لا يمكن وصف البيان الذي خرج به مؤتمر فيينا بهدف إيجاد مخارج سياسية للأزمة السورية بالإنشائي، مؤشراً للفشل الذي وصل إليه، لأن لغته لم ترق إلى ذلك المستوى أصلاً، بل إن الوصف الأكثر انطباقاً عليه هو التلاعب بالألفاظ، طالما لم يتجرأ على الوصول إلى قلب المشكلة وملامستها، وكل النقاط الواردة في البيان الفقير لا يمكن تطبيقها إذا ما بقيت المشكلة الأساس، بشار حافظ الأسد، فلا مطالبة البيان بالمحافظة على سورية دولة علمانية، وكذا إلغاء الطائفية، تشكل آليات عمل يمكنها الوقوف في وجه آليات التفتيت والتقطيع والتحريض التي تمارس على الأرض بأسلحة حقيقية وباللحم الحي.
والإبقاء على التفاوض الدبلوماسي مفتوحاً، يشبه إبقاء بطن الشرق الأوسط مفتوحاً تحت مباضع الجراحين، والتأمل في بؤرة الورم، وانتظار انتشارها إلى باقي الأطراف، بما يعني ذلك من إمكانية إجراء عمليات قص ولصق عناصر وأعضاء جديدة، وانتظار ظروف التشكّل الجديدة حتى تنضج أكثر.
لكن، وبعيداً عن التطرف في وصف الأمور، هل بشار الأسد هو جوهر المشكلة؟ هشاشة موقعه وضعف تكوينه الحالي، وتبعيته المطلقة، تضعه في موقع أصغر بكثير من أن يكون بحجم المشكلة التي صارت عليها أزمة المنطقة، ربما كان في مرحلة سابقة يجسد هذه المشكلة، أو بعض وجوهها، لكن التعقيدات التي أضافها مشغلوه عليه جعلته مجرد واجهة تتخفى خلفها عقد كثيرة. والدليل أن بشار الأسد لم يعد أكثر من ظل شفاف، يمكن من خلاله رؤية الحقيقة الكاملة، مصير سورية والشرق الأوسط الجيوسياسي.
ليس مصادفة أن تسبق اجتماعات قاعات فيينا تصريحات رؤساء اثنين من أهم أجهزة الاستخبارات التي عملت في المنطقة في السنوات السابقة، فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، تفيد بنهاية الشرق الأوسط واستحالة عودته إلى الصورة التي كان عليها بعد الحرب العالمية الثانية، وكذا استحالة عودة الدولة المركزية في القلب منه، العراق وسورية، برنار باجوليه مدير الاستخبارات الفرنسية وجون برينان مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، لم يكونا بصدد تحليل الواقع، ولا وضع قراءات استشرافية، الأرجح أنهما كانا يصدران عن معطيات وتقديرات، وربما يبوحان بتفاهمات يجري العمل عليها.
في السياق التاريخي للتشكلات الإقليمية، لا تفيدنا كثيراً تجربة "سايكس بيكو" لتفسير الوقائع
"النشاط العسكري الجاري في المنطقة يهدف إلى تفكيك نظام سايكس بيكو بكامله"
الحاصلة في المنطقة، واستشراف مآلاتها، ذلك أن الاتفاق المذكور كان نتيجة تفاهم قوى كبرى على اقتسام مناطق النفوذ بينها، كما أن هذا الاتفاق، وعلى الرغم من كل العيوب التي ينطوي عليها، والنقد الذي طاوله، إلا أن أهم ميزة فيه تجسّدت بانغلاق نوافذه تماماً على الكيانات التي تأسس عليها. وعلى العكس، بقي مفتوحاً على احتمالات دمج كياناته وتوسعتها أكثر من احتمالات تفتتها، كما أنه راعى، بدرجة كبيرة، تراكب الوقائع الاجتماعية مع العناصر الاقتصادية والحركة التجارية والحدود الجغرافية، والأهم أنه أوجد بيئة دولية تدافع عن صيغته. لذلك، يمكن ملاحظة أن النشاط العسكري الجاري في المنطقة يهدف إلى تفكيك نظام سايكس بيكو بكامله، من إطاره الخارجي إلى العلاقات المتشكّلة في داخله "اجتماعية واقتصادية" لبناء النظام الجديد، وليس استيلاد نظام من الإطار السابق نفسه.
الحالة التاريخية الأقرب تفسيراً هي حالة أفريقيا بعد مؤتمر برلين وحتى الحرب العالمية الثانية، حيث شكّلت مساحة لصرف طاقات القوى الصاعدة (ألمانيا وإيطاليا) وإبعاد شرورها عن أوروبا، وإقصائها عن الشرق الأوسط وآسيا الهندية. وفي مطلق الأحوال، جسّدت المنطقة الوحيدة التي كان من الممكن أن تشكّل القبول بأقل خيارات التنازل سوءاً بالنسبة للقوى العظمى في ذلك الوقت (بريطانيا وفرنسا) أمام ضغط قوة ألمانيا وإيطاليا الصاعدتين. وبميزان الحسابات، وعلى الرغم من أهمية الأصول الاستراتيجية لقلب الشرق الأوسط، سواء لجهة قربه من أوروبا، أو من منابع النفط، إلا أن الصراعات الداخلية حوّلته إلى كومة ركام، كما أن البنى الصراعية المتشكلة بداخله ومحركات ذلك الصراع ومحفزاته ستبقى على اشتغال فترة زمنية طويلة، وهذه الوضعية هي سر مرونة أميركا تجاه التمدد الروسي الإيراني في هذه المنطقة، وربما تفسر لا مبالاة أوروبا فيها.
ولعل من المفارقات العجيبة أن هذا الشرق الأوسط المراد نشوءُه لا تملك أي من القوى المتدخلة القدرة على تظهيره، وفق رزنامة زمنية محددة. لذلك، تعتمد على الفوضى المديدة وأعنتها كآليات تشغيلية، بالإضافة إلى تزخيم الواقع بمزيد من التعقيدات التي يمكن استثمارها في تظهير هذا الواقع الجيوسياسي، من نمط الإصرار على عدم حل عقدة الأسد، وتركها تتفاعل دينامية تشغيلية تساهم في صناعة الواقع المرتجى.
على شكل تسريبات من هنا، واستشرافات من هناك، وبخجل وكثير من التقية المتعمّدة، يجري الحديث عن هذا النمط الجيوسياسي المراد تأسيسه، لا أحد يجرؤ على القول المباشر، ربما لعدم امتلاك جميع الأطراف التصور الواضح عن حدود هذا التشكّل وماهيته، والأكيد لأن اكتمال إنجازه يحتاج إلى الكثير من الدماء واللحم الحي. وفي هذه الحالة، سوف تشكل المؤتمرات الشبيهة بمؤتمر فيينا واحدة من الآليات التشغيلية، نظراً لما توفره من مساحة مهمة للمناورات الدبلوماسية، فيما الميادين والجبهات تعمل على إنجاز الصياغة. المهم أن الصراع جرى تأطيره بشكل نهائي على أنه صراع سني- شيعي، وكل البيانات السابقة لن تستطيع إعادة هيكلته، طالما أن روسيا وإيران تصرّان على بقاء بشار حافظ الأسد.
تقع في فخ التبسيط المبتذل تلك الأوهام حول قدرة موسكو على ترحيل بشار الأسد، والتي رافقت التدخل الروسي المباشر، وبُنيت على ما ساهم طاقم فلاديمير بوتين في ترويجه حول الإمساك التام بقرار الأسد. الأخير، الذي لا نعلم ما قاله في مجلس «القيصر»، عاد مع التكهنات التي تدور حول موعد تنحّيه، إلى تأكيد عدم وجود حل سياسي في سورية إلا بعد القضاء على «الإرهاب»، وهو الموقف الذي ثابر عليه أربع سنوات. قبل الإعلان المنقول عن رئيس النظام، ألقى زميله في حلف الممانعة حسن نصرالله، خطاباً تصعيدياً جديداً لا يصعب فهم نبرته الموجّهة تحديداً الى من يصرّ على رحيل الأسد.
أوساط بوتين ذاتها، بدأت بالتراجع عن الجو الذي يوحي بانفراج بسيط، وعادت إلى تأكيد عدم وجود مساومة في هذه النقطة. أيضاً، من التبسيط عزو التراجع الأخير إلى تصلّب معتاد في أية مفاوضات شاقة، لأن هذه الفرضية توحي بانسجام تام بين النظام وحلفائه، واتفاقهم جميعاً على مبادئ التسوية، بما فيها تنحّي الأسد في مرحلةٍ ما كما يلوّح بذلك الروس.
بدايةً، يصعب حل التناقض في التكتيك الروسي، وهو تقوية الأسد ثم البحث في تنحيته، مثلما يصعب الاقتناع بأن الحليف الإيراني موافق على هذا التكتيك، فالأقرب إلى المنطق أن توافق طهران على الجزء الأول فقط. والأقرب إلى المنطق أن التصلّب في المواقف الذي انطلق من الضاحية الجنوبية إلى دمشق، رسالة إيرانية إلى الحليف الروسي، تنصّ على أن ملف التنحي لا يزال في عهدة طهران، ولن يستطيع الطيران الروسي انتزاعه منها بالسهولة التي يروّجها البعض.
الثمن ليس، كما قد يُفهم تبسيطاً، دعوة طهران إلى فيينا 2 والاعتراف بدورها، فحضـــور طهران مفاوضات فيينا سيعقّدها بإدخالها متاهة من الملفات الإقليمية المتشابكة. طهران ستأتي إلى الطاولة لتقلبها ما لم تكن هناك صفقة متكاملة مُرضية لها، تتضمن اليمن والملف اللبناني، وحتى ملف «داعش» في العراق الذي لا تسير فيه إدارة أوباما كما تشتهي طهران.
النظام، مع التحفّظ على التوصيف، لن يكون مستكيناً أمام محاولات الروس، إذا صدّقنا الادعاءات حول محاولاتهم تحويله إلى نظام. طوال السنوات الأربع الأخيرة، فشلت كل المحاولات الدولية لإغراء الزمرة الحاكمة بالتحوّل إلى نظام يضحّي ببعض رموزه من أجل استمراره، ودفع السوريون مئات آلاف القتلى نتيجة تسويق كذبة «النظام أو الفوضى»، وأن يأتي الروس للاستثمار فيها فذلك لا يعني تحوّلها تلقائياً إلى واقع. وهو لا يعني خصوصاً أن الزمرة الحاكمة التي طالما سارت عكس مفهوم النظام، وتبنت علانية منذ انطلاق الثورة النهجَ الميليشياوي ونهج أمراء الحرب، ستقبل صاغرة بالخروج عن النمط الملائم لبُنيتها.
