الدعوات إلى خروج حزب الله من سوريا لم تعد من يوميات القوى السياسية اللبنانية التي تصنّف في موقع المختلف أو المعادي لحزب الله، كما أنّ القوى الإقليمية والدولية باتت غير مهتمّة بهذه المسألة ما دام وجود مقاتلي حزب الله لا يشكل أيّ إضرار بقواعد اللعبة التي تدار في جانب النظام السوري بقواعد روسية، علما وأنّ الإدارة الأميركية وإسرائيل كانتا على الدوام تشجعان ضمنا تورط حزب الله في القتال السوري، وإن لم تذهبا إلى حدّ الترحيب الرسمي بوجوده العسكري في العديد من المناطق السورية.
التدخل الروسي المباشر والعسكري قبل نحو عامين في سوريا ساهم إلى حدّ بعيد في تراجع المطالبات السياسية اللبنانية وحتى العربية بخروج حزب الله من سوريا، فيما استمر الموقفان الأميركي والإسرائيلي على حاليهما من دون أي تبدّل، مع استمرار إسرائيل في تصيّد قوافل سلاح حزب الله دون أي رد منه، بل مع مَيل واضح لدى قيادة هذا الحزب إلى اعتماد أسلوب الصمت حتى لجهة الكشف عن الاستهدافات الإسرائيلية له في سوريا، والتي هي دائما تستهدف حصرا ما تعتبره تهديدا لأمنها.
فكما بات معلوما، فإن الجهد العسكري وجحافل المقاتلين من حزب الله الذين يصوبون سلاحهم ضد فصائل المعارضة السورية لا يعتبران هدفا إسرائيليا، فقط الصواريخ التي يحاول حزب الله نقلها عبر الأراضي السورية إلى لبنان وتصنفها إسرائيل سلاحا استراتيجيا تعتبر هدفا إسرائيليا مشروعا بغطاء روسي ورضا إيراني، يفسره امتناع حزب الله عن الرد على العشرات من الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت قوافل سلاح أو مخازن أسلحة استراتيجية في مناطق قريبة من دمشق.
السمة البارزة في الموقف الإسرائيلي تجاه ما يجري على المقلب الآخر من حدودها الشمالية هي المحافظة على الهدوء على حدودها سواء في الجانب السوري أو اللبناني، وهذا ما يوفره حزب الله في لبنان، أما في سوريا فلا شكّ أنّ المعادلة التي تريدها إسرائيل في الجانب السوري قائمة لجهة الاستقرار الذي لم يهتز فعليا منذ عقود، ولم يتغيّر الحال رغم الحرب الدائرة على امتداد الأراضي السورية، فيما حزب الله وإيران يظهران التزاما بعدم خرق هذا الاستقرار رغم الذرائع التي توفرها إسرائيل لهما للقيام برد على العدوان الإسرائيلي الذي يتكرر بين الفينة والأخرى على مراكز حزب الله كما أشرنا آنفا، علما وأن نظرية تدخل حزب الله في سوريا -كما يكرر قادة حزب الله- تقوم على فكرة ضرب المشروع الإسرائيلي في سوريا، فضلا عن مهمة شق طريق القدس التي قال زعيم حزب الله إنّها تمر من حلب ومن مدن سورية أخرى.
الموقف الإسرائيلي يلتزم الصمت وعدم التدخل العسكري في مواجهة أيّ نشاط إيراني عسكري مباشر أو غير مباشر عبر حزب الله وغيره من الميليشيات، ما دام هذا النشاط يتركز على مواجهة فصائل المعارضة السورية سواء كانت معتدلة أو مصنفة إرهابية، وفي الوقت نفسه بث العديد من التقارير الاستخباراتية عبر وسائل الإعلام التي تشير إلى أنّ حزب الله يكتسب في حربه السورية خبرات عسكرية وقتالية عالية، فيما تتلقف وسائل إعلام “الممانعة” هذه التقارير لتعيد عرضها على جمهورها كوسيلة من وسائل البحث عن مبررات استمرار قتاله في سوريا، وكالنعامة التي تضع رأسها في الرمال تنطلي هذه المقولات الإسرائيلية على بعض الجمهور، الذي تناسى ما فعله تدخل حزب الله في سوريا به.
ذلك أنّ أيّ مراقب يدرك أنّ الحرب مع إسرائيل لم تعد واردة في حسابات حزب الله بعدما صارت إسرائيل عمليا أقل خطرا عليه إذا ما قيس الخطر بالمواجهات التي يخوضها في الميدان السوري والإقليمي، فالشرخ الذي نشأ بالدم بين حزب الله والسوريين بات يشكل مصدر الخطر الأول عليه، بينما الطوائف اللبنانية تتربص به وهو يدرك أن أي حرب مع إسرائيل ستكون فرصة للانقضاض عليه من كل ما هو محيط به. وليس كلام أمين عام حزب الله قبل أشهر سوى تأكيد على ذلك حينما صنف السعودية والجماعات التكفيرية بأنها أخطر عليه من إسرائيل.
من هنا فإن “براعة” حزب الله في صناعة البيئات العدوة له فاقت براعة إسرائيل في ذلك، والصمت اللبناني اليوم حيال تورطه في الحرب السورية يستبطن في جوهره تمنيات بدوام البقاء غارقا في وحولها، بعدما رمى بكل المطالب والتمنيات اللبنانية الرسمية وغير الرسمية بأن لا يتدخل في دعم النظام السوري عسكريا، في خانة التخوين وفي سلة العداء للمقاومة وصولا إلى اتهام من يطالبه بالعودة إلى لبنان والدولة بأنه إرهابي أو مساند للإرهاب.
التمنّيات بطول القتال في سوريا والغرق في وحولها هما ما يتلقاهما حزب الله اليوم، لا سيما بعدما صار وجوده بلا أفق يمثل انتصارا بل جل ما يتمناه هو الحد من الخسائر، وبعدما صار رهينة الحسابات الدولية والإقليمية والتي تشكل إسرائيل وأمنها ومصالحها، الثابت الأول في هذه الحسابات سواء كانت هذه الحسابات أميركية أو روسية، أو حتى من قبل الأطراف الإقليمية والعربية التي باتت تتعامل مع الخطر الإيراني باعتباره مهددا لاستقرارها الداخلي، كذلك إيران وحزب الله يلتزمان التزاما مطلقا بأولوية حماية الحدود الإسرائيلية من خلال عدم المسّ باستقرارها، ذلك أنّ الطرفين بالمعنى العسكري هما الأكثر قدرة من حيث التسلح على توجيه ضربة موجعة لإسرائيل إذا أرادا ذلك، لكنهما يدركان أنّ تدمير سوريا والتورط في هذه الجريمة هما أقل خطرا عليهما من قيامهما بتوجيه أيّ ضربة عسكرية لإسرائيل.
علما أن إسرائيل هذه “أوهن من بيت العنكبوت” كما يكرّر حسن نصرالله، ويحتاج تدميرها إلى سبع دقائق ونصف كما قال قائد الحرس الثوري الإيراني قبل أشهر. هذا ما يكشف إلى حد بعيد أّن الوجود الإيراني على الحدود الإسرائيلية لا غاية له إلا تأمين مصالح الدولة الإيرانية، فقتال إسرائيل أو خوض مواجهة لتحرير فلسطين لم يكن يوما بالنسبة إلى إيران أمرا يتصل بأولويات الأمن القومي الإيراني بل شعارا غايته التمدد والمساومة عليه في لعبة التفاوض مع الشيطان الأكبر أو لابتزاز بعض الحكومات الإقليمية العربية وغير العربية.
الدعوات لحزب الله بطول البقاء في سوريا لا يشذ عنها إلا السوريون الذين تسبب حزب الله والانخراط الإيراني في الدفاع عن النظام السوري في تهجيرهم وتدمير بيوتهم، أما بقية الأطراف، ولا سيما إسرائيل وغيرها من الدول الكبرى بمن فيها لبنان فتدعو له بطول البقاء على أرض لم تألف وجوده، أرض حوّلها إلى أرض محروقة، لا يتجرأ على أن يدير ظهره لإنسان فيها حتى لو كان من أتباع النظام السوري، أرض استنزفته وتستنزفه رغم أنه حوّل العديد من مناطقها إلى أثر بعد عين. حزب الله غرق في الرمال السورية ولا أحد يريد أن يمد له طوق النجاة لا الأصدقاء ولا الأعداء، فقط إسرائيل تربتُ على كتفيه بالمزيد من الكلام المعسول عن الخبرات القتالية التي اكتسبها وحزب الله الغارق في دمائه والمحاصر بالأعداء يحب أن يصدق ذلك.
إسرائيل تدرك أن حساباتها في الأزمة السورية يتم احترامها، ورغم كل ما يقال عن قيامها بضربة موجعة لحزب الله هو من الإشارات والتحليلات التي تتكرر منذ سنوات، فإنه كلما زادت إسرائيل من وتيرة تهديداتها وحتى ضرباتها لحزب الله، كلما بدا أن حزب الله شديد الالتزام بشروط الأمن على الحدود مع إسرائيل، وكلما استمر حزب الله في تعميق الشروخ داخل البيئة المحيطة بإسرائيل كلما زادت الطمأنينة لدى قيادة الكيان الإسرائيلي، وهذه المعادلة قابلة للاستمرار وكفيلة بأن تحوّل النفوذ الإيراني في سوريا بالمعنى الاستراتيجي إلى عنصر أمان لإسرائيل لن تفرط فيه بسهولة.
بعد فوز إيمانويل ماكرون برئاسة فرنسا كان هناك شبان من أصل عربي في محيط ساحة اللوفر الباريسية يرقصون ويغنون بالفرنسية «سنبقى في فرنسا». ولا شك أن المهاجرين إلى فرنسا من أصول عربية، وعددهم كبير، ارتاحوا لخسارة مارين لوبن زعيمة حزب اليمين العنصري المناهض للهجرة والمؤيد لإغلاق الحدود، وكذلك ارتاحت المنطقة العربية التي تخوفت من أقوال لوبن العنصرية ضد المسلمين وعدد من الدول العربية.
