مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٥ مايو ٢٠١٧
نصرالله يحاول «وصل ضفتي الحرب» بصوته

لا قيمة لبنانية لما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن انسحاب عناصر حزبه من مواقعهم على الحدود اللبنانية- السورية، ودعوته الجيش اللبناني لتسلمها. فالجميع يعلم أن الفارق بين أن تكون هذه المواقع بيد الحزب وأن تكون بيد السلطات اللبنانية ليس كبيراً. لا بل إن استبدال الحزب بالجيش هناك سيكون مضياً في مثابرة دأب الحزب عليها، وتتمثل في توظيف لبنان في مهمات حزب الله الإقليمية، بعدما شعر الأخير أن لعناصره على هذه الحدود أدواراً يمكن أن يؤديها غيرهم من دون أن ينعكس ذلك على الوضع الميداني هناك.

لكلام نصرالله قيمة أخرى، فما وزعه «الإعلام الحربي» لحزبه من صور عن حشود «أميركية وبريطانية» على الحدود السورية - الأردنية، قبل يوم واحد من خطاب نصرالله الأخير، ينفي ما قاله الأمين العام لجهة أن الحزب غير قلق من ضربة في سورية أو في لبنان. الحزب شديد القلق من هذا الاحتمال، وهو على كل حال محق في قلقه على نفسه وعلى دوره. كلام نصرالله الأخير يوحي بإرباك يتخبط به حزبه في المهام الكثيرة الموكلة إليه من السيد الإيراني. وسبق أن كشفت الزيارة التي نظمها للصحافيين إلى الحدود اللبنانية- الإسرائيلية عن هذا الإرباك وعن هذا القلق.

من الواضح أن جميع الأطراف في الحرب السورية يعيدون النظر في مواقعهم، وفي طموحاتهم. حزب الله يبدو عاجزاً عن ذلك، فهو يؤدي مهمة هناك لا قرار له في تحديد وجهتها، وإذا كان نصرالله جزءاً من وجهة القرار الإيراني، فهذا لا ينسحب على موقع حزبه، ذاك أن بنية الحزب وتركيبته لا يمكن قطعها عن جذرها اللبناني، ووصلها بالمصلحة الإيرانية من دون ارتدادات ستصيب مهمة يؤديها الحزب في لبنان. ويبدو أن نصرالله عالق هنا. أي بين المهمة الإيرانية المطلقة لحزبه في سورية، والارتدادات اللبنانية لهذه المهمة. طُلب منه حرباً في مناطق القلمون، فانتصر هناك وارتدت الحرب على بيئته المذهبية في لبنان، بأن صار الشيعة أقلية في البقاع بعد أن نزح أهل القلمون إليه، بفعل حرب حزب الله في مناطقهم.

يجري اليوم شيء مشابه. انتشر حزب الله في الجنوب السوري من القنيطرة وصولاً إلى درعا. هذه المهمة أوكلت إلى الحزب من قبل الراعي الإيراني. واليوم انعقد تحالف لمواجهة هذا الانتشار. فإسرائيل تنفذ غارات بشكل متواصل هناك، والولايات المتحدة تشعر أن إيران تحجز مقعداً لنفسها في مستقبل سورية عبر هذا الانتشار، والأردن لن يقبل بأن تكون طهران على حدوده. واليوم ثمة فرصة للأطراف كلها لفرض واقع جديد. حزب الله شعر بذلك، وها هو مجدداً يبحث عن مخرج «لبناني» لهذا المأزق غير اللبناني.

دعوة نصرالله الجيش اللبناني لتسلم مواقع الحزب على الحدود اللبنانية - السورية، هي مناسبة جديدة قال فيها نصرالله إن «الأمر لي» في لبنان، وهذا صحيح إلى حد بعيد. فالجميع في لبنان يعلم أن تسلم الجيش هذه المواقع لن يعني أكثر من عملية تبديل روتيني للوحدات. أما تصويره الدعوة بصفتها جزءاً من «تسويات» يشهدها ريف دمشق بين جيش النظام وفصائل معارضة له هناك، فهذا ينفي ما تضمنه خطابه من دعوة لأهل الطفيل للعودة إلى بلدتهم. ما يجري في ريف دمشق هو عملية مبادلة سكانية مذهلة في وضوحها. هو تتويج واضح لحرب تهدف إلى تهجير السكان السنة وإرسالهم إلى إدلب. سقوط نصرالله في هذه المقارنة كاشف لحجم الإرباك الذي يتخبط به في مهمته السورية.

العودة إلى الجنوب السوري مفيدة لمساعي تفسير الخطبة الغامضة للسيد. هو يستعين بـ «لبنان» كي يُنجده في سورية. ولبنان هنا ليس دولة أو مجتمعاً أو شراكة. لبنان هنا رهينة، والرهينة يبدو أنها بيد من لا يعرف اليوم كيف يوظفها. فهو متنازع بين مهمة لا قدرة له على الانسحاب منها، لكن لا قدرة له أيضاً على حماية نفسه من تبعاتها. وهنا، ومرة أخرى، ربما كان المفيد التمييز بين نصرالله كشريك في القرار الإيراني، وحزب الله كأداة لبنانية في يد إيران. فالفارق هنا يصنع مشهد الإرباك، فكيف للسيد أن يُوفق بين مصلحة طهران في «الحضور» في جنوب سورية، والأخطار على جسم الحزب اللبناني جراء هذه المهمة الخطيرة؟

تجرى في بادية الشام، على الحدود المشتركة بين سورية والأردن والعراق، تحضيرات لحرب الأرجح أن تمتد إلى مناطق في جنوب سورية. طرد «داعش» من المدن في سورية والعراق، سيدفع بمقاتليها إلى هذه المنطقة. حزب الله جزء من مشهد القلق الدولي هذا، وانتشاره في جنوب سورية يُعزز الاقتناع الإسرائيلي - الأميركي بأن يكون جزءاً من صفقة الحرب هذه. ومن الواضح أن موسكو لن تقبل بقطع رأس النظام في سورية، لكنها ستكون أكثر ليناً إذا ما حصرت المهمة بالقضاء على النفوذ الإيراني في جنوب سورية، لا سيما إذا ما تم ذلك ضمن صفقة أكبر تشمل حرباً على «داعش» في بادية الشام.

هذا ليس سيناريو أكيداً، إنما محاولة لتفسير خطوات المجهول التي أتى بها حزب الله في الآونة الأخيرة. الأكيد أن ثمة تحضيراً لحرب في جنوب سورية، والأكيد أن ورقة الحدود مع لبنان سُحبت من يد حزب الله، وها هو يحاول تعويضها عبر النفخ في خطاب الحرب المستحيلة هناك، وعبر بحث متعثر عن «تسوية» لبنانية لموقعه الحرج في سورية. دعوة الجيش اللبناني لتسلم الحدود مع سورية، أرفقها نصرالله بحقيقة أن عناصر حزبه سيستمرون في القتال في سورية! والحدود بهذا المعنى ستكون طريق مقاتلي الحزب الذي يحميه الجيش إلى سورية.

ثم ماذا لو شملت الغارات الإسرائيلية مواقع الجيش في هذه المناطق، لا سيما أن إحدى الوظائف الرئيسية لهذه الغارات منع وصول السلاح إلى لبنان؟ فعلى هذا النحو لطالما جرى وصل لبنان بطموحات غيره من الدول، وعلى هذا النحو جرى تدمير التجربة اللبنانية غير مرة، بدءاً من عبدالناصر مروراً بياسر عرفات وصولاً إلى قاسم سليماني.

اقرأ المزيد
١٥ مايو ٢٠١٧
النظام الإيراني والدور التخريبي

الإرهاب لا دين له، ولا طائفة ولا مذهب، هو تعبيرٌ عن رغباتٍ مجرمة ترتدي رداءً دينيا لتمارس من خلاله القتل والترويع والوحشية خدمة لأهدافٍ سياسية ما، ومن المؤذي الاضطرار إلى التحدث بلغة تستخدم مفردات طائفية، ولكن المشهد المتقهقر حضاريا في المنطقة يفرض استخدام تلك المفردات لإيصال الأفكار.

شهد الأسبوع الماضي أحداثا مؤسفة في حي المسوّرة في بلدة العوامية التابعة لمحافظة القطيف شرق السعودية التي ينتمي أغلبية سكانها للمذهب الشيعي الكريم، فقد قتل إرهابيون في هذه المنطقة طفلا سعوديا ومقيما باكستانيا وأصابوا عشرة مدنيين وبعض رجال الأمن، وذلك عبر إطلاق نارٍ عشوائي وكثيفٍ على المارة ورمي لقنابل المولوتوف واستهداف مباشر لآليات الهدم والتطوير العاملة في الحيّ.

غريبة قصة هذا الحي مع الإرهابيين، فهو حي قديمٌ متخلفٌ تنمويا، وقد قامت الدولة بالاتفاق مع المواطنين على تطويره بشكلٍ كاملٍ، ولكن الإرهابيين رفضوا ذلك بكل شراسة، لأنهم يجدون في خرائب الحي شبه المهجور ملاذا يختبئون فيه ويديرون خططهم الإرهابية من هناك، وهدم الحي وتنميته وتطويره يحرمهم من ملاذٍ آمنٍ بالنسبة لهم، وبالتالي فهم على الرغم من المطالب التنموية التي يرفعونها شعارا، فإنهم يحاربونها في هذا الحي بالتحديد.

المواطنون السعوديون الذي ينتمون للمذهب الشيعي واقعون تحت نوعين من الإرهاب الذي يستهدفهم، الأول هو إرهاب المتطرفين السنة ممثلين بتنظيم داعش، والثاني هو إرهاب المتطرفين الشيعة ممثلين بهذه المجموعات الشيعية التي تقتلهم لمجرد الاختلاف، وتقتلهم بسبب وطنيتهم الراسخة وحبهم لبلادهم ورغبته في السلام والنجاح.

فلمن تتبع هذه المجموعات الإرهابية الشيعية؟ إنها تتبع بكل وضوحٍ للنظام الإيراني الذي كانت ولم تزل السعودية هي الهدف الأكبر للإرهابيين التابعين له من التنظيمات الإرهابية السنية والشيعية، على حد سواء.

النظام الإيراني الطائفي بعد ما كان يعرف بـ«الثورة الإسلامية» التي قادها الخميني اعتمد مبدأ «تصدير الثورة»، وكان المقصود به تصدير الفوضى والخراب والإرهاب إلى الدول العربية وتحديدا السعودية ودول الخليج، والفرق بين الخميني وخامنئي هو أن الأول سعى لذلك عبر حرب نظامية مع نظام صدام حسين في العراق التي استمرت لثماني سنوات اعترف بعدها الخميني بتجرعه للسم من أجل إيقاف تلك الحرب.
أما خامنئي فقد اعتمد فكرة أخطر، وهي فكرة دعم الجماعات الأصولية السنية مثل حركة حماس الإخوانية أو الجماعات العنفية مثل تنظيم القاعدة وإنشاء ميليشياتٍ شيعية إرهابية تابعة له في الدول العربية مثل «حزب الله» في لبنان وميليشيا الحوثي في اليمن و«الحشد الشعبي» في العراق والميليشيات الشيعية في سوريا، وخطط بكل جهدٍ لنشر خلايا التجسس والإرهاب في دول الخليج العربي.

تنتمي هؤلاء الإرهابيون في المنطقة الشرقية من السعودية إلى القسم الأخير، ويراد لها أن تتطوّر لتصبح ميليشيا مسلحة، ولكن دون ذلك خرط القتاد، فهي مجموعاتٌ مكروهة من بيئتها الحاضنة أي من المواطنين الشيعة أنفسهم، لأن هذه المجموعات تستهدفهم بالتهديد والقتل، وتمارس عليهم ديكتاتورية إرهابية مجرمة، وهم يلتجئون للدولة لحمايتهم من هذا الإرهاب الشيعي، كما نجحت من قبل في القضاء على إرهاب القاعدة السني، وقد ذكر بيان الداخلية السعودية الصادر يوم الجمعة الماضي أنها «تشيد بما يقدمه الشرفاء من أهالي العوامية من تعاون مع رجال الأمن».

سبق لولي العهد وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف أن زار المنطقة إثر حادث إرهابي وقال كلمة واضحة لأحد المتحمسين بأن «الدولة ستبقى دولة»، وأن «من يحاول القيام بدور الدولة فسوف يحاسب كائنا من كان»، وهو ما تؤكده كل العمليات الأمنية التي تواجه الإرهابيين في تلك المنطقة، فالإرهاب واحدٌ كيفما تسمّى وحيثما كان، والرد عليه واحد يقوم على الحزم والقوة وقطع الشرور وفرض الأمن لجميع المواطنين.
كان بيان الداخلية واضحا بالقول: «لن تعيقنا الأعمال الإرهابية التي لا يراد منها إلا الدمار من قبل أياد ارتضت أن تكون أداة لتنفيذ أجندة خارجية»، والإشارة هنا واضحة كل الوضوح للدور الإيراني التخريبي الذي يستهدف السعودية ودول الخليج والدول العربية.

إن هذه الحادثة هي عملية إرهابية مكتملة الأركان، إرهابيون مسلحون يستهدفون شركة تطوير تنموية ويقتلون الأبرياء عشوائيا، ويهاجمون رجال الأمن بالأسلحة والقنابل لتحقيق أهدافٍ سياسية وخدمة أجندة خارجية، إنها نفس الأدوات وذات المجرمين وعين الأساليب التي يستخدمها تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، وكما لم يحم التنظيمين انتماؤهم للأكثرية السنية فلن يحمي هذه المجموعة انتماؤها للأقلية.

يخطئ الطائفيون في التعامل مع مواقف إرهابية مثل هذه الحادثة، فالطائفيون السنة يرفعونها شعارا لاضطهاد المواطنين الشيعة، والطائفيون الشيعة يرفعونها شعارا ضد أي تقصيرٍ تنمويٍ، وهي شعاراتٌ وتبريراتٌ مرفوضة من حيث المبدأ، فالمواطنون سواءٌ في الحقوق والواجبات، والدولة لا تفرق بين مواطنيها، بحسب طوائفهم، بل بحسب ولائهم لأوطانهم وحرصهم على أمن وسلامة مجتمعاتهم.

السعودية دولة كبيرة، وفيها تنوعٌ طائفي ومذهبي ومدارس سلوكية عاشت وتعيش كلها بسلامٍ ومحبة تحت ظلّ دولة تعامل الجميع كمواطنين كاملي المواطنة، وقد شارك كثيرٌ من رجال هذه الطوائف في بناء السعودية الحديثة، وكانت لهم أدوارٌ مهمة ومعروفة منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز إلى عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، مرورا بملوك السعودية السابقين، هذا أمرٌ واضحٌ والشواهد عليه كثيرة ومتنوعة.

الطائفيون لا يبنون الأوطان بل يدمرونها، والطائفية فتنة عمياءٌ، وعلى المستوى السياسي فإن إيران قد تبنّت الطائفية كسلاحٍ سياسي وعجزت عن الانتقال من حالة الثورة إلى حالة الدولة، وهي تجني أكثر ما تجني على البعض ممن يطيعها من أبناء الطائفة الشيعية حين تحوّلهم إلى عملاء وخونة لبلدانهم، وحين تسلّطهم على المواطنين الشيعة الموالين لأوطانهم، حدث هذا في لبنان وفي سوريا وفي العراق وفي اليمن، وأفضل علاجٍ لذلك هو بتعاون المواطنين المخلصين الكامل مع سلطات بلادهم بالتبليغ عن الإرهابيين العملاء ومحاصرتهم اجتماعياً ودفعهم لتسليم أنفسهم.

أخيراً، فقد اختطفت هذه المجموعات الإرهابية من قبل، القاضي محمد الجيراني، وحاولت اغتيال المهندس نبيه الإبراهيم، وعاثت فسادا وشرورا في العوامية والقطيف وغيرها من المدن والبلدات فقتلوا ودمروا، ولكن الأمن سيفرض نفسه رغم أنوف الإرهابيين، فـ"الدولة ستبقى دولة".

اقرأ المزيد
١٥ مايو ٢٠١٧
الاستثمار الأميركي في إيران.. تعزيز بالعراق وتحجيم بسوريا

لا يمكن إحالة صعود نفوذ إيران في المشرق العربي إلى قوتها العسكرية، إذ إنها أخفقت في حربها مع العراق (1980ـ1988)؛ ولا إلى قوتها الاقتصادية، إذ ثمة دول إسلامية -مثل تركيا وماليزيا وإندونيسيا- أكفأ منها وأفضل اقتصادا؛ ولا إلى نموذجها في الحكم، إذ هي دولة دينية طائفية ومذهبية منذ قيامها (1979) وفق وصفة "الولي الفقيه".

وطبعا، لا يمكن إحالة ذلك إلى تغطّيها بالقضية الفلسطينية، لأن أثر هذه المسألة ظل محدوداً ويغلب عليه التوظيف الدعوي، من دون التقليل من مقاومة "حزب الله" في لبنان لأن هذا البلد صغير بحجمه وتأثيراته، والتأثير فيه لا يتعدى حدوده.

أما تفسير ذلك بوجود طائفة دينية مذهبية تتبع لها أو تتماهى معها في هذه الدولة أو تلك، فهو تفسير قاصر لأن هذه الطائفة لا تستطيع وحدها تغيير المعادلات السياسية القائمة في بلدانها.

تفسير الصعود
إذن، ثمة مجموعة أسباب أسهمت في صعود نفوذ جمهورية إيران الإسلامية في المشرق العربي، منها: أولاً، توفّر إرادة سياسية إيرانية بتصدير الثورة. ثانياً، وجود قاعدة اجتماعية مذهبية في البلدان المجاورة لديها شعور بـ"المظلومية"، لا سيما في العراق ولبنان.

ثالثاً، امتلاك إيران ثروة مالية متأتية من ثروتها النفطية، تمكّنها من الصرف على الجماعات المليشياوية والمدنية والخدمية التي تتبعها في هذا البلد أو ذاك.

رابعاً، التوظيف في القضية الفلسطينية والصراع ضد إسرائيل، في ظل انحسار الاهتمام الرسمي العربي. خامساً، الاستثمار في تيار الإسلام السياسي الصاعد في تلك المرحلة بعد أفول التيارات اليسارية والقومية.

بيد أن كل هذه العوامل إنما مهدت أو سهّلت لإيران التغلغل في البلدان المجاورة، أما العامل الرئيس الذي مكّنها من ذلك فهو قيام الولايات المتحدة الأميركية بغزو العراق واحتلاله عام 2003، والذي تم بالتوافق مع حكام طهران مثلما حصل في الغزو الأميركي لأفغانستان 2001.

أي أن سقوط الدولة العراقية واحتلالها هما اللذان شكّلا المنصّة التي صعّدت نفوذ إيران في المنطقة، والتي مكّنت الميلشيات المذهبية التابعة لها من أخذ السلطة في العراق من ساعتها وحتى الآن؛ هذا أولاً.

ثانياً، وتأسيساً على هيمنتها في العراق؛ عملت إيران على تعزيز نفوذها في لبنان، ثم في سوريا بالاستناد إلى تحالفها مع نظام بشار الأسد (الأب والابن)، إلى الدرجة التي باتت معها تتحكّم في هذين البلدين.

ثالثاً، وبناء على النقطتين السابقتين؛ يمكننا أن ندرك أن إيران تتصرّف من واقع معرفتها بأن خسارتها لأي من المواقع المذكورة -لا سيما في العراق أو سوريا- ستفضي حتماً إلى خسارتها نفوذها في المنطقة، وتالياً إعادتها إلى حجمها الطبيعي أو إلى خلف حدودها.

ولعل ذلك يفسّر محاولاتها فرض سياساتها في العراق وسوريا ولبنان، ومن ضمنها إحداث تغييرات ديموغرافية في هذه البلدان، وإنشاء قوى مليشياوية مذهبية مرتهنة لها وموالية لها، والحفاظ على الأنظمة السائدة في كل منها بكل ثمن وبكل ما أوتيت من قوة؛ ومثال ذلك السياسة التي تنتهجها في سوريا ضد ثورة السوريين ودفاعا عن نظام الأسد.


توظيف إيران
السؤال الآن هو: لماذا سهّلت أو سمحت الولايات المتحدة (ومعها إسرائيل طبعاً) لإيران بتعزيز نفوذها في المنطقة، أي في العراق ولبنان وسوريا؟ أو لماذا سكتت عن ذلك طوال الفترة الماضية؟

طبعاً، لا يمكن تفسير ما جرى بعقلية المؤامرة أي بتوافق أميركي إيراني، ولا بعقلية التبعية أي تبعية طهران لواشنطن، وإنما يمكن تفسيره وفق عقلية التشابكات والتقاطعات والمصالح السياسية الإستراتيجية.

وقد شهدنا أن الولايات المتحدة قدمت العراق لقمة سائغة لإيران وجماعاتها وعلى ظهر دبابة أميركية، وأنها تساهلت مع برنامجها النووي.

ثم هي فوق هذين الأمرين سكتت عن تدخلها المباشر والفج في سوريا بعد اندلاع ثورة السوريين، رغم معرفتها بادعائها مناهضة أميركا ورفعها شعار "الشيطان الأكبر" ومقاومة إسرائيل، مما يستنتج منه أن ثمة عوائد أميركية -وتالياً إسرائيلية- أهم وأكبر وأعمق تأثيراً من ضرر تلك الادعاءات أو تلك المقاومة.

وقد ثبت في ميدان التجربة -وليس فقط بالتحليل السياسي- أن ذلك السماح الأميركي والإسرائيلي كانت غايته تحديداً استدراج إيران للتورط والاستنزاف في البلدان المذكورة، وتاليا توظيف هذا التورط في تقويض بنية الدولة والمجتمع في بلدان المشرق العربي، الأمر الذي قدم خدمة كبيرة لإسرائيل.

ففي المحصلة؛ أدت السياسات التي انتهجتها إيران في المنطقة إلى إثارة النعرة الطائفية المذهبية، وشق وحدة مجتمعات المشرق العربي بين "شيعة "و"سنة"، وإضعافها وزعزعة استقرار دولها، وهو الأمر الذي لم تستطعه إسرائيل منذ قيامها.

وفي المحصلة؛ فإن الولايات المتحدة نجحت -عبر الإستراتيجية التي انتهجتها في عهد باراك أوباما- في تحقيق مكاسب كبيرة لها دون أن تخسر جندياً ولا فلسا واحـدا؛ إذ تمكّنت من استدراج أو توريط القوى المناكفة لها في المنطقة -وتحديدا روسيا وإيران وتركيا- في الصراع السـوري، بل ووضعتهم في مـواجهة بعضهم بعضا.

الأهم من ذلك أنها استطاعت -عبر تلك الإستراتيجية- إفقاد إيران نقاط قوتها بكشـف تغطيها بالقضية الفلسطينية، وفضح مكانتها كدولة دينية ومذهبية وطائفية في المنطقة، بعد أن استنفدت دورها في تقويض وحدة مجتمعات المشرق العربي، وإثـارة النـزعة الطائفية المـذهبية بين السنّة والشيعة، إذ لم يعد أحد ينظر لإيران باعتبارها دولة مناهضة لإسرائيل، أو كدولة يجدر الاحتذاء بها.

وفوق ذلك؛ نجحت الولايات المتحدة في تأمين بيئة إقليمية آمنة لإسرائيل عقودا من الزمن، بعد تفكّك الدولة والمجتمع وخـرابهما في أهـم دولتين في المشرق العربي، أي في سوريا والعراق.


انتهاء المهمة
ما يحدث الآن أن المعطيات تغيرت، وتالياً لذلك ثمة تغيّرات في الإستراتيجية الأميركية إزاء سوريا، بحسب ما بات يتكرر في تصريحات الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب وأركان إدارته.

أما محاور هذه الإستراتيجية فتتمثل في الآتي: أولاً، مواجهة جماعات الإرهاب، وخاصة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا والعراق؛ علماً بأن ثمة في إدارة ترمب من يربط بين شبكات الإرهاب وإيران.

ثانياً، تحجيم نفوذ إيران في المشرق العربي من العراق إلى لبنان مرورا بسوريا. ثالثا، إنهاء القتال في سوريا وتحقيق الاستقرار في هذا البلد على أساس التغيير السياسي الذي يتضمن إنهاء حكم عائلة الأسد، وهو ما سيؤدي إلى تحجيم نفوذ إيران في سويا ولبنان.

هذه الإستراتيجية تفيد بأن مرحلة السماح الأميركي (وضمنه الإسرائيلي) لتمدد إيران في المنطقة قد انتهت، أو حققت أهدافها أميركياً وإسرائيلياً على الأرجح، وهذا ينطبق على أذرعها المليشياوية العراقية واللبنانية، الطائفية والمسلحة.

وهكذا نجد أن ما حصل مع مجيء إدارة ترمب هو أن الإستراتيجية السابقة آتت أكلها من وجهة نظر الإستراتيجيين الأميركيين، وبات يمكن الآن التدخل بشكل أكثر فعالية لاستثمار ما حققته الإستراتيجية السابقة، بعد أن تم إنهاك روسيا وإيران وتركيا.

والمقصود أننا إزاء إدارة أميركية تشتغل على نحو آخر، أي بطريقة التدخل المباشر، وعبر تعزيز دورها إن على مستوى الصراع العسكري على الأرض، وهو ما تمثل في قصفها مطار الشعيرات. أو من خلال إعادة تدوير عجلة الحل السياسي لوضع نظام الأسد أمام حقيقة انتهاء صلاحيته، وانتهاء زمن السماح له بالاستمرار.

وهذا ما وضحته التسريبات لخطة أميركية من أربع مراحل، تقوم أولا على محاربة الإرهاب. وثانيا وقف الصراع المسلح وإيجاد مناطق آمنة. وثالثا إيجاد حل انتقالي يرحل في نهايته بشار الأسد (بالتفاهمات أو بالقوة)، ورابعا تنظيم الأوضاع وبدء إعادة بناء سوريا. ولعل هذا ما حاولت استباقَه -على الأرجح- اتفاقيةُ أستانا 4، المتعلقة بخفض الصراع بأربع مناطق سورية.


الدور الإسرائيلي
هذه الرؤية الأميركية لتوظيف الدور الإيراني في المنطقة تنطبق على إسرائيل أيضاً، أي أن الطرفين الأميركي والإسرائيلي يريان اليوم أن على إيران أن تعود إلى حجمها الطبيعي خلف حدودها، وأن على مليشياتها أن تنزع سلاحها.

ويُستنتج من ذلك أن التسهيل الأميركي والسكوت الإسرائيلي سابقاً عن تغلغل إيران في المنطقة كان محسوباً؛ أولاً، لجهة عدم السماح بخلخلة أمن إسرائيل، وإبقائه عند حدود خلخلة أمن المنطقة فقط (أي دولها ومجتمعاتها)، وهو ما حصل عملياً.

وثانياً، إبقاء كلفة مقاومة إسرائيل -عبر "حزب الله" وادعاء مناهضة الولايات المتحدة- أقل ضرراً أو كلفة بالقياس مع العوائد التي تنجم عن ذلك سياسيا وعسكريا وأمنيا بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة، وهو ما حصل أيضاً.

وذلك مع علمنا بتوقف مقاومة حزب الله منذ عام 2000، أي منذ 17 عاماً، باستثناء لحظة خطف جنديين إسرائيليين عام 2006 الذي جرّ حرباً على لبنان.

في خضم كل ذلك؛ بديهي أن تبدو إسرائيل في غاية الارتياح، سواء في الإستراتيجية القديمة أو الجديدة للولايات المتحدة، إذ هي في الحالين بمثابة الفائز الأكبر من استمرار الصراع المسلح والمدمِّر في العراق وسوريا، كما من تحجيم النفوذ الإيراني.

ويتجلى ذلك خاصة في موضوع نزع السلاح النووي والكيميائي (في إيران وسوريا)، وهذا ما بدا واضحا من حماسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للسياسة الأميركية، التي عبّر عنها لدى استقباله وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس في إسرائيل مؤخراً.

وفي هذا الإطار؛ يمكن اعتبار سلسلة الغارات الإسرائيلية الجوية أو الصاروخية المتكررة على سوريا -والتي استهدفت قوافل إمداد ومستودعات أسلحة وقادة لحزب الله داخل سوريا- مؤشّرا عمليا على سياسة إسرائيلية وأميركية جديدة (مع قصف مطار الشعيرات وزيادة القوات الأميركية في شمال وشرق سوريا)، هدفها تحجيم نفوذ إيران ومليشياتها بسوريا والعراق، وربما في لبنان أيضاً.

واللافت أن الضربة الإسرائيلية في محيط مطار دمشق حدثت ووزير الدفاع الإسرائيلي في زيارة عمل لروسيا، التي تعطي الدعم الأساسي لنظام الأسد.

وبحسب عاموس هريئيل (المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، 28/4) فقد "أكد ليبرمان -في محادثاته بموسكو- على الخط الأحمر الجديد الذي وضعته إسرائيل، وهو أنه لا للوجود العسكري الإيراني أو وجود حزب الله قرب الحدود السورية في هضبة الجولان..، إضافة إلى منع تهريب السلاح".

ويبدو أن هذه الخطوط الحمر هي التي تفسر الزيارات التي قام بها نتنياهو إلى موسكو للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتباحث معه بشأن الوضع في سوريا وضمان أمن إسرائيل.

وعلى ما يبدو؛ فإن تحجيم إيران ليس مطلبا أميركيا وإسرائيليا فقط، بل بات مطلباً دوليا وإقليمياً؛ إذ هو يلتقي مع رغبة روسية وتركية أيضاً، لا سيما أن روسيا تعتبر سوريا ورقة في يدها، لا في يد إيران التي تنافسها على ذلك.

اقرأ المزيد
١٥ مايو ٢٠١٧
أراد الشهرة فتبول في "بئر زمزم"

قصة تروى وتنطبق على كل من أراد الشهرة وخاصة في عصرنا وبوجه أخص في ثورتنا.

فبعض الاعلاميين من المحسوبين على الثورة وللأسف، يتكلم بسفاهة وطعن ولعن ليس لشيء إلا أن يكون مادة دسمة تتناولها وسائل الاعلام.

ولا يخفى على أحد أن أغلب وسائل الاعلام تبحث عن فانوس سحري من تحت الأنقاض، لتنفض عنه التراب وتلمعه ويخرج منه المارد، الذي يستطيع ان يحقق مالم تستطع كل القوى والجحافل التي تحارب هذا الشعب تحقيقه.

هذا المارد هو إعلامي او شخص يدعي الوعي السياسي، ليطل علينا بمنظر بهي فيشتم هذا ويلعن ذاك ويخون ويطعن ليرسم صورة جديدة للثورة في أذهان الناس عن الثورة.

فالنظام دأب أن يرسم لوحة الثورة بلونين معروفين فإما النظام بشرعيته ولونه الزاهي أو الارهاب بلونه القاتم.

أما مدعي الانتساب للثورة والذين سبق وصفهم، فهم يقومون بمهمة أخرى، وهي أن يرموا بظلال حقدهم ويدلوا بقبيح قولهم على الفضائيات والصفحات، ليكونوا بذلك صبغوا بقايا اللون المشرق للثورة، باللون القاتم نفسه الذي يروج له نظام الإجرام.

فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في نار جهنم سبعين خريف"

وفي حالنا اليوم فالكلمة تخرج من أفواه هؤلاء فإما أن يتلقفها النظام وأعوانه ويطير بها، أو تقع في أذان الناس فتدخل الخور والإحباط إلى قلوبهم أو تقع بين طرفين فتثير خلافا ونارا بينهما.

وعلى صعيد آخر لا يقل خطورة فإن تناقل الأخبار وروايتها في ثورتنا لا يعدو أن يكون من باب ((كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما يسمع))، فلا تثبت من الخبر ولا دليل عليه ولا حتى مصدر موثوق له، بل أن بعضهم ربما يأخذ الأخبار من مصادر العدو ويبني عليها كلامه وتحليلاته.

وإن إحسان الظن بأمثال هؤلاء قد مللنا منه، فإن أفعالهم مدمرة وأقوالهم مهلكة وما يروجونه أخطر مما نتخيل، فكم من دولة وكيان أسقطه مرجفون كهؤلاء سواء كانوا يعلمون أو لا يعلمون فإنا لسنا مطالبين بالحكم على النوايا وإنما حكمنا يكون على الأفعال.

ولا يهمنا شخص المتكلم، بل يهمنا ماذا قال والفارق يكمن فيمن سمع هذا الطرح فراجع أقواله فإن أصر عليها فهو يعلم ماذا يفعل، ويجب علينا وكما كنا صفا واحدا في وجه عدونا فإنه من الأهم أن نكون صفا واحدا  في مواجهة هذه الحرب الإعلامية المسيسة التي تختتم بها ثورات الشعوب عادة ويسدل عليها الستار، فالأمر خطير وليس بتنظير ومواجهته ضرورة ثورية بامتياز والله من وراء القصد.

اقرأ المزيد
١٤ مايو ٢٠١٧
لماذا لا يضرب السجناء السوريون؟

قد يكون الامتناع وسيلة مقاومة أجدى من الفعل، وهو بعد أقل كلفةً، ولا يدفعك إلى الارتهان لممولٍ، أو ضامنٍ، أو مسلحٍ أو غيرهم. لا أحد يمكن أن يمنعك من الامتناع عن شيء. لا حواجز، ولا رقابة، ولا تجسس، ولا أي نوعٍ من الاحتياطات يمكن أن تمنع سجيناً أو أسيراً عن الامتناع عن الأكل. يمكن للسلطات أن تتوقّى الفعل، وأن تحتاط له وتحبطه، لكنها سوف تقف عاجزةً أمام الامتناع، مثل الامتناع الاحتجاجي عن الطعام، كما يفعل الأسرى الفلسطينيون اليوم، ويبرهنون مجدّداً أنه عندما تتوفر إردة المقاومة يصبح أي شيء قابلاً لأن يكون أداةً مناسبة، بما في ذلك الجوع و"الأمعاء الخاوية".

على مدى عشرات السنين، كرّس الفلسطينيون الإضراب عن الطعام وسيلةً فعالة للمقاومة، سواء الإضراب الفردي أو الجماعي، من إضرابات سجن عسقلان في 1976 و1977، إلى إضراب سجن نفحة 1980 وإضراب سجن جنيد 1984. وباتت أسماء شهداء الإضرابات توازي أسماء شهداء العمليات الفدائية. من الواضح للمتابع أن صوت الأسرى المضربين أعلى من صوت الأحزاب والجبهات والحركات، وأدنى إلى ضمير العالم. تماماً كما كان الحجر أشد فتكاً بالدبابة من الآر بي جي. الإرادة تبتكر الوسيلة، والتجربة تصطفي الأنسب، ما يجعل المقاومة الحقيقية عصيةً على الاحتواء.

يمكن تحويل السجون، وهي في الأصل وسيلة لشل فاعلية الحركة الخارجية للمسجونين، إلى مكانٍ للمقاومة والتأثير. السجن يقرّب المسافات السياسية بين المسجونين الذين تفرّقهم سياسات الخارج وتنظيماته، ويفعل السجن ذلك أكثر كلما كان وحشياً أكثر. النضال في الداخل الفلسطيني تفوّق، في مفعوله، على النضال الخارجي، الانتفاضات الفلسطينية سندت نضال الخارج، بما لا يقل عن العكس، وربما أكثر. والنضال في داخل الداخل (في السجون) يفتح باباً فاعلاً للمقاومة، وربما يفتح باباً لوحدةٍ فعليةٍ للنضال الفلسطيني، خصوصا أن ثمة تواصلاً في سلسلة النضال الفلسطيني، ما يجعل لحركة الإضراب في السجون الاسرائيلية ممراتٍ تصل عبرها إلى الشارع الفلسطيني، وتنعكس على سياسة المؤسسات الفلسطينية جميعاً.

يضاف إلى ذلك، إذا ما حاولنا المقارنة مع المأساة السورية، أن للنضال الوطني الفلسطيني، على ما ينطوي عليه من وعورةٍ وظلمٍ وانحيازاتٍ مضادة، قبولاً واعترافاً عالمياً، لا يتوفر للنضال السوري، في عالمٍ لا يزال يرى الاستبداد شأناً داخلياً، لا يقف على درجةٍ واحدةٍ مع الاستعمار، ولا يستوجب رفضاً مماثلاً. في وعي عالمي مكرّسٍ على هذا الفهم، وهذا الحس الأخلاقي الباهت إنسانياً، لا يكون جوع المرء أو موته في سجون بلاده "قضية"، مثل موته في سجون احتلال. هذه المعايير العامة المستقلة عن "حقوق الإنسان"، والمضادة لها في الواقع، تحكم نضالات شعوب العالم، وتحيل الاستبداد إلى شأنٍ داخليٍّ قليل الأهمية، فيما أظهرت لنا الأيام أنه، في حالاتٍ كثيرة، يكون أكثر سوءاً من الاستعمار، على ما يؤكّد نظام الأسد بثبات.

تجعل المعايير العالمية السائدة، ومدونة القيم المستقرّة في المجال السياسي، وفي الوعي العام العالمي أيضاً، من قصف مدينة حلبجة العراقية بالسلاح الكيميائي في مارس/ آذار 1988، (راح ضحية القصف حوالى خمسة آلاف وخمسمائة من المدنيين الكرد) شأناً تافهاً أمام احتلال الكويت، مثلاً. والمعايير نفسها لم تجد حاجةً للتدخل في مجازر راوندا التي راح ضحيتها، حسب الإعلام الغربي (العالمي) حوالى مليون ضحية، في غضون حوالى ثلاثة أشهر بين (أبريل/ نيسان ويوليو/ تموز 1994) وبالسلاح الأبيض الذي جرى تأمينه وتوزيعه على نحو واسع في استعداد علني للمجزرة. والأمثلة التي تذهب في الاتجاه عينه، كثيرة.

لا شك في أن هذه المعايير تُحبط السجين السوري، وأمثاله، وتُقعده عن التفكير باحتجاجٍ مشابهٍ لاحتجاج الأسرى الفلسطينيين. لا يخشى النظام السوري من موت سجنائه، إنه يقتلهم بالأحرى. لا قيمة لموت سجينٍ في بلده. لهذا، لا نستغرب احتجاج أحد الصحافيين الإسرائيليين بالقول إنه لو فعلت إسرائيل ما فعله الأسد لما سكت العالم كما هو الآن. هكذا إذن، كما يطالب المحكومون بشكلٍ من الحماية العالمية ضد قتلهم وسجنهم، يتبارى الحاكمون في مطالبة العالم، من دون خجل، بالسكوت حيال جرائمهم.

حتى لو توفرت الإرادة لدى السجين السوري، سيجد أن الأجدى أن يحافظ على نفسه، إن استطاع، من أن يدخل معركةً، خسارتها شبه مضمونة. الشروط المحيطة بالسجين السوري لا ترجّح أن يعتمد سلاح الإضراب عن الطعام. العزلة التامة للسجناء واستحالة إيجاد قضيةٍ من الإضراب حتى لو حصل، تلغي فاعلية الإضراب الأساسية المتمثلة في أنه وسيلة ضغطٍ مادتها الرأي العام. والعزلة تعني إمكانية ترك المضرب عن الطعام للموت من دون أي تبعات، فضلاً عن الوحشية المتوقعة حيال أي سلوك احتجاجي، ومن دون أي تبعاتٍ أيضاً.

التواصل النضالي الفلسطيني والقدرة على إيجاد قضية من إضراب الأسرى، قضية تترك صدىً سياسياً وحقوقياً وأخلاقياً في الوعي العام العالمي، هو ما يميز النضال داخل السجون الإسرائيلية عنه داخل السجون السورية. هذا الفارق يجعل نضال السجين السوري يتركّز في ابتكار سبل الحفاظ على النفس، هذا الطريق الذي سار عليه السجين السوري طويلاً في سجن تدمر سيىء الذكر، والذي لنا كل الأسباب لنعتقد أن مراكز الاعتقال الخفية الحالية قد أسقطته عن عرشه، باعتباره السجن السوري الأفظع.

أما في ما يخص السجناء السوريين في السجون "العادية"، مثل سجن عدرا في دمشق، فإن شبح السجون الخفية والمعتزلات كافٍ لردع أي فكرة تمرّد سلمية، كالامتناع عن الأكل. لذلك تتخذ التمرّدات في السجون السورية شكلاً عنيفاً، هو في الواقع خيار انتحاري يولده اليأس لا الأمل، فالسجين السوري، يعلم كما يعلم أمثاله في كل مكان من العالم، أنه في أحسن الأحوال مدعاة للأسف، وليس للتضامن.

اقرأ المزيد
١٤ مايو ٢٠١٧
«الائتلاف» السوري ومواجهة أخطاء الماضي

تمخضت اجتماعات «الائتلاف الوطني السوري» أخيراً عن انتخاب هيئة رئاسية جديدة، يترأسها السيد رياض سيف، وهو شخصية مجربة معروفة بصدقيتها السياسية والأخلاقية في معارضة النظام الاستبدادي.

ومعلوم أن سيف كان أحد الشخصيات التي أدركت قصور الائتلاف عن التحول إلى كيان سياسي جمعي للسوريين، في ظل قياداته السابقة، وتحوله إلى كيان مغلق، يفتقد الفاعلية، كما عرف عنه دعواته الجادة لإصلاح هذا الكيان وتطويره.

ولعل ذلك يحمّل الشخصيات التي دعت طوال الفترة السابقة، من أعضاء الائتلاف، إلى مواجهة مشاريع اختطاف هذا الكيان، واختزاله لمصلحة فئات معينة، وتغييبه عن كثير من نشاطات الثورة، لمصلحة محاصصات أو ارتهانات خارجية، غيبت دوره الوطني، مسؤولية المشاركة في البحث عن حلول واقعية لتطوير هذا الكيان، بعد أن أدرك الجميع عمق الأزمة التي يعاني منها هذا الجسم، بعد ما يقارب خمسة أعوام على تأسيسه.

ولا بد أن ينطلق الجميع بداية من مبدأ الاعتراف بأن هذا الكيان لم ينجح في المهمات التي قام من أجلها، ولم يرسخ تقاليد عمل سياسية تجمعه مع السوريين في الداخل والخارج، ومع المجتمع الدولي، ككيان معترف به ممثل للمعارضة السورية، بشقيها التقليدي، من جانب، والمنضوي في إطار الثورة التي قامت من أجل الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية للسوريين، من الجانب الآخر.

لا يأتي التعويل على القيادة الجديدة من تسلم شخصية وطنية كرياض سيف لمنصب الرئاسة فحسب، بل لأن الهيئة العامة الناخبة عندما اختارت مواجهة أخطاء الماضي وسلوكياته، فإن ذلك يعني أنها استجابت لأجراس الإنذار التي أطلقتها الشخصيات والكتل المنسحبة منه، خلال دورته السابقة، والتي كانت حذرت من أن بعض الأشخاص والكتل تأخذ الائتلاف إلى مكان يبعده أو يعزله عن مشروعه الوطني، ويحوله إلى شركة خاصة مستولى عليها.

وهكذا فقد أدركت الهيئة الناخبة مسؤولياتها تجاه المقبل من الأيام، بأن الإصلاح يجب أن يبدأ من خيارات الهيئة العامة، ومواجهتها أخطاء الماضي التي كانت ركنت إليها، عبر أكثر من دورة في لحظات يأس أو تسليم بالواقع، ما يمهد الطريق أمام الهيئة الرئاسية وكذلك الهيئة السياسية، لأداء ليس تحت المحاسبة، فقط، بل وخاضع لها، ولرقابة المجتمع السوري كاملاً، لمعرفتي بأن الكثير من الزملاء المنتخبين يحملون هذا الهم الوطني، بل ويحرصون على استعادة الدور الحقيقي للائتلاف، ما يعيدني إلى التذكير بأن مسؤوليات الائتلاف اليوم كبيرة في ما لو أريد له أن يستعيد اعتباره ككيان وطني يمثل كل السوريين، ولعل هذا يتطلب:

أولاً: تعزيز العمل الجماعي المؤسسي والديموقراطي، ما يؤدي فعلياً إلى تكامل الأدوار داخل الهيئتين الرئاسية والسياسية من جهة، والهيئة العامة من جهة ثانية، الأمر الذي غاب كلياً خلال الدورتين السابقتين، مما سمح بالتلاعب بالأدوار، وإزاحة بعض الشخصيات الوطنية من واجهة العمل.

ثانياً: المطابقة بين الدور المناط بالائتلاف وبنيته، حيث من المفترض أنه يشكل الكيان الرئيس للمعارضة، تجاه السوريين والعالم، مما يوجب إعادة النظر بممثلي الكتل والتيارات داخله، بإلغاء حالة الانغلاق على مكوناته، مع إقرارنا أن بعضها فرضه واقع تأسيس الائتلاف ومرجعياته الدولية والإقليمية، لينفتح على ما أفرزته سنوات الثورة الست من كيانات معارضة، وتيارات شبابية عاملة على الأرض داخل سورية وخارجها، ومن شخصيات وطنية مجربة وذات صدقية من شأنها إغناء الائتلاف وتعزيز صدقيته في مختلف المجالات.

ثالثاً: مراجعة خطابات الائتلاف، أو استعادة الخطابات الأساسية للثورة، المتعلقة بإنهاء الاستبداد وإقامة دولة مواطنين أحرار متساوين، دولة مدنية ديموقراطية، دولة تعددية قومياً وثقافياً ودينياً ومذهبياً، بحسب ألوان السوريين، والنأي عن الخطابات الطائفية والدينية والإقصائية المتشنجة والمتطرفة.

رابعاً: إعادة الاعتبار للمصلحة الوطنية السورية لتتغلب على أي مصلحة حزبية أو فئوية أخرى، وذلك بتقويم صريح لعلاقاتنا الخارجية، وتوافقاتنا مع الدول «الصديقة»، ذلك أن أي معارضة يفترض أن تنطلق في علاقاتها من مصالح شعبها، وهذه المصالح تتقاطع في كثير أو قليل مع مصالح دول صديقة أو شقيقة، مما يتوجب تنميتها بما لا يخالف مصلحة الشعب السوري التي هي الأساس للكيان الذي يمثل الثورة.

خامساً: بينت نتائج الانتخابات الجديدة للهيئة السياسية في الائتلاف أن المعايير التي تم اعتمادها في اختيار ما سمي «بالتوسعة النسائية»، أي زيادة تمثيل النساء داخل الائتلاف، لم ترقَ إلى مستوى المكانة التي تطمح لها المرأة السورية، من حضور فاعل في كيانات الثورة ومنها الائتلاف، مما يجعله أمام مسؤولية إعادة النظر من جديد بضم سيدات فاعلات في العمل الثوري والمجتمعي، بعيداً عن المحسوبيات، التي أسقطتها «بوعي يحترم» الهيئة العامة خلال تصويتها الأخير, وهذا لا يعني الرضوخ لعدم تمثيل المرأة في هذه الهيئة، مع أهمية تأجيل ذلك لما بعد العمل على زيادة جدية في نسب تمثيل المرأة؛ كما تقول وثائق المعارضة.

ومن هنا ومن واقع الحديث عن المرأة ودورها الفاعل في الثورة السورية، لا يمكن تجاوز تذكير الائتلاف بمسؤوليته تجاه كل المعتقلات في سجون النظام السوري، وفي الوقت ذاته تجاه أيقونتين للثورة: رزان زيتونة وسميرة الخليل، المغيبتين قسراً في مناطق سيطرة المعارضة، والإسراع كما اقترحت سابقاً، وأنا في موقع نائب الرئيس، قبل انسحابي من الائتلاف، بإحالة الملف إلى لجنة قضائية تبحث في القرائن الموجودة لدى المنظمات الحقوقية وفي دفوعات «جيش الإسلام» المتهم باختطافهما.

البدايات الجيدة عادة تبدأ من دراسة النهايات، وتحليل أسبابها، لا بتجاوزها والمرور عليها، كأنها مرت بلقاء عابر، فالسنوات الماضية حملت كثيراً من الانتكاسات وخيبات الأمل، وحتى نتجاوزها على القيادة الجديدة أن تتوجع بوضع إصبعها على الجرح لتشفيه لا كي تخفيه.

هذه العودة للحديث عن الائتلاف غايتها التأكيد دوماً أن الأمل متاح عندما تتوافر الإرادة للعمل، ومن بين الأسماء المنتخبة ما يمكن أن يوفر هذا المقدار الضئيل من الأمل للعمل هذه المرة حقاً من أجل سورية ومن أجل السوريين.

اقرأ المزيد
١٤ مايو ٢٠١٧
هل أخطأت تركيا بتوقيع اتفاقية أستانة؟

احتمالات نجاح الاتفاق البدعة "مناطق تخفيف التوتر" بين موسكو وأنقرة وطهران فوق جزء من الأراضي السورية كبيرة، لكن أسباب التوقعات بالفشل كثيرة أيضا.

شراكة ثلاثية بين لاعبين من المفترض أن مصالحهم متضاربة متباعدة في الملف السوري تظهر إلى العلن بقدرة قادر على هامش اجتماعات أستانة، لتتحول إلى شركة مساهمة ضامنة محدودة المسؤولية، بغاية غير ربحية، هدفها تقديم خدمات أمنية وسياسية وإنسانية مجانية للشعب السوري، رغما عنه، وبالمعايير والمواصفات التي حدّدتها رؤى الفرقاء الثلاثة، تحت غطاء لا خيار آخر أمامكم، وثقوا بما نقول، وحقل التجارب السوري قادر على استيعاب مزيد من الاختبارات بعد.

فجأة، تعلن روسيا وتركيا وإيران عن قرار تبديل القبعات إلى زرقاء هذه المرة. كان الشريك الأممي ستيفان دي ميستورا حاضرا للترحيب بالخطة الروسية، ووصفها بأنها تحرك في الاتجاه الصحيح لوقف حقيقي للقتال. والخارجية الأميركية، على الرغم من تحفظها وتشكيكها في مشاركة إيران دولة ضامنة فيما هي متهمة بقتل الشعب السوري "تقدّر جهود التهدئة التي بذلتها الدولتان الضامنتان، روسيا وتركيا، باتجاه المساهمة في تخفيف التصعيد، ووقف معاناة الشعب السوري والتمهيد لحل سياسي للنزاع". أوروبا أيضا تريد الخروج بأسرع ما يكون من تهديد موجات اللجوء التي يحرّكها المشهد السوري، ولذلك رجحت التأييد الخجول. كثير من دول المنطقة، وكعادتها، متردّدة أو منقسمة، حيال ما يجري، وهو أكبر ما يمكن أن تقدمه للإخوة السوريين الذين ورّطوا الجميع بثورتهم على النظام قبل ست سنوات.

سؤال: لماذا لم تحمل موسكو مشروعها السوري إلى مجلس الأمن، ليناقش هناك، ويحظى بالدعم والتأييد والإجماع الدولي؟ هل كانت تخاف الفيتو الأميركي الأوروبي، أم هي أرادت عدم إشراك بعضهم في خطتها لتحصن مواقعها الإقليمية، وتثبت أقدامها في المنطقة، عبر تكريس نفوذها في سورية؟

ماذا عن إيران؟ لا مشكلة عندها، هي جاهزة للحوار مع كل من يحمي حصتها، وهي آخر ما فعلته كان قبول اتفاقية التفاهم النووي مع أميركا، والدخول في حلقة من المساومات الإقليمية مع عدوها اللدود في كل مكان.

لماذا قبلت تركيا توقيع اتفاقيةٍ، ليس مع روسيا التي لم يعد لها خلافات معها سوى حول توقيت تصدير سلعة البندورة وتسعيرها، وتحديد نوعها، وجنسها المناسب، للمتذوق الروسي، بل مع إيران التي كان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل أيام، يتهمها باتباع "سياسة توسعية فارسية في المنطقة ستقود إلى توتر العلاقات وتراجعها، وتتسبب بانفجار أمني وسياسي بين البلدين"؟ هل لأن طهران نجحت، وبسرعة البرق، في إقناع أنقرة بأنها تخلت عن مواقفها التي تقلق الرئيس التركي، أم أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، هو الذي استطاع إقناع أنقرة بفوائد تأسيس هذه الشراكة الثلاثية؟ أم هي البراغماتية اللعينة من حمى عدم انقطاع الخيط الرفيع الجامع بين تركيا وإيران؟

ربما وصلت أنقرة إلى قناعة بأن التفاهم مع إيران هو الحل الوحيد لإضعافها في سورية، وتقليص نفوذها، وتجنب ارتدادات أحلامها التي بدأت تقترب من مناطق الحدود التركية السورية في خط الساحل وإدلب نفسها. وما دفع أنقرة إلى توقيع اتفاقية أستانة أيضا هو اكتشافها نقاط الضعف الروسية في الملف السوري، وحاجة موسكو إلى قفزة سياسية إلى الأمام تقطع الطريق على العودة الأميركية، وتخفف عنها عبء التحالف مع النظام وإيران، وبالتالي، حاجة الكرملين لتركيا لإطلاق خطة تحرّك جديد من هذا النوع في سورية.
تقول الخارجية التركية إن الاتفاق الذي جرى التوصل إليه في كازاخستان سيشمل كل إدلب وأجزاء من حلب واللاذقية وحمص. وسيحظر استخدام جميع الأسلحة في تلك المناطق، ويحظر تحليق الطيران السوري، وسيسمح بإدخال المساعدات. احتمال أن يكون بين ما دفع السفير التركي، سدات أونال، لتوقيع الاتفاق في أستانة قناعته أنه سيوفر لأنقرة فرصة التقاط الأنفاس على جبهة شمال غرب سورية، والتركيز على مناطق شمال شرق البلاد، حيث تستعد واشنطن، مع حليفها الكردي هناك، لإعلان منطقة نفوذها الجديد ومحاصرة تركيا بالجغرافيا الكردية، وكان الحقيقة هي غير ذلك، تماما كما فعلت في شمال العراق.

الاتفاق بالنسبة لتركيا ربما هو أيضا فرصة لتخفيف التوتر على الجبهات السورية – السورية، والالتفات أكثر إلى معركة القضاء على "داعش"، بالتنسيق مع روسيا، هذه المرة، طالما أن واشنطن لا تريد أن تراها إلى جانبها في الرقة، فهل حصل التفاهم التركي الروسي على تحرّك سريع بهذا الاتجاه؟ وهل تكون المفاجأة الروسية المقبلة هي إعلان خطة التنسيق العسكري مع تركيا لمحاربة "داعش"، والقضاء عليه في سورية؟

بدأ الإعلام الكردي، المقرب من حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، يشن هجماتٍ عنيفةً على تفاهم أستانة، ويصفه بالتآمر الثلاثي على سورية وشعبها. ردة الفعل الكردية هذه لا يمكن أن تكون عن عبث، أو تتم إرضاء لواشنطن. هناك قلق كردي أميركي من احتمالات حدوث تفاهم تركي روسي على المشاركة بالقوة، ورغما عن التحالف الأميركي الكردي في الحرب ضد "داعش"، وربما هذا هو بين الأسباب التي دفعت أنقرة لقبول الجلوس أمام طاولةٍ واحدة مع روسيا وإيران.

كانت رسائل الرئيس التركي من روسيا، قبيل لقائه بوتين، باتجاه واشنطن التي يستعد لزيارتها خلال أيام "أنقرة وموسكو قادرتان على تغيير مصير الشرق الأوسط في حال اتخاذهما قرارات جادة.. أنا مقتنع اليوم بأن الرئيس الروسي يريد إنهاء المأساة في سورية".

ربما غياب واشنطن، الحليف المفترض لتركيا، عن تحركها الحقيقي أمام الطاولة الثلاثية في لقاءات أستانة هو الذي دفع أنقرة أكثر نحو بوتين وموسكو. قبول الاتفاق الثلاثي بالنسبة لتركيا مرتبط أيضا بإصرار واشنطن على تحالفها المعلن مع "قوات سورية الديمقراطية"، وتمسّكها بلعب الورقة الكردية في سورية ضدها، كما فعلت في شمال العراق .

كان السؤال، قبل أسابيع، بشأن حظوظ وفـرَص اتفـاق أنقرة التركي الروسي لوقف القتال في سورية من دون مشـاركة ودور فاعـل لطهران وواشنطن، فكبرَ حجمه أكثر هذه المرّة إلى محاولة معرفة ما الذي يبحث عنه الأتراك والروس ليس في أستانة، بل في سورية؟ تفهم أنقرة الطرح الروسي حول ضرورة التنبه إلى الموقف الأميركي المرتقب في شمال سورية المتمسك بتكرار ما جرى على حدودها العراقية رافقته ضمانات روسية حول أن نظام الأسد لم يعد شرطا أساسيا في مستقبل سورية الجديدة، طالما أن أنقرة لن تعارض الدور والنفوذ الروسي في سورية.

وقد قبلت أنقرة المغامرة والتحدّي في التوقيع على اتفاقية أمنية عسكرية، نفترض أن الحلقة الأمنية والعسكرية الثانية فيها، وشقها السياسي لم يعلن بعد، وأنها ستطيح الحلم الإيراني السوري، عبر حمل طهران إلى الطاولة والتوقيع، لكنّها تعرف أيضاً أنّها تغامر بخسارة ما تملكه من فرص متبقية لها في سورية، وأهمّها خسارة رهان المعارضة السورية عليها، من دون التوقف مطولا عند احتمال التقارب الأميركي الروسي، في اللحظة الأخيرة حين يبعدها هي عن الطاولة.

آخِر ما ردّدته قوى المعارضة السورية في لقاء أستانة الثالث كان أنّ اللقاء سيبدأ بمادة الالتزام بتنفيذ شروط اتّفاقية أنقرة المخترقة إيرانياً، وبعدها ستتمّ عملية الانتقال إلى جدول الأعمال، وأنّها لن تدخل في أيّ حوار سياسي مباشر من دون ذلك. الصوت السوري الرافض الذي التقطته العدسات في أستانة الرابع لحظة تقدّم رئيس الوفد الإيراني للتوقيع على الاتفاق الثلاثي كان يردّد هذه المرة "مجرمون، قاتلون، أنتم تقتلون الشعب السوري". التهم والإدانة هي لإيران، لكن الرسالة تعني تركيا الضامن باسم المعارضة في الاجتماعات أيضا.

اقرأ المزيد
١٣ مايو ٢٠١٧
ملابسات الإشراف الدولي

هل بدأ وضع سورية تحت إشراف دولي عليها، بحضور روسي وموافقة أميركية؟ وهل ستنجح موسكو في الحصول على تفويضٍ من مجلس الأمن، أو الأمم المتحدة، يشرعن قيام المناطق الأربع الخاصة بما يسمى "خفض التوتر"؟ أم سيكون هناك اليوم، أو بعد حين، تفاهم بين الدولتين العظميين يمهّد لنجاح التفويض الذي لا توافق واشنطن على مشاركة إيران في تطبيقه، بيد أنها قد تغير موقفها مقابل ثمن عراقي كبير، قد تجد طهران نفسها مجبرةً على دفعه، لأن علاقاتها مع موسكو قد تتحول، في أي تفاهم مع أميركا، إلى عبء على الكرملين، خصوصا إذا أصر ترامب على إخراج الملالي من سورية؟ وهل ستتمسك موسكو بطهران إن تفاهمت واشنطن معها على دور تركي موسع، ستتقاطع عنده سياسات الدولتين، بينما سيعطل خلافهما حول دور إيران وأهدافها تفاهمهما الضروري لحل المعضلة السورية؟ أخيرا، هل ستمهد إدارة المناطق لإنجاح الإشراف الدولي عليها، قبل نقله إلى غيرها؟ وما مصير الجغرافيا الخاضعة لتنظيم داعش، وتبلغ قرابة نصف سورية؟

يبدو أننا أمام خطواتٍ موضوعها إخراج سورية من وضعها الراهن، بمبادرة روسية تكسر الاحتجاز الدولي الذي يغلق منافذ الحل في سورية، ويصعد التعارض بين مصالح طرفيه الروسي والأميركي، ويعزّز التضارب بين تموضعهما في مناطق سورية وتعاملهما معها، ويربط موسكو بقوىً ليس من السهل تهميشها، قبل تسريع الحل، ويوسع أخيرا الهوة بين مشاريع الحلول المختلفة ووثيقة جنيف وقرارات مجلس الأمن، فضلا عن زيادة مخاطر انعكاس الحدث السوري على الأوضاع الداخلية للبلدان المنخرطة فيه، الانعكاس الذي لم يعد شأنا خارجيا بالنسبة لها، وإنما تتشابك آثاره مع صراعات الأجنحة فيها، كما يبدو بوضوح في إيران، حيث تطالب قطاعات شعبية واسعة بوقف انخراطها في حرب بشار الأسد ضد شعبه الأعزل والمسالم.

بتقديم مشروع قرار روسي إلى مجلس الأمن حول المناطق الأربع، تفتح موسكو باب الحوار مع واشنطن على أعلى مستوى، بعد أن تفاهمت مع إيران وتقاربت مع تركيا، ودخلت على خط الكرد، وزادت دعمها الأسد زيادة مفاجئة، وأوصلت جيشه إلى مشارف منطقة الانتشار الأميركي شمال سورية وجنوبها، فهل سينجح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في إقناع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بخطة بلاده، أم أن الأخير سيرفض التعاون معه في الظروف الراهنة، بينما يبني عسكره موقعا استراتيجيا وطيدا يطل على الشرق الأوسط بأكمله، يضم شمال سورية والعراق، هو في أحد المعاني تعويضٌ عن فشل جورج بوش في تحويل بلاد الرافدين إلى قاعدةٍ له، يتحكم عبرها بالمجال الأوراسي، وينشط جنده جنوب سورية، قرب إسرائيل، بالتزامن مع خطوة روسيا حيال المناطق الأربع، كأن الدولتين تتسابقان على ترجيح كفة كل منهما على الأخرى في سورية، بدل تهيئة ظروفٍ تمكّنهما من وضع بعض مناطقه اليوم تحت إشراف دولي، لن ينجح الروس في فرضه ميدانيا وإقراره دوليا من دون تفاهم مع واشنطن على مستقبل سورية وعلاقاتهما، فإن فشلا وقع تصعيد غير مسبوقٍ لجميع حروب الشرق الأوسط، وانتشار سريع لنيرانها إلى مختلف دول المنطقة، بالتلازم مع الحرب ضد الإرهاب، والصراع بينهما على إرثه الأرضي.

هل الخطوة الروسية التي أعلنت وزارة الدفاع الأميركية أنها تدرسها بعناية، لأن "الشيطان يكمن في التفاصيل"، نهائية، أم أن تنفيذها سيرتبط بنجاح مفاوضات موسكو الحالية مع واشنطن؟ وهل يعقل أن تؤيد أميركا إشراف روسيا وإيران على المناطق الأربع وتلك التي يحتلها جيشها، وحراس إيران، وشبيحة الأسد خارجها، أم أن مفاوضات الدولتين ستفشل، ولن تتوصل إلي صياغة أسس مشتركة للتعامل بينهما ومع المأزق السوري/ الإقليمي، لأن البيت الأبيض ليس راغبا بالضرورة في رفع الضغط عن روسيا، أو متلهفاً على حل سريع للمعضلة السورية، يعطل ترتيباتهم بعيدة المدى التي يصحّحون من خلالها أخطاء غزو العراق، ويستدركون ما عجزت أميركا عن تحقيقه بعده؟

يطلق موضوع المناطق حوارا روسيا/ أميركيا واسعا حول سورية وعلاقاتهما الدولية، ليس واضح النتائج، لكنه يرجح أن يستمر إلى ما بعد طرد "داعش" من الموصل والرقة، وتطبيق خطة الروس الخاصة باحتجاز فصائل كبيرة من الجيش الحر وجبهة النصرة في المناطق الأربع، فهل سيغريهما وضعهما، عندئذٍ، بالتفاهم من موقع متوازن، ينهي خلافاتهما ويشجعهما على إصدار قرار دولي، يضع سورية تحت إشرافهما، أم يفلت صراعهما من أية رقابة، فتكون سورية الموحدة ضحيته الرئيسة؟

اقرأ المزيد
١٣ مايو ٢٠١٧
الجمباز الروسي في سورية

لم ينته اجتماع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى نتائج واضحة تتبنى فيها واشنطن الخطة الروسية لإقامة مناطق تخفيف التصعيد الأربع في سورية، والتي اعتمدت في اجتماع آستانة. بدلاً من التبني الأميركي لهذه الخطة التي أقل ما يقال فيها إنها غامضة، طالب ترامب شريكه الروسي بأن "يكبح نظام بشار الأسد وإيران ووكلاءها".

ولم يتحقق لموسكو ما دأبت على القيام به مع الإدارة الأميركية منذ أيام باراك أوباما: اتفاقات لوقف النار منذ نهاية عام 2015 كانت تخرق بأبشع أنواع القصف التدميري من الطيران الروسي وطائرات النظام الذي خلف مجازر وإخراج مستشفيات من الخدمة عن سابق تصور وتصميم، تحت عنوان استهداف "داعش" و "جبهة النصرة" (هيئة تحرير الشام)، من أجل القضاء على المعارضة المعتدلة كي لا تشكل بديلاً من رأس النظام الحاكم، وجلبها ضعيفة إلى التفاوض وفق شروطه.

ومنذ بداية عام 2016 نظم الروس أكثر من اتفاق لوقف النار والأعمال القتالية (26 شباط/ فبراير) وجروا وزير الخارجية الأميركي آنذاك جون كيري إلى الموافقة عليه في شكل ثنائي وكي تساهم واشنطن في الضغط على المعارضة لتنفيذه بشتى الوسائل مع تسليم كامل للجيش الروسي بأن يواصل عملياته، ومن دون اشتراط ضبطه إيران على الساحة السورية، في إطار تفاهم غير مكتوب بين إدارة أوباما وبين طهران على عدم معاكسة سياستها في سورية والمنطقة، حرصاً على استمرار حسن تنفيذ الاتفاق على النووي. والمعلومات المسربة عن الخطوات التي تزامنت مع "النووي" أشارت إلى الإفراج عن سجناء إيرانيين دينوا بأعمال إرهابية أو بخرق الحظر على توريد معدات للبرنامج النووي وصرف أموال محتجزة.

أما في شأن اتفاق آستانة الأخير، فإن سعي موسكو إلى نيل غطاء مجلس الأمن لتطبيقه، كما فعلت حين وافقها أوباما على استصدار قرار "وقف النار" المسخرة في شباط 2016، فإنه يواجه تحفظ الدول الغربية في مجلس الأمن نظراً إلى التجارب السابقة. فمنذ صدور القرار 2254 آخر 2015 (والذي أطلق ما يفترض أنه العملية السياسية في جنيف) حتى الآن، اقتصرت القرارات الدولية الصادرة على معالجات أمنية جاءت كلها نتيجة العمليات العسكرية الروسية- الإيرانية- الأسدية، لا أكثر. وآخرها احتلال حلب (القرار 2328)، ففي كل مرة ترعى موسكو ترتيبات أمنية كانت تتبعها هزيمة للمعارضة.

من الطبيعي أن ترتفع علامات الاستفهام بعد اتفاق آستانة الأسبوع الماضي حول المناطق الأربع. بل أن الأدهى هذه المرة أن تكون القيادة الروسية تهدف إلى تحويل إطار آستانة الأمني إلى بديل لإطار جنيف السياسي الذي يستند إلى بيان جنيف الشهير (عام 2012) وصلبه بحث الانتقال السياسي.

لو كان الجانب الروسي جدياً في الحلول للأزمة السورية لما استخدم عناوين ملتبسة للاتفاقات التي يرعاها. فالقادر على التهدئة يمكنه فرض وقف النار الدائم.

التشكيك بالنوايا هنا ليس صعباً. فكيف ترعى روسيا اتفاقاً لتهجير أهالي بلدة برزة في دمشق، غداة مذكرة آستانة التي تنص بين بنودها على "تهيئة ظروف العودة الآمنة والطوعية للاجئين"؟ وكيف يستوي ذلك مع تحضيرات لتهجير أهالي القابون (تقع في إحدى المناطق الأربع)، التي أعلن مسؤولو النظام أنها ستكون الخطوة التالية؟ تحت مظلة آستانة يقضم النظام مناطق التهدئة المفترضة، بتشجيع من إيران، والتهاء تركيا عن ممارسة دورها، بخوض معركة الاحتجاج على تسليح الولايات المتحدة الأكراد في الشمال، على رغم أنها واحد من رعاة الاتفاق الثلاثة. وبشار الأسد يكرر أنه مصمم على بسط سيطرته على سورية وأنه سيعيد النازحين، بعد إعادة الإعمار! وهو ما يعزز الاعتقاد السائد بأن موسكو وأنقرة وطهران تتقاسم مناطق النفوذ عبر المناطق الأربع، ما يؤسس لحروب مفتوحة بين هذه المناطق.

كانت حجة موسكو سابقا أن إدارة أوباما غير جدية في الاتفاق معها على سورية، وأنها تصوغ اتفاقات مرحلية مع جون كيري في انتظار الإدارة الجديدة، وإذ بها تتعاطى مع ترامب بالأسلوب ذاته. أما حجتها الآن، فهي العمل على إقناع ترامب بدورها الوسيط بينه وبين القيادة الإيرانية، فيما الرئيس الأميركي يتهيأ لزيارة المملكة العربية السعودية للتنسيق معها في ضرب الإرهاب و "داعش" ومواجهة تمدد إيران الإقليمي.

محاولة القيصر التوسط بين طهران وخصومها سبق أن فشلت حين تنطح لهذا الدور بالعلاقة مع دول الخليج، التي أبلغته أنها لن تلدغ من الجحر مرة أخرى. هل باتت موسكو عاجزة في سورية، فتبقي أزمتها معلقة، ونزيفها مستمراً، باعتمادها نوعاً من الجمباز السياسي؟

اقرأ المزيد
١٣ مايو ٢٠١٧
اتفاق آستانة لن يعيش طويلاً

لم يمض شهران على رفض بشار الأسد اقتراح المناطق الآمنة الذي تحدث عنه دونالد ترامب بغموض قبيل تسلمه سلطاته، حتى أعلنت دمشق أنها تؤيد الاقتراح نفسه، بعدما جاء هذه المرة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبتأييد من إيران.

ففي العاشر من شباط (فبراير) الماضي رفض الأسد في مقابلة مع «ياهو نيوز» الفكرة واعتبر أنها «غير واقعية، وغير ممكنة قبل تحقيق الأمن والاستقرار في سورية والقضاء على الإرهابيين». وقبل ثلاثة أيام فقط قال وزير خارجيته وليد المعلم إن حكومته تلتزم اتفاق آستانة بإنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد بضمانة كل من موسكو وأنقرة وطهران، لكنه شدد على أن ذلك «لن يوقف الحرب على المجموعات الإرهابية».

ومع أن حاكم دمشق لا يملك أي قدرة على رفض ما يقبل به رعاته الروس والإيرانيون، إلا أن هؤلاء يحرصون على أن يعلن شكلياً موقفه ليمنحهم ذرائع قد يحتاجونها لاحقاً للتملص.

ليس معروفاً من أين جاء اقتراح ترامب. فهو قال إن الأوروبيين ارتكبوا خطأ فادحاً عندما وافقوا على استقبال ملايين اللاجئين من سورية والشرق الأوسط. ومع أن الولايات المتحدة لم تكن معنية مباشرة بأزمة اللاجئين التي هزت أوروبا، بسبب بعدها الجغرافي.

من الواضح أن بوتين تلقف الفكرة الأميركية أو ربما كان وراءها منذ البداية. غير انه قدم صيغة مختلفة تطالب واشنطن بتعديلها، مبدية تخوفاً من «شيطان التفاصيل».

لكن، إضافة الى الموقف الأميركي الذي قد يتغير بعد لقاءات لافروف في واشنطن، تبدو دوافع روسيا وتركيا وإيران موقتة، ومرشحة لتقلبات تفرضها الحسابات الخاصة بكل منها.

فموسكو تعتقد أن الاتفاق سيمكنها من انتزاع قيادة الحل العسكري- السياسي في سورية، بما يضمن دورها ومصالحها، ومن تعقيد المهمة الأميركية في طرد «داعش» من معقله في الرقة، حيث لا تجني الولايات المتحدة وحدها الفضل في طرده، بعدما منعتها من المشاركة في الحرب على التنظيم في العراق. ولهذا سرّب الروس معلومات عن حظر طيران التحالف الدولي ضد «داعش» ثم تراجعوا بعدما زمجر الأميركيون.

ويرى الروس أن خطتهم تمنح قوات الأسد الفرصة لإعادة ترتيب أوضاعها في مناطق سيطرتها «المفيدة»، بما يكرس التفوق الذي حققته حتى الآن بمساعدتهم، كما تطلق يدها في مواصلة استهداف مناطق بعينها بحجة أن فيها «إرهابيين».

وتعرف موسكو أن مفاوضات الحل السياسي ستطول بما يكفي لتغيير الأدوار وتعديل الأوضاع على الأرض، مع احتمالات نشوب قتال بين المعارضة والمتطرفين. وربما ينشغل الأميركيون بقضايا أكثر أهمية من البحث عن ترتيبات للحكم في سورية.

وبالنسبة الى تركيا التي تدعم بعض فصائل المعارضة، فهي ترى أن تدخلها وتأثيرها سيكونان أسهل بكثير في شمال سورية، لأن لديها حوالى ثلاثة ملايين لاجئ سوري يفترض أن ينتقل معظمهم الى المنطقة الآمنة هناك عبر الشريط الذي يحتله جيشها، ما يعني تشكيل غالبية عربية مستجدة في مناطق الأكراد المحاذية للحدود التركية، تقضي على أي فكرة للحكم الذاتي.

وتقرّبُ أنقرة من موسكو مرده الى استيائها الشديد من دعم واشنطن «وحدات حماية الشعب» الكردية التي تتهمها بأنها امتداد لـ «حزب العمال الكردستاني». وزاد هذا الاستياء بعدما وافق ترامب أول من أمس على تسليح «الوحدات» واعتمادها قوة رئيسية في الهجوم المزمع على الرقة.

أما إيران المتخوفة من خطوة أميركية لقطع طريق الإمداد البري من أراضيها الى «حزب الله» عبر العراق وسورية، فهي بحاجة الى تعزيز تحالفها مع الروس لاستيعاب هجمة ترامب وعزمه على تقليص دورها في سورية، وفي حاجة ايضاً الى تهدئة جبهات القتال التي ينخرط فيها الحزب لمنحه فرصة لالتقاط انفاسه، لا سيما في ظل التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة والغارات التي تستهدف مخازن سلاحه في الاراضي السورية. ولهذا فهي تقبل موقتاً بالاحتفاظ بما يمكن الحفاظ عليه بانتظار تغير الموازين.

واذا كانت أهداف كل من أطراف اتفاق آستانة مختلفة عن الآخر، فهذا يعني أن نجاح تطبيقه رهن باستمرار خدمته هذه الأهداف المتباينة، وأن تغيرها بالنسبة الى أي منهم سيؤدي الى تقويضه، وهو أمر قد لا يتأخر اذا نجح الأميركيون في «تحييد» أحدهم.

اقرأ المزيد
١٣ مايو ٢٠١٧
بين أستانة وجنيف

لم تقبل أكثرية السوريين اتفاقية أستانة التي طرحت تحفيف التوتر، لأن السوريين جميعاً ينتظرون وقفاً شاملاً لإطلاق النار، وهذا ما نصت عليه القرارات الدولية بوصفه أحد بنود بناء الثقة التي ينبغي أن تستند إليها مفاوضات جنيف، ولم تكن ثمة حاجة لاتفاقيات جديدة فهناك اتفاقيات سابقة لم ينفذها الروس إحداها اتفاقية وقف الأعمال العدائية الموقعة مع الولايات المتحدة، وكذلك اتفاقا أستانة 1 و2 اللذان بحثا آليات مراقبة وقف إطلاق النار، وباءت كل هذه الاتفاقيات بالفشل لأن من وقع عليها سارع إلى اختراقها، وكان من المفارقات أن يسارع النظام إلى خرق اتفاق أستانة الأخير لحظة دخوله حيز التنفيذ في هجوم على ريف حمص وحماة.

ويعلم الروس أن فقدان الثقة هو الذي يجعل السوريين يعيشون حالة الريبة والشك والقلق من أية مبادرة يحملها لهم داعمو النظام، وقد كان مثيراً أن تسمى إيران ضامناً وهي الدولة التي تحتل سوريا وتفتك بالسوريين، كما أن موقف روسيا التي تحلق طائراتها في سماء سوريا لا يقنع السوريين بكونها راعية جادة للسلام ما لم تغير سياستها وتتحول إلى موقف محايد على الأقل.

وقد رأى السوريون في اتفاق أستانة ملامح خطة لتقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ، وإلى خلق واقع جديد تترسخ فيه حدود جغرافية بين المحافظات. وإلى خطة تجعل هذه المناطق التي يضمنها الإيرانيون والروس مناطق يحكمها النظام، حيث تريد روسيا أن تصنع بيئة جديدة تسهل عملية المصالحات التي يعتبرها النظام حلاً وحيداً يستسلم الشعب فيه للاستبداد مذعناً. ويعلن انتهاء الثورة عبر كبح جماح الفصائل المعارضة المعتدلة التي قد يطلب منها لاحقاً مشاركة النظام في محاربة الإرهاب، ومن يرفض يعتبر إرهابياً، ثم يتم تشكيل مجالس حكم محلي يسيطر عليها الموالون للنظام ويمكن أن يعرض لاحقاً إنشاء مجلس عسكري مشترك يضم بعض المعارضات عبر ترهيب أو ترغيب! وهذه الخطة المحتملة (المنسجمة مع رؤية روسيا لدستور سوري مناطقي وطائفي) تحل محل مفاوضات جنيف وتلغي الحاجة إليها، وتحيل الملف كله إلى أستانة برعاية روسية إيرانية، مستغلة الظرف التركي الراهن الذي يواجه خطر قيام دويلة كردية على الحدود الجنوبية لتركيا قابلة للتوسع.

وقد جاء الرفض لاتفاقية أستانة فور توقيعها من الفصائل العسكرية التي دعيت واستنكرت أن تكون إيران ضامناً وهي الدولة المعتدية، وأصدرت قوى الثورة (الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات) بيانات تعبر فيها عن رفضها لهذا الاتفاق المشبوه الذي يستبعد دور الأمم المتحدة، ويستبق رؤية الولايات المتحدة التي يترقب الجميع ظهورها، وقد عبرت الهيئة العليا للمفاوضات عن رفضها لأي مساس بوحدة سوريا أرضاً وشعباً، وحذرت من أي تفسير للاتفاقية حول ما سمي مناطق «خفض التصعيد» يجعلها بداية لتمرير مشروع تقسيم لسوريا، ورأت في هذا الاتفاق غموضاً حتى في المصطلحات التي تم استخدامها.

وقد أكدت المعارضة حرصها على وقف إطلاق النار، وعلى نشر الأمن في كل أرجاء سوريا، مطالبة بما أقره مجلس الأمن في القرار 2254 في مواده الشهيرة التي تعتبر وقف إطلاق النار وفك الحصار وإطلاق سراح المعتقلين ووصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين إليها حقوقاً تسبق التفاوض وتؤسس له.

كما رفضت المعارضة أي دور أو حضور للنظام في المناطق التي يشملها الاتفاق، فلن تمنحه قوى الثورة والمعارضة المسلحة عبر اتفاقيات من طرف واحد ما عجز عن الحصول عليه في الواقع.

ونستغرب أن تخلو مناقشات أستانة من أية إشارة لجرائم النظام باستخدام الأسلحة الكيماوية مع أن المؤتمر ينعقد فور ظهور تقرير منظمة هيومان «رايتس ووتش» الذي قدم الأدلة على استخدام النظام السلاح الكيماوي، ولا نستبعد إزاء هذا التغاضي أن يقوم النظام مرة أخرى باستخدام السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري ما دام يرى تهاوناً دولياً في محاسبته.

ونرى دعوة دي مستورا السريعة إلى جولة جديدة من المفاوضات في جنيف تأكيداً على رعاية الأمم المتحدة وأصدقاء سوريا للعملية السياسية، ومع أننا نفهم أن هذه الجولة لن تحقق الأهداف المرجوة، إلا أن استمرار التفاوض هو رد على من يريدون نسف أسس العملية السياسية من أساسها، ومن ألمحوا إلى أن أستانة هي بديل لجنيف.

ونأمل أن نجد في جولة جنيف السادسة دعماً دولياً جاداً لمناقشة موضوع الانتقال السياسي، وهو جوهر الحل السياسي الذي لن يتحقق ما لم يحدث توازن دولي في دعم المفاوضات.

اقرأ المزيد
١٢ مايو ٢٠١٧
«آستانة» الأخيرة وتسليم أوراق سوريا كلها للروس والإيرانيين!

أعطى الظهور الأميركي في اجتماع «آستانة» الأخير، انطباعاً بأنَّ قرار سوريا لا يزال في يد فلاديمير بوتين، وأنَّ ما جرى في هذا الاجتماع هو أن كل شيء لا يزال على ما هو عليه، وأن مصير الشرق الأوسط كله لا تزال تتحكم فيه روسيا الاتحادية، هذا إن لمْ يكن هناك تدارك سريع للأمور بعد زيارة لافروف الأخيرة إلى واشنطن.

كان هذا مفهوماً في زمن إدارة أوباما البائسة، ولكن الروس قد تمادوا كثيراً عندما فرضوا في هذا الاجتماع الأخير كل ما يريدونه.

المفترض حسب ما قاله الرئيس ترمب أنْ تخرج إيران من المعادلة السورية، ومن معادلة هذه المنطقة الشرق أوسطية نهائياً، لكن ها هي دولة الولي الفقيه قد تم تكرسيها مجدداً من قبل روسيا الاتحادية، في اجتماع «آستانة» في هذه المعادلة التي بقي الخصم فيها هو الحكم، وبقي «حاميها حراميها»، وبقي الضامنون حتى بالنسبة لهذه الاتفاقيات الجديدة هم الإيرانيون والروس، «وكأنك يا أبا زيد ما غزيت»!!.

حسب ما قيل وما تردد في الإعلام، وعلى ألسنة كبار المسؤولين الأميركيين، فإنَّ تنفيذ مذكرة المناطق الأربعة التي تم الاتفاق على أن تكون مناطق عدم تصعيد قليلة التوتر، سيكون بضمانة دول محايدة، لكن ما جرى في اجتماع «آستانة» الأخير أن كل شيء بقي على ما هو عليه، وأنَّ إيران قد تم تكريسها كدولة ضامنة، أي كدولة «محايدة»، وأنَّ روسيا بقيت تمسك بكل أوراق هذه الأزمة التي من المفترض أنها أصبحت أزمة دولية، كل هذا وقد أُعطي لتركيا دور ثانوي «ديكوري»، في حين أن المتوقع أن يفرضها الأميركيون دولة «ضامنة» رئيسية، من حقها أن تتدخل حتى عسكرياً لضبط الأمور في مناطق «تخفيض التوتر» الأربعة إنْ استلزمت مستجدات الأمور ذلك.

والسؤال هنا هو: كيف من الممكن يا ترى أن تلعب إيران دور الخصم والحكم في الوقت نفسه؟ والتي هي سبب المشكلات والإشكالات التي تشهدها سوريا ويشهدها الشرق الأوسط كله؟.

كان يجب إخراج إيران من هذه المعادلة نهائياً، والمفترض أن تكون الدول الضامنة لمناطق «التهدئة» الأربعة دولاً محايدة بالفعل، وذلك لأن الإيرانيين ولأن الروس أيضاً لا يمكن أن يكونوا محايدين، ولأنهم سيبقون يتلاعبون بعامل الوقت لإبعاد استحقاق: «المرحلة الانتقالية»، حسب «جنيف 1» وقرار مجلس الأمن رقم 2254، ولأنهم سيستغلون «ضمانهم» هذا الذي أقره اجتماع «آستانة» الأخير للإبقاء على بشار الأسد حتى نهاية رئاسته الحالية، بل وإنه غير مستبعد أن يضمنوا له ولاية جديدة وبانتخابات شكلية، ككل الانتخابات الرئاسية التي جرت في سوريا خلال نصف القرن الأخير كله.

ولعل ما تجدر الإشارة إليه هو أن وزير خارجية نظام بشار الأسد لم يلمّح فقط في مؤتمره الصحافي يوم الاثنين الماضي، بل أعلن وبكل وضوح أن صيغة المناطق الأربعة الآنفة الذكر لن تكون تحت رقابة الأمم المتحدة، وإنما تحت الرقابة الروسية، وأنها ستكون البديل لـ«حل جنيف والمرحلة الانتقالية»، وهذا يعني، إنْ لم يكن هناك تدخل أميركي ودولي عاجل لتصحيح المسار ووضع الأمور في أنصبتها الصحيحة، أنَّ الروس والإيرانيين قد حققوا انتصاراً كاسحاً، وأنَّ الأمور قد عادت إلى ما كانت عليه لدى انفجار الأزمة السورية، وكأن كل هذا الدمار لم يكن، وكأن مئات الألوف من الأرواح البريئة لم تزهق، وكأن الملايين من السوريين لم يتحولوا إلى لاجئين ومشردين، سواء داخل وطنهم أو في كثير من دول العالم القريبة والبعيدة.

إنَّ المفترض أن يكون وضع الولايات المتحدة في اجتماع «آستانة» الأخير ليس بصيغة «مراقب»، فهذا كان في عهد الإدارة السابقة التي هي المسؤولة عن وصول الأزمة السورية إلى ما وصلت إليه، أمّا في عهد هذه الإدارة الجديدة فإن المفترض أن تكون الدول الضامنة لـ«المناطق الأربعة» دولاً محايدة بالفعل، وأن تُفْرض على الإيرانيين فرضاً مغادرة سوريا سياسياً وعسكرياً، ووفقاً لجدول زمني محدد قصير المدى، وبكفالة دولية فاعلة، وألا يتم تأجيل المباشرة بالمرحلة الانتقالية وفقاً لـ«جنيف1» وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، ولا للحظة واحدة.

ولعل الأخطر في هذا كله أنَّ هناك من يتحدث عن أنَّ ما تم الاتفاق عليه في «آستانة» الأخير سيكون بالنتيجة هو الحل النهائي، وأن فترة تطبيقه لن تقف عند مجرد الشهور الستة المتفق عليها، بل قد تمتد لسنوات طويلة، مما يعني أن عملية التلاعب والتسويف التي سيلجأ إليها الروس حتماً وبكل تأكيد ستسفر عن مستجدات كثيرة، وأن هذا النظام الاستبدادي المتهالك الذي على رأسه بشار الأسد، قد يستمر لسنوات طويلة، وتكون النتيجة أن كل هذه المذابح وكل هذه الدماء التي نزفت، ستكون نتيجتها كنتيجة مذابح حماة الشهيرة التي ارتكبها الأسد الأب وشقيقه رفعت، قائد سرايا الدفاع، في عام 1982.

ويبقى في النهاية أنه لا بد من الإشارة إلى أن الذين يراهنون على فراق روسي – إيراني قريب أو بعيد، يقعون في خطأ فادح، وأنهم لا يعرفون حقائق الأمور، فالمصالح الاستراتيجية المشتركة بين الدولتين تفرض عليهما تحالفاً طويل المدى وبلا نهاية قريبة، فالروس الذين ذاقوا مرارة العزلة الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لا يمكن أنْ يفرطوا في هذا الحليف الذي لا حليف فعلياً لهم غيره، ذلك بينما الإيرانيون الذين كابدوا ويلات عزلة استدامت لنحو أربعة عقود لا يمكن أن يفكروا حتى مجرد تفكير بإنهاء زواجهم السياسي «الكاثوليكي» مع إمبراطورية فلاديمير بوتين، التي مكنتهم من أن يسيطروا على العراق وعلى سوريا، والتي تساندهم للسيطرة على بعض الدول العربية الأخرى.

إن ما يريده ويسعى إليه بوتين هو أن يكون هناك عالم جديد هو عالمه، كما قالت مارين لوبان، وهو إنهاء هيمنة الولايات المتحدة على هذا العالم الأحادي القطبية، ولذلك فإنه مضطر للحفاظ على هذا الحليف الإيراني، وكل هذا بينما تخلى الإيرانيون عن كل خلافاتهم التاريخية مع روسيا الاتحادية من أجل ضمان مساندة موسكو لكل تطلعاتهم التمددية في المنطقة العربية. ولذلك فإن على العرب أن يكفوا عن الاستمرار في محاولات دق الأسافين في العلاقات الروسية – الإيرانية؛ لأن هذا غير ممكن في المدى المنظور على الأقل، ولأن «القيصر الروسي» لا يرى أي جدوى من تعزيز علاقات بلاده مع الدول العربية على حساب علاقاتها مع «الإمبراطورية» الخمينية!

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو