بعد ستة أعوام على أكبر مأساة عرفتها منطقتنا، وعلى رغم معاناة السوريين وتضحياتهم الجمّة، والأهوال التي تعرّضوا لها، ومن ضمنها التشرّد والغرق في البحر، وعلى رغم وحشية النظام الذي يقصفهم بالبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية وقذائف الدبابات والمدفعية، وانتهاجه استخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة دولياً، والقتل تحت التعذيب، وآخرها اكتشاف محرقة سجن صيدنايا، إلا أن التعاطف مع السوريين لم يصل بعد إلى الدرجة المناسبة، لا في المجتمعات العربية، ولا في المجتمعات الغربية.
لا يتعلق الأمر بضعف التعاطف فحسب، إذ ما يفاقم هذه المأساة هو حالة إنكار هذه المعاناة والأهوال، والتلاعب وتزييف الحقائق، التي يقوم بها النظام وحلفاؤه، بتصوير الأمر حيناً باعتباره حرباً ضد الجماعات الإرهابية، أو التدخلات الخارجية، أو حرباً دينية أو طائفية، هدفها فقط اختطاف الحكم من السلطة القائمة.
هذا الوضع يجعلنا نتساءل بكل جدية ومسؤولية، ماذا فعلت المعارضة إزاء مهمة أساسية لها، وهي التعريف بطبيعة الثورة التي قامت من أجل الحرية، وإقامة دولة ديموقراطية، لا تتغول فيها الأجهزة الأمنية على حقوق المواطنين، ولا تنتهك حقوقهم الإنسانية؟
والحديث عن التعاطف الدولي لا يعني فقط الحكومات الغربية في الدول المحسوبة على «أصدقاء الشعب السوري»، وإنما يتعلق أيضاً بإقناع الرأي العام في هذه المجتمعات بمشروعية وعدالة ثورة السوريين، بدلاً من ترك الأمر للنظام ومن معه، وبدلاً من إفساح المجال لتصدر خطابات الجماعات العسكرية الإسلامية المتطرفة، عوض الخطابات التي تتحدث عن حق الشعب السوري في الحرية والمواطنة والديموقراطية. وتتعلق مسؤولية المعارضة أيضاً بالترويج للخطابات التي تعتبر أن ما يجري هو صراع سياسي بين الشعب والحكم الاستبدادي، في وضع وصل فيه البلد إلى حالة الانغلاق أو الاستعصاء، فلا السلطة قادرة على التغيير والتعاطي مع حقوق المواطنين، ولا عموم المواطنين يستطيعون الاستمرار في وضع الضحية المستسلمة إلى الأبد.
كان ذلك هو مضمون الندوة التي شاركت فيها في بوخارست أخيراً، أمام عشرات الباحثين والدارسين للعلوم السياسية، وبخاصة ما يتعلق بالصراع في الشرق الأوسط. فقد فوجئت في هذه الندوة بحجم الجهل بمأساة السوريين، وبحجم التغييب المتعمد لمأساتهم، على رغم كل جهود الجالية السورية في رومانيا، وهي جهة لم يحاول «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» وهو الواجهة السياسية للمعارضة أن يتواصل معها للاستفادة وتنسيق الجهود لخدمة تسويق أهداف الثورة والتعريف بها، وهو ما بدا من صدمة المستمعين، لدى سماعهم حقيقة الترهيب والقتل والتخويف الذي تمارسه السلطة على الشعب. ويبدو من ذلك أن النظام استطاع استثمار آلته الإعلامية وعلاقاته لقلب الحقائق وتغييبها، إلا أن ذلك، في كل الأحوال، لم يحل دون إدراك النخبة التي كانت تناضل ضد استبداد النظام الشيوعي، كوزير الخارجية والثقافة السابق الفيلسوف أندريه بليشو، لحقيقة ما يجري، إذ يعتبر أن التعاطف الشعبي الأوروبي عموماً هو تحت تأثير إرهاب عابر للقارات، وأن مواجهة الإرهاب تتطلب اجتثاث الاستبداد من جذوره لا من نتائجه فحسب.
أما بخصوص تعويم فكرة الحرب الطائفية كبديل للصراع السياسي، فقد شجعت اهتمام الباحثين، ومنهم عميد كلية العلوم السياسية كريستان بيرفيليك، على مناقشة قضية العلويين والسنّة كحالة صراع ديني استخدمت كأداة حرب إعلامية ضد الثورة السورية،
المسألة لا تتعلق إذن بحجم المأساة السورية، وعدد ضحاياها وتنوع ألوان عذاباتهم، أو بالوسائل الإجرامية التي استخدمها النظام في مواجهة السوريين المطالبين بالحرية والانفكاك عن النظام الاستبدادي، الذي تولى حكم سورية، منذ عام 1963، بقدر ما تتعلق بجوانب أخرى، تكمن في العوامل المهمة الآتية:
أولاً: طبيعة النظام الدولي القائم على الاستقطاب وسياسة المحاور والمصالح بعيداً عن المبادئ والمعايير الإنسانية، مما أعاق تحرك مجلس الأمن ثماني مرات بسبب الفيتو الروسي والصيني.
ثانياً: إشكالية العلاقة بين الدين والعلمانية من جهة، وتفشي فوبيا الإسلام من جهة أخرى، ولا شكّ أن النظامين السوري والإيراني استطاعا التعامل مع هاتين الإشكاليتين ببراعة سواء بتصنيع جماعات إسلامية متطرفة أو تسهيل ذلك مثلاً عبر الإفراج عن قياداتها من معتقلاته، أو بالعمل على تصدير هذه الجماعات كقوة مقابلة له على الأرض لتشويه الثورة السورية ووصمها بالتطرف والطائفية والإرهاب.
ثالثاً، الانقسام الأيديولوجي في العالم حيث تقف الكيانات «اليسارية» مع النظام السوري من مبدأ معاداة الإمبريالية، ومواجهة المشروع الأميركي، وهذا يتجلى في التيارات اليسارية العربية، التي تنتهج معاداة الغرب، في شكل أعمى، وجملة وتفصيلاً. ومثل هذا «اليسار» الذي لم يرَ في النظام السوري واقعه كنظام استبدادي ووراثي، لن يرى مأساة الشعب السوري الذي يُقتل ويُهجّر، عقوبة له على مطالبته بالحرية والكرامة.
رابعاً: خطابات المعارضة، لا سيما العسكرية، التي انتهجت خطاباً إسلامياً، لا علاقة له بواقع الثورة ولا بمطالب السوريين، إذ إن هذه الخطابات أطاحت بصدقية الثورة وبمشروعية وعدالة أهدافها، ما أفاد النظام.
خامساً: قصور كيانات المعارضة واستغراقها في خلافاتها الداخلية مما أثر سلباً في دورها في تسويق قضيتها خارجياً، وحتى داخلياً.
باختصار، لا يقف العالم مع ثورة غير قادرة على التعبير عن نفسها، وخلق مشتركات لدى شعبها، كل شعبها بمختلف تلويناته العرقية والقومية والدينية والمذهبية، أي أن الحقوق وحدها لا تكفي لانتصار ثورة في زمن القوة والمصالح، وإنما يرتبط ذلك أساساً بتصور أهل الثورة أنفسهم عن المستقبل الذي تعد به، وهذا ما يفترض بالمعنيين في الثورة السورية إدراكه، والامتناع عن تصدير مقولات أن الصراع في سورية هو صراع بين مؤمنين وكفار، لأن هذه مقولات في ظاهرها وباطنها ما يسعى إلى هدم الثورة من داخلها.
لم يسبق أن ارتبط اسم إيران بالإرهاب كما ارتبط في القمة الأميركية- العربية- الإسلامية في الرياض. ولم تكن هناك ملامح استراتيجية واضحة لمحاربة الإرهاب عسكرياً وفكرياً كما ظهرت بوادرها في الفرصة التي وفّرتها السعودية وأظهرت فيها استعداداً غير محدود لبذل كل ما تتطلّبه عودة الولايات المتحدة الى التزام ضمان أمن المنطقة، بدءاً بمحاربة جدّية للإرهاب وكذلك الحدّ من الجموح الإيراني. ولم يكن الفارق واضحاً بين توجّهات ادارتَين أميركيتَين متعاقبتَين كما أبرزته القمم الثلاث في الرياض، فالإدارة السابقة أمّنت تغطية لنهج التخريب الإيراني ودعت العرب وبالأخص دول الخليج الى قبول نتائجه والبناء عليها، أما الإدارة الحالية فلا يبدو، على الأقلّ، أنها في صدد تجاهل ما عملت عليه إيران من تعطيل للدول والحكومات، ومن تفكيك للجيوش والمؤسسات لمصلحة ميليشياتها، ومن تمزيق لنسائج المجتمعات لتغليب فئات مذهبية على فئات أخرى.
يُحسب للحدث السعودي أنه يبلور وعياً جديداً لظاهرة الإرهاب ورؤية شاملة لما يمكن أن تكون عليه أي استراتيجية لمحاربته حاضراً ومستقبلاً. كما أنه استطاع أن يسلّط الضوء على حتمية الشراكة إقليمياً ودولياً في المواجهة مع هذا الوباء الذي هزّ العقول والضمائر، ولم تعد هناك دولة قادرة على الاعتقاد أنها بمنأى عنه. ولعل هذا الحدث شكّل أيضاً إنذاراً أخيراً للدول التي اعتقدت أن تمويل الجماعات الإرهابية أو المتاجرة معها أو تقديم تسهيلات لها يمكن أن تحقّق لها مصلحةً ما في خلافاتها مع دول أخرى. فحكومات العالم الإسلامي تعلّمت الكثير من مراقبتها ومعايشتها ما آلت اليه أفغانستان، لكنها رُوِّعت مما شاهدته في سورية والعراق من التحامٍ وتبادل أدوار بين الاستبداد والإرهاب ومن توظيف للدين الإسلامي في خدمة التطرّف والإجرام.
لا شك في أن «الشراكة» المطروحة ولدت من الخلاصة التي أمكن التوصّل اليها، وهي أن التنظيمات الإرهابية ليست فقط «جماعات لا دول» وإنما دول ترعى جماعات وتحرّكها. لم تنجح المحاولات لحصر هوية تنظيم «داعش» أو لحلّ ألغازه أو لتفسير ظهوره ثم اختفائه المفاجئَين في مناطق متفرّقة من سورية والعراق بعيداً من مواقع تمركزه الرئيسية، إذ لا تعرفه سوى الأجهزة والمراجع التي صنّعته واستثمرت فيه من دون أن تكون معنيّة بمصيره بل بأجنداتها. وتكفي الإشارة الى استحالة إدارة المناطق التي يُطرد منها للدلالة الى أنه يخلف وراءه وضعاً تستطيع مراجعه استغلاله، سواء بالعودة الإيرانية عبر ميليشيات «الحشد الشعبي» الى الموصل أو بمشاريع عبور «الحشد» الحدود من العراق الى سورية، حتى لكأن «داعش» مُكِّن من الانتشار في «الدولة» المزعومة ليصار بعدئذ الى دفع الميليشيات الإيرانية لضربه ثم دحره منها.
ستحمل الشراكة بموجب قمة الرياض اسم «تحالف الشرق الأوسط» ومهمته الإسهام في تحقيق السلم والأمن، أما نواته فأصبح مفهوماً أنها تضم السعودية ومصر والأردن والإمارات، ويُفترض أن تنضم دول أخرى إليه في غضون الشهور المقبلة. سيكون هناك مسار مكمّل أو موازٍ لهذه الشراكة من خلال استعداد عدد من الدول الإسلامية المشاركة في «التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب» لتوفير «قوة احتياط قوامها 34 ألف جندي لدعم العمليات ضد المنظمات الإرهابية في العراق وسورية عند الحاجة». أما المسار الثالث المكمّل أيضاً فيتمثّل باتفاق التعاون لمكافحة تمويل الإرهاب الذي باتت دول مجلس التعاون الخليجي موقّعة عليه على أن تليها دول أخرى. يبقى المسار الرابع الذي سيتولّاه «المركز العالمي لمواجهة الفكر المتطرّف» (اعتدال) في الرياض وسيشمل عمله رصداً وتحليلاً للمضمون في المواقع ووسائل التواصل والإعلام الرقمي ومن ثَمَّ استخلاص ما تقتضي مواجهته.
كان أكثر ما يستوقف في القمة الأميركية- العربية- الإسلامية ذلك التوافق بين الملك سلمان بن عبدالعزيز والرئيس دونالد ترامب في توصيف «مرجعية الإرهاب». إذ كانا واضحَين ومباشَرين، فالعاهل السعودي اعتبر النظام الإيراني «رأس حربة الإرهاب العالمي منذ ثورة الخميني حتى اليوم» وأنه رفض مبادرات حسن الجوار «التي قدّمتها دولنا» الى أن قال: «فاض بنا الكيل من ممارساتها العدوانية وتدخلاتها كما شاهدنا في اليمن وغيرها من دول المنطقة». أما الرئيس الأميركي فاتهم إيران بتمويل الإرهابيين والميليشيات وتسليحهم وتدريبهم، واعتبرها «مسؤولة عن زعزعة الاستقرار في لبنان والعراق واليمن، كما أن تدخلاتها في سورية «واضحة للغاية، فبسبب إيران ارتكب الأسد الجرائم بحق شعبه»... وما لبث البيان الختامي للقمة أن ترجم هذه اللهجة غير المسبوقة بالدعوة الى نبذ الأجندات الطائفية والمذهبية والتصدّي لها و «لتداعياتها الخطيرة على أمن المنطقة والعالم»، وكذلك بالتزام قادة دول القمة «مواجهة أنشطة إيران التخريبية والهدّامة بكل حزم وصرامة داخل دولهم وعبر التنسيق المشترك»... وعلى الهامش كان التعليل الرسمي لعدم دعوة إيران وسورية الى القمة أنهما «راعيتان للإرهاب».
من الواضح أن قطبَي القمة لم يتوقفا عند إعادة انتخاب حسن روحاني رئيساً لإيران، فالمتوقّع هو المزيد من الشيء نفسه سواء كان المنتخَب اصلاحياً أو محافظاً، لذا أطلق الملك سلمان والرئيس ترامب أقوى الرسائل وأكثرها صراحة الى نظام طهران، لكنهما سجّلا التفاتة تجاه الشعب الإيراني. ولا شك في أن هذا الشعب عبّر عن موقفه في الحيّز المتاح له، ومع إدراكه أن المرشد هو مَن يحكم في كل الأحوال إلا أنه يخوض معركته الداخلية الطويلة بتصميمٍ وصبرٍ وعناد. بالنسبة الى كثيرين كانت النتيجة التي حققها روحاني مشابهة إنْ لم تكن حتى أقلّ من تلك التي أحرزها مير حسين موسوي في 2009 عندما تلاعبت السلطة بالنتائج للإبقاء على محمود أحمدي نجاد في الرئاسة باعتباره مرشح المرشد و «الحرس الثوري». قد يكون التلاعب تعذّر هذه المرّة بسبب ازدياد حدّة الانقسام، والأرجح أيضاً لأن المرشد و «الحرس» استنتجا أن روحاني يلعب اللعبة من دون أن يزعجهما، فمنذ انتخابه للمرّة الأولى في 2013 حصلت أسوأ التدخّلات في سورية والعراق واليمن، ودافع عنها، ولم يستطع القيام بأي مبادرة ذات صدقية تجاه الجوار الخليجي. وبناءً على مخرجات قمة الرياض لم يعد ممكناً توقّع أي حوار خليجي- إيراني هادف قبل أن تتغيّر التوازنات على أرض الواقع.
لعل الأضواء التي سلّطتها قمة الرياض على ارتباط الإرهاب بإيران أسقطت عنها آخر الأقنعة، بما في ذلك إسقاط ادّعاءاتها بمواجهة ذلك الإرهاب وترشيحها نفسها شريكاً حتميّاً في الحرب عليه. ومع انكشاف الحقيقة أخيراً، لأن في الولايات المتحدة إدارة غير معنيّة بالتستّر على ما يدين إيران، فإن الأخيرة يمكن أن تشعر بالتحرّر من قيود فرضتها عليها سابقاً ضرورات تمويه الأدوار. إذ كان يُفترض أن تفضي إدارتها للإرهاب الى ربطه بالسعودية وحلفائها وتشويه صورتهم دولياً، ثم الى استمالة أميركا- اوباما للقضاء عليه ولن تجد غير إيران وميليشياتها شريكاً قوياً وجاهزاً على أرض المعركة. وكان محسوباً أيضاً أن دمى إيران في دمشق وبغداد وصنعاء هي التي ستنتصر وأن المساحات التي انتشر فيها «داعش» ستقع في أيدي اتباع إيران لتكمل رسم «الهلال الفارسي».
هذه الخطة مرشحة لأن تنقلب على واضعيها، فعدا إجهاض مشروع إيران في اليمن انكشفت هيمنتها على العراق لتصبح عبئاً عليه، ثم أن حساباتها لدى تسليم الموصل الى «داعش» باتت تصطدم بالحسابات الأميركية لما بعد تحريرها. كما أن استعانتها بروسيا لدعم خططها قنّنت عملياً طموحاتها في سورية. ومع اقتراب معركة تحرير الرقة ودير الزور ارتسم خط أميركي أحمر يمنع على الميليشيات اختراق الحدود العراقية الى سورية، من التنف أو من سواها. وطالما أن سلاح الإرهاب الذي استثمرت فيه إيران لمدّ نفوذها أصبح مكشوفاً، وتريد أميركا ضربه لتقليم أظافرها وفرض التراجع عليها، فقد تجد إيران أن اللحظة حانت لإعادة هيكلة تنظيماتها وميليشياتها وترتيب أنشطتها، إذ أصبحت وإياها في خندق واحد ضد تحالف الرياض.
لا نراهن على حسن روحاني ووجهة نظرنا سجلناها هنا مرارا فهو ابن مؤسسة العمامة وربيب مشروع ولاية الفقيه، وهذه نقطة على السطر حاسمة.
لكننا نقرأ شيئا من ملامح انتخابه رئيسا في سياق رفض الشعب الايراني لعمامة رئيسي المنافس الاكثر تشددا وغلوا في الولاء لمؤسسة المرشد الأعلى والولي الفقيه واضعين في عين اعتبارنا ان الخيار الانتخابي كان محصورا بين شخصين أو مترشحين اثنين احلاهما مر «فروحاني» لا يعترض ولا يصطدم بمشروع ولاية الفقيه لكنه بحسب جميع المراقبين أقل تطرفا وتعنتا وتشددا من منافسه رئيسي، وبالتالي فانتخابه هو الخيار الوحيد لشعب يستجير من الرمضاء بالنار.
هذه الاستجارة أو هذا الهروب من رمضاء رئيسي الى نار «روحاني» هو تعبير شعبي معلن أو علني يعكس في احد وجوهه السياسية رفض الشعب الايراني للطبعة المتشددة والمتطرفة من مشروع الولي الفقيه وهي الطبعة التي مثلها او كان رمزا لها ابراهيم رئيسي المترشح المنافس والمدعوم من الولي الفقيه شخصيا حسب تقارير ايرانية موثوقة ومطلعة.
وقد يدفع البعض وله الحق بسؤال «ألم يكن باستطاعة مؤسسة الولي الفقيه وهي الحاكمة والمطلقة ان تزور النتائج فيفوز وينجح ابراهيم رئيسي وهو مرشحها؟؟».
بالتأكيد تستطيع ولها في ذلك سوابق دموية مؤلمة مع الشعب بأسباب من تزويرها لانتخابات 2009، ولكن الأوضاع والمتغيرات والتحولات المحيطة بإيران والضاغطة على مؤسسة الحكم والسلطة هناك والتوازن والمعادلات الاقليمية والعالمية ليست في صالح النظام الايراني بل ضاغطة على النظام الواقع بين مطرقة الداخل وسندان الخارج والمتورط في اكثر من حرب استنزاف عدوانية يرفضها شيعة «سوريا، اليمن، العراق» ناهيك عن الموازنات الضخمة بأرقامها الفلكية التي تستنزفها الميليشيات والجماعات والتيارات التي زرعها النظام الايراني ووزعها على الجهات الأربع لتكون ذراعه الضارب في العديد من الدول والبلدان، وهي تستهلك جزءا كبيرا من الموازنة العامة لشعب يعاني من تراجع خطير في مستوى معيشته ومن فقر وبطالة كبيرة تفشت بين القطاع الأوسع من شبابه.
وبطبيعة الأوضاع ومقتضيات الظروف امتنع النظام الايراني عن القيام بخطوة تزوير نتائج الانتخابات خشية من ردات فعل شعبية ومجتمعية مجهولة النتائج قد ينقلب فيها السحر على الساحر، فآثر النظام القبول بالنتيجة مع قناعته الراسخة بأن رئيسا كائنا من كان لن يستطيع المساس في ظل النظام السائد بمؤسسة وسلطة وسطوة الولي الفقيه.
ومهما كانت هذه السطوة والسلطة فإن الشيخوخة قد دبت في مشروع الولي الفقيه وفقد ذلك الاجماع الشعبي الايراني الذي كان له قبل أربعة عقود مضت كما خفت بريقه واتضحت حقيقته على نحو فاجع في حياة المواطن الايراني العادي المغلوب على أمره.
ولم يعد مشروع الولي الفقيه يحتل تلك «القداسة» التي كانت تحيط به هناك وتحرر المجتمع في سلوكياته اليومية ومنها لباس المرأة وطريقة الحجاب المعروف هناك «الحجاب الزينبي» كما يطلقون عليه الذي كاد أن يختفي من شوارع طهران والمدن الاخرى ولم يعد مشاهدا سوى في الفضائيات والقنوات التي يمولها ويصرف عليها مكتب الولي الفقيه، وهو ظهور من باب المحافظة على لقمة العيش ونفاق المسئول المعني بشكل الظهور على الشاشات كنوع من الدعاية والاعلان عن مشروع الولي الفقيه.
يتميز شهر رمضان المبارك عن غيره من أشهر العام، برمزيته الدينية التي يحتفل فيها المسلمون بالصيام والقيام وصلة الرحم واجتماع العائلة يومياً على مائدة إفطار واحدة، تجتمع فيها القلوب والاجساد، وتمحي معها كل ضغينة أو حقد، وتتصالح فيها القلوب والأنفس مع ربها ومع كل من شاب بينهما خلاف أو أي شقاق.
ولشهر رمضان المبارك طقوس عديدة في مختلف البلدان الإسلامية، ولسوريا طقوسها التي تعود فيه أهلها إحياء هذا الشهر المبارك، تتمثل بالمأكولات الشهية، واجتماع أفراد العائلة، والصلوات والواجبات الدينية التي يؤدونها، يمر بأيامه الثلاثين، ليقبل العيد عيد الفطر المبارك، حيث تجتمع العائلات من كل بلدة وقرية في المساجد، وتخرج دفعات متتالية لتزور المقابر وكل من فقدوه من أهلم، في جو من التسامح والصفاء.
ومع بدء الحراك الثوري ضد الظلم والاستبداد المتمثل بنظام الأسد في سوريا، اختلف الحال على الشعب السوري في رمضان، وتبدلت الفرحة والبهجة، وتعكر الصفاء والتآلف، فتحول الشهر المبارك لمأتم سوري، في كل قلب غصة، وفي كل عائلة يتم وفقد على محب، وفي كل حي وشارع مقبرة للشهداء، وفي كل بلدة مجازر وضحايا تذكرهم بمن فقدوا على يد قوات الإجرام في سوريا ممثلة بـ الأسد وحلفائه.
يمر شهر رمضان طيلة سنوات الثورة الستة على الشعب السوري، ومازال شلال الدم ينزف من جراحه، يتذكر فيها الصائمون من فقدوا خلال العام، ومن كان بينهم وغادر لربه شهيداً، أو من فقدوه وبات معتقلاً في غياهب السجون المظلمة، او من هجر من أرضه وبلده وباتت تفصلهم مئات الكيلوا مترات عن أهله وذويه، يتذكرون حالهم في المخيمات البائسة، وكيف كانت ديارهم عامرة بالأهل والأحباب الذين تفرقوا وضاعت بيهم كل الأفراح.
شهر رمضان الذي حوله الأسد لمأتم سوري، بعد أن فرق شتات الشعب السوري، وفرق العائلة والأهل، فلا تكاد تخلو عائلة اليوم من فقد أو حزن على فقيد أو غائب، يمر عليها شهر رمضان بأوجاع وأوجاع، يغلب الحزن على حالة الفرح، ويغلب الفقد والألم في قلوب المعذبين داخل سوريا وخارجها، تتشارك الغصة، واللوعة، وكل صنوف العذاب النفسي، تتطلع ليوم تعود فيه القلوب لتتآلف ويفتتح الشعب السوري صفحة من الحياة، بزوال من عكر صفو أيامهم، وأفسد عليهم تأدية واجباتهم الدينية وطقوسها المعتبرة.
وعلى الرغم من دخل بعض المناطق في سوريا ضمن اتفاق "خفض التصعيد" وتوقف القصف والدم، إلا ان هناك أبناء من هذا الشعب السوري في الرقة ودير الزور وريفي حماة وحمص يقتلون بشكل يومي وبدم بارد، لن يهنئ شعب واحد بأية حال مالم يعم الأمن ويتوقف القتل عن كامل المناطق السورية، ويتحرر الشعب السوري من الاستبداد المتمثل بـ الأسد وكل من أوقع ظلماً بهذا الشعب.
شكّل المؤتمر الأميركي العربي الإسلامي في الرياض، في 21 مايو/ أيار الجاري، تحولا كبيرا في السياسة الأميركية، بالمقارنة مع السياسة التي صاغتها إدارة الرئيس باراك أوباما السابقة تجاه الشرق الأوسط. وبالنسبة لبلدان المشرق العربي، ولبلدان الخليج بشكل خاص، يشكل هذا المؤتمر حدثا غير مسبوق، نجمت عنه اتفاقات وصفقات سيكون لتنفيذها تأثير كبير على مجرى الصراعات المركّبة في المنطقة، على الرغم من أن أحدا لا يستطيع أن يتنبأ منذ الآن أو يعرف حدود هذه التأثيرات، أو أن يقدر مدى التزام الأطراف بها. ولعل المهم، أو الأهم، فيها ليست القيمة الكبيرة للصفقات التجارية أو الاقتصادية التي وقعت خلالها، على الرغم من المبالغ المالية اللافتة التي وسمتها، وإنما المعاني والدلالات، أو إذا شئنا، الصفقة السياسية وراءها. وهي تتلخص، في نظري، وكما لاحظها وركز على بعضها معظم محرّري الصحافة الدولية، في ثلاثة أمور.
أولاً، استعادة الولايات المتحدة انخراطها بشكل أكبر في قضايا ومصير الشرق الأوسط والمشرق والخليج خصوصاً، بعد أن حرصت الإدارة السابقة على الانسحاب العسكري، وحتى السياسي، من المنطقة عموماً.
وثانيا، قبول الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، وبشكل واضح، إضافة بند جديد إلى بنك الأهداف التي حدّدتها الإدارة السابقة أيضاً، وتمسّكت بها خلال السنوات الماضية، ولم تقبل تجاوزها، مهما كان الحال، وهو وضع حد لطموح إيران للهيمنة على المشرق هدفاً جديداً وثابتاً من أهداف السياسة الأميركية، إلى جانب هدف مكافحة الإرهاب والتطرّف المتمثل بتنظيم داعش وجبهة النصرة، وفي الأهمية نفسها تقريبا. وتنبع أهمية إضافة هذا البند هنا من أنه يضع المليشيات الممولة والموجهة من طهران على قدم المساواة مع المليشيات والمنظمات المتطرّفة "السنية"، ويعيد التذكير بالصفة الإرهابية لتنظيم دولة حزب الله اللبناني.
والأمر الثالث، غير المرئي في نظري، لكنه الأهم، إدخال إسرائيل لأول مرة شريكاً في الصراع على إعادة بناء النظام الإقليمي، بعد أن بقيت تل أبيب مرفوضةً ومعزولة فيه، من خلال الجسر الذي مثله منذ الآن الحضور الأميركي العسكري المؤهل للتنامي، من جهة، وبذريعة مصلحة إسرائيل الأمنية في مواجهة الهدفين المعلنين لهذا الحضور، محاربة الإرهاب ووقف الزحف الإيراني على المنطقة.
ما من شك أيضا في أن الرياض كانت وراء هذه الأحداث السياسية الإقليمية المهمة التي تطمح منها المملكة العربية السعودية وبلدان الخليج إلى تشكيل حلف أميركي عربي إسلامي، ذكر أنه سيكون على مثال حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يضمن منذ عقود أمن أوروبا الغربية واستقرارها. وأن الرياض هي التي ستموّل، ربما مع بعض دول الخليج، تكاليف تحقيق هذه الخطة، وتمويل الحلف السياسي العسكري الجديد.
ولا شك أيضا في أن إقامة هذا الحلف سوف تشكل رافعةً مهمةً للسياسات الخليجية في المنطقة، وأن دولاً عربية عديدة مهدّدة بالاجتياحين، الإيراني والروسي، سوف تستفيد منها بشكل أو آخر، كما سيكون لها انعكاسات مهمة على مجريات الصراع في سورية التي تحولت أو حولتها الأطراف المنخرطة فيها إلى الموقد الرئيسي لنيران الحرب الإقليمية والدولية.
(2)
لكن، بعد الإشارة إلى ذلك كله هناك عدة ملاحظات، تبدو لي مهمة للعرب، لمعرفة طبيعة المسار الذي يهم معظمهم خوضه، من أجل تأمين استقرار نظمهم وأمنهم الوطني والإقليمي، وكذلك معرفة حدود الرهانات التي يضعونها على مثل هذا التحالف، وقدرته على إيجاد حلول ناجعة وسريعة للنزاعات المدمرة في المنطقة، وتطمين الحكام والشعوب معا على مصائر البلدان ومستقبل الجماعات والأفراد، خصوصا أن تحالفات عديدة سابقة كانت قد أنشئت، منذ عقود، للهدف نفسه، بما فيها مع الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين، لكنها، لم تحظ بالقدر نفسه من الجدّية والبذل والإشهار، مع أنها لم تقدم أيضا أي مساعدة تذكر في مواجهة الخليج الأزمة التي يعيشها منذ اندلاع ثورات الربيع العربي.
أول ما يتبادر إلى الذهن، وهذه هي الملاحظة الأولى، يتعلق بسبر حقيقة الانخراط الأميركي الجديد في المنطقة وجديته وعمقه. يبدو الأمر كما ظهر عبر ما نقلته وسائل الإعلام، وما نعرفه عن رئيس الإدارة الأميركية الجديدة، وكأنه صفقة أكثر منه خيارا سياسيا، أو تعبيرا عن خطط جيوستراتيجية جديدة أو التزاما سياسيا/ قانونيا دوليا، تقدّم من خلاله واشنطن خدماتها في نجدة دول الخليج في مقابل عقود عسكرية واقتصادية، كما لو كانت واشنطن ربّ عمل أو شركة تجارية للخدمات الأمنية عالية الكلفة والمستوى. وهذا ما يضعف من الطابع الاستراتيجي للأمر، ويدرجه في خانة الحسابات التكتيكية الرامية إلى استغلال الوضع الصعب لدول المنطقة، من أجل تحقيق مكاسب إضافية، من دون أي اهتمام حقيقي بمصير المنطقة ككل، وبنتائج الصفقة الراهنة. وهو لا يعكس بالضرورة تغييرا عميقا لحسابات السياسة الأميركية، وجوهرها الانسحاب الجيوستراتيجي من المنطقة، ووضعها في درجة ثانوية أو ثانية في سلم اهتمامات واشنطن الاستراتيجية.
وتتعلق الملاحظة الثانية بطبيعة الرد العربي، والخليجي خصوصاً، على التحدّي الكبير الذي يمثله ما ينبغي اعتباره، منذ الآن، زلزال الشرق الأوسط أو المشرق، والذي لا يقتصر على تغول النظام الإيراني، وانتهاكه الأعراف الدولية ومواثيق الأمم المتحدة، وتصميمه على اختراق الدول وتحطيمها من أجل فتح ممر له يطوق فيه الخليج، ويمسك ورقة المشرق العربي بأكمله في مواجهة الضغوط الغربية، ولكنه يشمل أكثر من ذلك، وفي نظري أهم من ذلك وأخطر، انفجار أزمة النظم العربية السلطوية الفاشلة والفاقدة للشرعية، ومن ورائها أزمة الدولة الحديثة التي سميت وطنيةً، وبقيت في المنطقة دولة العصابة أو العشيرة أو الحزب أو النخبة الضيقة التي تحكمها وتتحكم بها، وفقدت مع الوقت، وتفاقم العجز والفشل والفساد المادي والأخلاقي، ذروة في انعدام الشرعية والصدقية وإثارة النقمة والسخط والخذلان، من غير الممكن لها أن تستمر معها.
ويبدو لي هنا أيضا أن الأخذ بخيار تأمين الحمايات الخارجية أو التحالفات الدولية والإقليمية، وتعزيز القوات العسكرية الدفاعية ومشاركة الأميركيين فيها، وهو ليس خيارا جديدا، ولكنه الخيار القديم المستمر منذ عقود، قد جاء تجنبا للتفكير في خيارات إبداعية، كان من الممكن أن يكون في صلبها وجوهرها العمل على وضع أسس وشروط بناء القوة الذاتية، وتقديم الاعتماد على الذات، والتعاون بين الدول العربية، بدل استمرار المراهنة على الاعتماد على الخارج، وأن يتركز قسم منها على إصلاح النظم السياسية، وتأهيل الشعوب لمزيد من المشاركة والشعور بالمسؤولية تجاه مصير الدولة والبلاد، ومن ضمنها أيضا خيار مراجعة سياسات التنمية الفاشلة التي وضعت شعوب المشرق في حالةٍ من البؤس والبطالة والعطالة المتفاقمة، تهدّد إن لم تكن قد فعلت بعد، بتحويل المنطقة إلى قنبلة موقوتة، بصرف النظر عن نوعية المستغلين والمستثمرين للوضع، وهم اليوم إيران وروسيا بالدرجة الأولى. لكن يمكن أن تدخل في السباق على اقتسام كعكة المشرق المنهار، سياسيا واقتصاديا، نخب وعصائب وقوى ودول أخرى من داخل الإقليم، أو من خارجه، وللهدف نفسه، حتى لو اختلفت الوسيلة.
بالتأكيد، يبقى المسعى العربي الراهن الذي تمثل في العمل على تجميع العالم العربي والإسلامي من حول المشرق، والخليج خصوصا، مهماً وإيجابياً من دون أدنى شك، لأنه يعبر عن الإحساس العميق بالخطر والأزمة المستفحلة، ويعمل على احتوائها وإيقاف مسار التدهور والانهيار، لكن مشكلته تكمن في تجنب الحلول والخيارات الجديدة، والعودة إلى الخيارات السابقة، مع مضاعفة الرهانات على حل الحمايات الخارجية، في وقتٍ يشكل فيه فشل هذه الخيارات السبب الرئيسي للأزمة الملتهبة الراهنة. يبدو لي كما لو أن العرب اعتقدوا أن ما لم تحققه الاستثمارات القديمة في تأسيس تعاون وتحالف منتج مع واشنطن يمكن أن تحققه استثماراتٌ أكبر ومجزية أكثر، وهذا ليس أمراً مؤكداً أبدا، ما دمنا لم نخرج من المنطق القديم نفسه.
بالتأكيد، سيضمن هذا الخيار فرصة أكبر لالتقاط الانفاس عند العرب والخليج، لكنه لن يشكّل أي حلٍّ بالنسبة للمستقبل. وأخشى بالعكس أن يحصل تسكين ألم المريض على حساب البحث عن دواءٍ شاف للمرض، ويعمل بالعكس على تأجيل العلاج الناجع. وبالتالي، على تفاقمه، فمما لا شك فيه أن إيران هي السبب الرئيسي في تقويض أسس استقرار المنطقة، وتهديد أمنها وتفكيك دولها، بسبب طمعها في أن تتحول إلى أمبرطورية، أي إمبريالية إقليمية مهيمنة تستفيد من عوائد الهيمنة وريعها، لتحسين موقفها وموقعها الدوليين، لكن إيران ليست السبب في إحداث المشكلة. وما كان في وسع طهران، ولا غيرها، أن تعبث بالأمن والاستقرار والتماسك الوطني لشعوب المنطقة العربية، لو لم تجد في هذه الشعوب والبلدان عوامل التفسخ والفساد والضعف وعجز النخب عن إدارة شؤون مجتمعاتها وحكمها وقيادتها بطريقة ناجعة. وإزاحة إيران من ساحة المسابقة على اقتسام جسد المشرق العربي لا يعني شفاء هذا الجسد، ولا ضمان أن يعود أمره إليه وحده، وإنما ربما حلول من هو أقوى منها محلها في تقويض المشرق العربي من الداخل، واستخدام نقاط ضعفه وانقساماته وفساد نظمه ونخبه من أجل ابتلاعه وتحويله إلى قطع غيار في مشاريع تتجاوزه، وتقوم على حساب مصالح شعوبه، وقدرته على إقامة أي شكل من أشكال الدولة أو المجتمع المتفاهم والمنظم والفعال.
هنا بيت القصيد.
رسا السجال المشرقي، أخيراً، على معادلة سلبية، إثر إضرابٍ عن الطعام خاضه السجناء الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية. وقوام هذه المعادلة بسيط جداً: الداعمون لمحور "الممانعة" متحمِّسون لهذا الإضراب، ينظمون الفعاليات المختلفة إحياءً له، وينشِّطون ماكينتهم الدعائية... فيما داعمو الثورة السورية لا يعارضون الإضراب بالضرورة، ولكنهم يلحّون على التذكير بأن هناك سجناء سوريين في أقبية بشار الأسد، ظروفهم أقلّ شفافية من السجناء الفلسطينيين، وهم يتعرّضون لدرجاتٍ من الوحشية تتجاوز وحشية الإسرائيلي، كان آخر وجوهها المحرقة التي اكتشفت، أخيراً، في سجن صيدنايا المرعب.
والخلاصة أن الذين يقفون مع بشار الأسد، من حزب الله وغيره من المليشيات، يرفعون قضية السجناء الفلسطينيين؛ فيما الذين وقفوا ضد بشار، وضد هذه المليشيات، يضعون الأولوية للسجناء السوريين. وكأن المشهد ينطق بأن: الذين يرفعون الآن قضية الفلسطينيين يهمّشون قضية السوريين، والذين يحتجون عليهم، وعلى كل محورهم، يهمّشون قضية الفلسطينيين.
مع أن نضال الفلسطينيين ونضال السوريين يلتقيان حول أهداف متشابهة: الأولون، أي الفلسطينيون، يواجهون من احتل أرضهم بطريقة رسمية، واضحة، مدعومة بالحرب والقرارات الدولية. فيما الآخرون، أي السوريون، يتعرّضون لأوسع عملية سرقة لأراضيهم؛ سرقة غير معترف بها، غير رسمية، غير مصاغة بقوانين أقرّتها المجالس. ويكفي للدلالة عليها، رقم الأحد عشر مليون مهجَّر سوري خارج سورية وداخلها، فضلاً عن عمليات "المصالحة" القسرية المفْضية إلى فرزٍ ديموغرافي مذهبي، بوسع الجميع تخيّل مآلاته. والفرق بين الاحتلال البواح والسرقة المستورة لا يلغي أمراً جوهرياً: أن للاثنين، أي الفلسطيني والسوري، قضية واحدة، هي قضية الحرية. أما المفاضلة بين القضيتين، والتكلم عن أولوية واحدةٍ على الأخرى، أو الخيار بين الشرّين، فهما يلغيان قضية الحرية نفسها. ربما بطريقةٍ لا واعية.
فالمشرق العربي كله لديه قضايا حرية يطرحها على نفسه. ولكنه متنبِّه الآن إلى قضيتين، أكثر اشتعالا من غيرهما من القضايا: الفلسطينية والسورية. والذي يشوِّش على هاتين القضيتين هو المحور الممانع الآن، الذي صادر القضية الفلسطينية، وأخذ منذ زمن يستنزفها بمعارك لم تفضِ، ولا واحدة منها، إلى انتزاع مطلب فلسطيني واحد. إعلامياً، يبدو هذا المحور "فلسطينياً" أكثر من الفلسطينيين أنفسهم. وعلى الأرض، لا يخدم هذا التلاعب سوى توسيع المجال الحيوي الإيراني. لذلك، فهم، بتضامنهم مع الفلسطينيين، يظهرون في حالة واقعية عبثية جداً: يقاتلون على الأرض ضد حرية السوريين، ولكنهم "يتعاطفون" مع الفلسطينيين في سعيهم إلى الحرية. فيما الآخرون، أي الذين ضربتهم اللوعة على ضياع بلادهم، على تشرّدهم، فهم مثل الفلسطينيين، لا يجدون قضيةً تستحق العطاء غير قضيتهم. وهم بجانب من جوانب تفكيرهم ينطقون بحق، ولكنه حقٌّ لن يكتمل إلا إذا وقفوا مع الفلسطينيين؛ الاثنان يحتاجان إلى بعضهما بعضاً.
والمعادلات السلبية لا تخلق حالة تغييرية: لا تغيير في فلسطين، ولا في سورية. قضايا العالم كلها متشابكة متداخلة، لكن قضايا شعوب المشرق منصهرة بالنار والتعقيدات؛ لا تنفصل الواحدة عن الأخرى إلا بالفروقات الطائفية - المذهبية، القادرة وحدها على حجب واقعها، على النظر إليه بعيون أيديولوجية صرفة. القضيتان السورية والفلسطينية حليفتان موضوعيتان. الاثنتان تبتغيان الحرية، لا العبودية، والعيش الكريم لأبنائهما على أرضهم.
وإذ لم ترسُ القضية السورية على برّ، حتى هذه اللحظة، إلا أن المحتلين لسورية أصبحوا الآن واضحين: روس، أميركيون، أتراك، إيرانيون بحرسهم ومليشياتهم، يراقبهم الإسرائيليون من عُلو. والمعارضة السورية تحتاج إلى توسيع أفق نضالها المقبل، لكي لا تبقى وحيدة، أسيرة مأساتها الرهيبة. كذلك تحتاج القضية الفلسطينية إلى التحرّر من قبضة المشتغلين عليها، المتصيّدين لها ولخطابها، الواقفين على رأسها... فتنظر إلى القضية السورية، بصفتها شقيقة نضالها. وهذا أمرٌ ليس هيّناً. فإيران بَنَتْ صروحاً إعلامية وتنظيمية وعسكرية، لتمرير كذبتها القائلة بتحرير فلسطين، ومعها النظام السوري. ولكي تخرج القضيتان من الأسر، على أشكاله، عليهما التذكّر بأن النظام الأسدي لم يكن له ليدوم لولا إنشاء إسرائيل. ولولا إسرائيل أيضاً، ما كان للتمدّد الإيراني أن يحصل، وتدخل قواته المسلحة في حرب الأسد ضد شعبه، باسم فلسطين، أيضاً. نظام الأسد ازدهر بفضل إسرائيل، بفضل احتلالها فلسطين والجولان السورية. والنتيجة أن لإيران والأسد مصلحة ببقاء إسرائيل، لكي يستمرا بالضحك علينا.
ضد معادلة "إما سجناء فلسطينيون أو سجناء سوريون"، ثمّة شعار يفرض نفسه: مع السجناء الفلسطينيين والسوريين ضد أعدائهم الكُثُر المتنافِسين. والمروحة الواسعة من الأعداء تقتضي توسيع بيكار التفكير، وقبل ذلك الخروج من متلازمات: إما سورية أو فلسطين، إما سورية أو البحرين، إما صلاح الدين الأيوبي قائد عظيم أو أنه مجرم حقير.
الافتراض القائل أن العرب مستعدون للتنازل في خصوص التسوية مع إسرائيل لأنهم منشغلون بمواجهة التدخلات الإيرانية في شؤونهم، ثبت خطأه خلال قمم الرياض الأخيرة التي شهدت تأكيد التمسك العربي بمبادرتها للعام 2002، أي صيغة الأرض في مقابل السلام وحلّ الدولتين.
وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب رأى خلال زيارته إسرائيل «فرصة نادرة لتحقيق الأمن والاستقرار وإحلال السلام، عبر هزيمة الإرهاب»، ومن خلال «إدراك العرب والإسرائيليين أن لديهم قضية مشتركة في التهديد الذي تمثله إيران». ومع أنه وعد بتقديم «مبادرة سلام» بين الفلسطينيين وإسرائيل في غضون أسابيع، إلا أن ما تسرب عن مقاربته، على ندرته، يشير الى أنها حلّ «بالتجزئة» يمهد تدريجاً لإبرام تسوية «بالجملة».
من الواضح أن مفهوم ترامب للتسوية يقوم على «معالجة الأخطار الأكثر تهديداً» بما يتيح الوصول الى تلك «الأقل خطراً». وهو هنا يقدم تقييماً مختلفاً لأزمات الشرق الأوسط عمن سبقوه الى البيت الأبيض، بدءاً من النزاع العربي – الإسرائيلي، مروراً بالتهديد الإرهابي والتطرف، ووصولاً الى التدخلات الخارجية، وخصوصاً الإيرانية، في شؤون دول المنطقة العربية، ويعيد كذلك ترتيب الأولويات للوصول الى ما يصفه بـ «الصفقة الكبرى».
وهو يختلف في ذلك تماماً عن باراك أوباما الذي بدأ عهده بتأكيده للعالم الإسلامي أن قضية فلسطين هي لب مشكلة الشرق الأوسط وأن إيجاد حل لها أو وضعها على سكة الحل سيسهل التعامل مع الملفات الأخرى في المنطقة وبينها إيران والتطرف، قبل أن يعلن يأسه من القدرة على إيجاد حل بين تل أبيب ورام الله، ويتوقف عن أي جهد في هذا الخصوص منذ العام 2014.
لكن أوباما حاول في المقابل أن يعوض فشله في الملف الفلسطيني بـ «نجاح» في الملف الإيراني، ولهذا قدم كل التنازلات الممكنة لطهران من أجل إبرام اتفاق معها حول ملفها النووي، ما شكل دفعاً قوياً لسياسة النظام الإيراني القائمة على تحصيل ما أمكن من أميركا والغرب، والتدخل ما أمكن في الجوار الاقليمي. و «اضطُر» أوباما الى مسايرة هذه المعادلة الإيرانية لأن هاجسه كان أيضاً تحقيق ما يمكن تحقيقه قبل انتهاء ولايته الثانية، ولو على حساب المصالح الأميركية البعيدة المدى وحلفاء الولايات المتحدة.
وعلى رغم أن وصول ترامب الى الرئاسة عنى البدء في عكس هذا التوجه، إلا أن الثابت حتى الآن، بالنسبة الى العالم العربي، هو وجود مسارين منفصلين: مواجهة إيران والسعي الى تحقيق تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، لأن الخلط بين الأمرين أو الربط بينهما قد يخلق أوهاماً غير مبررة، ويفتح الباب أمام مناورات لا تسهل تحقيق تقدم في أي منهما.
ويجب أن لا ننسى أن إسرائيل استغلت الى أقصى الحدود الخطاب الدعائي الإيراني الذي يتحدث عن «إزالة الكيان الصهيوني»، والحرب التي شنها «حزب الله» في 2006 لأغراض لا علاقة لها بفلسطين، كي تتنصل من أي تسوية مع الفلسطينيين، وتتهرب من ملاقاة المبادرة العربية.
ولا بد من التذكير أيضاً بأن عداء إيران المفترض لإسرائيل يتخذ من حقوق الفلسطينيين حجة لمواصلة تغلغلها في المنطقة، وأن إسرائيل أعطت بعدوانيتها ورفضها الاعتراف بالحقوق الفلسطينية الذرائع لإيران لاستمرار التخريب على السياسة الجماعية العربية. ولذا من الضروري الفصل بين الملفين والمسارين، لأن تداخلهما يصبّ في مصلحة إيران وإسرائيل كلتيهما.
حملت زيارة الرئيس دونالد ترامب الأخيرة للمملكة العربية السعودية وإسرائيل والمناطق الفلسطينية معها تصريحات متعددة حول دور إيران في رعاية الميليشيات في الشرق الأوسط، ما دفع طهران الى الرد من خلال الإشارة الى تدخلات في دول أخرى في المنطقة ولكن من دون دحض ما قاله ترامب حول رعاية إيران للميليشيات. وانتشرت هذه الرعاية على مدى السنوات الست الماضية بعد العراق ولبنان إلى اليمن وسورية، من بين أماكن أخرى.
يبقى أن نرى ما إذا كانت الولايات المتحدة ستبني على كلمات ترامب القوية ضد إيران فعلاً عملياً ضد ميليشياتها في سورية، ولكن إيران بدأت بالفعل في إعداد نفسها لمواجهة أي جهود من قبل الغرب لاحتوائها في هذا البلد. والطريقة التي تستخدمها إيران في سورية ليست جديدة. فهي تتطابق في شكل عام مع ما نفذته إيران في لبنان والعراق. إن استراتيجية إيران للسيطرة في كل من تلك الأماكن تدور حول زراعة النفوذ من الأسفل إلى الأعلى. وهذا ينطوي على احتمال استمرار عدم الاستقرار على المدى الطويل في سورية حتى لو تم التوصل إلى تسوية للصراع، وبالتالي يجب أن تشكل معالجة هذه الطريقة للسيطرة جزءاً من أي استراتيجية من قبل الولايات المتحدة تهدف إلى احتواء إيران.
كما هو الحال، فإن تركيز الولايات المتحدة في سورية لا يزال عسكرياً ويركز على المعركة ضد تنظيم «داعش». وبعد فترة من النشاط العسكري المتراجع في الجنوب، تجري الولايات المتحدة محادثات مع الأردن حول احتمال استخدام المناطق الجنوبية من سورية، حيث لا يزال وجود «داعش» محدوداً بالمقارنة مع مناطق أخرى بخاصة في شمال شرقي البلاد، كمنطلق لإطلاق حملة عسكرية تتحرك باتجاه الشمال لتحرير الرقة ودير الزور من سيطرة «داعش». وشهد جنوب سورية في الأسابيع الأخيرة نجاحاً لقوات «الجيش السوري الحر» المدعومة من الولايات المتحدة والأردن في وقف تقدم «داعش» بعد هجوم هذا التنظيم على قاعدة التنف حيث تقوم الولايات المتحدة بتدريب جماعات «الجيش الحر» استعداداً لمعركة دير الزور.
إن إعادة تفعيل عمليات «الجيش السوري الحر» في الجنوب هي أحد الأسباب الرئيسية للقلق بالنسبة إلى إيران، حيث أن التنف نقطة عبور حدودية سورية إلى العراق، حيث ترعى إيران ميليشيات من بينها قوات «الحشد الشعبي» التي تقاتل «داعش» حالياً في الموصل. وقد تقدمت الميليشيات المدعومة من إيران، بالتعاون مع الجيش السوري، نحو التنف في منتصف هذا الشهر، ما تسبب في ضرب طائرات أميركية من التحالف الدولي ضد «داعش» قافلة للدبابات الموالية للنظام. ومن المرجح أن يكون الدافع وراء تقدم القوات المؤيدة للنظام هو ربط المناطق التي يسيطر عليها بشار الأسد وحلفاؤه في سورية مع المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات الموالية لإيران في العراق.
جاء هذا التقدم العسكري في وقت أعلن فيه بعض قادة «الحشد الشعبي» استعدادهم لدخول سورية من العراق بحجة تحرير الرقة من «داعش» بعد تحرير الموصل من التنظيم. ولكن ربط المناطق السورية والعراقية تحت مظلة إيرانية يعني إنشاء قوس من الوجود العسكري لإيران من شأنه أن يسمح لقواتها أن تغلق على الجماعات المسلحة المعارضة السورية من الشمال الشرقي وكذلك من الغرب، والذي هو في معظمه تحت سيطرة النظام. وهذا من شأنه أن يزيد من دفع المعارضين السوريين نحو التمركز في محافظة إدلب على الحدود التركية.
ولم تردع الضربة الأميركية القوات المؤيدة للنظام والتي تتألف من السوريين والإيرانيين ومقاتلي «حزب الله» الذين واصلوا تحريك صواريخ أرض- جو نحو الخطوط الأمامية مع «الجيش السوري الحر» في الشرق. وجاءت هذه الخطوة بعد وقت قصير من موافقة روسيا وإيران وكذلك تركيا ضمن محادثات آستانة على السماح لإيران بإنشاء مراكز مراقبة في ما يسمى «مناطق التصعيد» في سورية، بما في ذلك في إدلب والجنوب، تحت ذريعة تخليص هذه المناطق من «داعش» وغيره من الجماعات المتطرفة. وبعد عمليات نقل السكان التي طردت السكان السنّة من بلداتهم الأصلية بالقرب من الحدود اللبنانية إلى إدلب، ليحل محلهم السكان الشيعة الذين غادروا بلداتهم في إدلب للانتقال إلى المنطقة الحدودية، قام «حزب الله» أيضاً بسحب 3 آلاف مقاتل من المناطق السورية المتاخمة للبنان من أجل إعادة نشرهم في شرق سورية.
كل هذه التحركات التكتيكية التي تقوم بها إيران والجماعات التي ترعاها تقلق الولايات المتحدة وحلفاءها في شأن جدوى إنشاء أي نوع من المناطق الآمنة في جنوب سورية، حيث من الممكن أن إيران والنظام السوري لن يسمحا بتكوين هذه المناطق وتنفيذها، اذ يريان فيها تهديداً لمصالحهما الحيوية.
لكن هذه الديناميكية العسكرية ليست سوى جزء واحد من القصة. فالدينامية المهمة الأخرى تخص أعمال إيران داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام. في وقت مبكر من الصراع السوري، استدعت إيران «حزب الله» لدعم نظام الأسد الذي كان بدأ يفقد قدرته في مواجهة ضغط «الجيش السوري الحر». وفي وقت لاحق، لم ترعَ إيران إنشاء ميليشيات موالية للنظام فحسب، لا سيما قوات الدفاع الوطني، لمواصلة القتال جنباً إلى جنب مع النظام، ولكنها استوردت أيضاً مرتزقة من أفغانستان ودول أخرى للمشاركة في الصراع، إضافة إلى إرسال قوات خاصة إلى سورية.
في حين أن معظم المقاتلين الأجانب قد يجبرون في نهاية المطاف على مغادرة سورية في حالة تسوية النزاع، فإن إيران لا تستطيع تحمل فقدان النفوذ في سورية لأن ذلك يعني قطع خط الإمداد لـ «حزب الله». فإيران، التي تزعم أن ميليشياتها تقوم بمكافحة «داعش» وجماعات التطرف، تهدف إلى أن يواصل «حزب الله» القيام بدور في سورية بصفة استشارية على المدى الطويل. كما أن الميليشيات التي تمولها إيران في سورية تستعد أيضاً للوجود على المدى الطويل. وقد أنشأ العديد منها منظمات غير حكومية كوسيلة لجذب السكان المقيمين في مناطق النظام التي يعملون فيها وللحصول على التمويل من خلال الحكومة السورية، بما في ذلك التمويل الأجنبي المخصص للمساعدات الإنسانية.
وتردد هذه الميليشيات والمنظمات المرتبطة بها النموذج الذي استخدمه «حزب الله» في لبنان الذي شهد تحول الجماعة من مجموعة عسكرية إلى حزب سياسي مع أجنحة اجتماعية واقتصادية وعسكرية. كما بدأت إيران شراء الأراضي في سورية وإجراء صفقات تجارية واستثمارية مع الدولة السورية بهدف إقامة وجود اقتصادي طويل الأجل في البلاد. ولكن كما هو الحال في لبنان، حيث انه في مصلحة «حزب الله» أن تبقى مؤسسات الدولة ضعيفة من أجل تبرير استمرار وجود مؤسسات الحزب الموازية، من المرجح أن تصبح الجماعات المدعومة من إيران في سورية سبباً لهشاشة الدولة على المدى البعيد.
إذا كانت الولايات المتحدة جادة في احتواء إيران في سورية، فإن التركيز على التكتيكات العسكرية الإيرانية وحدها في المعركة ضد «داعش» ليس كافياً. ما يثير قلقاً أوسع هو محاولة إيران التغلغل في سورية من أسفل إلى أعلى، الأمر الذي من شأنه أن يمكّن إيران من الحفاظ على النفوذ بغض النظر عن الشكل الذي قد تتخذه تسوية الصراع. وهذا يتطلب استراتيجية تتجاوز المسائل العسكرية وتراعي التغيرات المؤسسية والاجتماعية المهمة التي ترعاها إيران في مناطق النظام وليس التغيرات في مناطق المعارضة فقط.
إدلب لم تعد المدينة المنسية بعد اليوم، كما أراد لها الأسد وعصابته، بل حاضرة وبقوة في أكثر الاتفاقات المتعلقة بالثورة السورية، وما تتمخض عنها من قرارات.
عقود من التهميش والتجاهل لم يكسرها الأسد، بل بقيت شامخة بزيتونها و برجالها وثوارها ومنشقيها الذين خلدتهم الثورة السورية، فمن ينسى المقدم أحمد إبراهيم العلي قائد ثورة الجبل الوسطاني؟ إلى أن استشهد في ريف اللاذقية، ومن ينسى المقدم حسين الهرموش؟ قائد ومؤسس الجيش الحر؛ الذي وقع في فخ المؤامرة ليسلّم إلى النظام.
بل من ينسى قادة الأحرار؟ الذين قضوا في رام حمدان بتفجير أدى لاستشهادهم، ومن ينسى وكل بلدة أو حي أو بيت قد أتاه ما يشغله؟ فإما شهيد أو معتقل أو مصاب، فجلست الأمهات خلف الأبواب تنحني، وتتكئ على سبحتها الطويلة؛ لتعبر الأيام منتظرة عودة الغائب السجين أو اللحاق بالشهيد الراحل.
وتختنق الزوجات بغصة أمام مشهد الوداع الأخير، فعين على ذكرى الحبيب، وعين تائهة في تيه المستقبل، وتدور أعين الأيتام باحثة عن ظلّ الأبّ الذي تستظل به من حر الحرب الطويلة.
آلاف الشهداء طويت أسماؤهم؛ لأنها أكبر من أن تسعها جدران صفحاتنا؛ فكيف ستدون بطولاتهم؟ ومن سيقدر الثمن الذي دفعوه من دمائهم؟ لنجلس في مأمن مع عائلاتنا، ونقلّب صورهم على صفحاتنا، نخاف أن ننساهم؛ فيداهمونا في أحلامنا ويقضوا عتبات مضاجعنا.
توزع من تبقى من شبابها على الجبهات، وانقسموا بين مرابط في ريف حلب أو اللاذقية أو حماة، وبين من انصرف عن الدنيا وزينتها، وزهدوا بمتطلبات الشباب الكثيرة، وذهبوا ليسدّوا ثغرة قد يتسلل العدو من خلالها.
دفعت البلدات ثمنا غاليا من الدماء والأرواح؛ لتبعد الأسد وميليشياته عن ترابها، ويحاولون مع أبناء الثورة من باقي المحافظات الاتساع في هذه البقعة، بكل الاتجاهات كلما سنحت لهم الفرصة المواتية.
وفي المقابل ومع اتفاق ” المناطق الهادئة” لا يترك النظام فرصة تفوته إلا ليتقدم أكثر في أراضيها، وعندما يعجز يقوم بقصف البلدات المجاورة لخطوط التماس بالمدفعية والهاون، ليهدم بيوتها، ويحرق محاصيلها، ويهجّر أهلها.
يبقى المقاتلون في حالة تأهب واستنفار، رغم كل الهدن والاتفاقيات، واضعين أصابعهم على الزناد، لا يفكرون بالعودة حتى إسقاط هذا النظام المجرم مهما كان الثمن.
أضافت غارة التوماهوك على قاعدة الشعيرات للرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب قبولاً في الشارع، فقد أنذر، تحت عنوان "عدم التغاضي"، روسيا وحليفها السوري من أي هجومٍ قد يحصل بالسلاح الكيماوي، وردَّ على ما تم تناقله إعلامياً عن محادثاتٍ وصداقةٍ له مع بوتين والنظام الروسي، الإنذار الثاني والأهم وجّهه ترامب لإيران، وأكّدته الغارة الأميركية التي حصلت، أخيرا، في الجنوب الشرقي السوري على قافلةٍ عسكريةٍ تحوي مكوناً إيرانياً وجد تحت شعار القوى المتحالفة مع الجيش السوري. وكانت إسرائيل قد شنت عدة هجماتٍ على ضواحي دمشق ومناطق القلمون ضد أهدافٍ قالت إنها مستودعاتٌ تخص حزب الله، أو منقولات عسكرية له، متحركة عبر الحدود. تظهر هذه الهجمات حجم التورط الإيراني في سورية، ومدى تمدّده العسكري على الجغرافيا السورية، وقد وصل إلى قلب حلب شمالاً، وإلى الحدود الجنوبية الشرقية التي قصفتها الطائرات الأميركية.
أطلق ترامب، خلال حملته الانتخابية، صيحاتٍ كثيرة ضد السعودية وإيران وكوريا الشمالية وحتى المكسيك، ولكنه بعد أن تبوأ الرئاسة، بدا رجلاً عملياً أكثر، وتعامل مع الموقف بواقعية، وأنزل عن كاهله بضع حمولاتٍ، مبقياً على أكثرها تأثيراً وخطراً، وهي إيران. لم يلغ ترامب الاتفاق النووي الذي وقعه أوباما وحلفاؤه في أوروبا مع إيران، فهو أمرٌ يتعلق بآخرين، يبدو أنهم متمسّكون به، ولكنه أحاط نفسه بمستشارين لا يكنّون لإيران أي ود، وبعضهم مستعد للذهاب أبعد من مواجهتها إعلامياً، واختار أن يذهب، في أولى جولاته العالمية، لزيارة المملكة العربية السعودية التي تكن لها إيران عداوةً خاصة، وهذه الزيارة خُصصت لتوقيع اتفاقيات عسكرية ضخمة بمئات المليارات، وتمتد صلاحيتُها إلى أكثر من عشر سنوات، وهي مدة تتجاوز فترة ترامب الرئاسية الحالية والمقبلة، فيما لو أعيد انتخابُه، ما يعني أن الحلف القوي بين السعودية والولايات المتحدة مرشّح ليعمر فترة طويلة مقبلة.
حاولت إيران أن تفتعل تصعيداً مقابلاً في مواجهة الموقف الحاد الذي أظهره ترامب، فأخرج خامنئي من جرابه السحري أحمدي نجاد، وهو أحد عناوين إيران المتطرّفة، ثم طواه لصالح وجه جديد هو المرشح إبراهيم رئيسي، ونشر على نطاق واسع بأنه مرشّح المرشد الأعلى، والتطرّف إحدى صفاته الرئيسية، ولكنْ بشكل واقعيٍّ يبدو أن إيران تسير في طريق المهادنة وكسب الوقت، فأكثرت من الحديث عن الاتفاق النووي وتمسّكها به، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، بإظهار فوز كبير للرئيس "الإصلاحي"، حسن روحاني، الذي يعتبر في إيران عرّاب هذا الاتفاق. هذا لا يعني أن إيران ستخفّف من طموحها، أو تقلص من محاولة وجودها، فقد كانت قافلتها العسكرية تبعد بأقل من ثلاثين كيلومتراً عن الأردن عندما تعرّضت للقصف، وقد لا يكون هذا الوجه "الإصلاحي" الذي اختارت أن تُظهره للسنوات الأربع المقبلة كافياً لتغيير خطط ترامب، وهو يستعد ليلتقي بزعماء محليين يحيطون بإيران، وسيحاضر فيهم عن الإسلام، بغياب إيران قبل أن يتوجه إلى إسرائيل.
الوجود الإيراني في سورية واسع وكثيف، وهو من عوامل استمرار الحرب، والضربة الإنذارية قرب الحدود الأردنية هي أحد الخطوط التي ترسمها الولايات المتحدة، ومن الممنوع تجاوزها، ولكن ذلك غير كافٍ لإلغاء الوجود الإيراني أو تخفيفه في سورية، وتأثيره المر على مسار الحرب. قد تمنع نشاطات ترامب الحالية، مع شركائه، إيران من التحرّك لكسب المزيد، ولكن من غير المعروف كيف ستؤثر على ما تستولي عليه إيران أساساً، خصوصا بوجود الحليف الروسي.
تعيد زيارة ترامب السعودية إلى الميدان لاعباً رئيسياً ومؤثراً، وبمساندة أميركية وإقليمية، ولكن الحسم بوصفه كلمة سحرية وخياراً نهائياً قد لا يكون حاضراً، بحسب مفردات الاتفاق الموقع بين الطرفين، خصوصا أن فترته طويلة نسبياً، ومن غير المعروف أيضاً ما إذا كانت طبيعة السلاح أو العلاقة الجديدة هي للردع فقط، أم لكسب المعارك أيضاً.
نحن اليوم أمام نهج جديد؛ حزم أكيد، لمواجهة كل جماعات الفوضى والتخريب والعسكرة المتأسلمة، من سنة وشيعة.
قمة الرياض الأميركية - الإسلامية، قطعت الشك باليقين، وتمّ العزم على مواجهة السياسات الخمينية الشريرة، وطبعا «القاعدة» و«داعش» وكل حركات الإرهاب المتأسلم، بالنسخة السنيّة.
من ثمرات الزيارة الأميركية التاريخية للرياض، بمباركة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وخادم الحرمين الملك سلمان، إصدار قائمة أمنية موحدة للممنوعين. ومن هؤلاء هاشم صفي الدين، رئيس المجلس التنفيذي لـ«حزب الله» الخميني في لبنان.
طبعاً غضب الأخير، وهو المتهم بتسهيل وتخطيط أعمال الشر والفتن في سوريا وغير سوريا، وقال: «الوعد في جبهات القتال وليس في المؤتمرات»!
وزير الخارجية والمهجرين اللبناني، جبران باسيل، وهو رئيس التيار العوني وصهر الرئيس، قال بعد أن عاد من الرياض، وصدور البيان الختامي الذي تضمن، فيما تضمن، إدانة «حزب الله» وغيره من المنظمات المحظورة، قال إن الوفد لم يكن على علم بمحتوى البيان، وإن لبنان مستمر بالنأي عن الصراع، حسبما يتوهم طبعا! محاولة لإرضاء هذا الحزب، لكن أنصار الثنائية الشيعية؛ «أمل» و«حزب الله»، لم يرق لهم الكلام، فأين جبران من الكلمات الكثيرة على منصة القمة المضادة للحزب؟
تصنيف «حزب الله»؛ سعوديا وأميركيا، وخليجيا وبعض الدول العربية والأوروبية، لم ينته عند هذا الحال، فهناك مشروع عقوبات مالية ضد الحزب، وربما معاقبة النظام المصرفي المالي بلبنان، ما لم يتم عزل الحزب وأمواله.
النقطة الأخيرة هذه موضع جدل لدى بعض الساسة والمصرفيين اللبنانيين، بدعوى أن «المواطن البريء» لا علاقة له بالحزب.
وهذا صحيح، فنحن نعلم أن هناك كثيرا من اللبنانيين ضد الحزب ومغامراته، ورهنه للبلد، لكن الحزب عضو بالحكومة والبرلمان، والدولة اللبنانية عضو في النظام الدولي بما فيه من اتفاقيات قانونية عالمية. هناك وفود لبنانية بأميركا، لترويج المقولة التالية: «حزب الله» يجب ألا يكون أولوية للمواجهة، والأهم الانتهاء من مواجهة «داعش» بسوريا (متى؟)، وإن لبنان لا علاقة له بسياسات «حزب الله» وسلاحه (طيب الحزب أين يوجد؟ في كوكب آخر؟).
الأعجب هو ترديد هذه المقولة المكررة، وهي أن العقوبات المزمع تطبيقها على الحزب وإيران هي: «عقوبات كتبتها إسرائيل، وطلب من ممثليها في الكونغرس السعي لإقرارها»، حسبما قال الكاتب جهاد الخازن مؤخرا.
الحزب معاقب من دول الخليج ودول عربية وأوروبية أخرى... فهل كل هؤلاء فعلوا ذلك لإرضاء الصهاينة؟
على كل حال... الوقت وقت المواجهة، وليس التسويف، ولبنان في نهاية الأمر، دولة عريقة محترمة.
كلما أوغلت الحرب السورية في العنف والوحشية، وكلما تقدمت في العمر، زاد استنزاف الموارد حد القحط الكامل. والموارد البشرية من أهم الموارد وأخطرها على مستقبل أي أمة أو حضارة، هذا فيما لو أبقت هذه الحرب على سورية بالحد الأدنى لمفهوم الوطن.
من يعيش في الداخل السوري، في أي منطقة، يرى ويشهد ويشعر بالواقع المرير الذي آلت إليه فئة الشباب من السكان الباقين تحت رحمة العيش في ظروف الحرب التي تعتبر الأخطر في التاريخ الحديث.
شبح السَّوْق إلى الخدمة العسكرية في المناطق التي تخضع لسيطرة النظام يلاحق الشباب، ويشكل كابوسا يقضّ مضاجعهم، يحرمهم السكينة ويسلبهم القدرة، ليس على الأحلام فقط، بل القدرة على التفكير والتخطيط لمستقبٍل بات متخفيا وراء أفقٍ داكن تفوح منه رائحة البارود والموت.
منذ بداية الزلزال الذي يعصف بسورية، والشباب السوري يبحث عن سبل الهروب من مواجهة الموت، فقد كان العنوان صريحًا وحازمًا منذ البدايات: على من هو قادر على حمل السلاح أن يحمله تحت رايةٍ من الرايات التي تعدّدت فوق أرضنا، ومواجهة الموت في سبيل الوطن أو الله أو أية غاية أخرى تحمل ما تحمل من معاني القدسية القاتلة، قانعين بالشهادة التي يفصّلها كل طرف وفق أجنداته، ويقدمها بديلاً عن حياةٍ صارت، بحد ذاتها، معاناة وبلاء لا علاج لهما.
صار الشباب يلعبون مع القوانين والأنظمة لعبة القط والفأر، يحاولون استثمار المدد الزمنية التي توفرها بعض اللوائح الناظمة لأوضاع الطلاب، خصوصا الجامعيين، وفي مراحل الوساطات أو دفع الرشاوى كي يلحقوه بوحداتٍ تعمل في أماكن أقل خطورةً واحتداما للمعارك، في حال سدت جميع السبل أمامه، لكن القائمين على الأمور، والحريصين على الوطن وحمايته من المؤامرة الكونية، باتوا يقظين أكثر، وعازمين على تعديل القوانين والأنظمة الضابطة لأوضاع الطلاب، بطريقة يضيقون الخناق ويقلصون الفرص أمامهم، فيصير الوصول إلى المصير حتميًا.
هذه حال الشباب السوري، من بقي منهم في الداخل، وقد سدّت أمامهم جميع سبل الهروب من الموت. يناورون الدوريات التي لم تعد وقفًا على حواجز التفتيش، بل صار كثير منها يدور في شوارع المدن والأحياء، يلتقطون الشبان المارّين، يقيدونهم ويزجونهم في السيارات الملحقة، ويأخذونهم إلى الواجب الوطني "الإجباري"، ليعود القسم الأكبر منهم على شكل توابيت تحمل الموت رمزيا في الغالب، توابيت مغلقة ممنوع على الأهل فتحها لإلقاء النظرة الأخيرة، النظرة التي يجب أن توفّر للشاشات كي يُهدوا موت فلذات أكبادهم إلى الوطن وقائده. ولا تكتفي الدوريات باصطياد الشبان من الشوارع، بل تنقضّ عليهم في لحظات حياة مسروقة من شبح الموت المتغلغل في الهواء، عندما يجتمعون في المقاهي، ومعظمهم يفترشون الأرصفة أمام المقاهي، لأنهم لا يمتلكون ثمن كأس من الشاي أو فنجان قهوة ليتابعوا بطولة أو دوري كرة قدم.
يقول إدواردو غاليانو: "كرة القدم والوطن مرتبطان على الدوام، وكثيرا ما يضارب السياسيون والديكتاتوريون بهذه الروابط". ويقول: "لم يكن البروليتاريون بحاجة إلى إنهاك أجسادهم، لأن المصانع والورش كانت قد وجدت لتحقيق ذلك، ولكن وطن الرأسمالية الصناعية كان قد اكتشف أن كرة القدم، هوى الجماهير، توفر تسلية للفقراء وعزاء لهم، وتبعدهم عن الإضرابات، وعن الأفكار الخبيثة الأخرى". طبعا ليست الرأسمالية الصناعية وحدها، بل صارت وسيلة كل الأنظمة الاستبدادية في إلهاء شعوبها، وإقصائها عن التفكير بمشكلاتها وواقعها، خصوصًا لما تتمتع به هذه الرياضة من شعبيةٍ لدى الشرائح الفقيرة، فهي على رأي إدواردو غاليانو: "مثل التانغو، نمت انطلاقا من الأحياء الهامشية، فهي رياضةٌ لا تتطلب نقودا، وتمكن ممارستها من دون أي شيء آخر سوى الرغبة في اللعب".
ولأن كرة القدم، بحسب الباحث سعيد بنكراد، تحمل استراتيجية حربية، كما جاء في كتابه "مسالك المعنى": ربما تكون مباراة من هذا النوع من اللحظات المميزة التي تتيح لنا التعبير عن مواقفنا الحقيقية تجاه مجموعةٍ من القضايا الخاصة بالـ "القوة" و"العنف" و"الضعف" و ""الحرب" و"السلم". بل قد يصل الأمر إلى الكشف عن أحاسيس عدوانية متأصلة فينا، لم يفلح التهذيب الحضاري المتواصل في محوها والتخلص منها نهائيا. وانطلاقًا من هذا التحليل المفهومي، تمكن إضافة رمز آخر يندرج في سياق المعنى، السياق الذي يبقى مفتوحًا على التشكل والصياغة، من دون أن ينغلق على ذاته، طالما الشعوب تنتج ثقافتها وفق حركة التاريخ. لهذه الإضافة علاقة بالحروب من نمط الحرب السورية، فبعد لقاء كروي في الكلاسيكو الإسباني، لقاء يجعل الصمت مدويا وقت المباراة في الواقع، كما على صفحات التواصل الاجتماعي، لأن الجميع يكونون مسمّرين أمام الشاشات، كتب أحدهم على صفحة عامة: حدث في يوم الكلاسيكو أن شابًا "ريالّي" بلّغ عن أربعة من رفاقه "البرشلونيين" بأنهم متخلفون عن الالتحاق بالجيش، واستقدم الدورية "فشحططتهم".
فإذا كان اللعب، بحسب سعيد بنكراد أيضًا، يعدّ تشكلا ثقافيا قبْليًا لحياة رجولة متوقعة. أي هو من حالات التعلم الثقافي، وبعبارة أخرى، هو ليس سوى واحدةٍ من الوسائل المتعدّدة التي يتعلم من خلالها الطفل، كيف ينتمي إلى محيط ثقافي، له خصوصية في التقطيع المفهومي، وتمثل الوقائع الخارجية واستيعابها من خلال حالات الترميز المتعدّدة. إذا كان اللعب كذلك، فكم ينتظر هذا الجيل السوري المتشظي الذي، بأبسط البديهيات، توكل إليه مهمة البناء والنهوض، فالشريحة الشبابية هي خزّان الإبداع والابتكار، كم ينتظرهم من حياة متوقعة مبنية على ثقافةٍ قبْليةٍ تولد من رحم واقع تخلقه الحرب التي دمرت منظومة القيم والمعارف، وأخطر دمارها كان في استهدافها الموارد البشرية، رصيد سورية للمستقبل.