مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٢ مايو ٢٠١٧
قبل فوز ماكرون.. وبعده

شغلت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية مختلف أوساط الرأي العام الفرنسي، وحظيت بمتابعةٍ عربيةٍ وعالميةٍ غير مسبوقة، نظراً إلى انحسار التنافس بين مشروعين، الأول ليبرالي شعبي، يركّز على فرنسا الوطنية التعدّدية، وعلى الوحدة الأوروبية والانفتاح العولمي، بزعامة إيمانويل ماكرون، القادم من خارج المنظومة الحزبية التقليدية الفرنسية، والثاني يميني شعبوي متطرّف وعنصري، يركّز على القومية الفرنسية والانغلاق والهوس بالآخر ومعاداته، بزعامة مارين لوبان، رئيسة حزب الجبهة الوطنية.

وإن كان فوز ماكرون بمثابة انتصار لتيار شعبي متمرّد على الحزبية الفرنسية، إلا أنه شكل أيضاً هزيمةً للتيار الشعبوي اليميني المتطرّف، والأهم أنه أعاد تشكيل المشهد السياسي الفرنسي من جديد، إذ تراجع وزن (وتأثير) حركات وتيارات وأحزاب اليمين واليسار على حدّ سواء، مقابل ازدياد وزن اليمين المتطرّف، الممثل بحزب الجبهة الوطنية.

ويبدو أن الناخبين الفرنسيين أرادوا القطع مع المنظومة الحزبية التقليدية، بيسارها ويمينها، ومعاقبة أحزابها على سياساتها التي لم تنقذهم من البطالة، ولم توفر لهم الأمن والأمان، إلى جانب استيائهم من العمليات التي قاموا بها، من أجل حماية أصحاب رؤوس الأموال، وإنقاذهم من أزماتهم، والمحافظة على رواتب المسؤولين التنفيذيين، الأمر الذي أفضى إلى هبوط شعبيتها. وعلى الرغم من التحذيرات الواضحة التي وجهها الفرنسيون إلى أحزاب اليسار واليمين، في أكثر من مناسبة انتخابية سابقة، إلا أن من كان يصل إلى مركز صنع القرار من اليمين واليسار يواصل انتهاج السياسات والتوجهات نفسها، الأمر الذي أفضى إلى إحجام المواطن الفرنسي وتململه من الماراثونات الانتخابية، وفضّل أن ينهي مفارقاتٍ طويلةً من الصراع بإيصال كل من إيمانويل ماكرون ومارين لوبان للتنافس على رئاسة الجمهورية الفرنسية.

وجاء فوز ماكرون بعد حملةٍ انتخابية، تميّزت بحدّتها وبخروجها عن المألوف والتقليدي، استخدمت فيها كل الوسائل المتاحة والممكنة لدى كل من ماري لوبان، المرأة اليمينية المهووسة برمي كل الشرور على عالم الغير وشيطنة الآخر، والتي تنافست على أمل أن تصبح أول سيدةٍ تصل إلى قصر الإليزيه، وإيمانويل ماكرون الشاب القادم من عالم الاقتصاد، والبعيد عن مزاولة السياسة بشكلها الحزبي التقليدي، الأمر الذي كشف خللاً كبيراً في الحزبية الفرنسية، فيما بدت العملية الانتخابية كأنها صراع محموم، وصلت فيه حمّى المنافسة إلى حدّ جعلت كلاً منهما يستند إلى رؤيةٍ تسعى إلى الانتصار بأي ثمن.

ويجسّد وصول ماري لوبان إلى الجولة الثانية من المنافسة على كرسي الرئاسة الفرنسية، وحصولها على ثلث عدد أصوات الناخبين الفرنسيين، ظاهرة، ويثير مخاوف وتوجسات لدى غالبية مكونات الشعب الفرنسي، وسيكون له أثره الواسع على الداخل الفرنسي، بما قد يغير المستقبل السياسي لفرنسا وتوازناتها الاجتماعية، لأنه جاء وسط انقساماتٍ اجتماعيةٍ مهمةٍ، بنيت على نزعاتٍ عنصريةٍ وطبقية، وأسهمت في إحداث تغيراتٍ في الخريطة الانتخابية التقليدية، إلى جانب لجوء لوبان إلى حركاتٍ بهلوانية، أساسها مبنيٌّ على كراهية الآخر والعنصرية حيال المسلمين والمهاجرين، وتحميلهم مسؤولية فشل السياسات والأزمات، مع أن نموذج لوبان ليس وحيداً في العالم، لكنه الأكثر صفاقةً، مقارنة بالنموذج الذي ينمو منذ مدة، وينتشر بسرعة في بلدان الاتحاد الأوروبي وأميركا، حيث باتت أحزاب اليمين فيها تعتاش على خطاب العداء للآخر، وخصوصا العربي والإسلامي، وراحت تراكم مكاسبها الانتخابية على حساب معاناته، ليبلغ هذا الخطاب ذروته في خطاب ترامب العدائي في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي فاز فيها.

وتمثل مارين لوبان، وقبلها والدها جون ماري لوبان، ظاهرة نامية في الغرب الأوروبي والأميركي، تمثل الرجل الأبيض الذي بنى خطابه على كراهية الآخر والاحتجاج على الوضع الراهن. وهي، وإن تلقت هزيمةً في هذه الانتخابات الرئاسية الفرنسية، إلا أنها تمثل ظاهرةً صاعدة، قد تعود في أي استحقاق مقبل، وعلى حساب تراجع الطبقة السياسية الفرنسية، ما يتطلب إعادة النظر في بنى الجمهورية الفرنسية الدستورية والسياسية والإدارية.

والحاصل أن فوز ماكرون لن يشكل قطيعةً مع اليمين المتطرّف، ولن يوقف حماس هذا اليمين في الوصول إلى حكم فرنسا، ولعل الاستحاق المهم المقبل، المتمثل في الانتخابات التشريعية، التي ستفضي إلى اختيار أعضاء البرلمان، سيلقي أثره على تحرّكات الرئيس الجديد وسياساته، كونه سيؤثر على طبيعة مؤسسات الحكم والسلطات والتشريع وتركيبتها وعملها، وعلى الإصلاحات التي يريد ماكرون القيام بها، من أجل تطوير البنى الاقتصادية والسياسية والإدارية، وبما يدعم الداخل الفرنسي، وجذب الفرنسيين المحبطين واللامبالين إلى المعسكر المناهض لأفكار اليمين المتطرّف الاستئصالية، واستعادة ريادة الدور الفرنسي في الاتحاد الأوروبي، والوقوف أمام محاولات اليمين الشعبوي في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وسواهما، الرامية إلى ضرب النادي الأوروبي، إضافة إلى مجابهة عدوانية فلاديمير بوتين حيال أوروبا الموحّدة، وتدخلاته لصالح اليمين الشعبوي، واتجاهاته المتطرّفة.

ولم يكن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ومعه معسكر إيران والنظام السوري وسائر رصفائه وحلفائه، سعداء بوصول ماكرون إلى كرسي الرئاسة الفرنسية، ولعل ما يهم أبناء الشعب السوري أن ماكرون ينظر إلى الأسد على أنه مجرم حربٍ تجب معاقبته، حيث أعلن أنه في حال انتخابه رئيساً لفرنسا، فإن إدارته ستعمل، مع الشركاء الدوليين، لوضع حد للأزمة السورية، وإنهاء حكم الأسد. وصرح عقب أزمة استخدام نظام الأسد الأسلحة الكيميائية في خان شيخون "علينا أن نتدخل ضد من يستخدمون الأسلحة الكيميائية لقتل المدنيين في سورية، ووضع حد لجرائم الأسد بحق الأبرياء، بعدما شكل الصمت الدولي عن تلك المجازر مبرراً لقتل مزيدٍ من الأطفال والنساء من دون ذنب، وهو ما لن يستمر"، الأمر الذي يشير إلى أن ماكرون سيؤكد استمرارية السياسة الفرنسية إزاء الملف السوري، المرتبطة بقيم الجمهورية الفرنسية، وفي طليعتها حقوق الإنسان التي لطخها نظام الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس، بإمعانهم في قتل السوريين وتحطيم تطلعاتهم في الخلاص من الاستبداد.

اقرأ المزيد
١٢ مايو ٢٠١٧
لماذا تفرض موسكو حظرا على نفسها؟

حفلت الأزمة السورية، على امتداد السنوات الست ونيف من عمرها، بمفارقات عديدة، وتناقضات شديدة، بلغ بعضها حد الغرابة، وإن كانت مفهومةً تمامًا بلغة المصالح، من ذلك مثلاً أن دولاً "محافظة" دعمت الثورة في سورية، وأنظمة "ثورية" وقفت في وجهها، لا بل سعت إلى وأدها. ومن ذلك تغير مواقف بعض الدول والأحزاب وانقلاب أدوار بعضها الآخر بصورة حادّة، بحيث غدا بعض الحلفاء خصوماً، وأصبح بعض الخصوم حلفاء، ووقف بعض اليسار الثوري في وجه الثورة، ورفع بعض اليمين المحافظ السلاح دفاعاً عنها، هذا من بين أمثلةٍ كثيرة يمكن ذكرها.

المفارقة التي شهدنا بعض فصولها أخيرا، في سلسلة مفارقات الأزمة السورية، تمثلت باتفاق أستانة، الذي توصلت إليه الدول الراعية للحرب في سورية لإنشاء مناطق تهدئة أو خفض للتصعيد (De-escalation Zones). أصل الاتفاق مبادرةٌ روسية، تلقفتها تركيا خلال اجتماع القمة، أخيرا، بين الرئيسين بوتين وأردوغان في منتجع سوتشي الروسي على البحر الأسود، ومثلت محاولةً جديدة لاستعادة زمام المبادرة على الأرض، وفي السياسة، بعد فشل الاتفاق الروسي-التركي لوقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في أنقرة أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي.

