تصرّف فلاديمير بوتين ببراعة غير عادية. حوّل الأزمة السورية فرصة روسية. يمكن القول إنه تصرّف كصياد ماهر. تخطئ إذا بكرت في التسديد. وتخطئ إن تأخرت. لا بدّ من التسديد في اللحظة المناسبة.
ويمكن القول إن سيرغي لافروف ترجم ببراعة خيارات سيد الكرملين. دعك من مئات آلاف القتلى وملايين اللاجئين والنازحين. صناع السياسات الكبرى لا يذرفون الدموع ولا يتسلّحون بالمناديل. على نار الحريق السوري، أنضج بوتين معركة استعادة الهيبة. استخدم كلَّ الأسلحة بلا استثناء. صرّح وأوحى ولمّح. وأطلق تسميّات وأفرغها من مضمونها. تقدّم وتراجع والتف. ولا غرابة في ذلك، فالتضليل جزء من هذه المواجهات المعقدة.
استخدم بوتين أهوال المسرح السوري ليسجّل اعتراضه على عالم القوة العظمى الوحيدة. ثم راح يحاول تحويل الاعتراض إلى انقلاب. استثمر إلى أقصى حدّ وجود رئيس أميركي انسحابي الميول تحت وطأة «العقدة العراقية». انتظر اقتراب النظام من حافة الهاوية ليمدّ له حبل الإنقاذ عبر التدخل العسكري المباشر. ومنذ تلك الساعة لا يمكن صناعة حل لا يحمل بصماته.
ما كان ممكناً في ظل عهد باراك أوباما لم يعد ممكناً في عهد دونالد ترمب. على الأقل حتى الآن. التقط بوتين الفرصة. بحث عن نقطة يمكن أن تكون جاذبة لإدارة ترمب والدول المجاورة واللاعبين الإقليميين والأسرة الدولية. وقع خياره على «المناطق الآمنة» أو على «المناطق المخففة التصعيد»، وفق التسمية الوافدة من آستانة.
تكاد «المناطق الآمنة» تكون مطلب معظم اللاعبين أو المعنيين، حتى وإن اختلفت القراءات لحدودها وطبيعتها وما يفترض أن يليَها. لتركيا والأردن ولبنان مصلحة فعلية في قيام هذا النوع من المناطق. ستشعر هذه الدول بأن اللاجئين السوريين لن يتحولوا عبئاً دائماً. ستفتح هذه المناطق ملف عودة السوريين إلى ديارهم أو ما تبقى منها.
إدارة ترمب تحدثت هي الأخرى عن ضرورة قيام هذه المناطق، لتخفيف معاناة الناس من ويلات القصف، ولتمكين التحالف الدولي من الاهتمام بتصعيد الحرب على الإرهاب. يضاف إلى ذلك أن إدارة ترمب لمّحت إلى استعدادها للقبول بسوريا الروسية إذا كانت ستقوم، ولو تدريجياً، على أنقاض سوريا الإيرانية. الأمم المتحدة تريد أيضاً قيام هذه المناطق لتخفيف أزمة اللاجئين والتمكن من القيام بأعمال الإغاثة، خصوصاً في المناطق المحاصرة.
المعارضة تريد أيضاً المناطق الآمنة، علَّها تكون فرصة لالتقاط الأنفاس بعد ما تعرضت له من ضربات قاسية على يد النظام وحلفائه. وطبيعي أن تثير المعارضة نقاطاً من نوع التساؤل عن قدرة إيران على لعب دور الضامن مع الاستمرار في دور المحارب. وعن علاقة «المناطق الآمنة» بضرورة الحل السياسي استناداً إلى القرارات الدولية.
لا بد هنا من الالتفات إلى أن التأييد الواسع لفكرة «المناطق الآمنة» لا يحجب اختلاف التفسيرات لحدودها ودور المراقبين فيها، وعلاقة هذه الخطوة بالحل الشامل. تركيا مثلاً تريد مناطق آمنة من دون مسلحين من الأكراد. والأكراد يريدون هذه المناطق بلا قصف تركي.
أغلب الظن أن إيران كانت تفضل حدوث مزيد من «الترتيبات» في محيط دمشق والغوطة قبل قيام المناطق التي يجري الكلام عليها. لكن منحها دور الضامن قد يكون دفعها إلى القبول. أما النظام، فكان يفضل بالتأكيد الانتصار الكامل، لأنه يعرف أن الانتصار الناقص لا بد من أن ينعكس على طاولة جنيف.
يمكن قراءة فكرة المناطق بطريقة أخرى. تحمل في جانب منها بصمات براعة لافروف. الانهماك بترتيبات «المناطق الآمنة» سيعيد موضوع مصير بشار الأسد إلى الصف الثاني، بعدما كان في الواجهة خلال الأسابيع الماضية. والحقيقة أن موسكو لم تغير موقفها في هذا الموضوع. فهي تقول إن على من يريدون محاربة الإرهاب وفتح الباب لخروج الميليشيات الإيرانية من سوريا، والذين يطالبون بجولان آمن، أن يسألوا عن الجهة القادرة على ضمان ذلك، وهي الجيش السوري إذا تلقى الدعم اللازم. وتقصد روسيا الجيش السوري في ظل الأسد الذي تشترط إدارة ترمب أن يكون بقاؤه مربوطاً بمرحلة انتقالية.
ثمة حقيقة جديدة وهي أن إدارة ترمب أوحت في الأيام المائة الأولى من ممارستها بأنها أعادت إحياء تحالفاتها القديمة في المنطقة، والتي اضطربت بفعل «السياسات الأكاديمية» لأوباما. إننا أمام قراءة أميركية جديدة لأهمية التحالف مع الرياض، وهو ما يؤكده افتتاح ترمب جولاته الخارجية بزيارة السعودية ولقاءاته الموسعة هناك. وهناك أيضاً القراءة الأميركية لدور مصر في المنطقة، فضلاً عن التحالف مع إسرائيل. وكان لا بد لبوتين من أن يستبق هذه المشاهد كلها بمحاولة تقديم نفسه في صورة القادر على بلورة حل في سوريا يوزع الضمادات والضمانات انطلاقاً من «المناطق الآمنة».
أي نجاح لبوتين في جعل «المناطق الآمنة» محور الاهتمام لدى المعنيين بالأزمة السورية وتحصينها بإعادة إطلاق عملية جنيف، سيعني أن الصياد الروسي ما زال قادراً على التسديد في اللحظة الملائمة. طبعاً مع الالتفات إلى أن شروط الرقص مع ترمب تختلف عن شروط الرقص مع سلفه، ما يجعل الإسراف في ممارسة البراعة خطراً كالافتقار إليها.
تحبّذ الأمم المتحدة استخدام تعبير "مناطق وقف التصعيد" على مصطلح "المنطقة الآمنة" حيث إن تجربتها بين عامي 1993 و1995 في سيريبرنتشا شرق صربيا كانت كارثية. مجزرة بحق آلاف المسلمين ارتكبها الجنرال الصربي ملاديتش تحت مرأى القوات الهولندية – الأممية التي كان واجبها حفظ أمن المواطنين آنذاك... وقد فشلت حينها. واستذكر المجزرة صراحة المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة استيفان دوجاريك، أثناء إبداء الموقف الأممي من اتفاق أستانا 4.
لكنّ ما تفضله الأمم المتحدة من تسمية على أخرى، إنما يختلف في المضمون والتعريف والوظيفة. فلم تعد المسألة مسألة تسميات ومصطلحات بل تتعادها بتداعياتها الآنية والمستقبلية. اتفاق أستانا 4 الذي انتهى بالإعلان عن وقف التصعيد في المناطق الأربعة يحمل في طيّاته تفاصيل سياسية وعسكرية أكثر من "حمامة سلام" ترفرف في أجواء سوريا المأزومة.
الفرق بين المصطلحين جوهري. فـ"المنطقة الآمنة" هي منطقة لا يتم فيها إطلاق رصاصة واحدة ويعيش فيها المدنيون بأمان وتتم حمايتهم عبر طرف ثالث بغطاء أممي، ويفرض في أجواء هذه المنطقة حظر للطيران.
أما منطقة وقف التصعيد، فهي تعمل على الحدّ من الاشتباكات والحدّ من تحليق الطيران وتخفيض وتيرة العمليات على أن تكون هناك حواجز أمنية فاصلة بين طرفي النزاع عادة داخل المناطق عبر طرف ثالث (على الأرجح روسيا، التي هي أصلا طرفا بالنزاع) كما يتم وضع لجنة مراقبين لوقف التصعيد، لا لمنعه أو منع حدوثه.
طبعاً، كانت الأمم المتحدة لترحّب بالتوصّل إلى أيّ اتفاق يحمل عنواناً أكثر إيجابية من الوضع الحالي ولو بالشّكل. فدورها "الداعي إلى إحقاق السلام" يتحتّم عليها الترحيب بأي اتفاق يحمل في طياته تخفيض التوتر.
العنوان رنّان وجذّاب، ولا يمكن المبادرة إلى رفضه دولياً وإعلامياً بدون حجة قوية لأيّ من الدول. وهنا تُطرح تساؤلات حول هذا الاتفاق وظروفه ونجاعته.
روسيا بهذه النتيجة، كلّلت مساعيها في لعبة الأمم للتوصل إلى "اتفاق" في أستانا، لو بعد أربع دورات. وهذا الاتفاق الذي استبعد أو استبعدت نفسها منه واشنطن وحضرته بصفة مراقب، كرّس الوجود الروسي بسوريا.
كما أنّه ثبّت وضعا عسكريا قائماً، وعلّق بعضاً من هذه الحرب لفترة من الوقت. ولكنّ اختيار المناطق الأربعة ليس اعتباطياً، كما أنّ مصادر في المعارضة ـ والتي ترفض هذا الاتفاق ـ تؤكد أن الخرائط حول تقسيم المناطق أحاديّة وتفصّلها روسيا على مقاس مصالحها والتي تمرّ بالنظام.
ففي درعا، أعطى الاتفاق راحةً للنظام بأنّ العمليات الهجومية ضد مواقعه جنوب سوريا ستتوقف.
وفي دمشق، فإنّ الهجوم المباغت الذي شنته الفصائل المعارضة والتي اقتربت فيه فعليا من العاصمة في الشهور الأخيرة، لن يتكرّر بتطبيق هذا الاتفاق.
أما إدلب، فهي أصلا بمعظمها خارج سيطرة النظام وتم ضمها لهذه المحافظات لإعطاء بعض من "الصدقية" وإظهاره على أنه غير "أحاديّ المصلحة".
كما أنّ الإيرانيين وقّعوا على هذا الاتفاق وهم طرف أساسي في الحرب.. وفيما المكاسب السياسية لإيران منه غير معلومة بعد، وغير واضحة... فإنّ ذلك يُرجّح نظرية المكاسب العسكرية كالتي تمت الإشارة إليها في الفقرة السابقة من هذا المقال. وبالتالي يتقاطع ذلك مع تصريحات المعارضة بأنّ هذا الاتفاق هو "انتصار عسكري للنظام". وما يعزّز هذه الفرضيّة أكثر من غيرها، هو أنّ النية من اتفاق أستانا ليست بإنهاء الحرب بل بتعليقها، وإلا كان ليكون الاتفاق على كامل الأراضي السورية وليس انتقائياً وفق الخطة الميدانية. إضافة إلى أنّ الساعات الأولى من دخوله حيّز التنفيذ شهدت سلسلة خروقات (بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان) عبر براميل متفجرة وقذائف صاروخية ومدفعية في ريف حماه الشمالي واشتباكات على أكثر من محور، كما قصف في شرق دمشق، وفي ريف حلب الشمالي.. بين النظام وحلفائه من جهة والفصائل المعارضة من الجهة الأخرى (ولم يكن القصف والمعارك يستهدف داعش لإيجاد مبررات).
أما أنقرة، فيزداد الشرخ بينها وبين واشنطن ويلتئم تباعاً مع موسكو. قضية إسقاط الطائرة الروسية تم حلّه، أما الأوضاع مع الأميركيين فتزداد تعقيدا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة ورفض واشنطن تسليم فتح الله غولن، وما تلاه من دعم أميركي متزايد لقوات سوريا الديمقراطية ورفض أنقرة الشرس له (بسبب موقفها من الأكراد)، وصولا إلى اللقاء الأخير بوتين - أردوغان.
بالخلاصة، فإنّ استبعاد مصطلح "المنطقة الآمنة" واستخدام "مناطق خفض التوتر ووقف التصعيد" إنما يشير إلى وضوح البعد السياسي – العسكري للاتفاق، الذي لا يصبّ إلا في مصلحة محور عرّابي "أستانا". والشرح يكمن في التسمية وتفاصيلها.
يساهم الإعلام في صنع الكثير من الأحداث، لتدخله غالباً في بناء المفاهيم وتغيير القناعات للكثير من الناس، مما يؤدي إلى التحكم بقراراتهم والتنبؤ ببعض تصرفاتهم في المستقبل.
فهو قادر على صنع الحرب كما هو قادر على صنع السلام، قادر على تفتيت المجتمعات كما هو قادر على لم شملها، قادر على الهدم كما هو قادر على البناء.
لذلك استطاع صناع القرار في الدول القديمة والحديثة السيطرة على الشعوب بتحكمهم به وتوجيهه لخدمة مصالحهم.
ساهمنا جميعاً كعاملين في هذا المجال دون استثناء في التحكم بقناعات الكثير ممن اتخذ قراراته وتوجهه وفق تلك القناعات، ساهمنا دون شعور في تعزيز الفصائلية والتقسيم، وساهم بعضنا بالتحريض على القتل بين الفصائل، وتهجير بعض أبناء الثورة وأصبحوا في عداد المطلوبين “للثورة” نفسها وهم الذين انحدروا منها، وأصبحنا كمن أطلق النار على قدميه حتى عجزنا عن متابعة المسير.
قسمنا المجتمع وفرقناه وفق الفصائلية التي لم يسلم منها إلا القليل وأدخلناها لكل بيت بما نبثه من معلومات للمتابعين فانقسموا بانقسامنا وتقطعت وسائل التواصل بين الجميع.
لا شك بأن عودة عقارب الساعة للخلف أصبح ضرباً من الخيال، لكن علينا فعلاً اليوم مراجعة أنفسنا وقراراتنا وكتاباتنا وأفلامنا الوثائقية وخطبنا، والبحث عن الأسباب الحقيقة لتفرقنا، تبدأ تلك المراجعة بقراءة واقعنا واﻻستفادة من أخطاءنا لترميم ما يمكن ترميمه، والحفاظ على ما تبقى والسعي لعودة من هرب خوفاً من بطش الخصوم وانقاذه من الارتماء في أحضان الأعداء ليكون عينهم علينا ويدهم التي ستبطش بنا إن تثنى لهم ذلك، عندما يرمي لهم الداعم بعض المال فيذهبوا لتفشيل ومهاجمة أي حركة أو تشكيل يؤسس بعيداً عن أعين داعميهم الذين تحولوا لأدوات بين أيديهم بل كانوا أبواقاً رخيصة تنطق باسمهم.
فلنساهم جميعاً في صناعة الوعي ولنتوقف عن الترويج لأصحاب المغامرات والمعارك “الدونكيشوتية”.
الأمر يتطلب منا بعد هذا الكلام والمراجعات الفكرية خطوات عملية حقيقية، تضعنا كنخبة مثقفة أمام مسؤولياتنا، وجماهير شعبنا لنكون الضامن الفعلي لاستمرار الثورة والتي كان “الإعلام” الركيزة الأساسية لاستمرارها بعد محاولات قتلها في مهدها.
الحقيبة مليئة بالأمنيات من محاسبة الموتورين، وضبط العمل الصحفي، إضافة للتنسيق البيني، والابتعاد عن مفهوم الإعلامي الفصائلي إلى الإعلامي الحر، وغيرها من الضوابط هي صمام الأمان.
كذلك الاستفادة من خبرات وآراء الشباب ووضعها ضمن قالب يفيد العمل الثوري، وإرساء قيم المجتمع العربي السوري وثقافته وتقاليده تقع على عاتقنا.
كل ذلك يحتاج منا أن تتظافر جهودنا، واستيعاب أكبر عدد ممكن من المشاركين ووسائلهم ليخرج العمل إلى حيز النفيذ، ولا يبقى كلاماً في سياق الأحداث، يؤرخ له بلا فائدة، وما لم تتضافر الجهود وتتوحد لإرساء هذه القيمة النضالية التي سوف يكون لها الأثر الكبير في حياة شعبنا سوف نبقى عالة وأدوات بيد الغير يوجهنا كيفما شاء
عشية نهاية الجولة الرابعة من مفاوضات آستانة، وزع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تقريراً قال فيه: «إن النساء والفتيات هن أكثر الفئات عرضة للتأثر في سياق تفتيش المنازل وعند نقاط التفتيش وفي مرافق الاحتجاز، بعد اختطافهن من القوات الموالية للحكومة وفي المعابر الحدودية». وأشار التقرير إلى العنف الجنسي كأسلوب «منهجي» في الحرب السورية.
والتعبير الأخير، «أسلوب منهجي»، لم يسبق أن ورد في أي تقرير أممي يتناول حروب منطقتنا، على رغم أن عنفاً جنسياً شهدته حروبنا الأخرى، لكنه لم يكن منهجياً. و «منهجياً» تعني أن لهذا العنف وظيفة سياسية وعسكرية، وهو جزء من منطق الحرب ومن وظائف المقاتل فيها. البوسنة، في التقارير الدولية، شهدت عنفاً جنسياً منهجياً مارسته الميليشيات القومية الصربية بحق السكان البوشناق، وكانت وظيفته استئصالية وتتمثل في هز علاقة السكان بالمناطق التي يعيشون فيها، ودفعهم إلى مغادرتها عبر تصويرها مسرحاً لاغتصاب النساء البوشناقيات.
التقرير الأممي الذي وُزع عشية انتهاء مفاوضات آستانة قال إن في سورية عنفاً جنسياً منهجياً، وأشار إلى القوات الحكومية، وفي مكان آخر إلى «داعش»، وبما أن التنظيم خارج نطاق المفاوضة في آستانة وفي غيرها، يبقى على المرء أن يتأمل في حال المفاوضات وقد جلس على منصتها طرف يقول التقرير الأممي أنه يمارس عنفاً جنسياً منهجياً.
من المؤلم فعلاً أن يُوضع سوريون على طاولة مفاوضة مع طرف لم يوفر نوعاً من أشكال القتل إلا استعمله في سياق حربه عليهم. وهو طوّر أشكال القتل عبر خيال خصب على هذا الصعيد. فالحرب في سورية أنتجت قاتلاً «مُبدعاً» وسباقاً. البراميل المتفجرة التي تلقيها الطائرات نموذج عن علاقة النظام برعيته، ذاك أن البراميل لا تصلح لحرب جبهات، لأن أهدافها غير الدقيقة ليست مقاتلين متحركين، إنما مدنيون يسقط البرميل في شكل عمودي فوق رؤوسهم. وفي فكرة البرميل، يتكثف الحقد ويتحول فعلاً سياسياً على طاولة المفاوضات. مفاوض النظام يقول: هذا أنا وهذه قوتي. أسلحة كيمياوية وبراميل متفجرة، وأخيراً عنف جنسي منهجي. وكل هذا موثق بتقارير أممية لا يرقى إليها شك.
«داعش» فعل ذلك في المدن التي حكمها. العنف الجنسي المنهجي أخذ شكل سبي نساء هناك. وهو استعاض عن فكرة السقوط العمودي للبرميل المتفجر من السماء إلى الأرض، بسقوط عمودي مواز، يتمثل بإلقائه مواطنين عُصاة عن سطوح المباني. لكن «داعش» لم يُدعَ إلى طاولة مفاوضة. هو عدو مطلق للبشرية، ولا مكان له في قاعات البحث عن مستقبل. وهنا تكمن القسوة الممارسة بحق السوريين، أي في عدم اعتبار عدوهم الآخر، أي النظام، عدواً مطلقاً. يُمكن أميركا وأوروبا أن تعتبراه عدواً مطلقاً لقيمهما، وهما قالا ذلك، وكرراه. لكن على السوريين أن يكونوا «واقعيين» ويفاوضوا من ترفض أميركا وأوروبا مفاوضته.
ليست هذه دعوة إلى مغادرة طاولة المفاوضات سواء في آستانة أم في جنيف، إنما لعرض القسوة التي تنطوي عليها طاولة المفاوضات تلك، ولعل ذروة هذه القسوة أن يجلس مفاوض في مقابل ممثل النظام بشار الجعفري. ففي وجه ذلك الرجل، تتكثف ملامح التعالي التي ترمز إليها كل أساليب القتل التي يُمارسها جيشه في سورية. هو وجه أبو مصعب الزرقاوي في مشهد ذبحه رهينة، مع فارق غير طفيف، يتمثل في أن الأخير يحمل سكيناً بيده، فيما الثاني يعقد ربطة عنق من دون أن يُخفي سكينه عن أحدٍ.
في هذه اللحظة، تشهد مفاوضات آستانة اختراقاً. روسيا تعلن عن مناطق آمنة ومحظورة على الطيران، وتُلمح إلى إمكان انسحاب الميليشيات الإيرانية في مرحلة أخرى من الهدنة. وتركيا تطلب من المعارضة السورية القبول بأن تكون طهران طرفاً في مراقبة تطبيق الهدنة في حربٍ هي طرف فيها!
الإرهاق بدأ يظهر على وجوه الجميع. القاتل مرهق أيضاً، وأكلاف الحرب في ظل الاختناق الاقتصادي والأثمان البشرية بدأت تُثقل عليه. النظام في أسوأ أيامه على ما يبدو، ونقطة قوته الوحيدة اقتناع العالم بأن المعارضة عاجزة عن أن تكون بديلاً، لا بل عاجزة عن أن تنتظم في سياق من التسوية التشاركية. وهذه هي صورة الاختناق السوري، واختناق العالم في سورية.
توزيع التقرير الأممي عن العنف الجنسي المنهجي جاء تتويجاً لمفاوضة بين نظام قاتل على نحو معلن، ومعارضة مفلسة ومُرتهنة كشفت أطراف فيها عن أنها سليلة قيم النظام وشبيهته إذا ما قُيض لها أن تحل محله.
المُغتصَبة والمُغتصَب السوريان خارج ذهول العالم من النظام القاتل. فالقيم اهتزت حين شطبت صور غاز السارين في خان شيخون وجه العالم. لا صور للعنف الجنسي المنهجي الذي أشار إليه التقرير الأممي أخيراً. إذاً، لا ذهول ليرافق توزيع التقرير. الذهول لم يُحدثه الفعل، أي القصف بغاز السارين، إنما أحدثته حقيقة أن العالم عاين ما حصل.
هذا درس لنا جميعاً في لعبة موازين القوى. فالسياسة في الحروب هي أن تملك القدرة على تحمل مفاوضة قاتلك. أن تجلس في مقابل بشار الجعفري، وأن تصاب بالنعاس أحياناً. أن لا تغضب من أن العالم اكترث لضحايا الكيماوي ولم يكترث لضحايا الاغتصاب المنهجي. ففي المرة المقبلة، وهي مقبلة لا محالة، عليك أن تُصور الاغتصاب كما صورت ضحايا غاز السارين.
هنا تنتصر الضحية، حتى لو كان المفاوض عنها على هذا المقدار من الارتهان. الضحية حين تحول الصُراخ والألم إلى طاقة لاستدراج العالم إلى موقعها، تُحقق اختراقاً لا يستطيع تحقيقه مفاوض مقيد بشروط مستتبعيه. لطالما نجح سوريون في فعل ذلك، ولطالما سقطت فصائل إسلامية معارضة في التماهي مع النظام.
قال بنيامين نتانياهو عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى: «إن الفلسطينيين نجحوا في تصويرنا للعالم بأننا قتلة، وهكذا انتصروا علينا». أفعال النظام في سورية فاقت بمئات الأضعاف أفعال الجيش الإسرائيلي في تلك المرحلة. النظام في سورية أقل حساسية حيال «الضمير العالمي»، لكن ما كشفته خان شيخون هو أن لا أحد محصن، وأن تصدعاً أصاب منظومة القتل نتيجة ذهول العالم. إنه تصدع لن يطيحها، لكن مفاوضات آستانة كشفته.
لا تستعجلوا الحكم، خطة الملاذات الآمنة في سوريا ليست سيئة أبداً لكن، كما ذكر أحد المعلقين، في التفاصيل تكمن الشياطين.
عندما طُرحتْ قبل سنوات فكرة تخصيص مناطق للفارين من القصف والحرب، سريعاً عارضها النظام السوري ومعه إيران وروسيا. ثم ساعدهم الرئيس الأميركي السابق متحججا بأنها غير عملية.
بعدها ضاعفت القوى الثلاث، نظام الأسد وإيران وروسيا، من عمليات تدمير المدن بشكل واسع جداً، كانت تهدف إلى تضخيم عدد اللاجئين وتصدير المشكلة إلى الخارج. وبالفعل بلغت أعداد المشردين وعابري الحدود أرقاما قياسية في تاريخ الحروب، نحو مليونين ونصف مليون لاجئ سوري في لبنان والأردن، ومثلهم فر إلى تركيا. وفي عام واحد زحف مليون لاجئ سوري إلى أوروبا عبر تركيا بشكل لم تشهد له القارة مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية، واندس بينهم عناصر من تنظيمات إرهابية ومخابرات النظام. وبالفعل عمّ العالم الخوف من اللاجئين السوريين.
ضغط الأوروبيون يطالبون بإقامة ملاذات للاجئين داخل سوريا، إلا أن الروس رفضوها. اعتبر حلفاء الأسد الملاذات لعبة سياسية معاكسة تهدف إلى إقامة كانتونات مستقلة.
واستمر النظام يقصف جواً، بهدف تهجير ملايين الناس من الحواضر ذات التجمعات البشرية الكبرى. حلب، أكبر المدن، لم يتبق فيها سوى نسبة صغيرة من السكان. وبعد إغلاق كل الحدود صار في داخل سوريا اليوم نحو سبعة ملايين مشرد، وخمسة ملايين لاجئ في الخارج، الأكبر في التاريخ المعاصر.
تغيرت الإدارة الأميركية، وغير دونالد ترمب سياسة بلاده حيال الصراع في سوريا، وحكومته تتميز بأن من بين قياداتها جنرالات عملت ميدانيا في المنطقة تعرف حقائق الأرض. عاقبت الإدارة نظام الأسد وحلفاءه، بقصفها مطار الشعيرات، إيذاناً بسياستها الجديدة، وطالبت بمناطق آمنة على الخريطة.
صحيح أن هذه الفكرة قديمة، منذ نحو ثلاث سنوات، لكن المفاجئ أنه تم تطبيقها سريعا وفي أقل من أسبوع من الكشف عنها! خطوة تؤيدها القوى المعنية، الأميركية والروسية وتركيا والخليج والأردن، وتعارضها بشدة إيران ونظام الأسد.
من دون أن نغفل التفاصيل المقلقة والسلبية، فإن الخطة جيدة. اعتماد الملاذات يعني أولاً أن مصير الشعب لم يعد تحت رحمة ثلاثي دمشق، إيران وروسيا. أصبحت هناك شرعية على أرض سوريا بتكليف الدول الأخرى مثل تركيا والولايات المتحدة.
ثانياً، الملاذات توقف مشروع تصدير اللاجئين الخطر على استقرار الأردن وتركيا ولبنان وأوروبا، والذي خطط له معسكر دمشق الشرير.
ثالثاً، وقف عملية التغيير الديموغرافي التي ترسمها إيران، مع الأسد، بإعادة ترتيب المناطق طائفياً، وتؤمن السيطرة على المناطق الاستراتيجية، وتبني ممراً جغرافياً يربط مستعمرات إيران الجديدة ببعضها، العراق وسوريا ولبنان.
ورابعاً، ستعطي الملاذات المعارضة السورية المدنية فرصة لأول مرة للعمل سياسيا على الأرض.
رغم ذلك للملاذات مخاطر محتملة، فهي قسمت خريطة سوريا سياسيا. أعطيت أميركا المناطق التي تهم أمن حلفائها، الأراضي المتاخمة للأردن وإسرائيل والأكراد. وأعطيت موسكو مناطق محاذية للبنان وأخرى تقطنها الأقليات وفيها قواعدها الروسية. أما تركيا، فقد أوكلت بالمنطقة المتاخمة لها.
ومن المخاطر المُحتملة أن تتسلل إليها الجماعات الإرهابية وتجند من سكانها، وتتحول إلى قضية عالمية. كذلك لن يكون سهلا تأمين الحاجات المعيشية والأمنية للمناطق المزدحمة، مما سيجعل السيطرة عليها صعباً وقد ينتقل الاقتتال إلى بعضها. ومن دون حل سياسي، أو انتصار عسكري حاسم، الملاذات ستصبح مثل معسكرات اعتقال لملايين الناس. ورغم هذه المخاطر، تبقى ضرورة لوقف المأساة الإنسانية، وتخليص ملايين الأبرياء من براثن النظام وحلفائه. وقد وأدت هذه الخطوة الحل الذي فرض قبل شهرين بتتويج النظام حاكماً بقوة الاعتراف الدولي، وستدفع الجميع للبحث عن حل معقول بديل.
شيئاً فشيئاً تتحول الاجتماعات في العاصمة الكازاخستانية أستانة إلى بديل لمفاوضات جنيف. صممت هذه الاجتماعات وأخرجتها الدبلوماسية الروسية، بالتنسيق مع طهران والنظام في دمشق، ثم جذبت إليها تركيا، ولاحقاً المعارضة السورية وموفد الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا. وبينما يتردّد دائماً أن الهدف من الاجتماعات هو وقف إطلاق النار وتنظيم هدنات، تعمل موسكو على منح صفة سياسية لهذه الاجتماعات، ابتداء من تصويرها "مطبخاً خلفياً" لمفاوضات جنيف، وأنها تشقّ الطريق وتمهدها أمام تلك المفاوضات. ومن أجل تغليب الطابع السياسي على هذه الاجتماعات، فإن نظام دمشق يتمثل فيها بوفد سياسي، هو نفسه الوفد إلى جنيف، مضافاً إليه مستشارون عسكريون وأمنيون، بينما يقتصر تمثيل المعارضة على قادة فصائل المعارضة.
شيئاً فشيئاً، وأمام انعدام المبادرات من أصدقاء سورية، فإن استئناف مفاوضات جنيف أصبح مرهوناً بما يجري في أستانة، والأولوية هي هناك. وابتداء من الأربعاء الماضي (3 مايو/ أيار الجاري) عقدت جولة رابعة، من دون رؤية أية نتيجة على الأرض للاجتماعات السابقة سوى تهجير المدنيين من ريف دمشق ومن حمص، وسوى تواصل قصف الطيران مناطق سكنية في إدلب ودرعا، ومشافي ومراكز الدفاع المدني هنا وهناك. حتى صباح الخميس، كان وفد المعارضة يرفض الانضمام إلى الاجتماعات لعدة أسباب، من أبرزها أن الطرف الذي يقدّم نفسه ضامناً لاتفاق وقف إطلاق النار، وهو روسيا، لا يتوقف قصف طيرانه على مرافق مدنية.
يُعيد البيان الذي أصدرته المعارضة التذكير باتفاق تركي روسي على وقف إطلاق النار جرى في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وتم إيداع وثائقه في الأمم المتحدة، لكن النظام وحلفاءه لم يسبق أن التزموا بما يتم الاتفاق عليه.. والمؤسف أن الطيران الروسي طرفٌ أساسٌ في الخروق الجسيمة.
في الدورة الجديدة لاجتماعات أستانة، تقدّم الطرف الروسي خطوةً أخرى، طارحاً فكرة تتلاقى مع المقترح التركي والأميركي، ومع مطلب المعارضة إنشاء مناطق آمنة. وقد جاءت مبادرة موسكو هذه لقطع الطريق على واشنطن، وعلى اللقاء بين الرئيسين دونالد ترامب ورجب طيب أردوغان، قبل أن تتبلور فكرتهما نحو المناطق الآمنة. وقد جاء الطرح الروسي ليستبدل مطلب مناطق آمنة، وكذلك ليستعيض عن مطلب وقف إطلاق النار، بمقترح مناطق تخفيف التصعيد، وهي تسميةٌ مخاتلة تسمح بالتنصل من الالتزامات، ما دامت الأمور غائمةً على هذا النحو. إذ بعد 74 شهراً من إطلاق النيران، بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة، وبغير توقف، فإن وقف إطلاق النار لا يمثل بعد هدفاً راهناً، بل المطلوب تخفيف التصعيد فقط، ما يثير تساؤلاتٍ جدّية حول: كيف يمكن قياس تخفيف التصعيد، وما هي معايير التصعيد، ومحدّدات تخفيفه؟ يتحدّث المقترح، كما تم تسريب بعض بنوده، عن دول ضامنة، ودول قد تشارك في قوات فصل. ومن بين الدول الضامنة إيران التي أعلن مسؤولون فيها، عشية اجتماعات أستانة، عن إرسال مزيدٍ من القوات الإيرانية البرية إلى سورية، من أجل مواصلة "الجهاد المقدّس" فيها.
استرعى الانتباه أن الرئيس التركي، أردوغان، الذي عقد لقاء قمة مع الرئيس فلاديمير بوتين، تزامناً مع افتتاح اجتماعات أستانة، أبدى تأييداً مبدئياً للطرح الروسي، مُذكّراً أنه لطالما دعت بلاده إلى هذا المطلب، من دون الدخول في تفاصيل، وقد تسرّب أن أنقرة طلبت إضافة منطقة رابعة في ريف اللاذقية إلى المناطق الثلاث التي اقترحتها موسكو في ريف دمشق وإدلب وريف حماة. ومع توارد الأنباء عن وثائق أربع أعدّتها موسكو، فالثابت أن الجدل حولها سوف يستغرق وقتاً، وكذلك الجدل لدى البدء بتطبيقها، إنْ قُيّض لهذا التطبيق أن يتم. لكن، هل سيتوقف إطلاق النار خلال ذلك؟ ليست هناك أية ضمانة على الإطلاق، بالنظر إلى تجارب عديدة سابقة. هل سيتوقف استهداف المدنيين والمرافق المدنية؟ لا ضمانة، فلم يسبق لهذه الاجتماعات أن حرّمت استهداف المدنيين والمرافق المدنية أو جرّمته، علماً أن بعض ما سُرّب من وثائق إلى وسائل الإعلام يتضمن "مواصلة القتال ضد جبهة النصرة والأشخاص والجماعات والمنظمات التابعة لها"، وهي صيغةٌ تسمح، وقد سمحت من قبل، بادّعاء إيران ومليشياتها، وكذلك من النظام، أن كل فصائل المعارضة هي على هذه الشاكلة. وذلك في وقت تُطلق فيه أيدي مليشيات إيران اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية، إضافة إلى الحرس الثوري، لخوض "جهادها المقدّس" ضد الشعب السوري، وعلى أرض هذا الشعب.. وحجة الدبلوماسية الروسية أن مجلس الأمن لم يُصدر بعد قراراً بخصوص هذه المليشيات، ولو تقدّم طرفٌ بمشروع قرارٍ لمجلس الأمن بخصوصها لأفشلته روسيا.
لمواجهة ذلك، وبصرف النظر عن نتائج اجتماعات أستانة، من المهم التمسّك بمطلب مناطق آمنة يُحظر فيها الطيران، ويتم وقف إطلاق النار بقوة فصل محايدة، وفي مناطق متفق عليها، بما يسمح بعودة اللاجئين إلى ديارهم، ويضع حداً لسياسة الاقتلاع والتغيير الديمغرافي القسري. على أن يتساوق ذلك مع استئناف مفاوضات جنيف، وتطبيق ما تتضمنه مرجعية هذه المفاوضات، بضمانات ورعاية إقليمية ودولية. أما الاكتفاء بما سُمّي تخفيف التصعيد فهو وصفةٌ أو صيغةٌ يسهل استخدامها لإطالة الأزمة، وتحت ادّعاءات شتّى، منها القول إن ما قد يجري ليس تصعيداً، بل تخفيفاً له! والهدف هو جبهة النصرة ومن يشايعها. وفي حالاتٍ سابقةٍ، وبينما كان القصف الجوي والمدفعي يتواصل في مناطق عديدة، ويسقط المدنيون يومياً وبالعشرات، كانت التصريحات من هنا وهناك تصدر وتتحدّث أن وقف إطلاق النار يجري احترامه بصورة كبيرة!، وقد انزلق المبعوث الأممي من قبل إلى إطلاق مثل هذه التصريحات المُجافية للواقع والوقائع. وها هو المبعوث قد حضر إلى أستانة بصفة مراقب، في رسالةٍ ضمنية من منظمي هذه الاجتماعات مفادها بأن المنظمة الدولية التي تمثل كل دول الأرض وشعوبها لا يحق لها المشاركة، أو التذكير بالقرارات الدولية الصادرة عنها، وذات الصلة بالأزمة السورية، والواجبة الاحترام والتنفيذ. وواقع الحال أنه قُصد من اجتماعات أستانة، في الأساس، إقصاء المنظمة الدولية والمجتمع الدولي وأصدقاء سورية، ومنح إيران مكافأة معنوية سخية، نظير جهادها، وهي ومليشياتها ضد شعب سورية، ومضاعفة المحنة التي يتجرّعها هذا الشعب العربي.
اعتمد التكتيك التركي في سورية على سياسة خطوة إلى الوراء خطوتان إلى الأمام، وذلك من منطلق حساسية الوضع السوري الذي تداخل بقوة مع نظيره التركي، منذ اليوم الأول للثورة، وكان على تركيا كدولة أن تتصرّف بتوازنٍ محسوب، كي لا يرتمي ثقل الحمل السوري على ظهرها لوحدها.
وتبدو تركيا حتى الآن وقد امتصّت الصدمات القوية، ولم تنكسر أمام الموجات الكبيرة، وخصوصا قضية اللاجئين، ولكن في أكثر من محطة، في العامين الأخيرين، كانت النهاياتٍ ذات أثر سلبي. ومن هنا، يبدو التوجه التركي الجديد تجاه معركة الرّقة بمثابة الورقة الثمينة الأخيرة التي يلعبها الرئيس، رجب طيب أردوغان، على الأرض السورية، وقد أعلن صراحة أن تركيا مستعدة لأن ترسل جيشها إلى الرقة للقضاء على "داعش"، ولكنه، في الوقت ذاته، يريد إطلاق يده في توجيه ضربةٍ قاصمة لمليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) التي سبقته ميدانيا، وباتت تتحكّم بمفتاح معركة الرقة، من خلال التقدّم الكبير الذي أحرزته في انتزاع القسم الأكبر من مدينة الطبقة من يد "داعش".
زيارتا أردوغان إلى روسيا، ومن ثم إلى الولايات المتحدة، على جدول أعمالهما هذه النقطة على وجه التحديد، وتهمّه موسكو كما واشنطن، على الرغم من تباعد المسافة بين العاصمتين حيال ما يجري ميدانيا على صعيد تحرير الرّقة، ذلك أن الروس ليسوا منخرطين في هذه العملية التي يتولاها الأميركيون مباشرة، وتفيد المؤشرات كافة بأن أردوغان متشوّقٌ إلى خوض المعركة بقوة، آخذا في حسابه أنها ستسجل له إنجازاً في الخارج والداخل، في بداية عهده الجديد، بعد الاستفتاء على تعديل الدستور وإقرار النظام الرئاسي.
مشكلة أردوغان الأساسية هي مليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو يعوّل، حتى الآن، على تفهم أميركي لموقف تركيا منها، لكن المؤشرات لا توحي بذلك، فواشنطن سبق أن اختارتها حليفاً موثوقاً يمكن الاعتماد عليه في الحرب ضد "داعش"، الأمر الذي يفسّر سبب مسارعتها، في الأيام الأخيرة، للعب دور قوة فصل، حين وجهت تركيا ضربات لها في المناطق الحدودية القريبة من القامشلي، ولكن نتيجة هذه المواجهة السريعة جاءت لتؤكد أنّ التعاطي التركي، طوال العام الأخير، مع مليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي لم يُضعفها، بل هي استثمرته لصالحها، وبدت بعد كل ضربةٍ أقوى مما كانت عليه.
مؤكّد أن أنقرة لا تتصرف على نحو عشوائي، وتعمل وفق خطة مدروسة، ولكن النتائج صبّت، حتى الآن، لصالح هذه المليشيات التي اكتسبت شرعيةً أميركية، من خلال التدخل الأميركي، لحمايتها منذ منبج وحتى الآن في الشريط الحدودي من القامشلي وحتى عفرين. وإذا بقي رد الفعل التركي عند هذا المستوى، فسوف تتغير المعادلة كليا في الوقت القريب، ولن يكون في وسع تركيا منع إقامة الكانتون الكردي السوري تحت راية حزب الاتحاد الديمقراطي فرع حزب العمال الكردستاني الذي بات يمتلك جيشا متمرّسا في القتال.
تتحمل فصائل المعارضة السورية المسلحة مسؤوليةً كبيرةً عن تحول الاهتمام الأميركي نحو حزب الاتحاد الديمقراطي، ولا يمكن أن يلوم المرء الولايات المتحدة على تمسّكها بالمليشيات الكردية حليفاً، لأنها لم توفر وسيلةً للبحث عن طرفٍ سوريٍّ مسلح ومعارض، تستطيع العمل معه، وهناك أمثلة كثيرة، وعدا عن أن بعض هذه الفصائل معادية لأميركا مثل جبهة النصرة، فإنها بلا خريطة طريق واضحة، وتحولت، في أغلبها، إلى أمراء حربٍ يقتلون بعضهم في معارك عبثية، وتركوا الجزيرة السورية لحزب الاتحاد الديمقراطي.
يستطيع الأتراك تصحيح المعادلة عن طريق لعب أوراق أخرى من داخل سورية، من خلال بناء تحالف قوي ومدروس في الجزيرة السورية مع المتضرّرين من مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي، وهناك مصلحةٌ لأطرافٍ عربيةٍ وكرديةٍ في ذلك.
لن أكتب تعليقا هذا الأسبوع. سأنقل بدلا منه أقوال سيدة سورية من قرية حزّه في الغوطة الشرقية، تصف الأهوال التي تعيشها قريتها، بسبب "قتال الإخوة" المتجدّد منذ نيفٍ وأسبوع بين جيش الإسلام من جهة وفيلق الرحمن وجبهة النصرة وفصائل صغيرة أخرى متحالفه مع الفيلق أو محتمية به، من جهة أخرى.
تقول السيدة لأختها:
ـ"السلام عليكم، شلونك، والله يا أختي الوضع ما حدا فهمان شي نهائيا نهائيا. يعني مبارح وضعنا كان سيئ كتير كتير، واليوم لأسوأ، لأنو اليوم جيش الإسلام أجا لعنا، وطلعوا عالبناية وعملو طلاقيات نظامي، وحطوا قناصة وعالأربعة وعشرين. المشكلة إنو القناص اللي حطوه كاشف بنايتنا، وكاشف كل شي حوالينا. امبارح أم سلطان الله سترها، الله لطفها، لسه عم تتناوأ ونازلة عالسلم لطش عليها، الله سترها. أجينا اليوم على بكره إلنالو لبراء ماما خود هالمفتاح بس وصللو إياه لصهرك، لأنو بدو يفوت على بيتنا. ورحت وقف عالدرج ميشان شوفو، يعني تضل عيني عليه، لسه ما مديت راسي لطش عليي، ما عم يميزو أختي لا مدني، لا بطيخ ولا يأطين. امبارح والله لو تشوفي العالم بالأرض، بالأراضي بالأراضي، يعني مناظر الله أكبر على هيك مناظر. اقسم بالله طأ ألبنا، يعني كمان تطلعي عليهن، والله وجوهن، الوجوه صغيرة ولك أختي. ولك بالأول طعموهن واكفوهن بعدين ابعتوهن. ولك والله يا دوب جلدهم مملي لحمهن ومغطي عضمهن. اكفوهن بالأول بعدين ابعتوهن يعملوا هالعمايل.
والله يا اختي مناظر، لو تشوفي هي، إنتي بتعرفيها، ناحية المنشرة، الفيلق وأفاه شفتي ناح بيوت اللبن جيش الإسلام، وإيمي أختي من الأرض جثث واركدي، إيمي جثث واركدي. يا أختي استعملو الدوشكايات، الدبابات، شو بدي قلك ما رح تسدئي. هلكنا بكي والله. شغله تانية العالم ما فيه مي عندا، لا فيه حطبه، لا فيه خبزة (تبدأ البكاء من هنا وإلى نهاية الفيديو)، يعني لإيمته. والله يا اختي شي بيطقق، وحياة الله شي ما بينحمل، ولك يعملوا حساب إنو فيه بني آدمين وفيه أطفال. ولك شوصايرلن، حرام عليهن، ولك والله حرام، ولك كل الليل ما وقفوا، ما بيكفينا النظام اللي نازل فينا كل النهار خبط، وما مخلي سلاح، ما خلى شي، يعني هني ما شايفين بعينن. ولك أختي إنو حزّه صارت أد الكمشة. ولك والله هيك رح يكمل علينا، والله ما عم نسترجي نحوص فيا، من مبارح يا أختي، لأ من أولت مبارح، ما حدا داق رغيف الخبز، ما فيه أختي ما فيه، لا محل يرفع غلؤا ولا ضراب السخن ولا شي. تاني يوم فئنا أختي، العالم فائت الساعة ستة، طلع جيش الإسلام منتشر بحزّه، ما حدا متهيئ لهيك شغلة، واللي عنده شوية أمح لا زم يطحنو، بس وين بدو يطحنو، ولك يرحمونا بس شوي، أختي، الله لا يرحمن".
هذا ما تقوله سيدة مجهولة الاسم في شهادةٍ لا تحتاج إلى تعليق. طالب الدفاع المدني في ريف دمشق المتقاتلين من "إخوة المنهج" بتحييد المدنيين، ومراعاة ظروف العالقين ضمن مناطق الاشتباكات، إضافة إلى عدم استهداف منازل المواطنين والمنشآت العامة. بينما تخرج مظاهرات عارمة تندّد باقتتال هؤلاء، وتطالبهم بإيقافه. وتحلم "محافظة دمشق" بتشكيل "جيش وطني ثوري" لوقف اقتتال الغوطة الشرقية الذي تحاكي فظاعاته فظاعات حصار جيش الأسد بلداتهم، وقصفه المتواصل مساكنهم، ووضعتهم في مواجهةٍ سبق للمتنبي أن وصفها بقوله:
وسوى الروم خلف ظهرك روم/ فعلى أي جانبيك تميل
أخيرا، أعلن، في الرابع من شهر مايو/ أيار الحالي، أنه سيتم وقف القتال في ريف حماة بوساطة روسية. إلى أية وساطة، وممن يحتاج الإخوة الأعداء كي يوقفوا اقتتالهم، ويسحبوا القناصة من حزّه؛ كي تستطيع السيدة الملتاعة مد رأسها من نافذة بيتها، ومتابعة ابنها وهو في الشارع، ذاهبا إلى بيت صهره بالمفتاح، كي يدخل إلى بيتهم؟
إذا كان التقاتل يودي بالمذنب والبريء، بماذا يبرّره ضحاياه المتقاتلون؟ وماذا يقول هؤلاء لمن يؤكد أن اقتتالهم من علامات هزيمة الثورة أخلاقيا وعسكريا، وأنه لا عائد له غير الإجهاز على البقية التي نجت من جرائم النظام ضد شعب الثورة المظلوم!.
حذر مدير وكـالة الاستخبارات الأميركية “سي آي إيه”، مايك بومبيو، من أن الولايات المتحدة معرضة أكثر من أي وقت مضى “لخطر هجوم صاروخي نووي من كوريا الشمالية التي تقوم بتصعيد الموقف بشكل غير مسبوق وتحاول أن تعطي انطبـاعا بأنها ترغب في مواجهة مع الولايات المتحدة”.
جاء هذا التصريح عقب إجراء كوريا الشمالية عرضا عسكريا كبيرا وتهديدها بحرب نووية مع الولايات المتحدة، وقيامها بتنفيذ تجربة جديدة رغم التحذيرات، تزامنا مع إجلائها 600 ألف من سكان العاصمة بيونغ يانغ، وإعلانها السعي إلى تطوير صاروخ يصل مداه إلى الولايات المتحدة.
إن توقيت التصعيد الكوري الشمالي قد يكون متعمدا بهدف إحراج وإرباك خطط إدارة دونالد ترامب التي تواجه تهديدات عالمية في مناطق عدة بالعالم، وتحاول التركيز على ملفات إيران وتنظيم داعش، الأمر الذي يجعلنا نشك في أن هناك تنسيقا في المواقف بين إيران وكوريا الشمالية والصـين من أجل تخفيف الضغـوط عن إيران.
فمنذ التصعيد الأخير في شبه الجزيرة الكورية قلص دونالد ترامب من حدة تصريحاته الشديدة تجاه إيران، ويبدو أن هذا يروق لموسكو، ففي حال استمرت الولايات المتحدة بتخفيف موقفها تجاه إيران، قد تساعدها روسيا في مواجهتها ضد كوريا الشمالية خاصة في مجال التجارب الصاروخية.
بالرغم مما تقدم، فإن وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيرلسون، يحاول استثمار التصعيد الكوري الشمالي وتحويله إلى فرصة للحصول على الدعم والموافقات اللازمة لاستهداف إيـران. حيث قال تيلرسون مؤخـرا بأنه “من دون مراجعـة شاملة للاتفاق النـووي، يمكن لإيران أيضا أن تفاجئ العالم يوما ما بتجارب نووية”، مضيفا أن إيـران “يمكن أن تسلـك نفس مسلك كوريا الشمالية، لذا يجب ردعها”.
ويبدو أن تصريحات الوزير الأميركي أثرت في موقف الرئيس ترامب الذي بدأ بالعودة إلى التركيز على إيران من خلال التأكيد على إمكانية أن تلغي واشنطن الاتفاق النووي مع إيران بعد أيام من تصريح وزير خارجيته.
عند قيامنا بإعادة تقييم التهديدات بالنسبة للولايات المتحدة من قبل إيران وكوريا الشمالية وباستخدام تقنية الفرضيات المتنافسة، لاحظنا أن الدولتين تتقاربان كثيرا في مستوى التهديد للولايات المتحـدة وللسلم العـالمي، ومن الصعوبة إنتاج حكم تحليلي حاسم في هـذه القضية إلا أنه يمكـن لنا التنبؤ بأسبقيـات الاستهداف من قبل الولايات المتحدة لهاتين الدولتين.
رغم تساوي التهديدات من كوريا وإيران، إلا أنه من المرجح أن تلجأ إدارة ترامب إلى التركيز على الملف النووي الإيراني رغم أن الملف الكوري أكثر خطورة، ويعود ذلك إلى أن ترامب بحاجة إلى موقف أميركي حازم وسهل التنفيذ يردع من خلاله الدولتين، كما أن الولايات المتحدة قطعت شوطا كبيرا في التصدي لإيران، لكنها بحاجة إلى وقت أطول لتنال من كوريا الشمالية.
فالولايات المتحدة حذرت من أن الحرب النووية مع إيران تشكل تهديدا أكبر من تهديد كوريا الشمالية. ومدير الاستخبارات الأميركية يقول إن “إيران ستواجه عملا عسكريا أكثر صرامة من قبل أميركا تحت حكم ترامب”.
وقد يكون الملف النووي الإيراني هو الأكثر إلحاحا بالنسبة للولايات المتحدة، خاصة مع ميل الصـين وروسيا لدعم الطموحات النووية الإيرانية في وقت تبدي فيه الصين استعدادا لحل الأزمة مع كوريا الشمالية.
أما بالنسبة للتهديد القادم من كوريا الشمالية فإنه يبقى تهديدا مرتفعا إلى حين توفر الظروف المناسبة للاستهداف، وذلك بسبب حساسية وتعقيد الموقف الجيوسياسي المترابط مع قضية كوريا الشمالية.
ومن المرجح أن تلجأ الولايات المتحدة إلى زيادة التضييق على الصين لدفعها إلى الضغط على كوريا الشمالية، وذلك عبر سياسة التصعيد العسكري، فالمسؤولون الأميركيون أعلنوا أن بلادهم “أقرب من أي وقت مضى من مواجهة كوريا الشمالية”، كما أكدوا أن “سياسة الصبر الاستراتيجي انتهت وجميع الخيارات مطروحة على الطاولة”.
وبالتزامن مع هذه التصريحات الحازمة وصلت مدمرتان تابعتان للبحرية الأميركية إلى مقربة من أحد المواقع النووية لكوريا الشمالية، إضافة إلى قاذفات للقوات الجوية الأميركية في جزيرة غوام.
مضحك مبك أن يطالب وفد المعارضة السورية في مذكرته إلى اجتماعات آستانة، بأن تنسحب قوات النظام السوري إلى حدود 30 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أي تاريخ بدء سريان وقف النار الذي رعته روسيا مع إيران وتركيا، والذي استولد اجتماعات الأربعة في العاصمة الكازاخية.
فور توزيع مذكرة فصائل المعارضة المسلحة بمطالبها إلى الدول الضامنة لوقف النار، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي سخرية، نظراً إلى التشبيه المأسوي بالمطالبة العربية بالانسحاب الإسرائيلي إلى حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967.
وفيما قصدت الفصائل المعارضة وقف الخرق الواضح من قبل النظام لوقف النار واستعادة المساحات الجغرافية التي احتلها في ظل الوقف الهش للنار، فإن السخرية السوداء حول هذا المطلب، تخفي ما هو أدهى في اجتماعات آستانة التي انعقدت على وقع مسودة المقترحات الروسية التي طرحت قيام 4 مناطق سميت «مناطق تخفيف التصعيد». وهي محافظة إدلب شمال حمص، الغوطة الشرقية، وجنوب سورية. لا يشي الطرح الروسي إلا بأنه يرسم حدوداً لبعض مناطق النفوذ الراهنة في «سورية المفيدة»، بين المعارضة والنظام، تتولى مراكز مراقبة دولية الإشراف على خطوط التماس بينها، مع ما يعنيه ذلك من إمكان استئناف الاشتباك بينها، على رغم أن المقترحات صيغت باسم تثبيت وقف النار.
ومع أن موسكو اكتفت بتسريب «المقترحات» ولم تتبنها إلا الأربعاء، بعد اتصال فلاديمير بوتين بدونالد ترامب، فإن توزيعها المناطق على هذا الشكل، ترك مناطق أخرى لمصيرها، مثل الشمال، حيث يوجد الأتراك والأكراد والأميركيين (شرق الفرات)، و «الجيش السوري الحر» وفصائل إسلامية، و «داعش» و «جبهة النصرة»، والرقة ودير الزور، وحمص وشمالها وحلب وغربها (حيث القصف مستمر)، ودمشق ومحيطها والمناطق المحاذية للبنان (من الزبداني إلى القصير) حيث يوجد «حزب الله» وإيران وسائر ميليشياتها المتعددة الجنسيات. هذا يعني أنها تسلم بالسيطرة عليها للفرقاء الخارجيين والمحليين الآخرين. أما ضم الجنوب إلى المناطق الآمنة فهدفه إبعاد إيران تطمينا لإسرائيل. وبعدما كان التعاون الروسي الأميركي في عهد باراك أوباما لا يتعدى «إدارة الحرب السورية»، بات الآن «إدارة تقاسم النفوذ» في سورية المفيدة، إلى أن يتفق بوتين مع ترامب.
توحي موسكو باستعدادها لملاقاة واشنطن حول طرح دونالد ترامب «المناطق الآمنة» منذ 4 أشهر، وتحوله خياراً بعدما تناوله فلاديمير بوتين في مكالمته مع الرئيس الأميركي الأربعاء، والذي أعقبه الرئيس الروسي بتصريحه أمس أثناء لقائه رجب طيب أردوغان، بأن الفكرة «تحتاج إلى مزيد من العمل». لم يظهر هذه المرة سيرغي لافروف ليستخدم براعته الديبلوماسية في استبعاد المناطق الآمنة، كما جرت العادة حين كرر أردوغان والمعارضة ودول الخليج العربي طرحهم في السنوات الماضية. كان هدفه إبقاء اليد العليا لطائراته كي تقصف وتقتل وتدمر.
استبق بوتين وضوح نيات واشنطن، ونسب «تبلور» مبادرته إلى «مناقشة المشاكل الحساسة للأزمة مع الشركاء في تركيا وإيران وداخل سورية نفسها». تنكّر لصدورها عن ترامب والآخرين، وترك غموضًا عندما ربط نجاحها بحظر جوي، مشترطاً لتحقيقه وقف النار على الأرض، فيما الحظر الجوي هدفه وقف وحشية النظام عبر البراميل المتفجرة واستخدام الكيماوي من الجو. في انتظار اتضاح الألغام التي زرعها الكرملين أمام عملية التطبيق، أنقذت موسكو صيغة آستانة، التي كاد إخراج الأميركي أنيابه في مطار الشعيرات يقضي عليها بصفتها إطاراً يتحكم به الدب الروسي. رمت الطعم لإيران وتركت المناطق التي تقع تحت نفوذها معلقة، محتفظة بالموقف من وضعها العسكري اللاحق في حال جرى تثبيت مناطق النفوذ الأربعة، فطهران ليست مستعدة لتسهيل مشاريع الحلول التي يمكن أن يتفق عليها حليفها الروسي مع خصمها الأميركي الذي يلح على خروجها و «حزب الله» من سورية. وطهران، مثل موسكو، تسابق على طريقتها المناطق الآمنة الأميركية، وتسعى إلى حماية الرقعة التي شاركت بشار الأسد في إحداث تغييرات ديموغرافية فيها. والحزب سعى إلى إعادة نازحين في لبنان إلى بعض مناطقهم المحاذية للحدود، لتصبح مناطق إيرانية آمنة. وكل هذا يفسر إبقاء واشنطن على مقعدها بصفة «المراقب».
الأهم في المبادرة الروسية نصها على نشر وحدات عسكرية تابعة لدول مراقبة، وهو أول إيحاء بالموافقة الروسية على إرسال قوات دولية من دون نشرها يستحيل ولوج الحل السياسي جدياً. وهذا يحتاج إلى قرار من مجلس الأمن يسبقه اتفاق أميركي لن يصدر إلا بعد أن يتأكد من أن النقاش الحاصل في بعض الدوائر المغلقة بحثاً عن بديل للأسد، بعد نقله إلى «بلد آمن» مع بعض حاشيته، انتهى إلى نتيجة.
خفضٌ للتوتر أو العنف، هو أحدث المصطلحات التي سيكون على الشعب لسوري تجرع الموت من خلالها، بعد تجارب كثيرة مع مصطلحات أخرى كان آخرها هدنة أنقرة، في العام المنصرم، وأولها كان في جنيف 2012.
تتقاسم الدول الثلاث (روسيا-تركيا-ايران)، المناطق التي ستكون مشمولة بهذه الصفة الجديدة، فروسيا تريد أن تكون قاصمة هذه المرة، وتحت جنحها تقبض على الغوطة الشرقية، بعد إنهاء الأحياء الشرقية من دمشق، وأن تكون إدلب تحت مخالبها، بعد السيطرة على محيط جسر الشغور ومركزها، وذات السيناريو في خان شيخون.
أما إيران التي تلهث بلا استراحة، خلف ما تبقى من ريف حماة الشمالي، وريف حلب الجنوبي، مع أجزاء ذات أهمية استراتيجية من ريف حلب الغربي، ضماناً وحماية لنبل والزهراء.
أما تركيا الطامحة لزيادة تحصين حدودها، والحفاظ على عمقها الاستراتيجي القومي في جبل التركمان، ومحيط إدلب القريب، فالثلاثي يحشد، منهم من بدء (روسيا وايران)، ومنهم من هو على شفا البداية.
في ظل ذلك كله، تجلس المعارضة السياسية، بكامل أطيافها وقومياتها، تتباحث حول رئيس الائتلاف الجديد، والفريق المرافق له، مع وجود بعض اللطمات على الخدود نتيجة استغلال الدول الكبرى الفراغ الحاصل بين انتخاب رئيسين.
بين هذين المشهدين يقبع المواطن السوري، ساعياً لفهم ما يحدث، وهل سيكون من ضمن المناطق الداخلة في كذبة خفض التوتر، أم في تلك المناطق الواقعة تحت بند الأشد عنفاً.
إعلان البيت الأبيض أن الرئيس دونالد ترمب سيقوم بزيارته الخارجية الأولى، والسعودية في محطاته الرئيسية، هي رسالة تعبر عن ترتيب اهتمامات وأولويات سياسته الخارجية التي تبدلت كثيراً.
تبدلت العلاقة مع السعودية منذ انتهاء رئاسة باراك أوباما الذي، وحتى آخر زيارة قام بها إلى الرياض في العام الماضي، كانت في أسوأ زمن لها منذ أكثر من نصف قرن. وبقدوم إدارة ترمب نلحظ التصحيح على كل الجبهات، سوريا وإيران واليمن والعلاقات الثنائية.
وقد حدد الحديث التلفزيوني لولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، المواقف من هذه القضايا التي يتوقع أن تكون ضمن محادثات الرياض. ففي سوريا، قربت الرياض المواقف من أجل حل سياسي لا يعطي النظام وحلفاءه يداً طليقة هناك، حل يرضي الروس أيضاً. وها نحن نسمع في مفاوضات آستانة تطورين مهمين؛ الموافقة على فرز الفصائل الوطنية عن الإرهابية، والثاني الاستعداد لإقامة مناطق آمنة، وهي من وعود ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وعن حرب اليمن، التي يعاني التحالف من فقر إعلامي في توضيحها وتبريرها، كان الأمير مقنعاً، عندما اعترف بشجاعة بأن الاستعجال في تحرير صنعاء وغيرها قد يوقع ضحايا كثيرة من الجانبين. قال: «الوقت في صالحنا ولسنا مستعجلين، يمكننا تحريرها في يومين بثمن بشري كبير، أو نحررها بتمهل بخسائر أقل».
وإيران هَمّ كبير مشترك، عند الحكومتين السعودية والأميركية، وكثير من حكومات المنطقة. وقد حدد الأمير محمد رؤية الحكومة وسياستها حيالها. قال إن تاريخ العلاقة لا يدع مجالاً للتخمين بأن إيران تستهدف السعودية بلداً ونظاماً، حتى في مراحل التقارب، وأن السعودية ستنخرط في الدفاع عن وجودها، ولن تبقى فقط في حالة دفاع مستمرة. وكان الرئيس ترمب أرسل رسائل واضحة ضد سياسة نظام طهران منذ توليه الرئاسة، في العراق وسوريا واليمن ومياه الخليج.
ترتيب العلاقات الإقليمية، كان يعني العلاقة مع مصر بالدرجة الأولى. وفي حديثه التلفزيوني المثير مر ولي ولي العهد السعودي سريعاً على جماعة الإخوان عندما أشار بأصبع الاتهام إلى الإعلام «الإخوانجي» بأنه خلف تضخيم الخلاف السعودي - المصري. حديثه أنهى التخمينات حول العلاقة مع القاهرة؛ سحابة صيف عابرة.
و«الإخوان» مشكلة عامة وليست خاصة بدولة واحدة في المنطقة. هذه جماعة سياسية تستخدم الدين للوصول إلى الحكم، وهي تشبه الشيوعية في كونها حركة أممية، بما يجعلها على خلاف مع معظم الأنظمة في المنطقة.
و«الإخوان» جماعة متضامنة، من جنسيات خليجية ومصرية وسودانية وتونسية وغيرها، تشن حروباً جماعية، وقد جربت الجماعة محاصرة الحكومة المصرية إعلامياً، وإثارة الشعب المصري عليها، وتحريض شعوب المنطقة ضد أي علاقة معها. ورغم تمكينها من عشرات محطات التلفزيون، والمواقع، و«السوشيل ميديا» فشلت. اليوم، الحكومة المصرية أقوى مما كانت عليه عندما أسقطت حكومة محمد مرسي قبل أكثر من ثلاث سنوات. لقد فشل مشروع «الإخوان» في مصر، وزادهم خسارة أن الرئيس ترمب عكس سياسة بلاده مما كانت عليه سياسة أوباما الذي قاطع حكومة عبد الفتاح السيسي، وحاول التضييق عليها.