مع اقتراب حملة «غضب الفرات» التي تقودها «قوات سورية الديموقراطية» في محافظة الرقة من نهايتها، تضمحل الخيارات العسكرية لـتنظيم «داعش» بعدما بات شبه محاصر في مدينة الرقة آخر معاقل التنظيم في المحافظة.
المعطيات العسكرية منذ معركة الطبقة وسد الفرات، ثم التقدم السريع لـ «قسد» نحو الشرق باتجاه مدينة الرقة، تدل على أن التنظيم لن يخوض معركته المصيرية في هذه المدينة التي تعتبر ساقطة من الناحية العسكرية وليس من الناحية الزمنية.
والاتفاق الذي أجري بين «قوات سورية الديموقراطية» و «داعش» لترك المدينة والمغادرة نحو البادية ودير الزور، لم يكن ليتم لولا إدراك «قسد» أن التنظيم مستعد لمثل هذه الصفقة بعدما ظهر كثير من المؤشرات، مثل سرعة الانسحاب من بعض المناطق، ونقل قياداته وقواته الرئيسية إلى دير الزور.
ومع أن «قسد» نفت هذا الاتفاق، إلا أن معطيات كثيرة تؤكد وجوده، وأنه بُدئ بتطبيقه على الأرض، ولم يكن بيان «قسد» قبل أيام عبثياً اذ جاء فيه «نظراً للنتائج الإيجابية للبيان الذي أصدرناه بتاريخ 15/5/2017 والذي أعلنا من خلاله حماية حياة من يسلم نفسه وسلاحه من المنتمين إلى المجموعات المسلحة بمن فيهم داعش مهما كانت صفتهم ومهمتهم لقواتنا تمهيداً لتسوية أوضاعهم وحماية لعائلاتهم وذويهم وأهلهم نعلن تمديد هذه الفترة لغاية نهاية هذا الشهر 31/5/2017».
يحقق الاتفاق لـ «قوات سورية الديموقراطية» وتنظيم «داعش» جملة من الأهداف، فبالنسبة الى التنظيم تعتبر معركة الرقة خاسرة، بينما معركة دير الزور مفتوحة على احتمالات كثيرة، في ظل المساحات الجغرافية الواسعة والمفتوحة، وفي ظل الثقل الديموغرافي المتوافر هناك، فضلاً عن أن القوة العسكرية الحقيقية للتنظيم تكمن في دير الزور وليس في الرقة التي أخذت زخماً إعلامياً كبيراً كونها عاصمة التنظيم.
وبالنسبة الى «قسد»، يعني خروج «داعش» من الرقة نصراً عسكرياً سهلاً وبلا ثمن بشري يُدفع، ويعني بالنسبة الى الولايات المتحدة التخفيف من وتيرة قتل المدنيين بعدما ارتفعت حصيلة القتلى منهم إلى أرقام كبيرة خلال الشهر الجاري. كما يسمح الاتفاق للمحور المدعوم أميركياً بسرعة فتح معركة دير الزور التي أصبحت هدفاً واضحاً للنظام السوري وإيران وروسيا.
على أن أهم ما يمكن تحقيقه - وهذا ما جعل موسكو تهدد بضرب الاتفاق – هو أن انتقال التنظيم إلى جنوب محافظة الرقة بعد تجاوزه نهر الفرات وإلى دير الزور، سيجعل التنظيم وجهاً لوجه مع قوات النظام وحلفائه في الصحراء الممتدة بين محافظة الرقة والشمال الشرقي لمحافظة حمص، حيث يسعى النظام هناك إلى السيطرة على مساحات واسعة، وتحديداً السيطرة على بلدة السخنة الواقعة على الطريق الدولي بين تدمر ودير الزور، ليشكل بذلك مثلثاً جغرافياً يمتد من خناصر في الريف الشمالي الشرقي لحماة إلى تدمر فالسخنة، قبيل الانتقال إلى كباجب، أولى بلدات محافظة دير الزور من ناحية حمص.
ولم يكن مفاجئاً أن يعترض الروس على هذا الوضع الذي سينشأ نتيجة الاتفاق بين «قسد» و «داعش». فبالنسبة الى الروس، ستكون معركة الأميركيين وحلفائهم في الرقة سهلة بينما تكون معركة روسيا وحلفائها في شرق حمص ودير الزور صعبة، وسينجم عن ذلك خسائر في الأرواح لدى المحور الروسي وصعوبة في التقدم السريع على عكس ما سيحدث للمحور الأميركي.
ولهذا السبب، ستضرب موسكو أية محاولة من التنظيم للهروب من الرقة نحو الجنوب أو الجنوب الشرقي، ولن تعطي الأميركيين نصراً سهلاً، بل على العكس تبدو روسيا مرتاحة كثيراً من سقوط كثير من المدنيين بطائرات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.
أمام ذلك، تبدو خيارات «داعش» قليلة أو شبه معدومة، ولن يكون أمامه سوى القتال حتى النهاية في المدينة، أو الانتقال نحو دير الزور وليس صحراء حمص باتجاه تدمر، كي لا يتعرض للقصف الروسي كما حدث قبل أيام حين استهدف الطيران الروسي رتلاً عسكرياً للتنظيم كان متوجهاً نحو تدمر عبر صحراء الرقة جنوب نهر الفرات.
لكن التوجه إلى دير الزور لن يكون بلا ثمن، حيث سيتعرض التنظيم لقصف التحالف الذي يحاول إجباره على التوجه نحو تدمر لمقاتلة النظام والقوى التابعة لإيران، فضلاً عن أن التحالف و «قسد» عزلوا الريف الشرقي لمحافظة حمص، ولن يكون أمام التنظيم سوى الطريق نحو تدمر والتعرض للقصف الروسي.
وقد يجد التنظيم طريقاً وسطاً من خلال التوجه نحو الجنوب الشرقي لمحافظة الرقة، فيبتعد عن المناطق المعزولة في الشرق ولا يدخل صحراء حمص نحو تدمر، إلا أن هذا الاحتمال قد يعرضه للقصف من الجانبين الأميركي والروسي معاً.
لقد تحول تنظيم «داعش» إلى هدف مشترك لكل أطراف الصراع المحلي والإقليمي والدولي بغية الاستحواذ على تركته، لكن إذا كانت محافظة الرقة قد حسمت للمحور الأميركي، فإن محافظة دير الزور لم تحسم بعد، وتبدو أصعب من أن يستحوذ عليها طرف بعينه.
هل تقترب الصراعات في سورية والعراق واليمن وليبيا من نهايات قريبة نسبياً؟ على رغم ندرة المبادرات الداخلية فإن التنافس بين الأطراف الخارجية، دولية وإقليمية، فتح فصولاً صراعية جديدة لا تعد بإنهاء بل بإطالة كل صراع. هناك تحالفات جديدة، سباقات تسلّح، اصطفافات متبدّلة وخلط أوراق... هذه مرحلة تحوّلات ربما تمثّل قمم الرياض ذروتها، إذ تحاول إعادة الدور الأميركي قبل أفوله في المنطقة، لكن سبقتها تقلّباتٌ في العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا، بينها وبين حليف مثل تركيا، وحتى مع حلفاء مزمنين في الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. كل ذلك ينعكس على البلدان الأربعة المأزومة وجوارها، وليس مؤكّداً أن التشوّش الراهن سينجلي متى حسمت أميركا خياراتها، إذا حسمتها فعلاً، فهي تركّز على محاربة الإرهاب وتتجاهل الأسباب الداخلية التي أجّجت هذا الإرهاب، أما الأطراف الأخرى كروسيا وإيران وإسرائيل وتركيا فتتلاعب، خصوصاً في سورية، وكلٌّ على طريقته، بورقتي الإرهاب والأزمة الداخلية معاً.
بعد قمم الرياض أصبحت المعادلة كالآتي: الإرهاب هو إيران. كان ذلك واضحاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة منذ وجودها في السعودية بعد حرب الخليج، ثم عندما أصبحت سلطة احتلال في العراق ولمست مباشرة كيف استفادت إيران من الحرب على أفغانستان بإيواء فلول تنظيم «القاعدة» ومن الحرب على العراق بإدخال مواليها من معارضي صدام حسين الذين أصبحوا لاحقاً نواة الميليشيات التي فرّخت عشرات لتكون «حرساً ثورياً» بديلاً من الجيش الوطني، تماماً كما فعل ملالي طهران بعد إطاحة الشاه. بل اتضحت أكثر للأميركيين علاقة إيران بالإرهاب بعد انسحابهم من العراق ثم دعوتهم إلى العودة للمساعدة في محاربة الإرهاب، تحديداً في ضرب «داعش»- وليد «القاعدة»- الذي تمدّد إلى سورية وأعلن «دولة الخلافة» في مساحة جغرافية واسعة معظم سكانها من السُنّة، وهي المساحة التي أرادت إيران إخضاعها لتحصّن هيمنتها على عموم العراق وتتحكّم بمناطق شرق سورية ووسطها وصولاً إلى لبنان، استكمالاً لـ «هلالها» الفارسي أو الشيعي.