التدليل على ضعف الزمرة الحاكمة لا يخدم فكرة تنحيتها إلا صورياً، إذ كما نعلم استخدمت الزمرة ضعفها لابتزاز العالم واستجداء مساعدته، بما في ذلك التلويح به للغرب كي يمنع إسقاطها. وأخيراً، عندما يأتي التدخل الروسي المباشر تلبيةً لاستغاثة الأسد، في الخطاب الذي أقرّ فيه بضعف قواته، فهذا يعني فعالية الضعف لا انعدام فعاليته، حتى لو بدا بوتين كأنه يستغل الضعف لمصالح روسيا أو لطموحاته الشخصية.
لدينا سابقة شديدة الوضوح: فالتورط الإيراني استُهلّ مع سوء تقدير لمدى ضعف قـــوات الأسد، لكن سوء التقدير لم يؤدّ إلا إلى مزيد من التورط، وحتى بعد اكتشاف حالات سوء استغلال الدعم الإيراني الواسع لم تجد طهران مفراً من استمراره. غالب الظن أن التدخل الروسي سيأخذ المنحى ذاته، وفي حال تعثّره مع مرور الوقت، كما حصل في الشهر الأول منه، ستكون العودة عنه باهظـــة الثمن لأنها إعلان خسارة لن يكون الكرملين مستعداً لتقبّلها. وبخلاف ما يُشاع عن مصلحة أميركية بتورّط روسي في سورية، فأصحاب المصلحة في التورط هم أولاً حلفـاء بوتين، لأن طهران والأسد يدركان صعـــوبة العودة عنه، وعدم قدرة بوتين على الإمساك بالورقة السورية، لأنهما سيمنعانه من ذلك. في أقصى الشقاق، لن تشنّ المقاتلات الروسية حرباً على حليفيها، ولا يستطــيع الكرملين التهديد برفع الحماية الدولية عن الأسد، لأن التهديد لا يلاقي قوى دولية متحفزة للتدخل وإسقاطه عسكرياً.
نظرياً، قد يصحّ القول أن موسكو لا تملك دوافع للتمسّك بشخص الأسد. عملياً، هذا مساوٍ لعدم تلهّفها لإطاحته، ولعدم قدرتها على إطاحته من دون تفاهم مع طهران. المضي في مفاوضات فيينا أو غيرها لا يتناقض مع تلك المقدمات، فهو يستكمل الإيحاء بوجود استراتيجية متكاملة للتدخل الروسي، وتحت ستار البحث عن تسوية تستمر الآلة العسكرية بحثاً عن انتصارات تفرض شروطاً سياسية جديدة. فإذا كان تعثر الحملة في شهرها الأول لم يمنع الترويج للانتصار، ولم يمنع أيضاً رئيس المخابرات الأميركية من التصريح بأن ميزان القوى يميل إلى الأسد الذي يسيطر فعلياً على ربع مساحة البلاد، فلنا أن نتخيل كيف سيجري التعامل مع المفاوضات في حال إحراز تقدم فعلي على الأرض.
بالاستعارة من الملف الفلسطيني، ما يريده الروس وحلفاؤهم «عملية» تسوية لا تسوية شاملة وسريعة، لأن مفهوم «العملية» يرجئ البحث في نقاط الخلاف الرئيسة. المطلوب أولاً من عملية المفاوضات، استيعاب التدخل الروسي من بعض الغرب وبعض القوى الإقليمية الداعمة للمعارضة، أي تطويق الدعم الذي قد تحصل عليه فصائل المعارضة فيما لو بقيت المسألة في حيّز الاشتباك العسكري.
إدارة أوباما لا تعارض اختبار العملية، ولا الدخول في اشتباك عسكري مع الروس قد يضطرها للذهاب بعيداً من سلبيتها، فضلاً عن أنها في طليعة القائلين بمنع إسقاط «النظام». لذا لا يُستبعد لجوء الإدارة الى الضغط على الحلفاء ولجمهم عن دعم المعارضة بذريعة إعطاء مهلة للجهود الديبلوماسية. ومثلما طوّقت إيران، عبر تصريحات نصرالله والأسد، التنازلات الروسية المنتظرة، أتى لقاء باريس والعديد من التصريحات الغربية والإقليمية لتطويق تنازلات أميركية أكثر توقعاً من نظيرتها الروسية.
في أقصى حالاتها، هذه العملية ليست بلا نهـــاية، فعين موسكو وطهران طامعة في استغلال السنة الأخيرة لأوباما، بينما أعين أخرى تتوق إلى انقضائها بأقل الخسائر.
أمام واقع جبان ومجتمع دولي مجرم وضحايا بالعشرات يومياً لم يجد ثوار الغوطة أمام رؤية نسائهم وأطفالهم أشلاءاً على ضفاف نهرٍ جارٍ من الدماء
إلا أن يضعوا مَن بين يديهم مِن الأسرى -مدنيين وعسكريين- بين أهالي الغوطة موزعين في المناطق التي يستهدفها الطيران الأسدي ..
ولسان حالهم يقول : إن كان الطيران سيستمر قصف المدنيين ، فليكن مصير أسراهم من مصير أهالينا ..
وتعتبر هذه الخطوة جديدة كلياً على الثورة السورية ، حيث لم يسبق لثوار سوريا أن أدخلوا نساء وأطفال العدو في خضم المعركة ، بينما كان الأسد ومن لحظات الثورة الأولى -بل منذ انقلابه واستيلائه على السلطة - لا يتورع عن التنكيل بالمدنيين ، واستخدام الدروع البشرية ، ووضع المدنيين في خضم المعركة .
ولم يكن ذلك حكراً على قواته النظامية ، بل حتى القوات الشعبية والأهلية التي شكلها أو التي دعمته كانت تزج بالنساء والأطفال في المعركة وتستخدهم أوراق ضغط حيناً ، ودروعاً بشرية حيناً ، وتمارس المجازر الطائفية فيهم تارات أخرى ، لا سيما الذبح الطائفي للأطفال في قرى أهل السنة المجاورة لقرى العلوية ..
هذه الخطوة لا تعتبر من مبدأ (عليَّ وعلى أعدائي) أو (الورقة الأخيرة) بل هي وسيلة حماية مشروعة أمام نظام مدعوم من مجتمع دولي لا يقيم للإنسانية أو الحقوق أيّ اعتبار ..
وليس هنالك ثمة مانع شرعي أو قانوني أو وإنساني من قيام ثوار الغوطة بهذه الخطوة ،
فقد حرص الثوار على عدم زج المدنيين في المعركة ، فلم يوضع الأسرى على الجبهات ، ولا دروعاً بشرية ، ولا للضغط لتحقيق مكسب سياسي أو عسكري ، بل اكتفوا بجعلهم مع أهليهم ونسائهم وأطفالهم سواسية ، ما يصيبهم يصيبهم ..
بينما النظام الأسدي والمجتمع الدولي الذي يدعمه لم يتورعوا عن الزج بالمدنيين في المعركة ، وليس تاريخ أمريكا في العراق وأفغانستان وفيتنام ومجازر الهنود الحمر عنا ببعيد ، فضلاً عن أهلنا في فلسطين .
يأمل الثوار من هذه الخطوة أن يكتفي الأعداء بالصراع (سياسياً أو عسكرياً) على مبدأ رجل لرجل ، مقاتل لمقاتل ، جندي لجندي .. وأن يتم تحييد المدنيين من المعركة ، رغم أن عهدنا بالنظام الأسدي لا يقيم للمدنيين وأنصاره عموماً ولطائفته خصوصاً أي وزن ، ولا يبالي بهم في سبيل تحقيق مصالحه ، وهاهم المئات من ضباطه ونسائه أسرى في الغوطة لم يبال بهم سابقاً ولم يبادل عليهم ، ولم يسأل عنهم ، حتى رأيناهم اليوم على هذا الحال ..
هل سيكون رد النظام ومنظمات حقوق الإنسان التي تدعمه ، والمرجفون في الأرض ، أن كفى لقتل المدنيين ، كفى للمجازر ، كفى لسفك الدماء ؟
أم سيكون الرد -كما عهدناهم- بوضع اللائمة على الثوار ، لمجرد رؤية قفص وعدم المبالاة بكل المجازر والدماء التي سفكت ؟؟
وختاماً لمن يستهجن الطريقة أو الأسلوب الذي استخدمه الثوار فالله تعالى قال :
(ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً .. فلا يسرف في القتل ..).
(وجزاء سيئة سيئة مثلها).
ولا يعتبر ذلك أبداً إساءة معاملة أسرى ولا مخالفة أخلاق الإسلام ولا به أي بأس ، فماذا يريد هؤلاء أكثر من أن جعلوهم بمرتبة أهلهم وأسرهم ونسائهم ؟
أما شكل القفص فالغوطة كلها في قفص أقسى وأسوأ ، ولكن البعض أصابه العمى ...
أعلنت "قوات سوريا الديمقراطية، يوم أمس السبت، عن بدء عملية عسكرية ضد تنظيم "الدولة" بريف الحسكة، بدعم من طيران التحالف الدولي.
الناطق باسم القوات، اعتبرها قوات وطنية تدافع عن "الشعوب السورية"! وطالب من المدنيين مؤازرة قواته على هذه الأساس.
وأضاف، أن العملية العسكرية لقوات "سوريا ديمقراطية" بريف الحسكة الخاضع لسيطرة تنظيم "الدولة"، هي الخطوة الأولى لتحرير سوريا.
الانسان السوري البسيط يعلم أن هذه القوات مشكّلة من فصائل مسلحة، لا تنمي للثورة السورية، وأن كان فيها فصيل أو اثنين يرفعون علم الثورة، فالفصائل التي شاركت في السيطرة على منطقة تل أبيض شمال الرقة، من تنظيم الدولة، فقدت بريقها الثوري بمجرد أنها فشلت في حماية المدنيين، من سياسية العقاب الجماعي التي انتهجتها الوحدات الكردية، ضد سكان المنطقة، والتي اثبتتها منظمة العفو الدولية بتقرير صدر مؤخراً في تشرين الأول/ أكتوبر.