بعد أربعة أيام يتسلم ماكرون مفتاح قصر الإليزيه وأسراره من فرانسوا هولاند. والأمل أن يبقى على نهج سلفه في مواقفه من الصراعات العربية وفي طليعتها سورية. فخبرة ماكرون في السياسة الخارجية محدودة. ولكنه كثيراً ما يستشير كبار المسؤولين السابقين في السياسة الخارجية في بلده ومن بينهم وزيرا الخارجية السابقان هوبير فيدرين ودومينيك دو فيلبان والسفير السابق جان كلود كوسران. ولكن هؤلاء كانوا يرون ضرورة إيجاد حل للأزمة السورية وأنه كان خطأ أن تغلق فرنسا سفارتها في دمشق. وموقف ماكرون من الصراع السوري كان في البداية حذراً جداً عندما زار لبنان ولكنه سرعان ما غيره في حديث إلى صحيفة «لوريان لوجور» اللبنانية، عندما اعترف أن الحل لن يكون مع بشار الأسد وأنه ينبغي جمع كل الأطراف بما فيهم النظام إلى طاولة الحوار. وعندما قام النظام بهجومه الكيماوي على خان شيخون دانه ماكرون بشدة. ومن المتوقع أن يجري ماكرون لقاء ثنائياً مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في بروكسيل يوم ٢٥ أيار (مايو) الجاري، ومن شبه المؤكد أن يثير معه موضوع سورية.
ومن المعروف في كل الأنظمة الديموقراطية أن كل رئيس منتخب يسعى إلى التغيير لأنه يريد إظهار أنه أكثر نجاحاً من سلفه. ولكن في الصراع السوري يعرف ماكرون تماماً طبيعة هذا النظام الذي يقتل شعبه بالكيماوي. كما يعرف ممارسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأكاذيب روسيا عندما تظهر أنها تسعى إلى حل للصراع السوري في حين أنها متمسكة ببقاء الأسد وتبتدع أفكاراً لوقف التصعيد في آستانة وكأنها ليست طرفاً في الحرب. فروسيا بطائراتها وقنابلها تشعل المناطق السورية وتصعد ساحة الحرب. وماكرون لن يتمكن من المساهمة في إيجاد حل للصراع السوري أكثر مما حاول هولاند إلا بمساهمة حقيقية واستراتيجية من الجانب الأميركي. فأوباما ووزيره جون كيري خيّبا آمال هولاند، الأول بتراجعه عن ضرب المراكز العسكرية لسلاح الجو التابع للنظام السوري، والثاني بتنازلاته للجانب الروسي من دون أي مقابل. أما اليوم فنرى أن وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون يتفاوض بقوة وحزم أكثر من سلفه مع نظيره الروسي سيرغي لافروف. وربما يستفيد ماكرون من وجود إدارة أميركية جديدة تسعى لحل يوقف الصراع السوري ويوقف نزوح اللاجئين الذين هجّرهم الأسد. حضر أيضاً وبقوة خلال حملة انتخابات الرئاسة الفرنسية موضوع علاقة فرنسا بدول الخليج. وكانت لوبن تندد بهذه العلاقة وتلوم ماكرون والنظام الذي يأتي منه على العلاقات الوثيقة مع دول الخليج. وكان رد ماكرون حذراً دائماً في هذا الموضوع وكان يقول إنه يريد علاقات مع كل دول المنطقة بما فيها إيران. لكنه أكد أمراً لم يلاحظه أحد وهو أنه يريد إلغاء الاتفاق الضريبي الذي يربط فرنسا بدول الخليج. وهذا ليس في مصلحة دول الخليج ولا في مصلحة فرنسا. فالدول الخليجية إذا تم ذلك ستتراجع عن الاستثمار في فرنسا. كما ستضطر إلى دفع أموال طائلة من الضرائب على ممتلكات ضخمة. فهذا الأمر يتطلب درساً معمقاً من قبل فريق ماكرون الاقتصادي قبل تنفيذ ما وعد. وفي رأي ماكرون أن دور فرنسا أن تكون لها سياسة مستقلة ومتوازنة تمكنها من التكلم مع الجميع على أن تضمن بناء السلام. وهذا موقف جيد في المطلق ولكن لا يمكن تبنيه في جميع الحالات وهو خصوصاً موقف غير واقعي في الصراع السوري.
لن تنتهي أزمة سورية بسقوط بشار الأسد ولا القضاء على المعارضة. الإمكانات والنيات تجاوزت هذين الأمرين، وسورية هي أقرب الى السقوط والإنتهاء، وهذا يبدو أقصى الممكن والمتاح. تبقى كيفية تخريجه للواقع ورسم حدوده ومكوناته.
ثمّة مؤشرات عديدة تؤكد أن البيئة الدولية لم تعد تحتمل استمرار الصراع في سورية، وأعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب صراحة عن هذا التطور، فالصراع السوري، وفق الإدراك الأميركي الجديد، بات مغذياً لكل الأخطار التي تمس الأمن القومي الأميركي، ولم يعد في الإمكان قبول استمراره، على الأقل بشكله ومخرجاته الحالية، فإن يكن ثمة مخرج فإنه يتوجب إعادة صياغة الصراع على أسس جديدة، وأول وأهم تلك الأسس ضبط فائض تداعيات الصراع على البيئتين الإقليمية والدولية، وبخاصة تلك التي تشكل فضاء المصالح الأمنية الأميركية.
في المقابل، روسيا غير معنية لا بالتصورات الأميركية ولا بحساسيتها الأمنية الطارئة تجاه الوضع السوري، ذلك أن لموسكو حسابات معقدة ومتشابكة وتندمج سورية ضمن جملة المصالح الروسية، حتى أن تلك التداعيات المشكو منها أميركياً تمثل مصالح روسية حقيقية، وعلى عكس ما يشاع في كثير من التحليلات الغربية والعربية من أن روسيا لا تتمسك بشخص بشار الأسد، فإن الأسد بالنسبة الى موسكو ركيزة يستحيل التخلي عنها كما أن روسيا لم تفكر حتى بصناعة مراكز قوى أو دعم شخصيات غير بشار الأسد والذين تضمن ولاءهم له بدرجة كبيرة.
أمام هذه الانسدادات لا تملك أميركا وروسيا مخارج ممكنة للصراع ولا احتمالات للتوافق على تسويات مستدامة، ويجمع الطرفين الحذر من الاستنزاف والغرق في ما يسميانه المستنقع السوري، وبالتالي فهما ستذهبان الى أكثر الخيارت فائدة وأقلها ضرراً عليهما، وهذا يقلّص مساحة الخيارات الممكنة للحل في سورية ويحصرها في أطر ضيقة تقع بين التقسيم المباشر وفق صيغة قريبة من «سايكس بيكو»، أو تقسيم واقعي يمهد لتقسيم فعلي.
لا تريد روسيا من المفاوضات التي تديرها في جنيف وآستانة وحدة سورية ولا السيطرة على كامل التراب السوري. هذا هدف تدرك من خلال معاينتها للمجريات والتطورات استحالة تحقيقه. هي تريد إضعاف الطرف الآخر الى أبعد حد سواء بإثارة الفتنة أو بالاستفادة مما تدّعيه شرعية الأسد أو استثمار المناخ الدولي الداعم للحرب على الإرهاب، وحتى عندما تعلن مشروعها الانفصالي تكون ارتاحت تماماً من الخصم السنّي.
من غير المستبعد أن روسيا تخطّط للقضاء على الأكثرية في سورية، على رغم انه مشروع غير عقلاني، إلا أن دعمها عمليات التهجير الطائفي تكشف إلى حد بعيد مخططاً يقوم على مراحل، إذ يتم في مرحلة أولى استبعاد الجزء الفاعل من الأكثرية والممثل بالمقاتلين عبر نفيهم إلى إدلب لوضعهم لاحقاً أمام خيارين: القضاء عليهم، أو دفعهم للهرب إلى تركيا والتسرب إلى أوروبا، وفي مرحلة ثانية يتم تهجير مجتمعاتهم المحلية التي ستكون مكشوفة وضعيفة أمام ميليشيات إيران والأسد.
يسير بشار الأسد، من جهته، على الهدف نفسه ويستثمر سلطته لاستكمال عمليات التهجير الطائفي وتشريد السوريين وتدمير مدنهم لضمان بقائهم نازفين لسنوات طويلة، وفي حين يدّعي الأسد رغبته في استعادة وحدة سورية والسيطرة على كل شبر فيها، فإن الوقائع تؤكد أن هدفه الحقيقي يتمثّل بتدمير أكبر قدر ممكن من العمران والنسيج الاجتماعي لدى الأكثرية.
وتستثمر إيران من جهتها، الوقت لتثبيت مناطق سيطرتها في سورية، وعملت على سيناريوين: الأول تأمين طريق مباشر من إيران إلى ديالى في العراق مروراً بالشرق السوري إلى البحر المتوسط، وهو ما يبدو أن إدارة ترامب تنبهت له وتعمل على تقطيع أوصاله، والسيناريو الثاني خلق جيب شيعي من دمشق وريفها يرتبط بشرق لبنان ويديره «حزب الله» وتكون قناة اتصاله مع طهران عبر مطار دمشق.
لا تستطيع إدارة ترامب السيطرة على كل هذه الوقائع ولا ضبط تفاعلاتها. ذلك يحتاج موارد وإمكانات لا قدرة لأميركا المشغولة على جبهات عديدة على توفيرها في الوقت الحالي، كما أن تأثيرات إستراتيجيتها السورية ستكون ضعيفة إلى حد ما وستلقى مقاومة من أطراف أسست لها وجوداً قوياً وتموضعاً مديداً، واستتباعاً فإن السيناريوات المحتملة للفعل الأميركي تنحصر في: أ- إغراء روسيا بشراكة على مستوى إدارة نظام عالمي جديد، وهو الطرح الذي حمله وزير الخارجية الأميركي ريكس تيرلسون إلى موسكو بدعم من السبع الكبار، لكن المشكلة أن روسيا لا تثق إلا بما تحصّله بقوّة جيوشها ودهاء دبلوماسيتها، ب - جعل الوجود الروسي في سورية أكثر كلفة من خلال دعم المعارضة بأنواع من الأسلحة تغير التوازنات الحالية، لكن لا يبدو أن إدارة ترامب تخلصت من شكوكها تجاه الكثير من الفصائل، ج - القيام بإجراءات أحادية الجانب، مثل إقامة مناطق آمنة في الشمال والجنوب، وهو الخيار الأكثر واقعية كونه أقل تكلفة وأكثر إمكانية.