هذا «الهلال» سيطر بميليشياته على الأرض، فلم يتأثّر بالتدخّل الروسي في سورية بل تعايش معه، ولا بعمليات «التحالف الدولي ضد الإرهاب» بل كشف حاجة الأميركيين إليه في العراق، حتى أن الخلافات الأميركية- الروسية تترك له مساحات مريحة لمواصلة عمله، إلى حدٍّ تبدو معه الدولتان الكبريان وكأنهما تخدمان الاستراتيجية الإيرانية. لم تعبّر روسيا، حتى في سعيها إلى تدعيم نفوذها في سورية، عن أي نيّة أو مخطط لتقليص نفوذ إيران، وفضّلت حتى الآن التنسيق معه على رغم تناقضه مع خططها لتطبيع الوضع السوري. أما الولايات المتحدة فأكّدت مراراً أن الحدّ من التمدّد الإيراني أحد أبرز خياراتها الاستراتيجية، بالتزامن مع ضرب الإرهاب وإنشاء مناطق آمنة، أي أنها تقترب من معادلة «الإرهاب هو إيران» وبالتالي فإن المنطقة تترقّب تنفيذ توجّهها هذا ومدى تأثيره في مستقبل الأوضاع، تحديداً في سورية والعراق واليمن، وبات ممكناً أن تُضاف ليبيا إلى السياق ذاته، لماذا؟ لأن كشف واشنطن عن نياتها وتحالفاتها، وتأخّرها في التحرك، دفعا بالمتضرّرين المحتملين إلى «تحالف» تسعى إيران إلى بلورته مستفيدةً من مسار أستانة السوري للتقارب مع تركيا واستمالة تيار الإسلام السياسي «الإخواني» القلق من ربطه أميركياً وعربياً بالإرهاب. ولا تبدو موسكو ممانعة نشوء تحالف كهذا بل تعتبر أنه يمدّها بأوراق إضافية في مساوماتها مع أميركا.
إذا كان الإرهاب هو المعضلة الرئيسية فإن وشوك انتهاء معركة تحرير الموصل بهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) في معقله الأهم يرشّح العراق لأن يوفّر النموذج الأول لما ستكون عليه الحال في مرحلة «ما بعد داعش». بعد ذلك، وبالمفهوم نفسه، سيشكّل إطلاق معارك تحرير الرقّة ودير الزور خطوة نحو حسم الأزمة في سورية لتأخذ عندئذ بشيئ مما يكون قد تبلور سياسياً في العراق. في المقابل، لم يكن الإرهاب سوى جزء تفصيلي في اليمن، إذ كان تنظيم «القاعدة» متوطّناً في بعض مناطق الجنوب والوسط قبل أزمة 2011 ويرجّح أنه كان يتلقّى دعماً من قيادته في إيران وقد استخدمه علي عبدالله صالح لابتزاز الخارج، ويرجّح أنه لا يزال على تواصل معه. أمّا في ليبيا فارتبط بفلول «القاعديين» الذين تغلغلوا في نسيج «الثورة» وميليشياتها ثم ظهر «داعش» فجأة وبجهوزية تامة مكّنته بسرعة قياسية من إنشاء إمارة في سرت، إلى أن طُرد منها لكنه لا يزال تهديداً ماثلاً حتى أنه سجل حضوراً في مانشستر البريطانية.
في جميع هذه البلدان تمسّ الحاجة إلى إطلاق حلول سياسية بمقدار ما تمسّ إلى محاربة الإرهاب، أولاً لأن الظروف التي أنضجت «داعش» وظهوره لا تزال قائمة بل إنها قد تزداد تغوّلاً، وثانياً لأنها قد تنتج جيلاً آخر من هذا التنظيم بسرعة قياسية. فعلى سبيل المثال، حضّ النظام الإيراني نظام نوري المالكي على عدم تقديم تنازلات لحل الأزمة السياسية في العراق لكنه شجعه على التنازل لـ «داعش» بعدم مقاومته في الموصل وبسحب أي قوات حكومية قادرة على التصدّي له. كذلك حقّق النظامان السوري والإيراني أكبر المكاسب من تمكين «داعش» في زرع وجوده في الشمال ومن انشقاق «جبهة النصرة» عنه ترجيحاً لوضع فصائل المعارضة في سياق إرهابي يرفضه العالم، ويتذرّع به لقبول نظام بشار الأسد كخيار سيئ أفضل من الآخر الأسوأ. وفي الحالين كانت المشكلة في ممارسات النظام القائم، وفي المشروع الإيراني لنشر الفوضى والاستثمار فيها. هذا ما كان عليه الأمر أيضاً في اليمن، بتوظيف أنانية الرئيس المخلوع وأحقاده واحتكاره بعض القوات المسلّحة واستهتاره بالبلد في خدمة الميليشيات الحوثية للسيطرة على الدولة والجيش والمؤسسات كافة، من دون أي ازعاج للتنظيمات الإرهابية الموجودة.
لن يستعاد أي استقرار في أي من هذه البلدان، ولن يستقيم أي حل سياسي، ما لم تُرفع يد إيران عنها أو يُقلّص نفوذها الى أدنى حدّ. هذا مشروع حرب أخرى وستتجنّب إيران وخصومها تعريض أراضيها، وستحارب إيران وخصومها بالسوريين والعراقيين واليمنيين. يترافق انتهاء معركة الموصل مع تكثيف ميليشيات «الحشد الشعبي» اندفاعاتها إلى الحدود السورية، فوليّ الفقيه الإيراني الذي يتصرف كـ «خليفة» يعتبر أنه الأحقّ في وراثة أرض «خلافة» أبي بكر البغدادي، و «الحشد» يريد أن يحلّ محل «داعش». هذا اختبار مهم لاستراتيجية «احتواء النفوذ الإيراني» الأميركية، وسباق مفتوح بين مَن يملك الأرض ومَن يملك الجو، بين طهران التي تعتبر معابر الحدود شرايين حياة لوجودها في سورية وستواصل ضغوطها للسيطرة عليها، وبين واشنطن التي تسعى إلى تحويل المعابر ومحيطها «مناطق آمنة» لكن تلكؤها قد يخسّرها السباق، فالغارة الجوية على ميليشيات عراقية مندفعة إلى الجانب السوري من معبر التنف لن تثني الإيرانيين، مثلما أن الشروط الأميركية لم تمنع الحكومة العراقية من تشريع «الحشد» وإشراكه في معركة الموصل، ومن بعدها استعادة عربداته في الأنبار في طريقه إلى الحدود.
ثمة تفاهمات أوليّة، محدودة لكن مهمّة، قد تكون أميركا وروسيا توصّلتا إليها من دون إعلانها. بينها مثلاً عدم العرقلة الأميركية لاتفاق مناطق خفض التوتر في سورية مع اشتراط منع الميليشيات التابعة لإيران من عبور الحدود لإقامة خط طهران- بغداد- دمشق- بيروت. وبينها أيضاً اشتراط روسيا عدم التعرّض للجيش النظامي السوري، لكن معظم التحركات المنسوبة إلى النظام قوامها من أتباع إيران مع أنفار نظاميين كأدلّاء، وليس معروفاً إذا كان الأميركيون والروس توافقوا على معايير الفصل أو التمييز بين هذين الطرفين. غير أن المضي في اتفاق أستانة، بتشارك الروس والأتراك والإيرانيين في رسم «الحدود» بين مناطق خفض التوتر، بات يؤسّس لتوافق رباعي يضم الأسد كتحصيل حاصل، ومن شأن ذلك أن يهمّش مفاوضات جنيف أو يتركها عقيمة وشكلية ليلتفّ عليها بترتيبات تعكس ما تتوافق عليه الدول الثلاث مع الأسد.
خلال الحملة الانتخابية، أدان الرئيس حسن روحاني كشف الحرس الثوري لمدن الصواريخ الإيرانية الباليستية القائمة تحت الأرض. بعد فوزه بأسبوع تقريباً أعلن قائد قطاع الطيران في الحرس الثوري العميد أمير علي حجي زادة أن إيران شيدت مصنعاً ثالثاً لإنتاج صواريخها. بعده رد روحاني «أن إيران لا تحتاج إذناً من الولايات المتحدة لإجراء تجارب صاروخية، وأنها مستمرة بها عندما يكون ذلك ضرورياً من الناحية الفنية».
يقول محدثي الغربي إن إيران وفي شكل لم يسبق له مثيل، منكبة على توسيع أصولها العسكرية بعد المليارات التي حصلت عليها من الولايات المتحدة إثر التوصل إلى الاتفاق النووي، ويفخر العسكريون الإيرانيون بإجراء تحول في قدراتهم القتالية، مما يعطي إيران خياراً بأن تصبح قوة هجومية في كل أنحاء منطقة الشرق الأوسط، وهذه الادعاءات كما قال، تشكل قلقاً كبيراً لدى كبار الشخصيات في واشنطن.
وكانت تقارير في أواخر شهر أبريل (نيسان) الماضي خرجت من إيران، أشارت إلى وصف مسؤولين هناك، زيادة ميزانية الدفاع بنسبة 145 في المائة في ظل فترة ما يسمى بالرئيس «المعتدل» روحاني، وأن قوات النظام العسكرية تهدف إلى إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية للنظام بحيث تصبح قوة مستعدة دائماً للمبادرة وفي كل الظروف. ومنذ تنفيذ الاتفاق وما تلاه من «مكافآت»، عمد المسؤولون الكبار في إيران إلى استخدامها في شراء معدات عسكرية جديدة وأسلحة إضافية، كما وقعت إيران عقوداً عسكرية مع روسيا بقيمة ملايين الدولارات.
يقول محدثي الغربي، إن كبار المسؤولين الأميركيين وأعضاء الكونغرس تنتابهم الشكوك من أن إيران تستخدم جزءاً كبيراً من النقد - الذي أثار الجدل - 1.7 مليار دولار الذي وفرته لها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، لدعم شبكاتها الإرهابية المنتشرة في أنحاء عدة من الشرق الأوسط.