القسم الآخر من هذه الفصائل المكونة لقوات سوريا ديمقراطية، هي ميلشيات صغيرة تابعة للنظام الأسد، مثل ميلشيا الصناديد والسوتورو، وهي ميلشيات طالما روجت لها صفحات النظام على مواقع التواصل الاجتماعي، فضلا عن احتفالها بالوحدات الكردية نفسها، والتي تتشارك مع قوات النظام السيطرة على مدينتي الحسكة والقامشلي.
بالتأكيد لا يمكن النظر لهذه التجمع العسكري، على أنه وليد الصدفة، أو أنه جاء بتوافق بين قادة هذه الفصائل، لمحاربة تنظيم "الدولة" والانتصار للثورة السورية، التي خذولها مع انطلاقة عملهم من الحسكة، إذ نشر ناشطون صور لعناصر من هذه القوات يجوبون شوارع القامشلي قرب تمثال "حافظ الأسد" ، إضافة لإرسال رسائل قصيرة من قبل شركات الاتصالات الخليوي (أم تي أن- سيرتيل)، لرسائل تثني فيها على انطلاقة معركة "تحرير ريف الحسكة"، من قبل قوات سوريا ديمقراطية، ما يعني أن هناك توافق بين مخططات النظام ومخططاتها.
موسكو وواشنطن بدورهما أبديا توافقاً على الوحدات الكردية، فالأخيرة تدعم الوحدات الكردية والفصائل المتحالفة معها منذ بدء التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، بقصف مواقعها داخل سوريا قبل أكثر من عام، كما قالت واشنطن: إنها ألقت كميات من الأسلحة "للمعارضة المعتدلة" شمال سوريا، بينما زار صالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي تتبع له الوحدات الكردية موسكو، وقدم نفسه على أنه يمثل "المعارضة المعتدلة"، واقتنعت موسكو بذلك وقالت أنها التقت ممثلين عن "الجيش الحر"، ووعدت بدعهم بشرط محاربة تنظيم الدولة وليس الأسد.
وزيري خارجية روسيا والولايات المتحدة، أكدا في تصريحات سابقة في تشرين الأول/ أكتوبر، ضرورة تأسيس سورية ديمقراطية علمانية تعددية، بدروها تلقفت الوحدات الكردية هذه التصريح لتصنع تحالف عسكري من فصائل موالية للنظام وأخرى صغيرة من غرفة بركان الفرات.
فروسيا تثق بهذه التحالف العسكري، الموجه فقط لحرب تنظيم "الدولة"، خاصة مع انعدام وجود قوات نظام في شمال سوريا، حيث يسيطر الجيش الحر وتنظيم الدولة والوحدات الكردية على مجمل المنطقة، بينما ترى الولايات المتحدة أن قتال تنظيم "الدولة" أولية لها، وترفض تقديم أي دعم عسكري للمساعدة على إسقاط "بشار الأسد" لفصائل الثورة السورية والجيش الحر.
توقع جنرال أميركي أن يشهد الشهر المقبل استعادة الحكومة العراقية مدينة الرمادي غرب العراق من أيدي «داعش»! هذا التوقع سبقته عشرات الوعود وعلى مدى أكثر من سنتين من استئناف التنظيم الإرهابي وثبته بعد سنوات من الهزائم التي ألحقتها به الصحوات السنية العراقية.
والحال أن العراق والعالم القريب والبعيد عاد هذه الأيام إلى التفكير بـ«داعش». بذاك «السر» الذي يعرفه الجميع، عن ولادة التنظيم وانقضاضه على مدن العراق وانتقاله إلى سورية وتأسيسه «دولة الخلافة» على مساحة شاسعة من الصحراء تضم مُدناً وبوادي وحقول نفط ومساحات زراعية ومراعي وسبل عيش.
لا شيء أقدر من واقعة الموصل على تفسير «داعش». فسقوط المدينة بيد التنظيم في 2014، شكل انتقالة هائلة في واقع «دولة الخلافة»، وتحولاً من حقيقة أن الجماعة تنظيم إرهابي إلى دولة و«خلافة».
والواقع أن الموصل لم تسقط بفعل خيانة ضباط المالكـــي وانسحابهم السهل، على رغم أنها كذلك. الأمر كـــان أعمــــق من خيانة، فـ2014 كان عام الحدث الذي بدأ التأسيس له أمام أعين الجميع منذ بدايات 2013. آنذاك ووصـولاً إلى لحظة الانقضاض على المدينة في 9 حزيران (يونيو) 2014 صُفّي كل خصوم «داعش» من شيوخ عشائر ووجهاء وصحافيين وناشطين، وهم للمصادفة خصوم المالكي وحكومتـــه آنذاك. وجرى ذلك تحت أنظار السلطة وليس بعيـــداً عــــن أنظار الأميركيين والإيرانيين، والأكـــراد الذيـــن كشف زعيمهم في أربيل مسعود بارزاني أنه عندما نبه المالكي إلى ما يجري في الموصل في 2013، أجابه الأخير: «عليك الاهتمام بإقليمك»!
لا يهدف هذا العرض إلى تبرئة البيئة التي تفشى فيها التنظيم من المسؤولية، ففي الوقائع التي سبقت احتلال الموصل حقائق حول دور لعشائر المدينة في تسليم السلطة لـ«داعش»، لكن هذه الحقائق تكشف أيضاً مقدار التخلي الأميركي عن سنّة العراق وتركهم نهباً للتنظيم ولجماعات تكفيرية في محيطه، ناهيك عن قرار حكومي ضمني بنقل تمثيل السنة العراقيين من قوى قبلت بالعملية السياسية إلى الجماعات «الجهادية». فـ«داعش» لم يأت بجديد على صعيد التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تلك المناطق. فقط تعامل مع البنية التي رفض الأميركيون التعامل معها. سلم عشائر الجبور النفط وهو ما كانت تفعله هذه العشائر منذ حكم صدام حسين، وعشائر الشمر الحدود والمعابر، ولهذه العشائر خبرات على هذا الصعيد بسبب تواجدها على طرفي الحدود. واستثمر التنظيم في ضباط الجيش العراقي المنحل والذي تحول إلى جيش من العاطلين من العمل بعد القرار الأميركي الغبي بحل الجيش.
وكان أن تفشى «داعش» على نحو ما شهدنا منذ 2014 إلى اليوم، ولم تُلحق به هزيمة تذكر منذ ذلك الوقت باستثناء تقدم طفيف للأكراد على حدود إقليمهم، واستعادة مدينة تكريت غير الاستراتيجية وبكلفة بشرية هائلة كشفت خللاً في كل مشاريع محاربة التنظيم.
إذا أراد المرء أن يُحصي الأحلاف التي نشأت لقتال «داعش» فسيخرج بنتيجة مذهلة. أحلاف أرضية وأخرى جوية وبحرية، وتحالفات تقودها جيوش لم يسبق أن التقت. التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة من الجو، والحشد الشعبي الذي تقوده إيران في المدن العراقية، والبيشمركة الكردية التي تقاتل على تخوم إقليم كردستان، وصولاً إلى «الجيوش» الروسية والإيرانية والسورية التي انعقدت قيادتها مؤخراً لفلاديمير بوتين. والغريب أن كل هذا لم يؤت أُكله حتى الآن، وها نحن أليوم وبعد كل هذا الوقت والجهد أمام توقع ركيك من المرجح أن لا يُصيب، بأن تستعيد الحكومة العراقية مدينة الرمادي في صحراء غرب العراق.
ثمة سؤال يواجهه المرء أينما ولى: هل هناك رغبة فعلية بإلحاق هزيمة بـ«داعش»؟ وأمام كل هذه الوقائع علينا أن نؤمن فعلاً بأن لا رغبة لأحد في هزيمة التنظيم.
بالنسبة للأميركيين، «داعش» سبيلهم للتخلي عن المنطقة وعن حلفائهم التقليديين العرب تحديداً، وبالنسبة للروس تعتبر «دولة الخلافة» الدجاجة التي باضت ذهباً لنظامهم في دمشق، فلولاها لما كانت الطريق الدولية معبـــدة لموسكو كي تصل إلى دمشق. و«داعش» بالنسبة للإيرانيين عدو نموذجي كم تمنوا أن ينجحوا في تحويل أعدائهم إليه. وها هي طهران تكشف أن ما يعنيها من الحرب علـــى «داعش» في العراق هو حماية المناطق الشيعية، وما عدا ذلك فإن التنظيم مشكلة السنّة وعليهم حلها. فـ«داعش» عدو من خارج المذهب، ولا مشكلة معه طالما أن الحكومة العراقية بيدهم، وأن حدود «العراق الشيعي» مصونة. وكم يبدو جميلاً أن تلقى أعداءك في هذا المأزق. تركيا أيضاً اشترطت في بداية الحرب على «داعش» أن تتقاضى ثمناً لقاء «هذه الورقة»، وهو منطق ينطوي على رغبة بالاستثمار في التنظيم أيضاً. وما عزز الشكوك حيال دور أنقرة في السنة الأولى من عمر التنظيم في سورية، فتح الحدود أمام الراغبين بالالتحاق بـ«الجهاد».
اليوم خفض التحالف الدولي غاراته على مواقع «داعــش» بنسبة 50 في المئة على ما قال ناطق باسمه. الغارات الروسية على التنظيم أقل من 20 في المئة من مجمل الغارات الروسية المنفذة في سورية. والأتراك الذين بدأوا تلقـي طعنات التنظيم، يبدو أنهم مستمرون على اقتناعهم بأن القضاء على التنظيم يجب أن يكون لقاء ثمن واضح يتمثل برأس النظام السوري.
وما تكشفه خريطة المصالح هذه، غير انعدام الرغبة والمصلحة في هزيمة وشيكة للتنظيم، هو غياب مدوٍّ للعرب ولحسابات مصالحهم في غابة النوايا المتوحشة هذه، علماً أن «داعش» في هذه الخريطة هي ممثلة غيابهم، أو هي الحضور البديل الذي يُستعاض به عن هذا الغياب. فما هو مُدان في خطاب هذه الحرب الكاذبة على التنظيم هو «البنية القابلة للعنف والتكفير»، وليس كل هذه الوقائع الهائلة التي مهدت لصعود هذا العنف ولتحوله دولة و«خلافة».
ربما كان على المرء أن ينظر من بعيد إلى طاولة المفاوضات الدولية في فيينا حول مستقبل سورية، ليخلص إلى حقيقة أن الوقت لم يحن بعد للقضاء على «داعش»، وأن القضاء على التنظيم ليس مهمة أخلاقية يطرحها العالم نفسه.
للكاتب
محادثات فيينا ومن قبل أن تبدأ أرسلت عدة رسائل للشعب السوري، سواء كانوا معارضين أم موالين لنظام الأسد، وفي هذا المقال سنتوقف عند ثلاث رسائل أرسلها المؤتمرون في فيينا قبل اجتماعهم، وسنقف كذلك على الأسباب التي كانت وراءها.
الرسالة الأولى: لا يحق للشعب السوري تقرير مصيره
ربما هي أوضح رسالة أرسلها المجتمعون إلى الشعب السوري عبر رفضهم وجود أي طرف من الأطراف الأساسية المتنازعة على الأراضي السورية، ففي الوقت الذي حرص فيه المجتمعون على أن يكون اجتماع فيينا اجتماعا موسعا يشمل كافة الدول المعنية بالصراع داخل الأراضي السورية بما فيها العراق ومصر ولبنان، لم تتم دعوة وزير خارجية الأسد وليد المعلم، كذلك فإنها لم تتم دعوة أي طرف من أطراف المعارضة المعترف بها رسميا من قبل معظم الدول الحاضرة في فيينا كالائتلاف السوري المعارض أو حكومة طعمة.
الرسالة الثانية: رسالة دولية كتبت بيد روسية: لا يحق لأي طرف الاعتراض.. نفذ أو تقصف!
من أهم النقاط في الملاحق المسربة، وغير المعلنة التي اتفق عليها المؤتمرون سواء في فيينا أم باريس أم موسكو أم غيرها، أن الحفاظ على المؤسسات العسكرية والاستخباراتية والأمنية في سوريا له الأولوية الأولى في حساباتهم، ذلك أن انهيار هذه المؤسسات وعلى رأسها العسكرية، سيدفع الأوضاع في سوريا إلى مزيد من التعقيدات، والانفلات الأمني المطلق الذي يمكن أن يقود البلاد إلى مرحلة اللادولة. فبالإضافة إلى التواجد الإيراني والروسي، توجد في المنطقة اليوم قوات تنظيم الدولة والجماعات الكردية التي تقاتل في سبيل الانفصال، مما ينذر بأن الأوضاع يمكن أن تذهب إلى الأسوأ في حال عدم التحكم بالمفاصل الصدئة الثلاثة للدولة السورية، العسكري و الاستخباراتي و الأمني.
وعلى هذا ترى روسيا ومن قبلها الولايات المتحدة الأمريكية أن الحفاظ على الجيش السوري مسألة غير قابلة للتفاوض، ولهذا السبب تحديدا سيتم تحييد القيادات العسكرية التي تحظى بشعبية كبيرة سواء عند المقاومة الشعبية أو من جانب قوات نظام الأسد.
وسيتم تخييرها إما الانضمام تحت راية المؤسسة العسكرية الجديدة والتي يتم تشكيلها حاليا برعاية وإشراف روسي – دولي، أو إنه سيتم استهدافها ووضعها ضمن بنك أهداف التحالف وأصدقائه.
قد ترفض المقاومة الشعبية بشكل عام والمسلحة بشكل خاص التخلي عن قياداتها التي خاضت معها معارك النصر والتحرير وهذا ما هو متوقع من مناضلين أحرار أعلوا مصلحة الوطن على أنفسهم وأرواحهم، وكذلك هو الحال بالنسبة لقوات النظام التي ترى في قياداتها النفس الأخير لبقائها واستمرارها، ولكن ما يطمح إليه المجتمع الدولي اليوم هو تهدئة الصراع على السلطة في سوريا بين الثوار والأسد، والتركيز على جهود محاربة تنظيم الدولة، وجعل سوريا قاعدة عسكرية دولية لعملياتهم ضد التنظيم.
وهنا نتساءل: هل هذا يعني بالضرورة أن عنوان المرحلة القادمة في سوريا هو حكم العسكر؟ وهل يمكن أن تسيطر شخصية مدنية بشكل فعلي على الأوضاع في سوريا بعد انتهاء الأسد مع وجود قوات تنظيم الدولة والأكراد والجهات الجهادية المكروهة غربيا؟
وكيف يمكن لقيادات المقاومة الشعبية المسلحة في سوريا وعلى رأسها الجيش الحر أن تتعامل مع مثل هذه الضغوطات، وخصوصا أنها مازالت تدين بولاء كبير للدول التي تعمل على تمويلها، والتي تدعمها سياسيا وعسكريا ولوجستيا؟
وهل ستشهد قوات الأسد عمليات اغتيال على مستوى القيادات الرفيعة تماما كما شهدنا في الأسابيع الماضية من عمليات تصفية واغتيال لشخصيات تابعة لإيران وحزب الله؟
المتغيرات الداخلية ضمن صفوف المقاومة الشعبية المسلحة، تنم على تفهم ووعي كامل بالمتغيرات الدولية وأهدافها التي حددت وجهتها بناء على عاملين أساسيين هما: المصالح الجيواستراتيجية والجيوبولتيكية في المنطقة، وعلى هذا الأساس اتخذت قيادات الحر موقفا صريحا تجاه رغبة المجتمع الدولي ورفضت ما اسمته،"تدوير النفايات" أي إعادة تلميع وفرض شخصيات قيادية سواء أكانت عسكرية أم سياسية كان لها دورها في بناء ودعم مؤسسة الأسد المافياوية - الاستبدادية.
في هذا تحديدا لا بد من أن نذكر أن رؤية المجتمع الدولي التي تختلف مع الحر في هذا وذلك بناء على مجموعة من الاعتبارات أهمها:
أن معظم الشخصيات القيادية سواء العسكرية أو السياسة التابعة للمعارضة السورية اليوم، كانت جزءا من نظام البعث الذي يقوده الأسد، حتى إن تم انشقاقهم في أثناء الثورة فهذا عمليا لا ينفي واقع خدمتهم مؤسسات الأسد العسكرية والمدنية. وعليه لا يأخذ المجتمع الدولي هذا الرفض بعين الاعتبار كون هذه الشخصيات تملك خبرات قادرة على خدمة العملية السياسية و قيادة البلاد.
كذلك ينظر الغرب إلى أن قيادة الجيش السوري الموحد الذي يطمح إلى تشكيله والذي يضم في صفوفه كل من المقاومة الشعبية المسلحة وما تبقى من جيش الأسد، يجب أن تتولى قيادته، شخصية عسكرية –سورية- محايدة- لا إسلامية يمكن التفاهم والتعاون معها دوليا من قبل الأطراف كافة وتمتلك دراية كافية بمداخل وأسرار الهيكلية التنظيمية لمؤسسة الأسد العسكرية، بالمقابل لها اتصالاتها ومؤيدوها داخل المقاومة الشعبية المسلحة.
ذلك بغض النظر عن رؤية الشعب السوري أو قيادات المقاومة الشعبية المسلحة المغيبين بشكل كامل عن غرف صناعة القرار.
الرسالة الثالثة: مصالحنا أولا ودعمكم على قدر طاعتكم لنا
في فيينا تم تحديد الأولويات والتفاهم على مناطق النفوذ وتنسيق الأدوار وتعيين المسؤولين عن تنفيذ كل القرارات المتعلقة بالشأن السوري تماما، كما تمت معالجة نقاط الخلاف أو على الأقل تجميدها.
وأما الحديث عن تزويد ودعم المقاومة الشعبية المسلحة بمضادات الصواريخ والأسلحة النوعية، فسيحدده عاملان اثنان: أولهما مدى استجابة الفصائل التي سيتم تسليحها مع مقررات فيينا والضمانات التي ستقدمها القيادات قربانا لولائها. (كالتخلي مثلا عن فصائل -مكروهة غربيا - كان لها اليد الطولى في معظم انتصاراتهم؟!).
ثانيهما: الدور الذي يمكن أن تقدمه لاحقا في إنجاح العملية السياسية وفق الشروط الدولية، ومدى فاعليتها في السيطرة على الخطوط الساخنة التي تشهد صراعا مع باقي الأطراف.
ما شهدناه من صراع داخلي بين أطياف المعارضة السورية بمختلف تشكيلاتها العسكرية والسياسية خلال سنوات الصراع، وتعدد الرايات وانعدام التنسيق بين أطيافها، والخلافات القاصمة التي منعت المقاومة الشعبية الحرة من الالتفاف تحت قيادة موحدة، وفشل الجهود المتعددة الداعية للابتعاد عن الفصائلية وتشكيل جيش مقاومة موحد، كانت وما زالت السبب الأول لتغييبها عن غرف صناعة القرار الدولي في ما يتعلق بالشأن السوري الداخلي، وعلى الرغم من أنها ما زالت بالنسبة لأغلبية الشعب السوري صاحبة القرار الفصل في تحديد مصير ومستقبل الصراع في المنطقة، إلا أن المستجدات الأخيرة بما فيها التصعيد الروسي العسكري، وما تنذر به الأوضاع من احتمال تصعيد مشابه من الجانب الأمريكي وتضامن حازم من الطرف السعودي؛ يدفعنا إلى القلق حول مستقبل القيادات النزيهة والحرة في المقاومة الشعبية المسلحة، وخصوصا إذا ما قررت الاستمرار في المواجهة الفصائلية.
اجتماع المقاومة الشعبية المسلحة ضمن جيش واحد، يتبع قيادة موحدة، وله أذرعه السياسية والإعلامية الرسمية اليوم لم يعد حاجة وإنما ضرورة وواجب وطني تحتمه سلامة وأمن المقاومة الشعبية المسلحة بمختلف فصائلها ومكونتها.
ويجب أن نذكر أن استنجاد روسيا بحلفائها إيران والعراق لتدعم نفسها في فيينا مؤشر ضعف وهزيمة وضربها العشوائي للمعارضة الشعبية السورية حيثما وجدت لن يجدي نفعا وهو مؤشر آخر على غموض الرؤيا وضعف البصيرة، حيث افتقر الدب الروسي إلى الحكمة في رسائله، وأفلت من عقاله ليعيث في البلد تخريبا وتدميرا، ولا غرابة في أن نجد قردا فوق أكتافه يلعق العسل الذي يدمر الدب كل شيء ليصل إليه.
لقد بات العالم يتسلى بالدب والقرد في موسكو ونيويورك وجنيف وفيينا، لكن الشعب السوري لا يتسلى وسوف يكون رده مفحما على رسائل استضعفته وغيبته فهو من يقرر و هو من يحسم لأنه مالك الأرض وصاحب الحق الوحيد، ومن لا يصدق فلينتظر: إن غدا لناظره قريب.
يحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن «يتشطر» على السعوديين والأتراك، بتقديم أفكار لحل مستحيل، ظاهره سلمي وباطنه استنساخ النظام نفسه الذي ثار عليه الشعب السوري، ولكن من دون بشار الأسد، وكأن المشكلة هي الأسد!
لا أعتقد بأن بوتين جاهل بالمنطقة وواقع الحال في سورية، إنه يعرف قواعدها جيداً ولكنه يعتمد في مناوراته على حقيقة أنه «قوة عظمى» لا يريد أحد مواجهتها في شكل مباشر، ومستفيد أيضاً من قوى إقليمية كارهة أو خائفة من «قوة التغيير المستمرة» التي أحدثها زلزال الربيع العربي، ومستعدة للقبول بنظام قبيح، بل حتى إيراني الهوى يهدّد الأمن القومي العربي، ولا تقبل بقوة ديموقراطية إسلامية يبدو مجيئها إلى الحكم في دمشق حتمياً حال سقوط النظام.
إنه يستخدم تكتيكاً ميكافيلياً قديماً، تضييع الوقت، باتصالات ومبادرات خاوية، نقاط تسع، بعد جولة مفاوضات تختصر إلى سبع، ثم تزداد واحدة بعد جولة ثالثة وهكذا، بينما تستمر آلة قتله في حربها على الثورة السورية بالتعاون مع شركائه الطائفيين، النظام وإيران والعراق و»حزب الله» في ما اتفق على تسميته «غرفة 4+1» الموجودة في بغداد.
فهو يعلم أن السعوديين والأتراك لن يقبلوا باستمرار بشار، فبقاؤه يعني استمرار الحرب، وانتصاره يعني انتصار إيران، وهم ومعهم قطر لا يريدون الحرب التي تعطّل مصالحهم، تجارة ونفطاً وغازاً، ولا يريدون أيضاً إيران في سورية، وليس هذا بالموقف السياسي التفاوضي، إنه موقف إستراتيجي ثابت لن يتغير.
هو لديه موقف إستراتيجي ثابت، فهو وإيران يعلمان أن لا مستقبل لهما في شرق المتوسط لو انتصرت الثورة السورية، فالشعب السوري وقتها سينظر إليهما مثلما نظرت إيران الخميني إلى الولايات المتحدة، التي حمّلتها كل كوارث إيران منذ ثورة مصدق، والتي لا تقارن بكارثة الشعب السوري نتيجة نصرتهما نظام بشار، وجعلت منها (حتى توقيع اتفاق برنامجها النووي في حزيران - يونيو الماضي) عقيدة سياسية عاشت بها 35 عاماً. الشعب السوري لن يسامح الروس وسيكره الإيرانيين. ربما يحتاجون إلى جيل أو جيلين لتجاوز ذلك.
لذلك هم في حاجة إلى إعادة إنتاج نظام «آل الأسد» ليحكم سورية مستقبلاً، نظام طائفي غير ديموقراطي وقمعي، ولكن من دون «آل الأسد»، إلا أن إعادة ترتيب النظام من جديد غير ممكنة في ستة أشهر مثلاً أو حتى عام، مثلما يصرّ السعوديون عندما يقولون للروس إن أقصى تعريف ممكن لمفهوم «مرحلة انتقالية» هو ستة أشهر، فترة «استلام وتسليم». الروس يريدون لبشار أن يكمل مدته الرئاسية المفترضة، أي إلى عام 2021، ثم تظاهروا بإبداء بعض اللين وتحدثوا عن سنوات أقل يتفق عليها الشعب السوري بعد المصالحة التي يقترحونها بين النظام والمعارضة!
يعلم بوتين أن من المستحيل الجمع بين مقاتلي المعارضة، الذين يفضّلون تسمية «المجاهدين» على الثوار، مع جيش النظام، كما اقترح وزير خارجيته لافروف في مشروعه للمرحلة الانتقالية، ولكي يزيد من رونق اقتراحه الغريب يقول: إن ذلك نواة لجيش وطني يحارب الإرهاب! لقد توقف الروس عن استخدام مسمى «داعش» إذ إن استهدافهم كل فصائل الثورة كذّب مقولتهم الأولى إنهم أتوا للقضاء على «داعش»، الذي توسّع في مناطق المعارضة بفضل قصفهم.
فكيف يمكن أن يجلس زعيم حركة «أحرار الشام» المهندس الشاب مهند المصري بخلفيته الإسلامية السلفية وتطلعه إلى بناء سورية تشاركية، ولكن تحكم بالشريعة، مع بعثي عتيق كرئيس الاستخبارات وسجّانه السابق اللواء علي مملوك، مسافة زمنية هائلة بين الإثنين لن يردمها غير الدم، لذلك استحدث الروس فكرة جديدة وحاولوا تسويقها على السعوديين والأتراك في فيينا، تقول بـ «محاربة من يرفض اتفاق السلام بعد التوصل إليه». الغريب أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري وقع في فخ هذا العرض وكرّره في مؤتمر صحافي، إنه الوزير نفسه الذي وقع في فخّ الروس بتجريد بشار من الأسلحة الكيماوية في أيلول (سبتمبر) 2013 في مقابل عدم شنّ هجوم صاروخي أميركي وافق عليه الرئيس أوباما بتردد شديد، فما أن سمع من كيري بالعرض الروسي حتى تراجع عن التزامه وخطّه الأحمر ليُمد في عمر بشار إلى يومنا هذا.
لذلك أستبعد أن تسفر كل هذه الاتصالات والاجتماعات عن حل. يجب أن يشعر الروس بمرارة وألم دخولهم سورية أولاً، لكي يتعاملوا مع الوضع بجدية أكثر، فلن يخرج أي مسؤول سعودي ويصرّح في مؤتمر صحافي عن أعداد الصواريخ المضادة للدبابات التي وصلت إلى الثوار بتمويل سعودي أو قطري، أو يتحدث عن نياتها في تسليح المعارضة بصواريخ أرض جو، ولكنها في الغالب تفعل كل ذلك مع حليفتيها قطر وتركيا.
الموقف السعودي يختصر في الجملة التالية: لا مكان لإيران في سورية، أعطوني حلاً يخرج إيران وميليشياتها ثم نتحدث، ولن تصدق الروس ومن يروّج لهم أنهم جاؤوا لكي يخرجوا إيران من سورية، فالحشد الإيراني يزداد، وما ارتفاع عدد قتلاهم هناك إلا نتيجة ارتفاع تعداد قواتهم ومشاركتهم المباشرة في الحرب، إذ لا يعقل أن يترك الإيرانيون سورية «جوهرة تاجهم» ودليل انتصارهم على التاريخ، بعدما ينتصرون للسيد بوتين وقواعده شرق المتوسط.
إنهم جميعاً شركاء ضد الشعب السوري، ونحن شركاء مع الشعب السوري.
يدفع الشعب السوري في حالة الحرب المعقدة في بلاده، منفرداً، الفاتورة كاملة من دمائه وتاريخه ومستقبله أيضاً. يعيش السوريون أسوأ كارثة إنسانية في العصر الحديث، بينما يمارس المجتمع الدولي، ببلادة لا توصف، حالة استعصاء سياسية على مستوى الحل، لا يمكن إيجاد وصف مناسب لأبعادها، لأنها بلغت حالة من الاستهتار بحياة البشر وبمصير وطن كامل، من حيث الديموغرافيا والجغرافيا وحقوق الإنسان، فيما ينعكس تبعا لذلك على الحضارة الإنسانية وتاريخ الشعوب بكاملها، وليس فقط على سورية، ويصب في ترسيخ ثقافة جديدة في عدم احترام حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، بل ومنظومة الأمم المتحدة باتفاقياتها وعهودها التأسيسية بشكل فاضح.
يعيش نصف شعب بكامله حالة التشرد والنزوح، ويقضي عشرات السوريين يومياً بنيران من بنادق متعددة وبجنسيات متنوعة. حرب عالمية ثالثة أقل ما يمكن أن يقال عما يجري في سورية اليوم. ولكن، وبعكس كل التجارب السابقة، تقاد هذه الحرب على أساس أن الدول المشاركة لن تتكلف أي نفقة بشرية، وسيكون وقودها كاملاً الشعب السوري بكل مكوناته وميوله السياسية وانتماءاته القومية والمذهبية، بحيث لن تكون سورية كما كانت إذا لم يتوقف كل هذا الجنون المستعر على أرضنا، وان لم تتنبه كل القوى السورية الفاعلة في سورية إلى خطورة المرحلة وتجلياتها المستقبلية على الشعب السوري.
تجتمع في سورية، اليوم، كل حثالات الكرة الأرضية من القوى المتطرفة من جهة ودكتاتوريات العالم من جهة أخرى، ويدير الصراع من بعيد بقية المجتمع الدولي، بسلبية الموقف تارة والتدخل المباشر تارة أخرى. وأمام الحالة السورية، يعجز كل المحللين والمفكرين عن استنباط العبر والتنبؤ بالمستقبل، لكنهم يجمعون على سوء الحال التي وصلنا إليها وتعقيدها.
تتجلى الخيانة بأبشع صورها في مشهد من الكوميديا السوداء، حيث يتحالف الروس والإيرانيون والإسرائيليون، وينسقون الحركة الجوية لعبور القصف اليومي في سورية، بينما تقصف قوى التحالف، من طرف آخر، مواقع لداعش، بينما يتمدد التنظيم الإرهابي، ويقوى بدل أن يضعف.
باتت المعارضة السياسية السورية منابر إعلامية لإصدار البيانات الإعلامية، وبات النظام، بمجموعاته الإرهابية على الأرض، مليشيا مقاتلة لا أكثر على الأرض السورية.
تتصارع القوى المتحالفة لإدارة الصراع بما يتبعها من قوى مسلحة على الأرض، ويتابع
"أعطت التجربة في سورية كرتا أخضر، لكل دكتاتوريات العالم، قالت لهم، بكل وضوح، افعلوا ما شئتم"
الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، قلقه العميق، بينما تخرج كل منظمات حقوق الإنسان في العالم بتقاريرها الموصفة والمدينة، من دون أي جدوى ملموسة على صعيد الإدانة أو المحاكمة، بسبب منظومةٍ أثبتت فشلها تسمى الأمم المتحدة، وتتمثل بحق الفيتو الذي تتناوب الدول الكبرى استعماله، فيما يتناسب مع أجنداتها ومواقفها السياسية، في تكريس فعلي لدكتاتورية مشرعة ومعاكسة لفكرة حفظ الأمن والسلم العالميين، واحترم حقوق الإنسان في العالم. وتعرّى العالم أمام المشهد السوري، وتعرّت السياسة، وماتت كل المواثيق الدولية.
وعلى أقدام الأطفال السوريين الغارقين في البحر، يلفظ الضمير العالمي أنفاسه الأخيرة، ونتشارك الدموع بشراً لا حول لنا ولا قوة، من دون أي جدوى من ذلك البكاء كله.
وحدها براميل الموت وسكاكين الذباحين هي الحقيقة المنتصرة ضمن كل هذا الجنون، وحدها لغة العنف تلك التي تنمو وتزدهر فوق دماء الأبرياء وفي الإعلام، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي.
استنهضت الحرب في سورية كل مسوخ التاريخ، وأعادت إلى المشهد، وعبر الأقمار الصناعية، مشاهد كنا نظنها انتهت في غياهب التاريخ الأسود للشعوب، ليحضر أمام أعيننا سوق النخاسة من جديد، ونشاهد بعيوننا كيف يذبح الناس، ويقطعون ويصلبون.
نعم، فضحت سورية العالم، فضحتنا كبشر، ووضعتنا أمام مرآة أنفسنا، ونحن السوريون المذبوحون نمعن، في أحرج لحظات تاريخنا، في تبادل التهم والتشتت والغرق في الخوف المبرر بكذبة الولاء أو المصلحة والولاء للدكتاتور، وتكريس خطاب الكراهية كل للآخر. ويحتاج العالم أن يستفيق، ليس من أجل سورية فقط، بل من أجل جيله المقبل الذي بدأ يتلقى الدروس والعبر التي تكرس ثقافة العنف والعنصرية، ثقافة الموت والغضب، ثقافة الإنكار والأنانية.
أعطت التجربة في سورية كرتا أخضر، لكل دكتاتوريات العالم، قالت لهم، بكل وضوح، افعلوا ما شئتم، وبتحالفكم مع قوى الشر، واستعمال دقيق للقمع والتهديد بالإرهاب، وبإمساككم بملفات حساسة في مناطقكم، ستهزمون شعوبكم والعالم والمنظومة الدولية بكاملها.
آن الأوان ليقظة الضمير العالمي. آن الأوان لاستبدال ثقافة الكراهية بثقافة الإنسانية والمحبة. آن الأوان لمراجعة كل شيء، العقائد والتربية والنظريات في علم الاجتماع والسياسة والعلاقات الدولية.
على مذبح سورية سقط العالم. وعلى أقدام أطفالها المقتولين بكل طرق الموت، يبكي السوريون وحدهم، وتمشي في جنازتهم كل حكومات العالم، بدم بارد.
ملفت تزامن التحرك قدماً نحو حلول سياسية في سورية واليمن معاً والمتمثل في جزء منه بالموافقة السعودية على المشاركة الإيرانية للمرة الأولى في مؤتمر دولي حول سورية وبإعلان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أن الحرب في اليمن قد تنتهي «قريباً» بعدما قبل الحوثيون وعلي عبدالله صالح القرار 2216 والدخول في محادثات للأمم المتحدة على أساس ذلك القرار وبعد «المكاسب» الميدانية في الحرب التي يخوضها التحالف العربي بقيادة سعودية. لا بد من أن واشنطن وموسكو لعبتا أدواراً وراء الكواليس لاحتواء التصعيد العلني الأخير بين السعودية وإيران والبحث عن أرضية مشتركة وإجراءات ثقة بين البلدين المهمين. العنوان السوري بمفرده ليس كافياً للرياض لاختبار نيات طهران، بل إن الاختبار الأول وربما الأسهل يكمن في اليمن حيث الأصابع الإيرانية ممتدة عبر الحوثيين على الحدود السعودية - اليمنية. فجأة، وفي خضم التصعيد السعودي - الإيراني، يحدث الاختراق في الملفين السوري واليمني وخلال الأيام القليلة الماضية والمتمثل في تصريحات الجبير عن اليمن في مؤتمر صحافي مع وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند من جهة، وفي انعقاد اجتماع فيينا المخصص لمناقشة سبل تسوية الأزمة السورية والذي يجمع، للمرة الأولى، السعودية وإيران وجهاً لوجه لبحث المسألة السورية اليوم الجمعة. اجتماع فيينا سيضم، إضافة الى الرباعي الأميركي، الروسي، السعودي، التركي، كلاً من إيران ومصر والأردن ولبنان ومسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني ودولاً أوروبية معنية بالملف السوري مثل فرنسا. فإذا كان أحد أهداف اجتماع فيينا دفع الأطراف الى إثبات حسن النيات نحو المنطقة العربية، تبدو اليمن حلقة أسهل لاختبار النيات الإيرانية. لكن لبنان قد يكون أفضل الساحات وأكثرها جاهزية لإثبات حسن النيات الإيرانية والسعودية والروسية والأميركية والتركية والمصرية والأوروبية، وذلك عبر المصارحة بأن قرار عرقلة انتخاب رئيس للجمهورية إقليمي وأن الوقت حان للتوافق الدولي على إنقاذ لبنان من الفراغ وإثبات حسن النيات. فسورية هي عنوان اجتماع فيينا، لكن الطريق إلى التسوية السياسية ما زال طويلاً وهناك حاجة إلى بناء الثقة بين جميع الأطراف المعنية بمستقبل سورية ومستقبل الأدوار الدولية في الشرق الأوسط الذي تُرسَم معالمه الجديدة. اليوم، إن ما يجري هو تكثيف الحرب الأميركية على «داعش» في العراق والحرب الروسية على «داعش» في سورية بتوافق وتنسيق بين موسكو وواشنطن وبتحالفات متنوعة تتداخل فيها اعتبارات تركية مختلفة عن سابقاتها، وغايات إيرانية ما زالت قيد الفرز والتجاذبات الداخلية، وموازين للقوى لها وطأة، ربما، على العلاقات الإسرائيلية - العربية وعلى موقع مصر في موازين القوى الإقليمية. فالشرق الأوسط القديم، كما أبلغنا مديرا الاستخبارات الأميركية والفرنسية قد «انتهى». والرئيس الروسي فلاديمير بوتين حذرنا من أن «الشرق الأوسط أصبح مركزاً لتصدير الإرهابيين».
المفيد في ما قاله بوتين هو أن «أي دولة في العالم لا تستطيع مواجهة الإرهاب وحدها، لذا لا يمكن لدولنا أن تتطور بلا تنسيق فاعل لعمل أجهزة الاستخبارات». أي، إن بوتين اتخذ قرار التكاتف الاستخباري والعسكري في الحرب على الإرهاب في عقر الدار العربية في الشرق الأوسط التي يعتبرها «مركزاً لتصدير الإرهاب»، ولن يتفرد بقيادة تلك الحرب لأن ذلك سيكون مكلفاً له في عقر داره الروسية وجيرته المسلمة في الجمهوريات الخمس التي تطوّقه.
ما لم يقله فلاديمير بوتين هو أنه الوجه الآخر للرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش الذي وصف حربه في العراق بأنها الحرب على الإرهاب بعيداً من المدن الأميركية. بوتين يخوض حربه على الإرهاب بعيداً من المدن الروسية في بلد عربي آخر هو سورية. ما تجاهله بوش ويتجاهله بوتين هو أنهما ساهما جذرياً في تغذية الإرهاب وفي استيراده وتصديره معاً إلى العراق وسورية عبر حروبهما المباشرة وبالنيابة. كلاهما قلّص واختزل العراق وسورية إلى إرهاب وكلاهما لم يرفّ له جفن وهو يعدّ مئات ألوف الضحايا من العراق وسورية طالما أن حربه على الإرهاب بعيدة من مدنه لا تكلّفه سوى أرواح الآخرين. والرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما يشبههما كثيراً في هذا الصدد.
بالأمس القريب حمى الأميركيون والسعوديون والباكستانيون الجهاديين في أفغانستان لإسقاط الاتحاد السوفياتي، وأفلحوا. لكن السّكين ارتد عليهم وأتى إرهاب 9/11 ليطعن فيهم جميعاً في شكل أو آخر. أما روسيا فإن بغضها لأولئك الجهاديين الذين كانوا أداة إسقاط الاتحاد السوفياتي بغض عميق وهي تجد اليوم اللحظة المواتية للانتقام. فموسكو تكنّ أعمق الكراهية للإسلام الجهادي والإسلام السياسي، ولن تتراجع عنها مهما كان. ولذلك أعلن بوتين مركزية التنسيق الفاعل لعمل أجهزة الاستخبارات عالمياً أثناء مخاطبته اجتماع رؤساء استخبارات الدول المستقلة في موسكو.
أثناء مؤتمر متزامن حول الاستخبارات عُقِدَ في واشنطن أول أمس، أعلن مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه أن «الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة» مؤكداً أن دولاً مثل العراق وسورية لن تستعيد حدودها السابقة أبداً. قال: «نحن نرى أن سورية مقسّمة على الأرض، النظام لا يسيطر إلا على جزء صغير من البلد: ثلث البلد الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية. الشمال يسيطر عليه الأكراد، ولدينا في الوسط هذه المنطقة التي يسيطر عليها داعش». أكد أن «الأمر ذاته ينطبق على العراق». وأضاف: «لا أعتقد بأن هناك إمكانية للعودة الى الوضع السابق». وعلى رغم إعرابه عن «ثقته» بأن المنطقة «ستستقر مجدداً» في المستقبل، إنما لم يعرف وفق أي خطوط مؤكداً أنها ستكون حتماً مختلفة عن تلك التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية.
نظيره مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، جون برينان قال إنه عندما ينظر إلى الدمار في سورية وليبيا والعراق واليمن «يصعب عليّ أن أتخيل وجود حكومة مركزية على هذه الحدود التي رُسِمَت بعد الحرب العالمية الثانية».
هذا ما يتحدث به رؤساء ومديرو الاستخبارات علناً هذه الأيام. ما يرسمونه خلف الأبواب المغلقة أمر آخر قد لا نطّلع عليه إلا بعد استكمال الحروب الميدانية والمزيد من سفك الدماء. فحتى مع اجتماعات السياسيين المبشّرة باحتمال التوصل إلى تفاهمات سياسية وانفراجات، يتفاقم التصعيد العسكري ميدانياً ليسبق الصفقات ولتكون نتائجه أوراق مفاوضات.
ما يتردد هو أن البرنامج الزمني الذي تتحدث به روسيا والآخرون في ما يتعلق بسورية يقع بين 18 و24 شهراً وذلك بناء على تقديرات ما يتطلبه الميدان العسكري لسحق «داعش» و «جبهة النصرة» وغيرهما من المنظمات التي تعتبرها روسيا إرهابية. ووفق المصادر، هذا ما طلبه الروس لإتمام المهمة العسكرية، وعليه، إن الحل السياسي الذي سيرافق الميدان العسكري يقع في الإطار الزمني نفسه إلى حد كبير.
وضمن ما يتم البحث فيه في اجتماعات مثل فيينا الأولى - وربما الثانية - وما سبقهما من اجتماعات تحضيرية تصاعدت في نيويورك على هامش الجمعية العامة، هو شكل وتشكيل النظام في دمشق كأولوية على موعد رحيل بشار الأسد أو كيفية مغادرته، سلماً بتسوية، أو سواها. فشكل النظام السياسي الجديد يقتضي الأخذ في الاعتبار أن الأكثرية السورية سنّية إنما الحلول المعقولة لا يمكن أن تسمح بهيمنة سنّية وإقصاء للأقليات، بما فيها العلويون.
وبالتالي، يتحدثون عن أسماء أشخاص مؤهلين لتولي منصب رئيس حكومة قوي سنّي، بصلاحيات موسّعة فيما تبقى الرئاسة لعلوي، وهذا جزء مما يُسمى «طائف» لبنان. يتحدثون عن تأهيل قوة سنّية في سورية، وليس فقط عن «تأهيل قوة سنّية» في العراق. وبعضهم يتحدث عن «الجيش الحر» كاحتمال وارد في هذا الإطار، ولذلك يتم تدريبه وتسليحه ودعمه أميركياً.
ووفق المصادر، إن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز تحدث مع الرئيس الأميركي باراك أوباما عن تقوية «الجيش الحر» بسلاح متطوّر كي يكون القوة السنّية المؤهلة، لا سيما أن الجيش السوري الجديد لن يكون تحت هيمنة علوية كما كان وإنما المرجو أن يكون جيشاً لا يعتمد الإقصاء.
هذه التفاصيل الدقيقة قد لا تُبحَث في الاجتماع الوزاري في جنيف الذي انطلق باجتماع ثانٍ للرباعي الأميركي/ الروسي/ السعودي/ التركي قبل أن يتوسع الاجتماع ليضم وزراء الخارجية الإيراني والمصري واللبناني والأردني والعراقي ووزراء أوروبيين. ما أُطلق عليه اجتماع اختبار النيات الإيرانية والروسية في شأن سورية، كما قال عادل الجبير، لن ينتهي بإعلانات تشكّل اختراقات نوعية في المواقف الروسية أو الإيرانية. إنها «عملية»، والعملية تتطلب الاجتماعات المتتالية.
وزير الخارجية الألماني تعمَّد لجم التوقعات من اختراق في محادثات فيينا فيما أعلن نظيره الفرنسي التوجّه مع «حلفائنا» العرب إلى فيينا بطلب تحديد «موعد محدد» لرحيل الأسد مع تعريف وسيلة رحيله. المشكلة تنطلق من هوّة واسعة بين الموقف الروسي القائل إن حكومة بشار الأسد هي الحكومة الشرعية وتدعمه إيران في ذلك، وبين الموقف السعودي والفرنسي الذي يعتبر أن الأسد فقد الشرعية وتدعمهما واشنطن في ذلك لفظياً وليس فعلياً بسبب الاتفاق الكيماوي.
الهوّة الأخرى المهمة هي مسألة المرجعية في المحادثات في شأن سورية. فإذا وافقت الدول الأربع على توسيع حلقة المحادثات لتشمل إيران، على أساس أية مرجعية يأتي الوزير محمد جواد ظريف إلى الطاولة؟ فإذا تمّ تغييب إعلان جنيف - 1 كمرجعية، ما هي المرجعية الجديدة البديلة عن «هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات تنفيذية كاملة»، كما نصّ جنيف؟ وإذا تنازلت الولايات المتحدة والسعودية وتركيا وأوروبا عن الإصرار لدى روسيا على إيضاح قبول طهران بمرجعية جنيف - 1 قبل حضورها اجتماع فيينا، ماذا حصلت عليه هذه الدول في المقابل؟
الأرجح أنه تم تعويم مرجعية جنيف كأمر واقع كي لا تكون العرقلة أمام جلوس إيران على طاولة المفاوضات حول مستقبل سورية. هذا يشكل تنازلاً آخر أمام الثنائي الروسي - الإيراني في الشأن السوري، لا بد من أن تكون وراءه تفاهمات غير مُعلَنة، أو، أقله لا بد من أن يكون استحق الاستثمار لأن فوائده آتية.
فالعلاقات الروسية - الخليجية ماضية إلى الأمام بصورة إيجابية والحديث مستمر بين العاهل السعودي والرئيس الروسي مع احتمال زيارة للملك سلمان إلى موسكو في الأشهر المقبلة. والعلاقات الروسية - المصرية تتقدم ليس في مجال شراء السلاح فحسب، وإنما في العمل معاً على كيفية الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية علماً أن مصر منفتحة على النظام في دمشق وكذلك على المعارضة. يضاف إلى ذلك القاسم المشترك المهم بين روسيا ومصر وهو الكراهية المشتركة لـ «الإخوان المسلمين» أينما كانوا. إنما مجرد التحاق مصر بعد جلوس تركيا على الطاولة السورية معاً مع السعودية وروسيا والولايات المتحدة، له دلالات مهمة لأن مصر تأتي إلى الطاولة معاً مع إيران والعراق والأردن ولبنان. فاكتملت الطاولة، أقله في هذه الجولة.
تفاهمات فيينا قد تفضي إلى جديد نوعيّ في المسيرة السورية، وقد تنتهي بخيبة أمل إذا أساء أحد المشاركين فيها فهم الآخر بجدية. والمطروح في فيينا، عملياً، ليس سورية وحدها وإنما أيضاً العراق في إطار الحرب على الإرهاب والترتيبات الإقليمية والدولية في البلدين. لكن اليمن يبقى إبرة بوصلة مهمة لرصد التفاهمات أو المواجهات. أما لبنان فإنه فرصة جيدة لإثبات حسن النيات وبناء جسور ثقة تحتاجها جداً العلاقات السعودية - الإيرانية والعلاقات الخليجية - الروسية والأميركية - الخليجية.
بعد أقل من شهر على بدء تدخلها العسكري في سوريا، بدأت موسكو بطرح أوراقها على الطاولة لاستقدام عروض التفاوض التي افتتحتها باستدعاء رأس النظام، وبشكل مفاجئ، إلى مقر الكرملين للتباحث معه في الخيارات المتاحة.
كان المشهد أقرب ما يكون إلى توجيه تعليمات منه إلى لقاء بين رئيسين، ويبدو أن موسكو كانت حريصة على إظهاره بهذه الصورة كي توجه رسالة إلى الأطراف المنشغلة بالشأن السوري إلى أنها تمتلك خيوط اللعبة، خاصة وأن طائراتها باتت تتسيد المجال الجوي السوري دون منافس من الأطراف المؤثرة التي أبدت تخوفها من أن يؤدي التدخل الروسي إلى تفاقم الأوضاع.
وبعد يومين من لقاء فلاديمير بوتين ببشار الأسد التحق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف باجتماع رباعي في العاصمة النمساوية فيينا ضمه إلى جانب كل من وزراء خارجية الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية وتركيا. وقد حمل لافروف إلى الاجتماع ما قيل إنه مبادرة روسية للحل بدت أكثر مرونة من المواقف الروسية المتشددة السابقة التي كانت تصدر عن المسؤولين الروس، والتي كانت تضاف عليها الكثير من الزيادات حين يرددها أحد مسؤولي النظام، من تشديد على أن الموقف الروسي الداعم لنظام دمشق لم ولن يتبدل وهو ثابت ولا يمكن أن يخضع لشروط التفاوض أبدا، وأما تفاصيل المبادرة التي تم تسريبها فيما بعد فهي تعتبر الأسد واحدا من أوراق كثيرة يتم التباحث بشأنها، ولا تبدو الإدارة الروسية مصرة على بقائه أو متمسكة به، بل إنها قد تقبل بألا يكون مترشحا للسلطة في حال تم الاتفاق على البنود الباقية.
وبهذا فهي تسقطه من معادلتها، وتنتقل إلى تفاصيل أخرى تبدو مهتمة بها أكثر ومن بينها الحفاظ على قواعدها العسكرية في سوريا بعد رحيل الأسد، وهي تشترط ضمانة أممية لبقاء تلك القواعد، وتعتبر موسكو أن إشراك الجيش الحر الذي أنكرت وجوده أول الأمر، هو جزء أساسي من أجل إرساء عملية سياسية قادرة على الصمود والانتقال بعد ذلك لمحاربة التنظيمات الإرهابية، التي تنظر إليها موسكو، شأنها شأن واشنطن، على أنها خطر مستقبلي قد يطيح بأي جهود لإعادة الهدوء لا في سوريا بل في عموم المنطقة.
عند هذه النقطة، أي نقطة الجيش الحر، تبدو موسكو وكأنها ضربت عرض الحائط بكل ما روج له النظام على مدى قرابة أربع سنوات حول الجيش الحر الذي اعتبره تنظيما إرهابيا وتنبغي محاربته، فيما كانت ترى الكثير من الدول المعنية بالملف السوري، الرياض على وجه الخصوص، أنه لابد من دعم الجيش الحر لأنه الوحيد القادر على محاربة التنظيمات المتطرفة، بالإضافة إلى لجم غطرسة الميليشيات الطائفية الإيرانية التي أغفلها المفاوض الروسي من أجندته، فيما هي تشكل رأس أفعى تسعى لتنفيذ أجندة إيرانية، لم تنكرها طهران.
وإن كانت موسكو مضطرة للتفاوض لإدراكها أن الورطة السورية ليست نزهة، فإنها لابد أن تقدم تنازلات تلبي اشتراطات الآخرين الذين يوافقونها الرأي على أنه لابد من محاربة الإرهاب والقضاء عليه، لكن أولاً يجب التخلص من السبب الرئيس الذي كان وراء جعل الساحة السورية مرتعاً لكافة الجماعات الإرهابية، والمقصود هنا نظام دمشق بطبيعة الحال. وهو الأمر الذي لم تكن موسكو راغبة في رؤيته، لكنها مضطرة للتعامل مع هذا الواقع، وإبعاد الأسد شيئا فشيئا عن المشهد كي تخرج بنتيجة من هذه المفاوضات.
خلال الأسبوع المنصرم، صرح ديمتري مدفيديف، رئيس الوزراء الروسي، أن التدخل العسكري الروسي في سوريا ليس لحماية نظام بشار الأسد من السقوط بل لحماية المصالح الروسية في المنطقة. وهذا صحيح إذ لم تدعم السلطات الروسية، هذا النظام دبلوماسيا وسياسيا وعسكريا، لولا أنه يمثل الجهة الوحيدة التي لا يمكنها التنصل من التزاماتها تجاه الإمبريالية الروسية.
غير أن ما عجّل من هذا التدخل وبشكل واسع هو انعدام قدرة هذا النظام على الاستمرار نتيجة تفكك قواته وتراجع إمكانياتها على المواجهة، وكذلك فشل حزب الله والحرس الثوري الإيراني والميليشيات التابعة له في حماية هذا النظام من السقوط. من هنا يعتبر القادة الروس أن الحضور العسكري الكثيف يمكن أن يكون الضمانة الأكيدة لتلك المصالح. فكان توسيع قاعدة طرطوس البحرية واتخاذ مطار حميحيم الذي تم تطويره وتجهيزه ليكون قاعدة برية وجوية روسية على مقربة من اللاذقية.
يحاول الرئيس الروسي الإمساك بقوة بكافة خيوط اللعبة في مغامرته السورية. ويبدو أنه مستعجل للإمساك بالخيوط الدبلوماسية لفرض وقائع سياسية على باقي اللاعبين الإقليميين والدوليين يصعب تجاوزها لاحقا، لأنه يتحسس، ربما، أن المغامرة العسكرية التي تورط فيها لن تخدم طويلا مشاريعه السياسية. فها هو يستدعي بشار الأسد في رحلة مهينة إلى موسكو ليقول لباقي قوى الهيمنة إن الأسد بات ورقة في يده، وإن أي مساومات تستهدف رأس النظام في سوريا يجب أن تمر في موسكو. ويتبع هذا الاستدعاء بحملة اتصالات واسعة مع حكومات المنطقة ورؤساء دولها.
وفي الوقت الذي يفرض على السوريين ركوب مخاطر البحار التي ابتلعت منهم أعدادا متزايدة، بعد أن شعروا أن صبرهم على المعاناة بات مستحيلا وأن رهانات المعارضة السورية على أدوار الخارج الإقليمي والدولي، ومنه ما سمي أصدقاء الشعب السوري، قد سقطت بالكامل، ينأى هؤلاء “الأصدقاء” ليفسحوا للدب الروسي استباحة الساحة السورية وتهشيم كل المعادلات السابقة ليرسم بالسوخوي والصواريخ الفراغية معادلات جديدة تخدم مصالحه الإمبريالية في المنطقة والعالم. هؤلاء الأصدقاء الذين يعودون اليوم ليتبنوا التفسير الروسي لورقة جنيف1 (بقاء الأسد خلال المرحلة الانتقالية) ومطالب نظام الأسد نفسه خلال جنيف2 (محاربة الإرهاب أولا).
دخل الروس إلى سوريا من بوابة الحرب على الإرهاب التي فتحتها الولايات المتحدة، فجيشت تحالفا دوليا من عشرات الدول التي أرسلت قواتها الجوية لتضرب تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق. هذه الضربات لم تمنع هذا التنظيم من التوسع ولم تحد من قدرته على الحشد والتسلح وارتكاب المجازر بحق الشعبين السوري والعراقي. ولكن الروس بدأوا بشن هجماتهم على مناطق سيطرة المعارضة السورية التي تقاتل داعش وتتعرض لهجمات متكررة منه، معتبرة أن كل جهة تعارض النظام هي جهة إرهابية.
وإذا كان الرئيس الروسي قد استغل انشغال الأوروبيين بأزمة اللاجئين، واعتبر ذلك فرصة للتدخل العسكري، فإن سير المعارك تحت الغطاء الجوي الروسي لا ينبئ بكسر التوازن القائم لصالح قوات النظام وحلفائها من حزب الله والحرس الثوري الإيراني والميليشيات التابعة له. وكان أول الغيث مجزرة الدبابات في إدلب والتي أتت على عشرات الدبابات والآليات التابعة لقوات النظام، وليس آخره نعي حزب الله يوم الأحد 25 أكتوبر ثمانية من مقاتليه سقطوا في معارك سهل الغاب، في مواجهة الجيش السوري الحر، الذي أنكر وزير الخارجية الروسي وجوده في بادئ الأمر، ليعود بعد لقاء فيينا الرباعي الجمعة الماضي فيطرح استعداد بلاده تأمين غطاء جوي له في مواجهة داعش.
لكن رد الجيش السوري الحر على مناورات لافروف كان واضحا: من يقترح تأمين الدعم للجيش الحر عليه أن يوقف غاراته الجوية عليه، حيث تؤكد كل الدلائل أن أكثر من 80 بالمئة من هجمات الطيران الحربي الروسي تضرب مناطق سيطرة الجيش الحر لتصيب مواقعه ومنازل المدنيين من أبناء تلك المناطق.
يحاول بوتين استعجال الاستثمار في تدخله العسكري من خلال تكثيف الاتصالات الدبلوماسية وطرح المبادرات التي تحقق أهداف التدخل العسكري في أقرب فرصة، مستغلا ما يعتبره مفاجأة الجميع بهذا التدخل قبل أن يبهت ويظهر ضآلة قدرته على تحقيق خروقات حقيقية على الأرض.
إذا كانت القاعدة تقول ألا حياء في السياسة، فإن القضية ترد على السقوط الأخلاقي المدوي: كل مبادرة لا تشمل تهيئة الشروط الضرورية لعودة النازحين واللاجئين، بما فيها إسقاط الأسد وحل أجهزته هي مبادرة معادية وجب إسقاطها.
ينشغل الإعلام العالمي والأوساط السياسية حتى اليوم بزيارة رئيس النظام السوري، بشار الأسد، إلى موسكو، وهذا أمر عادي أمام حدث من هذا العيار. ولكن، أن ينتشي الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ويتعاطى مع الحدث بوصفه إنجازاً تاريخياً، فهذا يستحق أكثر من الاستنكار. ولكي يكون المرء قادراً على اعتبار ما حصل أمراً عادياً خارج عالم الصفقات القذرة، يجب أن يمتلك القدرة على المرور قرب المأساة السورية بلا اكتراث، ولا يقيم أي وزن للأخلاق، ففي الليلة التي كان الروس فيها ينقلون الأسد إلى موسكو، من مطار عسكري قرب مدينة اللاذقية، كانت غارات طيرانهم الحربي التي تنطلق من المطار نفسه قد قتلت من الشعب السوري أكثر من ألف مدني في غضون أسبوعين، أغلبهم من الأطفال والنساء، من المفترض أنهم جزء من شعب الأسد في سورية الأسد، إلا أن الأسد كان على قدر من الكلبية ليبدو أنه غير معني بهؤلاء، فهو نتاج تربية عائلية، لا تسمح له بأن يرى من سورية غير نفسه في الحكم، مهما كان الثمن. ولذلك، ذهب إلى بوتين في موسكو، ظناً منه أنه سيظفر بآخر طوق نجاة، بعد أن رقص على الحبال كافة، ولم يتمكن من الانتصار على الثورة السورية.
لم يوفر الأسد طوال أربع سنوات وسيلة للبقاء في الحكم، وقد ظن، في بداية الثورة، أن إيران وحزب الله سيمكّنانه من القضاء على الثورة بسرعة، وتأمين حكمه في صورة نهائية. ولذا، سلم أمره لهما، فكانت النتيجة خسارة له ولحلفائه. وفي لحظةٍ حرجة، وقبل انهيار نظامه، لجأ إلى الروس، ووضع أوراقه كاملة فوق طاولة بوتين الذي قبل الدخول إلى اللعبة بشرط أن تتولى موسكو إدارة الملف السوري حصرياً، وتصبح الوصية على مصير الأسد.
ومن دون شك، تبقى الكذبة الكبرى أن الروس أخرجوا الأسد من دمشق، ليوجهوا رسالة للعالم بأنهم يتمسكون به، وهم يقاتلون في سورية من أجل بناء دولة تعددية علمانية. ينبغي أن يكون المرء مغفلاً، لكي يصدق هذه البدعة. ولنفترض أن الأمر على هذا النحو. إذن، لماذا عاملت موسكو الأسد بامتهان شديد؟ ومن يتأمل الصور التي سرّبها الروس عن بعض جوانب اللقاء بين بوتين والأسد، ويتفحص لغة الجسد في الحركات والأحاديث وتعابير الوجوه، يقع على مشاهد امتهان وقسوة من طرف بوتين ووضاعة ووغدنة من جانب الأسد.
بقي من مفاعيل الزيارة سؤال واحد، يتردد في اللقاءات الدولية التي تلتها، يتعلق بمدى تمسك موسكو بالأسد. ومنذ ذلك الحين، تسربت عدة روايات، جزم بعضها بأن موسكو أبلغت واشنطن بأنها حصلت على تعهد من الأسد بمغادرة الحكم. وبعض آخر تحدث عن رفض موسكو تقديم تعهدات بالضغط على الأسد، من أجل الخروج من المشهد. وعلى الرغم من الغموض غير البناء، فإن الثابت هنا أن موسكو تفاوض على جلد الأسد، فهو، في حساباتها، وقع في الفخ من تلقاء نفسه، لكنها لن تبيع هذه الورقة بأي ثمن، وهي تعمل على المستويين، الميداني والسياسي، لاستثمارها، لأن دخول روسيا إلى سورية غيّر من المعادلة، وبات الروس يتعاطون مع بقية الأطراف على أساس أنهم من يمسكون بمفاتيح الحل. ولكن، في حقيقة الأمر، لا تملك موسكو سوى جلد الدب السوري، لأنها، ببساطة، ليست هي الطرف المقرّر على الأرض السورية. ولهذا، تحاول، بعد شهر من تدخلها، مهادنة المعارضة السورية المسلحة الوازنة ميدانياً بعد أن فشلت في ضربها.
في معادلة بوتين والأسد، يصح الإسقاط على السمسار الروسي، الذي ينتظر الثمن المناسب لجلد الدب السوري.