واقع الأمر أن المبادرة الروسية جاءت إشكالية وغير مفهومة، لجهة دوافعها، وانقلاب موقف الكرملين فيها، فمن جهةٍ طرحت روسيا فكرةً تركية ظلت تقاومها منذ بداية الأزمة، وهي إقامة مناطق آمنة (Safe Zones)، دع جانباً مسألة إنشاء مناطق لحظر الطيران (No Fly Zones) أرادتها أنقرة لتأمين إقامة اللاجئين داخل الأراضي السورية، وحماية جيوب المعارضة من القصف الجوي الذي نكّل بالمدنيين والثوار. لا بل استخدمت روسيا، وبشكل متعمد، القصف الجوي استراتيجيةً لاقتلاع أكبر عدد ممكن من المدنيين من أراضيهم ودفعهم في موجات هجرة ولجوء كبيرة باتجاه أوروبا، بهدف تفكيك الاتحاد الأوروبي، ومعاقبة الأوروبيين، خصوصا الألمان، على مواقفهم من الأزمة الأوكرانية، فكيف تطرح روسيا الآن مبادرة حظر الطيران إذاً؟

وتغدو المفارقة أكبر، إذا لاحظنا أن الطيران الروسي هو الطيران الوحيد (إلى جانب طيران النظام) الذي يحلق ويقصف في المناطق الأربع التي تمت الإشارة إليها في اتفاق أستانة، وكأن روسيا تفرض حظرًا على نفسها، ما يجعل الأمر أكثر صعوبة لجهة التفسير، إذ كان في وسع روسيا، ببساطة، أن توقف طيرانها عن القصف في هذه المناطق، من دون الحاجة إلى إعلان حظر طيران. فلماذا تفعل ذلك؟

يبدو صعباً فهم المبادرة الروسية خارج سياق العودة الأميركية القوية إلى الساحة السورية، فمبادرة تخفيض التصعيد جاءت بعد استهداف قاعدة الشعيرات، ما عزّز مخاوف روسيا من احتمال حصول تغيرٍ في المقاربة الأميركية تجاه الصراع في سورية، في ضوء توجه إدارة ترامب المعلن نحو "قصقصة" النفوذ الإيراني في المنطقة، ابتداء من سورية. وقد بدا واضحاً، منذ اللحظة الأولى لإعلانه، مدى اهتمام روسيا بالحصول على التزامٍ من واشنطن بدعم اتفاق أستانة والعمل به. إذ صرح المبعوث الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرنتيف، بأن بلاده تتوقع من الولايات المتحدة احترام مناطق الحظر في الاتفاق، وهذا ما دفع الروس أيضاً إلى الذهاب إلى مجلس الأمن لاستصدار قرارٍ يرحب باتفاق أستانة، ما يعني أن المبادرة لم تكن سوى محاولةٍ لتثبيت الوقائع التي حققتها روسيا على الأرض خلال العامين الماضيين، ومنع أي تغيير جذريٍّ عليها، من خلال تقييد حركة واشنطن في الأجواء السورية، وهو أمرٌ ما كان ليمرّ على البنتاغون الذي رفض صراحةً الالتزام بمناطق الحظر الروسية.

يبقى سؤالٌ مهم، متصلٌ بموقف إسرائيل من الاتفاق، وما إذا كانت ستلتزم به في ضوء التفاهم الذي أبرمه نتنياهو مع بوتين، خلال زيارته الأولى إلى موسكو بعد التدخل الروسي في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015، وسمح لإسرائيل بحرية الحركة في الأجواء السورية، بناء على مقتضيات مصلحتها الأمنية. فهل يقبل نتنياهو تقييد حركة الطيران الإسرائيلي في سوريةـ من دون أن يكون جزءاً من اتفاق أستانة؟ هذا السؤال برسم الروس والإيرانيين وكل "محور المقاومة" الملحق بهما للإجابة عليه.

اقرأ المزيد
١١ مايو ٢٠١٧
حرائق إيران في خدمة إسرائيل

على الرغم من أن ماكينة الدعاية الإسرائيلية تحرق وقوداً كثيراً في سعيها إلى شيطنة تدخلات إيران في دول الإقليم، ولا سيما في سورية؛ إلا أن نظرةً متفحصةً سرعان ما تقود إلى استنتاج أن الحرائق التي أشعلتها إيران في المنطقة قد حسّنت المكانة الاستراتيجية للكيان الصهيوني، ووسّعت بيئته الإقليمية، ومنحته هامش مناورة أكبر لتحقيق مصالحه الأمنية، فالتورّط في سورية منح إسرائيل الفرصة لاستنزاف إيران وأدواتها، ولا سيما حزب الله، وضمن تحسين مكانتها في أية مواجهة مستقبلية مع الطرفين، فقد استغلت إسرائيل استنفار حزب الله لصالح نظام الأسد، بناء على توجيهات إيران، وعمدت إلى تقليص قدرة الحزب على تعزيز قوته العسكرية وتعاظمها من خلال الحيلولة دون وصول السلاح إليه، عبر شن الغارات الجوية على مخازن وإرساليات سلاح تعود إليه؛ إلى جانب تبرير تصفية قياداتٍ عسكرية للحزب والحرس الثوري الإيراني في قلب الأراضي السورية، فقد كان حزب الله يحصل على السلاح الإيراني عبر سورية، طوال الفترة التي سبقت الثورة، ولم يحدث أن تم استهدافها إرساليات السلاح على هذا النحو، وبتلك الوتيرة.

ومما فاقم أوضاع إيران سوءاً أن إسرائيل تحظى بهامش حرية شبه مطلق بدعمٍ صامتٍ من روسيا التي يفترض أنها حليفٌ لطهران، فحاجة إيران للدور الروسي الحاسم في ضمان استقرار نظام بشار الأسد اضطرّها إلى ابتلاع التنسيق الروسي الإسرائيلي الهادف، بشكل أساس، إلى توفير بيئةٍ مناسبةٍ لمواصلة استنزافها وحزب الله. وقد تذرّعت إسرائيل بـ "المخاوف" من حصول إيران على موطئ قدم بعد انتهاء الصراع في سورية للمطالبة بأخذ مصالحها الاستراتيجية في أية تسوية سياسية لهذا الصراع؛ من خلال ترويج مشاريع تسوية، تهدف إلى تقسيم سورية. ليس هذا فحسب، بل تتذرّع إسرائيل بالوجود الإيراني في شن حملةٍ دبلوماسية ودعائية، تهدف إلى إضفاء شرعية دولية على قرارها فرض سيادتها على هضبة الجولان. ومن المفترض أن يبلغ هذا التحرك أوجه خلال الزيارة المتوقع أن يقوم بها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لتل أبيب نهاية مايو/ أيار الجاري، حيث يفترض أن تعرض إسرائيل عليه خطةً تفصيليةً بهذا الشأن، أعدها وزير الاستخبارات يسرائيل كاتس. ومما لا شك فيه أن تجلد إيران وحزب الله وتسليمهما بالغارات التي تشنها إسرائيل في قلب سورية وعدم الرد عليها يمسّ الانطباع الذي يحاولان تكريسه عن دورهما باعتبارهما "قوتي ممانعة" للمشروع الصهيوني.

في الوقت نفسه، سمح التدخل الإيراني في سورية والدول العربية الأخرى لإسرائيل بمحاولة تحقيق جملةٍ من المكاسب، فشلت في تضمينها في الاتفاق النووي مع القوى العظمى، ولا سيما إلزام طهران بالتخلص من ترسانتها الصاروخية، من خلال الادعاء أن تفكيك الصواريخ الباليستية يقلّص من خطورة توسع طهران الإقليمي. وها هم قادة الأغلبية الجمهورية في الكونغرس يتذرّعون بتدخلات إيران في المنطقة وترسانتها الصاروخية، لتبرير تقديم مشاريع قوانين، تنظم فرض عقوباتٍ مالية جديدة على إيران؛ مع العلم أن مشاريع هذه القوانين تحظى بدعم عدد من كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية الجديدة. وقد أفضى التدخل الإيراني في دول المنطقة إلى تحسين البيئة الإقليمية لإسرائيل، بشكل واضح، من خلال إسهامه في توفير المسوّغات لدى قوى إقليمية كثيرة للتقارب مع تل أبيب، والتعاون معها. وقد تطوّر التعاون بين إسرائيل وتلك القوى إلى درجة أن وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، قد تحدث، خلال زيارته إسرائيل أخيرا، صراحة عن "تحالف إقليمي يضم إسرائيل ودولاً عربية بهدف مواجهة إيران والقوى الإسلامية المتطرفة" (مجلة الدفاع الإسرائيلي، 29-4). ويتحدث الإسرائيليون بوضوح عن توفر الظروف لنشوء "حلف ناتو شرق أوسطي"، بذريعة مواجهة إيران (مجلة الدفاع الإسرائيلي، 29-4)، فالحكومة الإسرائيلية الحالية التي تعد الأكثر تطرفا في تاريخ الكيان الصهيوني مدينةٌ لإيران بتوفير البيئة التي سمحت لرئيسها، بنيامين نتنياهو، عرض تصوّره لحل الصراع مع الشعب الفلسطيني، من خلال صيغة التسوية الإقليمية التي تهدف عمليا إلى تصفية القضية الوطنية الفلسطينية، فبنيامين نتنياهو يعرض عمليا على الدول العربية صفقةً تقوم على تعاون إسرائيل مع الدول العربية في مواجهة "الخطر الإيراني" في مقابل مساعدة الدول العربية في حل الصراع مع الشعب الفلسطيني، من دون أن تتحمل إسرائيل أعباء هذا الحل.
"إسرائيل تحظى بهامش حرية شبه مطلق بدعمٍ صامتٍ من روسيا التي يفترض أنها حليفٌ لطهران"

في الوقت نفسه، يحسّن تقاربٌ مع الدول العربية من قدرة إسرائيل على مواجهة قوى المقاومة الفلسطينية، ويوفّر بيئةً أكثر ملاءمة لاستهدافها، مع العلم أن طهران تدّعي أن هذه القوى محسوبةٌ على المحور الذي تقوده. ومن الأهمية التأكيد، هنا، أن التذرّع بالحاجة إلى مواجهة إيران لا يبرّر تعاون بعض الدول العربية مع إسرائيل، ولا يسوّغ نسج الشراكات معها، فهذا التبرير غير متماسكٍ من ناحية أخلاقية، كما أن الرهانات العربية على عوائد التعاون مع إسرائيل غير موضوعية، وغير واقعية.
في كل الأحوال، يتبين أن الحريق الهائل الذي أشعلته إيران في المنطقة يصب في صالح إسرائيل، ويساعد الأخيرة على تحقيق مصالحها الاستراتيجية والأمنية، من دون أن تكون مطالبةً بتقديم تنازلاتٍ كبيرة، أو بذل كثير من مواردها الذاتية. ناهيك عن أن هذه التدخلات أصبحت مركبا أساسيا من ضمن مركبات البيئة التي تسمح بالمسّ بفلسطين، وقضيتها ومقاومتها.

وسيتبين لإيران، عاجلا أم آجلا، أنها لم تساعد إسرائيل على تحقيق مصالحها فقط، بل أيضا أن أياً من رهاناتها على التدخل في شؤون المنطقة لن يتحقّق.

اقرأ المزيد
١١ مايو ٢٠١٧
المعارضة السورية أمام معركة مصيرها

مع غياب كامل للسوريين، في النظام والمعارضة، تم التوقيع في أستانة يوم 4 مايو/ أيار الجاري، على اتفاق خفض العنف الذي يشمل أربع مناطق، تضم أجزاء من محافظة إدلب واللاذقية وحماة وحلب وحمص ودرعا والقنيطرة. وهي المناطق التي تشكّل خطوط الجبهة الرئيسية المتبقية بين قوى المعارضة ومليشيات النظام السوري المتعدّدة الجنسيات. يهدف الاتفاق الذي تعتبره الدول الثلاث الضامنة، روسيا وتركيا وإيران، "إجراءً مؤقتاً مدته ستة أشهر" قابلة للتمديد بموافقة الضامنين، إلى وقف أعمال العنف بين الأطراف المتنازعة، ووقف استخدام أي نوعٍ من السلاح، بما في ذلك طائرات التحالف الدولي، بقيادة واشنطن، وضمان وصول المساعدات الإنسانية والطبية، وتأهيل البنية التحتية، وتأمين الشروط المناسبة لعودة اللاجئين والنازحين الراغبين في العودة. ومن المفترض، حسب الاتفاق، أن تشكل الدول الضامنة قوات خاصة لإقامة الحواجز ومراكز المراقبة وإدارة المناطق الأمنية.

وباستثناء تعبير الخارجية الأميركية عن شكّها في إمكانية نجاح هذا الاتفاق الذي يجعل من طهران، حسب تعبيرها، ضامنة له، وهي أحد المسؤولين الرئيسيين عن استخدام العنف، كما يتجاهل سجل النظام السوري السيئ في تنفيذ الاتفاقات السابقة، لم تظهر ردود فعل ذات مغزى، لا عن الدول العربية الداعمة للمعارضة، ولا عن تجمع أصدقاء الشعب السوري، ولا ممثلي الأمم المتحدة.

لا ينبغي أن يكون لدى أي إنسان وهمٌ حول مغزى الاتفاق الذي وقعته الدول الثلاث التي أعلنت نفسها بشكل ذاتي، صاحبة المبادرة في إيجاد حل للنزاع السوري. وفي ما وراء ذلك، تأكيد وصايتها غير الشرعية على سورية، ورسم مستقبلها بغياب جميع الأطراف السورية والدولية. وليس هناك من يعتقد بين الأطراف، الدولية والسورية جميعا، أن الهدف من هذا الاتفاق كان بالفعل تخفيف مستوى العنف، أو توفير المزيد من المذابح والأرواح البشرية، أو أنه جاء من وحي أي حافز أخلاقي أو إنساني، كما أن من المؤكد تقريبا أنه لن يكون في تطبيقه أفضل من الاتفاقات التي سبقته، وأنه سيستخدم، كما استخدم غيره، من أجل قضم مزيد من المواقع لقوات المعارضة، وتضييق الخناق عليها، بذريعة ضرورات فصلها عن الفصائل "الجهادية" والمتطرّفة، وأنه سوف يعمّق الشرخ القائم في ما بين أطرافها، وإنه لن يُحترم، في النهاية، إلا من جانبٍ واحد، وسيكون بالضرورة اتفاق الزوج المخدوع. فبصرف النظر عن الديباجة التبريرية، يندرج هذا الاتفاق في سياقٍ واضح، لا يزال يترسخ منذ أكثر من ثلاث سنوات، هو سياق تراجع المعارضة وانكفائها على خط الدفاع الذي لا تزال تقف عليه منذ عدة سنوات، وتنتقل فيه من مواقع متقدّمة إلى مواقع أكثر تراجعاً، على المستويين السياسي والعسكري. كما يندرج في سياق خسارة المعسكر الإقليمي والدولي المناصر للمعارضة تفوقه لصالح صعود المحور الروسي الإيراني الذي جعل من الممكن أن تدخل إيران في فريق الدول الراعية للاتفاق، ومن ورائه للحل، وهي الطرف الأكثر انخراطاً في الحرب ضد الثورة والمعارضة، وأن تتحول إلى ضامن لوقف النار والسلام، في وقتٍ تشكل مليشياتها القوة البرية الأولى في حماية معسكر النظام، بينما تبدو الدول العربية وجامعتها كما لو أنها قبلت بتهميشها تماماً، بما في ذلك الدول التي وقفت سنواتٍ طويلة إلى جانب المعارضة.

لكن في ما وراء ذلك، وأهم منه، أن هذا الاتفاق، الذي لا يختلف في جوهره وأهدافه عن الاتفاقات والمصالحات والهدن المحلية التي اعتمدها النظام خطة طويلة المدى لتفتيت المعارضة واحتوائها، جزء من الاستراتيجية الروسية العسكرية والسياسية التي سعت، بجميع الوسائل، وأهمها الطيران الحربي، إلى تغيير خريطة الصراع على الأرض، من خلال العمل على ضرب تواصل قوى المعارضة، وعزلها في مواقع ثابتة، وإنهاء الحقبة التي سيطر عليها الصراع الشامل، بين الثورة والمعارضة من جهة والنظام من جهة ثانية، ومن ثم إلى تحويل الثورة إلى بؤر تمرّد مغلقة، ومحاصرتها سياسيا، بعد أن تمت محاصرتها عسكريا، ومن وراء ذلك استعادة المبادرة وإعطاء التفوق والأسبقية لمليشيات النظام من جديد، بصرف النظر عن تناقضاته وخراب أركانه، وتهافت مرتكزاته وشرعيته.

أخطر ما جاء به هذا الاتفاق أنه أوحى للعالم، وللمجتمع الدولي، أننا لم نعد أمام قضية ثورة ضد نظام جائر ودموي، ولا حتى في مواجهة حرب أهلية شرسة، وإنما أمام دول ثلاث منخرطة في الصراع، تنسّق في ما بينها من أجل تمكين السلطة المركزية للدولة من استعادة سيطرتها على حركة (أو حركات) المعارضة والتمرّد التي وقفت في وجهها وقاومتها سنوات طويلة. وكذلك، أن طهران لم تعد أحد المسؤولين الرئيسيين عن تمويل الحرب، وتمديد أجل النزاع، وإنما جزءٌ من الحل، وأن الأمر قد تحوّل، منذ الآن، من أزمة سياسية مستعصية إلى مسألةٍ تقنية، تتعلق بمراقبة وقف إطلاق النار، وتأمين فرق المراقبة الدولية المؤهلة للقيام بذلك. وبالفعل، بدأت تعليقات صحافية كثيرة تشير إلى هذا الاتفاق كما لو كان يمثل بداية الحل. وهذا ما يتماشى مع الخطة الروسية التي تريد أن تستفرد بالحل، وتفرض الصيغة التي تنسجم بشكل أكبر مع مصالحها ورهاناتها. هكذا ضعف وسيضعف أكثر شعور المجتمع الدولي بالحاجة العاجلة للبحث عن حلٍّ يرضي تطلعات السوريين الذين ثاروا على نظام الأسد الدموي، ولن يتساءل أحدٌ، بعد الآن، عما إذا كان هذا الاتفاق يقود نحو تسويةٍ سياسيةٍ فعليةٍ تتفق ومضمون قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وإنما عما إذا كان من الممكن إنجاح الاتفاق ووقف إطلاق النار فحسب.

لم تخطئ فصائل المعارضة السورية، إذن، في رفضها التوقيع على الاتفاق إلى جانب الدول الثلاث، احتجاجا على إدخال طهران طرفا ضامنا للحل السياسي والسلام، في حين أنها كانت، ولا تزال، المسؤول الأول عن قرار تمديد أجل الحرب، وخوضها حتى النهاية، والتي لا يخفي مسؤولوها حجم المجهود الحربي الهائل الذي قدّموه في قتال الشعب السوري، والسعي إلى القضاء على ثورته بأي ثمن، سواء على شكل قواتٍ برية مليشياوية، أو مساعدات مالية وسياسية ولوجستية. كما لم تخطئ الهيئة العليا للمفاوضات التي ذهبت إلى أبعد من ذلك، في إدانة الاتفاق، واعتبرته مقدمةً لتقسيم سورية.

يعكس هذا الرفض خوف أطراف المعارضة السورية من نتائج هذه الاتفاق، العسكرية والسياسية، وفي مقدمها تكريس الدول الثلاث راعيةً للحل السياسي في سورية، ومصادرة إرادة الشعب السوري في تقرير مستقبله، كما يعكس قلق السوريين والمعارضة من تطبيع دور إيران في سورية الحاضرة والجديدة، لكنه لا يمكن أن يشكل ردّا على الاتفاق الذي ستضطر الفصائل إلى احترام بنوده، وتطبيقه، مهما كان الأمر، خصوصاً أن تركيا التي "تمثل" الفصائل في هذا الاتفاق، وفي المفاوضات التي تجري في أستانة، هي شريك رئيسي في إعداده وأحد ضامنيه.

يحتاج وقف التدهور المتواصل في الموقف العسكري والسياسي لفصائل المعارضة ردّاً من نوع آخر، أي رداً استراتيجياً، لا يكتفي بردود الأفعال التي درجت على اتباعها في السنوات الطويلة الماضية، وكانت نتائجها ما وصل بها الحال اليوم من تراجعٍ مستمر وتفرّق وخصام. وهذا يعني، في الوضع الراهن، بناء استراتيجية مستقلة وفعالة للمقاومة من المعارضة والفصائل، تختلف عن التي اتبعتها في السنوات الماضية، والتي قامت على ردود الفعل والتسليم للأصدقاء والحلفاء والذهاب فصائل مشتتة إلى المفاوضات، وانتهت بها إلى طريق مسدود. وقد كانت من دون نقاش نموذجا لاستراتيجية الفشل التي لم يكفّ الرأي العام السوري، الثوري والمعارض، عن التنديد بها منذ سنوات، من دون أن يحصل على أي رد إيجابي من فصائل عسكرية، تدّعي التضحية من أجل الثورة وأهدافها، بينما ترفض أي مبادرةٍ لبناء جسم وطني عسكري واحد وقيادة موحدة مشتركة، عسكرية وسياسية، تعكس إرادة السوريين في التحرّر والمقاومة ورفض تأهيل النظام، وتعزّز موقفها الإقليمي والدولي بتأييدهم وثقتهم، فالشرط الأول لمنع الآخرين، من الدول والمؤسسات والتكتلات، من مصادرة قرار السوريين، والتفاوض عنهم والحلول محلهم، وقطع الطريق على تقسيم سورية، أو استخدام الاتفاقات الفنية، مثل اتفاق خفض العنف، أو إقامة المناطق الأمنية، والفصل بين الفصائل والجبهات، ذريعة للتمهيد لهذا التقسيم، هو توحيد قوى المعارضة والثورة السورية، وتحقيق وحدة قيادتها. كل ما دون ذلك من احتجاجات وإدانات وشكاوى يدخل في باب التعبير عن المشاعر والسخط، لكنه لا يشكل استراتيجيةً للمقاومة، وتأكيد التمسك بالقرار الوطني، ولا يغيّر كثيرا في المنحى التراجعي الذي يميّز مسيرة المعارضة اليوم. مع العلم أن هذا الاتفاق يشكل آخر امتحانٍ للمعارضة، وهو الذي سيقرّر مصيرها.

اقرأ المزيد
١١ مايو ٢٠١٧
إيران وروسيا وعقيدة المكان

فرضت التطورات الإقليمية والدولية على المرشد الإيراني السيد علي خامنئي التراجع عن عقيدة السياسة الخارجية للثورة الإيرانية التي تبناها سلفه مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله الخميني، والتي أراد من خلالها إيجاد مكان آمن لبلاده بعيداً عن الاستقطابات التي كانت سائدة على الساحة الدولية، خلال الحرب الباردة والتي عرفت بصراع القطبين الأميركي والسوفياتي؛ فقد حاول السيد الخميني استثمار الصحوة الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي، من أجل تقديم مشروعه الثوري نموذجاً بديلاً عن الطروحات الفكرية والثقافية والسياسية لتلك المرحلة، من خلال رفعه شعار «لا شرقية ولا غربية ثورة ثورة إسلامية». إلا أن قرار القيادة الإيرانية الحالية بالسماح للقاذفات الاستراتيجية الروسية باستخدام قاعدة همدان الجوية أثناء قيامها بضرب الشعب السوري، ليس فقط مخالفاً لرؤية الخميني أولاً وللدستور ثانياً، إنما هو في عمقه تطبيق عملاني لموقف صناع القرار الإيراني بالانحياز الاستراتيجي إلى جانب روسيا، ورغم كونه انحيازاً فرضته الظروف الجيو - ستراتيجية التي تتقاطع مع الوقائع الجيوسياسية، التي غالباً ما تفرض شروطها على من يحكم إيران منذ مئات السنين، وتستحوذ على خياراته السياسية وتؤثر على تحالفاته الخارجية، في محصلتها خيارات كانت انعكاساتها السلبية على الواقع الإيراني في الداخل والخارج أكثر من إيجابياتها.

تاريخياً، أسست الانطباعات التي دوّنها الرحالة والتاجر الروسي المقرب من القيصر إيفان الثالث أفاناسي نيكيتين، في النصف الثاني من القرن الخامس عشر أثناء إقامته لسنتين في إيران، لعلاقات اقتصادية وسياسية بين البلدين، والتي تعززت مع إيفان الرهيب الذي سيطر على الممرات المائية التي تصبّ في بحر قزوين، إلى أن تم تبادل السفراء بين البلدين عام 1594 في عهد القيصر فيودور إيفانوفيتش والشاه عباس صفوي، حيث سعت إيران إلى تعزيز تحالفها مع روسيا في مواجهة تركيا العثمانية، ورغم ذلك كانت إيران من أول الدول التي تصطدم بطموحات روسيا التوسعية؛ فقد أجبرتها حروبها الأربع التي خاضتها وخسرتها مع روسيا منذ وصول بطرس الأكبر للحكم إلى التنازل التدريجي عن الأراضي التي كانت خاضعة لها منذ مئات السنين في القوقاز الروسي ودول ما رواء القوقاز (جورجيا وأرمينيا وأذربيجان)، إضافة إلى بعض مناطق حوض بحر قزوين، كما شهد نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين صراعاً بريطانياً - روسياً على الجغرافيا الإيرانية، ووصلت ذروة التدخل الروسي في الشؤون الداخلية لإيران ما بين سنة 1907 و1911 فيما عرف بمرحلة الثورة الدستورية، عندما قمع الجيش الروسي الثورة وقصف البرلمان الإيراني 1908، وهي حادثة يقارنها المجتمع الإيراني بالتدخل الأميركي في قمع ثورة مصدق 1953.

حالياً يتعامل الشارع الإيراني ذو الأغلبية المعادية لروسيا بريبة مع علاقة نظامه بروسيا، ويرى أن تدخل موسكو في الشؤون الداخلية والخارجية لبلاده لم يزل مستمراً؛ فقد أثارت زيارة رئيس جمهورية تترستان الروسية رستم منيخانوف الأخيرة لمرشح التيار المحافظ لرئاسة الجمهورية المتشدد إبراهيم رئيسي قلق الإصلاحيين من دور روسي في الانتخابات لصالح رئيسي، الذي تتقاطع مواقفه ومصالح داعميه مع المصالح الروسية في المنطقة، التي من شأنها أن تزيد من عزلة إيران وتعطل عملية انفتاحها على الغرب؛ فلدى الشارع الإيراني قناعة بأن المرشد المتأثر تاريخياً بالثقافة الروسية يولي العلاقة مع موسكو أهمية استراتيجية، ويعزز هذه القناعة محاولات إنتاج مناخ فكري يؤمن بفكرة الربط بين العقيدة والمكان في النموذجين الروسي والإيراني، باعتبار أن روسيا المسيحية تتزعم العالم الأرثوذكسي، وإيران المسلمة تتزعم العالم الشيعي، وهو ربط متصل بمحاولات أدلجة الجغرافيا يتبناها منظر الأورآسياوية الروسية الجديدة المفكر القومي ألكسندر دوغن، الذي اعتبر تحالف بلاده مع إيران الشيعية، ضرورة في مواجهة العالم الإسلامي السني الذي يشكل الأغلبية لما كان يعرف سابقاً بالمجال الحيوي السوفياتي جنوب روسيا، كما أن أصواتاً مؤثرة داخل الطبقة السياسية الإيرانية بدأت تحذر من أن طموحات بوتين التوسعية ورغبته في الوصول إلى سواحل البحر المتوسط لن تتحقق إلا على حساب النفوذ الإيراني في سوريا، حيث تتخوف هذه النخبة من انقلاب في المواقف الروسية يؤدي إلى خسارة طهران نفوذها الإقليمي جراء صفقة روسية مع الدول الكبرى في سوريا والمنطقة على حساب إيران.

يصف القيصر نيكولاي الثاني إيران بأنها الجار الدائم في الجنوب، هذا الموقع يجعلها مرغمة على الإقامة الدائمة في حيز جغرافي صعب، ومجبرة أيضاً على التعامل معه بصفته ثابتاً وحيداً على الرغم من حسناته الكثيرة، فإنه يحرمها من إيجاد مكان آمن لها في عالم متغير تحكمه المصالح وليس العقائد.

اقرأ المزيد
١٠ مايو ٢٠١٧
سوريا وشيطان التفاصيل!

تتجمّع معلومات كثيرة حول الوضع في سوريا تبدو في ظاهرها متضاربة ولكنها تفصح عن مسار عميق يحاول أن يصل إلى معنى فوق مدن القتل والتهجير الجماعي ومئات الرايات المتقاتلة على صور الماضي وقصص التاريخ وحصص الجغرافيا، متراشقة بالمظلوميّات المفترضة القومية والدينية والطائفية ومحوّلة إيّاها إلى طائرات وبراميل متفجرة وغازات كيميائية سامة ورغبة بالإبادة النهائية للآخر.

ميدانيّاً تتجمّع غيوم كثيرة لقوى عديدة مكلّفة، من بين المهام الكثيرة، بمهمّة وحيدة: محاصرة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وحسب الأنباء التي وصلت حتى الآن، والمتوقع إعلان بعضها قريباً، فإن تنظيمات التحالف الإيراني السوري، ممثلة بـ«الحشد الشعبي» من العراق، و«حزب الله» اللبناني من أماكن تحشّده السورية العديدة، وقوّات النظام السوريّ في تدمر تخطّط لعمليّة لإحاطة تنظيم «الدولة» في دير الزور.

الأنباء تقول إن هذه العمليّة قد تجد رافداً لها من «وحدات الحماية الكردية» المجوقلة والآتية عبر الطائرات الأمريكية، ومن قوّات «العشائر السورية» التي تشرف عليها الأردن وأمريكا وبريطانيا.

وإذا تمّ هذا السيناريو العسكري على الشكل الذي وصفناه فسيكون تعبيراً كثيفاً عن مستجدّ دوليّ جديد بعد الضربة الصاروخية الأمريكية على مطار الشعيرات إثر قصف النظام لبلدة خان شيخون بغاز السارين فهو يعني أن موسكو استعادت المبادرة من جديد وأنها استطاعت «ابتلاع» آثار صدمة القصف الأمريكي، وأن واشنطن، أيضاً، تعتقد أنها أعادت توجيه البوصلة العالمية والإقليمية باتجاه هدفها المفضّل: تنظيم «الدولة الإسلامية».

غير أن الحقيقة أعقد من ذلك، فالواضح أن موسكو وحليفها الإيراني الرابضين على الأرض السورية صارا أدرى بشعاب سوريا المعقدة من الأمريكيين، فتوجيه القوى نحو إنهاء تنظيم «الدولة» لن يكون إلا دائرة صغيرة ضمن دائرة أكبر تشمل ترتيب أوضاع سوريا والإقليم، وهو ما يحول الأمر إلى ورقة كبرى في يد موسكو، التي يسافر وزير خارجيتها سيرغي لافروف إلى واشنطن اليوم للقاء وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون وللإشراف على تمرير قرار روسيّ هدفه الظاهر هو تشريع اتفاق «أستانة 4» أممياً الذي قام بابتلاع فكرة «المناطق الآمنة» وحوّلها إلى «مناطق تخفيف التصعيد»، وهي مناطق، تتقلّص أو تتمدّد حسب فهم النظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين لها.

القرار الذي قدمّته روسيا إلى مجلس الأمن الدولي أمس الأول الأحد حول إنشاء «مناطق لتخفيف التصعيد» ترافق مع رفض وزير الخارجية السوري وليد المعلم في اليوم نفسه «أي دور للأمم المتحدة أو لقوات دولية في مراقبة» هذه المناطق، وأن ذلك سيكون منوطاً بـ… روسيا نفسها التي أشبعت تلك المناطق قصفاً وتدميراً!

ما سيحصل في هذا القرار الأممي لو تم تمريره هو ما حصل للقرار رقم 2254 والذي كان حصيلة لتراجع إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام روسيا وأدّى، عمليّاً، إلى إنهاء فكرة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد عن السلطة وتسليم المسار الفعلي للمفاوضات لروسيا وصولاً إلى الوضع الحالي.

في مراجعته لاتفاق «مناطق تخفيف التوتر»، ردد وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس المثل الشائع «الشيطان يكمن في التفاصيل»، والحقيقة أن الاتفاق يغفل تماماً عن الشيطان المسؤول عن الحبكة الجهنمية للمسألة السورية وهو النظام السوري الذي استجلب احتلالين ودمّر بلاده وقتل شعبه وهجّر سكانه.

اقرأ المزيد
١٠ مايو ٢٠١٧
حزب الله الغارق في سوريا و'التمنيات' بطول بقائه

الدعوات إلى خروج حزب الله من سوريا لم تعد من يوميات القوى السياسية اللبنانية التي تصنّف في موقع المختلف أو المعادي لحزب الله، كما أنّ القوى الإقليمية والدولية باتت غير مهتمّة بهذه المسألة ما دام وجود مقاتلي حزب الله لا يشكل أيّ إضرار بقواعد اللعبة التي تدار في جانب النظام السوري بقواعد روسية، علما وأنّ الإدارة الأميركية وإسرائيل كانتا على الدوام تشجعان ضمنا تورط حزب الله في القتال السوري، وإن لم تذهبا إلى حدّ الترحيب الرسمي بوجوده العسكري في العديد من المناطق السورية.

التدخل الروسي المباشر والعسكري قبل نحو عامين في سوريا ساهم إلى حدّ بعيد في تراجع المطالبات السياسية اللبنانية وحتى العربية بخروج حزب الله من سوريا، فيما استمر الموقفان الأميركي والإسرائيلي على حاليهما من دون أي تبدّل، مع استمرار إسرائيل في تصيّد قوافل سلاح حزب الله دون أي رد منه، بل مع مَيل واضح لدى قيادة هذا الحزب إلى اعتماد أسلوب الصمت حتى لجهة الكشف عن الاستهدافات الإسرائيلية له في سوريا، والتي هي دائما تستهدف حصرا ما تعتبره تهديدا لأمنها.

فكما بات معلوما، فإن الجهد العسكري وجحافل المقاتلين من حزب الله الذين يصوبون سلاحهم ضد فصائل المعارضة السورية لا يعتبران هدفا إسرائيليا، فقط الصواريخ التي يحاول حزب الله نقلها عبر الأراضي السورية إلى لبنان وتصنفها إسرائيل سلاحا استراتيجيا تعتبر هدفا إسرائيليا مشروعا بغطاء روسي ورضا إيراني، يفسره امتناع حزب الله عن الرد على العشرات من الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت قوافل سلاح أو مخازن أسلحة استراتيجية في مناطق قريبة من دمشق.

السمة البارزة في الموقف الإسرائيلي تجاه ما يجري على المقلب الآخر من حدودها الشمالية هي المحافظة على الهدوء على حدودها سواء في الجانب السوري أو اللبناني، وهذا ما يوفره حزب الله في لبنان، أما في سوريا فلا شكّ أنّ المعادلة التي تريدها إسرائيل في الجانب السوري قائمة لجهة الاستقرار الذي لم يهتز فعليا منذ عقود، ولم يتغيّر الحال رغم الحرب الدائرة على امتداد الأراضي السورية، فيما حزب الله وإيران يظهران التزاما بعدم خرق هذا الاستقرار رغم الذرائع التي توفرها إسرائيل لهما للقيام برد على العدوان الإسرائيلي الذي يتكرر بين الفينة والأخرى على مراكز حزب الله كما أشرنا آنفا، علما وأن نظرية تدخل حزب الله في سوريا -كما يكرر قادة حزب الله- تقوم على فكرة ضرب المشروع الإسرائيلي في سوريا، فضلا عن مهمة شق طريق القدس التي قال زعيم حزب الله إنّها تمر من حلب ومن مدن سورية أخرى.

الموقف الإسرائيلي يلتزم الصمت وعدم التدخل العسكري في مواجهة أيّ نشاط إيراني عسكري مباشر أو غير مباشر عبر حزب الله وغيره من الميليشيات، ما دام هذا النشاط يتركز على مواجهة فصائل المعارضة السورية سواء كانت معتدلة أو مصنفة إرهابية، وفي الوقت نفسه بث العديد من التقارير الاستخباراتية عبر وسائل الإعلام التي تشير إلى أنّ حزب الله يكتسب في حربه السورية خبرات عسكرية وقتالية عالية، فيما تتلقف وسائل إعلام “الممانعة” هذه التقارير لتعيد عرضها على جمهورها كوسيلة من وسائل البحث عن مبررات استمرار قتاله في سوريا، وكالنعامة التي تضع رأسها في الرمال تنطلي هذه المقولات الإسرائيلية على بعض الجمهور، الذي تناسى ما فعله تدخل حزب الله في سوريا به.

ذلك أنّ أيّ مراقب يدرك أنّ الحرب مع إسرائيل لم تعد واردة في حسابات حزب الله بعدما صارت إسرائيل عمليا أقل خطرا عليه إذا ما قيس الخطر بالمواجهات التي يخوضها في الميدان السوري والإقليمي، فالشرخ الذي نشأ بالدم بين حزب الله والسوريين بات يشكل مصدر الخطر الأول عليه، بينما الطوائف اللبنانية تتربص به وهو يدرك أن أي حرب مع إسرائيل ستكون فرصة للانقضاض عليه من كل ما هو محيط به. وليس كلام أمين عام حزب الله قبل أشهر سوى تأكيد على ذلك حينما صنف السعودية والجماعات التكفيرية بأنها أخطر عليه من إسرائيل.

من هنا فإن “براعة” حزب الله في صناعة البيئات العدوة له فاقت براعة إسرائيل في ذلك، والصمت اللبناني اليوم حيال تورطه في الحرب السورية يستبطن في جوهره تمنيات بدوام البقاء غارقا في وحولها، بعدما رمى بكل المطالب والتمنيات اللبنانية الرسمية وغير الرسمية بأن لا يتدخل في دعم النظام السوري عسكريا، في خانة التخوين وفي سلة العداء للمقاومة وصولا إلى اتهام من يطالبه بالعودة إلى لبنان والدولة بأنه إرهابي أو مساند للإرهاب.

التمنّيات بطول القتال في سوريا والغرق في وحولها هما ما يتلقاهما حزب الله اليوم، لا سيما بعدما صار وجوده بلا أفق يمثل انتصارا بل جل ما يتمناه هو الحد من الخسائر، وبعدما صار رهينة الحسابات الدولية والإقليمية والتي تشكل إسرائيل وأمنها ومصالحها، الثابت الأول في هذه الحسابات سواء كانت هذه الحسابات أميركية أو روسية، أو حتى من قبل الأطراف الإقليمية والعربية التي باتت تتعامل مع الخطر الإيراني باعتباره مهددا لاستقرارها الداخلي، كذلك إيران وحزب الله يلتزمان التزاما مطلقا بأولوية حماية الحدود الإسرائيلية من خلال عدم المسّ باستقرارها، ذلك أنّ الطرفين بالمعنى العسكري هما الأكثر قدرة من حيث التسلح على توجيه ضربة موجعة لإسرائيل إذا أرادا ذلك، لكنهما يدركان أنّ تدمير سوريا والتورط في هذه الجريمة هما أقل خطرا عليهما من قيامهما بتوجيه أيّ ضربة عسكرية لإسرائيل.

علما أن إسرائيل هذه “أوهن من بيت العنكبوت” كما يكرّر حسن نصرالله، ويحتاج تدميرها إلى سبع دقائق ونصف كما قال قائد الحرس الثوري الإيراني قبل أشهر. هذا ما يكشف إلى حد بعيد أّن الوجود الإيراني على الحدود الإسرائيلية لا غاية له إلا تأمين مصالح الدولة الإيرانية، فقتال إسرائيل أو خوض مواجهة لتحرير فلسطين لم يكن يوما بالنسبة إلى إيران أمرا يتصل بأولويات الأمن القومي الإيراني بل شعارا غايته التمدد والمساومة عليه في لعبة التفاوض مع الشيطان الأكبر أو لابتزاز بعض الحكومات الإقليمية العربية وغير العربية.

الدعوات لحزب الله بطول البقاء في سوريا لا يشذ عنها إلا السوريون الذين تسبب حزب الله والانخراط الإيراني في الدفاع عن النظام السوري في تهجيرهم وتدمير بيوتهم، أما بقية الأطراف، ولا سيما إسرائيل وغيرها من الدول الكبرى بمن فيها لبنان فتدعو له بطول البقاء على أرض لم تألف وجوده، أرض حوّلها إلى أرض محروقة، لا يتجرأ على أن يدير ظهره لإنسان فيها حتى لو كان من أتباع النظام السوري، أرض استنزفته وتستنزفه رغم أنه حوّل العديد من مناطقها إلى أثر بعد عين. حزب الله غرق في الرمال السورية ولا أحد يريد أن يمد له طوق النجاة لا الأصدقاء ولا الأعداء، فقط إسرائيل تربتُ على كتفيه بالمزيد من الكلام المعسول عن الخبرات القتالية التي اكتسبها وحزب الله الغارق في دمائه والمحاصر بالأعداء يحب أن يصدق ذلك.

إسرائيل تدرك أن حساباتها في الأزمة السورية يتم احترامها، ورغم كل ما يقال عن قيامها بضربة موجعة لحزب الله هو من الإشارات والتحليلات التي تتكرر منذ سنوات، فإنه كلما زادت إسرائيل من وتيرة تهديداتها وحتى ضرباتها لحزب الله، كلما بدا أن حزب الله شديد الالتزام بشروط الأمن على الحدود مع إسرائيل، وكلما استمر حزب الله في تعميق الشروخ داخل البيئة المحيطة بإسرائيل كلما زادت الطمأنينة لدى قيادة الكيان الإسرائيلي، وهذه المعادلة قابلة للاستمرار وكفيلة بأن تحوّل النفوذ الإيراني في سوريا بالمعنى الاستراتيجي إلى عنصر أمان لإسرائيل لن تفرط فيه بسهولة.

اقرأ المزيد
١٠ مايو ٢٠١٧
ماكرون والملف السوري

بعد فوز إيمانويل ماكرون برئاسة فرنسا كان هناك شبان من أصل عربي في محيط ساحة اللوفر الباريسية يرقصون ويغنون بالفرنسية «سنبقى في فرنسا». ولا شك أن المهاجرين إلى فرنسا من أصول عربية، وعددهم كبير، ارتاحوا لخسارة مارين لوبن زعيمة حزب اليمين العنصري المناهض للهجرة والمؤيد لإغلاق الحدود، وكذلك ارتاحت المنطقة العربية التي تخوفت من أقوال لوبن العنصرية ضد المسلمين وعدد من الدول العربية.

بعد أربعة أيام يتسلم ماكرون مفتاح قصر الإليزيه وأسراره من فرانسوا هولاند. والأمل أن يبقى على نهج سلفه في مواقفه من الصراعات العربية وفي طليعتها سورية. فخبرة ماكرون في السياسة الخارجية محدودة. ولكنه كثيراً ما يستشير كبار المسؤولين السابقين في السياسة الخارجية في بلده ومن بينهم وزيرا الخارجية السابقان هوبير فيدرين ودومينيك دو فيلبان والسفير السابق جان كلود كوسران. ولكن هؤلاء كانوا يرون ضرورة إيجاد حل للأزمة السورية وأنه كان خطأ أن تغلق فرنسا سفارتها في دمشق. وموقف ماكرون من الصراع السوري كان في البداية حذراً جداً عندما زار لبنان ولكنه سرعان ما غيره في حديث إلى صحيفة «لوريان لوجور» اللبنانية، عندما اعترف أن الحل لن يكون مع بشار الأسد وأنه ينبغي جمع كل الأطراف بما فيهم النظام إلى طاولة الحوار. وعندما قام النظام بهجومه الكيماوي على خان شيخون دانه ماكرون بشدة. ومن المتوقع أن يجري ماكرون لقاء ثنائياً مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في بروكسيل يوم ٢٥ أيار (مايو) الجاري، ومن شبه المؤكد أن يثير معه موضوع سورية.

ومن المعروف في كل الأنظمة الديموقراطية أن كل رئيس منتخب يسعى إلى التغيير لأنه يريد إظهار أنه أكثر نجاحاً من سلفه. ولكن في الصراع السوري يعرف ماكرون تماماً طبيعة هذا النظام الذي يقتل شعبه بالكيماوي. كما يعرف ممارسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأكاذيب روسيا عندما تظهر أنها تسعى إلى حل للصراع السوري في حين أنها متمسكة ببقاء الأسد وتبتدع أفكاراً لوقف التصعيد في آستانة وكأنها ليست طرفاً في الحرب. فروسيا بطائراتها وقنابلها تشعل المناطق السورية وتصعد ساحة الحرب. وماكرون لن يتمكن من المساهمة في إيجاد حل للصراع السوري أكثر مما حاول هولاند إلا بمساهمة حقيقية واستراتيجية من الجانب الأميركي. فأوباما ووزيره جون كيري خيّبا آمال هولاند، الأول بتراجعه عن ضرب المراكز العسكرية لسلاح الجو التابع للنظام السوري، والثاني بتنازلاته للجانب الروسي من دون أي مقابل. أما اليوم فنرى أن وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون يتفاوض بقوة وحزم أكثر من سلفه مع نظيره الروسي سيرغي لافروف. وربما يستفيد ماكرون من وجود إدارة أميركية جديدة تسعى لحل يوقف الصراع السوري ويوقف نزوح اللاجئين الذين هجّرهم الأسد. حضر أيضاً وبقوة خلال حملة انتخابات الرئاسة الفرنسية موضوع علاقة فرنسا بدول الخليج. وكانت لوبن تندد بهذه العلاقة وتلوم ماكرون والنظام الذي يأتي منه على العلاقات الوثيقة مع دول الخليج. وكان رد ماكرون حذراً دائماً في هذا الموضوع وكان يقول إنه يريد علاقات مع كل دول المنطقة بما فيها إيران. لكنه أكد أمراً لم يلاحظه أحد وهو أنه يريد إلغاء الاتفاق الضريبي الذي يربط فرنسا بدول الخليج. وهذا ليس في مصلحة دول الخليج ولا في مصلحة فرنسا. فالدول الخليجية إذا تم ذلك ستتراجع عن الاستثمار في فرنسا. كما ستضطر إلى دفع أموال طائلة من الضرائب على ممتلكات ضخمة. فهذا الأمر يتطلب درساً معمقاً من قبل فريق ماكرون الاقتصادي قبل تنفيذ ما وعد. وفي رأي ماكرون أن دور فرنسا أن تكون لها سياسة مستقلة ومتوازنة تمكنها من التكلم مع الجميع على أن تضمن بناء السلام. وهذا موقف جيد في المطلق ولكن لا يمكن تبنيه في جميع الحالات وهو خصوصاً موقف غير واقعي في الصراع السوري.

اقرأ المزيد
١٠ مايو ٢٠١٧
2017 نهاية سورية الموحدة؟

لن تنتهي أزمة سورية بسقوط بشار الأسد ولا القضاء على المعارضة. الإمكانات والنيات تجاوزت هذين الأمرين، وسورية هي أقرب الى السقوط والإنتهاء، وهذا يبدو أقصى الممكن والمتاح. تبقى كيفية تخريجه للواقع ورسم حدوده ومكوناته.

ثمّة مؤشرات عديدة تؤكد أن البيئة الدولية لم تعد تحتمل استمرار الصراع في سورية، وأعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب صراحة عن هذا التطور، فالصراع السوري، وفق الإدراك الأميركي الجديد، بات مغذياً لكل الأخطار التي تمس الأمن القومي الأميركي، ولم يعد في الإمكان قبول استمراره، على الأقل بشكله ومخرجاته الحالية، فإن يكن ثمة مخرج فإنه يتوجب إعادة صياغة الصراع على أسس جديدة، وأول وأهم تلك الأسس ضبط فائض تداعيات الصراع على البيئتين الإقليمية والدولية، وبخاصة تلك التي تشكل فضاء المصالح الأمنية الأميركية.

في المقابل، روسيا غير معنية لا بالتصورات الأميركية ولا بحساسيتها الأمنية الطارئة تجاه الوضع السوري، ذلك أن لموسكو حسابات معقدة ومتشابكة وتندمج سورية ضمن جملة المصالح الروسية، حتى أن تلك التداعيات المشكو منها أميركياً تمثل مصالح روسية حقيقية، وعلى عكس ما يشاع في كثير من التحليلات الغربية والعربية من أن روسيا لا تتمسك بشخص بشار الأسد، فإن الأسد بالنسبة الى موسكو ركيزة يستحيل التخلي عنها كما أن روسيا لم تفكر حتى بصناعة مراكز قوى أو دعم شخصيات غير بشار الأسد والذين تضمن ولاءهم له بدرجة كبيرة.

أمام هذه الانسدادات لا تملك أميركا وروسيا مخارج ممكنة للصراع ولا احتمالات للتوافق على تسويات مستدامة، ويجمع الطرفين الحذر من الاستنزاف والغرق في ما يسميانه المستنقع السوري، وبالتالي فهما ستذهبان الى أكثر الخيارت فائدة وأقلها ضرراً عليهما، وهذا يقلّص مساحة الخيارات الممكنة للحل في سورية ويحصرها في أطر ضيقة تقع بين التقسيم المباشر وفق صيغة قريبة من «سايكس بيكو»، أو تقسيم واقعي يمهد لتقسيم فعلي.

لا تريد روسيا من المفاوضات التي تديرها في جنيف وآستانة وحدة سورية ولا السيطرة على كامل التراب السوري. هذا هدف تدرك من خلال معاينتها للمجريات والتطورات استحالة تحقيقه. هي تريد إضعاف الطرف الآخر الى أبعد حد سواء بإثارة الفتنة أو بالاستفادة مما تدّعيه شرعية الأسد أو استثمار المناخ الدولي الداعم للحرب على الإرهاب، وحتى عندما تعلن مشروعها الانفصالي تكون ارتاحت تماماً من الخصم السنّي.

من غير المستبعد أن روسيا تخطّط للقضاء على الأكثرية في سورية، على رغم انه مشروع غير عقلاني، إلا أن دعمها عمليات التهجير الطائفي تكشف إلى حد بعيد مخططاً يقوم على مراحل، إذ يتم في مرحلة أولى استبعاد الجزء الفاعل من الأكثرية والممثل بالمقاتلين عبر نفيهم إلى إدلب لوضعهم لاحقاً أمام خيارين: القضاء عليهم، أو دفعهم للهرب إلى تركيا والتسرب إلى أوروبا، وفي مرحلة ثانية يتم تهجير مجتمعاتهم المحلية التي ستكون مكشوفة وضعيفة أمام ميليشيات إيران والأسد.

يسير بشار الأسد، من جهته، على الهدف نفسه ويستثمر سلطته لاستكمال عمليات التهجير الطائفي وتشريد السوريين وتدمير مدنهم لضمان بقائهم نازفين لسنوات طويلة، وفي حين يدّعي الأسد رغبته في استعادة وحدة سورية والسيطرة على كل شبر فيها، فإن الوقائع تؤكد أن هدفه الحقيقي يتمثّل بتدمير أكبر قدر ممكن من العمران والنسيج الاجتماعي لدى الأكثرية.

وتستثمر إيران من جهتها، الوقت لتثبيت مناطق سيطرتها في سورية، وعملت على سيناريوين: الأول تأمين طريق مباشر من إيران إلى ديالى في العراق مروراً بالشرق السوري إلى البحر المتوسط، وهو ما يبدو أن إدارة ترامب تنبهت له وتعمل على تقطيع أوصاله، والسيناريو الثاني خلق جيب شيعي من دمشق وريفها يرتبط بشرق لبنان ويديره «حزب الله» وتكون قناة اتصاله مع طهران عبر مطار دمشق.

لا تستطيع إدارة ترامب السيطرة على كل هذه الوقائع ولا ضبط تفاعلاتها. ذلك يحتاج موارد وإمكانات لا قدرة لأميركا المشغولة على جبهات عديدة على توفيرها في الوقت الحالي، كما أن تأثيرات إستراتيجيتها السورية ستكون ضعيفة إلى حد ما وستلقى مقاومة من أطراف أسست لها وجوداً قوياً وتموضعاً مديداً، واستتباعاً فإن السيناريوات المحتملة للفعل الأميركي تنحصر في: أ- إغراء روسيا بشراكة على مستوى إدارة نظام عالمي جديد، وهو الطرح الذي حمله وزير الخارجية الأميركي ريكس تيرلسون إلى موسكو بدعم من السبع الكبار، لكن المشكلة أن روسيا لا تثق إلا بما تحصّله بقوّة جيوشها ودهاء دبلوماسيتها، ب - جعل الوجود الروسي في سورية أكثر كلفة من خلال دعم المعارضة بأنواع من الأسلحة تغير التوازنات الحالية، لكن لا يبدو أن إدارة ترامب تخلصت من شكوكها تجاه الكثير من الفصائل، ج - القيام بإجراءات أحادية الجانب، مثل إقامة مناطق آمنة في الشمال والجنوب، وهو الخيار الأكثر واقعية كونه أقل تكلفة وأكثر إمكانية.

لا معطيات الواقع السوري، ولا سلوكيات الفاعلين الأساسيين تشير إلى إمكان الوصول إلى حل سوري يضمن عودة البلاد موحدة، وكل ما يجري في هذا النطاق يؤكد ذهاب سورية صوب التقسيم، ويبقى موعد إعلان هذا الحدث.

اقرأ المزيد
٩ مايو ٢٠١٧
تهدئة أم تصعيد؟

اختتم الرائد ياسر عبد الرحيم الجولة الرابعة من محادثات أستانا؛ وهو يعترض على إشراك إيران كضامن على اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في سوريا. وإذ شغلت صورته الرأي العام وهو يلّوح سبابته مهددا خصومه بالرد في ميدان المعركة، تتجلى وسط هدير هذه الأصوات حقيقة لا ريب فيها، لن تكون هذه المحاولة الفاشلة الأخيرة في فرض هدنة على أطراف الصراع السوري.