العميد كيومارس حيدري خلال مراسم الاحتفال بيوم الجيش أعلن عن الإضافات من الأسلحة التي توفرت للجيش. هذا الإعلان الذي لم يكتسب أهمية في وسائل الإعلام الغربية، جعل المسؤولين عن الأمن القومي الأميركي يناقشون هذه المسألة خلال الأسابيع الماضية.
إن هدف إيران هو تحويل جيشها إلى قوة ذات قدرات «هجومية» مما يشير إلى تحول لافت عن دورها الداعم للحرس الثوري الذي يعتبر قوة طهران الأساسية.
يقول محدثي: إن تعزيز القدرات اللوجيستية والأسلحة والدعم هي الأهداف التي يعمل عليها النظام لإعادة إحياء دور وقدرات جيشه النظامي. ويرى المراقبون العسكريون أن هذا يعتبر تحولاً كبيراً لسياستها تجاه الجيش النظامي بحيث يوفر لطهران القدرة على التدخل في منطقة الخليج العربي، وهي منطقة حساسة حيث تتمتع القوات الأميركية فعلياً، بنفوذ ووجود جديرين بالملاحظة.
لإيران تاريخ طويل في تحويل المليارات إلى برامجها العسكرية وشبه العسكرية. وكانت استخدمت المكاسب المتراكمة من العملة الأوروبية من الاتحاد الأوروبي خلال الفترة من 1998 حتى 2005 للاستثمار بكثافة في برامجها النووية والصاروخية السرية. ومن المفارقات المثيرة أن الشخص المسؤول عن هذه الجهود لم يكن سوى سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي حسن روحاني، الذي أصبح الغرب، وبالذات الإعلام الأميركي، يطلق عليه لقب «إصلاحي». وعلى الرغم من كل التهديدات الإيرانية ومواقع الصواريخ تحت الأرض والتي كان العميد أمير علي حجي زادة قال في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2015 «إنها على عمق 500 متر تحت الأرض وخزنت فيها صواريخ متفاوتة المدى». على الرغم من هذا، كما يقول محدثي: إن إيران تحكي، لكن لن تمشي على أقدامها لإثارة مواجهة عسكرية خطيرة مع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
إن إعادة انتخاب روحاني لا تشير إطلاقاً إلى تغيير أو اعتدال في إيران، بل إنها تعزز فقط تكتيك المرشد الأعلى في خلق سرد كاذب لإيران معتدلة، كغطاء للحملة المستمرة للنظام للسيطرة على الخليج العربي وشرق البحر المتوسط من خلال التخويف والعدوان. وكما ذكر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وأبرز أعضاء إدارته، فإن إعادة النظر بالسياسات المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، تبقى أولوية. إذ بسبب بنوده، يمكن لإيران الالتزام تماماً بالاتفاق طوال العقد المقبل، وتستمر في بناء رؤوس حربية نووية في غضون 10 إلى 15 سنة.
يقول محدثي: قد تلتزم إيران على الأقل لسنوات مقبلة، لأنها تطمع إلى رفع ما تبقى من العقوبات عنها، وزيادة تجارتها مع الغرب، فهذه الطريقة تجعل من الصعب إعادة فرض العقوبات لاحقاً إذا ما دعت الحاجة. ويضيف: وللأسف هذا ما يحدث، إذ تم الإفراج عن المليارات المجمدة وحولت إلى طهران فازدادت الصادرات الاستراتيجية الأكثر نفعاً لإيران - النفط - خصوصا إلى أوروبا وآسيا. وبدلاً من استخدام المكاسب الاقتصادية من الصفقة لتحسين حياة الإيرانيين أو تنمية علاقات مع الغرب للدخول في حقبة من الازدهار والإصلاحات، زادت إيران ووسعت بصمتها العسكرية على المنطقة.
في كلمته في المملكة العربية السعودية قبل أسبوعين، أظهر الرئيس ترمب أنه غير مخدوع عندما قال: «من لبنان إلى العراق، إلى اليمن تمول إيران، وتسلح وتدرب الإرهابيين والميليشيات والمجموعات المتطرفة، وهذا ينشر الدمار والفوضى في المنطقة. على مدى عقود غذت إيران حرائق الصراع الطائفي والإرهاب».
يشرح محدثي، أن الحروب بالوكالة التي تخوضها إيران في سوريا واليمن من خلال مجموعاتها مثل «حزب الله» والحوثيين، والتلاعب بالصراع العراقي هو لخدمة أجندة طائفية شيعية.
في زيارته الأخيرة، قبل زيارة ترمب، إلى إسرائيل أكد جيمس ماتيس وزير الدفاع الأميركي امتثال إيران للاتفاق النووي: «لكن هذا لا يخفف بأي حال من الأحوال أو يعفي سلوكها الإقليمي المؤسف في المنطقة: خراب وفوضى وقتل». بعده ردد ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأميركي مشاعر ماتيس لكنه ذهب أبعد من ذلك عندما قال إن «الصفقة مع إيران تمثل النهج الفاشل نفسه الذي جلب لنا التهديد الحالي الوشيك الذي نواجهه مع كوريا الشمالية».
يقول محدثي: إذا كانت كوريا الشمالية، التي أقدمت هذه السنة على تجربة تسعة صواريخ، مجرد طعم لما يمكن أن تطلقه إيران، فإن هذا بحد ذاته يكفي، لكننا نعرف أن الروابط بين كوريا الشمالية وإيران تذهب إلى أعمق، وللبلدين تاريخ طويل من التعاون العسكري. إضافة إلى ذلك صدرت كوريا الشمالية تكنولوجيا الأسلحة النووية إلى الشرق الأوسط وساعدت بشكل مباشر سوريا على بناء مفاعل قامت إسرائيل بقصفه بشكل استباقي عام 2007.
ويتخوف الخبراء النوويون من أن إيران ستواصل على الأرجح، المضي قدماً في برنامجها النووي بعيداً عن جولات المفتشين الدوليين، من خلال إجراء أنشطتها البحثية في كوريا الشمالية، أو أن كوريا الشمالية قد تنقل يوماً وبطريقة غير شرعية طبعاً، جهازاً نووياً مباشرة إلى إيران.
يقول محدثي: «من أجل منطقتنا وهي تمتد من اوستراليا، حتى اليابان، حتى كوريا الجنوبية والفلبين يجب احتواء التهديد النووي لكوريا الشمالية، لكن من أجل العالم كله، يجب تحييد التهديد النووي الإيراني على المديين القصير والطويل».
بعد القمم العالمية والعربية والإسلامية التي عقدت في المملكة العربية السعودية، صعدت إيران لتخفيف تضييق الخناق، ومساء الاثنين الماضي نشرت صورا لقاسم سليماني قائد فيلق القدس مع أفراد من الميليشيات الشيعية العراقية، وهو يقف على الحدود بين العراق وسوريا.
خلال الحرب العراقية - الإيرانية قالت إيران إن هجماتها الدموية ضد العراق هي للوصول إلى إسرائيل. وتستخدم إيران نفوذها داخل العراق للوصول إلى سوريا للدفاع عن نظام بشار الأسد، ويسمح الأسد لإيران بالوصول إلى «حزب الله» لتسليحه للحرب مع إسرائيل. حسب مصادر الحزب (يخزن مائة ألف صاروخ موجه إلى إسرائيل في خرق واضح للقرار الدولي 1701 وتهديد مباشر وقاتل لأي أمل للبنان).
القصد من احتمال التفجير هذا هو وصول إيران إلى البحر الأبيض المتوسط. يقول محدثي: «كان هناك وقت حيث مواجهة إيران في سوريا كانت ممكنة وغير مكلفة، نسف الرئيس أوباما كل ذلك. اليوم التكاليف باهظة والمخاطر هائلة. لكن، يشدد محدثي: لا تزال هناك حاجة لإخراج إيران من سوريا، أو أننا سوف ندفع ثمناً أثقل في المستقبل»!
كما العين لا تخطئ فى رؤية حجم الحشودات التي يتم الزج به بشكل متواتر في درعا ، لا تخلط العين ذاتها أن الهدف لا يقتصر على درعا وحدها ، بل هي هدف مرحلي وصولاً إلى ما بعد درعا و ملامسة المنطقة التي تعتبر الهدف الأهم .
تتضارب التصريحات في الوقت الراهن حول نفي النية باتجاه فتح معارك في درعا ، ويصل النفي حتى إلغاء فكرة الحشود التي تتقاطر باتجاه درعا ، على مبدأ أن الاتفاقيات الدولية تقضي بعدم الاقتراب من هذا الخط الأحمر سيما من قبل المملكة الأردنية ، التي وجدت نفسها حالياً خط الدفاع الأخير قبيل وصول المليشيات الشيعية لملامسة الخليج العربي ميدانياً ، وفي جعبتها طموحات بـ“بدر شيعي” يبتلع المنطقة بسرعة عجيبة.
لا يمكن فصل الملف السوري عن دول المنطقة سواء الملاصقة أو الأبعد ، فالجميع سيتضرر من تعزيز وجود السرطان “الشيعي - الفارسي” المتمثل بإيران و مليشياتها ، هذا الوجود الذي دفع بدول الخليج لاستقدام وتعزيز دفاعاتها بترسانات من الأسلحة ، وصل حجمها لما يفوق عدد القادرين على السلاح في تلك البلدان ، في الوقت جلست مطمئنة حاليا بانتظار وعود الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” للحصول على الأمان من السرطان “الشيعي - الفارسي” ، أمان لن يكون موجود مع الانتشار المتشظي للسرطان في كامل المحيط.
