مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٤ مايو ٢٠١٧
حزب الله من ذراع إيران الأقوى إلى خاصرة إيران الرخوة

زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية، ستشكّل معلما أساسيا في قراءة التطورات الاستراتيجية على مستوى المنطقة العربية والشرق الأوسط على وجه الخصوص، فالقمم الثلاث التي نظمتها الرياض؛ الثنائية مع واشنطن، والقمة الخليجية الأميركية، والقمة الإسلامية العربية الأميركية، سوف تؤسس لمرحلة جديدة عنوانها إعادة استنهاض الحلف الأميركي التقليدي في المنطقة الذي بدا أنه اهتز وتراجع منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 وزاد في التصدّع مع السياسة الأميركية التي قادها باراك أوباما والتي كان من أبرز سماتها التقارب مع إيران على حساب الحلفاء التقليديين في المنطقة العربية.

نتائج القمم الثلاث التي شهدتها السعودية والتي يتقدمها توقيع عقود بمئات المليارات من الدولارات بين واشنطن والرياض، ترجمت إلى حد بعيد نوعا من الشراكة الاستراتيجية التي ضمنت للرياض دورا محوريا في السياسة الأميركية على مستوى المنطقة العربية والإسلامية يحظى بدعم واشنطن، ووفرت للإدارة الأميركية الجديدة مكسبا سياسيا واقتصاديا سيساعد الرئيس الأميركي في مواجهة خصومه داخل الولايات المتحدة الذين لا يزالون يشكّكون بأهليته في السلطة.

إلى هذين المستويين من الفوائد بين الرياض وواشنطن، يُمكن التركيز على جانب محوري يهمُّ المنطقة والعالم المتمثل في محاربة الإرهاب، فقد نجحت الرياض في بلورة رؤية مشتركة مع واشنطن حول محاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم داعش، وفي التقدم خطوات مهمة لبلورة رؤية مشتركة تجاه النفوذ الإيراني وضرورة الحد من هذا النفوذ وامتداداته في المنطقة العربية.

صحيح أنّ ترامب تحدث بوضوح عن خطر هذا النفوذ وطالب الرئيس الجديد المنتخب في إيران بتفكيك المنظمات العسكرية والأمنية لإيران في الدول العربية، لكنه في المقابل دعا حلفاءه وفي مقدمتهم السعودية إلى أن يكونوا في مقدمة المواجهة، وألا يراهنوا على عودة أميركا عسكريا إلى المنطقة، لكنه شدد على التأكيد أنّنا معكم وسندعمكم.

الملفات المتعددة التي جرى بحثها في القمم الثلاث، تجعل المراقب أمام ما يشبه التأسيس لمرحلة جديدة على مستوى المنطقة العربية، إيران عنصر محوري فيه، فالإدارة الأميركية ومن خلال الاتفاقيات التي عقدتها، تُضيّق الخناق على إيران، فهي من جهة فتحت نافذة للتفاهم من خلال إتاحة الفرصة مجددا لها لأن تكون عنصرا من عناصر استعادة الاستقرار بشرط العودة عن سياساتها الأيديولوجية في المنطقة، ومن جهة أخرى لوّحت بصفقات التسلح ودعم خصوم إيران بقوة في حال استمرت طهران على نهجها في ما يسمى تصدير الثورة.

لذا كان ترامب حاسما تجاه تصنيف حزب الله في خانة الإرهاب وساوى بينه وبين تنظيمي القاعدة وداعش كما صنّف حركة حماس في نفس الخانة، وهذا مؤشر على أن ترامب يميز بين إيران وأذرعها ولا سيما حزب الله، فالرئيس الأميركي لم يذهب كما ذهب سلفه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن إلى وضع إيران في خانة محور الشر، لكنه في المقابل لم يراعِ السياسات الإيرانية في المنطقة كما فعل سلفه باراك أوباما، الذي في عهده جرت أكثر من عشرة لقاءات بين وزيري خارجية إيران وأميركا خلال أقل من سنتين وهذا ما لم يجرِ في تاريخ العلاقة بين الدولتين، بل وصل الأمر إلى أن اعتبر وزير خارجية أميركا جون كيري أن وجود حزب الله في سوريا لا يضر بالمصالح الأميركية.

القرار بضرب أذرع إيران في المنطقة العربية بالتوازي مع القضاء على “الإرهاب السني” هو الأكثر وضوحا في نتائج القمم في الرياض وفي خطاب ترامب الذي لم يميّز بينهما هذه المرة، وبالتالي فإن أهمية توقيت إعلان الرياض الأميركي السعودي، أنه رسم معالم طريق تجاه تطويق أذرع إيران بالتوازي مع ضرب الإرهاب، بحيث لم يجرِ التمييز بين الأمرين ولم يكن هناك أي محاولة لتحديد أولويات، بل يمكن توقع مجريات عسكرية على الأرض مختلفة عما سبق وستبدو هذه المرة أكثر تشددا ضد حزب الله.

أمّا لماذا حزب الله؟ فلأن الحزب كما كان خلال العقود السابقة يد القوة لإيران في المنطقة، هو اليوم الحلقة الأضعف والخاصرة الرخوة لإيران في المنطقة، فمبررات ضرب حزب الله في سوريا هو أنه أقل كلفة استراتيجية بالنسبة للأميركيين وحلفائهم سواء في المحيط العربي أو لدى الكيان الإسرائيلي، ذلك أنّ تورط حزب الله في الدم السوري، جعله بمثابة العدو الأول لمعارضي الأسد، فيما إيران التي أوصلت الرئيس حسن روحاني إلى سدّة الرئاسة مجددا، تقول من خلال هذه النتيجة أنّها تقدم خيار التسوية مع الشيطان الأكبر على خيار المجابهة معه، وبالتالي فإنّ حزب الله سيكون أقرب إلى أن يكون ورقة من الأوراق التي يمكن لطهران أن تساوم عليها وعلى طبيعة دورها ونفوذها لكي تخفف من الخسائر التي يمكن أن تطالها مباشرة.

الصورة تتضح أكثر والأرجح أن إيران وصلت إلى مرحلة حاسمة لجهة عسكرة نفوذها في المنطقة، فهي أمام خيار الإصرار على عسكرة نفوذها وبالتالي الاستعداد للمزيد من الإجراءات العدائية من محيطها ومن واشنطن، أو الذهاب نحو المساومة على هذا النفوذ عبر التضحية بأذرعها العسكرية لصالح مساحة من النفوذ السياسي وهذا قد لا يكون متوفرا على طول الخط إذا ما ضيعت إيران الفرصة المتاحة، ولم ينجح الرئيس الجديد في بلورة صفقة سياسية مع واشنطن بسبب تعنت جهات محافظة داخل النظام.

حزب الله الحلقة الأضعف في هذه المواجهة، والأرجح أن إيران اليوم هي بين خيار الاستمرار في دعم نظام الأسد وبالتالي تحمل تداعيات هذا الخيار على وجود حزب الله ليس في سوريا فحسب بل في لبنان أيضا، أو امتصاص الهجمة الأميركية السعودية بالمزيد من الانضواء تحت السقف الروسي والالتزام بشروطه، وتلقي المزيد من العقوبات الاقتصادية والمالية التي لا مناص منها على ما تشير الإجراءات الأميركية المستمرة ضده وكان آخرها إدراج الشخصية الثانية في حزب الله هاشم صفي الدين على لوائح الإرهاب الأميركية والسعودية عشية زيارة ترامب إلى الرياض.

الفخ السوري يُطبق على حزب الله وليس في وسع الحزب تحمل أي تهديد جدي إقليمي أو دولي في سوريا، ولن يجد هذه المرة أي دولة عربية مستعدة للتضامن معه في ما لو تم استهداف قواته في هذا البلد حتى لو كانت إسرائيل هي الطرف الذي يستهدفه، علما أن الضربات الإسرائيلية المحدودة له لم تتوقف في سوريا من دون أن يقابل ذلك أيّ رد فعل مستنكر من قبل أيّ جهة عربية يعتد بها ولا حتى جهة إسلامية كما كان الحال في عقود سابقة عندما كان يتعرض لضربات عسكرية إسرائيلية على الأراضي اللبنانية.

حزب الله سيعلن قريبا سحب قواته من سوريا بطلب من الحكومة السورية أو بذريعة أخرى، لكن هذا الإعلان سيكون مرتبطا بنوع من الضمانات التي لا تجعله عرضة لضربة عسكرية في لبنان قد تقوم بها إسرائيل، وتضمن حماية الحدود مع سوريا ولو بقوات دولية وهذا ما مهد له قبل أسبوعين حينما أعلن تسليم نقاط تمركزه على هذه الحدود للجيش اللبناني، في المقابل ثمة خيار آخر هو الانتحار عبر فتح المجابهة مع إسرائيل. الانتحار الذي بات يؤذي إيران هذه المرة ولا يفيدها، علما أنّ حزب الله الذي بات محاصرا بالأعداء الذين برع في صناعتهم سواء في الداخل اللبناني أو المجتمع السوري أو العرب على وجه العموم صار بحكم الوقائع الاستراتيجية رهينة إسرائيل بعدما كان ذراعا إيرانية تزعج إسرائيل قبل سنوات.

اقرأ المزيد
٢٤ مايو ٢٠١٧
ولادة تحالف أميركي - إقليمي ضد إيران والإرهاب

تشاركت وسائل إعلام أجنبية وعربية في بث تحقيقات ونشر استطلاعات تتلخّص بأن العالم العربي يعلّق آمالاً كبيرة على زيارة الرئيس دونالد ترامب للمملكة العربية السعودية بما تعنيه من إحياء لعلاقة تاريخية ومن تقارب وتفاهم واستعداد للتعاون في مواجهة مخاطر وتهديدات يستشعرها أهل المنطقة خليجاً وشرقَ أوسط ومغرباً. وقد ساهم البرنامج المبتكر للزيارة في صنع حدث غير مسبوق، مُظهراً الأبعاد السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية و«التويترية/ التغريدية» التي تفيد بنيّة مشتركة لتأسيس تحوّل عميق، ليس فقط في المفاهيم التي قامت عليها العلاقة الثنائية، الأميركية - السعودية، بل أيضاً في علاقة الولايات المتحدة والمنطقة العربية. فلا أحدَ يجهل أهمية المصالح ودورها لكن كل أحدٍ كان ولا يزال يسأل لماذا تتحوّل علاقة المصالح بين أميركا والكثير من الدول إلى تحالفات وصداقات راسخة فيما تبقى مجرّد روابط هشّة مع العرب رغم اعتدالهم الذي تمثّل بقبول وجود إسرائيل والتخلّي الرسمي عن خيار محاربتها منذ عهد جورج الأب، وكذلك بعدم التشويش على المفاوضات النووية والاتفاق الذي أفضت إليه في عهد باراك أوباما.

كان التطلّع إلى سياسة أميركية إيجابية رهاناً عربياً دائماً، لكنه لم يحقّق سوى نجاحات ثنائية ومحدودة، غالباً ما كانت واشنطن توظّفها في استراتيجيتها من دون أن تعمّم نجاحها عربياً وإقليمياً. الجديد هذه المرّة أن الجانبين يبديان إرادةً لبناء رؤية استراتيجية شاملة. كان أوباما وجد في بداية عهده أن ثمة ضرورة لمخاطبة المسلمين والعرب فقصد تركيا ثم مصر، ورغم أنه لم يأتِ من خلفية معادية إلا أن التطبيق العملي لأفكاره أدّى إلى نتائج عكسية إسرائيلياً وإيرانياً، وتعرّض العرب لأضرار فادحة من سياساته داخلياً وإقليمياً. والأهم أنه ارتكب أخطاء كثيرة وتركها بلا معالجة فيما كان يشق الطريق لانسحابٍ أميركي من المنطقة. لذلك كانت مسّت الحاجة إلى فتح صفحة جديدة مع أي إدارة أيّاً يكن رئيسها.

لم تكن خلفية ترامب ومواقفه مشجّعة، إلا أن وجود شخصيات خبيرة بالمنطقة في إدارته وشروعها في العمل سرعان ما أوضحا الصورة: لا يمكن أن تتعاطى أميركا مع مخاطر الإرهاب أو مع التهديدات الإيرانية كما لو أنها تعني العرب وحدهم، أميركا معنية بمواجهتها أيضاً وبشكل مباشر، ولا بدّ لها من شركاء، وهم موجودون، السعودية ومصر والإمارات والأردن، موثوقون، ويمكن التعويل عليهم، ولأجل ذلك لا بدّ من إشعارهم بأنهم يمكنهم بدورهم أن يعوّلوا على أميركا. لكن وجبت أيضاً إعادة بناء الثقة مع هؤلاء الشركاء، فلكلٍّ منهم ما يمكن أن يساهم به. وهكذا تحوّلت زيارات العاهل الأردني وولي ولي العهد السعودي والرئيس المصري وولي عهد أبوظبي إلى ورشة عمل أميركية - عربية في العمق. وكان واضحاً منذ محادثات ترامب مع الأمير محمد بن سلمان أن تقدّماً مهماً قد أحرز، فالرياض التي صمّمت على إحداث اختراق مهما كانت المتطلّبات والأكلاف التقت مع واشنطن التي كانت تبحث عن سلّة متكاملة لتحسم أولوياتها وخياراتها.

تلك الورشة هي التي مهّدت للقمم التي شهدتها الرياض وكرّست وضعاً جديداً يرقى إلى شراكة استراتيجية تجسّدها الاتفاقات العسكرية والأمنية والاقتصادية وتكون الدول العربية والإسلامية شاهدة على ولادتها. وإذ حرص الرئيس الأميركي في مختلف اللقاءات على إبداء موقف عقلاني ومعتدل حيال الإسلام والمسلمين فقد اقترح عليه وليّ وليّ العهد السعودي أن يزور الرياض ويخاطب قمة تدعو إليها السعودية زعماء العرب والمسلمين، في ما يشبه التنقيح لما حاوله أوباما (يونيو 2009) حين وجّه خطابه من جامعة القاهرة. وهكذا شُقّ الطريق إلى الحدث التاريخي في الرياض، ليس بهدف «العلاقات العامة» وإنما لتدشين تحوّل سياسي - دفاعي مهمّ على الصعيدَين الدولي والإقليمي.

تزامنت لحظة بدء القمة الأميركية - السعودية مع إعلان طهران فوز حسن روحاني بالرئاسة، ورغم الإدراك العام بأن شخصية الرئيس الإيراني المنتخب لا ترجّح وحدها احتمال التغيير في السياسة، إلا أن طهران توجد اليوم أمام حقيقتَين لا يمكن إنكارهما: الأولى داخلية، وهي أن الناخبين الإيرانيين ذهبوا عكس ما فضّله المرشد و«الحرس الثوري»، والثانية خارجية، وهي أن تحالفاً ولد لتوّه في الرياض وأحد أهدافه وضع حدٍّ للتمادي الإيراني في المنطقة. ولعل الحقيقتَين متداخلتان في مؤدّييهما، فشعب إايران مثل جميع شعوب المنطقة، يريد الخلاص من سياسة تنتج الإرهاب والميليشيات. إذاً، مرحلة جديدة، ولا جدوى فيها من شعارات التحدّي والممانعة.

اقرأ المزيد
٢٤ مايو ٢٠١٧
قمم الرياض تجعل كاهن إيران يتراجع

يبدو أنّ كاهن إيران وديكتاتورها «علي خامنئي» قرر الخضوع والخنوع لقرارات القمم الثلاث التي عُقدت في الرياض، بعد أن سمح للرئيس الحالي الذي يصفه الإيرانيون بالاعتدال للوصول لكرسي الرئاسة، وأسقط رجل الدين المتشدد «إبراهيم رئيسي»، وكان كما تقول الأنباء إنه مرشح الولي الفقيه المفضل. إلاّ أنّ خامنئي قرأ قرارات القمم الثلاث قراءة موضوعية، وعلى إثرها قرر الامتثال لها؛ فهو يعرف يقيناً أنّ إيران كدولة ليس بمقدورها مواجهة هذه الضغوط التي اجتمعت عليها من كل حدب وصوب، والتي تتزعمها أمريكا أقوى دولة على وجه الأرض.

كاهن إيران يعرف جيداً أنه دون روسيا مجرد نمر من ورق؛ فقد مرغ ثوار سوريا أنفه في التراب السوري، وكادوا أن يهزموه شر هزيمة، وهم مجرد مجموعات مسلحة لا تملك إلاّ مقاتلين هواة وأسلحة جلها خفيفة، ولولا تدخل الروس بطائراتهم ما استطاع هو وميليشيات المرتزقة التي جلبهم من كل فج عميق أن يصمد؛ فثبت أن دعم الروس شرط ضرورة لجيش منهك مهترئ لا يملك أي طائرة مقاتلة ولا دفاعاً جوياً، وأن جعجعاته الإعلامية مجرد زوبعات في فنجان.

تراجُع خامنئي، وتخليه عن مرشحه المتشدد، يعني أن الإيرانيين قرروا المهادنة (تكتيكياً)، وربما التخلي عن مكاسبهم في العهد الأوبامي، بل ربما يتخلون عن بعض ما كسبوه في لبنان والعراق، وكذلك سوريا واليمن، إذا شعروا فعلاً بجدية دول الحلف الجديد في تقليم أظافرهم؛ فليس بوسعهم لا عسكرياً، ولا اقتصادياً تحمل تبعات هذا الحلف الجديد، الذي تمخضت عنه قرارات قمم الرياض الثلاث؛ أضف إلى ذلك أن التركيبة السكانية الإيرانية هشة وضعيفة، نتيجة لتنوع المذاهب والطوائف والإثنيات، ما يجعل الداخل الإيراني إذا ما تم استهدافه من قبل الحلف الجديد، وبقوة وإصرار، سيتصدع حتماً، كما أن هناك مظلوميات، وقمعاً، وتعسفاً، إضافة إلى تخلف في التنمية والخدمات، ما يجعل أغلبية الشعوب المكونة لدولة الملالي تنتظر أي فرصة لتُعبر عن تلك المظلوميات، وحكومة الولي الفقيه الكهنوتية جعلت من نشر المذهب الجعفري أولوية قصوى في أجندتها، تتقدم على كل الأولويات؛ ولتحقيق هذا الهدف الأيدلوجي، صرفت وبسخاء على تمددها وتوسعها، ونشر مذهبها، ونست شعبها؛ وهذا ما تسبب بشكل مباشر في الفقر والفاقة والبطالة وتخلف التنمية الشاملة؛ الأمر الذي حوّل المشكلة إلى كرة ثلج، تكبر وتتضخم مع مرور الزمن؛ وفي تقديري أن الداخل الإيراني جاهز لنسف استقراره فيما لو تمادوا في تمددهم واعتداءاتهم وتدخلاتهم في شؤون الدول الأخرى، التي تستنزفهم مالياً.

وقبل أن أختم هذه العجالة أود أن أنسب الفضل إلى صاحبه؛ فمهندس هذه الزيارة، وما تمخض عنها من منجزات سياسية واقتصادية وتنموية مبهرة، تحدث عنها العالم من أقصاه إلى أقصاه، هو سمو الأمير محمد بن سلمان، الذي أثبت فعلاً وعلى أرض الواقع أنه خير من يُمثل أحفاد عبد العزيز الشباب وعياً وإدراكاً وحيوية ومثابرة ، وأن ثقة والده فيه عندما عيّنه ولياً لولي العهد كانت عين الصواب، ومقتضى العقلانية، وليست مجرد عاطفة والد تجاه ابنه؛ فهو بحق خير من يحمل الأمانة ويصون الدولة، وكل صبح مشرق جديد يتأكد ما أقول؛ ومن يعرف المليك المفدى على حقيقته يعرف أن العواطف لا شأن لها في قراراته منذ أن كان أميراً للرياض، فكيف وقد أصبح زعيم الوطن، ويحمل الأمانة؟

اقرأ المزيد
٢٤ مايو ٢٠١٧
«محضر تحقيقي» في فرع فلسطين في سوريا!

«الحمد لله على السلامة» … قالها لي الرجل بكل لهفة وكأني خرجت من جب سحيق لا قرار له. عاد إلي هذا المشهد بحذافيره وأنا أطالع قبل أيام ما قاله لــ «القدس العربي» بدر الدين المعتقل السابق في الفرع 235 للمخابرات السورية المعروف باسم «فرع فلسطين» من أن «من يدخل هناك يُـــعد ميتا منذ دخوله وعلى أقاربه إقامة عزاء له بمجرد علمهم أنه في (فرع الجحيم) وأن الخروج منه يعني معجزة سماوية». وإذا ما بحثت عن تعريف سريع لهذا المكان في الإنترنت فستجد في الحد الأدنى أنه «أحد فروع شعبة المخابرات العسكرية بالعاصمة دمشق (..) وهو أحد أسوأ الفروع الأمنية سمعة ومن أكثر الفروع التي يخشاها الناس».

كان ذلك قبل عشرين عاما بالضبط، حجز جوازي في المطار عند الوصول وطلب مني مراجعة «الجهات المختصة». لم يقدم لي أي تفسير لذلك فقصدت في اليوم التالي إدارة الإعلام الخارجي وسررت لوجود قاضي أمين هناك، ذلك الشاب الأشقر الوسيم الذي سبق أن التقيت به في دمشق التي كنت وصلتها وقتها لتغطية «تجديد البيعة الرئيس القائد حافظ الأسد» عام 1991. أجرى اتصالا هاتفيا سريعا ثم قال «بسيطة.. إذهب غدا إلى اللواء فلان (نسيت إسمه) في فرع فلسطين ومنه تسترجع جوازك».

قصدت المبنى في اليوم الموالي وعند المدخل المخصص للمراجعين والأقرب في شكله إلى باب ورشة إصلاح سيارات سارع الرجل الواقف هناك إلى السؤال عن صاحب المعاملة رافضا أن يصحبني أي كان. الممرات الخارجية التي تقود إلى المبنى الرئيسي مهملة وملآنة بالكراسي والطاولات المكسورة. وصلت مكتب اللواء فطلب مدير مكتبه من أحدهم اصطحابي إلى مكتب آخر. ظننت من سذاجتي أني سأستلم جوازي.. وأمضي في حال سبيلي. لم يدر ببالي أن تحقيقا مطولا سيجري معي هناك.

- الإسم الثلاثي وتاريخ ومكان الولادة؟
- أنا هنا لتسلم جوازي الذي بين يديك.
- ما تعطلنيش…
- يا سيدي أنا فلان وجئت من طرف فلان لتسلم جوازي و…..
- ما تعطلنيش…
سلمت أمري لله وبدأت في الرد على أسئلة شخصية لا حصر لها، متزوج؟ اسم وتاريخ ميلاد الزوجة؟ عدد الأبناء وتاريخ ومكان ميلادهم؟ وسائل الإعلام التي عملت فيها؟ دراستك الابتدائية والثانوية والجامعية؟. أما أغرب سؤال فكان التالي: ما هي كل الدول التي زرتها في مهام صحافية، المناسبة والتاريخ ولحساب أي وسيلة إعلام؟
- أنت تتحدث عن 17 عاما.. كيف لي أن أتذكرها جميعا بهذه الدقة؟!
- ما تعطلنيش….

سردت ما أمكنني تذكره ولكن ما إن وصلنا إلى سنوات صلاحية الجواز حتى صار يقارن بين التواريخ التي أقولها والأختام التي عليه.
- إسبانيا والمغرب في يوليو/ تموز 1995 لحساب تلفزيون «البي بي سي» العربي لسلسلة تقارير عن العلاقات المغربية الإسبانية المتأزمة آنذاك..
- …. آب/ أغسطس وليس تموز/يوليو…
- يعني….

في خضم هذا التحقيق الذي سلمت فيه أمري إلى الله جاء أحدهم يطلب منه الجواز. فقال له بأنه لم ينته بعد من التحقيق فنهره وأخذ جوازي وطلب مني اصطحابه.
دخلنا هذه المرة عند اللواء الكبير الذي جئت إليه في الأصل، مكتب كبير مع أبهة وحراسات عند المدخل. استقبلني مبتسما بحفاوة: شاي أم قهوة؟ قبل أن يضيف:
- كان مجرد تشابه أسماء … ههه!! تعلم جيدا أنكم أنتم المشاهير، إذا لم نحجز لكم الجواز فلن تتاح لنا فرصة اللقاء بكم! وانتقلت الأسئلة الصارمة السابقة إلى أسئلة فضولية خفيفة من نوع هذا المذيع أو المذيعة من أي بلد ؟… متزوجة أم لا؟!

أخذت جوازي وغادرت لا ألوي على شيء بعد زهاء الساعة والنصف لأجد الرجل الذي جاء معي منتظرا بالخارج على أحر من الجمر وهذا ما يفسر «حمد الله على السلامة» التي قالها بكل ابتهاج. شيء واحد كنت أتمنى القيام به ولم أفعل:

حين كنت أنتظر دوري في التحقيق مع الرجل الأول، كان هذا الرجل يحقق مع شاب جزائري لا أدري ما قصته، لم أحضر سوى أسئلته له عن رأيه في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ومدى تأييده لانقلاب الجيش على نتائج الانتخابات عام 1991. كان واضحا أن هذا الشاب «غلبان» بالكامل ولا علاقة له بأي شيء. أعطاه جوازه في النهاية وطلب منه الانصراف. سار الشاب خطوتين ثم عاد ليسأل المحقق: أريد أن أزور الجولان والقنيطرة ..ماذا أفعل؟

تجاهله صاحبنا بالكامل أما أنا فكنت أريد أن أضربه على قفاه وأصرخ فيه : يا عمــــــــي روّح وإحمد ربك… بلا جولان… بلا بطيخ!

اقرأ المزيد
٢٣ مايو ٢٠١٧
علاقة طهران بـ «حدودنا»

لاختيار واشنطن منطقة البوكمال على الحدود بين سورية والعراق مسرحاً للمواجهة مع طهران دلالة أخرى غير ميدانية هذه المرة. فقصة طهران مع الحدود، أي حدود، تنطوي على ممارسة لا تقيم وزناً للكيانات المتشكلة في مرحلة الخروج من الحقبة الاستعمارية. والوعي الإيراني المتشكل في ظل دولة ولاية الفقيه، ومنذ اليوم الأول له، أي بعد سقوط الشاه مباشرة، اعتبر أن الحدود ليست عائقاً قانونياً أو اجتماعياً لمد نفوذه. والخطوة الأولى في حينها كانت إرسال وحدات من الحرس الثوري الإيراني إلى لبنان، والمباشرة في بناء مساحة نفوذ فيه.

في سورية اليوم، لطهران طموحات حدودية جلية. هي تمسك بالحدود اللبنانية - السورية، وتسعى إلى فتح الحدود بين العراق وسورية، ولها أيضاً على الحدود بين سورية وإسرائيل حضور تقطعه الغارات الإسرائيلية المتواصلة على مواقع «حزب الله» هناك. أما الأردن فقد بدأ يشعر بأن طهران تقترب من حدوده مع جنوب سورية.

تركيا ليست دولة ناجية، فطهران حجزت نفوذاً على حدودها مع دمشق عبر علاقتها مع حزب العمال الكردستاني. وإذا كان هذا النفوذ غير مباشر، إلا أن مواظبة طهران على شق الطريق من الموصل إلى الرقة تؤشر إلى أن ما ليس مباشراً سيصبح مباشراً. والحال أن اختيار طهران الحدود بصفتها مسرحاً للعب بالكيانات لم يتم على نحو عشوائي أو أيديولوجي، إنما لإدراكها أن هذه الحدود هي من المساحات الرخوة لهذه الكيانات، فالجماعات على طرفي هذه الحدود تملك قابليات كبيرة لإعادة التموضع في خرائط سياسية وديموغرافية جديدة. وهنا تماماً تكمن أخطار الطموحات الإيرانية، وضعف حساسية طهران حيال السيادات «الوطنية» المتشكلة في الحقبة الاستعمارية.

محافظة دير الزور السورية تربط عشائرها بالعمق العراقي علاقات عاطفية ورحمية واقتصادية تفوق علاقاتها بالعمق السوري الطارئ. الحدود اللبنانية- السورية بدورها لم تكن يوماً حدوداً ثابتة، وهي مخترقة ببؤر نفوذ مذهبي كشفت عنها معارك القلمون في السنوات الفائتة. الحدود بين سورية وإسرائيل ملتبسة ومخترقة باحتلال إسرائيلي للجولان، وبعلاقات عابرة للحدود تقيمها الجماعات الأهلية هناك. أما الحدود مع الأردن فهي الأكثر وضوحاً لجهة الامتدادات العشائرية التي تخترقها. ويُشكل الأكراد في مناطق الحدود مع تركيا خاصرة رخوة لمفهوم السيادة الوطنية على طرفيها السوري والتركي. ناهيك بلواء الإسكندرون السليب تارة والمشطوب عن خريطة سورية البعثية تارة أخرى.

الدول أبقت جماعاتها الحدودية خارج طموحاتها «الوطنية»، والاستبداد الذي كان الأداة الرئيسة لهذه الوطنيات الجامحة والناقصة، ترك للجماعات الحدودية منافذ علاقات أوهنت صلتها بالمركز المستحدث. واليوم جاءت طهران لتستثمر هنا.

مساعٍ لإعادة وصل عشائر دير الزور بعمقها العراقي عبر جهود «تشييعها» من جهة وعبر محاكاة نموذج الحشد العراقي بحشد عشائري سوري موازٍ. أما الحدود مع لبنان، فالمهمة فيها أسهل، ذاك أن اهتراء الدولة على طرفيها تاريخي، والميليشيات التي تمسك بها لا تخفي طموحاتها في تبديد السيادة على مذبح السيد الإيراني. وعلى رغم الأخطار الكبرى المتولدة عن اقتراب طهران إلى الحدود السورية مع إسرائيل، إلا أن ذلك لم يثن طهران عن المواظبة على تأسيس نفوذ هناك. واليوم انضم الأردن إلى دائرة المخاوف على الحدود، فاختلطت عند حدود المملكة طموحات «داعش» في التقدم من بادية الشام، بطموحات طهران بالاقتراب من هذه الحدود عبر مدينة درعا، وانعقد على أثر ذلك مشهد شديد التعقيد في جنوب سورية.

طهران اختارت المساحات الرخوة في هذه الكيانات، وهي فعلت ذلك لأسباب شديدة البراغماتية والواقعية، إلا أن البعد الأيديولوجي ليس بعيداً عن هذه الخيارات. فالحدود في الوعي الإيراني ليست نهائية، وإعادة صياغة العلاقات الدولتية بين الجماعات لن ترتد على سيادة طهران على أرضها. فتح الحدود السورية- العراقية مغامرة ستصيب الجماعات الأهلية في كلا البلدين، لكن ارتداداتها ستكون خارج ايران بالتأكيد. والمغامرة بمصائر المجموعات الشيعية في هذه الدول لن تدفع طهران فاتورته، والانتكاسة إذا ما أصابت الموقع الإيراني في هذه الدول ستبقى خارج الجغرافيا الإيرانية المباشرة.

المواجهة بين واشنطن وطهران لن تجرى على أرضٍ إيرانية. هذه الحقيقة تُحفز طهران على الذهاب أكثر في مغامراتها، فهي في النتيجة لا تغامر برصيد إيراني، والثمن ستدفعه جماعاتها المستتبعة في هذا الإقليم المستتبع.

اقرأ المزيد
٢٣ مايو ٢٠١٧
القفزة المستحيلة

كنا في مطالع حياتنا السياسية، عندما كانت تنقصنا المعرفة والخبرة، نصدّق ما يقال لنا عن الإصلاح نقيضاً للثورة التي كنا نعشقها، ونرى فيها أولوية يرتبط تحقيقها بإرادتنا وحدها، وليس بأي أمر خارجها، فهي فعل ذاتي صرف، من غير الجائز أن يساورنا الشك في فرص نجاحه، وكيف لا ينجح إن كنا نعيش له، ونضع وجودنا كله في خدمته.

كنا نكره الإصلاح لثقتنا بأنه لا يمكن أن يكون غير محاولة بورجوازية، وتاليا رجعية، لإجهاض ثورتنا الوشيكة التي يستقتل "عدونا الطبقي/ السياسي" إلى قطع طريقها وزعزعة اقتناعنا بحتمية انتصارها، بدعوته إلى إصلاحٍ هو بالتأكيد شر مطلق، ما دام هدفه إنقاذ ما لا يمكن ولا يجوز إنقاذه: نظامنا الظالم والمريض، المرفوض من شعبٍ يرغب بقوة في الثورة، ويبدي استعداده الدائم لدفع ثمنها من دمائه. لذلك، من الخيانة لأنفسنا وللثورة قبول إصلاحٍ يقطع الطريق عليها، مع أنها هدف أية سياسة تستحق اسمها.

ما أن أحكم النظام الأسدي قبضته على سورية وأحزابها ومواطنيها، وأخضع شعبها لأشد أنواع التعذيب والاضطهاد، وجارَتْه بعض أحزاب المعارضة في اعتبار كارثة الثامن من آذار ثورة، حتى تبدّلت هذه المعادلة، وأدركنا أن الثورة لم تعد، كما كنا نتوهم، في متناول أيدينا، وأننا نفتقر إلى القدرة على تنفيذها. لذلك، لم تعد بديلا حتميا للأمر القائم، على الرغم من أنه كان يزداد فسادا، ويمعن في إضعاف (وسحق) التنظيمات والتيارات المطالبة بالحرية، وكنا نظن أن الثورة ستضع السلطة بين يديها، فبيّنت الوقائع خطأ هذا التصور، وأنشأت معادلة سياسية جديدة، حدها الأول النظام والثاني الإصلاح الذي لم يعد شرا مطلقا في أعيننا، بل وملنا إلى الاعتراف بأنه يمكن أن يمهد، في ظروفٍ معينة، لإنضاج تدرّجي للثورة ضد نظام عسكري استولى على السلطة عام 1963، وتطيّف بعد عام 1970، مع انقلاب حافظ الأسد على رفاقه. كما أدركنا، فضلا عما سبق، أن أعداء الثورة ليسوا بالضرورة إصلاحيين أو أنصاراً للإصلاح، ويمكن أن يكونوا ضد الإصلاح والداعين إليه. بهذا الفهم، الجديد، انقلب الإصلاح من نقيض رجعي للثورة إلى أداة ضد الاستبداد والفساد "الثوريين"، ومدخل إلى بيئة سياسية مجتمعية ثائرة، وانفصل مبدأ وواقعاً عن أحكامنا المسبقة، وغدا أكثر فأكثر هدفا مرحليا لا بديل له، حتى أن أستاذنا الراحل إلياس مرقص قال، وهو يتأمل ما آلت إليه أوضاع سورية، "إن إصلاحها سيكون أكبر من ثورة"، بما أن الإصلاح وحده سيخرجها من حال البربرية التي ركبتها، ويردّها إلى وضعٍ شبيه بما كانت عليه قبل عام 1963 من حال شبه مدنية.

وزاد اقتناعنا بالإصلاح أن العسكر الطائفي قام بكل ما هو ضروري من إفقار ونهب وإفساد وقمع وتجهيل، كي يكبت مطلب الإصلاح في صفوفه أيضا، ويحول دون فعل إصلاحي شامل، وإن رمم أوضاعه، خشية أن تفلت أدواره من يديه، ويقوض وحدته، ويقوده إلى نظام يحمل بديله في أحشائه. في المقابل، وضعت الأسدية مزق الشعب وتجمعاته ونخبه أمام خيار إجباري، هو الرضوخ للأمر القائم، أو التخلي عن المطالبة بالإصلاح التي كانت تضمر في برنامجها احتمال تغيير جوانب منه، والتخلي عن عديد من آليات إعادة إنتاجه. في هذا المفترق المفصلي، أدركنا أن الإصلاح لم يكن يوما رجعيا بالضرورة، وأنه كان، في الشرط السوري القائم، الخطر الوحيد على العسكر الذي يمكنه إضعاف مواقعه وتقويض تماسكه الأيديولوجي واختراق نواته السياسية والأمنية الصلبة، وتعبئة قطاعات مجتمعية واسعة وفاعلة ضده.

بسبب استحالتين، فرضهما ظرف مأزقي ومأزوم إلى أبعد حد: القيام بثورةٍ من جهة، والسكوت عن الأمر القائم من جهة أخرى، بلورت "لجان إحياء المجتمع المدني" في سورية برنامجا إصلاحيا واقعيا، كان في نظرها الإمكانية الوحيدة المتاحة لتغيير الظروف التي أنتجت موازين قوى لمصلحة النظام، ورضوخ الشعب للسلطة، وتخلت عن وهم جعل من الثورة أولوية وحيدة للأمر القائم، يمكن بلوغها من دون تدرّجات وتوسطات، بسحبة أو بضربة واحدة: بما هي تحول كيفي ينتج عن تراكمات كمية.

قرّرت اللجان العمل لإصلاح يحقق تدرجاً ما كان يطلب سابقا من ثورة مستحيلة، لطالما عطلتها قدرة النظام على تقطيع التراكمات الكمية والتلاعب بها، والتحكّم في طابعها وتعاقبها، بحيث يحول دون حدوث تراكم كمي ينقلب إلى تحول نوعي، أي ثوري. جعل النظام التراكم يدور في حلقةٍ مفرغةٍ، تتخابط الأحداث فيها وتتشابك، من دون أن تبارحها، اتخذت حركتها داخلها مسارا دورانيا انحداري التوجه، احتجز القفزة الثورية، وأحدث انهيارا متدرّجا وثابتا في الحياة العامة وأوضاع الأحزاب، وحفز نمو السلطوية التي احتكرت المجال العام أكثر فأكثر، وضبطت أنشطة الفاعلين فيه بالقمع الجسدي والأيديولوجي، وبسيطرتها على التعليم، والإعلام، وعالمي العمل ورأس المال، وتوزيع الدخل الوطني، والردع الانتقائي أو الدائم، المباشر وغير المباشر للمواطنين.. إلخ.
بإدراك النظام أن لا خطر عليه من الثورة، وأن الإصلاح يستجيب للحاجة إلى تغيير إن استجاب له طاول هيكله السياسي والتنظيمي وسياساته وتحالفاته المجتمعية، وأفضى إلى تخلق مركز سياسي داخلي إلى جانبه، وأفسح المجال لزعزعة جوانب من أوضاعه، وإرخاء قبضته عن عنق الشعب، والإخلال بتوازناته. لذلك رفضه جملة وتفصيلا، خصوصا أن اللجان كانت قد صاغت برنامجا للتغيير يمر في مراحل ثلاث:

أولى يجب دفع النظام إلى أن يتخلى خلالها عن آليات عمل وإدارة يعتمدها، ويستبدلها بآلياتٍ من خارج منظومته الأيديولوجية، لتساعده على تخطي نقاط ضعف وتكسبه دينامية يفتقد إليها، يعني غيابها تخلق أزماته وعجزه عن إدارة شؤونه بالطرق التي تضمن استمرار خضوع الشعب له.

ثانية يتبين خلالها أن ما استعاده لم يكن كافيا لحل مشكلاته، الكامنة في جمود أيديولوجيته التي تحتجز قدرته على الاستجابة للتحديات التي يطرحها الواقع عليه. لذلك، غدا من الملحّ التخلي عن بعض مكوناتها واستبدالها بعناصر أيديولوجية لا تنتمي إلى نظامه، لكنها يمكن أن تجدّده بتطعيمه بعناصر خارجة عن بيئته الخاصة.

ثالثة يدرك خلالها أن محاولات إصلاحه الجزئية لم ولن تحسن أوضاعه، بل تربكه وتضيف مشكلاتٍ جديدة إلى مشكلاته المعقدة، ينتجها تعارض واقعه المتحول مع أيديولوجيته الجامدة، التي لم يبق لديه من خيار غير التخلي عنها، وإلا فعن إصلاحاته التي تمت بوحيها، بتخليه عن منظومته الأيديولوجية، يخرج النظام من إهابه القديم ويدخل في بديله الذي لا يمت إليه بصلة عضوية.

وكانت اللجان تركّز على دفع النظام إلى القيام بالخطوة الأولى من المرحلة الأولى. وبما أنه لم يفعل، فإنه لم يبق لها غير استخدام مطلب الإصلاح للضغط عليه، عبر إقناع الشعب به، وتعبئة قوى مجتمعية متزايدة الحجم. أضعف هذا التكتيك المزدوج شرعية النظام وأربكه، وقلص صدقيته لدى قطاعاتٍ متعاظمة من السوريات والسوريين.

كان الإصلاح مطلبنا، وبعد دراسة مجتمعية معمقة، ربطناه بحراك الفئات البينية المستنيرة من الطبقة الوسطى، وجعلنا مشروعه الوحيد حرية المواطن السوري في ظل العدالة الاجتماعية وحكم القانون. بذلك، بدا ما نطالب به وكأنه أكثر من إصلاح و"أكبر من ثورة"، ونزعنا عنه طابعه التحقيري السابق، وجعلناه التوسط السياسي الفاعل بيننا وبين التغيير: هدفنا الوقتي، الذي علمتنا تجربتنا أن زعزعة النظام بين احتمالاته، وأنه يتيح لنا قدرا من الأمان يمكننا من العمل بما لدينا من مؤونة فكرية/ معرفية وتنسيق رفاقي، وخطط وبرامج تجلب لنا دعما وطنيا ومجتمعيا واسعا، بدأ يعبر عنه تشكل ضم قوى مجتمعية مستقبلية التوجهات.

بذلك، اعتمدنا الإصلاح مبدأ ونهجاً، وحولناه إلى سلاح نضالي، دافعنا بواسطته عن أنفسنا وشعبنا، ضد نظام تداعت سورية على يديه ثورياً، قبل أن يدمرها عسكرياً. أما القفزة، فأعتقد أن فكرتها لعبت دوراً مهماً في عجز الثورة عن رؤية مهامها الحقيقية، وفي تعثّرها.

اقرأ المزيد
٢٣ مايو ٢٠١٧
سلمان وترمب... إيران رأس الإرهاب

القمم التي احتضنتها الرياض برئاسة الملك سلمان والرئيس ترمب كانت مدويّة؛ النتائج التي رشحت عنها لم تكن في حسبان الكثيرين، الفضاء الثقافي بين البلدين طبع القمة؛ لم يعد بالإمكان الحديث عن توترات ممكنة بين البلدين!

لقد امتن الرئيس الأميركي للسعودية حسن الضيافة، وعمق الثقافة التي تتمتع بها السعودية... أكثر من 55 قائداً من العالم الإسلامي بالقمة العربية الإسلامية الأميركية، أفصحوا من خلالها عن الكوامن التي من الممكن أن يتسلل إليها الإرهاب، والملك سلمان قاد القمة بحزمٍ معتضداً بتاريخٍ يمتد لأكثر من ثلاثمائة سنة، تاريخ بلاده مؤرخ بالتسامح والتعايش بين أبناء هذه الأرض، لم يكن ثمة إرهاب إلا بعد ثورة الخميني عام 1979، حين أسست ثورته المضادة لطبيعة الدول كل الحالات الدموية، مريداً بذلك التمدد نحو المنطقة واستغلالها طائفياً، وكرّس النظام آنذاك مفهوم «تصدير الثورة» للخليج والعالم الإسلامي، لم يرد الحوار؛ بل أراد التوسع.

أرادت السعودية منذ ثورة 1979 - ما أمكن - أن تحتوي سياسيا آثار الثورة الخمينية، وتم الاتفاق على ما سمي آنذاك الاتفاق مع رفسنجاني، لكنه سبب المزيد من الاطمئنان الإيراني، ذهب النظام بعيداً بتدخلاته، وممارسته العمليات الإرهابية، والعمل على إفشال مواسم الحج والعمرة، ورفع الشعارات الخمينية، ولم ينته عند نشر الطائفية.

أشار ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إلى أن الرجوع كرة أخرى للحوار مع إيران أمرٌ غير منطقي، إذ يستحيل عليك محاورة نظامٍ هدفه غير مدني، وإنما آيديولوجي، يسعى لتوسيع مساحات النفوذ، والتأسيس لنعرة طائفية بالخليج والعالم العربي والإسلامي، والظهور إعلامياً بأسلوب المدافع عن الحقوق المدنية والقوانين الدولية.

وحينما جاءت القمة؛ ومعها الكلمات الواضحة من الملك سلمان بن عبد العزيز وترمب، ظهرت المواقف الواضحة، الملك سلمان قالها: «إن المنطقة لم تعرف إرهاباً وتطرفاً حتى أطلت ثورة الخمينية برأسها، إن النظام الإيراني، وحزب الله، والحوثيين، وتنظيم داعش، وتنظيم القاعدة، وجوه لعملة واحدة، مبادرات حسن الجوار التي قدمتها دولنا بحسن النية، واستبدلت بدلاً من ذلك بالأطماع التوسعية والممارسات الإجرامية والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، إن النظام الإيراني يعمل على نشر الطائفية بالتعاون مع جماعات موالية له، إن المملكة لن تأخذ الشعب الإيراني بالجرائم التي يرتكبها نظامه».

إن القمة حلّت على محور الممانعين كالصاعقة، حتى إن أحداً منهم لم يشر إلى الإيجابيات التي رشَحَت عنها القمة، بل راحوا يضربون بسهامهم نحو هوامش وجزئيات، بينما الرؤية الاستراتيجية التي آلت إليها القمة كانت تاريخية، وآية ذلك أن الانتقادات التي كتبت على جزئياتها، كان الهدف منها استهداف جوهر الاتفاقيات والرؤى والبيانات، وفي نص إعلان الرؤية المشتركة: «إن إيجاد هيكل أمني إقليمي موحد وقوي أمر بالغ الضرورة لتعاوننا، تنوي المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية توسيع رقعة عملهما مع بلدان أخرى في المنطقة، خلال الأعوام القادمة لتحديد مجالات جديدة للتعاون. لقد طورت المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية على مدى تاريخهما، شراكة بناءة مبنية على الثقة، والتعاون، والمصالح المشتركة. إننا نقف اليوم معاً للتصدي، لأعدائنا المشتركين وتوثيق أواصر الروابط بيننا، ورسم مسار نحو السلام والازدهار للجميع».

وأكد الرئيس الأميركي ترمب في القمة على إدانة ممارسات «حزب الله» والحوثيين، ومنظمات إرهابية؛ من هنا يكون وجه الوجع الذي أصاب بعض المتأثرين من حضور الإدارة الجديدة وتحولاتها تجاه قضايا المنطقة. ترمب وصل إلى جملة من النتائج، منها ضرورة الاستمرار بالبناء الاقتصادي مع السعودية، وإنهاء الإرهاب بعد افتتاح الملك سلمان لمركز «اعتدال»، ومن ثم التأكيد على الدور الإرهابي لـ«حزب الله».


إنها قمم عالمية، تستبق بنتائجها ممارسات كارثية لإيران، الراعية الأكبر للإرهاب، وتلجم المنظمات التابعة لها وعلى رأسها «داعش» و«القاعدة».

اقرأ المزيد
٢٢ مايو ٢٠١٧
محرقة في «المسلخ البشري»

بعدما وصفت منظمة «العفو الدولية» سجن صيدنايا بـ «المسلخ البشري» في تقريرها الأخير، تأتي اليوم تقارير جديدة لتضيف نجمة إلى خدمات القتل والإبادة التي يقدمها النظام السوري لنزلائه في تلك البؤرة المظلمة، فتكشف عن وجود محرقة يتم فيها التخلص من جثث المعتقلين في شكل شبه يومي. لا تزيد الصدمة والفجيعة على الواقع شيئاً. فقد باتت عبارة «الهولوكوست السوري» ملازمة للوقائع الدائرة على الأرض في السنوات الأخيرة، وإن لم ترق التسمية الى مستوى الدليل الجنائي القاطع في حالات كثيرة. وإذ انشغلنا وانشغل كثيرون بالبحث في دقة مصطلحات كـ «الإبادة الجماعية» و «الهولوكوست» وما إذا كان بشار الأسد يشابه هتلر أو يفوقه إجراماً، مضت آلة القتل السورية في اجتراح الحلول لنفسها، والاستفادة من الوقت الضائع والهوامش الكثيرة المتاحة لها للإفلات من العقاب ومن أي محاسبة محتملة.

أما الآن، فقد بات هناك دليل دامغ للمشككين والباحثين عن الدقة العلمية: ثمة محرقة في سجن صيدنايا. ماذا بعد؟

قد تبدو للوهلة الأولى تلك الطريقة في التخلص من آثار الجرائم المرتكبة في السجون السورية تسلسلاً طبيعياً لمسار الأمور. حتى أن البعض تساءل لمَ المفاجأة والاستغراب على اعتبار أن الموت، أياً كانت طرقه يبقى أهون على الضحايا من مرّ العذاب الذي يكابدونه في الأقبية الأسدية. وإنه إذّاك لا فرق بين من يموت قصفاً، أو قنصاً أو جوعاً أو تعذيباً... أو أخيراً حرقاً، إلا بدرجة العذاب التي تسبق رصاصة الرحمة تلك، أياً كان شكلها. وذلك لا شك مفهوم بعد الإحباط واليأس من عجز المجتمع الدولي وتلكؤه عن القيام بأدنى واجبات حماية المدنيين وإحالة المجرمين أقله الى التقاعد السياسي، إن لم يكن محاسبتهم أمام قضاء نزيه وعادل.

لكن لا. ثمة جديد هذه المرة، وهو وجود محرقة. ذلك ليس بالتفصيل العابر ولا هو مجرد شكل آخر من أشكال الموت. لقد باتت لنا محرقتنا. أول محرقة عربية (مثبتة) تعمل بفاعلية عالية وبوتيرة شبه يومية، في وضح النهار وبمحاذاة مناطق مأهولة وسياحية. تنفث أبخرة الجثث المتفحمة في ذلك الفضاء الأهلي، معتمدة على احتمال أن تختلط الروائح المريبة بعطن مزارع الدجاج القريبة. هكذا، تعيش محرقة بموازاة حياة شبه طبيعية، كما عاشت على هذه الشاكلة مقابر جماعية ومعتقلات منذ حكم الأسد الأب وحتى اليوم. إنها صورة إضافية لذلك «الشر العادي» المرافق للفظاعات التي توصف في كل مرة بأنها «غير مسبوقة». سوى أن الوسيلة هذه المرة لا تقل أهمية عن الغاية نفسها.

والحال أن المحرقة بذاتها ليست أداة القتل. ووفق التقارير التي تسربت أخيراً من ذلك المسلخ، وقبلها تقارير «سيزر»، فإن قتل المعتقلين سابق على التخلص من جثثهم بوقت قد لا يكون وجيزاً، ولعله جاء حلاً سريعاً ومتسرعاً في آن، بعدما باتت المقابر الجماعية خطراً محدقاً بالنظام، ودليلاً قابلاً للوصول اليه. وكذلك هي تقارير الوفاة الصادرة من المعتقلات والمستشفيات والتي توثق آلاف الحالات من الموت بـ «الجلطات الدماغية» في أيام متقاربة جداً، والتي شكلت في مرحلة ما إجراء إدارياً داخلياً للتأكد من «تنفيذ المهمات».

أما إحالة الأجساد الى رماد، فوسيلة مضمونة لإخفاء أدلة الجريمة، ومحو علامات التعذيب وإغلاق الملفات مرة وإلى الأبد. وهي الى ذلك، تلغي إمكان إقامة قبور للضحايا، وشواهد تحمل أسماءهم وقد تتحول مزارات لذويهم ولأجيال قادمة. إنها تخنق الأسئلة الملحة حول ظروف القتل، ومكانه، ومرتكبه، والأهم من ذلك التهمة التي دفعت اليه. فالمحاكمات الصورية التي كشفتها التقارير أيضاً، والتي لا تستمر لأكثر من ثلاث دقائق، تؤشر الى نفاد صبر حيال حياة الأشخاص. هناك من يتهافت على إرسال المزيد من الناس للقاء حتفهم بطريقة بيروقراطية باردة. ثم جاء من قرر أن يمعن أكثر في التخلص منهم عبر حرق جثثهم، في وقت لا يزال غير معروف متى اعتمدت تلك الطريقة وإن كانت شائعة في المعتقلات السورية أو هي استثناء في صيدنايا.

وإذا كانت المحارق ارتبطت حتى اللحظة بالحقبة النازية ومعسكرات الموت في أوشفيتز وغيرها، واعتبرت الى حد بعيد ثمرة الثورة الصناعية ومكملتها في آن، فقد ذهبت محرقتنا خطوة أبعد. فمعلوم إن قطارات الموت النازية حملت الضحايا في رحلة الخنق بالغاز على أمل الإنقاذ. هكذا، «غرر» بالمعتقلين اليهود وتمّ إيهامهم بأن تلك هي رحلة الخلاص والانعتاق ليأتي الحرق لاحقاً.

وكان النازيون يدركون أن وتيرة القتل تعتمد على قدراتهم في التخلص من الجثث بكفاءة وفاعلية بحيث يحدد عدد الجثث التي يمكن حرقها في غضون 24 ساعة، عدد الأشخاص الذين ينبغي قتلهم بالوتيرة نفسها. وذلك ما سمي بـ «القتل الصناعي».

أما في الحالة السورية، وعدا عن أن أحداً لم يكترث بمنح ذرة أمل للمعتقلين قبل تصفيتهم أو تركهم يموتون من تلقائهم تحت التعذيب، فإن القتل بذاته لم يكن وحده المرتجى، وإنما هو الإفناء بعد الإماتة. وذلك واقع جديد لا مناص منه. وهو الى حد بعيد، ما يجعل المحرقة السورية ممعنة في الرغبة بتسفيه ضحاياها فوق جعلهم ضحايا أصلاً. وهو دأب النظام في معاملة السوريين علناً وبلا مواربة منذ أن انتفضوا عليه انتفاضتهم الأخيرة في 2011. فإذا كانت العبارة الشائعة تقول إن فلاناً ثمنه رصاصة، للدلالة على بخس حياته، فقد جاء النظام الأسدي ليقول لا، بل ثمنكم عندي أقل من ذلك بكثير. يكفي أن أحشو براميل وخزانات بفضلات لأقتلكم. والمحرقة المكتشفة أخيراً في صيدنايا، تأتي بهذا المعنى تتمة لبراءة اختراع البراميل، ودليلاً إضافياً على الإبادة البدائية في وحشيتها والتي يحرم السوريون كل يوم من حق مقاومتها.

اقرأ المزيد
٢٢ مايو ٢٠١٧
سياسات إيران إلى الواجهة

مع انعقاد القمة الأميركية - العربية - الإسلامية خلال الساعات المقبلة في الرياض، تبرز مواجهة السياسة الإيرانية في المنطقة كإحدى النقاط الأساسية على جدول الأعمال، وخصوصاً بالنسبة إلى الدول العربية التي عانت الأمرّين خلال السنوات الماضية من التمدّد الإيراني في المنطقة، في ظل غض طرفٍ من الإدارة الأميركية السابقة في عهد الرئيس باراك أوباما، والذي كان يعوّل على إبرام اتفاق نووي مع طهران، بغض النظر عن نتائجه على دول المنطقة. وهي نتائج بدأت تظهر، منذ الأيام الأولى للحديث عن اختراقات على صعيد المفاوضات، على الرغم من الإصرار الأميركي، في ذلك الحين، على نفي أي ارتباطٍ بين المفاوضات وسائر الملفات في المنطقة.

لكن، مع ذلك، كان الربط حاضراً بقوة، وخصوصاً في اليمن، والذي شهد انقلاباً عسكرياً صريحاً على الحكومة الشرعية، برعاية إيرانية، ممثلةً بالحوثيين الذين تحولوا، خلال سنوات قليلة، إلى جيش مدرب ومسلح تسليحاً ثقيلاً. جيش قادر على احتلال مساحات واسعة من الأراضي اليمنية من دون أن يلاقي أي مقاومة تذكر، وذلك بفضل التدريب الإيراني المكثف الذي خضع له أفراد هذا التنظيم الذين كانوا يحجّون بالمئات إلى طهران، حيث كانت تنظم الدورات العسكرية لتخريج الكوادر المقاتلة، والتي كان مطلوباً منها نقل خبراتها إلى الداخل اليمني. خلال سنوات قليلة، نجحت طهران في هذا المجال، وخلقت قوة عسكرية موالية بالكامل لها في الداخل اليمني، والذي لم يكن، في السابق، ضمن حسابات التمدّد الإيراني المقتصر في فترة من الفترات على العراق ولبنان.

غير أن غضّ الطرف الأميركي، والبراغماتية التي كانت تتعاطى فيها الإدارة الأميركية السابقة مع السياسة الإيرانية، سمحا لطهران بمزيدٍ من التوغل في دول المنطقة، وإحكام القبضة على العراق بشكل شبه كامل عبر مليشيات الحشد الشعبي التي أصبحت تضاهي الجيش العراقي قوة وعدة وعديداً، وهو ما أصبح مثار امتعاضٍ حتى من السياسيين المحسوبين على إيران في العراق، وخصوصاً مع دخول "الحشد" طرفاً في تحديد سياسات البلاد وتحكّمها بجغرافية بسط الدولة لسيادتها.

سورية أيضاً باتت ساحة للتمدّد الإيراني، بعدما دخلت طهران والمليشيات الموالية لها بقوة في مواجهة الثورة، ومارست صنوفاً عدة من التنكيل بالمعارضين، وساهمت في عمليات التطهير الديمغرافي الذي تشهده سورية، سواء عبر الاجتياحات العسكرية أو اتفاقات التهجير. لم يعد الدخول الإيراني في سورية مجرد مساعدة الحليف بشار الأسد، إذ باتت طهران، مع موسكو، صاحبة الكلمة النهائية في تحديد السياسة السورية، وما ترضى به دمشق وما ترفضه، بعدما بات بشار الأسد مجرد هيكل لحكم بلا قرار.

كل ما سبق، ويضاف إليه الدور الإيراني القديم المتعاظم في لبنان عبر حزب الله المتحكّم بمفاصل السياسة اللبنانية وقرارات الدولة، أدى إلى ما هو أخطر على المديين، القريب والبعيد. فإذا كان النفوذ الإيراني، العسكري أو السياسي، غير دائم، فإن النعرات الطائفية التي أسس لها، وأخرجها حتى من حدودها الجغرافية الضيقة، لن تكون عملية إزالتها سهلةً على الإطلاق. فاللافت أن هذه النعرات ما عادت حكراً على المناطق التي تشهد على النفوذ الإيراني، بل تمدّدت إلى مساحات أوسع بكثير، وصلت حتى المغرب العربي الذي لم يكن في السابق معنياً بمثل هذه الخلافات، حتى أنها انتشرت في المهجر العربي والإسلامي الذي بات يشهد خلافات على خلفيات طائفية.

هذا المسار من السياسات الإيرانية على مدى العقد الأخير فقط أدى إلى تحولاتٍ كثيرة في المنطقة، والتي لن يكون الحد من آثارها سهلاً في المدى المنظور.

اقرأ المزيد
٢٢ مايو ٢٠١٧
تحولات كبيرة شمال الأردن

الحدود الأردنية السورية التي بدت، خلال العام الماضي، الأكثر هدوءاً، تواجه حالياً مرحلةً جديدة قد تكون مغايرةً للمرحلة المقبلة، لن يكون ذلك على الأغلب في محافظة درعا (الحدود الشمالية الغربية)، بل الحدود الشمالية الشرقية، من منطقة الركبان (حيث مخيم الركبان) إلى معبر التنف وبلدته على الحدود العراقية السورية المجاورة للحدود الأردنية.

انشغل الإعلام السوري، قبل أسابيع، بقصة القوات الأميركية والغربية التي تتمركز في قاعدة عسكرية قريبة من الحدود الشمالية الشرقية الأردنية، وتمّ عرض صورةٍ لتجمّع لهذه القوات، ونسج لرواية (أي سورية إيرانية) بعملية برية متوقعة منها نحو الأراضي السورية.

ويشكل هذا التطوّر، لو حدث، "نقطة تحوّل" في المقاربة الأردنية تجاه سورية، لكنّه غير محتمل في المرحلة المقبلة، وليس واقعياً، إذ أنّنا نتحدّث عن مناطق صحراوية شاسعة، غير مأهولة، وإذا كان هنالك ما يقلق بالقرب منها، فالأقمار الصناعية الأميركية والطائرات كفيلة برصده والتعامل معه.

لكن ذلك لا ينفي أنّ تحوّلاً استراتيجياً حدث بالفعل، مرتبطا بأكثر من متغيّر مهم ورئيس حدث في الفترة الماضية، ما رفع من القيمة الاستراتيجية لبادية الشام والمناطق الحدودية العراقية والسورية المجاورة للشمال الشرقي الأردني بصورة فريدة، فأصبحت منطقة تنافسٍ عسكري استراتيجي، ليس بين القوى المحلية السورية الداخلية فقط، بل أيضا القوى الدولية والإقليمية التي تخوض من ورائها حرباً بالوكالة.


يتمثل المتغير الأول في قرب انتهاء معركة الموصل وبداية معركة الرقّة، وعدم حسم الجهة المخولة بمعركة دير الزور، أي الصراع على تركة "دولة داعش"، فبادية الشام مهمة للأطراف المختلفة، لأنّها مدخل رئيس لمحافظة دير الزور، بعد أن دخلتها "قوات سوريا الديمقراطية" (الأقرب إلى الولايات المتحدة) من جهة الشمال والطبقة، وتحاول القوات السورية والمليشيات المرتبطة بها الوصول إليها جنوباً، خصوصا أنه ما يزال هنالك وجود للقوات السورية في المدينة.

المتغير الثاني انقلاب المقاربة الأميركية تجاه سورية، مع الإدارة الجديدة للرئيس ترامب، وإعادة تفعيل محور المواجهة مع إيران، وتحجيم نفوذها في المنطقة، ما يجعل من قطع المجال الحيوي الإيراني الاستراتيجي من طهران إلى البحر المتوسط هدفاً أميركياً، ويعطي الحدود العراقية السورية أهمية جديدة واستراتيجية.

أحدث هذان المتغيران، مع متغيرات أخرى فرعية، ديناميكية جديدة وسريعة مفاجئة في المناطق الحدودية العراقية السورية وبادية الشام، والمناطق الشمالية الشرقية المحاذية للأردن، بعد أن كانت تلك المنطقة مهملة وغير مفيدة في نظر أغلبية القوى الدولية والإقليمية والمحلية.

الطريف أنّ الإيرانيين دفعوا بالمليشيات والجيش السوري إلى شرق تدمر، وللسيطرة على بلدات في ريف حمص الشرقي، ومثلث بادية الشام، للمرة الأولى منذ بداية الثورة السورية، بينما أصبح معبر التنف بمثابة "نقطة استراتيجية" على درجةٍ كبيرة من الأهمية للولايات المتحدة والأردن والدول الغربية، وليس مستبعداً أن يتم التفكير في توسيعها وتحويلها قاعدة عسكرية كبيرة، ونقطة انطلاق وتدريب ومراقبة، لإدارة المعركة في تلك المنطقة المهمة.

الأكثر طرافةً أنّ التنافس لم يقتصر على الجانب السوري، بل امتد إلى الجانب العراقي، إذ تحرّك الحشد الشعبي نحو الحدود السورية العراقية، للسيطرة عليها من الجهة الأخرى، من الرطبة والقائم، الموازية للتنف والبوكمال، بينما يتنافس الجيش السوري مع فصائل الجيش الحرّ، مثل أسود الشرقية والمغاوير وجيش العشائر على مناطق البادية السورية.

المفارقة أنّ توجه الحشد الشعبي إلى تلك المنطقة هو بالضرورة بتوجيهٍ إيراني ولحماية مصالح إيران، وليس لحماية ظهر القوات الأميركية في التنف، كما تذهب تحليلات عسكرية. ووجه المفارقة أنّ الحشد يخوض المعركة بالتعاون مع الأميركيين في العراق ضد تنظيم داعش، بينما يتحرّك حالياً لحماية النفوذ الإيراني على الحدود السورية، وإنْ كانت الذريعة مطاردة "داعش"، ومنعه من عبور الحدود باتجاه بادية الشام.

بدأت الكفّة العسكرية تتغير وتتحول لصالح القوات السورية النظامية والمليشيات معها، في تلك المنطقة، مع سيطرتها على مناطق استراتيجية في بادية الشام، وما تزال المخططات الأميركية العسكرية غير واضحة، وقوات المعارضة المدعومة من "الموك" في تلك المنطقة غير مستعدة للمواجهة الكبيرة، ما قد يفسّر التفكير في بناء قاعدة عسكرية استراتيجية في منطقة التنف.

اقرأ المزيد
٢٢ مايو ٢٠١٧
سجن صيدنايا: أوشفيتز النظام الأسدي ومحرقته

المفاجئ في تصريحات ستيوارت جونز مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط، ليس كشفه محرقة في سجن صيدنايا، يقوم النظام الأسدي الكيماوي بحرق جثث القتلى تحت التعذيب الوحشي كي يمحي أثرهم من الوجود، فإن فضائح المخابرات والجلادين في السجون والأقبية المخابراتية المعتمة في سوريا لم تعد تخفى على أحد.

فبالوثائق والأدلة باتت المنظمات الدولية تمتلك ملفات كاملة عن جرائم ضد الانسانية يرتكبها نظام الأسد، من ملف قيصر الذي يحوي على عشرات الالاف من صور القتلى تحت التعذيب، إلى تقرير منظمة العفو الدولية عن شنق ما لا يقل عن ثلاثة عشر ألف معتقل بعد التعذيب في هذا السجن الرهيب، والأدلة الدامغة والاثباتات بارتكابه جرائم حرب باستخدام الأسلحة الكيماوية.. لكن اللافت في المسألة عدة مؤشرات تواترت في الفترة الأخيرة صادرة عن الإدارة الأمريكية وإسرائيل، ودول أوروبية، ومعطيات جديدة في الشرق الأوسط، تؤكد توجهات جديدة في إدارة الأزمة السورية لدى واشنطن وتل أبيب، وتغيرات جوهرية منتظرة على المدى المنظور.

ـ المؤشر الأول، أن وزير البناء والاسكان الاسرائيلي يوآف جلنت صرح بأنه آن الأوان لاغتيال بشار الأسد والتخلص من ذيل الأفعى ـ ويقصد أنه ذيل ايران، ثم التخلص من رأسها أي إيران، وأن ما يفعله بشار الأسد في سجن صيدنايا لم يسمع العالم بمثله منذ سبعين عاما، مشيرا بذلك إلى المحرقة النازية في اوشفيتز، وهذا التذكير بالجريمة النازية الكبيرة في الحرب العالمية الثانية له دلالة نفسية كبيرة في المجتمع الدولي.

ـ المؤشر الثاني، تواتر التصريحات الامريكية حول انتهاكات النظام الأسدي في سورية، إلى ضرب مطار الشعيرات، وتصويت مجلس النواب على قانون سيزر (أقر الكونغرس الامريكي بالاجماع قانون حماية المدنيين في سوريا، الذي يضمن معاقبة داعمي النظام السوري، ويهدف الى إيقاف المذابح في سورية) ووصف بشار الاسد بالحيوان من قبل الرئيس ترامب، ثم الكشف عن محرقة صيدنايا، وهذا ما لم نعهده في إدارة الرئيس السابق اوباما، ما ينم عن التحول الجذري في السياسة الأمريكية تجاه الملف السوري.

ـ المؤشر الثالث، استماتة الروس والايرانيين في دعم النظام بشتى الوسائل، خاصة في ما يسمى بمحادثات أستانة، التي دعيت إليها إيران كضامن ثالث لمناطق «تخفيض التوتر» في سورية، الى جانب تركيا وروسيا ـ منذ هذا الاتفاق لم تتوقف عمليات القصف الروسية الاسدية وهجوم الميليشيات الشيعية على مناطق المعارضة ـ ففي قراءة متأنية يمكننا القول إن إدارة ترامب ترغب في توصيل رسالة إلى موسكو، بأن عليها التخلص من حليفها في دمشق، وعودة ميليشيات طهران إلى قواعدها في ايران والعراق، والدخول في مفاوضات سياسية جدية، لانتقال السلطة بعد القضاء على «داعش» واخواته. في حين ان موسكو تصر على إظهار نظام الأسد بأنه مازال شرعيا بجلوسه إلى طاولة المفاوضات، ودعمه في استعادة مناطق كانت بحوزة المعارضة تحت القصف الوحشي المتواصل لهذه المناطق، خاصة في محيط دمشق. ويبدو أيضا أن إسرائيل، لم تعد ترى بشار قادرا على الاستمرارية في ضماناته التي قدمها والده منذ بداية انقلابه العسكري في سبعينيات القرن الماضي، مقابل ضمان استمرارية حكمه وحكم وريثه، فالتصريحات بضرورة الخلاص منه بمثابة فك عقد تبادل الضمانات ـ خاصة أن الطائرات الاسرائيلية تصول وتجول في الأجواء السورية، وكأنها في عرض عسكري، ولا تتوانى عن قصف مستودعات اسلحة وذخائر في مطار دمشق الدولي ومناطق أخرى.

ـ المؤشر الرابع، أن عدة دول أوروبية، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وألمانيا، أكدت أن نظام الأسد هو المسؤول عن هجمات خان شيخون الكيماوية، وبالتالي بالنسبة للمجتمع الدولي من الصعوبة إعادة تأهيل نظام يضرب شعبه بأسحلة كيماوية، إضافة إلى كل الملفات الثقيلة للانتهاكات التي قام بها منذ اندلاع الثورة السورية من قتل، ودمار، وتهجير، وترانسفير، وتغيير ديمغرافي، وتبقى محادثات جنيف المكوكية تراوح مكانها، بدون أي تقدم في أي ملف من الملفات الكفيلة بانتقال السلطة، في ظل تصعيد النظام والروس والايرانيين تغيير المعادلة العسكرية على الأرض، باستمرار القصف الهمجي لمناطق المعارضة رغم اتفاق «مناطق تخفيض التوتر».

ـ المؤشر الخامس، مناورات «الأسد المتأهب» في الأردن، والتوتر في العلاقات الأردنية السورية، والأردنية الايرانية، بعد أن كان الاردن يقف موقفا شبه محايد من الأزمة السورية.

ـ المؤشر السادس، الذي سيكون له أكبر الأثر في المنطقة الشرق أوسطية هو القمة الأمريكية العربية الاسلاميةـ التي لم تدع ايران، أو النظام السوري إليها ـ والتي ستبدأ معها حقبة جديدة من السياسة الأمريكية في المنطقة، وإعادة رسم خريطة التحالفات.

هذه المؤشرات مجتمعة لا تطمئن النظام السوري، وحليفيه الايراني والروسي، فقواعد اللعبة تغيرت مع الادارة الأمريكية الجديدة في شرق أوسط يتأهب لدخول مرحلة صعبة من صراع القوى في المنطقة برمتها، يستحيل معها بقاء نظام مرفوض دوليا، وبات عبئا ثقيلا حتى على حلفائه.

اقرأ المزيد
٢١ مايو ٢٠١٧
إدْلِبِيُّون قابضون على الجمر (1)

بدأت الثورة السورية في إدلب ضد نظام حافظ الأسد، فور تسلمه الحكم عام ١٩٧٠م، لدى زيارته الأولى لها في جولته على كافة المحافظات السورية؛ لحصد التأييد الشعبي وإدخالهم بيت الطاعة الأسدي.

كان رد الإِدْلِبِيُّون قاسياً وسريعاً، لم يقف استنكارهم لانقلابه على أصحابه عند حد اللسان والهتاف بـ “لا” أو “نريد إصلاحات”، بل تجاوز ذلك فوراً إلى اليد والرجم، حيث أمطروه بوابل من (البيض) و( البندورة) و(الأحذية البالية) تلك الحادثة الأعنف في بداية حكم حافظ الأسد، وما زال شاهدوها أحياء إلى الآن يقصونها على أحفادهم، ويؤكدون أن أحد الأحذية كاد يصيب رأس حافظ الأسد؛ لولا تدخل حارس مرماه عبد الله الأحمر محافظ إدلب حينها، واستطاع بخفة صد الحذاء، وحرمه شرف الوصول لرأس الأسد.

دخلت بعدها محافظة إدلب عالم النسيان في الذاكرة السورية؛ انتقاماً رد به الأسد الأب بعد استقرار حكمه وإحكام سيطرته؛ وعانت من التهميش الإداري رغم موقعها الجغرافي المتاخم للحدود التركية، وعمقها التاريخي وما تحتويه من مواقع ومعالم أثرية، إضاقة لكونها عاصمة الزيتون السوري لخصوبة التربة وروعة الطبيعة فهي الشهيرة بإدلب الخضراء.

إلا أن سياسة الإقصاء والتهميش التي اتخذت ضدها أضعفتها، وشتت شبابها بحثاً عن العمل في دول الجوار وأوربا، واضطروا للعمل في ظروف قاسية رغم مؤهلاتهم الدراسية والإبداعية، لتساهم تلك العوامل في بلورة شخصيات أبناء هذه المحافظة القاسية، الصفات التي احتاجوها في مراحل لاحقة مع اندلاع الثورة.

أتت أحداث الثمانينات فركبوا سريعاً في مركب “الثورة الثانية”، إلا أن الانتقام الأسدي كان شديداً وفظيعاً، ارتكب فيها عدة مجازر أخمد من خلالها الانتفاضة الشعبية الثانية ضده، تبعها بحملات أمنية لم يسلم منها إلا القليل من عائلاتها، وهجّر الفئة المثقفة والنخب السياسية، ليستقر له الحكم من جديد.

سُحقت الطيبة والمحبة التي يمتاز بها أهل هذه المنطقة بجحافل الأسد من جديد؛ ليزداد رجالها عنفواً وقسوةً وكبرياءً، كذلك هم الطيبون غالباً يستأسدون إن أراد أحدهم المساس بكرامتهم، وتأهبوا كثيراً منتظرين الثورة الثالثة، حرمت خلال هذه الفترة محافظة إدلب من أكثر الخدمات، فلا استثمار فيها ولا تنمية إلا في حدود متدنية، كما مورس بحق أبنائها التهميش والاستخفاف الاجتماعي من باقي المحافظات؛ الأمر الذي لم يكسرهم بل زادهم صلابة وإصراراً وعناداً.

استطاع الأسد وابنه الدكتاتور الأصغر صنع أشد الأعداء لهما بيديهما؛ وأعطاهم كل مؤهلات التمرد وبذر في نفوسهم التوق إلى الثورة من قبل أن تبدأ على الأرض، وانتظروا جميعا الجولة الأخيرة ليجتاح الربيع العربي عدداً من البلاد، فوجدوا فيه الفرصة الأخيرة لتوجيه الضربة القاضية، فأسرع ضباطهم للانشقاق، على رأسهم المقدم “حسين الهرموش” ابن جبل الزاوية الأشم ومؤسس الجيش الحر، وسلّحوا شبابها، وتصدّوا للجيش والأمن أثناء اقتحامهم لعدة بلدات أهمها:  أورم الجوز، وخان شيخون، وجسر الشغور، ثم اشتعلت الثورة المسلحة في كل المحافظات السورية.

كان شباب إدلب شجعاناً في قرارهم يأبون الذل والهوان، أقوياء بعنفوانهم، أعزة كرماء، غير صاغرين؛ لأنهم رضعوا الشجاعة صغاراً، واستطاعوا طرد نظام الأسد من إدلب، ثم طردوا “داعش” بعدها من أرضهم، ولن يستطيع طاغية كما يبدو إحكام سيطرته عليهم وإخضاعهم، بعدما نالهم من قتل وتدمير وتشريد فذاكرتهم ملئت بالمجازر، ونفوسهم شحنت بالقهر، ولم يعد للموت رهبة في قلوبهم.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو