لا يحين أوان التسويات للحروب الأهلية ما دام الأطراف المحليون يرون أنفسهم قادرين على الانتصار وتحقيق غاياتهم بالوسائل العسكرية، فكم بالحري إذا ما كان هؤلاء الأطراف المعاندون لإيجاد تسوية سياسية لا يزالون يحظون بدعم إقليمي تمويلاً وسلاحاً؟ والحرب السورية ليست شواذا عن هذه القاعدة على رغم ان ثمة رغبة أميركية - روسية في "الحل السياسي" ولكن لا يبدو ان ثمة قدرة على فرض هذا "الحل" على الداخل السوري.
في مجرى هذا السياق للاحداث لا يعود مستغرباً تعثر صيغة جنيف والعودة الى الميدان في محاولة لحسم صراع أكثر تعقيداً بكثير مما تعتقد واشنطن وموسكو، فلا "التناغم" الذي دعا إليه الرئيس الأميركي باراك أوباما مع الروس كاف وحده، كي يقنع تركيا ودول الخليج العربية بأن أوان التسوية السياسية قد حان في سوريا، ولا دعوة الكرملين الى مراقبة دولية على الحدود التركية - السورية بالأمر المتاح. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تظهر الصواريخ المضادة للطائرات من طراز "اف أن - 16" على أكتاف مقاتلي المجموعات السورية المعارضة وقت إنعقاد آخر جولات جنيف.
ويمكن أن يقرأ الموقف الاقليمي المعارض للتسوية السياسية، ليس من خلال تزويد المعارضة السورية أسلحة جديدة نوعية، بل يجب التدقيق جيداً في ما قاله منسق وفد الهيئة العليا للمعارضة رياض حجاب في معرض تبريره للانسحاب من جنيف ألا وهو أن التسوية غير ممكنة مع بقاء الرئيس السوري في الحكم بأي صيغة من الصيغ، وذلك رداً على إقتراح المبعوث الاممي تعيين ثلاثة نواب للاسد من المعارضة على ان يتنازل لهم عن بعض صلاحياته.
ما تريده المعارضة السورية أو هؤلاء الأطراف الداعمون لها ولا سيما منهم الاقليميون، هو سوريا من دون الاسد. ولأن هذا هدف من المستحيل أن يتحقق من طريق المفاوضات سواء في جنيف أو في غيرها، فإن الحرب السورية لدى المعارضة وداعميها الاقليميين لم تحقق غرضها بعد.
وهنا تتبدى محدودية الضغط الأميركي - الروسي للتقيد بوقف الاعمال العدائية او للمضي في حوار جنيف. إذن هي حرب من أنواع الحروب التي لم تستنفد أغراضها بعد، على رغم كل التحذيرات من المخاطر المترتبة على إستمرارها سواء في صعود التنظيمات الارهابية أو في امتداداتها على دول الجوار وحتى على أوروبا.
لذلك لا يعود مستغرباً تعثر جنيف والعودة الى الميدان لتحسين الشروط السياسية. ولا يكفي أن تقتنع روسيا وأميركا بـ"الحل السياسي" وإنما المطلوب أن يقتنع الأطراف المحليون ورعاتهم الاقليميون بذلك أولاً.
لا شك أنكم سمعتم أبواق النظام السوري في الأيام الأولى للثورة وهي تصور المتظاهرين وكل أنواع النشاطات الثورية السلمية على أنها أعمال إرهابية إسلامية. أول من وصم الثورة السورية بالإرهاب هو إعلام النظام. ولم يكن ذلك عبثاً، بل كان بداية لتنفيذ الخطة الموضوعة لشيطنة الثورة وإلباسها ثوباً إسلامياً منذ انطلاقتها لتأليب العالم عليها. لا بل إن أجهزة المخابرات السورية دفعت ببعض عملائها إلى ارتداء ثوب ديني في مناطق كثيرة ليخطبوا أمام المتظاهرين، ويدعوا إلى إقامة نظام إسلامي في سوريا. وقد شاهدت بأم عيني أحد رجال الدين وهو يقف على شرفة إحدى البلديات ويصرخ بأعلى صوته أمام المتظاهرين داعياً إلى أسلمة البلاد. وقد تساءلت في تلك اللحظات قبل حوالي خمس سنوات: كيف تجرأ ذلك الشيخ على ذلك الفعل، دون أن أدري أنه لم يكن شيخاً بقدر ما كان عميلاً للمخابرات هدفه إلباس الثورة ثوباً دينياً يسهّل على النظام وصمه بالإرهاب والتطرف لاحقاً بسهولة فائقة ودفع الغرب إلى مواجهته بدل التعاطف مع الثورة.
وبعد أسابيع فقط سارع النظام إلى إعلان عفو عام في سوريا. وقد ظن بعض المغفلين وقتها أنه يريد أن يرطب الأجواء مع الشعب الثائر، بينما كان الهدف من العفو ليس إطلاق المساجين والمتظاهرين السلميين، بل إطلاق الإسلاميين المتشددين، وعددهم بعشرات الألوف، بحيث يؤكد النظام لاحقاً نظريته التي أطلقها بأنه لا يواجه ثورة، بل إسلاميين إرهابيين.
وحسب لبنانيين مقربين من نظام الأسد، فقد ترك النظام الورقة الإسلامية حتى المرحلة الأخيرة. كيف لا وهو ماهر جداً في التلاعب بها، فقد اعترف اللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن القومي، حسب وثائق ويكيليكس، بأن المخابرات السورية كانت قد أخبرت الاستخبارات الأمريكية بأنها قادرة على اختراق كل الجماعات الإسلامية وتسييرها حسب المُراد. وبينما كانت الثورة السورية على وشك أن تضع النظام في الزاوية، راح يركز بشكل مكثف على تضخيم الجانب الإسلامي «الإرهابي» بين قوسين في الثورة، وهو بعبع لا يضاهيه أي بعبع آخر في تخويف الداخل والخارج على حد سواء. وبينما كان الجميع يتحدث عن ثورة شعب، كان النظام وحلفاؤه يتحدثون عن جماعات إسلامية إرهابية في سوريا.
وعندما وافق النظام على التفاوض مع المعارضين في مؤتمر جنيف الأول، رفض مناقشة أي شيء باستثناء موضوع الإرهاب. وقد قال ممثله في الأمم المتحدة وقتها إن مشكلة سوريا تتمثل أولاً وأخيراً في قضية الإرهاب. ولا يمكن حل أي مسألة دون مكافحة الإرهاب أولاً. ومن الواضح أن رسالته بدأت منذ مؤتمر جنيف الأول تصل إلى العالم، وخاصة الغرب. وقد لاحظنا أن الإعلام الغربي بدأ شيئاً فشيئاً ينسى شيئاً اسمه ثورة شعب في سوريا، وراح يتحدث فقط عن جماعات إرهابية، خاصة بعد أن بدأ اسم داعش يلمع بقوة في سوريا والعراق. وقد استفاد النظام السوري كثيراً من سيطرة داعش على مدينة الرقة في سوريا وعلى الموصل في العراق، بحيث أصبحت المهمة أسهل بالنسبة له عندما يريد إقناع العالم بإسلامية الثورة.
واليوم بعد أن أنهت الثورة السورية عامها الخامس، نستطيع القول إن النظام نجح نجاحاً باهراً في إقناع العالم بأنه يواجه إرهاباً إسلامياً وليس ثورة شعبية. وقد لاحظنا منذ أشهر كيف بدأ الكبار يتحدثون سراً وعلناً عن ضرورة إشراك الجيش السوري في عملية مكافحة الإرهاب في المنطقة متناسينً كل ما فعله ذلك الجيش الفاشي بالسوريين. لقد أصبحت الجماعات الإسلامية ممثلة بداعش وغيرها الشغل الشاغل للعالم، بينما غدا النظام السوري شريكاً في مكافحة الإرهاب المزعوم. ولم يعد ينظر الإعلام الغربي إلى الرئيس السوري كمجرم تاريخي، بل كضحية للإرهاب الإسلامي، وراح يصوره شريكاً استراتيجياً في التصدي للإرهابيين الإسلاميين الذين أخذوا بدورهم يهاجمون العواصم الغربية كباريس وغيرها.
لماذا بعد خمس سنوات توجهت أنظار العالم إلى داعش والجماعات الإسلامية الأخرى ونسيت أصل البلاء؟ لماذا يركزون على تنظيمات إسلامية لم تقتل من السوريين بضع مئات، بينما قتل النظام مئات الألوف وهجّر الملايين، ودمر ثلاثة أرباع البلاد؟ أيها العالم الأعور، فلتذهب داعش وأخواتها في ستين ألف داهية، لكنها ليست أساس المشكلة السورية، فلماذا أصبح بعبع الإسلاميين الشغل الشاغل في وسائل إعلامكم، بينما تتسابق التلفزيونات الغربية على إجراء مقابلات مع بشار الأسد بهدف التلميع والترويج، مع العلم أنه رأس الكارثة في سوريا؟
لا نقول أبداً إن الثورات يجب أن لا ترفع شعارات إسلامية. لا أبداً، فمعظم الثورات العربية ضد الاستعمار قادها إسلاميون، وقد كانوا على الدوام مقاتلين صناديد أشداء في ساحات الوغى. لكن بعد أن شيطن الإعلام الغربي وحتى العربي كل ما هو إسلامي، فقد أصبحت أسهل طريقة للقضاء على أي ثورة شعبية إلباسها ثوباً إسلامياً. ما على الطواغيت إلا أن يربطوا أي حركة شعبية بالإسلام والإسلاميين، فيهرع العالم الحقير أجمع لمساعدتهم في القضاء عليها، حتى لو كانت مشروعة مائة بالمائة.
ما فعله الصراع في سورية، عدا ارتكابات نظام بشار الأسد من مجازر وتدمير وتصفيات تحت التعذيب، أن استحالة الحسم العسكري فرضت خيار الحل السياسي، لكنّ حلاً كهذا يفترض وجود «قنوات» اتصال بين الطرفين، وهذه مفقودة تماماً بإرادة الطرفين، وحتى الدور الذي يمكن أن يتولاه مستقلّون متعذّر أيضاً، فهؤلاء قد يرغبون في أدائه إلا أنهم يفتقدون اعتراف النظام والمعارضة بهم كـ «وسطاء»... لذلك، استقرّ إنهاء الصراع في كنف القوى الخارجية، وهو يخضع بالضرورة لمصالحها واصطفافاتها وانحيازاتها، فيما أظهرت المراحل المتعاقبة لمحاولات الحسم، عسكرياً أو سياسياً، أن إدارة الأزمة والكلمة الفصل كانتا دائماً لدى الثنائي الأميركي - الروسي.
تسلّطت الأضواء مجدّداً على الجولة الثالثة للمفاوضات السورية في جنيف، وكان واضحاً أن أفقها مسدود، وأنها آيلة الى «التعليق» أو الانهيار. فالنظام يشارك فيها شكلياً، لأن حليفه الروسي طالبه بلعب اللعبة وحليفه الإيراني لم يمانع، لكنه أقبل على التفاوض بأطروحة مستهلكة تفيد بأن النظام قائم وباق، بل إنه أجرى انتخابات صوَرية للمرّة الثالثة طوال الأزمة، وكل ما يستطيع التنازل عنه هو بضع حقائب وزارية للمعارضة في «حكومة وحدة وطنية» لاستئاف الحكم، كأن شيئاً لم يكن، على رغم أن الرجل الباقي أيضاً على رأس النظام هو صاحب «ملف الأسد» الموثّق الذي لا يثبت إجازته الجرائم فحسب، بل يطلب التشدّد بمعاقبة مَن يقصّرون في استخدام أقسى أنواع التعذيب (وفق لجنة العدالة والمساءلة الدولية/ مجلة «نيويوركر»، وتقارير دولية عديدة). ويستند نظام الأسد الى عناصر عدة لدعم موقفه «التفاوضي»: انقلاب المقاربات الدولية من أولوية إطاحته الى أولوية محاربة الإرهاب ومواجهة تدفّق اللاجئين، تحسّن وضعه العسكري بفضل التدخل الروسي، وصلابة الدعم الإيراني. والأهم، أن المحور الأساسي للتفاهمات الأميركية - الروسية («الحفاظ على الدولة والمؤسسات») عنى دائماً ضرورة الحؤول دون انهيار النظام، على رغم عدم تردّده طوال الأزمة في تقويض تلك الدولة والمؤسسات كما في تدمير كل مقوّمات الاقتصاد.
صيغة «الحل» هذه كما عرضها الأسد في خطبه وأعاد الإيرانيون اختراعها في «مبادرة النقاط الـ4» وأيّدها الروس في كل مناسبة، كانت ولا تزال غير كافية وبالغة الانفصال عن طبيعة الأزمة. ليس هذا مشروع حل أو تسوية يعرضه «رئيس» تعلّم مما حصل، فالأسد يقترح فيه مواصلة احتقار شعبه وإخضاع البلد لمصالح حلفائه، مخيّراً المجتمع الدولي بينه وبين «داعش»، ومهدّداً بفوضى عامة في حال سقوطه أو إسقاطه، فوضى أخطر ما فيها سيكون صراع شبّيحته في ما بينهم، فضلاً عن صراعات الفصائل المعارضة نفسها. هذه الاحتمالات تجعل القوى الخارجية متردّدة حيال خيار «هيئة الحكم الانتقالي»، الذي بني أساساً على فرضيتين: الأولى، أن الأسد يريد التنحّي وسيجد في هذه «الهيئة» مخرجاً «آمناً»، والثانية أن الدعم الدولي لـ «الهيئة» سيشكّل ضغوطاً على الأسد تضطرّه للرضوخ والانكفاء... لم يتأكّد أي من الفرضيتين في أي مرحلة، لا في جنيف 2014 بعد القرار 2118 في سياق التوافق الأميركي - الروسي على تدمير الترسانة الكيماوية، ولا في جنيف 2016 بعد ذروة «التوافق» الدولي في لقاءات فيينا والقرار 2254.
ما تأكّد فعلاً، أن العجز عن الحسم العسكري كان انعكاساً للعجز عن الحسم السياسي، والعكس صحيح. ينطبق ذلك على النظام وإيران كما على المعارضة، على رغم أن الأخيرة قدّمت تنازلاً كبيراً بقبولها تقاسم «هيئة الحكم الانتقالي» مع النظام. لكنه عجزٌ ينطبق أيضاً على الولايات المتحدة وروسيا اللتين تتحكّمان بالحركة الميدانية (مع أفضلية انتزعتها روسيا لمصلحة النظام، بموافقة أميركية مشروطة)، ولا تبدوان متحكّمتين بالتحرّك نحو الحل السياسي، سواء لصعوبة توافقهما على صيغة متوازنة لهذا الحل، أو لأنهما تختلفان علناً على «مصير الأسد» وتتفقان ضمناً على ضرورة وجوده في بداية أي عملية سياسية، حتى لو لم يكن تعاونه مضموناً لتحقيق أهدافها. وعلى رغم أنهما توصّلا الى فرض هدنة «وقف العمليات العدائية»، إلا أن استثمارها سياسياً يبدو متعذّراً حتى الآن، مع افتراض أنهما مصممتان فعلاً على إنهاء الصراع، لكن ما أظهرتاه من «إرادة» لا يؤكّد ذلك.
هناك مفاوضات في جنيف لكنها بين الأميركيين والروس، ويتردّد أنهم يبحثون في صيغة لـ «الانتقال السياسي» يمكن فرضها على الطرفين، صيغة لا تتضمّن رحيل الأسد ولا تمنحه «حكومة وحدة وطنية» كما يصفها ويتوقعها إحياءً لـ «شرعيته»، ولا تلتزم حرفية «هيئة الحكم الانتقالي» بل تتجاوزها لمصلحة «حكومة جامعة» وفقاً لصياغات لقاءات فيينا. قد يدعونها «حكومة انتقالية»، لكن المهم ليس اسمها بل وظيفتها، لذلك ينكبّون على صوغ «إعلان دستوري» بمحتوى يتيح لهم الضغط على الدول الداعمة ومن ثمَّ على الطرفين. إذا اتفقت الدولتان الكبريان على هذا «الإعلان»، فإنه ينزع من الأسد ديماغوجية المحاججة بأن «دستور 2012» لا ينص على «انتقال سياسي» (وهل ينص على تشريع جرائم النظام؟)، كما أنه الطريقة الوحيدة لنقل صلاحيات الأسد الى «الحكومة» أو «هيئة الحكم» الانتقاليتين. أما هل تستطيع الدولتان فرض ما تتفقان عليه؟ فهذا سيكون موضع اختبار.
هناك آليات طرحتها موسكو، وأهمها «المجلس العسكري» المشترك بين الجيش النظامي و «الجيش الحرّ» والضباط المنشقّين الذين لم يشاركوا في القتال، وهو يشكّل عيّنة من الأفكار ذات المنحى الانتقالي الواضح، إذ يُفترض أن تكون إعادة الهيكلة محور عمله، وأن تشمل أيضاً أجهزة الأمن. لكنه غير قابل للتفعيل إلا في ظلّ حل سياسي. لكن هناك أيضاً اقتراح الـ «ثلاثة نواب للرئيس تختارهم المعارضة»، الذي وضعه ستيفان دي ميستورا أمام وفد المعارضة، مع «صلاحيات محدودة للأسد في المرحلة الانتقالية». لم يكن المبعوث الأممي يهَلْوِس أو يستخرج الاقتراح من خياله أو من اجتهادات أحد مستشاريه، كما قال، فهو يعرف أن نظام دمشق لن يمرّر له مثل هذا التعرّض لـ «مقام الرئيس». الأرجح، أن موسكو حمّلته هذا العرض كـ «بالون اختبار» يمكن أن يحدث بلبلةً في صفوف المعارضين. لكن المنحى الإغرائي المكشوف أفشل التجربة وأحبط الإيحاء بأن النظام بدأ يفكّر في «تنازلات» لا لدفع الحل السياسي وتسهيله بل لتغيير وجهته، وبالتالي لنسف فكرتَي «الانتقال السياسي» و «هيئة الحكم الانتقالي» من جذورهما.
كان الهدف من «بالون الـ3 نواب» إظهار النظام كأنه ينخرط جديّاً وإيجابياً في المفاوضات، وجعل من فكرة «حكومة وحدة وطنية» خياراً محفّزاً وجذاباً، بحيث يكون دي ميستورا وفريقه جاهزَين لطيّ صفحة «هيئة الحكم الانتقالي» وتوجيه التفاوض نحو «ما يتوافق عليه الطرفان»، وهذا في أعراف الأمم المتحدة أقوى وأعلى من بنود أي قرار دولي.
لكن طبيعة الصراع في سورية حدّدت وجهة بوصلة الشعب في شكل نهائي، فأي طرح لا يلبي مطلب «رحيل الأسد» هو بالنسبة الى المعارضة، أحزاباً وأفراداً، تجاهلٌ لشرعيتها ومشروعيتها. لذلك، أخفق «الاقتراح» الروسي في إضعاف تماسك المعارضة وزاد من تشبّثها بمطالبها، بل إنه على العكس أظهر أمرَين: الأول، أن النظام مستميت للقضاء على مبدأ «الانتقال السياسي» الذي ثُبِّت كاستحقاق سوري (ودولي) لا بدّ منه. والثاني، أن النظام وحلفاءه يعترفون بأن هذه المعارضة التي ميّزت نفسها بوضوح عن الجماعات الإرهابية، والمستعدة للتفاوض، هي التي تخوض الصراع الداخلي، وبالتالي فإن أي اتفاق سياسي في جنيف ينبغي أن يتمّ معها، خصوصاً أنها تمكّنت من فرض احترام الهدنة، وهذا ليس في متناول أي «معارضات» أخرى... لكن هذه المعارضة تعاني، في المقابل، من غياب إرادة دولية، أميركية - روسية تحديداً، لدعم جديّ ومجدٍ لمقتضيات الحل التفاوضي. بل إنها مدركة أن روسيا تدخّلت في الأساس لضربها وتصفيتها تعزيزاً لوضع الأسد ونظامه، وهذا في حدّ ذاته لا يسهّل أي حل بل يقوّضه.
وكان خط أحمر قد رُسم من قبل رئيس أعظم دولة في العالم. وكان العرب، مواطنين لا حكاماً، قد صدّقوا أن حماية المدنيين أولوية، وأن القتل الممنهج لا بدّ أن يتوقف. يومها استنفرت دول المنطقة على أساس أن الموت بقذيفة أو صاروخ أو قناص مسموح أم الموت بسلاح كيماوي فتماما محظور. ومرّ أيلول وعامان ليتضح أن الخط الأحمر ما هو إلا دماء السوريين، جميعا، من هم مع حكومة الأسد ومن هم ضدها.
أذكر الأمل في عيون ذلك اللاجئ في مخيم الزعتري في الأردن. قال لي: "لن يسمح أوباما أن تباح دماؤنا ونتشرد في أصقاع الأرض، سوف يتدخل ونعود إلى ديارنا".
حتى اللحظة يقبع مئات الآلاف من اللاجئين في المخيمات، والحياة بالنسبة لهم تعود إلى الوراء.
تصوروا لو لم يحتضن بعض السوريين داعش وتنظيمات أخرى متطرفة؟ ماذا كان سيفعل الرئيس الأميركي والمجتمع الدولي؟ ربما كان اخترع ذريعة أخرى كي لا يفعل شيئاً.
تارة يقول المسؤولون الأميركيون لا بديل للأسد، وربما هنا هم محقون، فما يُسمى بالمعارضة السورية تكاد لا تُجتمع على قضية واحدة. وطورا نسمع أن التطرف الديني هو العدو الحقيقي، وهذا أيضا صحيح، فهو عدو العرب، مُسلميهم وأقلياتهم الإثنية والعرقية والدينية. ثم يُقال إن الأزمة في سوريا تدوّلت، وهو كذلك لأن تمييع القضية يُفسح الطريق للطامحين عبر الحدود بلعب الأدوار العسكرية والسياسية.
في الماضي كان أي رئيس أميركي، بالمطلَق يحاول أن يسجل هدفا ما في ملف السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فالقناعة كانت أن القضية الأم في العالم العربي هي قضية فلسطين المحتلة. في السنوات الماضية لم تعد فلسطين هي القضية الوحيدة، إذ انضم إليها مطالب الشعوب العربية بحياة أفضل وحريات وأنظمة سياسية عصرية. أصبح همّ العربي أن يعبّر عن مطالبه دون أن يُقتل أو يُسجن.
وهنا وعد أوباما وفشل، لم يسجل أي هدف في تونس وليبيا ومصر وسوريا والعراق.
يوم وقف في القاهرة خطيبا، استبشر المواطن العربي خيرا، وحَلُم باستيراد مبادئ الديمقراطية والعدالة إلى مصر والخليج وبلاد فارس والهلال الخصيب. صدّق كثيرون أن شرطي العالم يملك حلولا لمشاكل المنطقة المزمنة. ظنّوا أن رجلا جلده من جلدهم يفهم مشاكل المنطقة وينهي الحروب تماما، كما قلّص من حروب أميركا وتواجدها العسكري في أفغانستان والعراق. خاطب أوباما العربي دوما وقطع وعودا كثيرة ونفّذ منها القليل.
نظرة المواطن العربي للرئيس الأميركي بين خطاب القاهرة واليوم، وقفت عند خطوط حمراء لم يلتزم بها في سوريا، يوم وعد بإيقاف حمام الدم ولم يفعل. قد يكون القرار بعدم الانغماس في وحول بلاد الشام قد جنّب العالم حربا عالمية ثالثة شرارتها سوريا. أو ربما حربا إقليمية تغرق الأردن ولبنان وتركيا والعراق في دوامة حروب لا نهاية لها. أو ربما تفادى أوباما المزيد من المجازر المدنية. سيناريوهات كثيرة منها ما نعيشه اليوم من حرب إقليمية في سوريا.
كثيرون يدركون أن الولايات المتحدة الأميركية منهمكة بقضاياها الداخلية من الاقتصاد إلى الأمن الداخلي. لكن صورة أوباما أصبحت مرادفة لصورة ناكث بالوعود، بدأت في سوريا وانتهت في صفقة شبه غامضة مع إيران. لعل وعود أوباما درس للعرب، في أن الحل هنا، والخطوط الحمراء نحن من يرسمها ونلتزم بها. حان وقت التغيير ليس للمواطن الأميركي فقط بل للعرب أيضا.
من المؤكد أن المبعوث الأممي إلى سوريا ستافان دي مستورا لم يكن يتوقع أن تكون مهمة صناعة السلام وإنهاء الصراع الدامي والمستمر منذ أكثر من خمس سنوات في سوريا أمرا هينا وسهلا، نظرا لتعقيدات الوضع السوري ولعدم وجود رغبة حقيقية من راعي عملية السلام في الضغط باتجاه الوصول إلى حل يضمن توقف نزيف الدماء، ويفتح الطريق أمام السوريين لبدء الحياة من جديد، وعلى الرغم من أن السيد دي مستورا كان واثقا بقدرته على تقريب وجهات النظر بين المتحاورين، واستطرادا المتحاربين، إلا أنه وبلا أدنى شك أخفى في ثنايا تصريحاته المتفائلة نوعا ما الحقيقة الواضحة وضوح الشمس وهي ألا وجود لنقاط يمكن البناء عليها من أجل البدء بشكل جدي بعملية تفاوض، ولتستغرق تلك العملية ما تستغرقه من الوقت، وهو يدرك، كما يدرك المجتمع الدولي بأسره والذي لم يبخل بالقرارات الأممية التي تمهد الطريق أمامه لإنجاز مهمته، أن العقبة الرئيسية في وجه الشروع في عملية صناعة السلام تتمثل في بقاء بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا، وأن جميع التفاصيل التي يتم التفاوض حولها تظل ناقصة ولا قيمة لها، طالما أنه لم يتم الاتفاق، دوليا، على إزالة تلك العقبة، ليست للأمر علاقة بالموقف الروسي الداعم لنظام الأسد فحسب، ولكن لعدم وجود رغبة أميركية حقيقية في إنهاء هذا الملف.
وعلى الرغم من الفشل الذي منيت به جميع المباحثات السابقة، والتي تعتبر المباحثات الأخيرة أكثرها نجاحا، كونها جمعت الأطراف جميعا في مكان واحد، وإن لم يتم لقاء مباشر بينهم، فقد عمل المبعوث الأممي على حمل أوراق الطرفين ودراستها وإطلاع كل طرف على ما في جعبة الطرف الآخر، دون أي تقدم بطبيعة الحال، ولا حتى انفراج مهما كان بسيطا، الأمر الذي لم يخفه دي مستورا وهو يعلن في كل مرة أن الأمور ما زالت بحاجة إلى الوقت، وقد ذكره مؤخرا رئيس الهيئة العليا للمفاوضات رياض حجاب وهو يعلن الانسحاب من مفاوضات جنيف بأن وقت السوريين من دم، وأنهم لم يأتوا إلى جنيف لإضاعة الوقت بالاستماع إلى محاضرات يتلوها رئيس وفد النظام، بشار الجعفري، الذي لا يضيع فرصة دون أن يتهم وفد الهيئة العليا للمفاوضات بالتبعية والإرهاب، متناسيا في الوقت نفسه أن النظام الذي يمثله يخضع، وبشكل كامل، للوصاية الروسية، وهو يتحالف مع إيران التي تمثل رأس الإرهاب في المنطقة.
التلاعب بالألفاظ الذي يتقنه بشار الجعفري جعله يترجم هيئة الحكم التي نص عليها القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي إلى حكومة وحدة وطنية، ومع أن التباين واضح في المفهومين، إلا أن السيد دي مستورا لم يقف ليعلن أن المطلوب هو تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، ربما لحرصه على عدم إفشال المسار الهادئ الذي كانت تسير به المفاوضات، حسب تعبيره، إلا أنه على ما يبدو لم يحسب حساب الطرف الآخر.
وهكذا قدر لمفاوضات جنيف أن تتوقف، وعلى المبعوث الأممي السيد دي مستورا أن يعيد ترتيب أوراقه للمرة العاشرة ربما وأن يؤمل نفسه بألا يكون مصير مهمته الفشل كما حدث مع سابقيه كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي وهذا الأخير تحديدا وصف عملية إحلال السلام في سوريا بالمهمة المستحيلة.
ولعل السيد دي مستورا سيكون مضطرا للعودة إلى مجلس الأمن مرة أخرى، ليعينه على إكمال عمله، إذ أن الهدنة، كما هو واضح، باتت في خبر كان، والنظام المدعوم روسيا وإيرانيا يزداد شراسة وتزداد وتيرة القصف يوما بعد يوم، فيما الكتائب المقاتلة على الأرض قد حسمت أمرها على مواصلة تصديها لمختلف أنواع الميليشيات الطائفية والتكفيرية وهي تأمل أن يأتي الدعم العسكري، عربيا هذه المرة لمواجهة التغول الإيراني، والذي تقول مؤشرات كثيرة إنه لن يتأخر عن الوصول.
هل من المبالغة القول إن ما نشهده اليوم بجنيف، مما أطلق عليه وصف المفاوضات بين ممثلي النظام الأسدي وممثلي المعارضة بإشراف الوسيط الأممي وبمعونة مستشاريه من النساء والرجال الذين على زعمهم المعارضة لم يحظوا بشرف التواجد ضمن الوفد الممثل لمعظم أطيافها، ليس إلا مسرحيات مُعدّة بإتقان، بعضها يعرض أمام العامة وتنقله وسائل الإعلام وبعضها أمام الخاصة ويُسرَّبُ منه ما شاء له المخرج أن يُعرف وثالثها أمام خاصة الخاصة لا يُعرف منه شيئاً إلا استنتاجاً أو بالأحرى تخميناً؟
يدرك كل من بذل جهداً بسيطاً في متابعة مجريات الحدث السوري منذ بداياته أنّ كل محاولات العثور على ما أطلق عليه منذئذ «الحل السياسي» لم تكن إلا ترويضاً على قبول ما لم يكن وما لا يمكن أن يقبل به شعب يكابد القتل اليومي والتهجير والحصار والتجويع منذ خمس سنوات من دون أن يتنازل عن حقه الأساس الذي خرج يطالب به في إسقاط النظام من أجل تحقيق الحرية والكرامة.
إسقاط النظام يعني، من دون أي مواربة أو مراوغة أو لعب بالألفاظ: إسقاط النظام الأسدي بكل رموزه وممثليه، أشخاصاً ومؤسسات؛ يعني: إسقاط نظام المصالح الفردية/الفئوية الذي أقامه الأب المؤسس من حول شخصه وأسرته وحفنة من طائفته، بعد أن جمع عصبة من الأفراد والجماعات ذوي انتماءات قومية ودينية وطائفية مختلفة، مدنية وعسكرية، وربطها إليه بمصالح أتاحها لها، فصارت من بعدُ جزءاً لا يتجزأ من هذا النظام بحيث بات دفاعها عنه هو، في الوقت نفسه، دفاعاً عن نفسها بالدرجة الأولى. لم يكن الأمر، وليس هو بأي وجه من الوجوه، عبودية بقدر ما هو تماهي أشخاص ومصالح ومصائر في نسق عصبة مصلحية، وهذا ما يفسر هذا التلاحم من حول شخص رئيس النظام ماضياً وحاضراً، وما يؤدي بالتالي، منطقياً، إلى جعل مطلب إزاحته أساساً جوهر أي عملية انتقالية لابدّ لأي حلٍّ تفاوضي يوصف بالسياسي أن يتضمنه كاملاً غير منقوص.
لكن البعض ممن يقدمون أنفسهم بوصفهم «المعارضة البناءة» ويضعون قوسين صغيرين من حول كلمة الثورة كلما تطرقوا في أحاديثهم إلى ثورة السوريين يأخذون على من تصدّوا لحمل هذا الحق والدفاع عنه أمام من ينكرونه عليهم محاولين تجسيده قولاً وفعلاً وممارسة أنهم لا يزالون يراوحون عند مطلبهم الأساس في الوقت الذي «تفوّق» فيه خصمهم على نفسه و»تطور» فصار ينطق بما يريد سادته وحُمَاتُه منه أن يقول.
كما أن البعض من القوى الإقليمية والقوى الدولية ممن لم ينظروا يوما إلى ثورة السوريين إلا بوصفها حادثاً طارئاً يمكن السيطرة عليه وتكييف مآلاته أو إعادة صنعه عملت ما بوسعها كي ترتقي بمطلب وقف القتال إلى مقام أولوية مطلقة بالنسبة إلى المطالب الأخرى بما فيها الحرية والكرامة وإسقاط النظام، ليسهل بعد ذلك الالتفاف على الجرائم المرتكبة وإعادة تأهيل مجرمي الحرب حكاماً يكتسبون الشرعية عن طريق صناديق اقتراع ما كانت يوماً أكثر من سجل استبدادهم ونفاقهم وتزويرهم والتي لم يتوقفوا يوماً عن الاستناد إليها من أجل تبرير بقائهم أو تفسير عودتهم التي يطمئنون إليها بفضل حلفائهم وحماتهم.
وكان مدخل هؤلاء وأؤلئك إلى هذا التكييف الحديث عن «مؤسسات الدولة» وضرورة المحافظة عليها؛ والإصرار على ضرورة «احترام الشرعية» التي لم يتقدّم أحد منهم لشرح معناها أو التذكير بمصدرها بله تبرير شرعيتها ذاتها! والحقيقة أن هذه «الشرعية» بالذات، التي نودي بها منذ البداية وحُكيَ عن «فقدانها» و«ضرورتها»، لم تنكرها، باستثناء الغالبية العظمى من الدول العربية الأعضاء في الجامعة العربية، الغالبية العظمى من الدول الكبرى أو الصغرى الفاعلة بدليل استمرار وجود النظام الأسدي ممثلاً لدولة كاملة العضوية ضمن منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها وكذلك استمرار التعاون الأمني الدولي معه سراً أو علانية. كما بقي الحديث طوال السنوات الأخيرة إما رفضاً صريحاً لموضوع رحيل رئيس النظام من قبل ممثلي النظام الأسدي وكذلك من قبل سادته الإيرانيين والروس معاً ومن ورائهم سيد البيت الأبيض الذي ما برح يكرر القول عن «فقدان الشرعية» ويفعل كل ما يعززها، وإما رفضاً ضمنياً معطوفاُ على «الشعب السوري» الذي يعود إليه أمر تقرير مصير «رئيسه»، وكأنّ أحداً لا يعلم من هو هذا «الشعب» الذي قام بانتخاب رئيس النظام عام 2014 وهو يُقتل ويُشرّدُ ويهجَّر، وكيف دُعي في الظروف ذاتها مؤخراً إلى «انتخاب ممثليه» في مجلس الشعب!
على غرار النظام الذي أتقن لعبة الشكليات في كل مجال من مجالات السياسة والحكم والدبلوماسية: الانتخابات الرئاسية والنيابية أو النقابات او الدستور المُفصَّل على مقاس سيد النظام وتبعاً لرغباته على الصعيد الداخلي، والابتزازات المالية ذات الطابع المافيوي على الصعيد الإقليمي، وكذلك ممارسة لعبة المفاوضات أيضاً بعد أن سبق له ممارستها على الصعيد الدولي، بدعم مكشوف وفعلي من حلفائه الذين صاروا اليوم سادته، يقوم هؤلاء السادة بالتعاون مع خصومه المفترضين وعلى رأسهم الإدارة الأمريكية باستخدام لعبة الدلالات والشكليات ذاتها: الانتخابات، و»قرار الشعب السوري»، وسوى ذلك من الترهات التي صدعوا والحق يقال رؤوس السوريين بها، فضلاً عن رؤوس مواطنيهم.
لكن السؤال الأهم، أو إن شئنا السؤال/العذاب، يبقى: ما طبيعة هذه المفاوضات؟ وبين مَن ومَن تجري فعلاً؟ ومَنْ يُراد له أن يقوم بدور شاهد الزور؟
يُقال إن الحل بات جاهزاً. وربما كان الأدق القول إن الحل كان مقرراً سلفاً ولم يبق سوى إخراجه على نحو يبدو معه وكأنه نتيجة مفاوضات عسيرة وتنازلات متبادلة! سوف يُستعاض في صياغة هذا الحل عن بعض التعابير أو عن دلالاتها بتعابير أو دلالات أخرى. فبدلاً من «هيئة انتقالية بكامل الصلاحيات»، ستكون ثمة «حكومة انتقالية مشتركة بكامل الصلاحيات» يرأسها الأسد الذي سيقرر «الشعب السوري» مصير بقائه من عدمه. وسيكون هناك دستور تشرف على وضعه هذه الحكومة، ثم انتخابات رئاسية ونيابية.. إلخ.
يُحكى في سوريا دوماً عن «عقدة النجّار»! تلك التي تحول بينه وبين إنجاز عمله على النحو الذي يريد وبالسرعة المُلائمة. العقدة هنا كانت، ولا تزال، وستبقى «بشار الأسد» شخصاً ونظاماً. ذلك أن العناصر التي تسكت عنها المقترحات الأممية، أكان مصدرها حلفاء النظام الأسدي أم «أصدقاء» الشعب السوري، تجهل أو بالأحرى، وهو الأدق، تتجاهل طبيعة النظام التي أشرنا إليها في مستهل هذا المقال: «العصبية المصلحية، أي تلك التي تتجاوز العائلة إلى حلقات أكثر عدّة وعدداً. فكيف يمكن لنظام قوامه هذه العصبية على وجه التحديد أن يسلك سلوك نظام عقلاني قوامه النهج الديمقراطي أو المؤسساتي الذي يزعمه نهجه؟ وكيف يمكن لحلفائه وخصومه المُفترضين أن يجعلوا منه في صياغة مقبولة شكلاً مرفوضة قواماً لقمة سائغة في فم شعب عانى مرارة مذاقها خلال نيف وأربعين عاماً؟
وحدها الصياغة الواضحة البليغة تقول شيئاً ذا معنى: هيئة انتقالية بصلاحيات كاملة من دون الأسد وزمرته. لكنها ليست على جدول الأعمال.
إذ من الواضح أن الاستغباء الذي يمارسه النظام الأسدي بات قانون الجميع اليوم بجنيف: مسرح يراد أن يكون أبطاله دمىً يجسدها كلٌّ من النظام والمعارضة. من الواضح أن النظام وقد فقد على الأرض كل شيء وبات بفضل حلفائه قادراً على أن يقف على أقدامه بعض الوقت قد استحال دمية كاملة الأوصاف لا ينطق إلا بما يريد له حامله أن ينطق به. أما ممثلو المعارضة فهم يملكون حرية اختيار رهان الشعب المصيري الذي تصدّوا لتمثيله: الانتقال من الاستبداد إلى الحرية والكرامة: الخيار الوحيد.
أسقط قائد الجيش الإيراني اليوم، وببضع كلمات الهالة التي أحاطت قواته النظامية التي دخلت سوريا وخرجت منكسرة.
كلمات النفي من أعلى ضابط إيراني تؤخذ بمعنى واحد فقط ألا وهو أن الأرض في سوريا ليست مؤاتيه لإيران والأهم لهيبتها.
سنوات مضت من التدخل الإيراني المتواصل والمكثف وبكافة الأشكال (تطوع، عقائدياً، مرتزقة) لم تأتي بأي أوكل أو تفيد في حرية التحرك وإعادة الأمور لنصابها وان كان لم يستطيعوا تعديل الكفة مع الثوار.
شهور ستة تحت ضغط جوي غير مسبوق منذ احتلال العراق وجحافل سارت على الأرض من كافة الأشكال والجنسيات ومدججه بسلاح أمريكي وروسي وحتى صيني إضافة إلى الخردة الإيرانية كل ذلك لم يكفل الثوار السوريين إلا سبعة بالمئة أو ثمانية على أبعد تقدير فالانهيار الذي أريد أن يحدث بمشاركة ثاني أكبر قوة في العالم وثاني أكبر قوة في المنطقة لم يحدث وان أصاب بعض الثوار بعض الوهن.
في جنيف أريد ان تكون فرصة إضافية للنظام وحلفائه ولا سيما إيران وروسيا أن يحققوا مبتغاهم ويزيدوا أوراق الضغط المستمدة من الميدان فزج بنخبة النخبة ليس من اللواء 65 (القبعات الخضر) فحسب، إنما من كافة تشكيلات الجيش الإيراني بما فيه مشاة البحرية الذين سبق وان استعرضوا قوتهم في مسرحية أسر المارينز الأمريكيين كل هذا الضغط واستحضار العتاد وحتى سحب العتاد الأمريكي من العراق عبر الميليشيات الأمريكية لم يمكن تلك الجحافل من اعتلاء تل من تلال العيس في ريف حلب.
التنصل الإيراني بعد شهور من التبجح تلاه أيام من البكاء على جثث القتلى يشير إلى أن إيران لا تريد أن تخسر ماء وجهها في تلك البقعة من الأرض وان كانت ستزج بكل طاقتها وقدرتها بغية أن تجبر الكسر الذي لحق بها.
فلا مناورات الرسول الأعظم ولا حلقات التدريب في سوريا ولا حتى استعراضات الأسلحة الخلبية في طهران ومشهد وشيراز نفعت إيران في ترهيب المنطقة وباتت اليوم أضعف من الأمس رغم مليارات النووي والتقاطر الأوربي للاستثمار فيها.
يبدو أن عِظم المصيبة و كبر هول الفقد، حول أيدينا لخشبة عاجزة عن التعبير أو وصف ما حدث، صعدت للسماء خمسين روحاً و هناك أرواحاً أخرى معلقة بين الأرض و السماء تنزف دماً، و عشرات القلوب تفطرت و تهدمت بشكل يصعب أن تعود كما كانت .
اليوم و بلا أي موعد أو سابق تهديد، في يوم صيفي انتشرت فيه الخضروات في السوق تبحث عن الراغبين ، كان ينقص "الفراولة" لون ما حتى تكون نضرة ولامعة و شهية، فاختارت قاني الدم السوري، فبعثرت أشلائه بحثاً عن اللون المطلوب، وحصلت عليه بالفعل، بأنانية و جمود الخضروات.
يبدو المشهد أشد قسوة ما كلمات مبعثرة كما هي الأجساد التي تبعثرت فوق الخضار و اندمجت بها، وسط أصوات الباعة (الساسة) الهدنة لا تخرقوها، لا تلمسوها، لا تعطلوا على العابثين لعبهم ، فهم يمارسون حقهم و يأخذون مستحقاتهم من أرواحكم و دمائكم.
في الوقت الذي تدور فيها الرحى في جنيف، كانت رحى أخرى تواصل دورانها على أجساد السوريين ، من أخطأت منزله، لحقت به إلى السوق، فهو حق غير معترض عليه، و الشهداء أرقام لا تأثير لهم على المفاوضات التي يجب أن تستمر، ولا حتى قيمة حتى يدفع السفاح الثمن، فالحل المتفق عليه يجب أن يسر وفق ما هو مرسوم، و لو كلف الأمر مزيداً من الدم.
من أيام كان لي لقاء مع المتحدث باسم الهيئة العليا للمفاوضات ، حول الخطة "ب" ، وعبر حينها عن الخوف من أن تكون تلك الخطة هي قتل من تبقى من سوريين، و لكن ما الذي حدث اليوم أهو قتل من تبقى بصفة كلية أو بكمية لا تؤدي إلى الـ"ما تبقى" اذا بقيت بعض الأرواح المعذبة الشبيه بالموتى.
حديث آخر حصلت عليه من كبير المفاوضين و سمعت من رئيس وفد المفاوضات و كذلك من المنسق العام و أخيراً من رئيس الائتلاف، الجميع أجمع أن المفاوضات لحفظ الدم، و التوقف أو التعليق لضمان التنفيذ، و الدخول في مرحلة الآمان.
كل هذه الوعود الحقيقة سقطت أمام أشلاء ذلك الطفل أو تلك السيدة أو هذا الرجل الذي منح "الفراولة" لونها، ليتنا كنا خضار ، كنا أُكلنا أو رُمينا.
تفيد تقارير ديبلوماسية عليا ان جون كيري فوجئ خلال زيارته الأخيرة لموسكو عندما قدم له سيرغي لافروف مسودة دستور سوري جديد، وطلب منه درسه وإبداء الملاحظات عليه، تمهيداً للتوصل الى مسودة مشتركة تقوم كل من موسكو وواشنطن بتسويقها لدى حلفائهما!
هذه المعلومات ظلّت موضع شكوك وتساؤلات، الى ان جاءت تصريحات لافروف أول من أمس لتؤكّدها عندما أعلن في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيرته الأرجنتينية سوزانا مالكورا انه "من المتوقع ان يتفق الأطراف السوريون المتفاوضون في جنيف على مسودة دستور جديد، وان ذلك الدستور سيُعتمد كأساس للإنتقال الى النظام الجديد، على ان يتم تنظيم إنتخابات جديدة مبكرة"!
من الضروري الإنتباه الى ان هذا الكلام جاء وقت كان بشار الاسد يجري أول من أمس انتخابات نيابية، اعتُبرت مسخرة المساخر في نظر المعارضة والأمم المتحدة وعدد كبير من الدول، بما يعني إنها لن تلبث ان تفقد معناها الدستوري والتمثيلي، وخصوصاً بعدما تحدث لافروف صراحة عن انتخابات مبكرة، بما يعني ان الإنتخابات التي اجراها الاسد مجرد إجراء مرحلي هدفه عدم السماح بحصول فراغ في السلطتين التشريعية والتنفيذية.
أكثر من مسخرة المساخر، ان تكون مسودة الدستور السوري الجديد كتبت في روسيا وان "الشركاء" الأميركيين تسلموا نسخة عنها لإبداء الملاحظات تمهيداً لتسويقها لدى حلفائهم، ولا يهمنا هنا ماذا سيكون رأي الاسد الذي لن يقدم او يؤخّر، بل ماذا سيكون رأي الإيرانيين الغارقين في الوحول السورية، إلا اذا كان الأمر سيوفّر لهم حجة للخروج من المأزق المتزايد الذي يواجههم!
ما هو أكثر من المسخرة ان يواصل فلاديمير بوتين والجوقة السياسية سواء في موسكو أو في طهران الحديث عن حق الشعب السوري في تقرير مصيره، في حين يقوم الروس بكتابة مسودة دستوره الجديد نيابة عنه ويتولى الأميركيون وضع الملاحظات عليها تمهيداً لتسويقها والأصدق لفرضها على السوريين.
في هذا السياق لست أدري ما الفرق بين بشار الأسد عندما يجري انتخابات المسخرة، ولافروف الذي يكتب دستور المسخرة وكل ذلك بإسم الشعب السوري ونيابة عنه، وقت بات أكثر من نصف الشعب السوري إما في القبور وإما في اللجوء.
الشعب السوري هو الذي يقرر مصيره وهو صاحب الحق الوحيد في هذا الشأن، صحيح تماماً ولكن أين هو الشعب السوري اليوم، مليونان ونصف مليون في تركيا، ومليونان في لبنان، و٨٠٠ ألف في الاردن، وأكثر من أربعة ملايين في التيه داخل سوريا، والاسد يجري انتخابات نيابة عن الشعب ولافروف يكتب الدستور لهذا الشعب... ويحدثونك حرام عن حق السوريين في تقرير مصيرهم!
تتحرك ما كينة إعلامية ضخمة بشكل متناسق مع سياسية استراتيجية تنص على أن الأسد ليس شخصاً مرغوب به اطلاقاً ، وفي الوقت ذاته لن يكون في موضع المجرم الذي سيحاسب على الجرائم التي فاقت "جرائم الحرب" أو تلك "الانسانية" ، ولذا بدأ الحديث عن بقاء صوري أو فعلي مع نواب يحيطون به يجردونه من صلاحيات أساسية ، للوصول إلي موافقة على خروج آمن و سليم ، دون حساب .
يوقن الجميع أن إعادة الشرعية لبشار الأسد تعني انهيار كافة القيم الانسانية و كذلك السياسية ، ولذا تبدو المصلحة الجمعية تتمثل بإنهاء بشار الأسد كشخص بشكل هادئ ، و أن يظهر ذلك بعملية سياسية رتيبة ، و لكن دون أن يكون هناك محاسبة له بصفة "مجرم" ، إذ أن هذه الصفة تعني بأن روسيا ساندة مجرم و سفاح و بالتالي لحقت بها هذه الصفة ، و هذا لا يجوز بحق القوة العالمية الثانية.
بعيداً عن المناكفات الإعلامية الهادفة لعملية جس نبض الشارع و تهيئة الظروف الكاملة لقبول أي طرح تم الاتفاق عليه بين روسيا و أمريكا ، يجتهد الساسة الفعلين للوصول إلى صياغة "باكج" كامل للحل من الألف إلى الياء ، و ما المرحلة التي تدور رحاها في جنيف إلا عملية رقابة لصيقة و متعمقة للشخوص و الشخصيات التي ستكون فاعلة في عمليات تركيب "مكعبات" الحل التي تم رسم لوحتها بدقة و بحاجة لدقة إضافية في التنفيذ.
و رفع السقف و التمسك المستمر و المتواصل و في كل مرة بشخص الأسد ، و تركيز الصراع على شخص و ليس نظام أو جيش أو هياكل أمنية ، يجعل البدء بالتنفيذ هيناً و سهلاً ، اذا يكفي أن يتم إزالة السد المانع "الأسد" لتنساب بعدها مياه الحل وفق المجرى المحفور ، إضافة إلى أن التركيز على المشار إليه (الأسد) له فوائد أخرى اذ انخفضت الطلبات من سحله في الشوارع بعد الانتصار العسكري ، إلى المحاكمة العادلة بعد الهزيمة السياسية ، وصولاً إلى عدم الوجود في مستقبل سوريا ، دون الاقتراب من مصيره كشخص.
ومن يدري اذا ما بقينا نركز على الأسد كشخص ، قد نصل لمرحلة نقبل بوجوده بشرط أن لا يكون أميناً عاماً لحزب البعث العربي الاشتراكي ، و أن يتم فتح باب الترشح أمام شخصية جديدة لشغل هذا المنصب ، لاشيء مستحيل وسط هذا التخبط المريب و حب الظهور العنيف من قبل الجميع ، و فتح الفم و التفوه بكل شيء و أي شيء لتحقيق ظهور هنا أو هناك .
تمثل الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي أجراها نظام الأسد، مشهدًا آخر في مسرح اللامعقول الذي كرسه نظام الأسد في السنوات الخمس الماضية في سوريا، وكان بين مشاهده الأخرى الأكثر إثارة قتل واعتقال ودمار وتهجير وإفقار وتجويع للسوريين، فاقت كل ما يماثلها من مشاهد، ظهرت على مسرح اللامعقول العالمي طوال عقود طويلة من الزمان في بلدان العالم المختلفة.
والانتخابات الأخيرة في بعض جوانبها، لا سيما في مسارها وفي نتائجها، بدت استمرارًا لنهج كان قد كرسه الأسد الأب في عهده الطويل، وقد بدأه بمجلس معين في عام 1971، قبل أن يرسم تجربة الانتخابات المحسوبة النتائج بصورة مسبقة ودقيقة للغاية، ولم يتم خرق تلك النتائج إلا مرات قليلة، وفي مناطق محدودة. وعمليات الخرق القليلة كانت نتيجة أخطاء من النظام وأجهزته، وخروجهما عن النهج المعمول به، أكثر مما كانت ثمرة لنشاط جماعات أو شخصيات عملت على خرق مسار الانتخابات ونتائجها، أو واحدة منها.
وبدا من الطبيعي أن يرث الابن فيما ورث من تركة أبيه الميت، تجربة الانتخابات البرلمانية، فكانت تجارب عهده الانتخابية مثل تجارب أبيه مع تعديلات طفيفة وغير جوهرية، غير أنه، ومع انطلاق ثورة السوريين على النظام في عام 2011، فتح الأسد الابن الباب أمام تبدلات عميقة في الانتخابات البرلمانية، فكانت تجربة عام 2012، التي تمت بداية العام الثاني من الثورة، ثم جاءت التجربة الأخيرة بعد دخول ثورة السوريين عامها السادس.
ففي عام 2012، وبدل أن يذهب نظام الأسد إلى حلول للقضية السورية تستجيب للمطالب الشعبية، وتتعامل معها بطريقة تتجاوز الحل الأمني العسكري الذي اتبعه، وتفتح الأبواب لحل سياسي، أصر على إجراء الانتخابات وجاء ببرلمان من مؤيديه ومن الشبيحة، ليدعموا سياساته وممارساته ضد الشعب، غاضًا البصر عما يحيط بالبلاد وبالسوريين من ظروف استثنائية، مؤكدًا رغبته في الاحتفاظ بالسلطة مهما كانت النتائج، قبل أن يضيف إلى ذلك فعلاً آخر مماثلاً في الانتخابات الرئاسية، التي جددت لبشار الأسد في عام 2014 وجوده على رأس نظام فقد شرعيته السياسية والوطنية والأخلاقية.
ثم جاءت انتخابات عام 2016، لتكون مسارًا إلى الأعمق في نهج النظام ورئيسه، متجاوزة وقائع تضرب في الأعماق فكرة إجراء أي انتخابات برلمانية، حيث تتوزع السيطرة في البلاد على سلطات الأمر الواقع المتصارعة، القسم الأكبر مساحة منها تسيطر عليه قوى الإرهاب والتطرف من «داعش» و«القاعدة» وأخواتهما، وقسم آخر تسيطر عليه قوى المعارضة المسلحة، وقسم تسيطر عليه قوات سوريا الديمقراطية، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سياسته الملتبسة، وقسم أخير يسيطر عليه النظام وحلفاؤه، وفي هذا الشق من السيطرة تنتصب قوى خارجية، تتبع دولاً، بينها إيران وروسيا وميليشيات من الأفغان والعراقيين واللبنانيين وغيرهم.
والنقطة الثانية في الوقائع المحيطة بانتخابات عام 2016، تكمن في حال السوريين الذين وزعتهم السياسات الدموية والإرهابية للنظام وحلفائه وجماعات التطرف إلى نحو ستين في المائة موجودين داخل الأراضي السورية، وأربعين في المائة مهجرين ولاجئين في بلدان الجوار وفي الأبعد منها. بل إن المقيمين في الداخل السوري لا تجمعهم ولا تساعد الظروف على مشاركتهم في عملية انتخابية، إذ لا يسيطر النظام بصورة كاملة إلا على محافظة واحدة هي طرطوس، وعلى أغلبية محافظة اللاذقية، وله سيطرة ملتبسة على محافظة السويداء، ووجود نسبي في بقية المحافظات، ما عدا الرقة وإدلب الخارجتين كليًا عن سيطرته.
النقطة الثالثة في الوقائع أن الانتخابات جرت في أجواء مساعٍ دولية لحل سياسي وفق مضمون القرار 2254 الذي انعقد مؤتمر «جنيف3» على أساسه، وعلى أعتاب جولته الثالثة، التي قيل إنها للبحث في موضوع الانتقال السياسي في سوريا، الأمر الذي يعني عدم جدية النظام في التعاطي مع المساعي الدولية أو استهانته بها على الأقل، من خلال سعيه إلى تكريس وقائع تعيق جهود التسوية.
النقطة الرابعة المحيطة بالانتخابات، تزامنها مع استئناف العمليات العسكرية للنظام وحلفائه في ثلاث جبهات على الأقل، تشمل دمشق وحلب والمنطقة الوسطى، في خرق واضح للهدنة، وهو ما ترافق مع إعلان مجيء قوات إيرانية إلى سوريا للقتال مع قوات النظام، وزيادة المشاركين في حرب النظام من الميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية بهدف انتزاع أراضٍ جديدة من سيطرة قوة المعارضة، وخلق وقائع ميدانية تحسن وضع النظام على الأرض، وتفرض تلك الوقائع على مجريات المفاوضات سواء لتحسين ظروف الفريق التفاوضي للنظام أو لتعزيز قدرته على تعطيل الحل السياسي.
وسط تلك الوقائع، تبدو انتخابات النظام البرلمانية، مجرد مشهد مسرحي، لا يخفف من معناها إعلان النظام، أن إجراءها هو استحقاق ينبغي الحافظ عليه، ولا تبدل نتائجها، التي جلبت مطبلين ومزمرين وشبيحة من المؤيدين والمرتكبين، ليصيروا أعضاء في مجلس شعب دمية، يقارب التجربة العملية في الانتخابات البرلمانية السورية الشائعة، بل ويزيد عليها الكثير!
العنف الشمولي الذي مزق المجتمع السوري في السنوات الخمس الأخيرة يختلف نوعياً عن عنف بعض الحروب الاهلية في العقود السابقة مثل حروب البلقان في تسعينات القرن الماضي. النظام في سوريا اعتمد وحشية ممنهجة أدت الى مقتل عشرات الآلاف من المعتقلين في السجون بواسطة أساليب تعذيب رهيبة، ووثق سبل قتلهم وفق اوامر خطية موقعة من بشار الاسد وكبار مساعديه وصغار جلاديه. الانظمة الشمولية توثق دوماً همجيتها. هذا ما فعله البعث العراقي في ظل طغيان صدام حسين، وهذا ما يفعله نظام الاسد في سوريا. المقال الطويل الذي نشرته مجلة "نيويوركر" بعنوان "ملفات الاسد" يرسم صورة مروعة وموثقة لوحشية منظمة اعتمدها النظام لتحطيم الانتفاضة الشعبية عليه. نظام الاسد استخدم الطائرات الحربية والمروحيات والصواريخ والمدفعية الثقيلة والاسلحة الكيماوية ضد شعبه، ودك مدناً وبلدات، وهذه الوحشية علنية وموثقة.
ولكن ما كشفه مقال "ملفات الاسد" هو ما يمكن تسميته بيروقراطية القتل المنظم في معتقلات النظام وسجونه، وما يسمى بمستشفياته العسكرية، حيث يشارك الاطباء والممرضون في تعذيب المعتقلين وقتلهم. المقال يتطرق تفصيلاً الى عمل "الخلية السورية المركزية لإدارة الأزمة" التي شكلها الأسد والتي يشرف عليها، وهي تنسق اعمال آلة التعذيب والقمع المؤلفة من اجهزة الاستخبارات المختلفة والسجون والمعتقلات، وتتولى بشكل ممنهج تنفيذ الاوامر والتعليمات الخطية للقيادة. هذا عالم تحت أرضي تمارس فيه فظائع لا تصدق: تجويع، تشويه، تقطيع للاوصال، حرق للمعتقلين ليموتوا ببطء، ضربهم لكسر عظامهم، وخنقهم وحتى تذويبهم. ولدى المحققين الدوليين نصف مليون صفحة من الوثائق وهناك اطنان من الوثائق المخبأة داخل سوريا، سوف تستخدم في المستقبل لمحاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم.
واذا كان النظام السوري يمارس وحشية منظمة ضد معارضيه، فان "داعش" يعتمد ويمارس ما يسمى "ادارة التوحش"، أي استخدام أبشع أنواع العنف الطقوسي والعلني لترهيب الاعداء ولتقوية عزيمة الانصار ليعتادوا قسوة الجهاد. ارهابيو "داعش" مثلهم مثل جلادي الاسد يتلذذون بالتفنن في قتل العزل.
وقد وصل حديثاً الى واشنطن عرض فني تفاعلي بعنوان "الحدائق تحكي" انتجته اللبنانية تانيا الخوري وهو يروي التاريخ الشفوي لعشرة ناشطين قتلهم قناصة النظام ودفنوا في حدائق خاصة. عشرة قبور مع شواهدها وترابها. عليك ان تدخل الحديقة - المقبرة حافيا وان تنبش التراب وتضع خدك في الثرى لتسمع قصة حياة الشهيد ومقتله. هكذا تعرفت إلى حياة وأمال أحمد بوابة الذي قتله قناص وهو في الثانية والعشرين في حلب. "كتير موتي كان بيشبهني، موت عادي ما حدا عرف فيه ولا انتبهلو غير اللي كانوا بلحظتها واقفين جنبي". ودعته قائلاً: يا أحمد محكوم علينا بالامل.