درعا اليوم قد تكون هي مهد الثورة ومصدر فخارها ، لكنها تقف على أعتاب مرحلة مصيرية في حياة الثورة و سورياً أولاً و في رسم وضع المنطقة ، والتخلي عنها لن يكون له توابع على سوريا ، فسوريا التي نعرف باتت في حكم الماضي ، والمتواجدين حالياً يحاولون تأخير تمدد السرطان “الشيعي - الفارسي” ، الذي يملك فكرا ينافس “داعش” في الإجرام و حب القتال ، فالسلام يعني وأده و ساحات القتال المنتشرة و المشتعلة هي ملاذه.
إذا يبدو أن الأردن قد استشعرت خطر السرطان “الشيعي - الفارسي” ، بدأت تحركات على الصعيد الدولي عبر مفاوضات شديدة اللهجة خيضت بينها وبين روسيا لردع التمدد الإيراني، هذا الردع الذي يبدو أن روسيا عجزت عنه ، مع تواصل التدفقات بالسلاح و العتاد والعناصر الشيعية بأحجام فهمت الأردن أنها ليست لدرعا ، بل للحصن الأخير الذي سيوصل هذه الجحافل باتجاه الخليج ، و السعودية على وجه التحديد .
تمر العلاقة الأميركية- الروسية في مرحلة اختبارية دقيقة بفعل التطورات الميدانية على الأرض السورية، وبعد أن تبادلت الدولتان العظميان الرسائل العسكرية المباشرة وغير المباشرة، لا سيما حول الموقف من الاندفاع الإيراني نحو السيطرة على معبرين من العراق هما التنف الواقع على مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية، والقائم (المسمى الأبوكمال من الجهة السورية) عبر قوات «الحشد الشعبي» وسائر الميليشيات المدعومة إيرانياً من الجهة العراقية، لتلتقي مع قوات النظام السوري والميليشيات التي تقودها طهران ومعها «حزب الله» من الجهة السورية.
في 18 الجاري قصفت الطائرات الأميركية تجمعات وأرتال لقوات النظام و «حزب الله» والميليشيات الإيرانية عند محاولتها الاقتراب من الطريق المؤدي إلى معبر التنف، ثم ألحقت ذلك نهاية الأسبوع الماضي برمي منشورات تطالب هذه القوات بالعودة إلى نقطة بعيدة من التنف (حوالى 55 كيلومتراً).
وقبل يومين، قصف الطيران الروسي بالتزامن مع إطلاقه صواريخ من أسطوله البحري على مواقع لـ «داعش»، قوات للمعارضة السورية المدعومة أميركيا أثناء محاولتها التقدم نحو مواقع جيش النظام و «حزب الله». وأرفق الجيش الروسي ذلك بظهور العلم الروسي على رتل من القوات المشتركة ينضم إلى حشود قوات النظام على الجبهة الجنوبية بهدف شن معركة لاستعادة السيطرة على معبر نصيب على الحدود مع الأردن.
تعددت التفسيرات لكل من الخطوتين الأميركية والروسية. فإذا كانت واشنطن تريد الحؤول دون سيطرة طهران على الطريق من طهران إلى العراق وصولاً إلى سورية، تطبيقاً لسياستها وجوب انسحاب إيران و «حزب الله» من سورية، فإن موسكو تؤشر في خطوتها الجديدة إلى أنها ترسم حدوداً لإمكان شن هجوم من الأردن على منطقة درعا يدعمه الأميركيون، في سياق الحديث عن إقامة مناطق آمنة تبدأ من هناك.
تضع الخطوة الروسية علامات استفهام حول مدى صحة المعلومات عن أنها مستعدة لغض النظر عن توجه واشنطن لوضع حد للتدخل الإيراني في بلاد الشام، وأن شرطها كان عدم التعرض لقوات النظام السوري، إذا كان الهدف الأميركي الذي تتفهمه، ألا تسيطر إيران والقوات الموالية لها على مناطق تهدد أمن إسرائيل. لكن الخطوة الروسية الأخيرة تتجاوز عملية رسم خطوط للقوات التي يحميها كل من الدولتين العظميين في الميدان السوري، وربما لها أبعاد سياسية أكثر عمقاً. فقصف قوات المعارضة السورية جاء بعد القمة الأميركية- العربية الإسلامية التي لا ترتاح موسكو إلى نتائجها. كما جاء بعد اجتماع الرئيس فلاديمير بوتين مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي انتهى إلى مطالبة الثاني الأول بأن يمارس نفوذه مع الرئيس السوري بشار الأسد كي يسهل محادثات الانتقال السياسي في إطار المفاوضات المفترض استئنافها في جنيف لاحقاً، في وقت تسعى موسكو إلى تعزيز المسار الموازي لمفاوضات جنيف، عبر تطوير صيغة آستانة الأمنية لتصبح بديلاً من جنيف التي تعتبر أنها لم تف بالغرض، لأنها تريد نزع ورقة بيان جنيف- 1 من أيدي شركائها الدوليين.
الخلاف الغربي الروسي كان واضحاً، خصوصاً أن ماكرون ألحق لقاءه مع بوتين باجتماع مع منسق الهيئة العليا للمفاوضات في الائتلاف الوطني السوري رياض حجاب في رسالة دعم لموقف المعارضة، فالجانب الروسي ينوي التحكم بمسار التفاوض الطويل المدى حول سورية، على وقع ما يأمله من تفاهم مع واشنطن ودول أوروبا حول رفع العقوبات الغربية عليه بفعل أزمة أوكرانيا والقرم وفي شأن الخلاف على توسع «النيتو» في دول أوروبا الشرقية. وهو أمر لن يتضح قبل اللقاء المنتظر بين بوتين ودونالد ترامب الشهر المقبل.
وبقدر ما يؤشر تبادل الرسائل بين واشنطن وموسكو عبر التناوب على توجيه الضربات للتشكيلات العسكرية «الموالية» لكل منهما إلى رسم حدود لتواجد وخطط كل من هذه القوى، فإن الخطورة في هذه اللعبة أنها تقحم سورية في مرحلة جديدة من المواجهات غير المباشرة التي لا يمكن التحكم بتحولها إلى اصطدام مباشر.
وما يزيد الأمر خطورة أن موسكو مضطرة في هذه اللعبة إلى تغطية اندفاع الميليشيات الموالية لإيران نحو ما باتت تسميه «فتح طريق طهران نحو القدس» عبر سورية ولبنان، كما يصفه الإعلام الإيراني بوضوح، فالتغيير في ميزان القوى الميداني بخفض تأثير إيران في الملعب السوري يقابله حصول القيادة الروسية على الثمن المقبول بنظرها. وطهران تدرك ذلك وتستفيد منه وصولاً إلى تحدي الملاحة الدولية في باب المندب مجدداً.
أن يحظى اندفاع إيران بمظلة موسكو، قد ينقل المواجهة إلى مستوى جديد يقحم سورية ولبنان معها.
كدت أكتب يقتل مرتين، لولا أن الطفل السوري عمران لم يمت ولله الحمد، بل نجا بأعجوبة، وخرج من بين أنقاض بيت أسرته الذي تهدّم بالكامل، إثر غارة جوية بالبراميل المتفجرة شنتها المقاتلات الروسية، بالتعاون مع قوات النظام السوري على الحي السكني الذي يقع فيه البيت في حلب قبل شهور. نجا الطفل الصغير بجروح كثيرة احتلت مساحات جسده، لكنه مع هذا لم يبك بعد لحظاتٍ من إنقاذ المسعفين له، بل جلس في سيارة الإسعاف هادئا ساكنا، يحاول أن يزيح الدماء والغبار عن وجهه وعينيه اللتين كان بالكاد يستطيع فتحمها، ليواجه الكاميرا بنظراتٍ مندهشةٍ، أذهلت العالم كله، وحولته إلى أيقونة للبراءة المغتالة على يد الطغيان مجانا.
يومها، احتلت صورة عمران معظم صحف العالم، ولم يستطع إعلام النظام السوري، ولا أي إعلام موال له، تغطية آثار انتشار تلك الصورة التي كانت من أهم صور الأحداث السورية. ولا شك أنها ستكون صورةً تاريخية، تؤرخ لتلك الأحداث، وتنضم إلى رزمة من الصور الفوتوغرافية التاريخية منذ اكتشاف التصوير الفوتوغرافي، والتي أصبحت عناوين لمراحل وأحداث عالمية، اختصرت في مشهدٍ واحد تفاصيل كثيرة خلفها.
نجا عمران من الموت، لكن الموت الذي واجهه، في تلك السن الصغيرة على هذا النحو المدوي، سيظل يسكنه إلى نهاية عمره، وستظل صورته الفريدة تذكّره إن داهمه النسيان يوما. ولأن عمران تحول إلى رمز عالمي تاريخي لبشاعة الأنظمة الديكتاتورية، عندما تستهدف شعوبها، ليكون الأطفال هم الضحية الأولى لها، فقد أصبحت صورته تخص الجميع، ولا تخصه هو أو أسرته وحسب. وبالتالي، أصبح من حق الجميع استثمار تلك الصورة، بما يوحي بمعناها، ويعزّز دلالتها الإنسانية على الأقل، لكن هذا لا يعني أنها أصبحت مشاعا لمن يريد تزوير الحقيقة، أو يستخدمها بعكس معناها، وما توحي به، وتدل عليه بقصدٍ أو من دون قصد.
ظهرت تلك الصورة، أخيرا، في إعلان تلفزيوني تجاري لإحدى الشركات في سياق أغنيةٍ يفترض أنها تهدف إلى محاربة ما يسمى الإرهاب، لكن السيئ في الإعلان أنه اختزل "الإرهاب"، كما يراه القائمون عليه، في جهةٍ واحدةٍ، هي تنظيم داعش المتطرّف. وفي ذلك الاختزال مغالطة كبرى، خصوصا أن فريق العمل لجأ إلى إعادة تصوير بعض العمليات التي أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عنها، ودسّ من بينها صورة عمران في استغلالٍ رخيص لمشاعر الناس التي تولدت يومها تجاه تلك الصورة بالذات، ضد المجرم الحقيقي الذي تسبب في تفجير بيت أسرة عمران، والبيوت المجاورة له.
ولا أظن أن ذلك المجرم سيجد ما هو أفضل من إعلان تلك الشركة لتبرئة ساحته من التهمة التي ستظل تلاحقه إلى الأبد، ذلك أن الإعلان الذي شاهده على موقع يوتيوب خلال الأيام الثلاثة الأولى من شهر رمضان، حيث أطلق، مع بدايته، ما يزيد على مليوني مشاهد، نجح في ترويج فكرته لدى الصغار والكبار بطريقةٍ فنيةٍ لا بأس بها، وبتقنيات إخراجية هائلة، وبصوت فنان جماهيري يحظى بشهرة واسعة، وقد تضافرت كل هذه العناصر في تشويه الحقيقة فعلاً. وإذا كان كثيرون يعرفون "الحقيقة" هنا باعتبار أن الحادثة لم تمضِ عليها سوى شهور، فإن الخطورة أن يقل العدد حتى ينعدم تحت وطأة انتشار مثل هذه التشويهات الفنية، فإذا كانت جروح عمران الأولى قد شفيت، فإن الإعلان الجديد جرحه مجدّدا.. وإنْ بشكل أعمق.
لست أتهم الشركة أنها قصدت ذلك المعنى الذي رسّخه الإعلان أخيرا، فليس من مصلحتها ذلك، ولا سوابق لها إلا بإعلاناتٍ تحاول فيها أن تساهم في تعزيز قيم مجتمعية إيجابية، ولكن فريق العمل الفني لا يمكن تبرئته، فالحدث طازج، وصورة عمران ما زالت شاهدة، والمجرم الحقيقي معروف جدا.
في انتظار تبلور صورة واضحة لـ «المنطقة الآمنة» التي تسعى الولايات المتحدة لإقامتها في جنوب سورية، والدور الذي ستلعبه واشنطن لاحقاً في البلد المنكوب، تستغل روسيا وإيران الوقت الضائع لتحسين شروط كل منهما في المفاوضات على التسوية النهائية، في حال اتفاق اللاعبين الدوليين جميعهم على أن الوقت حان لإبرامها، وهو أمر مستبعد في المستقبل القريب.
ففيما تقول واشنطن إنها تحاول إقناع موسكو بالنأي بنفسها عن المشروع الإيراني في سورية والمنطقة، وتعدها بتنازلات في ما خص مصالحها، وحتى في ما يتعلق بوضع بشار الأسد، على رغم المواقف العلنية الداعية إلى رحيله، يربط الروس ببراعة بين حاجة الأميركيين إلى إرضائهم وبين ملفات أخرى عالقة بين الدولتين، ويبدون قلقهم من عدم حصول تقدم فيها.
ولا تترك موسكو فرصة للتذكير بتمسكها بالنظام السوري، ولإعادة المفاوضات غير المباشرة مع الأميركيين إلى نقطة الصفر. وهو ما يشير إليه دفاع بوتين المستجد عن الأسد قبل يومين، ونفيه القاطع أن يكون الجيش السوري استخدم سلاحاً كيماوياً في خان شيخون، متنصلاً من إيحاءات وتلميحات كانت على ما يبدو مجرد «طعم» ابتلعه الأميركيون.
وكلما ضغط الأميركيون في اتجاه توسيع «فالق» مفترض بين أهداف روسيا وإيران، الدولتين الحاميتين للنظام السوري، أعربت موسكو وطهران عن رغبتهما في تعزيز التعاون بينهما، خصوصاً في سورية، مستغلتين عدم وجود خطة ناظمة للتحركات الأميركية المنفصلة على المحاور السورية المتعددة، من «داعش» والأكراد والأتراك، إلى المعارضة وتنظيماتها، وصولاً إلى النظام وحلفائه.
كما لو أن واشنطن تتعامل بالتقسيط ويوماً بيوم مع المسألة السورية. فهي تمنح الأولوية لهزيمة «داعش» وتركز معظم جهودها لتحقيق هذا الهدف، لكنها تدخل من أجله في توتر مع تركيا التي تحتاجها، قد يتطور إلى حد القطيعة بسبب قرارها الاعتماد على الأكراد. وهي ترى أن الوجود الإيراني يعرقل التسوية السياسية، وتربط بشكل صحيح بينه وبين التدخلات الإيرانية الأخرى في المنطقة، من دون أن تفعل ما يوحي بالسير نحو مواجهة مع الإيرانيين على الأرض، باستثناء ما يحكى عن خطة قطع الطريق البرية من طهران إلى ضاحية بيروت، وهو ما تملك إيران بدائل متعددة منه، لا سيما إذا نجح حلفاؤها في «الحشد الشعبي» العراقي في الإطباق على الحدود العراقية– السورية الشاسعة.
أما بالنسبة إلى الأسد، فهي على رغم تجديد واشنطن الدعوة إلى رحيله وقصفها إحدى قواعده الجوية، إلا أنها تبدي مرونة في التعامل مع جيشه في منطقة مثلث الحدود بين العراق وسورية والأردن، وأكدت أنها ستقبل بوجود رمزي له هناك.
وفي ما خص معركة الرقة، تبدو الآمال الأميركية المعلقة على الأكراد مبالغاً فيها، ذلك أن «قوات سورية الديموقراطية» التي يغلبون عليها، عاجزة عن القيام بذلك وحدها، وأن الخبراء الأميركيين المشرفين على تدريبها وتوجيهها يدركون الحاجة إلى حشد المزيد من القوات والأسلحة، على رغم التلويح المستمر باقتراب موعد الحسم.
ويطرح هذا الواقع تساؤلات عما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لزيادة تدخلها المباشر في معركة الرقة، ليشكل ذلك مقدمة لموازنة الانتشار الروسي في سورية. ويتوقع خبراء أميركيون أن يلجأ ترامب إلى «إحماء خارجي» ما هرباً من اشتداد الطوق الداخلي على إدارته، لكن دون ذلك عقبات كثيرة بينها خصوصاً شبح التورط في العراق والخسائر المادية والبشرية الفادحة التي نجمت عنه.
ومع أن غموض خطة التحرك الأميركية ينعكس ارتباكاً في مواقف جميع الأطراف الفاعلين على الساحة السورية، إلا أنه يترك لروسيا وإيران وقتاً وهامشاً للمناورة يتيحان لهما الالتفاف على محاولات تطويقهما.
على الرغم من التحذيرات الأميركية الجدية بتدخل عسكري أشد مما جرى يوم الجمعة الماضي، عندما قامت طائرات حربية تابعة للتحالف الدولي بضرب قافلة عسكرية يعتقد أنها تضم ميليشيات إيرانية، وأخرى موالية للأسد حاولت الاقتراب من المثلث الحدودي الأردني - السوري - العراقي في منطقة التنف جنوب سوريا، وعلى الرغم أيضًا مما يشاع عن ضبابية في الموقف الروسي الأقرب إلى الحياد الحذر في هذه الأزمة، حيث تحاول موسكو تفادي أي توتر عسكري مع الدول الغربية لقناعتها بأن واشنطن ولندن لن تسمحا لأي طرف بتغيير قواعد الاشتباك على جانبي الحدود، تصر طهران على المضي قدماً في تنفيذ مخططها الجيو - سياسي من خلال فرض واقع أمر ميداني جديد بين العراق وسوريا، يؤمن لها التواصل البري بين طهران وبغداد وسوريا وبيروت لما بات يعرف بطريق الحرير الإيرانية، التي تؤمن لها الوصول إلى مياه المتوسط. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، فإن القيادة الإيرانية ليست بوارد التراجع عن معركة السيطرة على منطقة التنف السورية ضمن مخطط يهدف إلى بسط نفوذها على جانبي الحدود بين سوريا والعراق، وقد حققت الجزء الأول من هذه الخطة بعد أن تمكنت ميليشيات الحشد الشعبي من الوصول إلى هذا المعبر الحدودي من جهة العراق، حيث صرح أحد قادتها بأنهم على استعداد للاستمرار في مطاردة من وصفوهم بإرهابيي «داعش» على الجانب السوري من الحدود بالتنسيق مع قوات الأسد، فبعد سيطرة هذه الميليشيات على مناطق غرب الموصل، وصولاً إلى البعاج تصبح الجهة العراقية من الحدود مع سوريا كاملة تحت النفوذ الإيراني، وبذلك تضع طهران مثلث التنف بين فكي كماشتها.
عملياً لا يمكن لطهران التراجع عن واقعة التنف، فهي قضية حياة أو موت، لذلك فهي مضطرة إلى خوض واحدة من أكثر المعارك تأثيراً على مستقبلها الجيو - استراتيجي في منطقة شرق المتوسط، التي تتخذ طابعاً مصيرياً كونها ستحدد حصتها من الكعكة السورية التي باتت في مقاساتها الحالية ضيقة عليها بعد التدخل الروسي، لكنها تراهن على إمكانية التفاهم مع موسكو من أجل تأمين التواصل الدائم بين بغداد ودمشق، فهي التي أتقنت الاستفادة من تناقضات حلفائها وأعدائها، وتعول على الاستثمار في عدم الثقة الروسية بالغرب وبواشنطن تحديداً، فموسكو المربكة من حجم الاندفاعة الأميركية نحو المنطقة تتعرض لاختبار دولي وإقليمي في سوريا يطالبها بالتخلي عن إيران وتحجيم نفوذها، من أجل كسب ثقة المجتمع الدولي وضمان حصة لها في الحل السوري، مما يجعل طهران تطمئن مرحلياً إلى أن هذا الحل يصعب على موسكو تنفيذه سياسياً وميدانياً، كما أن نتائجه السياسية والاستراتيجية بنظر صقور القيادة الروسية يؤدي إلى الاستفراد الغربي بروسيا في سوريا ويحولها من قوة لها النفوذ الأقوى إلى حاجب أميركي على سوريا، كما تلعب طهران على مخاوف الكرملين من أن مصير سوريا الروسية لن يكون أفضل من مصير سوريا الإيرانية، خصوصاً بعد أن أيقنت موسكو أن الغرب الذي رفض التعامل مع نظام الأسد الإيراني حسم أمره في رفض هذا النظام حتى لو كان برعايتها. لذلك تراهن طهران على أن تستمر موسكو في تأمين غطاء جوي لها في المعارك التي تخوضها في سوريا ولو بشكل محدود في معارك جنوب سوريا، وليس من الضروري أن يشمل الغطاء حالياً معركة التنف في حال وقوعها، حيث مبررات الكرملين حاضرة باعتبار أن الطيران الأميركي أمن غطاءً جوياً للميليشيات الشيعية العراقية في المعركة ضد «داعش» في الموصل، وفي المقابل يحق لموسكو تأمين هذا الغطاء للميليشيات نفسها في حربها ضد «داعش» في سوريا.
ما بين قمة الرياض وامتحان التنف تزداد الضغوط على موسكو، فالإدارة الأميركية الجديدة مستمرة في فرض العقوبات عليها والتصدي لها في أوروبا، وأما اجتماع الرئيس بوتين بنظيره الفرنسي الجديد ماكرون فلم يحرز أي تقدم على كل الملفات العالقة بين البلدين، وفي مقدمتها سوريا وأوكرانيا، فيما ستتحول زيارة وزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى موسكو إلى الفرصة الإقليمية الأخيرة التي تقدم إلى موسكو من أجل التعاون في سوريا على قاعدة الابتعاد عن إيران والالتزام بمقررات «جنيف1» الذي حاز دعم قمة الرياض، وهو المخرج الذي ستضمن من خلاله بعض المكاسب السياسية في المنطقة، إضافة إلى حوافز اقتصادية عبر مشاريع استثمارية مشتركة موسكو في أمس الحاجة إليها، بعدما عادت أسعار النفط إلى التراجع، وإلا عادت من سوريا بخفي حنين.
بعد أقل من شهر على انتخابه رئيساً لفرنسا استطاع إيمانويل ماكرون رغم صغر عمره (٣٩ سنة) أن يرتدي الحلة الرئاسية بسرعة وهذا بكل معنى الكلمة. وبدا ذلك واضحاً مع ضيفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قصر فرساي. فقد ظهر ماكرون واثقاً في نفسه ملماً في تصريحاته وأجوبته، حازماً في بعض مواقفه وديبلوماسياً بامتياز مع قيصر روسيا الحديث فلاديمير بوتين. ماكرون تجنب الخوض في الخلاف الأساسي بين فرنسا وروسيا حول عملية الانتقال السياسي في سورية. فكيف يمكن أن يكون انتقالاً سياسياً ديموقراطياً مع رئيس ونظاماً قمعياً يقتل ويشرد ويهجر شعبه منذ ست سنوات؟
اكتفى ماكرون بالقول أن الحل السياسي للأزمة السورية هو في جمع جميع الأطراف بمن فيهم ممثلو النظام. وهذا هو فعلاً ما تنص عليه وثيقة مؤتمر جنيف التي تم التوافق عليها من الجميع ولو أن النظام السوري يرسل ممثليه إلى المؤتمرات لإضاعة الوقت وليس للتفاوض على شيء. وامتنع ماكرون مع ضيفه الروسي عن الإشارة أو عن عرض تصوره لمصير الأسد في إطار أي حل للصراع السوري. فماكرون يعرف تماماً أنه لا يمكن حل الصراع والانتقال السياسي في سورية مع بقاء الأسد. وهو اكتفى بالقول أن هناك خطاً أحمر هو استخدام السلاح الكيماوي وأن أي طرف يستخدمه ينبغي أن يعرف أن فرنسا سترد فوراً على ذلك. فماكرون قال أنه شكل مع بوتين مجموعة عمل لمكافحة إرهاب «داعش» الذي يضرب بلده وأوروبا وإيجاد حل سياسي للصراع السوري. كما أكد ماكرون أن أولويته حالياً ليست إعادة فتح السفارة الفرنسية في دمشق. وأكد أنه يجب الحفاظ على الدولة في سورية لأن أمثلة نتائج انهيار الدول في المنطقة كارثية. وبوتين اكتفى بالقول أنهما سيتعاونان في مكافحة إرهاب «داعش»، وزعم أن الإرهاب يهدد الأنظمة الهشّة، مشيراً من دون ذكره إلى نظام حليفه السوري بشار الأسد.
إطلالة ماكرون مع بوتين كانت مناسبة لمعرفة جزء مما في ذهن الرئيس الفرنسي الشاب بالنسبة إلى الصراع السوري. لكن الأمل بأن يتذكر أنه في ٢٠١١ عندما بدأ بشار الأسد يقصف ويقتل المتظاهرين سلمياً، لم يكن هناك «داعش» ولا إرهاب في أوروبا ولا لجوء سوري في لبنان ولا في الأردن ولا في تركيا ولا إلى أوروبا. كما يجب أن يدرك أن بشار الأسد أدخل القوات الروسية والإيرانية و «حزب الله» لحماية نظامه وليس لحماية الدولة. والمعارضة السورية المعتدلة الديموقراطية حريصة على الحفاظ على مؤسسات الدولة التي خربها الأسد بميليشياته التي تتقاتل من أجل النفوذ والمكاسب المالية في جميع أنحاء سورية على حساب جيش ضعيف وفقير استعان بالخارج لمساندته في تنفيذ أمر رئيس وجماعته خربوا بلدهم والمنطقة.
إن بوتين يدرك أن قواته تحمي بشار الأسد ولا تحمي من الإرهاب الذي كان الأسد الأب والابن راعييه ولكن بشار أقل حنكة وذكاء من الأب. وبوتين مصر على بقاء الأسد لأنه أتاح له العودة بقوة إلى منطقة الشرق الأوسط مثل أيام هيمنة الاتحاد السوفياتي في هذا البلد. ومن الواضح أن ماكرون يأمل بإقناع الروس بالتقدم بحل في سورية. لكنه سرعان ما سيعرف أن بوتين لن يتنازل ولن يحل الصراع السوري إلا ببقاء الأسد وهذا لن يمثل حلاً للشعب السوري. فكيف يعود الملايين من السنّة إلى بلدهم ويبقى الأسد على رأس البلد بعدما فتك بهم وقاتلهم؟
أن استقبال ماكرون لرياض حجاب أمس يعني أن فرنسا تريد الاستمرار في العمل مع القوى الديموقراطية المعتدلة في سورية. فحجاب شخصية معارضة تحظى باحترام كبير لدى أوساط عدة في العالم. ولكن ينبغي التنبه إلى ضرورة تكليف شخصيات فرنسية كفوءة وذات خبرة في الملف السوري في مجموعة العمل الروسية الفرنسية لأن مهمة التعامل مع الديبلوماسيين الروس صعبة بقدر ما تتلاعب الطبقة الروسية السياسية من رئيسها إلى وزير خارجيته مع الحقيقة.
توالى على منصب الرئاسة في سوريا منذ إعلان الدولة السورية الحديثة في عام 1936، نحو ثلاثين من رؤساء الجمهوريات، وتوزع هؤلاء ما بين رئيس منتخب، وآخر جاء بالاستفتاء، ورئيس في فترة انتقالية، لكن الأكثرية من الرؤساء السوريين، حملتهم الدبابات إلى موقع الرئاسة. ورغم تمايز طريق الوصول إلى المنصب، فإن كل الرؤساء السوريين (كحال غيرهم من الرؤساء والقادة في دول العالم الأخرى) قد واجهوا تحديات بعضها داخلي والبعض خارجي، واختلفت ردود أفعالهم على تلك التحديات.
شكري القوتلي رئيس منتخب، يصفه كثيرون بأنه أبرز آباء الاستقلال السوري، إذ تم في عهده جلاء الفرنسيين عن سوريا، وقد واجه حالتين من تحديات كبيرة: الأولى خروج سوريا مهزومة من حرب فلسطين 1948، فدخل بمواجهة مع قادة الجيش، انتهت بالانقلاب عليه في مارس (آذار) 1949 بقيادة العقيد حسني الزعيم، ثم جاء التحدي الآخر عشية قيام الوحدة السورية المصرية 1958، حيث رغبت مجموعة سياسية -عسكرية أكثرها من البعثيين في قيام اتحاد بين سوريا ومصر بقيادة عبد الناصر، فآثر عدم خوض المواجهة، وانسحب من الحياة السياسية مجنباً البلاد صراعاً داخلياً له أبعاد إقليمية ودولية.