لم يعد لغزا أن حسن النوايا بمفرده لن يؤسس لأي حالة سلم مستدامة في سوريا، فلا ثقة في نظام أتقن كل أنواع الكذب والخداع، ولا رجاء من روسيا التي لم تدخر جهدا في التفريط بكل محاولات المعارضة للتعاون معها على الرغم من دعمها اللامحدود لوكيلها الحصري في دمشق، ولا أمل في تخلّي إيران عن مشروعها التوسعي في المنطقة. فما الذي دفع المعارضة للذهاب للأستانة رغم اليقين الجازم في كل ما سبق؟


دفع تركي لحضور الأستانة
الجواب على هذا السؤال بدوره ليس سرا، حضرت فصائل الثورة الاجتماع بدفع من عمان وأنقرة، أملا في أن ترعى الأخيرة مصالحها كما فعلت سابقا في جنيف ونيويورك ولوزان! فما الذي تغير إذن؟ هل تخلّت تركيا عن مطلبها في تغيير النظام؟ هل ساومت روسيا على موقفها الداعم للثورة؟ الإجابة على هذا السؤال من ملاك الحكومة التركية وستجيب عليه الأيام عاجلا أم آجلا، ولكننا نملك في المقابل بعض عناصر الحقيقة كما يكشفه لنا الواقع بدون غبش، وهي كالتالي:

أولا، لن تتخلى تركيا عن هدف تغيير النظام في دمشق بمحض إرادتها، ويشكل استمراره تهديدا أمنيا لا يقل خطرا عن نمو الاتحاد الديموقراطي على حدودها الجنوبية. وإذ تجاري أنقرة موسكو في مسعاها للتطبيع مع الأسد بدفع تأزم خلافاتها مع حلفائها في الغرب وطمعا في توسيع هامش مناوراتها على الساحة الاقليمية، فإنها لن تفرط بأي فرصة للإطاحة بالأسد، ويشهد تفاعلها مع ضربة الشعيرات على حقيقة موقفها منه.

ثانيا، في حين استبشرت القيادات التركية خيرا بوصول ترامب للبيت الأبيض، أملا في إنهاء عزلة أنقرة الدولية، توجهت الإدارة الأمريكية الجديدة نحو تشكيل حلف مع خصومها الإقليميين. وإذ ينم الخيار الأمريكي عن ضيق أفق ترامب السياسي باعتماده على أنظمة متّأزمة ومتعثّرة وغير قادرة على صيانة أمنها وسيادتها الوطنية، لا تمتلك تركيا خيارا سوى لعب دور المفسد ريثما تعيد واشنطن توازن تحالفاتها الإقليمية.

ثالثا، صعود نجم الاتحاد الديموقراطي وتعزز الخيار الأمريكي في الاعتماد عليه في محاربة تنظيم داعش. وتتجلى أزمة أنقرة مع الاتحاد في أمرين رئيسيين، أولهما ارتباطه العضوي بحزب العمّال الكردستاني الذي عاد لتمرده العسكري على الأراضي التركية بعد انهيار عملية السلام، والثاني بلوغ مرحلة اللاعودة في خيار مواجهته العسكرية الذي بنى عليه حزب العدالة والتنمية تحالفه مع الحركة القومية التركية.

تقف تركيا على مفترق طرق، فيما يضيق هامش مناوراتها مع اقتراب معركة الرقة، وإذ تبدو فرص اعتماد أمريكا عليها في محاربةداعش شبه معدومة، لا تجد أنقرة بدّا من المضي في خيار الأستانة، وذلك أملا في الحفاظ على رصيدها الفصائلي في سوريا وتجنيبه خطر الإبادة الروسية، وسعيا نحو إخلال حسابات واشنطن. لا يخلو هذا التكتيك من مخاطر، فأفق التعاون الاستراتيجي مع روسيا مسدود فضلا عن كلفته العالية، كما أن تركيا حريصة على عدم بلوغ مرحلة القطيعة الكاملة مع أمريكا.


شروط الاستمرار في الأستانة
تهدف روسيا إلى إقامة هدنة هشة تتيح لها إدارة الاستثناءات من خلال خرقها متى شأت وكيفما شأت بذريعة محاربة التنظيمات الإرهابية وتحرّم على الثوار السوريين استمرار مقاومتهم المشروعة للنظام وحلفائه. وفي ظل هذه الحقيقة الجلية تغدو كل أهدافها الأخرى تفاصيل لا ينبغي الالتفات إليها كثيرا،وهنا مكمن الخطر الأول.فلقد تحوّل تباين الآراء حول المشاركة في الأستانة ومقاطعتها إلى سياسات اقصائية واستئصالية بحق الآخر، فلم يكن مجرد مدخل للاقتتال الداخلي فحسب، بل معيارا لتصنيف المارقين على الإرادة الروسية كإرهابيين في حين لم يتم البت في شكل الانتقال السياسي في سوريا بعد. وبالتالي لا ينبغي مشاركة فصائل المعارضة السوريا في مسار الأستانة إلّا باجتماعها جميعا دون استثناء، أو مقاطعتها بشكل كامل دون خرق.

في المقابل، تبدو إيران أقل ارتياحا لمسار الأستانة، وذلك لعدّة أسباب أهمها سحب المبادرة العسكرية من يدها لصالح موسكو، واحتكار الأخيرة للأداء السياسي والدبلوماسي لدمشق. ولذا عزّزت طهران مشاركتها في الأستانة مؤخرا لمساعدة النظام على استرداد هامش مناورته في المفاوضات، مما يهيئ لها لعب دور المفسد فيما لو ساومت أمريكا روسيا على رحيل الأسد مقابل تسليمها بنفوذ الأخيرة غربي البلاد. وبالتالي ينبغي على المعارضة رفض العودة إلى الأستانة دون مشاركة السعودية وقطر، مما يتيح لها مواجهة صلف النظام المتوقع ويريح تركيا من عبء إدارة تعنت إيران بمفردها.


خيارات المعارضة
تبدو فصائل المعارضة السوريا مع انسدال المشهد الأخير في الأستانة في أكثر حالتها ارتهانا للإرادة الدولية، ويقودنا الإنصاف أن نعلل هذا الوهن بالتطورات العسكرية التي أفقدتها مرونتها في التعامل مع المجتمع الدولي، فيما تشتد أزمتها بشكل أكبر مع تفاقم أزمة أنقرة الدبلوماسية التي ورثتمنها عزلتها الدولية، وضيق هوامش مناورتها في التعامل مع أمريكا.

يستوجب البحث عن خيارات المعارضة تلمّس حدود المعقول أولا، وشغل حيّزه وفق ما تتيحه قدرة الثوار ثانيا. وإذ يصعب التغلّب على التوافق الأمريكي الروسي في الحؤول دون سقوط الأسد عسكريا، ثمّة تقاطع مصالح مع تركيا في قطع الطريق على النظام وحلفائه من استعادة سيطرته على المناطق المحررة. ويمكن تحقيق ذلك بأمرين، أولا رفض الاستمرار بالأستانة دون تحقق الشروط المبينة سابقا، ومما قد يجبر الروس على الوفاء بالتزاماتهم بوقف إطلاق النار، وثانيا تنظيم العمل العسكري في مناطق سيطرة الثوار، مما يهيئ لها إدارتها أمنيا ووقف ذرائع التدخل العسكري فيها بدعوى محاربة التنظيمات الإرهابية.

يبدو المطلب الأخير مبتذلا، فلم تهفت الأصوات الوطنية يوما بمطالبة فصائل الثورة بتوحيد بنادقها منذ بدء المقاومة العسكرية المشروعة في مواجهة النظام. ولقد أصبحت هذه النداءات رغم الحاجة الملحة لتلبيتها ضربا من ضروب الخيال، وإذ لم تأل مختلف الفاعليات المدنية جهدا في توفيق الفصائل، فلقد بات جليا أنه لا بد من استبدال القيادات التي غلبتها أهواؤها ومصالحها بمن يثبت قدرته على العمل مع الآخرين.

وأخيرا، لا يقتضي التفاعل مع بعض القرارات الأممية وقف البحث عن منغصّات لها، بل لا بد للثوار أن يفعّلوا مسارات موازية تعيد توازن الرعب مع النظام، ما من شأنه كسر الجمود الذي أصاب المسار السياسي وإجبار المجتمع الدولي على مراجعة توافقاته القاتلة.

اقرأ المزيد
٩ مايو ٢٠١٧
مناطق خفض التصعيد السورية حبر على خرائط

على رغم تحوير التسمية، فإن مناطق خفض التصعيد التي طرحتها موسكو في مؤتمر آستانة هي ذاتها المناطق الآمنة التي سبق أن تحدث عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. الأميركيون قابلوا هذا الخطوة الروسية المواربة بخطوة مواربة أيضاً من طرفهم، وأرسلوا مسؤولاً رفيع المستوى في الخارجية راقب المؤتمر، لكنه حين أفصح عن رأيه قال نقطة واحدة ذات أهمية، هي أنهم قلقون من دور إيراني مستقبلي في سورية، تشرعنه هذه الاتفاقية.

الأمور بسيطة ومعقدة في سورية في آن معاً، لدى الأميركيين جدول عمل سوري من ثلاث نقاط، هي القضاء على «داعش» و «القاعدة»، وإعادة إيران إلى داخل حدودها، وإزاحة بشار الأسد، لوضع القضية السورية على سكة الحل.

أما الروس، فيتعاملون، بحكم محدودية إمكاناتهم، مع الشأن السوري وفق الحالة، يتقدمون حيث يتاح لهم، ويحجمون عند أول إنذار، ويراعون مصالح حلفائهم وشركائهم الذين لولاهم لما استطاعوا أن يتواجدوا في الشرق الأوسط.

لا يستطيعون أن يضربوا صفحاً عن التعاون مع واشنطن، فمن دونه قد يغرقون في أفغانستان أخرى، وعرضوا خدماتهم بخاصة في النقطة الأولى، أي محاربة «داعش» و «النصرة» مرات عدة، لكنهم اصطدموا بعقبة إيران، ففي ذهن ترامب وإدارته أن وجود المتطرفين السنّة مرتبط باستفحال الميليشيات الشيعية المرتبطة بالولي الفقيه، وأنه يجب إجلاؤها عن الأراضي السورية، وهو إحراج أول للروس، فالحرس الثوري الإيراني وتلك الميليشيات هي من تمسك الأرض تحت طائرات بوتين، وربما كانت خزينة خامنئي هي من تمول تدخله العسكري المكلف، وتستطيع إيران أن تتمرد على الروس في سورية، لكن الروس لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك. ناهيك عن أن إيران حليف استراتيجي لروسيا في مسائل عدة ولا يمكن التفريط بها ببساطة، وربما تم تفصيل اتفاق المناطق الآمنة لحل هذه الإشكالية، بإيجاد صيغة شرعية للوجود الإيراني في سورية، ولعل هذا أيضاً سر مسارعة نظام الأسد لقبول الاتفاقية، غلى رغم رفضه بصوت عالٍ لهذه الفكرة طوال السنوات الماضية.

في النقطة الثالثة أي إزاحة بشار الأسد، فإن الروس أيضاً يجدون صعوبة شديدة في إبداء أي نوع من المرونة إزاءها، فالأسد هو من جلبهم بتعاقد رسمي ومنحهم أجزاء استراتيجية من سورية، هو الغطاء الشرعي الوحيد للتواجد الروسي في البلاد، بخاصة في ظل الخصاء التاريخي المتعمد في عقد القيادة الأسدية، التي تجعل من شبه المستحيل العثور على شخصية عسكرية أو مدنية قادرة على الحلول محل بشار الأسد فيما لو قررت روسيا استبداله بآخر من داخل النظام، ناهيك عن أن ذلك سيمسّ مصالح إيران، التي تعتبر أيضاً أن بقاء بشار الأسد هو ضمانة نفوذها في سورية، وفي غيابه ليس لديها سوى سلاح الميليشيات الطائفية، الذي بات معرضاً للذهاب أدراج الرياح مع الإصرار الأميركي والعربي والإسرائيلي على تفكيكه.

الاختبار الهام للديبلوماسية الروسية التي أثبتت رسوخها وذكاءها في السنوات المنصرمة، هو في مؤتمر جنيف السوري المقبل، إذاً ينتظر الأميركيون، بعد أن سايروا الروس في محادثات آستانة العسكرية، أن يثبت هؤلاء أن لديهم طرحاً جدياً في ما يخص عملية التفاوض السياسي، وأن لديهم إجابات وتصورات واضحة حول مراحل ومآلات العملية السياسية، التي يفترض أن تنتهي بخروج القوات العسكرية الإيرانية من سورية، وخروج عائلة الأسد من السلطة، وهذا يقتضي أن تمارس روسيا نفوذها على هذين الطرفين لإرغامهما على ذلك، وهو أمر إذا حصل فإن روسيا ستكافأ عليه غربياً وعربياً.

أما إن لم تبد موسكو استجابة ذات صدقية، وتقبل الصفقة، فإن واشنطن لديها فائض من الأوراق للعبها، من دعم فصائل المعارضة العسكرية في شكل جدي لدحر المتطرفين والنظام وميليشيات إيران في آن معاً، وهز صورة روسيا واستنزافها عسكرياً وسياسياً، إلى استخدام ملف انتهاكات قوات الأسد وحشد حلف دولي ذي شرعية أممية وحقوقية ضده، والذهاب إلى فرض مناطق آمنة بالقوة بعيداً من نفوذ موسكو، إلى توجيه ضربة قاصمة لإيران عبر إسرائيل في معقل ذراعها «حزب الله» في لبنان، إلى توجيه ضربات أميركية مباشرة لنظام الأسد، وثمة أطراف في الإقليم جاهزة لدفع الكلفة مهما غلت.

إذا وصلت التطورات إلى هذه النقطة فإن الأمور التي كانت تبدو شديدة البساطة ستنتقل إلى مستوى التعقيد الكامل الذي لا يمكن حسابه أو التكهن بنتائجه.

عجلة السياسة الخارجية الترامبية ستبدأ بالدوران قريباً، عندما تكتمل الاستراتيجيات والخطط التي طلبها حول مختلف القضايا، وهو حين سيتوجه للشرق الأوسط أولاً، والى السعودية وإسرائيل تحديداً، فإنه يكشف عن محور سياسته الخارجية وأولوياتها، وهي ايران. وبالنسبة الى الشأن السوري فقد بات أمر رحيل بشار الأسد محسوماً قبل جميع هذه الترتيبات، بفضل رعونة بشار الأسد واستخدامه السلاح الكيماوي مرة أخرى، فالصواريخ الأميركية التي ضربت مطار الشعيرات، تشبه ما يصطلح عليه في العلوم العسكرية بالطلقات التحذيرية، ومعناها أن هذا المكان هدف لهجوم مدمر قادم، وعلى من يريد تجنب الأذى أن يبتعد منه.

واستناداً إلى وجهة النظر السابقة، فإن مناطق خفض التصعيد التي تم تحديدها في آستانة، ما هي إلا حبر على خرائط، ولن تؤدي أو تنتج أي شيء.

اقرأ المزيد
٨ مايو ٢٠١٧
هل كانت التنظيمات الجهادية وبالا على المنطقة؟

ربما يعتبر الجهاديون أنفسهم قدوة للمسلمين، ولا شك أنهم يرفعون شعارات إسلامية عظيمة، لكن من حق بقية العرب والمسلمين أن يتساءلوا بناء على ما وصلت إليه الأوضاع في بلادنا: ماذا استفدنا من التنظيمات الجهادية على مدى عقود؟ ماذا استفدنا من تنظيم القاعدة في أفغانستان؟ ماذا استفدنا من داعش في العراق وسوريا؟ ماذا نستفيد الآن من بقية التنظيمات الأخرى في سوريا وليبيا واليمن، خاصة تلك التي بدأت الآن تتقاتل على الغنائم بشكل مفضوح بعيداً عن أحلام الشعوب بالحرية والكرامة؟

أليس من حق العرب الذين آمنوا بالثورات العربية أن يضعوا ألف إشارة استفهام على ظهور تلك التنظيمات في أخطر مرحلة يمر فيها العالم العربي؟ قد يكون لتلك التنظيمات مشاريعها الذاتية الخاصة، وقد تعتبر نفسها ردة فعل طبيعية على الظلم والطغيان في المنطقة، لكن أليست العبرة دائماً في النتائج؟ ماذا استفاد الحالمون بالحرية في سوريا والعراق واليمن وليبيا في النهاية من الجماعات الإسلامية على أرض الواقع السياسي والدولي؟ ألم تكن تلك الجماعات السبب المباشر في عودة المستعمرين إلى المنطقة بحجة مكافحة الإرهاب؟ ماذا استفادت المنطقة، وخاصة العراق من داعش وغيره مثلاً. هل تراجع النفوذ الأمريكي والإيراني في العراق مثلاً؟ بالطبع لا، فما زالت إيران تتحكم بكل مفاصل العراق، وتتمدد في سوريا ولبنان واليمن والخليج. ومازالت أمريكا تحكم قبضتها على بلاد الرافدين.

والسؤال الأهم: هل فعلاً دخل تنظيم الدولة الإسلامية إلى العراق من سوريا، واحتل محافظة الموصل ومحافظات عراقية أخرى رغماً عن الأمريكيين، أم بتسهيل وغض الطرف منهم؟ ألم تكتشف الأقمار الصناعية الأمريكية بضع عربات روسية دخلت أوكرانيا بسرعة البرق؟ هل يعقل أن تلك الأقمار لم تستطع اكتشاف جحافل السيارات التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية وهي تدخل الموصل وبقية المناطق العراقية والسورية؟ هل يعقل أنها لم تر جماعات الدولة وهي تتنقل داخل سوريا، وتستولي على مدن ومطارات في أرض مكشوفة؟
هل سيسمح العالم، وخاصة الغرب بقيام دولة جهادية بين العراق وسوريا بالطريقة التي تحلم بها التنظيمات الإسلامية المقاتلة؟ ألا يُخشى أن يكون ظهور الجهاديين بكافة تشكيلاتهم خلال الست سنوات الماضية حلقة جديدة في سلسلة المشاريع الجهنمية الغربية المرسومة لمنطقتنا؟ أليس من حق البعض أن يعتبرها مسمار جحا جديداً في المنطقة تستخدمها القوى الدولية كحجة، كما استخدم جحا مسماره الشهير، لإعادة رسم الخرائط وتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ؟

أليس كل الجماعات التي يصفها العالم بـ«الإرهابية» استغلتها القوى الكبرى أفضل استغلال لتنفيذ مشاريعها في أكثر من مكان؟ فعندما أرادت أمريكا تأمين منطقة بحر قزوين الغنية بالنفط، فكان لا بد لها من احتلال أفغانستان. وماذا كانت الحجة؟ ملاحقة تنظيم القاعدة في أفغانستان. ذهبوا إلى هناك منذ أكثر من عشر سنوات ومازالوا هناك. ألم تكن القاعدة هي الشماعة لاحتلال أفغانستان؟ حتى في غزو العراق استخدمت امريكا حجة وجود القاعدة هناك بالإضافة إلى أسلحة الدمار الشامل. ألم تصبح الجماعات المتطرفة شماعة لكل من يريد أن ينفذ مآربه هنا وهناك؟

ألم يوظفوا تلك الحركات جيداً لتحقيق غاياتهم الاستراتيجية؟ فبحجة الجماعات الإرهابية أصبحت كل منطقتنا مستباحة أمام القاصي والداني كي ينفذ كل ما يريد بحجة مكافحة الإرهاب؟ اليوم بإمكان الأنظمة الدولية القيام بكل الجرائم و الموبقات والخطط في المنطقة بحجة محاربة داعش والتنظيمات الجهادية، وبذلك تلقى دعماً كاملاً من شعوبها خوفاً من داعش، ولن يعارض أحد، لأن كل من يعترض يشتبه بصلته بمن يسمونهم الإرهابيين. وحتى لو بقي الجهاديون، وتمددوا كما يتوعد مؤيدوهم، هل سيكون ذلك مجاناً، أم على حساب جغرافية المنطقة وخريطتها؟

ما هي الصفقات الدولية والعربية والإقليمية التي تتم من وراء الستار تحت شعار مكافحة إرهاب الإسلاميين؟ ألا يخشى أنه كلما ازداد تضخيم الجماعات الجهادية إعلامياً كانت المنطقة على موعد مع خازوق تاريخي من العيار الثقيل؟ ألم يتم من قبل تضخيم خطر القاعدة، ثم انتهى قائدها مرمياً في البحر للأسماك؟ أليس من حق الكثيرين أن يخشوا الآن من تكرار السيناريو المعهود في سوريا ودول أخرى مجاورة تحت حجة مكافحة الإرهاب الداعشي؟ ألم يؤد ظهور التنظيمات الإسلامية المقاتلة وأخواتها في عموم المنطقة إلى وأد الثورات العربية وأحلام الشعوب بالتحرر من الطغاة وكفلائهم في الخارج؟ ألا يؤدي إلى إنهاك المنطقة وشعوبها واستنزافها وتمزيقها؟ ليس صحيحاً أبداً أن ضباع العالم لم يكونوا بحاجة للجماعات الإسلامية كي يبرروا تدخلهم في المنطقة، ويعيدوا رسم خرائطها والهيمنة على ثرواتها المكتشفة حديثاً؟ وليس صحيحاً أنهم كانوا قادرين على الدخول إلى المنطقة بهذه الفجاجة لو لم يتحججوا بداعش وأخواتها؟ أليس من حق الشعوب أن تكرر السؤال القديم: هل الجماعات الإسلامية حركات ثورية فعلاً، أم إن سادة العالم يستخدمونها دائماً كشماعة إما لإجهاض التغيير والقضاء على أحلام الشعوب في الحرية والتحرر من الظلم والطغيان، أو كمسمار جحا لإعادة تشكيل المنطقة حسب المخططات الاستعمارية الغربية الجديدة؟

لا شك أن القوى الكبرى كانت تستطيع على مدى التاريخ اختراع الذرائع لاستعمار هذا البلد أو ذاك، وكان بإمكانها أن تجد أي ذريعة أخرى لتدمير بلادنا وتفتيتها واستعمارها غير الإسلاميين، لكن ألم تستخدم هذه المرة ذريعة الإرهاب الإسلامي الذي تمثله الجماعات الجهادية كي تفعل فعلها في هذه المنطقة؟

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو