يبدو أنه ليس هناك حدود لجرائم نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، وقد برهن، منذ بداية الثورة الشعبية في ربيع 2011، أنه فنان جريمة بامتياز، استطاع أن يتجاوز كل المجرمين والأشرار في التاريخ. حين بدأ باستخدام براميل الديناميت التي يلقيها من طائراتٍ مروحيةٍ، ظن الناس أن هذا الاختراع سيكون أقصى ما يمكن أن تصل إليه صناعة الجريمة، ولكنه فاجأ العالم بعد زمن وجيز بسلاح جديد، هو ضرب التجمعات البشرية بالألغام التي تنفجر ما أن تلامس الأرض، وهي ألغام مصممةٌ ضد السفن والآليات الحربية، وكان هدفه من ذلك إلحاق أكبر قدر من الضحايا البشرية والدمار في العمران والبنى التحتية، الأمر الذي يفسر فظاعة الصور الفوتوغرافية لمدينة حلب التي انتهى القسط الأكبر منها كأنه تعرّض لزلزال.
لم يوفر النظام السوري معارضاً له، وطاول أذاه حتى الذين يعتبرهم من المعتدلين. بدأ سياسة التصفيات الجسدية منذ الشهر الأول للثورة، وقبل أن يدخل السلاح إلى مسرح الأحداث، وكان أن باشر حملة اعتقالاتٍ ضد النشطاء السلميين من التنسيقيات التي كانت تنظم مظاهراتٍ، وتم قتل الناشط الشاب غياث مطر ابن داريا وهو يوزّع الورد والماء والخبز على حواجز المخابرات. جرى اعتقاله يوم 6 سبتمبر/ أيلول 2011، وتم تسليم جثمانه بعد أربعة أيام، وآثار التعذيب بادية عليه. وفي هذه الفترة، على ما يبدو، لم يكن قد بدأ النظام ما أسماه تقرير منظمة العفو الدولية، أخيراً، المسالخ التي يتم فيها ذبح المعتقلين، وهو ما وثقه "قيصر" في الصور التي هرّبها من داخل سجن صيدنايا.
وفي الوقت الذي لازلنا تحت صدمة تقرير وزعته الأمم المتحدة قبل أيام عن العنف الجنسي ضد السوريات، وهو ما لم يرد في أي تقرير أمميٍّ من قبل، حتى بتنا اليوم أمام محرقةٍ تحيل مباشرة إلى جرائم النازية ضد اليهود في معسكرات الاعتقال في الحرب العالمية الثانية، ومنها أوشفيتز السيئ الصيت. ونحن نتأمل ذلك، لا نمتلك الجرأة للقول إن هذا هو منتهى الجريمة، فربما فاجأنا عباقرة الجريمة الأسدية بفن جديد للقتل.
حديث المحرقة جاء في تقريرٍ للخارجية الأميركية، يعبر عن صحوة أميركية متأخرة، ولكن حصولها متأخرةً أفضل من عدم حصولها، وحتى يكون لها تأثير يجب أن تترجم إلى ضغطٍ على النظام وروسيا من أجل وقف الجرائم على الأقل، والإفراج عن قرابة 200 ألف معتقل، منهم حوالى 20 ألف امرأة وطفل، وإذا أرادت الولايات المتحدة أن تذهب أبعد من ذلك، لن يوقفها أحد، وهي ليست بحاجةٍ لمن يوجهها نحو الطريق المناسب، فهي تعرف أن القانون الدولي والعدالة هما الحل المناسب، وحتى يتم إنصاف الضحايا يتوجب إنشاء محكمةٍ دوليةٍ خاصةٍ لمحاكمة الضالعين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وعلى رأس هؤلاء الأسد وأركان نظامه ومن دعمه في حربه ضد الشعب السوري، وخصوصاً المليشيات الطائفية، وفي مقدمها قيادات الحرس الثوري الإيراني.
أحسن وفد الهيئة العليا للمفاوضات بطرح قضية المعتقلين على اجتماعات جنيف، وهو عن هذا الطريق يرفعها إلى مستوى القضايا الأخرى التي يتم التفاوض حولها مع وفد النظام، ولابد أن يذهب الأمر إلى تحقيق دولي يتم من خلاله الضغط على روسيا ونظام الأسد من أجل فتح أبواب سجن صيدنايا أمام لجنة تحقيق دولية للكشف عن وضع السجن والانتهاكات التي جرت داخله.
إذا لم تجرِ محاكمة علنية لهؤلاء المجرمين، فإن الإنسانية سوف تصاب بجرح عميق، لن تشفى منه على مر التاريخ، ولن يقف الأمر عند لعنة التاريخ للذين لم يتحركوا من أجل نجدة البشر العزل، بل سيتجاوزها إلى خلل في الضمير الإنساني، وسقوط الأخلاق والعدالة والقيم وحقوق الإنسان.
كل الدول حتى العظمى منها هي دول وظيفية بالنسبة لأمريكا. وإذا كان الأمريكيون يوظفون دولة كبرى كروسيا كشرطي جديد في الشرق الأوسط، فمن الطبيعي أن كل الأدوار التي أدتها إيران على مدى العقدين الماضيين في المنطقة كانت بضوء أخضر أمريكي. من السخف الاعتقاد أن إيران نافست أمريكا على النفوذ في العراق، فلولا المباركة الأمريكية للتدخل الإيراني في بلاد الرافدين لما حلمت إيران بالهيمنة على بغداد.
وكذلك الأمر في سوريا ولبنان. من هو المغفل الذي سيصدق أن إيران وصلت إلى الجولان على حدود إسرائيل مع سوريا بدون ضوء أخضر أمريكي وإسرائيلي؟ هل كان قاسم سليماني وشركاه ليتجولوا في القنيطرة وبعض مناطق حوران على مرمى حجر من إسرائيل لو لم يحصلوا على إيماءة إسرائيلية؟ هل كانت الميليشيات الإيرانية العراقية واللبنانية تحلم بدخول الأراضي السورية لولا الموافقة الإسرائيلية والأمريكية ثانياً؟ بالطبع لا. وكذلك في اليمن المحاذي للقواعد الأمريكية في الخليج.
لقد تحركت إيران في عموم المنطقة بناء على التوجيهات الأمريكية وليس بناء على المشروع الإيراني المزعوم. وحتى لو كان هناك مشروع إيراني في المنطقة فعلاً، فهو مستمر بمباركة أمريكية أولاً وأخيراً، ولا شك أنه سينتهي عندما ترى أمريكا أنه استنفد مهامه الموكلة إليه. باختصار، فإن كل ما فعلته إيران في المنطقة على مدى السنوات الماضية كان دوراً وظيفياً أسندته لها أمريكا لفترة محدودة تخدم المشاريع الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، ويبدو الآن أن المهمة الأمريكية في الشرق الأوسط أوشكت على الانتهاء بدليل أن الرئيس الأمريكي الجديد بدأ ولايته الرئاسية بالتحريض على إيران وتقليم أظافرها في المنطقة واعتبارها أكبر خطر إرهابي يهدد العالم. هكذا يتصرف الأمريكيون عادة مع أدواتهم يتركونها تتحرك طالما هي تخدم المشروع الأمريكي، لكن عندما يرون أنها استنفدت دورها ينقلبون عليها كما فعلوا مع الجماعات الجهادية من قبل في أفغانستان، حيث كان الأمريكيون يعتبرون المجاهدين مقاتلين من أجل الحرية عندما كانوا يواجهون الخطر الشيوعي، لكن عندما زال الخطر الشيوعي تحول المجاهدون في نظر أمريكا إلى إرهابيين لا بد من ملاحقتهم وسحقهم في كل أنحاء العالم.
ويجادل الكاتب ماجد كيالي أنه «لا يمكن إحالة صعود نفوذ إيران في المشرق العربي إلى قوتها العسكرية، إذ إنها أخفقت في حربها مع العراق (1980ـ1988)؛ ولا إلى قوتها الاقتصادية، إذ ثمة دول إسلامية -مثل تركيا وماليزيا وإندونيسيا- أكفأ منها وأفضل اقتصادياً؛ ولا إلى نموذجها في الحكم، إذ هي دولة دينية طائفية ومذهبية منذ قيامها (1979) وفق وصفة الولي الفقيه.. ولا شك أن العامل الرئيسي الذي مكن إيران من التغلغل في المنطقة هو قيام الولايات المتحدة الأمريكية بغزو العراق واحتلاله عام 2003، والذي تم بالتوافق مع حكام طهران مثلما حصل في الغزو الأمريكي لأفغانستان 2001.» بعبارة أخرى، كان ثمة عوائد أمريكية -وتالياً إسرائيلية من السماح لإيران بالتدخل في المنطقة – أهم وأكبر وأعمق تأثيراً من ضرر تلك الادعاءات أو تلك المقاومة. ويضيف كيالي.: «لقد ثبت في ميدان التجربة -وليس فقط بالتحليل السياسي- أن ذلك السماح الأمريكي والإسرائيلي كانت غايته تحديداً استدراج إيران للتورط والاستنزاف في البلدان المذكورة، وتالياً توظيف هذا التورط في تقويض بنية الدولة والمجتمع في بلدان المشرق العربي، الأمر الذي قدم خدمة كبيرة لإسرائيل، ففي المحصلة؛ أدت السياسات التي انتهجتها إيران في المنطقة إلى إثارة النعرة الطائفية المذهبية، وشق وحدة مجتمعات المشرق العربي بين «شيعة «و»سنة»، وإضعافها وزعزعة استقرار دولها، وهو الأمر الذي لم تستطعه إسرائيل منذ قيامها…..والأهم من ذلك أنها استطاعت -عبر تلك الإستراتيجية- إفقاد إيران نقاط قوتها بكشـف تغطيها بالقضية الفلسطينية، وفضح مكانتها كدولة دينية ومذهبية وطائفية في المنطقة، بعد أن استنفدت دورها في تقويض وحدة مجتمعات المشرق العربي، وإثـارة النـزعة الطائفية المـذهبية بين السنّة والشيعة، إذ لم يعد أحد ينظر لإيران باعتبارها دولة مناهضة لإسرائيل، أو كدولة يجدر الاحتذاء بها. وفوق ذلك؛ نجحت الولايات المتحدة في تأمين بيئة إقليمية آمنة لإسرائيل عقودا من الزمن، بعد تفكّك الدولة والمجتمع وخـرابهما في أهـم دولتين في المشرق العربي، أي في سوريا والعراق».
لاحظوا كيف انقلب الرئيس الأمريكي الجديد على سياسة أوباما تجاه إيران، وفي واقع الأمر هو ليس انقلاباً بقدر ما هو مرحلة أمريكية جديدة للتعامل مع إيران بعد أن أدت مهمتها. وتأتي زيارة ترامب إلى السعودية واجتماعه مع ستة عشر زعيماً عربياً وإسلامياً في إطار الخطة الأمريكية الجديدة للتعامل مع إيران وإعادتها إلى حجمها الطبيعي.
هل نجح الأمريكيون في توريط إيران في المستنقعات العربية كما نجحوا من قبل في توريطها في الحرب مع صدام حسين؟ لو فعلاً بدأ الأمريكيون والإسرائيليون العمل على قص أجنحة إيران في المنطقة، فهذا يعني حتماً أن الإيرانيين بلعوا الطعم الأمريكي مرتين، الأولى عندما خاضوا حرباً ضد العراق لثمان سنوات، والثانية عندما تغلغلوا في سوريا ولبنان واليمن وتبجحوا باحتلال أربع عواصم عربية. وعلى ما يبدو؛ فإن تحجيم إيران ليس مطلبا أمريكيا وإسرائيليا فقط، بل بات مطلباً دوليا وإقليمياً حسب كيالي؛ فهو يتوافق مع رغبة روسية وتركية أيضاً، لا سيما أن روسيا تعتبر سوريا ورقة في يدها، لا في يد إيران التي تنافسها على ذلك.
باختصار ليس هناك دول مقدسة في المفهوم الأمريكي، فالجميع بما فيهم إيران مجرد أدوات وظيفية تؤدي دورها حسب المصلحة الأمريكية ثم تتنحى جانباً. فهل انتهى الدور الإيراني في المنطقة يا ترى، أم أن الأمريكيين مازالوا قادرين على استغلال البعبع الإيراني لتحقيق مزيد من الأهــــداف قبل أن يقصوا أجنحته تماماً؟
قبل بناء المحارق للجثث، بنى النظام السوريّ جثثاً للمحارق. سياسته المديدة هذه شاءت تحويل البشر الأحرار مشاريع جثث، أي بشراً يُحرمون حرّيّاتهم. يُحرمون كراماتهم ورفاههم وتعليمهم. لأيّ شيء يُرشَّح أمثال هؤلاء؟ للحرق فحسب، للحرق كرمى لاستمرار ذاك النظام، كرمى لـ «قضاياه».
بناء المحارق، في هذا المعنى، وقبل أن يكون عملاً صناعيّاً «مستورداً»، بدأ عملاً سياسيّاً «أصيلاً»: السوريّ الذي يصنعه الأسدان، الأوّل والثاني، تبقى حياته في يديهما، تستردّانها في أيّة لحظة تشاءان ذلك. تستردّانها بالطريقة التي تختارانها.
هنا، تعمل ديناميّتان: الأولى، ترفض السياسة بوصفها لعباً وخلافاً في وجهات النظر. تُحلّ، في المقابل، نظرة توحيش إلى السياسة: وطنيّ وخائن، شريف وعميل، قاتل ومقتول. الحيّز السياسيّ ينبغي أن يبقى ساخناً لا يبرد، معبّأً لا يسترخي. القداسة التي تُسبغ على «القضايا» أكثر ما ينقل السياسة من كونها لعباً إلى صيرورتها توحّشاً: هل يُعقَل أن نتحمّل وجهة النظر الأخرى وهناك إسرائيل؟ وهناك أميركا؟ وهناك المؤامرة التي تنوي اجتثاثنا؟ هل يُعقَل أن نؤنسن «العدوّ»؟ هل يُعقل أن نتنازل عمّا هو مقدّس؟
الردّ باجتثاث السياسة يفضي إلى تجثيث البشر: إنّهم «مقاومون» «شرفاء» «وطنيّون» «بواسل»، وقد ينقلبون في ظروف أخرى إلى «عملاء» «جواسيس» «خونة». لكنّهم، في مطلق الحالات، ليسوا أفراداً ذوي آراء ومواطنين ذوي حقوق. «المجد» لهم، لا الحرّيّة والخبز والتعليم، أو الموت لهم.
«داعش» أحد ثمار هذا النهج الذي اتّبعه نظاما الأسدين في سوريّة وصدّام في العراق. في عقارب الصافية، قرب السلميّة، كان آخر استعراضاته للسياسة بوصفها مذبحة.
الديناميّة الثانية تنجرّ عن الأولى وتكمّلها: «الشعب» الذي يصنعه الأسدان «واحد». لا تعدّد فيه ولا اختلاف ولا تمايز. البعد الآحاديّ والتصحّر السياسيّ وإرجاع البشر إلى خامهم الأوّل: هذه بداية المحرقة قبل إشعال النار. إنّه الجوهر القوميّ المزعوم، سلباً وإيجاباً.
لقد ذكّرنا مؤخّراً تعريب كتاب الباحث الفرنسيّ الراحل ميشيل سورا «سوريّة الدولة المتوحّشة» (الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر) بكلمات ووقائع تدلّ إلى النزعة هذه، نزعة إنقاص الإنسانيّ في الإنسان، والفرديّ في الفرد، وصولاً إلى الإنسان – الجثّة. حافظ الأسد لم يقتصد في التعبير مبكراً عن ذلك: مثلاً، في رغبته إعفاء طلاّب موالين من الامتحانات الدراسيّة واستخدامهم بما يفيد النظام، رأى أنّهم «يتصدّون لمؤامرات الإمبرياليّة والرجعيّة، وليس لديهم الوقت الكافي للدراسة». إذاً لا للمدرسة، نعم للقضيّة والمقدّس. شقيقه رفعت، وكان لا يزال الرجل الثاني في النظام، كتب في افتتاحيّة ليوميّة «تشرين»، في 1 تمّوز (يوليو) 1980، مبدياً استعداده للتضحية بمليون مواطن في سبيل إنقاذ الثورة.
بالمناسبة: ميشيل سورا، موثّق تلك الوقائع والأقوال، ومحلّل الطبيعة «المتوحّشة» لنظام الأسد، اختطفه في بيروت، أواسط 1985، الحلفاء اللبنانيّون الخلّص للنظامين السوريّ والإيرانيّ. مات بين أيديهم فاحتفلوا بتحوّله إلى جثّة. رموا الجثّة فلم تُكتشف إلاّ بعد سنوات.
لكنْ متى بدأ الانتقال من معادلة «الجثث للمحارق» إلى معادلة «المحارق للجثث»؟ فقط حين توقّفت قدرة النظام السوريّ على صنع الإنسان – الجثّة، حين ثار السوريّون رفضاً لتجثيثهم، بدأ الطور الصناعيّ. في البدء كان الكيماويّ. بعد ذاك أقيمت المحارق.
العقل الساخن في طوره الأوّل، والبارد في طوره الثاني، أنجز ما سمّاه هوركهايمر «تحويل المجتمع إلى طبيعة ثانية أقسى من الأولى». لكنّه إذ يمارس قسوته هذه فإنّه لا يفعل إلاّ الخير والضرورة. أليسوا جثثاً أولئك الذين يُحرقون؟ أوليس حرق الجثّة تكريماً للإنسانيّة، إن لم يكن تكريماً للجثّة نفسها أصلاً؟
إنّ الهراء «الوطنيّ والقوميّ والتقدّميّ» الذي كتبه وقاله مناصرو الأسد، سنة بعد سنة، لا يعلن إلاّ هذا: أنّ السوريّين، وقد أحيلوا جثثاً، يستحقّون موتهم. أنّ قتلهم قتل للشيطان الذين هم أنساله. يقيم فيهم. يقيم في هويّتهم. في ثقافتهم. في وجوههم. في ملابسهم. في تخلّفهم... إلى المحارق دُر!
وافتتحت المشروع بتأهيل كامل لساعة المدينة وساحتها، وتأهيل هيكل الساعة وشوارعها وأرصفتها والساحة الخلفية لها بعد أن تعرضت للقصف عدة مرات حيث تعتبر هذه الساعة رمزاً للمدينة وتعتبر ساحتها مركز إشعاع الحياة فيها.حين ترعى موسكو عملية تهجير مقاتلي حي برزة الدمشقي وعائلاتهم بعد هدنة ومساكنة مع النظام دامت سنوات، وشكلت بشروطها المنصفة نموذجاً يحتذى، وتستتبعها بمقاتلي حيي تشرين والقابون المجاورين، وحين يتكشف المشهد الراهن عن توازن قوى، بات يميل في غير مكان، لمصلحة النظام وحلفائه معززاً خيار الحسم العسكري، يبدو محط استغراب توقيت اتفاق الآستانة الذي أبرمته روسيا وتركيا وإيران، كدول ضامنة للتنفيذ، والقاضي بإقامة أربع مناطق لتخفيف التوتر أو خفض التصعيد في سورية، تشمل مدن وقرى محافظة إدلب وعدداً من البلدات في أرياف اللاذقية وحلب وحماة ومواقع محدودة في الريف الشمالي لمحافظة حمص، إلى جانب الغوطة الشرقية وبلدات في محافظتي درعا والقنيطرة.
لا يخطئ من يرى في الجديد الروسي خطوة استباقية تتحسب من سياسة أميركية نشطة في سورية، وكمحاولة للالتفاف على فكرة المناطق الآمنة التي بدأت تأخذ زخماً جدياً بعد ترحيب إدارة البيت الأبيض الجديدة بها، وبعد الضربة التي وجهتها واشنطن لمطار الشعيرات وتعزيز مساندتها لقوات سورية الديموقراطية، ثم تطوير حضورها في دير الزور والجنوب السوري ومناوراتها العسكرية الأخيرة عند الحدود الأردنية، في رهان من جانب الكرملين على إغراء الغرب بأن تخمد مناطق خفض التوتر موجات النزوح، وتشكل ملاذاً للاجئين يلجم اندفاعهم نحو البلدان الأوروبية، ما يؤخر اللجوء إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار بتشكيل مناطق آمنة وحظر جوي، بخاصة أن مناطق خفض التوتر لا تقتضي موافقة أممية، ولا تستدعي تعطيل فاعلية سلاح الجو الروسي، ويمكن الاستناد إليها لتحسين صورة موسكو عالمياً ومحاصرة تنامي دور المعارضة الروسية الرافضة لسياسة بوتين الخارجية وما استدعته من عقوبات اقتصادية مؤلمة.
ويصيب من ينظر إلى الأمر كفرصة لتمكين الكرملين من احتواء الطرفين الإقليميين الأكثر تأثيراً في الصراع السوري، وهما تركيا وإيران، حيث يلبي الاتفاق رغبة أنقرة في المشاركة بالحل السياسي وتوسيع نفوذها عربياً، والأهم حاجتها الأمنية لعزل الأكراد السوريين عسكرياً، ما يفسر مسارعة قيادة pyd لرفضه على أنه يمهد لتقسيم سورية، كذا، وزاد حماس أنقرة لتبني الاتفاق استمرار تحفظ واشنطن على مشاركتها في معارك الرقة، وما أشيع عن تسليحها لقوات سورية الديموقراطية، بينما تبدو طهران مكرهة على الاحتماء بالحليف الروسي وتنفيذ أجندته السورية في ظل تصاعد هجوم البيت الأبيض على دورها في المنطقة، فكيف الحال إن ساهم الاتفاق بتبييض صفحتها الدموية وجعلها جزءاً من الحل، وغض النظر عن حضور الميليشيا التابعة لها في ميادين القتال.
وأيضاً لا يجانب الصواب من يدرج الاتفاق في سياق مراعاة هواجس إسرائيل الأمنية، كونه يتضمن خفض التوتر في مناطق تهمها على الشريط الحدودي مع مدينتي درعا والقنيطرة، ويفسح في المجال لتفاهمات مع موسكو، تضمن أمن تل أبيب وسلامة حدودها، وتجهض احتمال شن حرب تكتيكية ضدها من الجولان المحتل من دون إغلاق الأجواء السورية أمام طائراتها كي تقوم بما تراه مناسباً ضد قوات النظام و «حزب الله».
وأخيراً لا يخطئ من ينظر إلى الأمر من قناة حذر موسكو من الغرق في المستنقع السوري، متوسلة تخفيف حضورها العسكري إلى أدنى درجاته والالتفات نحو تعزيز فرص هيمنتها السياسية البعيدة المدى، يحدوها استثمار الاتفاق لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.
أولاً، الإفادة من أجواء التهدئة والأمان النسبيين اللذين يرافقا تنفيذه لتثبيت الوقائع العسكرية التي أنجزت، ووضع الرؤية الروسية لمعالجة الصراع على نار حامية، والعمل، بحجة الحفاظ على الدولة، ليس فقط لتشجيع التعاطي مع سلطة عزلها عنفها الدموي المفرط، وإنما لتمكينها أيضاً، بدليل حرص روسيا على استثناء المواقع التي تهدد النظام أمنياً في محيط العاصمة والمدن الحيوية، تحسباً من فرص انتعاش العمل العسكري فيها إن حصلت تطورات غير محمودة، من دون أن تعبأ إن أفضى ذلك إلى تثبيت مشهد تقسيم البلاد أو تقاسمها بين السلطة والمعارضة، حتى لو ادعت أنه عابر وموقت وثمن يتوجب دفعه لنجاح وقف إطلاق نار مستدام.
ثانياً، الرهان على أن يسهم اشتراط الاتفاق أولوية مكافحة الإرهاب ومواجهة «داعش» وهيئة تحرير الشام، في زرع البلبلة بمناطق المعارضة، وخلق شروخ سياسية أكثر حدة في أوساطها مؤججاً بين فصائلها المزيد من المعارك البينية، من دون أن نغفل دور التهدئة وعودة الحياة الطبيعية في كشف الحالة البائسة التي يعيشها البشر في مناطق سيطرة معارضة عجزت، وطيلة سنوات، عن إدارتها سلمياً، ما يفتح الباب موضوعياً لربط الخيارات التنموية والإدارية لتلك المناطق بعجلة النظام المتحكم بحاجاتها وخدماتها، ويزيد الطين بلة، ويثقل حجم التحديات في مدينة إدلب وأريافها، استمرار اختيارها كملاذ رئيس لترحيل المقاتلين وتهجير أسرهم.
ثالثاً، الإفادة من الاتفاق كغطاء لتمرير بعض الأعمال العسكرية التي تساعد الكرملين لإعادة تشكيل المشهد، وهو أمر هين ومجدٍ الاستقواء بذريعة مواجهة «داعش»، أو محاربة هيئة تحرير الشام التي تتداخل مواقعها مع مواقع مختلف فصائل المعارضة المسلحة، كي تسوغ موسكو وحليفاها، النظام السوري وإيران، خروقاتهم للاتفاق، ويمدوا سيطرتهم على قطاعات من مناطق شملها الاتفاق.
وبين نظام خانع لا يمكنه تخطي مشيئة الكرملين، ومعارضة لا بد أن تنصاع لتصريح أردوغان بأن الاتفاق فرصة تاريخية لإنهاء الحرب، يحضر السؤال: هل تتمكن موسكو عبر مناطق خفض التوتر من تعزيز تحكمها بالملف السوري، أم قد تخترق المشهد معطيات جديدة، أهمها نهج لواشنطن يسعى إلى تغيير قواعد التعاطي مع الصراع السوري، متوسلاً الضغط الجدي والحازم لوقف العنف ودفع مسار الحل السياسي، وربما تطوير نوع من المشاركة الأميركية الفعالة فيه، ممهداً لرعاية أممية جدية لمعالجة هذه المحنة المؤلمة، تلغي التفرد الروسي في تقرير مصير البلاد!
رضوان السيد-قبل أسبوعين فاجأ بشار الأسد المشهد الإقليمي بالهجوم الصاعق على الأردن، بحجة أنه يسير في مخططات أميركية ضد سلطة بشار الأسد. ورَّد الأردنيون بأنهم وخلال خمس سنوات من تفاقم الأزمة والحرب في سوريا، واقتراب المسَّلحين من حدودهم، ما دخل إلى الأرض السورية جندي أردني واحد. بل كان هّمهم حراسة الحدود من المسلحين، واستقبال اللاجئين الذين طرد معظمهم بشار الأسد حتى صاروا ملايين لجهات الأردن ولبنان وتركيا. لكْن منذ أسبوع وأكثر بدأت طلائع من الجيش الأسدي والحرس الثوري الإيراني وكتائب «حزب الله» تقترب من الحدود الأردنية وسط قصف مدفعي وغطاء جوي كثيف. وقد رَّد الأردن بأنه لن يسمح بأن تهدد حدوده وأمنه الميليشيات الطائفية إلى جانب الإرهابيين!
وقد حصلت تطوراٌت أُخرى لجهتي لبنان والعراق. فقد أعلن حسن نصر الله أنه سحب قواته عن الحدود مع سوريا من داخل لبنان وسّلمها للجيش اللبناني، مع بقاء قواته بداخل سوريا. وقد احتار المراقبون في تفسير تصرف «حزب الله» هذا؛ فهل كان تصرفه شكليًا أو إعلاميًا باعتبار أن قوافل سلاحه الآتية من سوريا عبر العراق أو عبر إيران مباشرة تتعرض للضربات الإسرائيلية، وقد يتردد الإسرائيليون في ضرب قوافل السلاح خلال خطوط الجيش، وبخاصة أّن الجيش اللبناني أعلن عن تسلم عشرات المراكز من الحزب بالفعل؟! أم إّن الحزب احتاج إلى مسلحيه في «الجبهة الجنوبية» باتجاه الأردن، ولذلك أحَّل الجيش اللبناني محَّله، وقد كان الجيش اللبناني طوال السنوات الماضية يعمل بمثابة رديف للحزب في منطقة عرسال وما حولها، بل وفي جنوب لبنان؟
وما طال الأمر على هذا التساؤل، فقد أعلن «الحشد الشعبي» الذي صار جزءًا من الجيش العراقي عن اقتراب عسكره من الحدود السورية والأردنية بحجة طرد «داعش» وإحكام الحصار على تلعفر البعيدة نسبيًا عن حدود الأردن وسوريا.
وهكذا فقد اتضح الأمر، وهو اتجاه الإيرانيين وميليشياتهم لتهديد الأردن من جهتي سوريا والعراق، مستعيضين بذلك عن الاقتراب من الحدود مع إسرائيل في الجولان والقنيطرة وجبل الشيخ، لأّن الرَّد الإسرائيلي كان دائمًا سريعًا لهذه الجهة، وبالمدفعية والصواريخ والطائرات. وقد عّبر الطرفان السوري والإسرائيلي في كل مرة عن سخطهما وقلقهما للجانب الروسي، لكّن روسيا ما حمت الأرض السورية والميليشيات الإيرانية من الغارات الإسرائيلية. ولذا، فإّن هذا «التقرب» الإيراني الأسدي من الحدود الأردنية، ومن المثلث الحدودي العراقي – الأردني – السوري، المقصود به تهديد الأردن بعد أن تعذر عليهم تهديد الإسرائيليين فيما بين جنوب لبنان وجنوب سوريا. ولماذا الآن؟ ربما للحذر من متغيرات السياسة الأميركية، وإمكانية تهديد النظام السوري وميليشياته الإيرانية من جهة الأردن، أو لأّن خرائط مناطق النفوذ الخارجي في سوريا قد بدأت بالظهور والتحدد.
في المفاوضات الأميركية – الروسية المتجددة، قال الروس إنهم يريدون تعاونًا مع الولايات المتحدة في عهد ترمب في حّل الأزمة السورية، إنما بما يحفظ «مصالحهم» في سوريا وأوكرانيا. في أوكرانيا قالوا: إنهم يريدون أمرين اثنين: وضع خاص لشرق أوكرانيا الذي فيه أقلية روسية كبيرة، ونسيان مسألة جزيرة القرم التي ضموها إلى روسيا وأنشأوا جسرًا يربطها بالأرض الروسية.
ماذا يريد الروس في سوريا؟ العجيب أنهم سّلموا للولايات المتحدة بسوريا الشمالية من شرق حلب وإلى الحدود التركية، وهي المناطق التي فيها البترول وفيها المياه والزراعة القائمة على سّد الفرات ومن حوله.
ويخوض الأميركيون الآن صراعاٍت ومفاوضات للتوفيق بين مصالح حلفائهم الأكراد، وحلفائهم الأتراك. بيد أّن الطرفين محتاجان إلى رضا الولايات المتحدة التي اختارت حتى الآن «قوات سوريا الديمقراطية» للاستيلاء على الرقة بعد سقوط مدينة الطبقة وسّد الفرات بأيديهم. ولا يزال إردوغان يراهن على إقناع ترمب في زيارته للولايات المتحدة، بأّن الحلف مع تركيا الأطلسية، أجدى من الرهان على الميليشيات الكردية التي يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره تركيا تنظيمًا إرهابيًا وخطرًا على أمنها الداخلي.
ومرة أُخرى: ماذا يريد الروس في سوريا، أو أين مصالحهم فيها التي ينبغي احترامها؟ الظاهر حتى الآن أنهم يعتبرون مصالحهم متركزة من قاعدة حميميم وإلى حماة وحمص والساحل باتجاه اللاذقية وطرطوس.
وبالطبع، فإّن هذه المناطق الشاسعة ينبغي أن تبقى تحت سيطرة النظام الموالي لروسيا، وهو حتى الآن نظام الأسد. وفي هذه المناطق وجوارها تقع معظم مساحات المناطق الأربع التي تسميها روسيا مناطق خفض التوتر. ومع أّن المعلن أّن هذه المناطق سيتوقف فيها القتال، لكّن المنتظر أن يجري قضمها من جانب النظام السوري والروس بحيث تخضع بالكامل لسيطرة النظام الظاهرة بالمصالحات أو بالتهجير أو بهما معًا.
وسط هذه الخرائط المتبلورة لتقسيم سوريا مناطق نفوذ، ماذا يبقى لإيران التي استثمرت استثماراٍت بالغة الهول بالمال والأرواح في النزاع السوري؟! تتحدد منطقة النفوذ الإيرانية أو ما يتوقعه الإيرانيون: من جوار حمص وإلى القلمون ودمشق باتجاه الحدود الأردنية، وهي المناطق التي صارتُتعرف بالجبهة الجنوبية. وفي هذه المنطقة الممتدة على مساحة أكثر من مائتي كيلومتر تقع ضواحي دمشق الغربية التيُتخلى الآن من سكانها كما حصل ويحصل بالزبداني ومضايا والقابون ووادي بردى الذيُيزّود دمشق بالمياه. ولذا، فإّن الإيرانيين يتمددون الآن باتجاه الجنوب إلى الحدود الأردنية، ويلاقيهم حلفاؤهم في العراق بالاتجاه إلى الحدود السورية والأردنية، التي يقصفها الطيران العراقي بحجة إخلائها من «داعش».
ويساعدهم في ذلك ثلاثة أو أربعة آلاف من مقاتلي «حزب الله» الذين تركوا دواخل لبنان الحدودية لرديفهم وحليفهم الجيش اللبناني العظيم المنهمك من رأسه إلى أخمصقدميه في مكافحة الإرهاب!
كل المشاركين في الحرب السورية، يحاولون الآن تحويل مناطق قتالهم أو نفوذهم أو طموحهم إلى خرائط على الأرض. وقد تحددت بعض الخرائط، وهناك خرائط أُخرى تتجه إلى التحُّدد. وما عادت للمسلحين السوريين قوى معتبرة تستطيع المقاومة أو حتى انتزاع منطقة والاستقلال بها مثلاً. وهذا إذا استثنينا منطقة إدلب وجوارها حيثُيرَّجح أن تتآكل بسبب وجود «جبهة فتح الشام» فيها. أّما مناطق العلوشيين («جيش الإسلام») بشرق دمشق وبعد أن تهادنوا مع النظام لسنوات، فهم يشتبكون الآن مع «فيلق الرحمن» حليف المتطرفين؛ كما يقال، ربما لتسهيل دخول قوات النظام السوري وميليشياته إليها!
جنوب سوريا إذن فيما بعد دمشق ودرعا وبجوارها، يراد له أن يكون حصة إيران. في حين يبقى الجولان منطقة حماية إسرائيلية، وفيه خليط من الداعشيين والنصرويين وقوات النظام السوري يعيش بعضهم بجوار بعض بسلام، باستثناء مناوشات تضبطها إسرائيل. وقد نجح النظام حتى الآن في إبقاء سيطرته على ما وراء الجولان من جبل الدروز أو جبل العرب. فيا لسوريا، ويا للعرب!
و معنى لم يتعال دوي طبول الحرب على الحدود الأردنية – السورية منذ عام 1980، عندما حشد حافظ الأسد جيشه على الجانب السوري في هذه الحدود، بحجج تشبه الحجج التي يرددها ويتذرع بها «ولده» الآن، كما أصبحت عليه الأوضاع منذ ما بعد الضربة «التأديبية» التي وجهتها الولايات المتحدة إلى مطار «الشعيرات» العسكري، رداً على جريمة استخدام هذا النظام، بدعم إيراني وتأييد روسي، الأسلحة المحرمة دولياً ضد خان شيخون، وحيث تحول التركيز من الجبهة الشمالية إلى الجبهة الجنوبية، والدفع بمزيد من مجموعات «حزب الله» اللبناني وفيلق القدس الإيراني، وكثير من الميليشيات الطائفية والمذهبية والإرهابية ومن بينها «داعش»، في اتجاه حدود الأردن، وبخاصة في المنطقة الملامسة لمنطقة درعا في سوريا.
والأخطر أن الأمور قد تطورت في اتجاه مزيد من احتمالات الصدام العسكري، عندما بادرت وحدات «مجوْقلة» ترافقها أرتال من «المشاة» من جيش نظام بشار الأسد ومجموعات من «الميليشيات» الطائفية الإيرانية ومن «الحشد الشعبي» العراقي، كما تقول بعض المعلومات، إلى ملء الفراغ الذي ترتب على انسحاب «داعش» من المناطق الواسعة المتقابلة على الحدود الأردنية – العراقية، المتاخمة للحدود السورية الأمر الذي اعتبره الأردن، ومعه بعض «الأشقاء» العرب وبعض «الأصدقاء» المعنيين بكل ما يجري في هذه المنطقة، تهديداً مباشرا وفعلياً له، وبخاصة أنه جاء في هذه المناطق الحدودية الحساسة.
وخلافاً لما يراه الذين يقولون إن سبب هذه الاندفاعة العسكرية السورية – الإيرانية، التي من المستبعد جداً أن تكون جاءت من دون علم وموافقة روسيا الاتحادية، هو ملء الفراغ بعد انسحاب «داعش» من هذه المنطقة، خوفاً من أن تملأه المعارضة السورية، فإن هناك من يعتقد جازماً أن الهدف الرئيسي لهذا التحول غير المفاجئ هو السيطرة على هذا الممر «الاستراتيجي» الذي بقي يشكل «كاريدوراً» برياً لتمرير الأسلحة والذخائر من إيران، بعد توقف في بغداد وفي محطات أخرى في وسط الأراضي العراقية، إلى جيش نظام بشار الأسد وإلى فيلق القدس الإيراني والميليشيات المذهبية التابعة له، وإلى «الحشد الشعبي» العراقي بقيادة هادي العامري.
إنه لا شك في أن هذا التقدير وهذا الاحتمال وارد، وفيه كثير من الحقيقة والصحة، لكن هناك من يرى أن الأمور لا تقتصر على مجرد «تأمين» وصول الإمدادات العسكرية الإيرانية إلى جيش نظام بشار الأسد و«حزب الله» والميليشيات المذهبية التابعة للولي الفقيه وللحرس الثوري الإيراني، بل إن الهدف الرئيسي هو تهديد الأردن والضغط عليه وعلى حلفائه من قبيل تشتيت الجهد والحؤول دون أن يكون التركيز على جبهة درعا – الرمثا الحدودية التي تعتبر المنطقة الحساسة الأولى والأكثر خطورة، إنْ بالنسبة للنظام السوري وحلفائه وإنْ بالنسبة للدولة الأردنية التي لا تعتبر أن هذه المنطقة هي خاصرتها الرقيقة وفقط، وإنما الأكثر خطورة لأنها تشكل واجهة عدد من مدنها الرئيسية وأهمها مدينة إربد التاريخية.
في كل الأحوال تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ النظام السوري إنْ في عهد «الوالد» وإنْ في عهد الابن بقي يستخدم هذه المنطقة، منطقة درعا السورية والرمثا الأردنية الحساسة جداً، لـ«التحرش» بالأردن ولاستفزازه ولـ«ابتزاز» بعض الدول العربية التي تعتبر أن أمن المملكة الأردنية الهاشمية من أمنها، وهذا هو ما حصل في عام 1980، عندما أرسل حافظ الأسد جيشه إلى الحدود الجنوبية، حيث أكثر النقاط حساسية بين الدولتين الشقيقتين، التي يجب أن تكون العلاقات بينهما علاقات أخوة وحسن جوار.
وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن هذه ليست هي المرة الأولى التي يفتعل فيها هذا النظام مثل هذه الإشكالات التي يفتعلها الآن في اتجاه الحدود الأردنية الشمالية، بالانطلاق من الحدود السورية الجنوبية، فهذا هو ما بقي يحدث باستمرار، والمفترض أنه معروف أنَّ الجيش السوري كان قد عبر حدود الأردن غازياً أكثر من مرة أخطرها في عام 1970 عندما كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع، وحيث لولا بسالة القوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي، وصمود الأردنيين في الدفاع عن بلدهم ووقفة الأشقاء والأصدقاء الشجاعة، لربما تغيرت معطيات كثيرة في هذه المنطقة من الوطن العربي الكبير.
وبالمقابل فإن الجيش الأردني لم يدخل الأراضي السورية «غازياً» ولا لمرة واحدة، فالمرة الوحيدة التي دخل فيها أراضي هذه الدولة المجاورة الشقيقة كان في عام 1973 عندما اهتزت معادلة القتال مع القوات الإسرائيلية في حرب أكتوبر (تشرين الأول)، وكان لا بد من إرسال خيرة التشكيلات العسكرية الأردنية للدفاع عن دمشق التي غدت مهددة، والتي يعتبرها الأردنيون واحدة من أهم العواصم العربية، وأنَّ الدفاع عنها واجب ملزم، كواجب الدفاع عن عاصمتهم عمان.
إن هذا ليس من قبيل نكْء الجراح وصب الزيت على نار مشتعلة، لا سمح الله، ولكن من قبيل أن هذا النظام إنْ في عهد «الوالد» وإنْ في عهد الابن بقي يتحرش بالأردن، وبقي يرسل، وبخاصة في السنوات الأخيرة، الإرهابيين والمرتزقة الطائفيين والمذهبيين في اتجاه حدوده الشمالية، والمفترض أن الكل يذكر أن بشار الأسد قد أطلق في بدايات انفجار الأزمة السورية تهديداً قصد به المملكة الأردنية الهاشمية، قال فيه: «إن العنف وعدم الاستقرار اللذين باتت تعاني منهما سوريا سوف ينتقلان إلى بعض الدول العربية المجاورة».
وهكذا فإن الفترة الأخيرة قد شهدت دفعاً مستمراً لكثير من التنظيمات الإرهابية والطائفية في اتجاه نقاط التماس على الحدود الأردنية – السورية، وهذا هو ما جعل الأردن «يحذِّر» روسيا، لمسؤوليتها المباشرة في الصراع السوري، بما في ذلك هذه المستجدات الحدودية، من أنه لا يقبل بوجود كل هذه التنظيمات التي من بينها «حزب الله» اللبناني وكثير من التشكيلات المذهبية، العراقية والإيرانية، بالقرب من حدوده، وإنْ من داخل أراضي سوريا. والأخطر أن هذا التحذير قد تضمن تهديداً مبطناً، لا بل مباشر، بأنه – أي الأردن – قد يضطر، إن لن يُبْعد هذا التهديد عن حدوده، إلى التدخل العسكري في العمق السوري، دفاعاً عن شعبه وعن مدنه وقراه الحدودية.
السؤال هنا هو: هل من الممكن يا ترى، أن يضطر الأردن إلى إرسال قواته إلى داخل الأراضي السورية، وعندها فإن الدولتين ستنخرطان في مواجهة عسكرية مباشرة لا محالة، وذلك إنْ نفذ نظام بشار الأسد تهديده بالتعامل مع هذه القوات على أنها قوات «معادية»؟!
إن كل شيء ممكن وجائز، ولكن ما يجب التأكيد عليه هو أن الأردن قد لا يكون مضطراً إلى إرسال قواته إلى عمق الأراضي السورية، ما لم تتطور الأمور وتندلع حرب مواجهة مباشرة على الحدود العراقية – الأردنية – السورية، إذْ إن المعروف أن عمان لديها تنسيق يصل حدود التكامل مع تشكيلات فاعلة من الجيش السوري الحر الموجود داخل سوريا، لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار ودائماً وأبداً أن مستجدات الأزمة في هذا البلد العربي، وبخاصة بعدما حسمت الولايات المتحدة أمورها، وأعلن رئيسها دونالد ترمب أنه مصمم على «قطع رأس رئيس هذا النظام»، قد تدفع كل هذه الأوضاع المتوترة إلى مواجهة عسكرية بين نظام الأسد والإيرانيين ومعهم روسيا من جهة، وبين الأردن ومعه المعارضة السورية وبعض أشقائه وأصدقائه من جهة ثانية. والحقيقة أن هذا غير مستبعد على الإطلاق، وبالإمكان حدوثه في أي لحظة.
ارتفعت وتيرة الكلام من قبل ميليشيات شيعية في العراق عن أن هدفها الأساسي ومعها إيران ليس إقامة الهلال الشيعي بل البدر الشيعي، الذي يشمل هذه المرة المنطقة العربية بمعظمها من بلاد الشام الى الجزيرة العربية. يترافق الكلام مع تكرار قادة إيرانيين، عسكريين ومدنيين، الحديث عن احتلال إيران لأربع عواصم عربية هي بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء، مما يعني امتداد النفوذ الإيراني الى شواطئ المتوسط وباب المندب. بصرف النظر عن صحة ودقة الكلام المنسوب الى إيران وميليشياتها، فصدوره لا وظيفة له سوى تسعير الحرب المذهبية بين الشيعة والسنة، والإعلان صراحة عن تواصلها الى أمد غير منظور.
يعود الصراع المذهبي المندلع حالياً الى زمن يمتد الى خمسة عشر قرناً سبقت، وهو لم يكن قائماً على خلاف في العقيدة وعن أي طرف يمثل الإسلام الصحيح، بل كان على السلطة والنفوذ واقتسام الموارد. هذا الصراع السياسي– الاجتماعي ألبسته قوى الصراع طابعاً أيديولوجياً ودينياً بما يكسبه زخماً في التعبئة ويجعله متوهجاً في شكل دائم. دفعت الشعوب الإسلامية والعربية غالياً من الضحايا ثمناً لهذه الصراعات. وظلت تدفعه في كل محطة من محطات تجدد الخلافات بين المذاهب. لذا لا ينبع التحريض المذهبي الذي تشهده المنطقة العربية من فراغ، بل هو متجذر في الوجدان الإسلامي وقابل بسرعة لنفخ النار فيه. وهو تحريض تتلاقى فيه التنظيمات الإسلامية المتطرفة التي تدعي انتساباً الى المذاهب السنية، بنفس المقدار الذي تحمله تنظيمات وميليشيات تنتسب الى المذهب الشيعي. المسؤولية عن تسعير الصراع المذهبي مشتركة بين هذه الأطراف.
في العودة الى حديث الهلال والبدر، لا بد من استحضار السياسة الإيرانية ومسؤوليتها في تصاعد الحرب المذهبية، سواء عبر قياداتها المباشرة او عبر ميليشياتها. لم تكن السياسة الإيرانية التدخلية في المنطقة العربية قائمة بالزخم نفسه قبل اندلاع الانتفاضات العربية. شكلت هذه الانتفاضات المدخل الذي أتاح لإيران أن تمد أذرعها الى مناطق النزاع. لا يمكن إنكار ما هو كامن في الأهداف الإيرانية تجاه المنطقة التي تعتبرها بمثابة المدى الحيوي للأمبراطورية الفارسية، حيث ترى إيران حقوقاً لها في هذه المنطقة، تعود الى زمن الشاه الذي احتل جزراً في الخليج، وكرست الجمهورية الإسلامية هذا الاحتلال، بل طالبت أكثر من مرة بمملكة البحرين واعتبرتها جزءاً من الإمبراطورية الفارسية.
في سياستها تجاه المنطقة العربية، توسلت إيران التحريض المذهبي مستعيدة ذلك الصراع القديم بين المذهبين السني والشيعي. هذه الاستعادة ألهبت نفوساً شحنت بمنطق الانتقام عما حصل في سياق الخلافة قبل خمسة عشر قرناً، بحيث اعتبرت إيران أن الوقت حان للثأر، وهو لا يتحقق إلا باستبدال هيمنة سنية بهيمنة شيعية. لذا تدخلت إيران في معظم بلدان الانتفاضات خصوصاً في العراق وسورية واليمن، فشكلت فيها الميليشيات ودعمتها بالمال والسلاح، وأججت نيران الحرب المذهبية فيها، ونجحت في تحويل الحروب الدائرة الى حروب طائفية. ولم تخف تصريحات قادتها طبيعة الأهداف الحقيقية، ليس أقلها تلك التصريحات الفجة من مسؤولين إيرانيين عن أن «بغداد أصبحت مركز الأمبراطورية الإيرانية الجديدة». ولعل هذا التصريح لأحد قادة الحرس الثوري قاسم سليماني أبلغ دليل على التوجهات الإيرانية، حيث يقول: «منذ العام 40 هجري عندما قتل الإمام علي، حكم بنو أمية لمدة 80 عاماً، وبنو العباس 600 عام، والعثمانيون 400 عام، ولم يكن لدى الشيعة الجرأة بإظهار وجودهم وعقائدهم، وإن إحياء المذهب الشيعي بقيادة إيران يعطي لإيران القوة في الجوانب السياسية والأمنية والاقتصادية».
لم يكن يحتاج التسعير المذهبي المندلع في كل مكان الى إدخال قضية «المهدي المنتظر» في هذا الصراع، بما يعطيه بعداً عقائدياً، ويدخله في صلب الصراع السياسي القائم. فمسألة المهدي المنتظر ليست قضية إسلامية، بل هي موجودة لدى جميع الأديان منذ أن وجدت البشرية، سواء أكانت هذه الأديان توحيدية أم غير توحيدية. وقضية المهدي قضية إيمانية وليست سياسية. وتتفق جميع الأديان على مجيء هذا المنقذ لتحقيق العدالة بين البشر ومنع استعباد الإنسان لأخيه الإنسان ورفع الظلم عن المظلومين... لا يفيد المسلمين، لأي طائفة او مذهب انتموا، استحضار المهدي المنتظر واقحامه في السياسة، والتشديد على طابعه المذهبي عبر انتمائه الى فئة محددة، ثم الإعلان عن خروجه من مكة المكرمة، بما يوحي بهيمنة مذهب على آخر. وهذا ما ينبئ بتواصل هذه الحروب عشرات السنين، إن لم يكن مئاتها.
لا تضيف محرقة صيدنايا الكثير الى الجرائم التي يرتكبها نظام بشار الأسد منذ ست سنوات بحق السوريين. فقد بات أهون ما يمكن أن يصيب السوريين على يد هذا النظام هو إحراق جثثهم. وسواء كان العدد الذي يجرى الحديث عنه للجثث التي تم إحراقها 5 آلاف أو 11 ألفاً أو حتى خمسين ألفاً، فإنه لا يمثل شيئاً بالمقارنة بنصف مليون سوري سقطوا ضحايا لجرائم هذا النظام على مدى السنوات الست الماضية، فضلاً عن ملايين الجرحى والمشردين والمهجرين. كما لا يمثل الكثير مقارنة بحجم الدمار الذي أصاب المدن السورية، والقتل الذي لحق بأهلها نتيجة الغازات الكيماوية والبراميل المتفجرة التي تلقى فوق رؤوسهم.
إحراق جثث السجناء هو بأي مقياس أهون من تعذيب الضحايا في الزنازين حتى الموت، أو رميهم من سطوح المنازل، أو إلقاء الغازات السامة عليهم ليكون مصيرهم الاختناق وهم في غرف النوم، أو محاصرتهم وتجويعهم مع أطفالهم للضغط عليهم وترحيلهم من بيوتهم. ولهذا، يصبح استغراب حرق الجثث هو الذي يجب استغرابه. لقد باتت كل الفظائع منتظرة من النظام السوري، طالما أن مشروعه الوحيد الآن هو المحافظة على بقائه، مهما كان الثمن الذي ستدفعه سورية من وحدة أراضيها ودمار مدنها وتشتيت شعبها في دول الجوار وفي مياه البحار وفي دول الأرض.
سبق أن تم تسريب مجموعة كبيرة من الصور على يد ضابط منشق عرف بلقب «القيصر»، لعشرات الجثث التي قضى أصحابها تحت التعذيب في سجون الأسد، وبدت الجثث مثقوبة ومحترقة وكأنها تعرضت لمواد حارقة، ومعبأة في أكياس نايلون. وتحدث سجناء سابقون في صيدنايا استطاعت منظمة العفو الدولية (أمنستي انترناشونال) الوصول اليهم عن هذا السجن ووصفوه بأنه «أسوأ مكان على سطح الأرض». فيه يتم إبلاغ المعتقلين: «أنتم لم تأتوا الى هنا لتموتوا بل لتتعذبوا». أمام وحشية كهذه، لا يصعب أن نتصور أن تكون أمنية أي سجين هي الموت، ليتخلص من المصير الذي ينتظره على يد جلاديه.
بات صعباً إحصاء جرائم النظام السوري في مقال واحد. هناك منظمات دولية حقوقية وإنسانية تقوم بعملية التوثيق، لعل المسؤولين عن ارتكاب هذه الفظاعات يقفون يوماً ما أمام العدالة لينالوا العقاب الذي يستحقون. من هذه التحقيقات ما تجريه الأمم المتحدة من خلال آلية خاصة تم إنشاؤها في كانون الأول (ديسمير) الماضي، بهدف تحديد المسؤوليات عن ارتكاب هذه الجرائم، اسوة بما حدث مع المجرمين الصرب الذين ارتكبوا جرائم مماثلة، من تعذيب سجناء وإحراق جثث وتدمير مدن وأحياء كان يسكنها المسلمون والكروات في حرب البوسنة في أواسط التسعينات من القرن الماضي. ولعل إقدام نظام الأسد على بناء محارق في سجونه في هذا الوقت يهدف الى محاولة إخفاء آثار الجرائم، والزعم أن الضحايا لم يكونوا موجودين أساساً.
تتشابه الجرائم ويتشابه المجرمون. وعندما يفقد الرئيس أو القائد أو الضابط حسّه الإنساني، يصبح سهلاً عليه ارتكاب كل الفظاعات. طبيعي أن تعيد صورة إحراق الجثث الى الأذهان صور المحرقة التي ارتكبها أدولف هتلر بحق ضحاياه من يهود وسواهم في قطارات الموت وأفران الغاز في الحرب العالمية الثانية. ولا يختلف ما يفعله بشار الأسد كثيراً، لا من حيث الطريقة ولا الهدف. القضاء على من يُفترض أنه عدو النظام حتى إحراق عظامه لإخفاء هوية الضحايا ومنع ذويهم من الحصول حتى على جثثهم لدفنها بكرامة، أما الهدف فهو تنظيف البلد من كل المعارضين من خلال القضاء على أي أثر لهم، ولو كان جثة هامدة.
في ألمانيا، قام النظام النازي بالقضاء على معارضيه وصولاً الى الحرق بحيث لا يبقى سوى أبناء العرق الآري، الذين كان ذلك النظام يعتبر أنهم العرق الوحيد الذي يمكن «الإفادة» منه. وفي نظام بشار الأسد، ليس مسموحاً البقاء في «سورية المفيدة» سوى لمن يخدمون النظام ويوالونه بذلّ، أما الأكثرية الباقية فمصيرها الموت، وإذا حالفها الحظ الرحيل الى خيم اللجوء ودول الشتات
يكفيني من سنواتي الخمس الأخيرة "الحرية" التي عشتها في ظل الحصار فرغم مرارته وظلم من تاجر فيه اكتشفت نفسي، اكتشفتُ نفسي هُنا، في مساحةٍ لا تتجاوز ثلاثة آلاف متر.
قادني للوعر القدر وسرقني منها آخر ،وما بعد القدرين تاهت هويتي
ما قبل الرحيل
الشوارعُ التي اعتدتُ السير بها فارغةٌ تماماً لم يعُد هُناك أحد فجميعهُم رحلو، لم يبقى سوى بضع عائلات، ومقاتلي الجبهات اللذين آثروا على جراحهم بصمودهم رُغم مرارة الجُرح الأخير الذي أصابنا جميعاً، أسيرُ وحيداً في الشوارع كتائهٍ في صحراء الربع الخالي، أسيرُ وحيداً باحثاً عن ملامح الحياة ، أسيرُ وحيداً أصارع ذكرياتي فكلُّ شارعٍ أخطوا به لي فيه مئات الذكريات وآلاف الضحكات وبضعٌ من دموع القهر والخذلان،لقد أضحى ألمي كبيراً فقد تم ضبطُ أوتاره مع لحن الإنتظار ما هي إلا ساعاتٍ قليلة تفصلني عن مغادرتها مجبراً (مهزوماً) نعم لقد تمت هزيمتنا من قبل من يدعون أنهم أنصاراً للثورة ، من قبل من يدعون أنهم اخوتنا، لم يستطع النظامُ هزمنا لكن من هزمنا تشرذُم قواتنا ونزاعاتهم، هُزمنا من قبل حبُّ الذات والسُلطة قامت ثورتُنا على طاغية فظهر معهُ مئات الطواغيت.
على قارعة الطريق
أربع عشر ساعة ولا زلتُ أنتظر أن يكتمل نقل المهجرين نحو ممكان التجمع وهو "تحويلة حمص /مصياف"، انتثر المهجزين في العراء وافترشوا الرمال فمنهم من لهُ 23 ساعة ولا زال ينتطر.
لا شيء أمامي سوى تلك الحافلات التي رست مناقصتها لصالح الوسيط الروسي في مؤتمر أستانا بدورتهُ الثالثة حيث تم البدء بإخلاء أهالي حي الوعر في تاريخ اليوم ذاته الذي انطلقَ فيهِ الربيعُ السوري، فيما وقعت اتفاقيةٌ جديدة في استانا بدورته الرابعة نصت على دخول حافلات التهجير الخضراء لبرزة والقابون، هذه الحافلات باتت شبحاً يجول في جميع المناطق المحاصرة ففي النهاية لا يوجد طاقة كافية لتحمل آلة التدمير الوحشية وسياسة الجوع القذرة،
لا بُدّ أن تُحكى
عدة مواقف يستحق الوقوف عندها استوقفتني عدة مواقف تختصر في تفاصيلها قصة التهجير
سألت أحد رفاقي المغادرين إلى إدلب "وين صافن" فذهلني باجابته التي كانت مزيجاً من كلمات القهرّ والظلم والتي كانت
سَامَحَكَ اللَّهُ يا صاحِ
هلْ كانَ لِزاماً تَسأَلُني وَتقولُ أينَ بيَ الدُنيا
فَمُقَدَّسُ حِمصَ يُدَنِّسهُ ،،، جنسٌ قَد أُنْتِجَ بِسِفَاحِ
دعني للدَمعِ يُرافِقْني ،،، صُورٌ يا حمصُ وَلا لُقْيا !!
هلْ كانَ لِزاماً تسألُني ،،،
أَنا عَاشِقُ زَهرَ مَدينَتِهِ أَصبَحتُ اليَومَ أُطَالِعُهَا بِكُتَيِّبِ قَومٍ سُيَّاحِ
كما استوقفني منظرُ امرأةٍ سبعينية تحضن ابنها الشاب باكيةً وتطلق صرخاتٍ من الألم بطريقة "العتابا" الشعبية
استطعت فهم البعض منها
وان راحو شمالي يحشون الحشيش
والباص الاخضر من لون الحشيش
قلي يا مطرود وين رايح تعيش
على درب الباب وتنساني أنا
لم ينتهي المشهدُ هنا فكان ردُّ الشاب لأمه صاعقاً في مشهد كانت الدموع البطل فيهِ فقال الشاب
سرينا جبال ما ندحج ورانا
حكم بشار والدولة ورانا
أمي الحنونة لا تبكي ورانا
ترانا سباع بديار الأجناب
بيتان من العتابا الشعبية اختصرت فيهم قصةُ وطنٍ تَشرد
كنت أفتقد اﻷشخاص الذين يغيبون عن الوعر ، فيبقى لي منهم أرواحهم وقطعةُ رخامٍ حُفرت عليها أسمائهم عاثت فيها شظايا الحقد خراباً ،اليوم أنا أفتقد (الوعر) وأهل (الوعر)، اليوم أنا أفتقد (حمص) وأهل (حمص).
تعتبر روسيا من أشهر بلاد العالم في ألعاب السيرك، إن لم تكن أشهرها على الإطلاق، نظراً لما تتميز به عروضها التي تطوف الشرق والغرب، من فقراتٍ ترفيهيةٍ منوعةٍ، ومهرّجين وسحرة وحيوانات ضارية مدربة، وما إلى ذلك من مشاهد بصرية تخطف ألباب الصغار، وتنتزع إعجاب الكبار، وغير ذلك من ألعاب قوامها السحر والإبهار، والإثارة والتشويق، بما في ذلك المشي بخفّة ورشاقة على الحبال.
وأحسب أن مسمّى "المناطق منخفضة التوتر"، تلك الصيغة التي أملتها روسيا في اجتماع أستانة الرابع، ووقعت عليها كل من تركيا وإيران، وبمعزل عن ممثلي نظام الأسد ووفد الفصائل المعارضة، فيه شيء كثير من أوجه التشابه مع استعراضات ألعاب السيرك الروسية التقليدية، وذلك لما تنطوي عليه هذه اللعبة السياسية المطوّرة من خصائص وسمات، مستلهمة من فنون السيرك، لا سيما التهريج والمشي على الحبال، ناهيك عن البهلوانيات المثيرة للضحك في بعض الأحيان. إذ بعد نحو ثمانية عشر شهراً من التكتيكات الوحشية الروسية في الأجواء السورية المستباحة، ووصول هذا التدخل الذي أخلّ بالتوازنات على الأرض، إلى نقطة استعصاء سياسية حادة، تنذر بفشلٍ قد لا يطول أوان حصاده، عمدت موسكو إلى إعادة تقديم بضاعتها البائرة بغلافٍ جديد، يحمل اسماً آخر أكثر جاذبية، لعل هذه المناورة التكتيكية تنجح في حمل المستهلكين السذّج على شراء المنتج المغلّف بعبوةٍ جميلةٍ، تلفت أنظار المتسوّقين للوهلة الأولى.
بكلام آخر، الرياح التي ظلت، طوال الوقت، تهب في صالح أشرعة السفينة الروسية المبحرة في أعالي المياه الدافئة، توقفت فجأة هكذا، بعد الغارة الكيميائية على بلدة خان شيخون، ثم عكست اتجاهها بشدة، إثر الغارة الصاروخية الأميركية على مطار الشعيرات الذي انطلقت منه الطائرات السورية المحمّلة بغاز السارين، الأمر الذي وجدت معه موسكو نفسها متورطةً، داخل مجلس الأمن وخارجه، في الدفاع عن نظامٍ يواصل مقارفة استخدام السلاح المحرّم دولياً، ولا يعبأ كثيراً بإثارة حفيظة المجتمع الدولي.
على الرغم من محدودية ضربة صواريخ التوماهوك البالستية، وهي الضربة الأميركية الأولى من نوعها ضد النظام السوري، عن نيةٍ علنيةٍ وقصدٍ مسبق، إلا أن الدويّ الهائل لتلك الصواريخ المجنحة سمع في موسكو على نحوٍ جيد جداً، وقرأها الجنرالات الروس على أنها ضربة لكبرياء "القوات الجوية الفضائية" الروسية التي أبلت بلاءً حسناً ضد المستشفيات ومراكز الدفاع المدني، وغيرها من الأهداف المدنية، في عموم المناطق السورية المحرّرة من قبضة الأسد والمليشيات الإيرانية.
ومن وحي ألعاب السيرك الكلاسيكية، ومفاهيمه القائمة على خفة اليد المبهرة، والمشي على الحبال ببراعةٍ، ناهيك عن التهريج، وما إلى ذلك من ألعاب واستعراضات أخرى شهيرة، تفتقت الذهنية المافياوية القابعة في الكرملين، عن حيلةٍ جديدة، قوامها إعادة تقديم البضاعة التي لم يُقبل عليها سوى الذباب، بحلة جديدة قشيبة، وأرفقتها بحملةٍ ترويجيةٍ واسعةٍ، لعل أرباب القوة الشرائية الكبيرة في واشنطن، يقبلون على التهام هذا الطعم، كسمكة جائعة.
لإقناع الزبائن المحتملين في العاصمة الأميركية بهذا العرض المفخّخ، شد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، من عهد الحرب الباردة، رحاله إلى البيت الأبيض، بعد غياب دام نحو أربع سنوات متواصلة، حاملاً في حقيبته ملف "المناطق منخفضة التوتر"، فبدا بذلك كرجل علاقات عامة، أخذ على عاتقه تسويق منتجٍ لم يشتره سوى الإيرانيين، فيما طلب المستهلكون المحتملون في الإقليم، ومنهم الأتراك خصوصا، تقديم خصوماتٍ مجزيةٍ، لعل ذلك يساعدهم على قبول العرض، ومن ثمّة الانخراط في اللعبة.
وبغض النظر عن الشياطين الكامنة في قلب التفاصيل غير المكتوبة بعد، وشدّة الالتباسات المحيطة بماهية المناطق الأربع المقترحة، فإن جوهر ما انطوى عليه هذا العرض غير القابل للتطبيق، حتى وإن توفر عنصر حسن النية، يتركّز في نقطتين أساسيتين: الأولى انتزاع إقرار دولي باعتبار مسار أستانة مرجعية بديلة، أو أقله موازية لمسار جنيف، الأمر الذي يمكّن موسكو من الإمساك بكل خيوط اللعبة بموافقة أممية. والثانية الحفاظ على نظام بشار الأسد في السلطة، كون المسار الذي استحدثته روسيا في العاصمة الكاخستانية لا يتطرّق إلى مسألة الحكم الانتقالي المنصوص عليه في قرارات مجلس الأمن المعنية، الجاري تداولها في مسار جنيف البطيء والمتعثر.
ومع أن مسار أستانة لم يُجابه باعتراضاتٍ جديةٍ من جانب الدول والأطراف المخاطبة به، كونه يسعى إلى الحد من لهيب الكارثة السورية، وذلك مما لا يصح الاعتراض عليه بتاتاً، إلا أن هذا المسار الذي "صنع في روسيا" لم يلق الترحيب، المأمول به من الولايات المتحدة، وهي الغائب الحاضر عن مجريات المأساة السورية حتى الأمس القريب، حتى لا نقول اعتراضها من حيث المبدأ على تأهيل إيران وإعادة اعتمادها طرفاً إقليمياً مشاركاً في صنع الحرب والسلام، وهذه نقطة ضعف تكوينية في العرض الروسي، قد تشكل، في مبتدئها وخبرها، ضربةً مميتةً لكل هذه البهلوانيات الروسية المكشوفة.
إزاء ذلك كله، من المرجّح، بصورة قوية، أن تتحول لعبة أستانة المغشوشة، إن لم نقل الملفقة من ألفها إلى يائها، إلى مأزقٍ روسيٍّ مستحكم، إذا كفّت فصائل المعارضة السورية، أولاً، عن الانسياق في هذه اللعبة الماجنة، وأوقفت انخراطها في هذا المسار مسدود النهاية، وإذا نأت الولايات المتحدة، ثانياً، بنفسها عن ابتلاع طُعم السنّارة الروسية المسموم، ومضت نحو خياراتها البديلة، ونعني بذلك خيار المناطق الآمنة، معادلاً موضوعياً أكثر راجحةً من منطق "المناطق قليلة التوتر".
سبق لكاتب هذه السطور أن توقع، بعد الجولة الثانية من مفاوضات محطة أستانة، ومن على هذا المنبر، باحتمالية تحوّل مسار هذه المحطة إلى "كعب آخيل" فلاديمير بوتين، ولسياساته الانكشارية في سورية، وإن هذا التحوّل قد يحدث في أي لحظة، بعد أن انتهى عهد الرخاوة الأميركية، وعادت قرون الاستشعار شديدة الحساسية تعمل لدى "المؤسسة" في واشنطن، تجاه طموحات موسكو المبالغ بها، الساعية إلى وراثة الأمجاد السوفياتية، بما في ذلك استرداد مكانة الدولة العظمى قبالة الدولة الأعظم.
كشفت وزارة الخارجية الأميركية، أخيراً، عن سر جديد اكتشفته أجهزتها الاستخباراتية في سورية، فأعلنت أن "الأسد يحرق جثث المعتقلين، ويقتل 50 معتقلاً يومياً في سجن صيدنايا. وروسيا وإيران تتحملان المسؤولية"، وكأن العالم لا يعرف شيئاً عن هذا، أو كأن روسيا وإيران ستُصدمان بوصول الحقيقة إلى البيت الأبيض.
يدرك السوريون، كل السوريين، منذ عقود، أن أميركا ترصد حركة النمل في العالم، ولا تزال منذ عشرات السنين تحرّك خيوط الدمى على خارطته، وتعبث بكل بلدانه، لتشرف، بشكل مباشر أو غير مباشر، على توزيع ما في جوفه.
وكيلا نقع في مغالطات نظرية المؤامرة، يمكننا، على الأقل، أن نقول بمسلمةٍ لا تقبل التشكيك، إن الأجهزة الاستخباراتية الأميركية تعرف، على الأقل، كل ما يدور في الدول التي تشكّل مناطق استراتيجية للسياسات الأميركية، ومنها سورية بلا شك. وبهذا، لا يمكن اعتبار الإعلان الأميركي عن "محارق" الجثث في صيدنايا وغيرها من معتقلات الأسد، إلا ورقة سياسية جديدة تلوح بها الإدارة الأميركية الجديدة، لأهدافٍ يمكن تخمينها من دون القدرة على البت بحقيقتها.
فعلى المدى القريب، تظهر زيارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الأولى للمنطقة العربية، وفيها سيجتمع مع عدد من القادة العرب في قمم سعودية وخليجية وإسلامية، وسيطرح، في هذه اللقاءات، بلا شك الوضع في سورية، وسير العملية الأميركية في "مكافحة الإرهاب" وإحلال السلام في المنطقة، وهو ما يتعلق بشكل مباشر بمخطط أميركا في التعامل مع النظام السوري، والذي بدأته بشكل علني منذ استهداف مطار الشعيرات، بعيْد الهجوم الكيميائي على خان شيخون. وبالتالي، فإن التصعيد الإعلامي ضد الأسد يتوافق مع السياسة الأميركية المعلنة أخيرا، والتي ستقبض أميركا ثمنها من صفقات السلاح المبرمة، ومن الصفقات السياسية التي ستبرم مع دول الجوار أو العالم العربي المتورّط بالحرب في سورية.
وعلى صعيد آخر، يعتبر الإعلان الأميركي الأخير رسالة سياسية جديدة لكل من روسيا وإيران، وهي تلويحٌ بأوراقٍ وملفاتٍ يمكن استخدامها ضد كل منهما، وذلك لا ينبع من أسباب إنسانية أو صحوة ضمير، لا سمح الله، بل إنه لا يتعدّى كونه أوراق ضغط للتحكّم بخريطة النفوذ على الأرض السورية، وبالتالي التحكّم بخريطة توزيع ثروات الغاز والنفط وأسواق السلاح وغيرها.
ثمّة ما حيك في الخفاء، ويتم الآن وضع الرتوش النهائية عليه، وربما لن يتأخر الإعلان عنه طويلاً. وربما يكون الإعلان الأميركي، أخيرا، عن محارق صيدنايا مجرد حلقة أخرى، بعد عدة تغيرات قد تبدو اعتيادية أو مجرد إشارات (منها تسلم رياض سيف رئاسة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وهو اقتصادي بتاريخ نضالي نظيف يُجمع معظم السوريين على احترامه، مع فقدانهم شبه التام للثقة بالائتلاف ممثلاً سياسياً دولياً وحيداً للمعارضة). لكن المؤكد حتى الآن أن الإدارة الأميركية الجديدة، كما القديمة، وما يتبعها في ردود الأفعال من حكوماتٍ غربية وعربية، لم يستطيعوا أن يُقدموا للشعب السوري أكثر من حبالٍ واهية من الأمل الذي لا يلبث أن يتحول كابوساً، بمجرّد تمسّكهم به، وانجرارهم اللاشعوري تجاهه، في ظل يأسٍ بات مطبقاً وخانقاً على كل مكوناتهم.
أيام ثقيلة على السوريين في كل مكان لما تحمله من تغيراتٍ سريعةٍ على الأرض بامتداد واسع من أقصى شمال البلاد إلى أقصى جنوبها، وهي في معظمها مفاجئة ومخيفة أكثر مما تكون مطمئنة. وبموازاتها، يتابع نظام الأسد وحلفاؤه استراتيجياتهم المكشوفة في القتل والتهجير القسري والاعتقال، لرسم سورية المفيدة، إضافة إلى إطلاق المراسيم والقرارات الداخلية وكأن شيئاً لا يحدث في العالم، أو كأنهم لا يزالون ينعمون بالضوء الأخضر الدولي للقيام بكل ما يريدون القيام به.
تستحيل المراهنة على أن تخطو روسيا في سورية أي خطوة في الاتجاه الصحيح، إمّا لانعدام الإرادة في إنهاء الحرب، أو لأن العقل المخطّط يجهل أي وجهة أخرى غير الحرب. ينطبق ذلك على الاتفاق الأخير في آستانة كما على مجمل المقاربة ثم الانخراط الروسيين في الأزمة السورية منذ بدايتها حتى الآن. ولا شك أن آستانة 1 (وقف شامل لإطلاق النار) كان أفضل من آستانة 4 (أربع مناطق لـ «خفض التصعيد»، والمصطلح نفسه يترك الأبواب مفتوحة للتصعيد). كان الأول يعتمد على قدرة روسيا على الالتزام وعلى إلزام حلفائها لكنها تركت نفسها تفشل، أما الثاني فقصد سيرغي لافروف واشنطن لترويجه، أي أن نجاحه يعتمد على الولايات المتحدة. في أفضل الأحوال لا تمانع واشنطن نجاح اتفاق لم تشارك في إعداده، أمّا أن تتبنّاه وتضمنه فمسألة أخرى. وإذا توافرت لدى الأميركيين دوافع «إنسانية» لقبول الاتفاق، وحسابات خاصة لمراعاة الروس، فهل أن لديهم دوافع من أي نوع لـ «شرعنة» الدور الإيراني في سورية أو للمساهمة في عملية تهدف إلى تثبيت أقدام بشار الأسد ونظامه، فقط لأن وجوده في السلطة مريح لروسيا وإيران ولا يحقّق أي مصلحة أميركية؟
تريد موسكو، أو تتوقّع، أن تكون لمواقفها صدقية دولية، إذ تقدمها دائماً باعتبارها مراعية تماماً للقوانين الدولية طالما أنها تتعامل مع «حكومة سورية» لا تزال متمتعة بـ «الشرعية»، أما الدول الأخرى فهي في نظرها مخطئة لأنها مسكونة بهاجس «إطاحة بشار الأسد» أو تغيير النظام، وربما تضيف الآن أن تلك الدول مخطئة أيضاً بعدم اعترافها بـ «فضائل» دور إيران وميليشياتها في سورية. إذاً فكل الصواب عند روسيا، حتى عندما تدعو الفصائل المناوئة لنظام الأسد إلى آستانة فيما تشن طائراتها غارات كثيفة على مواقعها، بل إنها غضبت لأن وفد الفصائل جمّد مشاركته في الاجتماعات حتى يتوقف القصف، ولم توقفه إلا بعدما قدّمت الفصائل صوراً ووثائق تؤكد أن الطائرات المغيرة روسية. ومع أنها تبحث، كما يُقال، عن «بناء الثقة» بين الطرفَين، النظام والمعارضة، إلا أنها تساند قوات النظام وميليشيات إيران في قضمها مناطق في دمشق وحماة حرصت على إبقائها خارج اتفاق المناطق الأربع.
قال مستشار الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية يان إيغلاند، إن لدى المنظمة «مليون سؤال» في شأن ذلك الاتفاق، الذي ينبغي أن تبلور الدول الثلاث، روسيا وتركيا وإيران، ملايين التفاصيل فيه «بالتوافق». وعلى رغم أن العنوان الرئيسي «وقف الأعمال العدائية» بين «الحكومة» و «المجموعات المسلّحة التي تنضمّ إلى وقف إطلاق النار»، فإن السؤال البديهي المطروح: هل أن «الحكومة» انضمّت فعلاً، وبالتالي كيف تصنّف موسكو الهجمات التي استمرّت وشاركت فيها بعد إقرار الاتفاق؟ وإذا كانت البنود المتعلّقة بمساعدات إنسانية «سريعة»، ومساعدات طبّية وحاجات أساسية «مؤمّنة» للمدنيين، و «إيجاد ظروف مناسبة لعودة آمنة وطوعية للنازحين والمهجّرين»، تُعتبر مناسبة جدّاً لإغاثيي الأمم المتحدة إلا أن سوابق النظام و «حزب الله» وسائر الميليشيات وحتى الروس أنفسهم لا تجعلها مشجّعة على الإطلاق. ويعرف يان إيغلاند عمّا يتكلّم، بعدما اضطر مراراً للتفاوض على كل رغيف خبز وحبة دواء وجرعة ماء، ومع أنه غير معني بالملف السياسي إلا أنه يختلف عن ستيفان دي ميستورا الذي تسلّم مهمته منحازاً تماماً ضد الشعب السوري، ولا يزال يؤكّد هذا الانحياز، وكل شخص في فريقه يتبنّى أجندته.
في مختلف المراحل اتخذ دي ميستورا منحىً تبريرياً لتوليف خطط الروس أو الأسد أو الإيرانيين والإيحاء بأنها مطابقة لقرارات الأمم المتحدة وأهدافها، وهذا ما يحاوله في تسويق الاتفاق الأخير في آستانة. لكنه، حتى اللحظة، لن يجد خبيراً عسكرياً أو أمنياً قادراً على تصوّر تطبيق ميداني سليم لـ «خفض التصعيد»، إلا إذا كان خبيراً في التلفيق، بل إن الدول الثلاث نفسها ليست لديها الطريقة بعد. فخرائط المناطق المعنية بـ «وقف النار» ستُوضع بـ «التوافق» (ولا معايير واضحة) كذلك «المناطق الأمنية» المحيطة بها والحواجز ونقاط الفصل والمراقبة. فكيف تصلح قوات إيرانية (عراقية أو أفغانية أو من «حزب الله»)، مثلاً، لمهمات من هذا النوع لم تُستقدم أصلاً للقيام بها. وإذ ذُكر أنه يمكن الاعتماد على قوات شرطة روسية فهذا يفترض أن موسكو مستعدة لنشر آلاف منها على الأرض مع إدراكها للأخطار في مناطق يعتبرها أهلها قوة احتلال. لكن المطّلعين على متغيّرات التخطيط في روسيا يعتقدون أنها باتت تفكّر بذهنية التدخّل/ الاحتلال طويل الأمد، ولا شك أن هذا يحتاج إلى أكثر من مجرّد قوات شرطة بل يتطلّب تقاسماً للنفوذ مع «شريك الوصاية» الإيراني وثقةً وطيدةً بإمكان التعايش معه.
يفتح الاتفاق نافذة للاستعانة بـ «أطراف ثالثة» لنشر قوات لها حيثما تقتضي الضرورة، لكن إشراكها يجب أن يحظى بموافقتها أولاً وموافقة الدول الثلاث عليها تالياً، و «بالتوافق» أيضاً، لكن الصعوبات ارتسمت على الجانبَين فور طرح فكرة مبدئية لإشراك مصر وقطر، ثم أن إيران أثارت استهجاناً كبيراً حين اقترحت إشراك العراق. ولا بدّ أن أي دولة تُعتبر «مقبولة» سيكون لديها أيضاً أكثر من «مليون سؤال» قبل أن تضع جنودها في موضع استهداف، إذ إن «مناطق خفض التصعيد» مدعوة في الوقت نفسه إلى الفصل (والاقتتال) في داخلها بين المعتدلين والمتشدّدين، وهي غير مستثناة من محاربة الإرهابيين، لذلك يصحّ عمَّن سيتولّى محاربتهم؟ الجواب الواقعي أنها الميليشيات التابعة لإيران تحت غطاء جوّي روسي، أما الجواب «الرسمي» فهو أنها «قوات النظام»، أي أن «الأطراف الثالثة» ستكون مدعوّة لحماية ظهر تلك الميليشيات.
كان الهدف المباشر لـ «مناطق خفض التصعيد» الروسية قطع الطريق على «المناطق الآمنة» الأميركية، طالما أن إدارة دونالد ترامب تأخرت في بلورة أفكارها وخياراتها. لا شك أن اتفاق آستانة وضع واشنطن أمام أمر واقع، فهي لا تريد الاستمرار في التأزيم مع موسكو، ولا مزيداً من التشنّج في العلاقة مع تركيا على رغم حسم أمرها بتسليح الأكراد والاعتماد عليهم في محاربة «داعش». أما الهدف الروسي الآخر للاتفاق فكان تخيير أميركا بين الانضمام إليه أو البقاء في موقع «المراقب»، وكلاهما مرفوض على الأرجح، خصوصاً أن موسكو تهندس مسار آستانة ليطغى على مسار جنيف أو يتحكّم به أو يصبح «بديلاً» منه، وهكذا فمَن يبقى خارج الحل العسكري يفقد مكانه في الحل السياسي. لن تقبل واشنطن هذه اللعبة، ولا تستطيع روسيا الاستفراد بتحديد شروطها بل تجدّد محاولة استدراج أميركا للبحث في صفقة كبرى.
في كل الأحوال ترغب روسيا في تمرير اتفاق آستانة عبر مجلس الأمن، لكن المسألة لن تكون سهلة، فواشنطن لم تتأخر في معارضة وجود إيران كـ «دولة ضامنة»، ليس فقط لأن أحداً لا يصدّق ضماناً كهذا بل لأن قبوله دولياً سيقونن بمفعول رجعي مجمل دور إيران وميليشياتها ولكل الجرائم وأعمال التخريب وحملات التهجير القسري والتطهير المذهبي التي ارتكبتها. وبمعزل عن تركيا، التي تكثر مؤشّرات انغلابها على أمرها، فإن روسيا وإيران لا تتعاملان مع نظام الأسد على أنه طرف مثله مثل فصائل المعارضة بل كأنه «الدولة الرابعة الضامنة» والمطلوب أيضاً قوننة كل جرائمه. فما كانت روسيا وإيران لتستطيعا ادعاء أي «شرعية» لوجودهما في سورية لولا النظام، وبالتالي فإن اعتراف مجلس الأمن بـ «الدول الضامنة» - إذا حصل - سيكون امتداداً لاعترافه بـ «شرعية» النظام. بطبيعة الحال هذا لا يتطابق مع عزم معلن لإدارة ترامب على تحجيم النفوذ الإيراني وإنهاء «حكم آل الأسد»، إلا إذا كان وهماً وليس عزماً.