأدائه الميداني في سورية، بقدر ما يشير إلى محاولة حزب الله استغلال الغطاء الروسي لنقل أسلحة من سورية إلى لبنان، وهو ما تكشفه بوضوح الغارات الإسرائيلية المتوالية في الأسبوع الماضي على مواقع للجيش السوري في القلمون، من دون اعتراض روسي، علما بأن هذه المنطقة تقع في عمق قلب عمليات وخطوط حركة الطيران الروسي، لتوسطها المنطقة بين حمص ودمشق، ولا تبدو روسيا مستعدة لخسارة إسرائيل في هذه المرحلة، على الأقلّ من أجل الضغط على الرأي العام الأميركي وإسكاته.
إذاً، من الناحية النظرية، تبدو موسكو، وبعد شهر من التدخل الروسي، أمام خيارات ضيقة، إما تصريف تدخلها العسكري على شكل مكاسب دبلوماسية، تتمثل باعتراف العالم بها قوة محورية في المستقبلين السوري والإقليمي، وهذا يتطلب إنجاز تسويات سياسية، تلتقي فيها مع القوى الأخرى في منتصف الطريق، أو الذهاب إلى التشدّد الذي لن يعني سوى الغرق والاستنزاف في المستنقع السوري، والخسارة حتى لو تأجلت إلى حين.
أي الطريقين تختار روسيا؟ وهل هي صادقة في ادعاءاتها؟ في الواقع، إن فحص الفرضيات التي بنى الروس على أساسها تدخّلهم في سورية، والقائمة على قناعتهم بأن التدخل قد ينجح بالفعل، وأن بشار الأسد قد يبقى في السلطة، لا يبشر بإمكانية حصول تغيير في موقفهم، ولا يمكن المراهنة على فترة الشهر، وتقييمهم له، وقد يكون ما يصدر عن موسكو، ويفيد عكس ذلك مجرد اختبارات يجري إطلاقها لفحص استعدادات الآخرين، أو حتى لإلهائهم مرحلياً. وقد يعبر عن توجهات لتيارات معينة داخل الكرملين، وليس لدى الجميع، أو حتى تكتيكات آنية، تهدف إلى الحصول على عروض من الطرف العربي، وتنازلات من إيران.
في كل الأحوال، يمكن تحويل هذه التوجهات الأولية إلى سياسات روسية فعلية، إذا عملت الأطراف على انتهاج استراتيجية واضحة في مواجهة التدخّل الروسي وتقليص الخيارات أمامه، بدلاً من انتظار أن تقرر موسكو نوع التكتيكات التي يجب استعمالها، لا بد من التفكير بطريقة تجعل روسيا في موقع من ينتظر المبادرات وبالونات الاختبار من الآخرين.
لعلَّ أكثر موروثاتنا الجدليّة نشأت إشكالياتها من (مكانة الأشخاص وسحْبِها على قداسة المبدأ)، أو من الخلط بين هذين (الأشخاص والمبادئ)، حيث أول ما يبدأ الجدل في تصرفٍ ما للشخص تطغى مكانته، ويصبح الجدل اتهامًا لمخالفيه قبل قياس تصرفه على معايير الحق والباطل، ولستُ هنا في مورد عرض تفاصيل الحادثة الأخيرة التي جرت مع البطل "عبد الباسط ساروت" لا دفاعًا ولا اتهامًا، ولكني هنا في مورد عرض الطروحات التي ناقشت القضية، وخاصةً تلك التي استثنت كل ما يجري وقالت: "وقت كان الساروت يغنّي للثورة وين كانو هدول اللي محاصرينو" ـ أو ما شابهها ـ وإني أظن أن "الساروت" نفسه لا يقبلُ كلامًا كهذا بعيدًا عن الحق وعن صيغه وعن أساليب تحقيقه.
إن طغيان مكانة الأشخاص في القضايا ـ وخاصةً في الأوقات الحرجة كهذه ـ طغيانها على القضيّة ذاتها إنما تُسيء للأشخاص أنفسهم ولكل أطراف القضية ولمتابعيها، فمن قال لأولئك أن الطرف الآخر في قضية "الساروت" الأخيرة لم يقدموا ولم يكونوا في بداية الثوار؟، ليست القضية إبرازٌ لعضلات التاريخ، ولكن القضية هي ماذا يجري الآن؟ ولابد من الحفاظ على الشخص وعلى مكانته ولكن دون جعلها "غافرةً" لأخطائه وعثراته، لأنه إنْ لم يكن مخطئًا فصوابه في القضية الإشكالية أولى من تاريخه المُشرِّف، وإنما سيُضاف عمله هذا إلى تاريخه فيكون ذخيرةً في قضية شعبه كلها، وإنْ كان مخطئًا فالحق أولى أن يقف عنده، ونزوله عند الحق تشريفٌ له ورفعٌ لمكانته.
من المفارقات الغريبة، أن الذين طعنوا في "الساروت" عند انتشار خبر مبايعته لـ "داعش" ولاموا على الناس جعل الأحياء رموزًا للثورة ـ لأنهم لا يدرون ماذا يُحْدِثون بعد ذلك ـ واتّهموا اللِّحى بسرقة الثورة، كثيرٌ من أولئك اتّهم من حاصر "الساروت" بالاعتداء على "الثورة" وعلى أحد "رموزها" ولاموا أيضًا من يؤيّد الحركات الإسلامية واستدلّوا بهذه القضية على تسلطهم وسرقتهم للثورة، وردد بعضهم (وين كانوا لما الساروت عمل ..) ـ أو ما شابه ذلك ـ، غير واقفين على القضية وإشكالياتها، ومن الممكن أن يكون فيها "الساروت" مُحقًّا غير محتاجٍ إلى تاريخه لإثبات أحقيّته، أو من الممكن أن يكون مُخطئًا، ولا يجوز أن يبرر له ذلك تاريخه الثوري الذين نفتخر فيه.
إن خروج "الساروت" من منطقته وانتقاله إلى أخرى، ولعل مطلب خروجه كان أحد جوانب القضية، قد ردّ بهذا كثيرًا من الخيارات السيئة الأخيرة التي لم تكن لتُحمَدَ عواقبها في حالٍ من الأحوال، وقد أضاف إلى تاريخه المليء بالبطولة، بطولةً أخرى.
هناك مخاوف جدية في الدوائر الغربية من احتمال حدوث «خطأ» يؤدي إلى مواجهة غير محسوبة العواقب بين أميركا وروسيا في الأجواء السورية التي باتت مكتظة بالطائرات المقاتلة والحسابات السياسية والاستراتيجية المتضاربة. على السطح تبدو الأمور هادئة نسبيًا، بينما تجري الاتصالات بين واشنطن وموسكو في اتجاهين؛ الأول محاولة التوصل إلى تفاهم يساعد في إيجاد حل «سلمي» للأزمة السورية، والثاني العمل على التنسيق لتفادي أي اصطدام عسكري في الأجواء السورية. لكن بعيدًا عن الأضواء، يعزز الطرفان إمكاناتهما العسكرية تحسبًا لإمكانية حدوث مثل هذا الاصطدام نتيجة خطأ عسكري أو سياسي، في وقت عادت فيه أجواء الحرب الباردة بينهما.
في أواخر الشهر الماضي أعلنت وزارة الدفاع الأميركية أنها ستضيف إلى طائراتها التي تقوم بمهام عسكرية في سوريا والعراق، مجموعة من المقاتلات من طراز «إف 15 سي إيغل» المخصصة لعمليات الاعتراض والقتال الجوي. هذه الطائرات ستتمركز في قاعدة «أنجيرليك» التركية، وسترافق مقاتلات قوات التحالف لحمايتها خلال الغارات التي تشنها على مواقع «داعش» في سوريا أو العراق، والهدف كما يراه العسكريون ليس الحماية من «داعش» التي لا تملك طائرات، وإنما من الطائرات الروسية التي تحلق في الأجواء السورية واخترقت في أكثر من مناسبة الأجواء التركية. فطائرات «إف 15 إيغل» مصنعة خصيصًا لعمليات الاعتراض والقتال الجوي، ومزودة فقط بصواريخ «جو - جو»، وإرسالها إلى قاعدة «أنجيرليك» يعني شيئًا واحدًا، وهو أن المخططين العسكريين الأميركيين ينظرون بجدية إلى احتمال حدوث مواجهة متعمدة أو بالخطأ بين الطائرات الأميركية والروسية في أجواء سوريا.
روسيا من جهتها كانت قد بادرت بنشر عدد من طائرات «سوخوي 30» التي ينظر إليها على أنها المنافس لطائرات «إف 15 إيغل» في القتال الجوي، وصممت خصيصًا بمزايا تجعلها منافسًا خطيرًا في أي قتال جوي. نشر روسيا هذه الطائرات ضمن مقاتلاتها التي بدأت تشن غارات على مواقع «داعش» وفصائل سورية أخرى، أثار قلقًا في الغرب من احتمال أن تكون موسكو وضعت في حساباتها منذ البداية إمكانية حدوث اصطدام بين طائراتها وطائرات التحالف العاملة في الأجواء السورية والعراقية، وأن الغرض ليس فقط استعراض العضلات. وزارة الدفاع الأميركية على ما يبدو قررت التحسب والاستعداد لكل الاحتمالات من خلال نشر طائرات «إف 15 إيغل» لمرافقة طائراتها القاذفة خلال طلعاتها في أجواء العراق أو سوريا.
قد يقول قائل إن الغرب لم يدخل في مواجهة عسكرية مع روسيا في أوكرانيا، فلماذا يفعلها في سوريا؟
الإجابة المنطقية هي أن الغرب لن يدخل في أي مواجهة حقيقية مع روسيا بسبب سوريا. أوكرانيا كانت وما زالت أهم للمصالح الغربية من سوريا، والحسابات الاستراتيجية بالنسبة لأميركا وأوروبا أدق في المسألة الأوكرانية التي تمس الأمن الأوروبي والغربي كما الروسي بشكل مباشر. وعلى الرغم من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لجأ إلى القوة العسكرية في أوكرانيا بشكل مباشر ومستتر وحقق أهدافه، فإن الغرب تفادى الدخول في مواجهة مفتوحة معه، لأن أي اشتباك عسكري مباشر سيكون وخيم العواقب في منطقة على الحدود الروسية مباشرة وأعلنها بوتين خطًا أحمر.
الأزمة السورية في الجانب المقابل لا تشكل تهديدًا استراتيجيًا حيويًا للمصالح الغربية يقارن بالأزمة الأوكرانية، بل تنظر إليها أوروبا بعين القلق من أفواج المهاجرين واللاجئين، ومن «الأوروبيين» الذين انضموا إلى صفوف «داعش» وباتوا يصنفون خطرًا أمنيًا وإرهابيًا محتملاً. أميركا من جهتها تعاملت مع الأزمة السورية بسياسة كانت مزيجًا كارثيًا من التخبط والتردد، خصوصًا في الوقت الذي كانت فيه إدارة أوباما تعطي جل تركيزها للتوصل إلى حل أو صفقة في الملف النووي الإيراني. من هذا المنطلق يمكن للمرء أن يجادل بأنه ليس واردًا وقوع صدام عسكري في سوريا أو بسببها، وأن خطوة إرسال المقاتلات الاعتراضية من الطرفين لا تعدو أن تكون إجراء احترازيًا من العسكريين، ورسالة تحذير مبطنة من كل طرف للآخر لكي لا يتعرض لطائراته.
المشكلة أنه مع عودة أجواء الحرب الباردة، تزداد احتمالات ومخاطر مواجهة بالخطأ ولو كانت محدودة. فطوال عقود الحرب الباردة في الماضي بين الغرب والاتحاد السوفياتي السابق كانت الحروب بالوكالة أداة أساسية من أدوات الصراع بين الطرفين، وكان الخوف دائمًا أن تفلت الأمور من الأيادي في إحدى المواجهات فتتطور إلى نزاع أكبر. سوريا اليوم أصبحت ساحة للحروب بالوكالة، وفيها تتواجه وتتقاطع مصالح أطراف إقليمية ودولية كثيرة، كما تدور فيها حرب شرسة ضد الإرهاب تتباين فيها الأهداف أيضًا. في ظل هذا الوضع هناك احتمالان؛ إما أن تتوسع المواجهات بكل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر، أو أن تؤدي الرغبة في تفادي المواجهة بين الغرب وروسيا إلى دفع الأمور نحو حل للأزمة.
عام 2013، ألغى الرئيس الأميركي باراك أوباما قمة مقررة كانت ستجمعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك اعتراضًا على منح موسكو حق اللجوء إلى جون سنودن الموظف في مجلس الأمن القومي، وكذلك على استردادها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، حيث قاعدة أسطول البحر الأسود.
ومنذ ذاك الوقت، وحتى لقائهما في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي في الأمم المتحدة، أثناء انعقاد الدورة العادية للجمعية العامة، لم يجر بينهما إلا تبادل كلمات، ومخابرة هاتفية واحدة.
وطوال تلك الفترة ظل جون كيري وزير الخارجية على تواصل دائم مع نده الروسي سيرغي لافروف، وكان ومساعدوه يقدرون علنًا الدور الروسي البناء في مفاوضات النووي مع إيران.
ومنذ ما قبل عام 2013 والحديث في الأوساط الغربية والعربية يدور حول تغيير الحدود التي نصت عليها «اتفاقية سايكس - بيكو». وفي مقال نشره هنري كيسنجر يوم 16 من الشهر الماضي قال: «هناك أربع دول في الشرق الأوسط عمتها الفوضى وأفقدتها سيادتها وهي ليبيا والعراق وسوريا واليمن».
ويوم الثلاثاء، 27 من الشهر ذاته، قال برنار باجوليه مدير الاستخبارات الفرنسية «إن النزاع في سوريا والعراق ينذر بتغيير في خريطة المنطقة، وبالتالي فإن الشرق الأوسط الحالي انتهى إلى غير رجعة» فالعراق وسوريا لن يستعيدا أبدًا حدودهما. وقال إن المنطقة سوف تستقر مجددًا في المستقبل، لكن ستكون مختلفة عن تلك التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية.
ومع التحرك الأميركي - الروسي الأخير لجمع الأضداد والأعداء بدأ رسم الخريطة الجديدة. ويرى مراقبون أن أميركا بموافقتها على الدور الروسي في سوريا، أيدت قيام دولة علوية.
لم يرشح الكثير عن لقاء بوتين - أوباما في نيويورك، إنما انصبت الأنظار على كيري ولافروف عندما وقفا معًا ليعلنا عن رؤيتهما المشتركة لحسم الحرب في سوريا عبر «العملية السياسية»، وفُسر هذا على أنه إعطاء أميركا الشرعية للدور الروسي.
الذي سرّع من هذا التطور كان التدفق المفاجئ للأعداد الكبيرة من اللاجئين السوريين السنة إلى القلب الأوروبي، وقد بدأ مع أوائل شهر سبتمبر الماضي. ورغم الترحيب الألماني في البداية، الذي بدا وكأنه تشجيع لتفريغ سوريا بالذات، بدأت أصوات المسؤولين الأوروبيين تهدد بالخطر المحدق بترابط المجموعة الأوروبية، هذه الأصوات وصلت مع ضغوط أوروبية إلى واشنطن بأن أوروبا لا تستطيع أن تستوعب مليوني لاجئ غير مسيحي يصعب اندماجهم بثقافتها وتقاليدها. فكانت تصريحات كيري المتعلقة بتخفيف العبء الإنساني وقبول الرئيس أوباما الضغط الأوروبي (البريطاني - الألماني) بإسقاط شرطه إبعاد الرئيس السوري ومؤيديه عن الحكم بالقوة، ولم يؤيد إقامة مناطق آمنة.
في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قال أوباما إن الأسد يجب أن يرحل، بعدها عقد لقاء وجهًا لوجه مع بوتين، تبعه الاجتماع التنسيقي بين كيري ولافروف.
ثم بدأت الضربات العسكرية الروسية، وظهر وكأن موسكو تسعى للاستيلاء، نيابة عن الأسد، على أكبر قدر ممكن من الأراضي، خلال ما يسمى بالتحضير للفترة الانتقالية، من أجل فرض واقع إقامة الدولة العلوية التي كثر الحديث عنها منذ أن انسحبت القوات النظامية السورية من المناطق الكردية، ومن الرقة، ومن المناطق التي يحتاج الدفاع عنها لخطوط إمدادات طويلة، ولقوات غير متوفرة. وكان المهم الحفاظ على دمشق.
«التفسير العقلاني» لتدخل روسيا حسب ما قال بوتين في مقابلة تلفزيونية مع شارلي روز: «بعد غزو العراق، دُمرت السلطة هناك، أعدم صدام حسين، ثم جاء داعش (...) وما الذي حصل في ليبيا، تفكك كامل، لا وجود لدولة على الإطلاق، نحن لا نحب أن يتكرر هذا في سوريا».
لم يحسم بوتين أن التدخل السوري هو لبقاء بشار الأسد. بالطبع مالت كفة الميزان العسكري لصالح قوات الأسد في «سوريا المفيدة». وهذا ما دفعه إلى التصريح بأن أي حل سياسي في سوريا لن يكون إلا بعد إلحاق الهزيمة بالإرهاب. لا يعرف الأسد أن الإرهاب مثل تجارة المخدرات. لا دولة قادرة على إلحاق هزيمة حاسمة به. هو ربما يريد أن يرفع سقفه أمام أبناء طائفته. ذلك أن المنطق وراء قبول الرئيس أوباما المتردد بالتدخل الروسي المباشر، بسيط جدًا، ويتعلق بالانقسام السني - العلوي. العلويون طائفة دينية أقلية في وقت يشكل فيه السنة ما يقرب من 70 في المائة من السكان. في هذه الحالة ترى واشنطن بالعلويين ما حل بالإيزيديين في العراق. ولا تريد تكرار التجربة. وبما أن أكثر من 4 سنوات من الصراع أثبتت أن أي طرف غير قادر على كسر الآخر، كان من الضروري البحث عن حل قبل أن تتفاقم مشاكل اللاجئين السنة في أوروبا. لذلك يسرع كيري بدعوة كل الأطراف إلى المشاركة في طاولة حوار تسمح للسوريين من علويين وسنة بأن يستقر كل منهما في أراضيه. في مقاله يقول كيسنجر: «بمفهوم عميق، فإن الأهداف الروسية لا تتطلب بقاء الأسد إلى أجل غير مسمى، إن تدخلها تحد جيو - سياسي وليس آيديولوجيًا. وينبغي التعامل معه على هذا الأساس».
أما عن إيران فيقول: «إنها تدعم نظام الأسد باعتباره الركيزة الأساسية للهيمنة الإيرانية التاريخية التي تمتد من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط، لذلك تصر دول الخليج على الإطاحة بالأسد لإحباط المخططات الإيرانية الشيعية».
منذ بدء تسليح المعارضة أميركيًا كان التوجه لمقاتلة «داعش». وفي 9 من الشهر الماضي كشف مسؤولون في واشنطن عن خطة لتجميع القبائل السنية في التحالف العربي السوري ليقاتلوا إلى جانب القوات الكردية ضد «داعش». لم يشيروا إلى مقاتلة الأسد. فكان التفسير بأن الخطة وضعت بعد تسوية مع موسكو من أجل إنشاء حزب سياسي سني يحكم الدولة الجديدة على أمل أن تكون حلب عاصمتها.
من جهتهم، رغم المعاناة الحياتية التي يعيشها الأكراد، فإنهم يتنفسون الصعداء، إذ لم يعودوا محكومين من دمشق أو بغداد، وأيضًا لأن الولايات المتحدة لم تعد تثق بأحد في المنطقة إلا بالأكراد. رغم انقساماتهم فإن الهدف الذي يجمعهم هو دولة كردستان التي نصت عليها «اتفاقية سيفر» عام 1920، وينوون تحقيقها في هذا القرن. لأنه مع الثقة والدعم الأميركيين، فقد تكون مجرد مسألة وقت أن تصبح دولة كردستان مستقلة وذات سيادة.
إذا وصلنا إلى العراق فمن غير المقنع أن تكون العلاقات الوثيقة بين الحكومة الشيعية الطابع، ما بعد صدام، وإيران تصب في مصلحة الولايات المتحدة. لذلك، رغم صعقة المفاجأة، لم تهرع أميركا إلى وضع خطة لاسترداد الموصل من «داعش» ولا أيضا الرقة.
ملايين السنة العراقيين يعيشون الآن في مناطقهم بعيدين عن سلطة الحكومة الشيعية في بغداد. ودولة يحكمون في ظلها أنفسهم، تشدهم بعيدًا عن «داعش»، دولة سنية جديدة في العراق تقلص النفوذ الإيراني السياسي والاقتصادي المعشش في أوصال الحكومة. يقول لي مسؤول غربي، إن إدارة أوباما تقود الآن مع الكرملين عملية «تشريح» سوريا والعراق إلى عدة دول قد تصل إلى ست دول لـ«تجزئة الصراع» وتقليص الانضمام إلى «داعش». وإذا شعر أبناء هذه «الدول» بأنهم أصحابها فلماذا يتمسكون بآيديولوجية إرهاب «داعش». فلينكبوا على الاستفادة من المشاريع التي ستثريهم.
كيف؟ ومن سيقيم المشاريع؟ يقول: إن الصين متعجلة لعودة الاستقرار إلى المنطقة لتسهيل مشاريع طريق الحرير التي بدأتها، وقد تكون ساهمت في الصفقة الأميركية - الروسية الأخيرة. ويشير إلى دعوة وزير الخارجية الصيني في 30 سبتمبر إلى حل سياسي للحرب السورية. ويضيف: إن الصينيين لا يتحدثون صدفة!
ويقول محدثي: الخطة وضعت. ومثل هذه الخطة التي حصلت على تأييد أميركي - روسي - صيني من المستبعد أن يعترض عليها أحد، إذا ما طرحت على مجلس الأمن. إنه مشروع تكوين دول جديدة.تجربة يوغوسلافيا تدخل فيها الغرب. الأطراف هناك أرادوا الانفصال عن بعضهم البعض منذ الأيام الأولى. صربيا تعنتت. قصفها الأطلسي ولم تستطع روسيا عندما قامت بإنزال جوي إنقاذ تلك الوحدة. تشيكوسلوفاكيا قررت واختارت «طلاقًا حضاريًا».
تلك دول من إثنيات مختلفة. في سوريا والعراق هناك الإثنيات والمذاهب المختلفة. لتعش كل فئة حياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي تناسبها. وربما لهذا قال رئيس الاستخبارات الفرنسية إن المنطقة سوف تستقر مجددًا في المستقبل.
قبل خمسين عاماً قال الكاتب الأميركي جون شتاينبك: "عندما أنظر الى مداخن البيت الأبيض أحسب أنه فبركة كبيرة للأوهام". في نظر الكثيرين لم يكن البيت الأبيض هكذا في أي يوم، لكن الأسئلة تتسع الآن حول ما اذا كان باراك اوباما قد جعله فعلاً على هذا النحو!
يحار المراقب كيف ينظر الى قرار أوباما ارسال خمسين جندياً من القوات الخاصة الى شمال سوريا، فيما يقول آشتون كارتر إن القرار يأتي ضمن استراتيجية الولايات المتحدة دعم المعارضة في مواجهة "داعش"، وأنه يعرّض حياة العسكريين الأميركيين للخطر، بينما يسارع جون كيري الى التوضيح ان هذا ليس قراراً بدخول الحرب السورية وليس عملاً يستهدف بشار الأسد وأنما يركّز على "داعش"!
ثمة فعلاً ما يدعو الى السخرية، على الأقل حيال حديث آشتون عن استراتيجية أميركية تتمثل بإرسال خمسين جندياً معرضين للخطر، وخصوصاً أيضاً حيال حرص كيري على التوضيح ان القرار ليس ضد الأسد، ويأتي كل هذا بعدما كانت الإدارة الأميركية تردد دائماً مزاعمها التي تقول، إن لا معنى لقتال يركز على "داعش" ويقبل ببقاء الأسد في السلطة لأنه هو الذي صنع "داعش"!
طبعاً هذا القرار ليس سباقاً قرر اوباما ان يخوضه ضد فلاديمير بوتين بعد شهر من انزلاق روسيا المتزايد الى المستنقع السوري، وهو قرار مضحك أقلّ من ان يشكّل مادة للتعمية في مواجهة الانتقادات المتصاعدة لأوباما في واشنطن ولدى حلفائها الإقليميين، بمعنى ان يكون إرسال الجنود الخمسين وتصعيد عمليات القصف الجوي الأميركي للارهابيين في العراق وشمال سوريا، محاولة للإيهام بأن ادارة أوباما لم تنسحب تاركة ساحة الشرق الاوسط لبوتين والإيرانيين!
ليس خافياً ان هناك حملة متصاعدة على أوباما، ليس في أوساط الجمهوريين وحدهم بل في داخل الحزب الديموقراطي، وتتزايد الاتهامات الموجهة إليه والتي تلتقي مع وصف بيتر فينسنت المختص بالأمن القومي الأميركي "السنوات الست الماضية بأنها شكّلت نهاية القرن الأميركي"، وان اوباما دمّر بمفرده خلال هذه المدة صدقية أميركا كضامن للعالم الحر، وهو الدور الرائد الذي تم ترسيخه والمحافظة عليه بعناية ومسؤولية شديدتين خلال ستة عقود وعلى أيدي ١١ رئيساً أميركياً!
ولكن هل فعلاً جعل اوباما البيت الأبيض فبركة للأوهام، وانه ينسحب من الشرق الأوسط أمام بوتين وخامنئي، أم أنه يتصرّف وفق خطة عميقة وخبيثة، تدفع المنطقة كلها الى حروب طائفية ومذهبية تستمر عشرات السنين، وخصوصاً بين السنّة والشيعة، وان غرق بوتين في المستنقع السوري سيدمر روسيا اقتصادياً وينقل الارهاب الى داخلها، كما سيُغرق ايران في صراعات منهكة ستؤدي انطلاقاً من العراق تحديداً الى انطلاق دومينو التقسيم الذي سيشمل دولاً كثيرة؟
لم يكن هناك ما يستحق العناء، فقد كان من العبث أن يتوقع أحد أن يمثّل وزير الخارجية لبنان في لقاء فيينا. فهو في معظم الأحوال يلجأ الى التذاكي ليمرر موقف فريقه، وفي بعضها يدسّ موقف حزبه، وفي أسوئها يعبّر الصهر عن العمّ، كما لو أن الأخير هو الرئيس الافتراضي لدولة باتت بدورها افتراضية. وعذره تحت إبطه: الوزير سيّد وزارته في ظل الشغور الرئاسي. كانت فيينا فرصة لعرض قضية لبنان ومعاناته ليس فقط من مخاطر الارهاب وعبء النازحين بل خصوصاً من الصراع السوري الذي أقحم نفسه في البلد وذهب فريق لبناني متهوّر الى حدّ استشفاف مصلحة وفرصة له في هذا الصراع. أما حديثه عن "لبنان القوي" و"قيادة لبنانية قوية" فلا شك في أنه أدار رؤوس الحاضرين حيرةً وتساؤلاً عما يتكلم هذا الوزير. كان ينقصه فقط أن يعرض أسباب "التيار العوني" لتعطيل عمل الحكومة.
لا بد أن جبران باسيل استحقّ مجدّداً اعجاب جناح "الحرس الثوري" في "حزب الله" (اللبناني)، فيما أثار نظيره الايراني ("الاصلاحي") محمد جواد ظريف استياء هذا الجناح وغضبه عندما أشار في فيينا الى "الحلول الوسط" في سوريا. انهم يعلمون طبعاً أنه مكلّف بأن يناور ويلعب على الكلام ولا يقول ما يضمره، لكنهم لم يذهبوا الى القتال في سوريا بحثاً عن "حلول وسط". واذا صحّ ذلك فما الذي يحول دون حلول مماثلة في لبنان، خصوصاً بالنسبة الى الرئاسة، ما دام "الحزب" يعلم أن "مرشّحه الوحيد" لن يمرّ، ليس لأن هذه العاصمة أو تلك وضعت "فيتو" عليه بل لأن ترشيحه مبرمج ليتناسب مع استمرار بشار الاسد في السلطة في دمشق. لكن كلا الاحتمالين فقدا واقعيتهما منذ زمن. فلا الأسد عرف كيف يعمل ليكون بقاؤه مقبولاً، ولا ميشال عون عرف كيف يقدّم نفسه رئيساً "طبيعياً" لجميع اللبنانيين.
أكثر من مرّة دعا الأمين لـ "حزب الله" خصومه اللبنانيين الى الكفّ عن المراهنة على تطورات الأزمة السورية. والحقيقة أنهم لم يحتاجوا الى دعوته كي يتوقفوا عن تلك المراهنة، كونهم لم يستثمروا أصلاً في خراب سوريا. كان على الناصح أن يأخذ بما ينصح الآخرين به، أو على الأقل أن يحتفظ بنصائحه لنفسه، خصوصاً منذ اضطر الايرانيون إلى طلب التدخل الروسي. ففي كل ما ينقل عن السيد حسن نصرالله واجتماعاته بكوادر "الحزب" شواهد على أنه راهن أولاً على قوة النظام، وثانياً على قوة حزبه، وثالثاً على قوة الميليشيات العراقية والافغانية المستوردة، ورابعاً على قوة ايران، وخامساً على قوة روسيا، ويراهن الآن على تسوية سياسية - تقسيمية في فيينا. فمَن الذي يربط انتخاب رئيس لبناني بمسار الأزمة السورية، نصرالله وعون أم الآخرون؟
هل يستطيع مأزومان، أو مريضان… إنقاذ مأزوم أو مريض؟ الجواب لا وألف لا. روسيا وإيران مأزومتان ومريضتان. أزمة البلديْن عميقة. لذلك لن يكون في استطاعتهما إنقاذ نظام بشّار الأسد، لا لشيء لأنّ هذا النظام غير قابل للإنقاذ مهما بلغ حجم التواطؤ الأميركي مع إيران، وهو تواطؤ جعل كلّ رهان باراك أوباما على توقيع الملفّ النووي الإيراني، لعلّ هذا الإنجاز يمكّنه من ترك بصمة في التاريخ، باستثناء أنه الرئيس الأسود الأوّل وربّما الأخير للولايات المتّحدة.
في الواقع، كان لقاء فيينا المخصّص لسوريا الذي جمع سبعة عشر وزيرا للخارجية، بمن في ذلك الوزير الإيراني محمد جواد ظريف مليئا بالدلالات. كان الدليل الأوّل على أهمّية اللقاء غياب النظام السوري عنه. حضرت إيران وغاب النظام السوري. هذا يؤكد أن مستقبل سوريا يُبحث في معزل عن النظام الذي جلس رئيسه، قبل فترة قصيرة، أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كالتلميذ أمام المعلّم. لم يكن ينقص بوتين سوى حمل قضيب رفيع كي يقول لكلّ من يعنيه الأمر أنّه صار، من الآن فصاعدا، صاحب القرار السوري.
من الدلائل الأخرى المهمّة التي ظهرت من خلال لقاء فيينا الحضور الإيراني. تسعى إيران إلى أن تكون جزءا لا يتجزّأ من الدول التي تبحث جدّيا في كيفية إنهاء الأزمة السورية، ولكن بما يتفّق مع مصالحها طبعا. لم تستطع إيران تحقيق طموحها المتمثّل في المجيء إلى فيينا، إلا بعدما صارت الكلمة الأولى والأخيرة في سوريا، أقلّه في الجانب المتعلّق بالنظام في يد موسكو وليس في يد طهران.
لم يعد سرّا أن روسيا تدخّلت عسكريا في سوريا من أجل إنقاذ إيران التي اكتشفت أنّها عاجزة عن إيقاف بشّار الأسد على رجليه. تدخّلت إيران في سوريا منذ اندلاع الثورة الشعبية في آذار – مارس 2011. كان تدخلها بشكل غير مباشر في البداية قبل أن يصبح هذا التدخل مفضوحا، خصوصا مع مقتل جنرالات من “الحرس الثوري” دفاعا عن النظام العلوي الذي ورثه بشّار الأسد عن والده. هذا النظام الذي تحوّل، مع الوقت، إلى نظام عائلي مرتبط مباشرة بإيران أكثر من أي شيء آخر.
على الأرض، دخلت روسيا طرفا مباشرا في الحرب على الشعب السوري بعدما اكتشفت إيران أنّها عاجزة عن إنقاذ نظام سلّمها كلّ شيء. سلّمها سوريا وسلّمها لبنان. حلّت الوصاية الإيرانية مكان الوصاية الإيرانية – السورية على لبنان نتيجة مغامرة مشتركة استهدفت التخلّص من رفيق الحريري في شباط ـ فبراير من العام 2005.
هل في استطاعة روسيا التي تعاني من أزمات داخلية مستفحلة ناتجة عن هبوط أسعار النفط والغاز أوّلا حماية بشّار الأسد ونظامه؟ هل يكون حظ روسيا في سوريا أفضل من حظ إيران؟ الأرجح أن روسيا ستكون قادرة على إنقاذ إيران في سوريا، لكنّها لن تستطيع إنقاذ النظام الذي يعاني من غياب أيّ دعم شعبي له.
كان ملفتا ترافق الاجتماع المنعقد في فيينا مع تصعيد عسكري روسي على الأرض في كلّ الاتجاهات، خصوصا في محيط دمشق حيث تعرّضت دُومَا لمجزرة ذهب ضحيتها العشرات. شمل التصعيد درعا والجولان. كان الهدف تأكيد عمق التنسيق الروسي- الإسرائيلي في سوريا ومدى حرص إسرائيل على نظام بشّار.
من يتمعّن في العمق في الوضع الروسي يكتشف أن كلّ ما تفعله موسكو حاليا هو استغلال للغياب الأميركي لا أكثر. ليس في واشنطن إدارة تستطيع القول إن الحرب الباردة انتهت وأن لا طائل من التدخل الروسي في سوريا، لا لشيء سوى لأن مثل هذا التدخّل يحتاج إلى إمكانات ليست في حوزة ذلك الطرف الذي أرسل طائرات وقوات وأسلحة إلى منطقة الساحل السوري.
هل جاءت روسيا لإنقاذ النظام السوري أم جاءت لإنقاذ إيران في سوريا؟ حضرت إيران مؤتمر جنيف أم لم تحضره، لم تعد تلك هي المسألة. لا يمكن إنقاذ نظام مرفوض من شعبه أوّلا. ولا يمكن لقوتيْن مفلستيْن ومأزومتيْن جعل مثل هذا النظام يقف على رجليه يوما.
تحتاج روسيا إلى من ينقذها من أزماتها، بدءا بالاقتصاد المنهار وصولا إلى المجتمع المهترئ. روسيا من الدول القليلة التي يتناقص فيها عدد السكّان. روسيا، فوق ذلك كلّه، دولة لا حديث فيها سوى عن الفساد، خصوصا في الأوساط المحيطة ببوتين.
أمّا إيران فلا يشبه الوضع فيها سوى الوضع الذي كان سائدا في سوريا عشّية اندلاع الثورة الشعبية. هناك كره ليس بعده كره من الإيرانيين لنظام يصرف الأموال في لبنان وفلسطين واليمن، على سبيل المثال وليس الحصر، فيما نصف الشعب الإيراني تحت خط الفقر!
جاءت روسيا لإنقاذ إيران. جاءت إيران قبل ذلك لإنقاذ النظام. روسيا وإيران في حاجة الآن إلى من ينقذهما، خصوصا أنّ هناك نظاما لا يستطيع أحد إنقاذه. يستحيل إنقاذ النظام لأنّ السوريين يرفضون بأكثريتهم الساحقة، حياة الذلّ التي عاشوها طوال نصف قرن. الأهمّ من ذلك والأخطر، أن النظام لا يمتلك أي شرعية من أي نوع كان، فضلا عن وجود شرخ طائفي عميق يزداد اتساعا يوما بعد يوم، خصوصا بعدما أصرّ بوتين على إشراك الكنيسة الروسية في الحرب التي تستهدف الشعب السوري.
لا شيء ينقذ النظام السوري. حضرت إيران إلى فيينا أم لم تحضر. حضرت ربّما لسبب واحد. يتمثّل هذا السبب في أنها مصرّة على أن تكون من بين الذين سيشاركون في صلاة الغائب على روح النظام. إنّه النظام الغائب الذي أكّد لقاء فيينا أنّه صار في ذمّة التاريخ.
بين النظام السوري الراحل وإيران وروسيا والسياسة الأميركية التي تعكس حالا من الضياع الذي قد يكون مقصودا، هناك دوَران في حلقة مغلقة. مثل هذا الدوران في هذه الحلقة التي اسمها الحرب على الشعب السوري لا يمكن أن تقود سوى إلى نتيجة واحدة. هذه النتيجة هي الانتهاء من سوريا التي عرفناها.
من هذا المنطلق يبدو مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه على حق عندما يقول إن الشرق الأوسط الذي عرفناه لم يعد موجودا. بدأ الزلزال في العراق في العام 2003. منذ ذلك التاريخ، بدأت عملية إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط. من سيرسم خرائط الدول في النهاية هو الوقائع على الأرض، وليس أنهار الدم الذي سال وسيسيل. ليست إيران من سيتكفل برسم الخارطة الجديدة للمنطقة، حتى لو كان لديها شريك روسي وحتّى إن كان هناك تواطؤ أميركي معها. إيران، التي نصف شعبها جائع، ليست قوّة عظمى، وروسيا ليست سوى خليفة الاتحاد السوفياتي الذي كان قوّة عظمى لا أكثر ولا أقلّ. كان فعل ماض… إلى إشعار آخر.
كاد قائد «الحرس الثوري» الإيراني محمد علي جعفري يتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأنه يتواطأ لمنع ظهور الإمام المهدي، بتدخُّله عسكرياً في سورية، وسحب مفتاح القرار والوصاية هناك من جيب مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي. فتدخُّل الروس، حشر الجانب الإيراني والرئيس بشار الأسد في زاوية الريبة والشكوك التي تطاول حقيقة ما يسعى إليه الكرملين، وهو حتماً لن يخوض صراعاً لخمس سنوات أخرى كما فعلت إيران بلا جدوى... إلا إذا استُثنِيَ حجم الخراب في سورية وعدد الضحايا، واهتراء ما بقي من سلطة النظام، على جزء محدود من الأرض.
ما أراد جعفري قوله، إن التدخل الروسي في ليلة مظلمة ظن نظام الأسد في البداية أنها المفاجأة السعيدة لإنقاذه وهو في الرمق الأخير، يحول دون «توحيد قلوب شعوب العراق وسورية وإيران الذي يعني تشكيل الأمة الواحدة... وهذه تمهّد لظهور الإمام المهدي».
والأهم في المفاجآت غير السارّة للنظام، أن يدشّن جعفري السجال العلني الذي ينضح مرارة إيرانية إزاء وضع بوتين يده على مفتاح الحرب في سورية، ليعلن قائد «الحرس الثوري» ان روسيا «لا تبدو سعيدة بالمقاومة الإسلامية».
لا إيران سعيدة إذاً بطائرات الكرملين تحلّق في فضاء سورية، من دون أن تكون لأحد القدرة على التحقُّق من حجم الأهداف التي تدمّرها، ولا نظام الأسد يمكنه أن يبقى في دائرة الوهم، وتخيُّل إخلاص القيصر لصداقته، وهبّته المفاجئة، فقط لإنقاذه. لا طهران تملك ما يكفي من الأدوات لعرقلة سعي موسكو إلى فرض تسوية ما في سورية قد تقتضي «التضحية» بالأسد رئيساً، ولو على مراحل، ولا الكرملين يمكنه أن يراهن على حسم عسكري، يعفيه من مهمة «إقصاء» رأس النظام المترنّح.
لا تعني مهمة نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في طهران، سوى شكوى من العرّاب الروسي الذي خلط أوراق الصراع في سورية، ولجم رهانات نظام الأسد وحلفائه في إيران على انتصار مقولة «كل المعارضة تكفير وإرهاب»... أما الدليل فهو التلميحات الروسية بل «اصطناع» موسكو وفوداً من «الجيش الحر» تزورها لتبادل الأفكار، والتمهيد لمرحلة انتقالية في سورية. صحيح أن الروس ما زالوا يصرّون على أن مصير الرئيس الأسد هو شأنُ السوريين، ويحذّرون من «الحفرة السوداء الكبيرة» التي ستنجُم عن تغيير نظام آخر في الشرق الأوسط، لكن الصحيح كذلك هو أن بوتين لن يبادر الآن إلى حرق ورقة الأسد، فيما المفاوضات الجدية مع المعارضة السورية لم تبدأ بعد. وهي لن تبدأ قريباً، بدليل الرسالة التي أعلنها فيصل المقداد من العاصمة الإيرانية، ليحجّم بيان جنيف، باعتباره المرحلة الانتقالية مجرد «وهم».
وإذا كان الأسد يظنها كذلك، فعلى ماذا سيفاوض، والأهم أنه في الوضع الحالي لنظامه لن يملك القدرة على انتزاع مبضع الجرّاح الروسي الذي يبدو مستعجلاً لوضع سورية في غرفة العناية الفائقة. ويرى بعض العارفين بنهج روسيا «الجديدة» التي يريدها بوتين، أن «الثعلب» الذي نجح في انتزاع شبه جزيرة القرم في «غفلة» من الحلف الأطلسي، لن يستسلم بسهولة ليعود من اللاذقية الى شواطئ قزوين، مهزوماً أمام «النصرة» و «داعش».
ما يطمح إليه الكرملين هو صيغة تجمع النظام السوري والمعارضين «غير الإرهابيين»، وتحميها الدول الكبرى بغطاء جوي لاستكمال المعركة مع «داعش». وواضح ان مصير الأسد سيبقى لدى الروس في دائرة «الغموض البنّاء» فلا نعم لبقائه ولا العكس، حتى تنضج تجربة فرز المعارضة بين «أخيار» و «أشرار» في المرحلة الأولى، من دون اشتراط موافقة الأسد عليها.
إذاً، سيكون على الكرملين اختبار صبره على إعادة تشكيل النظام السوري، الذي سيدير مؤسسات الدولة، وإن كان لا يمانع في دعوة «الإخوان المسلمين» الى المشاركة في منتدى حوار موسكو، باعتبارهم جزءاً من المعارضة، فقد يبرز «فخ» آخر للنظام، بعد اعتماد مبدأ تصويت السوريين في الخارج، في أي انتخابات مقبلة.
لا يقلق القيصر أن يدجّن حلفاء «الحرس الثوري» في سورية الذين باغتهم تبديل قواعد الصراع. فبعدما تأخر كثيراً «توحيد القلوب» وسقط مئات الآلاف من السوريين والعراقيين، قد لا يبدو إغراقاً في الخيال تصوُّر تقاطع مصالح، يفوّض فيه الأميركي موسكو تفكيك الشبكة الإيرانية للنظام السوري.
ألم ينجح في اقتياد الأسد الى تسليم الترسانة الكيماوية السورية؟
لا حضور لسورية في لقاء فيينا المخصص لسورية. وفيما كان المشاركون يدلون باقتراحاتهم لما يجب أن يكون في سورية، كان نظام بشار الأسد يسجّل مجزرة أخرى في سجله الأسود، حاصداً بضع عشرات من الضحايا والمصابين بتكرار القصف على سوق دوما، كما فعل مراراً خلال الشهور الأخيرة. لم يشر أحد في فيينا إلى هذه الجريمة، لا جون كيري في مؤتمره الصحافي المشترك مع سيرغي لافروف، ولا الأخير بطبيعة الحال، ولا حتى المبعوث الأممي البائس ستيفان دي ميستورا الذي جلس بين الوزيرين وحرص خصوصاً على إبداء سروره لمشاركة إيران أخيراً في مؤتمر دولي للبحث في إنهاء الأزمة السورية.
في أي لقاء مماثل مقبل، لا بدّ من مساءلة روسيا وإيران طالما أنهما تمثّلان النظام، وهما وصيّتان عليه، وتدخلتا أساساً لدعمه ومنع سقوطه، لكن استمراره منذ منتصف 2011 حتى الآن لم يعد ليعني شيئاً آخر غير المجازر. وإذا كانت دولة متهوّرة مثل إيران شجعته على هذا النهج السقيم، فماذا عن دولة مثل روسيا تدخلت في سورية لتستعيد صفتها كـ «دولة عظمى».
عندما تحدّث فلاديمير بوتين عن شعار دعم «الحكومة الشرعية»، هل كان يعني ما يحصل منذ أسابيع من قتل جماعي في قصف كثيف على غوطتَي دمشق. وعندما سعى لافروف إلى إقناع نظيره الفرنسي لوران فابيوس بعدم التقدم إلى مجلس الأمن بمشروع قرار يحظر القصف بالبراميل المتفجّرة، هل تعهّد ضمان عدم استخدام هذا السلاح أم أنه كان يدافع عن «حقّ» النظام في أن يقتل بالطريقة التي يريدها. وعندما تبرع فيتالي تشوركين، المندوب الروسي في الأمم المتحدة، بنفي قاطع لاستخدام النظام البراميل، هل كان يتعمّد الكذب أم أن أحداً لم يخبره بأن أكثر من عشرين برميلاً انهالت في يوم واحد على داريا وحدها؟
يبدو أن ثمة دافعاً رئيسياً للتدخل الروسي لم يُشَر إليه حتى الآن، وهو أن الكرملين وجد أن نظام الأسد لم يقتل ما يكفي من السوريين، ولم يدمّر ما يكفي من العمران، ولم يهجّر ما يكفي من أبناء الشعب. بل يبدو المشهد حالياً كما لو أن النظام استأجر دولة «عظمى» لتشاركه جرائمه وتساهم معه في القتل والتدمير والتهجير. فكل جريمة جديدة، كل مجزرة، هي تلطيخ إضافي لسمعة جيش تقول موسكو إنها معنية بتوحيد صفوفه وإعادة الاعتبار إليه، وتتصرّف على أنه ورقتها القوية الرابحة على حساب الميليشيات - «ورقة إيران»، لكن نهجها الأهوج قد يبدّد مسعاها... فهل اعتزم الأسد تعطيل هذه الورقة الروسية، سواء لأنه لمس أن موسكو تحاول استقطاب «الجيش الحرّ» والضباط الذين انشقّوا ولم يحاربوه، وربما لأنه يشعر بأن تعويم الجيش خطوة لا بدّ منها نحو إيجاد «البديل» أو الترتيب لإيجاده.
وسواء صحّ هذا التقدير أم لا، فإن روسيا أقحمت نفسها في سياق حرب ذهب فيها نظام الأسد إلى أقصى إجرامه وكانت طوال الوقت شريكه غير المباشر. وإذا صحّ ما يُتَداول عن أن موسكو لا ترحب بلجوء الأسد إليها، تجنّباً لإشكالات قانونية وأخرى سياسية تسيء إلى دورها في «المرحلة الانتقالية»، فما المصلحة التي تسعى إليها، حين تصبح شريكه المباشر في القتل أو حين تعده مثلاً (كما نُقل عنها) بدمار في إدلب يساوي عشرة أضعاف خراب غروزني (عاصمة الشيشان). هل هذه هي الطريقة التي تثبت بها روسيا اختلافها «الإيجابي» عن الولايات المتحدة ومساهمتها الفارقة في تصويب نظام دولي ترفضه بسبب الهيمنة الاميركية عليه؟
حاججت روسيا على الدوام بأنها تريد الحفاظ على «الدولة» و «الحكومة» و «المؤسسات»، وأصبح واضحاً اليوم أنها كانت دائماً ترى «الدولة» في «النظام»، و «المؤسسات» في الجيش، مع علمها اليقين بأن النظام لم يعتدّ يوماً إلا بزمرة السلطة التي تنفّذ نزواته الاستبدادية، ولا قيمة عنده ولا احترام لدولة أو حكومة أو مؤسسات. ليس لدى الدولتين المتمسكتين بهذا النظام، روسيا أو إيران، أيُّ نموذج تجذبانه إليه ليكون مقبولاً من شعبه وجيرانه ومحيطه. وقد باشرتا للتوّ مناورات مشتركة لاستدراج قبول دولي ببقائه، أو بـ «سورية المختزلة» التي تريدان تحصين سيطرته عليها، سواء سمّيت «دولة الساحل» أو «إقليماً» أو اعتُبرت إحدى «مناطق النفوذ» المطروحة لتوزّعها بين أطراف جالسة إلى طاولة فيينا. وتلعب هواجس عدّة في المساومات، من خطر الإرهاب إلى أزمة النازحين إلى احتمالات الانزلاق في «حرب بالوكالة» ومواجهات إقليمية.
لذلك تبدو «عملية فيينا» بداية الطريق إلى حل نهائي بسيناريوات متنافسة يستغرق كلٌ منها وقتاً غير قصير. وكان اللافت أن الإيرانيين دخلوا بخطابين غير متطابقين، إذ سرّبوا خارج القاعة تأييدهم لفترة انتقالية من ستة شهور وقال نائب الوزير حسين أمير عبداللهيان إن إيران لا تصرّ على إبقاء الأسد في السلطة إلى الأبد، أما الوزير محمد جواد ظريف، فاقترح انتخابات في أجل قريب وكرر الدعوة إلى «حل وسط»، وما لبث المرشد علي خامنئي أن حدّد «مستقبل سورية» بمسارين هما «انتهاء الحرب وإجراء انتخابات». لا أحد يتخيّل مثل هذا السيناريو في ستة شهور، لكنّ الإيرانيين أرادوا أن يسجّلوا دخولهم المعترك الدولي - السوري بأطروحة هي أقرب إلى المناورة، وإذا التقت مع اقتراحات الجانب الروسي وتركيزه على الانتخابات، إلا أنها تزايد عليها بطرح مهلة زمنية ولو غير واقعية. لماذا؟ أولاً لأن الحديث عن ستة شهور فقاعة دعائية تخاطب الاستعجال الغربي بمقدار ما تشير إلى «قدرة» طهران على الإنجاز، وثانياً لأن إيران نفسها مستعجلة أيضاً للانخراط في مساومة على ثمن مساهمتها في الحل، وثالثاً وهو الأهم لأنها وروسيا تتطلعان إلى «مرحلة أسدية ولو من دون الأسد» أكثر «شرعيةً» من المرحلة الحالية، بل تبدوان موقنتين بأن أي انتخابات ستكون لمصلحتهما.
دُعيت إيران إلى «فيينا 2» من دون أن يُطلب منها الاعتراف ببيان «جنيف 1»، فهي لا تزال ترفضه. ولهذا الرفض مغزى يُستدَلّ عليه من الحرص الروسي – الإيراني على عدم تجديد الجدل حول «رحيل الأسد»، والترويج لدخول فوري في «مرحلة انتقالية» بتشكيل حكومة من الأطراف الراغبة في العمل تحت رئاسة الأسد كي تمهّد لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بإشرافه، أي بتجاوزٍ متَوافقٍ عليه لـ «تسوية جنيف» ومفهومها اللذين يفرضان البحث المسبق في مصير الأسد. في أي حال، هذه ليست سوى تمنيات موسكو وطهران، إذ تتظاهران بتسهيلات وتنازلات وهمية، وتصوّران التسوية كما لو أنها جاهزة لا لشيء إلا لأنهما تتعهدانها. وهذه «التمنيات» هي التي بنى عليها دي ميستورا خطته لبناء حل سياسي يرضي النظام وموسكو وطهران.
غير أن الحسابات السياسية في كواليس فيينا قد تفاجئ الروس، كما فاجأتهم الحسابات العسكرية الخطأ للمعارك البرّية، حين شنّوا عشرات الضربات الجوّية لدعم تقدّم قوات النظام وإيران، وعندما فحصوا أحوالها وأعدادها ولمسوا إخفاقاتها، فضّلوا التريث لئلا تُحسَب هزائمها عليهم. وجدوا أنفسهم في الحال التي واجهها الاميركيون، أي عملياً من دون قوات على الأرض لاستثمار المساعدة الجوّية. لذلك يحاول النظام الآن تعويض هذا النقص بجلب موظفي الدولة ممن هم تحت الـ 42 عاماً إلى التجنيد والاحتياط، فهؤلاء لا يزالون يعوّلون على الرواتب التي يدفعها لهم، وقد تتوقف إنْ هم تهربوا من الخدمة. لا شك في أن هذا الواقع ينعكس على المشروع الأساسي الذي كان يطمح إلى استخدام قوات النظام وإيران لمحاربة «داعش» وإخراجه من شمال شرقي سورية. وهذا وحده كافٍ لتفسير عودة الكرملين سريعاً إلى تنشيط ورشة الحل السياسي.