جمال عبد الناصر الذي تولى رئاسة الجمهورية العربية المتحدة عبر استفتاء، كانت نتائجه شبه محسومة، وتسببت سياساته في استياء أوساط واسعة من السوريين، انتهت بانقلاب 28 سبتمبر (أيلول) 1961 الذي قادته عناصر انفصالية، رغب في رد مسلح ضدهم، لكنه ما لبث أن تراجع عن المضي في هذا الطريق راغباً في تجنب صراع دموي بين سوريين ومصريين، سوف يستنزف قدرات البلدين والشعبين، وقبل في النهاية العودة إلى ما كان عليه الوضع قبل 1958 بوجود سوريا ومصر بلدين، كل منهما مستقل عن الآخر.
بين الرئيسين القوتلي وعبد الناصر، ثمة تجربة ثالثة مختلفة، وهي تجربة أديب الشيشكلي الذي قاد حركة انقلابية مرتين في سوريا أولاهما في ديسمبر (كانون الأول) 1951، والثانية في (يوليو) تموز 1953.
تجربة الرؤساء الانتقاليين، كانت الأبسط في مسار الرئاسات السورية، وقد تكررت مرات كثيرة، ليس في أعقاب الانقلابات فقط، بل في الحالات، التي كان مناطاً بأشخاصها أن يرثوا الرئاسة عن رئيس مات، كما هو حال عبد الحليم خدام الذي خلف حافظ الأسد في (يونيو) حزيران عام 2000، وأدار مرحلة انتقال السلطة من الرئيس المتوفى إلى الرئيس المرشح، لكن ذلك لم يشفع له، وعندما أحس أنه على قائمة التصفية، خرج منشقاً عن النظام الذي طالما كان أحد أبرز أعمدته السياسية لثلاثين عاماً متواصلة.
بين كل تجارب الرئاسة في تاريخ سوريا الحديث، تبدو تجربة حافظ الأسد مختلفة، ومثلها تجربة بشار الأسد، التي وإن رغب صاحبها في أن تكون مقاربة لتجربة والده، إلا أن الأمر تمخض عن تأكيد مقولة معروفة، وهي أن الظاهرة عندما تتكرر، تكون في الأولى مأساة وفي الثانية مهزلة، وفي هذه الحدود كانت خلاصة تجربة رئاسة بشار الأسد.
جاء حافظ الأسد إلى الرئاسة بانقلاب 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 1970، عندما استخدم الجيش والأمن اللذين كان يسيطر عليهما، واعتقل رفاقه وزجهم في السجن، ثم عين أحمد الخطيب رئيساً انتقالياً، قبل أن يقدم نفسه رئيساً باستفتاء محسوم النتائج، وسط عاصفة من التحديات الصعبة في المسارات الداخلية والخارجية، تعامل معها في المستوى الداخلي بالرشاوى لكسب المؤيدين، وبالقمع الشديد كما في تعامله مع خصومه ومعارضيه بمن فيهم رفاق الأمس، وبالانحناء للعواصف، وتوقيع الصفقات والتسويات في المستوى الخارجي، ومنها علاقاته مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، دون أن يمتنع عن خوض مواجهات سياسية وعسكرية، قدر أنه سوف يكسبها على نحو ما كانت سياسته في لبنان بين عامي 1976 و2000.
بشار الأسد، حاول أن يكرر تجربة أبيه، فجاء رئيساً بالاستفتاء، رافعاً شعار الإصلاح أداة لتجديد النظام، مستفيداً من زخم محلي وإقليمي ودولي راغب في الخروج من عصر الديكتاتورية الدموية والدولة المارقة والداعمة للإرهاب التي كرسها عهد الأب، غير أن الأمر كان مستحيلاً مع بنية النظام القائم، وتوحشها، فأخذت شعارات الإصلاح تتراجع وتضمحل، مما كرس عوامل الثورة وعززها في الواقع، وكان انطلاق الربيع العربي مناسبة متوقعة لثورة السوريين من أجل تغيير مصيرهم وخيارات بلدهم.
وباستثناء فشل بشار الأسد في مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي واجهت عهده في السنوات العشر الأولى من حكمه، وفشل في مواجهتها، فقد صارت أمامه تحديات جديدة، طرحتها ساحات التظاهر وحواضنها الاجتماعية في معظم المدن والأرياف، وبذا تحولت التحديات إلى تحديات مركبة سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية في المستويين الداخلي والخارجي، ولم يجد النظام سبيلاً لمواجهة الحالة إلا اللجوء إلى حالة القمع الدموية، والذهاب بالحل العسكري - الأمني إلى نهايته.
اليوم وبعد ست سنوات ونيف من الصراع في سوريا وحولها، لم يعد للأسد أي دور في مواجهة التحديات السورية، إذ لم يعد رئيساً في نظر الأغلبية السورية، التي قتل منها مليون شخص، ومئات آلاف المعتقلين والمختفين، وتشريد ملايين داخل سوريا، مع نحو ثلث السوريين في الخارج فيهم أكثر من ستة ملايين لاجئ في بلدان الجوار والأبعد منها، وتدمير البنى التحتية للمجتمع السوري ومعظم الملكيات الخاصة للسوريين، وتهميش دور الدولة إلى حدود الدور الأمني – العسكري. بل إن المؤسسة العسكرية - الأمنية، صارت عصابات مسلحة متنافسة، يستمر دورها بمعونة ووجود قوى خارجية، تتقدمها روسيا وإيران وتساعدها ميليشيات طائفية من جنسيات مختلفة أبرزها «حزب الله» اللبناني، ومؤيدو نظام الأسد المدنيون أسرى قوى خارجية، والنظام عاجز عن المضي في أي حل عسكري أو سياسي في القضية السورية.
لقد غدا بشار الأسد الأسوأ في كل تجارب الرئاسات التي مرت على سوريا، طوال أكثر من ثمانين عاماً مضت، بل هو الأسوأ في تاريخ العالم.
قد تتسامح سوريا وروسيا والولايات المتحدة حيال هذه الفكرة، لكن من الواضح أن لتركيا رأي آخر - بعيداً عن العناوين الكبرى، ثمة أمر لافت يجري داخل سوريا، ذلك أنه على ما يبدو قرر أخيراً الأكراد، الذين يسعون منذ أمد بعيد للسيطرة على منطقة تحظى بالحكم الذاتي، أن الرهان الأفضل أمامهم يتمثل في شراء هذه المنطقة من الرئيس السوري بشار الأسد. أما الولايات المتحدة، فتصدر إشارات ضمنية مفادها أنها قد توافق على ذلك، في انعكاس صادم لسياستها الصديقة تجاه روسيا، المعادية لتركيا.
تبدأ الأدلة التي تثبت صحة هذه القراءة للأحداث من المعركة الوشيكة حول الرقة، مقر تنظيم داعش. فقد أفادت تقارير أن ما يطلق عليه «قوات سوريا الديمقراطية»، جماعة مظلة لمقاتلين تهيمن عليها قوات من أكراد سوريا تعرف باسم «وحدات حماية الشعب»، حصلت على ضوء أخضر للمضي قدماً، ليس من جانب الولايات المتحدة فحسب، وإنما كذلك الأسد وروسيا. ويعد هذا تطوراً لافتاً بالنظر إلى الخطة المتعلقة بالرقة، حال نجاح القوات التي يقودها الأكراد في السيطرة عليها. والمتوقع أن يجري تحويل مسؤولية إدارة شؤون المدينة إلى مجلس محلي، سيعمل بدوره على التوافق مع الأسد، ويعيد إلى نظامه السيادة المفقودة.
و
التساؤل هنا: ما السر وراء هذا التحول في موقف الأكراد من أبناء سوريا، الذين شاركوا في المقاومة المسلحة ضد نظام الأسد؟
ت
تمثل الإجابة الأكثر احتمالاً في أن الأكراد السوريين يأملون في إبرام مقايضة مع الأسد. أما النتيجة المرغوبة من جانبهم، فبناء منطقة كردية تتمتع بالحكم الذاتي، أو شبه الذاتي، داخل سوريا.
جدير بالذكر أن الترويج لفكرة حصول الأكراد على منطقة يتمتعون داخلها بالحكم الذاتي يعود إلى ديسمبر (كانون الأول) 2016، عندما وردت في مسودة روسية للدستور لسوريا ما بعد الحرب. وفي مارس (آذار)، أثارت جماعة يهيمن عليها الأكراد ضجة حول إعلان حكومة إقليمية لمنطقة تتمتع بالحكم الذاتي داخل واحدة من المناطق التي جرى الاستيلاء عليها من أيدي تنظيم داعش.
أما سابقة مثل هذا الترتيب، فوقعت بالعراق. هناك، استمرت منطقة تتمتع بالحكم الذاتي، كانت الولايات المتحدة قد أنشأتها من خلال فرض منطقة حظر جوي في عهد إدارة بيل كلينتون، في الوجود حتى انطلاق جهود بناء العراق الجديد، في أعقاب الغزو الذي شنته إدارة جورج دبليو. بوش. واليوم، أصبحت هذه المنطقة جزءاً من الدستور العراقي.
ولا بد أن أكراد سوريا يتطلعون نحو النموذج العراقي، ويأملون في أن يفعل الأسد المثل. أما الأسد من جانبه، فإنه بالتأكيد لن يرغب في التنازل عن السيادة عن أرض سوريا، تماماً مثلما كان الحال مع القيادات العراقية بالنسبة للمنطقة التي يسيطر عليها الآن الأكراد العراقيون. بيد أنه مثلما الحال مع العراقيين العرب، لا يملك الأسد خياراً آخر، خصوصاً أنه في حاجة ماسة إلى حلفاء يعاونونه على استعادة المناطق الواقعة خارج سيطرته. في الوقت ذاته، فإن الأكراد السوريين أنفسهم متلهفون للسيطرة على المناطق الخاصة بهم هم أيضًا.
وفي تحول مفاجئ لمسار الأحداث، لا يمكن وقوعه إلا في الشرق الأوسط، يبدو الأكراد السوريون مفيدين في الوقت ذاته بالنسبة للولايات المتحدة التي تسعى بدأب لإظهار أنه من الممكن إنزال الهزيمة بـ«داعش». ويعتبر الأكراد القوة البرية الوحيدة تقريباً التي تبدي استعدادها، وتملك القدرة لمواجهة «داعش» داخل سوريا. وعليه، يبدو أن إدارة دونالد ترمب، التي تتولى تسليح «وحدات حماية الشعب»، قررت بالفعل إقرار خطة تسليم السيطرة على الرقة إلى الأكراد.
ويشكل هذا تحولاً عن الموقف الأميركي عام 2016، عندما أشارت إدارة باراك أوباما إلى أنها لا تدعم نيل الأكراد السوريين للحكم الذاتي. وتضع هذه الظروف أكراد سوريا في موقف قوة يحظون في إطاره بدعم النظام السوري، وحليفته روسيا، وكذلك الولايات المتحدة. جدير بالذكر أن هذا يعني فعلياً أن الولايات المتحدة وروسيا تتعاونان لاستعادة سيطرة الأسد على مناطق داخل سوريا. أما تركيا، فتبقى القوة الإقليمية الكبرى الوحيدة المعارضة بقوة لطموحات أكراد سوريا.
من جانبها، تنظر تركيا إلى «وحدات حماية الشعب» باعتبارها وثيقة الصلة بحزب العمال الكردستاني، الجماعة الكردية المسلحة (وتوصف بعض الأحيان بالإرهابية) التي حاربت لسنوات طويلة من أجل حقوق الأكراد، وربما الحكم الذاتي داخل تركيا ذاتها. وبالتأكيد ليس في مصلحة تركيا ظهور منطقة كردية تنعم بالحكم الذاتي داخل سوريا، بالتوازي مع أخرى في العراق، عارضها الأتراك بادئ الأمر. ومثلما هو واضح، فإن هذا الترتيب يشير ضمنياً بقوة إلى ضرورة ظهور منطقة كردية مشابهة تتمتع بالحكم الذاتي داخل تركيا هي الأخرى.
إلا أنه في المقابل، لا تتمتع تركيا بنفوذ يمكنها من التأثير على الأسد الذي عارضته منذ اشتعال المقاومة المسلحة ضده.
في الوقت ذاته، تفتقر تركيا حاليًا إلى القدرة على التأثير على الولايات المتحدة، حليفتها التقليدية داخل حلف «الناتو». ولا يتعلق ذلك بانزلاق رجب طيب إردوغان المستمر نحو الديكتاتورية، الأمر الذي لم يثر غضباً كبيراً من جانب إدارة ترمب، وإنما يرتبط باهتمام واشنطن المستمر بإلحاق الهزيمة بـ«داعش»، الأمر الذي دفعها على ما يبدو للتخلي عن هدف إسقاط الأسد، بغض النظر عن جميع التصريحات الصادرة عن الإدارة منذ قصفها أهدافاً سورية في أعقاب الهجوم بالغاز السام الذي شنه الأسد.
و
التساؤل الذي يفرض نفسه هنا: هل ستنجح مبادرة أكراد سوريا للحصول على موافقة الأسد على تمتعهم بالحكم الذاتي؟ المؤكد أن الخطة برمتها تقوم على سلسلة من المقامرات. والواضح أن جميع الأطراف المعنية بسوريا تعمد إلى استغلال الأكراد لمصلحتها، وهم من جانبهم يدركون ذلك جيداً. وفي ظل الظروف المثالية التي قد يحلم بها الأسد، فإن بمقدوره الانتظار حتى يستعيد السيطرة على مساحات واسعة من البلاد بمعاونة الأكراد، ثم ينكث بعهده بالموافقة على فكرة تمتعهم بالحكم الذاتي. وبالتأكيد يعي الأكراد ذلك جيداً. والآن، لا بد أنهم يراهنون على أن الأسد لن يصبح أبدًا ذات يوم بقدر من القوة تمكنه من سحب أي مستوى من الحكم الذاتي يمنحه إياهم، أو أن يصبح تمتعهم بالحكم الذاتي جزءاً من اتفاق نهائي بدعم من الولايات المتحدة وروسيا.
أ
ما الولايات المتحدة، فليس ثمة سبب محدد يدعوها لدعم أكراد سوريا بعد هزيمة «داعش»، لكن قد يرى الأكراد أن رغبة الولايات المتحدة في وجود أسد منهك ضعيف، في إطار أي صفقة نهائية، فكرة منطقية تماماً. وعليه، فإن تمتع الأكراد بالحكم الذاتي سيسهم في إضعاف الحكومة السورية. في المقابل، سترغب روسيا بالتأكيد في وجود سوريا قوية لذات الأسباب التي ترغب من أجلها الولايات المتحدة في وجود سوريا ضعيفة.
إل
ا أن الأمر الذي يكاد يكون في حكم المؤكد أنه لن ينبثق من كل هذه الظروف، كردستان موحدة عبر الحدود العراقية - السورية. في الواقع، لطالما شكلت الوحدة الكردية هدفاً صعب التحقيق. الملاحظ أن الأكراد العراقيين ازدادوا قرباً من تركيا على مدار العقد الماضي، وتخلوا عن حزب العمال الكردستاني مقابل بناء علاقات أقوى مع دولة جارة تتميز بقدر أكبر من الاستقرار عن حكومة بغداد، بل ربما لا يدعمون مسألة قيام منطقة تتمتع بالحكم الذاتي، بقيادة قوات «وحدات حماية الشعب»، ناهيك عن الانضمام إليها.
وإذا بدا كل ما سبق غامضاً على نحو يتعذر تصديقه، فذلك لأنه هكذا بالفعل. داخل الشرق الأوسط، يبدو الخط الفاصل بين الفانتازيا والواقع السياسي رفيعاً على نحو خطير. وأحيانا تتحول الفانتازيا إلى حقيقة - وإن كان هذا لا يكون دوماً أمراً جيداً.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
لم يكن بحسبان ذلك الشاب المتحمس لنقل قضيته الى الملأ وتصوير أوجاعه وأوجاع بني بلده الى العالم أنه سيخير يوماً بأن ينقل معاناته ضمن قوس قزح من الخطوط الملونة المحظورة التي يشترطها عليه الداعم أو أن يكون عنصراً في جوقة المسبحين بحمد "القائد الثوري" أو الفصيل الفلاني صباح مساء .
سبع سنوات عجافٍ حولت تلك العين الناقلة للحقيقة من راصدٍ لآلام محيطه الى ناشطٍ ثم هاوٍ ثم محترف ، وسط تقاذف بين الخطوط الحمراء والممنوع والمحظور والمحبوب والرائج ، فأصبح خلالها يتدرج حتى وصل الى قناعةٍ أن معاناته سلعةً موسمية ، يُرغب لها حيناً وترمى في سلة المهملات في الحين الآخر .
حيث لم يعد يخفى على القاصي والداني الكم الهائل من سلع الإرتزاق التي باتت تغزو شاشات الإعلام ومواقع التواصل ، وسعيدُ الحظ من يصل للنجومية بصرخة طفلٍ أو آهات ثكلى أو نحيب عجوز خارج من بين الركام يبكي مافقد من عائلته ويشكر الله على من أبقى .
ملايين الفيديوهات والمواد الصحفية المقروءة والمسموعة أنتجها إعلام الثورة ، وحين توضع على ميزان المهنية الثوري أو تقييم الوجع لم تخدم الثورة السورية بالقدر التي كانت عليه وبالاً ، وشخصيات برق نجمها وذاع صيتها على حساب الألم السوري ما أن تصل الى درجة الشهرة والنجومية حتى تسير وفق ضوابط وقيم وخطوط لطالما كانت لها تلك القيم مدعاة سخط وتذمر وسخرية في زمان الناشط والهاوي .
وتعج الساحة السورية بآلاف من إعلاميي المحطات والشبكات والمحطات الإذاعية والصحف الإلكترونية والورقية والفصائل العسكرية والمنظمات الإنسانية والحقوقية ، جميعها محدود بخطوط تسير فيه وفق خط ما أن يحيد عنه ويطلق لنفسه عنان الصدح بالحق حتى لو كان مؤلماً ، يُحرم من رحمة الإستمرار ويصبح أسمه نفاية على مزبلة الإعلام ، ويكون لمن خلفه عبرة .
ومع استمرار الألم السوري وتراكم الهموم على كاهل حامل الأمانة والتيه بين رصد موت يومي وتهجير ومعاناة وقطبية وصراعات وطوارئ وكوارث ، والأخطار التي قد تنجم عن التشخيص السليم وتوضيح الرؤى للعامة ، أصبح الناشط المتمسك بخطه الثوري و المقتنع بأن الإعلام سلطةً رابعة لا بوابة إرتزاق كالقابض على الجمر في ساحةً كل من فيها حوله ينفخون على جمرته القابض لها.
ليدخل فيها الإعلام الثوري عبر أشخاصه الى رهان التحول من سلطان يَفرض فيها رأيه الى بردعةٍ يلقى عليها اللوم عند كل فشلٍ و خيبة أو مطيةٍ لتمرير الرسائل والغايات وسط أوركيسترا من جوقة المطبلين للآخرين من " أبطال الثورة " أو سوق هالٍ يتلقى فيه الشتائم والمذمة ممن أزعجهم تشخيصه ، تلك هي العقوبة الأدنى مالم يُلقى في غياهب " مُغرِ الحرية ".