لا معطيات الواقع السوري، ولا سلوكيات الفاعلين الأساسيين تشير إلى إمكان الوصول إلى حل سوري يضمن عودة البلاد موحدة، وكل ما يجري في هذا النطاق يؤكد ذهاب سورية صوب التقسيم، ويبقى موعد إعلان هذا الحدث.
اختتم الرائد ياسر عبد الرحيم الجولة الرابعة من محادثات أستانا؛ وهو يعترض على إشراك إيران كضامن على اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في سوريا. وإذ شغلت صورته الرأي العام وهو يلّوح سبابته مهددا خصومه بالرد في ميدان المعركة، تتجلى وسط هدير هذه الأصوات حقيقة لا ريب فيها، لن تكون هذه المحاولة الفاشلة الأخيرة في فرض هدنة على أطراف الصراع السوري.
لم يعد لغزا أن حسن النوايا بمفرده لن يؤسس لأي حالة سلم مستدامة في سوريا، فلا ثقة في نظام أتقن كل أنواع الكذب والخداع، ولا رجاء من روسيا التي لم تدخر جهدا في التفريط بكل محاولات المعارضة للتعاون معها على الرغم من دعمها اللامحدود لوكيلها الحصري في دمشق، ولا أمل في تخلّي إيران عن مشروعها التوسعي في المنطقة. فما الذي دفع المعارضة للذهاب للأستانة رغم اليقين الجازم في كل ما سبق؟
دفع تركي لحضور الأستانة
الجواب على هذا السؤال بدوره ليس سرا، حضرت فصائل الثورة الاجتماع بدفع من عمان وأنقرة، أملا في أن ترعى الأخيرة مصالحها كما فعلت سابقا في جنيف ونيويورك ولوزان! فما الذي تغير إذن؟ هل تخلّت تركيا عن مطلبها في تغيير النظام؟ هل ساومت روسيا على موقفها الداعم للثورة؟ الإجابة على هذا السؤال من ملاك الحكومة التركية وستجيب عليه الأيام عاجلا أم آجلا، ولكننا نملك في المقابل بعض عناصر الحقيقة كما يكشفه لنا الواقع بدون غبش، وهي كالتالي:
أولا، لن تتخلى تركيا عن هدف تغيير النظام في دمشق بمحض إرادتها، ويشكل استمراره تهديدا أمنيا لا يقل خطرا عن نمو الاتحاد الديموقراطي على حدودها الجنوبية. وإذ تجاري أنقرة موسكو في مسعاها للتطبيع مع الأسد بدفع تأزم خلافاتها مع حلفائها في الغرب وطمعا في توسيع هامش مناوراتها على الساحة الاقليمية، فإنها لن تفرط بأي فرصة للإطاحة بالأسد، ويشهد تفاعلها مع ضربة الشعيرات على حقيقة موقفها منه.
ثانيا، في حين استبشرت القيادات التركية خيرا بوصول ترامب للبيت الأبيض، أملا في إنهاء عزلة أنقرة الدولية، توجهت الإدارة الأمريكية الجديدة نحو تشكيل حلف مع خصومها الإقليميين. وإذ ينم الخيار الأمريكي عن ضيق أفق ترامب السياسي باعتماده على أنظمة متّأزمة ومتعثّرة وغير قادرة على صيانة أمنها وسيادتها الوطنية، لا تمتلك تركيا خيارا سوى لعب دور المفسد ريثما تعيد واشنطن توازن تحالفاتها الإقليمية.
ثالثا، صعود نجم الاتحاد الديموقراطي وتعزز الخيار الأمريكي في الاعتماد عليه في محاربة تنظيم داعش. وتتجلى أزمة أنقرة مع الاتحاد في أمرين رئيسيين، أولهما ارتباطه العضوي بحزب العمّال الكردستاني الذي عاد لتمرده العسكري على الأراضي التركية بعد انهيار عملية السلام، والثاني بلوغ مرحلة اللاعودة في خيار مواجهته العسكرية الذي بنى عليه حزب العدالة والتنمية تحالفه مع الحركة القومية التركية.
تقف تركيا على مفترق طرق، فيما يضيق هامش مناوراتها مع اقتراب معركة الرقة، وإذ تبدو فرص اعتماد أمريكا عليها في محاربةداعش شبه معدومة، لا تجد أنقرة بدّا من المضي في خيار الأستانة، وذلك أملا في الحفاظ على رصيدها الفصائلي في سوريا وتجنيبه خطر الإبادة الروسية، وسعيا نحو إخلال حسابات واشنطن. لا يخلو هذا التكتيك من مخاطر، فأفق التعاون الاستراتيجي مع روسيا مسدود فضلا عن كلفته العالية، كما أن تركيا حريصة على عدم بلوغ مرحلة القطيعة الكاملة مع أمريكا.
شروط الاستمرار في الأستانة
تهدف روسيا إلى إقامة هدنة هشة تتيح لها إدارة الاستثناءات من خلال خرقها متى شأت وكيفما شأت بذريعة محاربة التنظيمات الإرهابية وتحرّم على الثوار السوريين استمرار مقاومتهم المشروعة للنظام وحلفائه. وفي ظل هذه الحقيقة الجلية تغدو كل أهدافها الأخرى تفاصيل لا ينبغي الالتفات إليها كثيرا،وهنا مكمن الخطر الأول.فلقد تحوّل تباين الآراء حول المشاركة في الأستانة ومقاطعتها إلى سياسات اقصائية واستئصالية بحق الآخر، فلم يكن مجرد مدخل للاقتتال الداخلي فحسب، بل معيارا لتصنيف المارقين على الإرادة الروسية كإرهابيين في حين لم يتم البت في شكل الانتقال السياسي في سوريا بعد. وبالتالي لا ينبغي مشاركة فصائل المعارضة السوريا في مسار الأستانة إلّا باجتماعها جميعا دون استثناء، أو مقاطعتها بشكل كامل دون خرق.
في المقابل، تبدو إيران أقل ارتياحا لمسار الأستانة، وذلك لعدّة أسباب أهمها سحب المبادرة العسكرية من يدها لصالح موسكو، واحتكار الأخيرة للأداء السياسي والدبلوماسي لدمشق. ولذا عزّزت طهران مشاركتها في الأستانة مؤخرا لمساعدة النظام على استرداد هامش مناورته في المفاوضات، مما يهيئ لها لعب دور المفسد فيما لو ساومت أمريكا روسيا على رحيل الأسد مقابل تسليمها بنفوذ الأخيرة غربي البلاد. وبالتالي ينبغي على المعارضة رفض العودة إلى الأستانة دون مشاركة السعودية وقطر، مما يتيح لها مواجهة صلف النظام المتوقع ويريح تركيا من عبء إدارة تعنت إيران بمفردها.
خيارات المعارضة
تبدو فصائل المعارضة السوريا مع انسدال المشهد الأخير في الأستانة في أكثر حالتها ارتهانا للإرادة الدولية، ويقودنا الإنصاف أن نعلل هذا الوهن بالتطورات العسكرية التي أفقدتها مرونتها في التعامل مع المجتمع الدولي، فيما تشتد أزمتها بشكل أكبر مع تفاقم أزمة أنقرة الدبلوماسية التي ورثتمنها عزلتها الدولية، وضيق هوامش مناورتها في التعامل مع أمريكا.
يستوجب البحث عن خيارات المعارضة تلمّس حدود المعقول أولا، وشغل حيّزه وفق ما تتيحه قدرة الثوار ثانيا. وإذ يصعب التغلّب على التوافق الأمريكي الروسي في الحؤول دون سقوط الأسد عسكريا، ثمّة تقاطع مصالح مع تركيا في قطع الطريق على النظام وحلفائه من استعادة سيطرته على المناطق المحررة. ويمكن تحقيق ذلك بأمرين، أولا رفض الاستمرار بالأستانة دون تحقق الشروط المبينة سابقا، ومما قد يجبر الروس على الوفاء بالتزاماتهم بوقف إطلاق النار، وثانيا تنظيم العمل العسكري في مناطق سيطرة الثوار، مما يهيئ لها إدارتها أمنيا ووقف ذرائع التدخل العسكري فيها بدعوى محاربة التنظيمات الإرهابية.
يبدو المطلب الأخير مبتذلا، فلم تهفت الأصوات الوطنية يوما بمطالبة فصائل الثورة بتوحيد بنادقها منذ بدء المقاومة العسكرية المشروعة في مواجهة النظام. ولقد أصبحت هذه النداءات رغم الحاجة الملحة لتلبيتها ضربا من ضروب الخيال، وإذ لم تأل مختلف الفاعليات المدنية جهدا في توفيق الفصائل، فلقد بات جليا أنه لا بد من استبدال القيادات التي غلبتها أهواؤها ومصالحها بمن يثبت قدرته على العمل مع الآخرين.
وأخيرا، لا يقتضي التفاعل مع بعض القرارات الأممية وقف البحث عن منغصّات لها، بل لا بد للثوار أن يفعّلوا مسارات موازية تعيد توازن الرعب مع النظام، ما من شأنه كسر الجمود الذي أصاب المسار السياسي وإجبار المجتمع الدولي على مراجعة توافقاته القاتلة.
على رغم تحوير التسمية، فإن مناطق خفض التصعيد التي طرحتها موسكو في مؤتمر آستانة هي ذاتها المناطق الآمنة التي سبق أن تحدث عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. الأميركيون قابلوا هذا الخطوة الروسية المواربة بخطوة مواربة أيضاً من طرفهم، وأرسلوا مسؤولاً رفيع المستوى في الخارجية راقب المؤتمر، لكنه حين أفصح عن رأيه قال نقطة واحدة ذات أهمية، هي أنهم قلقون من دور إيراني مستقبلي في سورية، تشرعنه هذه الاتفاقية.
الأمور بسيطة ومعقدة في سورية في آن معاً، لدى الأميركيين جدول عمل سوري من ثلاث نقاط، هي القضاء على «داعش» و «القاعدة»، وإعادة إيران إلى داخل حدودها، وإزاحة بشار الأسد، لوضع القضية السورية على سكة الحل.
أما الروس، فيتعاملون، بحكم محدودية إمكاناتهم، مع الشأن السوري وفق الحالة، يتقدمون حيث يتاح لهم، ويحجمون عند أول إنذار، ويراعون مصالح حلفائهم وشركائهم الذين لولاهم لما استطاعوا أن يتواجدوا في الشرق الأوسط.
لا يستطيعون أن يضربوا صفحاً عن التعاون مع واشنطن، فمن دونه قد يغرقون في أفغانستان أخرى، وعرضوا خدماتهم بخاصة في النقطة الأولى، أي محاربة «داعش» و «النصرة» مرات عدة، لكنهم اصطدموا بعقبة إيران، ففي ذهن ترامب وإدارته أن وجود المتطرفين السنّة مرتبط باستفحال الميليشيات الشيعية المرتبطة بالولي الفقيه، وأنه يجب إجلاؤها عن الأراضي السورية، وهو إحراج أول للروس، فالحرس الثوري الإيراني وتلك الميليشيات هي من تمسك الأرض تحت طائرات بوتين، وربما كانت خزينة خامنئي هي من تمول تدخله العسكري المكلف، وتستطيع إيران أن تتمرد على الروس في سورية، لكن الروس لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك. ناهيك عن أن إيران حليف استراتيجي لروسيا في مسائل عدة ولا يمكن التفريط بها ببساطة، وربما تم تفصيل اتفاق المناطق الآمنة لحل هذه الإشكالية، بإيجاد صيغة شرعية للوجود الإيراني في سورية، ولعل هذا أيضاً سر مسارعة نظام الأسد لقبول الاتفاقية، غلى رغم رفضه بصوت عالٍ لهذه الفكرة طوال السنوات الماضية.
في النقطة الثالثة أي إزاحة بشار الأسد، فإن الروس أيضاً يجدون صعوبة شديدة في إبداء أي نوع من المرونة إزاءها، فالأسد هو من جلبهم بتعاقد رسمي ومنحهم أجزاء استراتيجية من سورية، هو الغطاء الشرعي الوحيد للتواجد الروسي في البلاد، بخاصة في ظل الخصاء التاريخي المتعمد في عقد القيادة الأسدية، التي تجعل من شبه المستحيل العثور على شخصية عسكرية أو مدنية قادرة على الحلول محل بشار الأسد فيما لو قررت روسيا استبداله بآخر من داخل النظام، ناهيك عن أن ذلك سيمسّ مصالح إيران، التي تعتبر أيضاً أن بقاء بشار الأسد هو ضمانة نفوذها في سورية، وفي غيابه ليس لديها سوى سلاح الميليشيات الطائفية، الذي بات معرضاً للذهاب أدراج الرياح مع الإصرار الأميركي والعربي والإسرائيلي على تفكيكه.
الاختبار الهام للديبلوماسية الروسية التي أثبتت رسوخها وذكاءها في السنوات المنصرمة، هو في مؤتمر جنيف السوري المقبل، إذاً ينتظر الأميركيون، بعد أن سايروا الروس في محادثات آستانة العسكرية، أن يثبت هؤلاء أن لديهم طرحاً جدياً في ما يخص عملية التفاوض السياسي، وأن لديهم إجابات وتصورات واضحة حول مراحل ومآلات العملية السياسية، التي يفترض أن تنتهي بخروج القوات العسكرية الإيرانية من سورية، وخروج عائلة الأسد من السلطة، وهذا يقتضي أن تمارس روسيا نفوذها على هذين الطرفين لإرغامهما على ذلك، وهو أمر إذا حصل فإن روسيا ستكافأ عليه غربياً وعربياً.
أما إن لم تبد موسكو استجابة ذات صدقية، وتقبل الصفقة، فإن واشنطن لديها فائض من الأوراق للعبها، من دعم فصائل المعارضة العسكرية في شكل جدي لدحر المتطرفين والنظام وميليشيات إيران في آن معاً، وهز صورة روسيا واستنزافها عسكرياً وسياسياً، إلى استخدام ملف انتهاكات قوات الأسد وحشد حلف دولي ذي شرعية أممية وحقوقية ضده، والذهاب إلى فرض مناطق آمنة بالقوة بعيداً من نفوذ موسكو، إلى توجيه ضربة قاصمة لإيران عبر إسرائيل في معقل ذراعها «حزب الله» في لبنان، إلى توجيه ضربات أميركية مباشرة لنظام الأسد، وثمة أطراف في الإقليم جاهزة لدفع الكلفة مهما غلت.
إذا وصلت التطورات إلى هذه النقطة فإن الأمور التي كانت تبدو شديدة البساطة ستنتقل إلى مستوى التعقيد الكامل الذي لا يمكن حسابه أو التكهن بنتائجه.
عجلة السياسة الخارجية الترامبية ستبدأ بالدوران قريباً، عندما تكتمل الاستراتيجيات والخطط التي طلبها حول مختلف القضايا، وهو حين سيتوجه للشرق الأوسط أولاً، والى السعودية وإسرائيل تحديداً، فإنه يكشف عن محور سياسته الخارجية وأولوياتها، وهي ايران. وبالنسبة الى الشأن السوري فقد بات أمر رحيل بشار الأسد محسوماً قبل جميع هذه الترتيبات، بفضل رعونة بشار الأسد واستخدامه السلاح الكيماوي مرة أخرى، فالصواريخ الأميركية التي ضربت مطار الشعيرات، تشبه ما يصطلح عليه في العلوم العسكرية بالطلقات التحذيرية، ومعناها أن هذا المكان هدف لهجوم مدمر قادم، وعلى من يريد تجنب الأذى أن يبتعد منه.
واستناداً إلى وجهة النظر السابقة، فإن مناطق خفض التصعيد التي تم تحديدها في آستانة، ما هي إلا حبر على خرائط، ولن تؤدي أو تنتج أي شيء.
ربما يعتبر الجهاديون أنفسهم قدوة للمسلمين، ولا شك أنهم يرفعون شعارات إسلامية عظيمة، لكن من حق بقية العرب والمسلمين أن يتساءلوا بناء على ما وصلت إليه الأوضاع في بلادنا: ماذا استفدنا من التنظيمات الجهادية على مدى عقود؟ ماذا استفدنا من تنظيم القاعدة في أفغانستان؟ ماذا استفدنا من داعش في العراق وسوريا؟ ماذا نستفيد الآن من بقية التنظيمات الأخرى في سوريا وليبيا واليمن، خاصة تلك التي بدأت الآن تتقاتل على الغنائم بشكل مفضوح بعيداً عن أحلام الشعوب بالحرية والكرامة؟
أليس من حق العرب الذين آمنوا بالثورات العربية أن يضعوا ألف إشارة استفهام على ظهور تلك التنظيمات في أخطر مرحلة يمر فيها العالم العربي؟ قد يكون لتلك التنظيمات مشاريعها الذاتية الخاصة، وقد تعتبر نفسها ردة فعل طبيعية على الظلم والطغيان في المنطقة، لكن أليست العبرة دائماً في النتائج؟ ماذا استفاد الحالمون بالحرية في سوريا والعراق واليمن وليبيا في النهاية من الجماعات الإسلامية على أرض الواقع السياسي والدولي؟ ألم تكن تلك الجماعات السبب المباشر في عودة المستعمرين إلى المنطقة بحجة مكافحة الإرهاب؟ ماذا استفادت المنطقة، وخاصة العراق من داعش وغيره مثلاً. هل تراجع النفوذ الأمريكي والإيراني في العراق مثلاً؟ بالطبع لا، فما زالت إيران تتحكم بكل مفاصل العراق، وتتمدد في سوريا ولبنان واليمن والخليج. ومازالت أمريكا تحكم قبضتها على بلاد الرافدين.
والسؤال الأهم: هل فعلاً دخل تنظيم الدولة الإسلامية إلى العراق من سوريا، واحتل محافظة الموصل ومحافظات عراقية أخرى رغماً عن الأمريكيين، أم بتسهيل وغض الطرف منهم؟ ألم تكتشف الأقمار الصناعية الأمريكية بضع عربات روسية دخلت أوكرانيا بسرعة البرق؟ هل يعقل أن تلك الأقمار لم تستطع اكتشاف جحافل السيارات التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية وهي تدخل الموصل وبقية المناطق العراقية والسورية؟ هل يعقل أنها لم تر جماعات الدولة وهي تتنقل داخل سوريا، وتستولي على مدن ومطارات في أرض مكشوفة؟
هل سيسمح العالم، وخاصة الغرب بقيام دولة جهادية بين العراق وسوريا بالطريقة التي تحلم بها التنظيمات الإسلامية المقاتلة؟ ألا يُخشى أن يكون ظهور الجهاديين بكافة تشكيلاتهم خلال الست سنوات الماضية حلقة جديدة في سلسلة المشاريع الجهنمية الغربية المرسومة لمنطقتنا؟ أليس من حق البعض أن يعتبرها مسمار جحا جديداً في المنطقة تستخدمها القوى الدولية كحجة، كما استخدم جحا مسماره الشهير، لإعادة رسم الخرائط وتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ؟
أليس كل الجماعات التي يصفها العالم بـ«الإرهابية» استغلتها القوى الكبرى أفضل استغلال لتنفيذ مشاريعها في أكثر من مكان؟ فعندما أرادت أمريكا تأمين منطقة بحر قزوين الغنية بالنفط، فكان لا بد لها من احتلال أفغانستان. وماذا كانت الحجة؟ ملاحقة تنظيم القاعدة في أفغانستان. ذهبوا إلى هناك منذ أكثر من عشر سنوات ومازالوا هناك. ألم تكن القاعدة هي الشماعة لاحتلال أفغانستان؟ حتى في غزو العراق استخدمت امريكا حجة وجود القاعدة هناك بالإضافة إلى أسلحة الدمار الشامل. ألم تصبح الجماعات المتطرفة شماعة لكل من يريد أن ينفذ مآربه هنا وهناك؟
ألم يوظفوا تلك الحركات جيداً لتحقيق غاياتهم الاستراتيجية؟ فبحجة الجماعات الإرهابية أصبحت كل منطقتنا مستباحة أمام القاصي والداني كي ينفذ كل ما يريد بحجة مكافحة الإرهاب؟ اليوم بإمكان الأنظمة الدولية القيام بكل الجرائم و الموبقات والخطط في المنطقة بحجة محاربة داعش والتنظيمات الجهادية، وبذلك تلقى دعماً كاملاً من شعوبها خوفاً من داعش، ولن يعارض أحد، لأن كل من يعترض يشتبه بصلته بمن يسمونهم الإرهابيين. وحتى لو بقي الجهاديون، وتمددوا كما يتوعد مؤيدوهم، هل سيكون ذلك مجاناً، أم على حساب جغرافية المنطقة وخريطتها؟
ما هي الصفقات الدولية والعربية والإقليمية التي تتم من وراء الستار تحت شعار مكافحة إرهاب الإسلاميين؟ ألا يخشى أنه كلما ازداد تضخيم الجماعات الجهادية إعلامياً كانت المنطقة على موعد مع خازوق تاريخي من العيار الثقيل؟ ألم يتم من قبل تضخيم خطر القاعدة، ثم انتهى قائدها مرمياً في البحر للأسماك؟ أليس من حق الكثيرين أن يخشوا الآن من تكرار السيناريو المعهود في سوريا ودول أخرى مجاورة تحت حجة مكافحة الإرهاب الداعشي؟ ألم يؤد ظهور التنظيمات الإسلامية المقاتلة وأخواتها في عموم المنطقة إلى وأد الثورات العربية وأحلام الشعوب بالتحرر من الطغاة وكفلائهم في الخارج؟ ألا يؤدي إلى إنهاك المنطقة وشعوبها واستنزافها وتمزيقها؟ ليس صحيحاً أبداً أن ضباع العالم لم يكونوا بحاجة للجماعات الإسلامية كي يبرروا تدخلهم في المنطقة، ويعيدوا رسم خرائطها والهيمنة على ثرواتها المكتشفة حديثاً؟ وليس صحيحاً أنهم كانوا قادرين على الدخول إلى المنطقة بهذه الفجاجة لو لم يتحججوا بداعش وأخواتها؟ أليس من حق الشعوب أن تكرر السؤال القديم: هل الجماعات الإسلامية حركات ثورية فعلاً، أم إن سادة العالم يستخدمونها دائماً كشماعة إما لإجهاض التغيير والقضاء على أحلام الشعوب في الحرية والتحرر من الظلم والطغيان، أو كمسمار جحا لإعادة تشكيل المنطقة حسب المخططات الاستعمارية الغربية الجديدة؟
لا شك أن القوى الكبرى كانت تستطيع على مدى التاريخ اختراع الذرائع لاستعمار هذا البلد أو ذاك، وكان بإمكانها أن تجد أي ذريعة أخرى لتدمير بلادنا وتفتيتها واستعمارها غير الإسلاميين، لكن ألم تستخدم هذه المرة ذريعة الإرهاب الإسلامي الذي تمثله الجماعات الجهادية كي تفعل فعلها في هذه المنطقة؟
تصرّف فلاديمير بوتين ببراعة غير عادية. حوّل الأزمة السورية فرصة روسية. يمكن القول إنه تصرّف كصياد ماهر. تخطئ إذا بكرت في التسديد. وتخطئ إن تأخرت. لا بدّ من التسديد في اللحظة المناسبة.
ويمكن القول إن سيرغي لافروف ترجم ببراعة خيارات سيد الكرملين. دعك من مئات آلاف القتلى وملايين اللاجئين والنازحين. صناع السياسات الكبرى لا يذرفون الدموع ولا يتسلّحون بالمناديل. على نار الحريق السوري، أنضج بوتين معركة استعادة الهيبة. استخدم كلَّ الأسلحة بلا استثناء. صرّح وأوحى ولمّح. وأطلق تسميّات وأفرغها من مضمونها. تقدّم وتراجع والتف. ولا غرابة في ذلك، فالتضليل جزء من هذه المواجهات المعقدة.
استخدم بوتين أهوال المسرح السوري ليسجّل اعتراضه على عالم القوة العظمى الوحيدة. ثم راح يحاول تحويل الاعتراض إلى انقلاب. استثمر إلى أقصى حدّ وجود رئيس أميركي انسحابي الميول تحت وطأة «العقدة العراقية». انتظر اقتراب النظام من حافة الهاوية ليمدّ له حبل الإنقاذ عبر التدخل العسكري المباشر. ومنذ تلك الساعة لا يمكن صناعة حل لا يحمل بصماته.
ما كان ممكناً في ظل عهد باراك أوباما لم يعد ممكناً في عهد دونالد ترمب. على الأقل حتى الآن. التقط بوتين الفرصة. بحث عن نقطة يمكن أن تكون جاذبة لإدارة ترمب والدول المجاورة واللاعبين الإقليميين والأسرة الدولية. وقع خياره على «المناطق الآمنة» أو على «المناطق المخففة التصعيد»، وفق التسمية الوافدة من آستانة.
تكاد «المناطق الآمنة» تكون مطلب معظم اللاعبين أو المعنيين، حتى وإن اختلفت القراءات لحدودها وطبيعتها وما يفترض أن يليَها. لتركيا والأردن ولبنان مصلحة فعلية في قيام هذا النوع من المناطق. ستشعر هذه الدول بأن اللاجئين السوريين لن يتحولوا عبئاً دائماً. ستفتح هذه المناطق ملف عودة السوريين إلى ديارهم أو ما تبقى منها.
إدارة ترمب تحدثت هي الأخرى عن ضرورة قيام هذه المناطق، لتخفيف معاناة الناس من ويلات القصف، ولتمكين التحالف الدولي من الاهتمام بتصعيد الحرب على الإرهاب. يضاف إلى ذلك أن إدارة ترمب لمّحت إلى استعدادها للقبول بسوريا الروسية إذا كانت ستقوم، ولو تدريجياً، على أنقاض سوريا الإيرانية. الأمم المتحدة تريد أيضاً قيام هذه المناطق لتخفيف أزمة اللاجئين والتمكن من القيام بأعمال الإغاثة، خصوصاً في المناطق المحاصرة.
المعارضة تريد أيضاً المناطق الآمنة، علَّها تكون فرصة لالتقاط الأنفاس بعد ما تعرضت له من ضربات قاسية على يد النظام وحلفائه. وطبيعي أن تثير المعارضة نقاطاً من نوع التساؤل عن قدرة إيران على لعب دور الضامن مع الاستمرار في دور المحارب. وعن علاقة «المناطق الآمنة» بضرورة الحل السياسي استناداً إلى القرارات الدولية.
لا بد هنا من الالتفات إلى أن التأييد الواسع لفكرة «المناطق الآمنة» لا يحجب اختلاف التفسيرات لحدودها ودور المراقبين فيها، وعلاقة هذه الخطوة بالحل الشامل. تركيا مثلاً تريد مناطق آمنة من دون مسلحين من الأكراد. والأكراد يريدون هذه المناطق بلا قصف تركي.
أغلب الظن أن إيران كانت تفضل حدوث مزيد من «الترتيبات» في محيط دمشق والغوطة قبل قيام المناطق التي يجري الكلام عليها. لكن منحها دور الضامن قد يكون دفعها إلى القبول. أما النظام، فكان يفضل بالتأكيد الانتصار الكامل، لأنه يعرف أن الانتصار الناقص لا بد من أن ينعكس على طاولة جنيف.
يمكن قراءة فكرة المناطق بطريقة أخرى. تحمل في جانب منها بصمات براعة لافروف. الانهماك بترتيبات «المناطق الآمنة» سيعيد موضوع مصير بشار الأسد إلى الصف الثاني، بعدما كان في الواجهة خلال الأسابيع الماضية. والحقيقة أن موسكو لم تغير موقفها في هذا الموضوع. فهي تقول إن على من يريدون محاربة الإرهاب وفتح الباب لخروج الميليشيات الإيرانية من سوريا، والذين يطالبون بجولان آمن، أن يسألوا عن الجهة القادرة على ضمان ذلك، وهي الجيش السوري إذا تلقى الدعم اللازم. وتقصد روسيا الجيش السوري في ظل الأسد الذي تشترط إدارة ترمب أن يكون بقاؤه مربوطاً بمرحلة انتقالية.
ثمة حقيقة جديدة وهي أن إدارة ترمب أوحت في الأيام المائة الأولى من ممارستها بأنها أعادت إحياء تحالفاتها القديمة في المنطقة، والتي اضطربت بفعل «السياسات الأكاديمية» لأوباما. إننا أمام قراءة أميركية جديدة لأهمية التحالف مع الرياض، وهو ما يؤكده افتتاح ترمب جولاته الخارجية بزيارة السعودية ولقاءاته الموسعة هناك. وهناك أيضاً القراءة الأميركية لدور مصر في المنطقة، فضلاً عن التحالف مع إسرائيل. وكان لا بد لبوتين من أن يستبق هذه المشاهد كلها بمحاولة تقديم نفسه في صورة القادر على بلورة حل في سوريا يوزع الضمادات والضمانات انطلاقاً من «المناطق الآمنة».
أي نجاح لبوتين في جعل «المناطق الآمنة» محور الاهتمام لدى المعنيين بالأزمة السورية وتحصينها بإعادة إطلاق عملية جنيف، سيعني أن الصياد الروسي ما زال قادراً على التسديد في اللحظة الملائمة. طبعاً مع الالتفات إلى أن شروط الرقص مع ترمب تختلف عن شروط الرقص مع سلفه، ما يجعل الإسراف في ممارسة البراعة خطراً كالافتقار إليها.
تحبّذ الأمم المتحدة استخدام تعبير "مناطق وقف التصعيد" على مصطلح "المنطقة الآمنة" حيث إن تجربتها بين عامي 1993 و1995 في سيريبرنتشا شرق صربيا كانت كارثية. مجزرة بحق آلاف المسلمين ارتكبها الجنرال الصربي ملاديتش تحت مرأى القوات الهولندية – الأممية التي كان واجبها حفظ أمن المواطنين آنذاك... وقد فشلت حينها. واستذكر المجزرة صراحة المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة استيفان دوجاريك، أثناء إبداء الموقف الأممي من اتفاق أستانا 4.
لكنّ ما تفضله الأمم المتحدة من تسمية على أخرى، إنما يختلف في المضمون والتعريف والوظيفة. فلم تعد المسألة مسألة تسميات ومصطلحات بل تتعادها بتداعياتها الآنية والمستقبلية. اتفاق أستانا 4 الذي انتهى بالإعلان عن وقف التصعيد في المناطق الأربعة يحمل في طيّاته تفاصيل سياسية وعسكرية أكثر من "حمامة سلام" ترفرف في أجواء سوريا المأزومة.
الفرق بين المصطلحين جوهري. فـ"المنطقة الآمنة" هي منطقة لا يتم فيها إطلاق رصاصة واحدة ويعيش فيها المدنيون بأمان وتتم حمايتهم عبر طرف ثالث بغطاء أممي، ويفرض في أجواء هذه المنطقة حظر للطيران.
أما منطقة وقف التصعيد، فهي تعمل على الحدّ من الاشتباكات والحدّ من تحليق الطيران وتخفيض وتيرة العمليات على أن تكون هناك حواجز أمنية فاصلة بين طرفي النزاع عادة داخل المناطق عبر طرف ثالث (على الأرجح روسيا، التي هي أصلا طرفا بالنزاع) كما يتم وضع لجنة مراقبين لوقف التصعيد، لا لمنعه أو منع حدوثه.
طبعاً، كانت الأمم المتحدة لترحّب بالتوصّل إلى أيّ اتفاق يحمل عنواناً أكثر إيجابية من الوضع الحالي ولو بالشّكل. فدورها "الداعي إلى إحقاق السلام" يتحتّم عليها الترحيب بأي اتفاق يحمل في طياته تخفيض التوتر.
العنوان رنّان وجذّاب، ولا يمكن المبادرة إلى رفضه دولياً وإعلامياً بدون حجة قوية لأيّ من الدول. وهنا تُطرح تساؤلات حول هذا الاتفاق وظروفه ونجاعته.
روسيا بهذه النتيجة، كلّلت مساعيها في لعبة الأمم للتوصل إلى "اتفاق" في أستانا، لو بعد أربع دورات. وهذا الاتفاق الذي استبعد أو استبعدت نفسها منه واشنطن وحضرته بصفة مراقب، كرّس الوجود الروسي بسوريا.
كما أنّه ثبّت وضعا عسكريا قائماً، وعلّق بعضاً من هذه الحرب لفترة من الوقت. ولكنّ اختيار المناطق الأربعة ليس اعتباطياً، كما أنّ مصادر في المعارضة ـ والتي ترفض هذا الاتفاق ـ تؤكد أن الخرائط حول تقسيم المناطق أحاديّة وتفصّلها روسيا على مقاس مصالحها والتي تمرّ بالنظام.
ففي درعا، أعطى الاتفاق راحةً للنظام بأنّ العمليات الهجومية ضد مواقعه جنوب سوريا ستتوقف.
وفي دمشق، فإنّ الهجوم المباغت الذي شنته الفصائل المعارضة والتي اقتربت فيه فعليا من العاصمة في الشهور الأخيرة، لن يتكرّر بتطبيق هذا الاتفاق.
أما إدلب، فهي أصلا بمعظمها خارج سيطرة النظام وتم ضمها لهذه المحافظات لإعطاء بعض من "الصدقية" وإظهاره على أنه غير "أحاديّ المصلحة".
كما أنّ الإيرانيين وقّعوا على هذا الاتفاق وهم طرف أساسي في الحرب.. وفيما المكاسب السياسية لإيران منه غير معلومة بعد، وغير واضحة... فإنّ ذلك يُرجّح نظرية المكاسب العسكرية كالتي تمت الإشارة إليها في الفقرة السابقة من هذا المقال. وبالتالي يتقاطع ذلك مع تصريحات المعارضة بأنّ هذا الاتفاق هو "انتصار عسكري للنظام". وما يعزّز هذه الفرضيّة أكثر من غيرها، هو أنّ النية من اتفاق أستانا ليست بإنهاء الحرب بل بتعليقها، وإلا كان ليكون الاتفاق على كامل الأراضي السورية وليس انتقائياً وفق الخطة الميدانية. إضافة إلى أنّ الساعات الأولى من دخوله حيّز التنفيذ شهدت سلسلة خروقات (بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان) عبر براميل متفجرة وقذائف صاروخية ومدفعية في ريف حماه الشمالي واشتباكات على أكثر من محور، كما قصف في شرق دمشق، وفي ريف حلب الشمالي.. بين النظام وحلفائه من جهة والفصائل المعارضة من الجهة الأخرى (ولم يكن القصف والمعارك يستهدف داعش لإيجاد مبررات).
أما أنقرة، فيزداد الشرخ بينها وبين واشنطن ويلتئم تباعاً مع موسكو. قضية إسقاط الطائرة الروسية تم حلّه، أما الأوضاع مع الأميركيين فتزداد تعقيدا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة ورفض واشنطن تسليم فتح الله غولن، وما تلاه من دعم أميركي متزايد لقوات سوريا الديمقراطية ورفض أنقرة الشرس له (بسبب موقفها من الأكراد)، وصولا إلى اللقاء الأخير بوتين - أردوغان.
بالخلاصة، فإنّ استبعاد مصطلح "المنطقة الآمنة" واستخدام "مناطق خفض التوتر ووقف التصعيد" إنما يشير إلى وضوح البعد السياسي – العسكري للاتفاق، الذي لا يصبّ إلا في مصلحة محور عرّابي "أستانا". والشرح يكمن في التسمية وتفاصيلها.
يساهم الإعلام في صنع الكثير من الأحداث، لتدخله غالباً في بناء المفاهيم وتغيير القناعات للكثير من الناس، مما يؤدي إلى التحكم بقراراتهم والتنبؤ ببعض تصرفاتهم في المستقبل.
فهو قادر على صنع الحرب كما هو قادر على صنع السلام، قادر على تفتيت المجتمعات كما هو قادر على لم شملها، قادر على الهدم كما هو قادر على البناء.
لذلك استطاع صناع القرار في الدول القديمة والحديثة السيطرة على الشعوب بتحكمهم به وتوجيهه لخدمة مصالحهم.
ساهمنا جميعاً كعاملين في هذا المجال دون استثناء في التحكم بقناعات الكثير ممن اتخذ قراراته وتوجهه وفق تلك القناعات، ساهمنا دون شعور في تعزيز الفصائلية والتقسيم، وساهم بعضنا بالتحريض على القتل بين الفصائل، وتهجير بعض أبناء الثورة وأصبحوا في عداد المطلوبين “للثورة” نفسها وهم الذين انحدروا منها، وأصبحنا كمن أطلق النار على قدميه حتى عجزنا عن متابعة المسير.
قسمنا المجتمع وفرقناه وفق الفصائلية التي لم يسلم منها إلا القليل وأدخلناها لكل بيت بما نبثه من معلومات للمتابعين فانقسموا بانقسامنا وتقطعت وسائل التواصل بين الجميع.
لا شك بأن عودة عقارب الساعة للخلف أصبح ضرباً من الخيال، لكن علينا فعلاً اليوم مراجعة أنفسنا وقراراتنا وكتاباتنا وأفلامنا الوثائقية وخطبنا، والبحث عن الأسباب الحقيقة لتفرقنا، تبدأ تلك المراجعة بقراءة واقعنا واﻻستفادة من أخطاءنا لترميم ما يمكن ترميمه، والحفاظ على ما تبقى والسعي لعودة من هرب خوفاً من بطش الخصوم وانقاذه من الارتماء في أحضان الأعداء ليكون عينهم علينا ويدهم التي ستبطش بنا إن تثنى لهم ذلك، عندما يرمي لهم الداعم بعض المال فيذهبوا لتفشيل ومهاجمة أي حركة أو تشكيل يؤسس بعيداً عن أعين داعميهم الذين تحولوا لأدوات بين أيديهم بل كانوا أبواقاً رخيصة تنطق باسمهم.
فلنساهم جميعاً في صناعة الوعي ولنتوقف عن الترويج لأصحاب المغامرات والمعارك “الدونكيشوتية”.
الأمر يتطلب منا بعد هذا الكلام والمراجعات الفكرية خطوات عملية حقيقية، تضعنا كنخبة مثقفة أمام مسؤولياتنا، وجماهير شعبنا لنكون الضامن الفعلي لاستمرار الثورة والتي كان “الإعلام” الركيزة الأساسية لاستمرارها بعد محاولات قتلها في مهدها.
الحقيبة مليئة بالأمنيات من محاسبة الموتورين، وضبط العمل الصحفي، إضافة للتنسيق البيني، والابتعاد عن مفهوم الإعلامي الفصائلي إلى الإعلامي الحر، وغيرها من الضوابط هي صمام الأمان.
كذلك الاستفادة من خبرات وآراء الشباب ووضعها ضمن قالب يفيد العمل الثوري، وإرساء قيم المجتمع العربي السوري وثقافته وتقاليده تقع على عاتقنا.
كل ذلك يحتاج منا أن تتظافر جهودنا، واستيعاب أكبر عدد ممكن من المشاركين ووسائلهم ليخرج العمل إلى حيز النفيذ، ولا يبقى كلاماً في سياق الأحداث، يؤرخ له بلا فائدة، وما لم تتضافر الجهود وتتوحد لإرساء هذه القيمة النضالية التي سوف يكون لها الأثر الكبير في حياة شعبنا سوف نبقى عالة وأدوات بيد الغير يوجهنا كيفما شاء
عشية نهاية الجولة الرابعة من مفاوضات آستانة، وزع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تقريراً قال فيه: «إن النساء والفتيات هن أكثر الفئات عرضة للتأثر في سياق تفتيش المنازل وعند نقاط التفتيش وفي مرافق الاحتجاز، بعد اختطافهن من القوات الموالية للحكومة وفي المعابر الحدودية». وأشار التقرير إلى العنف الجنسي كأسلوب «منهجي» في الحرب السورية.
والتعبير الأخير، «أسلوب منهجي»، لم يسبق أن ورد في أي تقرير أممي يتناول حروب منطقتنا، على رغم أن عنفاً جنسياً شهدته حروبنا الأخرى، لكنه لم يكن منهجياً. و «منهجياً» تعني أن لهذا العنف وظيفة سياسية وعسكرية، وهو جزء من منطق الحرب ومن وظائف المقاتل فيها. البوسنة، في التقارير الدولية، شهدت عنفاً جنسياً منهجياً مارسته الميليشيات القومية الصربية بحق السكان البوشناق، وكانت وظيفته استئصالية وتتمثل في هز علاقة السكان بالمناطق التي يعيشون فيها، ودفعهم إلى مغادرتها عبر تصويرها مسرحاً لاغتصاب النساء البوشناقيات.
التقرير الأممي الذي وُزع عشية انتهاء مفاوضات آستانة قال إن في سورية عنفاً جنسياً منهجياً، وأشار إلى القوات الحكومية، وفي مكان آخر إلى «داعش»، وبما أن التنظيم خارج نطاق المفاوضة في آستانة وفي غيرها، يبقى على المرء أن يتأمل في حال المفاوضات وقد جلس على منصتها طرف يقول التقرير الأممي أنه يمارس عنفاً جنسياً منهجياً.
من المؤلم فعلاً أن يُوضع سوريون على طاولة مفاوضة مع طرف لم يوفر نوعاً من أشكال القتل إلا استعمله في سياق حربه عليهم. وهو طوّر أشكال القتل عبر خيال خصب على هذا الصعيد. فالحرب في سورية أنتجت قاتلاً «مُبدعاً» وسباقاً. البراميل المتفجرة التي تلقيها الطائرات نموذج عن علاقة النظام برعيته، ذاك أن البراميل لا تصلح لحرب جبهات، لأن أهدافها غير الدقيقة ليست مقاتلين متحركين، إنما مدنيون يسقط البرميل في شكل عمودي فوق رؤوسهم. وفي فكرة البرميل، يتكثف الحقد ويتحول فعلاً سياسياً على طاولة المفاوضات. مفاوض النظام يقول: هذا أنا وهذه قوتي. أسلحة كيمياوية وبراميل متفجرة، وأخيراً عنف جنسي منهجي. وكل هذا موثق بتقارير أممية لا يرقى إليها شك.
«داعش» فعل ذلك في المدن التي حكمها. العنف الجنسي المنهجي أخذ شكل سبي نساء هناك. وهو استعاض عن فكرة السقوط العمودي للبرميل المتفجر من السماء إلى الأرض، بسقوط عمودي مواز، يتمثل بإلقائه مواطنين عُصاة عن سطوح المباني. لكن «داعش» لم يُدعَ إلى طاولة مفاوضة. هو عدو مطلق للبشرية، ولا مكان له في قاعات البحث عن مستقبل. وهنا تكمن القسوة الممارسة بحق السوريين، أي في عدم اعتبار عدوهم الآخر، أي النظام، عدواً مطلقاً. يُمكن أميركا وأوروبا أن تعتبراه عدواً مطلقاً لقيمهما، وهما قالا ذلك، وكرراه. لكن على السوريين أن يكونوا «واقعيين» ويفاوضوا من ترفض أميركا وأوروبا مفاوضته.
ليست هذه دعوة إلى مغادرة طاولة المفاوضات سواء في آستانة أم في جنيف، إنما لعرض القسوة التي تنطوي عليها طاولة المفاوضات تلك، ولعل ذروة هذه القسوة أن يجلس مفاوض في مقابل ممثل النظام بشار الجعفري. ففي وجه ذلك الرجل، تتكثف ملامح التعالي التي ترمز إليها كل أساليب القتل التي يُمارسها جيشه في سورية. هو وجه أبو مصعب الزرقاوي في مشهد ذبحه رهينة، مع فارق غير طفيف، يتمثل في أن الأخير يحمل سكيناً بيده، فيما الثاني يعقد ربطة عنق من دون أن يُخفي سكينه عن أحدٍ.
في هذه اللحظة، تشهد مفاوضات آستانة اختراقاً. روسيا تعلن عن مناطق آمنة ومحظورة على الطيران، وتُلمح إلى إمكان انسحاب الميليشيات الإيرانية في مرحلة أخرى من الهدنة. وتركيا تطلب من المعارضة السورية القبول بأن تكون طهران طرفاً في مراقبة تطبيق الهدنة في حربٍ هي طرف فيها!
الإرهاق بدأ يظهر على وجوه الجميع. القاتل مرهق أيضاً، وأكلاف الحرب في ظل الاختناق الاقتصادي والأثمان البشرية بدأت تُثقل عليه. النظام في أسوأ أيامه على ما يبدو، ونقطة قوته الوحيدة اقتناع العالم بأن المعارضة عاجزة عن أن تكون بديلاً، لا بل عاجزة عن أن تنتظم في سياق من التسوية التشاركية. وهذه هي صورة الاختناق السوري، واختناق العالم في سورية.
توزيع التقرير الأممي عن العنف الجنسي المنهجي جاء تتويجاً لمفاوضة بين نظام قاتل على نحو معلن، ومعارضة مفلسة ومُرتهنة كشفت أطراف فيها عن أنها سليلة قيم النظام وشبيهته إذا ما قُيض لها أن تحل محله.
المُغتصَبة والمُغتصَب السوريان خارج ذهول العالم من النظام القاتل. فالقيم اهتزت حين شطبت صور غاز السارين في خان شيخون وجه العالم. لا صور للعنف الجنسي المنهجي الذي أشار إليه التقرير الأممي أخيراً. إذاً، لا ذهول ليرافق توزيع التقرير. الذهول لم يُحدثه الفعل، أي القصف بغاز السارين، إنما أحدثته حقيقة أن العالم عاين ما حصل.
هذا درس لنا جميعاً في لعبة موازين القوى. فالسياسة في الحروب هي أن تملك القدرة على تحمل مفاوضة قاتلك. أن تجلس في مقابل بشار الجعفري، وأن تصاب بالنعاس أحياناً. أن لا تغضب من أن العالم اكترث لضحايا الكيماوي ولم يكترث لضحايا الاغتصاب المنهجي. ففي المرة المقبلة، وهي مقبلة لا محالة، عليك أن تُصور الاغتصاب كما صورت ضحايا غاز السارين.
هنا تنتصر الضحية، حتى لو كان المفاوض عنها على هذا المقدار من الارتهان. الضحية حين تحول الصُراخ والألم إلى طاقة لاستدراج العالم إلى موقعها، تُحقق اختراقاً لا يستطيع تحقيقه مفاوض مقيد بشروط مستتبعيه. لطالما نجح سوريون في فعل ذلك، ولطالما سقطت فصائل إسلامية معارضة في التماهي مع النظام.
قال بنيامين نتانياهو عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى: «إن الفلسطينيين نجحوا في تصويرنا للعالم بأننا قتلة، وهكذا انتصروا علينا». أفعال النظام في سورية فاقت بمئات الأضعاف أفعال الجيش الإسرائيلي في تلك المرحلة. النظام في سورية أقل حساسية حيال «الضمير العالمي»، لكن ما كشفته خان شيخون هو أن لا أحد محصن، وأن تصدعاً أصاب منظومة القتل نتيجة ذهول العالم. إنه تصدع لن يطيحها، لكن مفاوضات آستانة كشفته.
لا تستعجلوا الحكم، خطة الملاذات الآمنة في سوريا ليست سيئة أبداً لكن، كما ذكر أحد المعلقين، في التفاصيل تكمن الشياطين.
عندما طُرحتْ قبل سنوات فكرة تخصيص مناطق للفارين من القصف والحرب، سريعاً عارضها النظام السوري ومعه إيران وروسيا. ثم ساعدهم الرئيس الأميركي السابق متحججا بأنها غير عملية.
بعدها ضاعفت القوى الثلاث، نظام الأسد وإيران وروسيا، من عمليات تدمير المدن بشكل واسع جداً، كانت تهدف إلى تضخيم عدد اللاجئين وتصدير المشكلة إلى الخارج. وبالفعل بلغت أعداد المشردين وعابري الحدود أرقاما قياسية في تاريخ الحروب، نحو مليونين ونصف مليون لاجئ سوري في لبنان والأردن، ومثلهم فر إلى تركيا. وفي عام واحد زحف مليون لاجئ سوري إلى أوروبا عبر تركيا بشكل لم تشهد له القارة مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية، واندس بينهم عناصر من تنظيمات إرهابية ومخابرات النظام. وبالفعل عمّ العالم الخوف من اللاجئين السوريين.
ضغط الأوروبيون يطالبون بإقامة ملاذات للاجئين داخل سوريا، إلا أن الروس رفضوها. اعتبر حلفاء الأسد الملاذات لعبة سياسية معاكسة تهدف إلى إقامة كانتونات مستقلة.
واستمر النظام يقصف جواً، بهدف تهجير ملايين الناس من الحواضر ذات التجمعات البشرية الكبرى. حلب، أكبر المدن، لم يتبق فيها سوى نسبة صغيرة من السكان. وبعد إغلاق كل الحدود صار في داخل سوريا اليوم نحو سبعة ملايين مشرد، وخمسة ملايين لاجئ في الخارج، الأكبر في التاريخ المعاصر.
تغيرت الإدارة الأميركية، وغير دونالد ترمب سياسة بلاده حيال الصراع في سوريا، وحكومته تتميز بأن من بين قياداتها جنرالات عملت ميدانيا في المنطقة تعرف حقائق الأرض. عاقبت الإدارة نظام الأسد وحلفاءه، بقصفها مطار الشعيرات، إيذاناً بسياستها الجديدة، وطالبت بمناطق آمنة على الخريطة.
صحيح أن هذه الفكرة قديمة، منذ نحو ثلاث سنوات، لكن المفاجئ أنه تم تطبيقها سريعا وفي أقل من أسبوع من الكشف عنها! خطوة تؤيدها القوى المعنية، الأميركية والروسية وتركيا والخليج والأردن، وتعارضها بشدة إيران ونظام الأسد.
من دون أن نغفل التفاصيل المقلقة والسلبية، فإن الخطة جيدة. اعتماد الملاذات يعني أولاً أن مصير الشعب لم يعد تحت رحمة ثلاثي دمشق، إيران وروسيا. أصبحت هناك شرعية على أرض سوريا بتكليف الدول الأخرى مثل تركيا والولايات المتحدة.
ثانياً، الملاذات توقف مشروع تصدير اللاجئين الخطر على استقرار الأردن وتركيا ولبنان وأوروبا، والذي خطط له معسكر دمشق الشرير.
ثالثاً، وقف عملية التغيير الديموغرافي التي ترسمها إيران، مع الأسد، بإعادة ترتيب المناطق طائفياً، وتؤمن السيطرة على المناطق الاستراتيجية، وتبني ممراً جغرافياً يربط مستعمرات إيران الجديدة ببعضها، العراق وسوريا ولبنان.
ورابعاً، ستعطي الملاذات المعارضة السورية المدنية فرصة لأول مرة للعمل سياسيا على الأرض.
رغم ذلك للملاذات مخاطر محتملة، فهي قسمت خريطة سوريا سياسيا. أعطيت أميركا المناطق التي تهم أمن حلفائها، الأراضي المتاخمة للأردن وإسرائيل والأكراد. وأعطيت موسكو مناطق محاذية للبنان وأخرى تقطنها الأقليات وفيها قواعدها الروسية. أما تركيا، فقد أوكلت بالمنطقة المتاخمة لها.
ومن المخاطر المُحتملة أن تتسلل إليها الجماعات الإرهابية وتجند من سكانها، وتتحول إلى قضية عالمية. كذلك لن يكون سهلا تأمين الحاجات المعيشية والأمنية للمناطق المزدحمة، مما سيجعل السيطرة عليها صعباً وقد ينتقل الاقتتال إلى بعضها. ومن دون حل سياسي، أو انتصار عسكري حاسم، الملاذات ستصبح مثل معسكرات اعتقال لملايين الناس. ورغم هذه المخاطر، تبقى ضرورة لوقف المأساة الإنسانية، وتخليص ملايين الأبرياء من براثن النظام وحلفائه. وقد وأدت هذه الخطوة الحل الذي فرض قبل شهرين بتتويج النظام حاكماً بقوة الاعتراف الدولي، وستدفع الجميع للبحث عن حل معقول بديل.
شيئاً فشيئاً تتحول الاجتماعات في العاصمة الكازاخستانية أستانة إلى بديل لمفاوضات جنيف. صممت هذه الاجتماعات وأخرجتها الدبلوماسية الروسية، بالتنسيق مع طهران والنظام في دمشق، ثم جذبت إليها تركيا، ولاحقاً المعارضة السورية وموفد الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا. وبينما يتردّد دائماً أن الهدف من الاجتماعات هو وقف إطلاق النار وتنظيم هدنات، تعمل موسكو على منح صفة سياسية لهذه الاجتماعات، ابتداء من تصويرها "مطبخاً خلفياً" لمفاوضات جنيف، وأنها تشقّ الطريق وتمهدها أمام تلك المفاوضات. ومن أجل تغليب الطابع السياسي على هذه الاجتماعات، فإن نظام دمشق يتمثل فيها بوفد سياسي، هو نفسه الوفد إلى جنيف، مضافاً إليه مستشارون عسكريون وأمنيون، بينما يقتصر تمثيل المعارضة على قادة فصائل المعارضة.
شيئاً فشيئاً، وأمام انعدام المبادرات من أصدقاء سورية، فإن استئناف مفاوضات جنيف أصبح مرهوناً بما يجري في أستانة، والأولوية هي هناك. وابتداء من الأربعاء الماضي (3 مايو/ أيار الجاري) عقدت جولة رابعة، من دون رؤية أية نتيجة على الأرض للاجتماعات السابقة سوى تهجير المدنيين من ريف دمشق ومن حمص، وسوى تواصل قصف الطيران مناطق سكنية في إدلب ودرعا، ومشافي ومراكز الدفاع المدني هنا وهناك. حتى صباح الخميس، كان وفد المعارضة يرفض الانضمام إلى الاجتماعات لعدة أسباب، من أبرزها أن الطرف الذي يقدّم نفسه ضامناً لاتفاق وقف إطلاق النار، وهو روسيا، لا يتوقف قصف طيرانه على مرافق مدنية.
يُعيد البيان الذي أصدرته المعارضة التذكير باتفاق تركي روسي على وقف إطلاق النار جرى في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وتم إيداع وثائقه في الأمم المتحدة، لكن النظام وحلفاءه لم يسبق أن التزموا بما يتم الاتفاق عليه.. والمؤسف أن الطيران الروسي طرفٌ أساسٌ في الخروق الجسيمة.
في الدورة الجديدة لاجتماعات أستانة، تقدّم الطرف الروسي خطوةً أخرى، طارحاً فكرة تتلاقى مع المقترح التركي والأميركي، ومع مطلب المعارضة إنشاء مناطق آمنة. وقد جاءت مبادرة موسكو هذه لقطع الطريق على واشنطن، وعلى اللقاء بين الرئيسين دونالد ترامب ورجب طيب أردوغان، قبل أن تتبلور فكرتهما نحو المناطق الآمنة. وقد جاء الطرح الروسي ليستبدل مطلب مناطق آمنة، وكذلك ليستعيض عن مطلب وقف إطلاق النار، بمقترح مناطق تخفيف التصعيد، وهي تسميةٌ مخاتلة تسمح بالتنصل من الالتزامات، ما دامت الأمور غائمةً على هذا النحو. إذ بعد 74 شهراً من إطلاق النيران، بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة، وبغير توقف، فإن وقف إطلاق النار لا يمثل بعد هدفاً راهناً، بل المطلوب تخفيف التصعيد فقط، ما يثير تساؤلاتٍ جدّية حول: كيف يمكن قياس تخفيف التصعيد، وما هي معايير التصعيد، ومحدّدات تخفيفه؟ يتحدّث المقترح، كما تم تسريب بعض بنوده، عن دول ضامنة، ودول قد تشارك في قوات فصل. ومن بين الدول الضامنة إيران التي أعلن مسؤولون فيها، عشية اجتماعات أستانة، عن إرسال مزيدٍ من القوات الإيرانية البرية إلى سورية، من أجل مواصلة "الجهاد المقدّس" فيها.
استرعى الانتباه أن الرئيس التركي، أردوغان، الذي عقد لقاء قمة مع الرئيس فلاديمير بوتين، تزامناً مع افتتاح اجتماعات أستانة، أبدى تأييداً مبدئياً للطرح الروسي، مُذكّراً أنه لطالما دعت بلاده إلى هذا المطلب، من دون الدخول في تفاصيل، وقد تسرّب أن أنقرة طلبت إضافة منطقة رابعة في ريف اللاذقية إلى المناطق الثلاث التي اقترحتها موسكو في ريف دمشق وإدلب وريف حماة. ومع توارد الأنباء عن وثائق أربع أعدّتها موسكو، فالثابت أن الجدل حولها سوف يستغرق وقتاً، وكذلك الجدل لدى البدء بتطبيقها، إنْ قُيّض لهذا التطبيق أن يتم. لكن، هل سيتوقف إطلاق النار خلال ذلك؟ ليست هناك أية ضمانة على الإطلاق، بالنظر إلى تجارب عديدة سابقة. هل سيتوقف استهداف المدنيين والمرافق المدنية؟ لا ضمانة، فلم يسبق لهذه الاجتماعات أن حرّمت استهداف المدنيين والمرافق المدنية أو جرّمته، علماً أن بعض ما سُرّب من وثائق إلى وسائل الإعلام يتضمن "مواصلة القتال ضد جبهة النصرة والأشخاص والجماعات والمنظمات التابعة لها"، وهي صيغةٌ تسمح، وقد سمحت من قبل، بادّعاء إيران ومليشياتها، وكذلك من النظام، أن كل فصائل المعارضة هي على هذه الشاكلة. وذلك في وقت تُطلق فيه أيدي مليشيات إيران اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية، إضافة إلى الحرس الثوري، لخوض "جهادها المقدّس" ضد الشعب السوري، وعلى أرض هذا الشعب.. وحجة الدبلوماسية الروسية أن مجلس الأمن لم يُصدر بعد قراراً بخصوص هذه المليشيات، ولو تقدّم طرفٌ بمشروع قرارٍ لمجلس الأمن بخصوصها لأفشلته روسيا.
لمواجهة ذلك، وبصرف النظر عن نتائج اجتماعات أستانة، من المهم التمسّك بمطلب مناطق آمنة يُحظر فيها الطيران، ويتم وقف إطلاق النار بقوة فصل محايدة، وفي مناطق متفق عليها، بما يسمح بعودة اللاجئين إلى ديارهم، ويضع حداً لسياسة الاقتلاع والتغيير الديمغرافي القسري. على أن يتساوق ذلك مع استئناف مفاوضات جنيف، وتطبيق ما تتضمنه مرجعية هذه المفاوضات، بضمانات ورعاية إقليمية ودولية. أما الاكتفاء بما سُمّي تخفيف التصعيد فهو وصفةٌ أو صيغةٌ يسهل استخدامها لإطالة الأزمة، وتحت ادّعاءات شتّى، منها القول إن ما قد يجري ليس تصعيداً، بل تخفيفاً له! والهدف هو جبهة النصرة ومن يشايعها. وفي حالاتٍ سابقةٍ، وبينما كان القصف الجوي والمدفعي يتواصل في مناطق عديدة، ويسقط المدنيون يومياً وبالعشرات، كانت التصريحات من هنا وهناك تصدر وتتحدّث أن وقف إطلاق النار يجري احترامه بصورة كبيرة!، وقد انزلق المبعوث الأممي من قبل إلى إطلاق مثل هذه التصريحات المُجافية للواقع والوقائع. وها هو المبعوث قد حضر إلى أستانة بصفة مراقب، في رسالةٍ ضمنية من منظمي هذه الاجتماعات مفادها بأن المنظمة الدولية التي تمثل كل دول الأرض وشعوبها لا يحق لها المشاركة، أو التذكير بالقرارات الدولية الصادرة عنها، وذات الصلة بالأزمة السورية، والواجبة الاحترام والتنفيذ. وواقع الحال أنه قُصد من اجتماعات أستانة، في الأساس، إقصاء المنظمة الدولية والمجتمع الدولي وأصدقاء سورية، ومنح إيران مكافأة معنوية سخية، نظير جهادها، وهي ومليشياتها ضد شعب سورية، ومضاعفة المحنة التي يتجرّعها هذا الشعب العربي.