مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٨ يونيو ٢٠١٧
الأسدية انتهت منذ اللحظة الأولى للثورة السورية

أثمان باهظة، فاقت أي توقع أو تصور، دفعها ولا يزال يدفعها السوري، ونفق مظلم ومرعب دخل فيه الوضع في بلاده منذ سنوات، ولا ضوء يلوح في الأفق يضع حدا للمأساة المروعة، التي لم تزل تزداد فصولها وتتعاظم آثارها.

رغم ذلك ورغم ما يشاع على نطاق واسع من انتفاء السمة الثورية عن الحدث السوري، إلا أن هذا الأخير، المعلن مع ولادة التظاهرات السلمية التي خرج بها السوريون في مارس 2011 إنما يلبي من وجهة نظر هذه السطور كل المعايير النظرية الفلسفية والتاريخية، لاعتباره ثورة وفقا لكل قياس، بل ثورة عظيمة حوت انتصارها وتحققها الجوهري في لحظة اشتعالها الأولى.
لماذا؟

لأن الحدث السوري أصاب بآثاره وهزاته العنيفة كل المنطقة وربما العالم، ووضعهما أمام أسئلة صعبة، وتحديات ورهانات عديدة وجديدة، وقبل ذلك لأنه كان جذريا وكاشفا، عميقا وشاملا، أظهر وجه الاستبداد المركب الذي يخترق الوجود السوري، كشف جذوره الثقافية/المعرفية، وبنيته القروسطية المروعة، صرح عن المكبوت والمسكوت عنه في البنية السوسيولوجية السورية، وعرّى كل ما يجري فرضه قسرا، من مقولات الخطاب الرسمي للنظام السوري، عن المجتمع المتماهي المنسجم والمتفق على دور ورسالة وهوية عربية لذاته ولبلاده، النابذ لكل وعي طائفي أو مذهبي.

لقد غير هذا الحدث الهائل بآثاره وتداعياته، الشخصية السورية بشكل غير قابل للرجعة، وغير معها الحقل الاجتماعي السياسي الذي تتفاعل فيه بشكل عنيف وغير مسبوق. وإذ لم يسقط الأسد سقوطا ماديا بعد، وحيث ألحق ولم يزل بسوريا ومجتمعها، أذى يصل حد الخرافة، إلا أن القول بأن الأسدية وتاريخها قد انتهيا إلى الأبد في سوريا، يبدو أمرا مشروعا وله ما يبرره، فالأسدية بوصفها نظاما لإنتاج الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، يتم بدلالتها وحدها، قد تعطلت تماما. لقد دخلت فواعل عديدة في عملية الإنتاج تلك، فواعل ليست منافسة للأسدية وخصائصها فقط وإنما معادية تماما، فبالإضافة إلى القوى القائمة على تجربة مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية، التي يشكل الكرد والعرب وبقية المكونات السورية نموذجا مجتمعيا جديدا واعدا، في علاقاته البينية، في قيمه ورهاناته، هذي التجربة التي فككت مؤسسات الاسدية التشريعية والتنفيذية والقضائية في مناطقها، وأرست الدعائم لمنظومة قانونية وتعليمية، ذات سقف أيديولوجي، متناقض جذريا مع ما شيدته سلطات الأسد في عموم البلاد خلال العقود الماضية، وبالإضافة إلى الآثار السياسية والاجتماعية والمعرفية التي طالت حقل القيمة والوعي الاجتماعي السياسي السوري، بعد سيطرة الفصائل الإسلامية المتشددة على مساحات شاسعة من سوريا، حازت المواقع المعارضة للنظام نفوذا مهما في إنتاج وعي سياسي وإرساء ثقافة معادية للأسدية، صارت لها سطوتها وحضورها بين ملايين اللاجئين والنازحين السوريين، الذين عاشوا قهرا استثنائيا وخبروا كافة أشكال العذابات التي مارسها النظام ضدهم، أثناء الحرب الشاملة التي شنها بشار الأسد على السوريين طوال الأعوام الست الماضية.

ليس ذلك فقط، بل إن الاسدية التي كانت فاعلة في محيطها الإقليمي، تتصارع على النفوذ والهيمنة خارج حدودها، كما في حالة لبنان، أصبحت الآن هشة وهامشية إلى حد بعيد، بل مخترقة حتى العمق من الخارج، تتسابق على تركتها وسلطتها ومناطق نفوذها مجالات إقليمية ودولية، حتى أنها فقدت هيبتها داخل مساحات نفوذها الاجتماعي بالذات، وبدأت تظهر إلى العلن مليشيات غير منضبطة تعمل لمصالحها الأضيق، كانت حتى وقت قريب محسوبة على بيئة النظام الحاضنة وتابعة له. والأسدية التي لم يخيل لأحد قبل مارس 2011 أن تتحدد بأفق زمني منظور ينهيها وينهي هيمنتها الشاملة على كل أشكال الحياة في سوريا، أمست الآن، تكافح جاهدة كي تكون مشاركة في مستقبل بلادها بشكل ما، فهذا أفضل سيناريو ترجوه وتعمل من اجل تحقيقه. وبعد أن كان مصير البلاد والأسدية فقط بيديها. تغير ذلك تماما الآن، فلا مصير البلاد ولا مصيرها هي ذاتها بيديها.

في المحصلة ألا يعني، فقدان الاسدية لأبرز خصائصها، فقدانها لهيبتها وتغولها وشموليتها المهيمنة على سوريا، وعلى أنظمة إنتاج الوعي وأشكال الدمج الهوياتي والمجتمعي فيها، ثم تلاشي نفوذ سياساتها خارج حدود سوريا، وفقدانها دورها المحوري بتحولها من موقع الفاعل في الصراع على الشرق الوسط إلى موقع هامشي عنوانه التصارع على تركتها وعلى سوريا، مرتهنة لفواعل خارجية تتحكم بمصيرها المادي الذي بات محددا بنهاية لم تعد بعيدة، ألا يعني ذلك كله أنها انتهت؟

اقرأ المزيد
٨ يونيو ٢٠١٧
أميركا وإخراج إيران من اللعبة السورية

تدرك إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن عملية تفكيك النفوذ الإيراني في المنطقة تحتاج لما هو أكثر من التكتيكات العادية التي جرى العمل بها خلال السنوات الماضية، من قبل الحلفاء، والتي اتخذت في الغالب طابعاً دفاعياً في مواجهة الهجوم الإيراني الشامل على كل المحاور.

ولا يمكن حصر محاربة النفوذ الإيراني عبر إغلاق طريق أو طرق إمداد لوجستية برية بين سورية والعراق، على رغم أهمية مثل هذا الأمر، ذلك أن إيران صنعت على مدار السنوات الست السابقة بنية عسكرية وأمنية متكاملة، واختبرت طرقاً وأساليب كثيرة للتعامل مع التطورات الطارئة، بما فيها إيجاد بدائل لنقل الأسلحة من إيران عبر إنشاء مصانع في أجزاء من الأراضي السورية للصواريخ الإيرانية، في حماة والقلمون، كما أنها أغرقت الساحة السورية بميليشيات أجنبية وميليشيات صنعتها محلياً لدرجة لم تعد معها بحاجة إلى تغذية قواتها بمزيد من العناصر في المدى القريب، مع إدراكها أن طريق بغداد- دمشق لن يبقى مغلقاً إلى آجال بعيدة.

التقدير أن هذه المعطيات لم تفت صناع الإستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه إيران، وبخاصة أن جميعهم تعاطى عن كثب مع الذهنية الإيرانية وأساليب عملها من خلال التجربة العراقية، بالإضافة إلى وجود متغير مهم يتمثل بالعامل الروسي الذي يندمج مع الوجود الإيراني بحكم التنسيق المشترك والضرورة العملانية، وهو ما يستدعي التفكير بطريقة محتلفة وإستراتيجية عملية لتفكيك النفوذ الإيراني وتعطيل مفاعيله في سورية.

وعلى رغم عدم إعلان الإدارة الأميركية عن إستراتيجيتها في هذا الخصوص، إلا أن ملامح هذه الإستراتيجية تكشف احتواءها مكونين أساسيين: الخطوات الصغيرة، وفصل إيران عن روسيا.

وحتى اللحظة، نفذت أميركا العديد من الخطوات الصغيرة، منها قطع الطرق بين العراق وإيران، وضرب ميليشيات إيرانية في البادية السورية، وكان قد سبقهما ضرب إسرائيل مطار دمشق الدولي بصفته خط إمداد لوجستي إضافي، والواضح أن هذه الضربات والإجراءات، بالإضافة إلى مفعولها العسكري، فهي تهدف إلى إدراج الحضور الأميركي في الفضاء السوري، إذ يصبح أحد معطيات المشهد، ومن جهة أخرى يتيح لأميركا استكمال البنية اللازمة لإنفاذ إستراتيجيتها، سواء من خلال بناء المراكز والقواعد، أو تجهيز القوات المحلية الرديفة التي ستلقى على عاتقها مهمات السيطرة على الأرض.

بالإضافة إلى ذلك، تشكّل الخطوات الصغيرة إجراءً واقعياً للطرف الأميركي الغائب سنوات طويلة عن الميدان السوري، وفي الوقت ذاته لا يزال في طور اختبار الأرض والحلفاء المحليين والإقليميين وتفحّص الإمكانات في مواجهة أطراف رسخت وجودها عبر فترة زمنية مديدة.

أما بالنسبة إلى عملية فصل إيران عن روسيا، فالواضح أن الإدارة الأميركية صنعت سياقاً متكاملاً في هذا الاتجاه، من خلال نزع مبررات الوجود الإيراني في سورية عن قضية محاربة الإرهاب، وبخاصة بعد أن تم وضع إيران في الميزان ذاته الذي يتم فيه قياس «داعش» و «النصرة» وحساب نتائج وتداعيات أفعالهما على أمن المنطقة واستقرارها.

والمفارقة أن روسيا، ومن دون قصد، أفسحت المجال للإدارة الأميركية للعبور إلى نقطة المطالبة بإخراج إيران من الساحة السورية، بعد الهدنة التي توصّلت إليها بين قوات الأسد وفصائل المعارضة، ثم اتفاق المناطق الآمنة، وهو ما جعل الوجود الإيراني محل تساؤل وبخاصة أن إيران وميليشياتها لم يسبق لها قتال «داعش» الذي من المفترض، ووفق اتفاقات الهدنة في سورية، أن تتكفل قوات الأسد والمعارضة بقتاله.

أما روسيا فاستنفدت كل مبررات دفاعها عن الوجود الإيراني، وبخاصة أنه يعتمد بدرجة كبيرة على مكونات ميليشياوية يصعب تبرير انخراطها في الحرب السورية في ظل توجّه دولي يدعو إلى استعادة سيادة الدول في الإقليم، بمواجهة الفاعلين الآخرين من ميليشيات وفصائل، بل يعتبر هذه المكونات أحد أهم أسباب استمرار الأزمة، والمنطق ذاته ينطبق على فصائل المعارضة السورية التي سيكون مطلوباً منها التوحّد في إطار هيكلية جديدة لتهيئتها للاندماج ضمن هيكلية أوسع في إطار الحل السياسي المنشود.

لا شك في أن روسيا تواجه تطورات غير محسوبة في سورية، فهي لا تستطيع ولا تريد التخلي عن إيران، لأن ذلك سيرفع أكلاف وجودها في سورية، وهو ما لا تحتمله، على الأقل قبل أن يتم القضاء على كل ممكنات الثورة السورية وإخضاعها وإعادة بناء البنية الأمنية والعسكرية للنظام، وهذا يحتاج لسنوات.

بيد أن أميركا بنت قضية متكاملة لإخراج إيران وعزلها عن سورية وعن المنطقة، وتشتمل عناصر هذه القضية على أمن الحلفاء في الأردن وإسرائيل والخليج، ومستلزمات التوصل إلى حل في سورية، والقضاء على «داعش»، وتقليم أظافر الميليشيات الشيعية، وإنجاز هذه الأهداف لتحقيق حل واقعي لأزمة المنطقة بات يستلزم حكماً إخراج إيران وتوابعها من المنطقة.

يستدعي نجاح الخطة الأميركية توفر عاملين مهمين: الجدية والاستمرارية، ذلك أن روسيا ستحاول قدر استطاعتها إفشال المخطط الأميركي ما لم تظهر إدارة ترامب أنها جادة في قرارها إخراج إيران من اللعبة، كما أن إيران ستراهن على نزق أميركا وتعبها، وهنا يأتي دور حلفاء أميركا في المنطقة الذين عليهم الانخراط ضمن الجهود الأميركية وانتهاز فرصة التخلص من التهديد الإيراني.

اقرأ المزيد
٨ يونيو ٢٠١٧
هذا الأسد... من تلك الهزيمة

في ذكرى مرور خمسين عاماً على «نكسة» العام 1967، ما زال هناك العديد من الأسئلة حول سلسلة «الأخطاء» التي ارتكبها وزير الدفاع السوري حافظ الأسد، خلال حرب الأيام الستة التي انتهت بهزيمة عربية شاملة وخسارة الجولان وسيناء وما تبقى من فلسطين. ويعتقد كثيرون أن تصرفاته لم تكن «عفوية» تسببت بها المباغتة الإسرائيلية، بل حصلت بناء لنوايا مبيتة وقرارات واعية، وكان الهدف منها إعلان فشل النظام العربي «السنّي» في مواجهة إسرائيل، والتمهيد لقيام نظام طائفي جديد في سورية مثلته «الحركة التصحيحية» التي قادها بعد ثلاث سنوات.

ويستند هذا الاتهام ليس فقط الى تبيان ما فعله الأسد خلال الحرب، بل خصوصاً الى السياسة التي تبناها خلال حكمه على مدى ثلاثين عاماً، ثم تواصلت مع وريثه بشار، وقامت على تسيّد طائفة بعينها في سورية وإمساكها بالقرار السياسي والأمني والاقتصادي، وإقامة ما يشبه «تحالف الأقليات» في مواجهة الغالبية السنية، ومهادنة إسرائيل، ليخلصوا الى أن سلوكه خلال حرب الأيام الستة كان وليد سياسة متعمدة ذات خلفية طائفية عميقة تصرف في هديها.

وقد يرى آخرون في تقاعس حافظ الأسد عن مواجهة الجيش الأردني في 1970، دليلاً مضاداً لادعاء مناوءته للنظام السني العربي، لكن يبدو أن الديكتاتور الراحل رأى في منظمة التحرير الفلسطينية والتأييد الشعبي العربي المتصاعد لها، «خطراً أكبر» على مشروعه، وخشي من أن يؤدي نجاحها في الأردن الى تمددها نحو سورية المهيأة أكثر لاحتضانها. علماً أن تصرفه إزاء المنظمة لم يلغ عداوته لنظام الملك حسين الذي كان بين أوائل من استشرفوا خططه.

اقتنص الأسد بسرعة فرصة عرض السادات عليه فكرة حرب تشرين 1973، على رغم معرفته بأن الجيش السوري الذي أجرى تغييرات واسعة في أركانه بعد انقلابه، ليس مهيأً لخوضها. وعلى أي حال لم تكن نتيجة الحرب هي الأكثر أهمية بالنسبة اليه، بل الأهم أن يكون شارك في حرب بقيادته مع إسرائيل، بما يضمن له صفة «الزعيم الوطني»، ويساعده في إكمال الإجهاز على أي معارضة داخلية، والتفرغ لمهمة إخضاع سورية بالكامل، ولاحقاً لبنان، وابتزاز الدول العربية البعيدة من خط المواجهة.

لا أحد عرف آنذاك كيف نجا بأفعاله، ولماذا كوفئ وزير دفاع مهزوم بدل مساءلته وإقصائه، لكن السر يكمن على ما يبدو في قرار اتخذته «غرفة سوداء» ما، بتشجيع السوريين العلويين على الانضمام بكثافة الى حزب «البعث» والجيش منذ بداية ستينات القرن الماضي، ما ضمن له تأييداً في صفوفهما، أوصله لاحقاً الى السلطة.

وبالطبع، لم يشذ الأسد الابن عن نهج والده وتعليماته في الحفاظ على النظام العلوي بكل ما أوتي من وسائل، فأمعن في عدائه للغالبية العربية، وسارع الى الارتماء في حضن إيران، وانتقم من رموز الطائفة السنية في لبنان الذي سلمه الى «حزب الله»، قبل أن يباشر أطول وأشرس حرب إلغاء للشعب السوري، استعان خلالها على مواطنيه، ولا يزال، بميليشيات من إيران ولبنان والعراق وأفغانستان وباكستان، واستقدم الجيش الروسي، وأغرى تركيا بالتدخل، وشجع بعنفه اللامحدود على ظهور التطرف وانتشاره.

حافظ الأسد شارك في صنع هزيمة سورية في 1967، قبل أن يحولها ذريعة لإرساء نظام قائم على القهر والاستبداد والتمدد، ونجله بشار تسلم «الأمانة» وتفانى في تنفيذها.

اقرأ المزيد
٨ يونيو ٢٠١٧
النظم تحارب الأصولية؟

كل الضجة تقوم على محاربة "التطرّف" و"الأصولية"، والنظم هي التي تُعلي من هذا الشعار، حيث تجد أنها التي تواجه "التطرّف"، وهي تقيم حربها على الإرهاب، انطلاقاً من أنه يمثّل تطرّفاً في الدين وأصولية "مقيتة"، وأنه خطر على المجتمع، وهو "الآفة" التي تنتشر مخلِّفة الإرهاب. النظم هي مَنْ يقول ذلك، وتوجّه إعلامها المنضبط لكي يزيد من جرعة الهجوم على الإرهاب وداعميه، وعلى الأصولية والتطرّف، ولكي يدعو إلى "تحديث الإسلام" و"تطوير الدين".

تقوم النظم بذلك كله، في المشرق والمغرب، حيث باتت تعتبر أن الحرب على التطرّف هدفها الأول، وأن المعركة ضد الإرهاب هي "أم المعارك"، المعركة التي يجب حشد كل الشعب من أجلها، ليكون كل طرح مشكلاتٍ أخرى، مثل البطالة والجوع والفقر، تشويشاً من "عملاء"، ومتآمرين.

تُظهر هذه الصورة أن النظم هي في غاية الحداثة، والعلمانية والحرية والديمقراطية، وكل مستحضرات الغرب. وتريد النظم أن تقول ذلك، أو تريد أن تظهر كذلك. لكن، في الواقع، لا شيء من ذلك كله، على العكس، فمن "يحارب التطرّف" يعمّم أيديولوجية متطرّفة، ويؤسس كل الظروف التي تسمح بنشوء التطرف، وتستغل مخابراتها ذلك كله لتوجيه التطرّف والإرهاب، فبعد موجة التحرّر التي انكسرت سنة 1967 إثر هزيمة حزيران، وبعد الفورة النفطية، باتت الأصولية الدينية هي الأيديولوجية التي تعمّمها النظم، بعد أن اشتغلت بجدّ لتدمير التعليم، وأدت سياسة الخصخصة إلى رمي الجزء الأكبر من الشعب في البطالة والفقر، وأغرقته بـ "الوعي التقليدي". باتت مواجهة فكر التحرّر والعدالة تقتضي أن تعمّم النظم أيديولوجيةً أصولية، أيديولوجية تعمّم ما هو رجعي وقروسطي، وما يُغرق في ماضٍ جاهلي. يظهر ذلك في الخطاب العام لهذه النظم، وفي دور "المؤسسات الدينية"، وفي مناهج التعليم، والإعلام. وحتى بالسماح لمجموعات سلفية في ممارسة دورها.

بالتالي، الأيديولوجية الأصولية (المتطرّفة) هي أيديولوجية الدولة أصلاً، وهي أداتها في تشويه الوعي المجتمعي، وتفكيك البنى المجتمعية، وكذلك في تجهيل الشعب، فهي بذلك تستطيع أن تحكم كما تعتقد، وتستطيع أن تتلاعب بالشعوب كما تريد، وتلعب بـ "الإرهاب" كلما أرادت. وإذا كانت ترفض حكماً أصولياً إسلامياً نجدها تطبّق مثله، وربما أسوأ. حيث تحكم "بما ينافي الحياء العام"، و بـ "إهانة الذات الإلهية"، وبالفطور في رمضان، وتسمح للمجموعات السلفية بأن تفرض هيمنتها، وتطبّق شريعتها. إنها ترفض النظم الأصولية، لكنها تطبّق نظاماً أصولياً، ليبدو أن الخلاف مع الأصولية ليس على الأيديولوجية، حيث يظهر التوافق كبيراً هنا، بل على المصالح والامتيازات، فكلها أصولية، النظم والمجموعات، لكنها تختلف في المصالح والأدوار فقط، وهي مع التخلف وفرض قيم قروسطية، لكن كلاً منها يريد الهيمنة.

ليست الشعوب هي المتخلفة والمتطرّفة، بل النظم ومفرزاتها من مجموعات أصولية. ولا شك في أن النظم تريد الهيمنة الأيديولوجية عبر إسلام أصولي، كي تمنع تمرّد الشعوب التي تعاني من البطالة والفقر والتهميش، وهي تستغلّ وضع بعض هذه الشعوب، لممارسة القتل والتدمير، ومن ثم تقول إنها تحارب الإرهاب، لكي تغطي على المشكلات الحقيقية تلك.

إذن، التطرّف والإرهاب صناعة، وهي صناعةٌ تخدم هيمنة النظم، وتهدف إلى تحقيق استمراريتها لكي تمارس النهب والإفقار والتهميش. وبالتالي، لمواجهة أيديولوجية التطرّف التي تتمظهر في مجموعات مصنَّعة، لا بدّ من مواجهة النظم نفسها، وكشف لعبها بالدين، وميلها إلى تعميم الأصولية تحت مسمى "وعي الشعب"، هذا الشعب الذي يريد التحرّر والتطور، ويريد أصلاً القدرة على العيش، وهي المسائل التي تحرمه النظم منها، لكي تراكم الطبقة المسيطرة الثروة.

يقتضي ذلك كله تغيير نظام التعليم جذرياً، وتحييد المؤسسات الدينية، ومنع استخدام الدين في السياسة. ما يعني تغيير النظم نفسها لهذا السبب أيضاً، فالنظم ليست حديثة ولا علمانية كما تدّعي، ونحتاج إلى نظم علمانية ومدنية وديمقراطية.

اقرأ المزيد
٧ يونيو ٢٠١٧
ذبح الرقة مجدّدا

لم تنته معركة الموصل، فما زال تنظيم داعش يتحصن في جزء مهم من المدينة، لكن القوات التي تهاجمه مصممةٌ على اقتلاعه من كامل التربة الموصلية، هكذا يصرّح قادة الجيش العراقي المهاجم وزعماء المليشيا المتحالفة معه.

لم تنته المعركة بعد، ولا يُعرف متى ستكون نهايتها، والتنظيم الذي يحتلها يعرف أن عليه أن يتشبث بالأرض حتى الموت، عملية اعتصار المدينة الشمالية بين دفتين صلدتين، هما داعش والقوات المهاجمة، يضيف إلى عداد المهاجرين والمشرّدين رقما كبيراً صار مشتتاً في الجوار الكردي، أو هائماً في الصحراء على طول مجرى النهر، وتحت رحمة كل شيء، فليس ثمّة إمكانية للعودة إلى المدينة المحرّرة التي أصبحت قاعاً صفصفاً بحاجة إلى تأهيل قد يستلزم عقوداً، سيُجبَر المشردون على انتظار انقضائها.

يبدو أن النسخة الأخرى من الحرب الضارية المنتجة لللاجئين ستكون مدينة الرقة بسيناريو متطابق، وبخرّافية مماثلة وبقوات متحاربة شبه واحدة. وقد أعلن ناطق بلسان قوات سوريا الديمقراطية إن المعركة بدأت. مع إعلانٍ من هذا النوع، على جمعيات حقوق الإنسان والإغاثة أن تستنفر وتهيئ كل إمكاناتها، فالإحصاءات تقول إن في الرقة حوالي ثلاثمائة ألف نسمة على قيد الحياة.

يقول الجيش العراقي إنه أحكم السيطرة على الحدود السورية العراقية، وعلى الجانب الآخر تقاتل قوات مختلطة من النظام ومليشيات متنوعة محاولةً السيطرة على معبر التنف، الشكل العسكري لهذا التموضع يقول إن الجانبين، السوري والعراقي، يرغبان يإحكام الطوْق على عناصر تنيظم الدولة الإسلامية. وفي الميدان المنتظر للمعركة الأخيرة، تتحكم قوات سورية الديمقراطية التي تدعمها الولايات المتحدة في الجانبين، الشرقي والشمالي، للمدينة، وسيطرت أخيراً على سد البعث والقرى المجاورة له، وهي تستمر بالتقدم بإيقاع بطيء ولكن مضطرد، ما يعني أن تنظيم الدولة الإسلامية سيجبر على القتال في الشوارع ووسط المدنيين، وظهره إلى الحائط، وهي الوضعية نفسها التي واجهها التنظيم في الموصل، حين كان وسط آلاف المدنيين الذين تحولوا إلى ضحايا جثثاً هامدة أو مشرّدين في الصحراء.

تمتلك القوات المهاجمة الرغبة والإصرار والإرادة لدخول مدينة الرقة، وتملك الدعم الكافي من أكبر دولة في العالم، وغطاء جوياً كثيفاً وغطاء إعلامياً أيضاً، وتمتلك ما ترغب به من الوقت لإنجاز مهمتها. ولكن ليس لديها خطة للتعامل مع مدنيين كثيرين محاصرين في الداخل، ولا تبدي هذه القوات، مع داعميها، اهتماماً كبيراً بهم، فالهجوم الجوي الذي بدأ مبكراً حصد عددا كبيرا من الضحايا المدنيين الذين وثقت المنظمات الإنسانية أسماءهم الكاملة، أما الأحياء داخل المدينة فمعاناتهم مستمرة، منذ احتل التنظيم المدينة، وهم على مشارف دخول طوْرٍ جديد وقاسٍ، فالحملة لن تنتهي، قبل أن تأتي على كل شيء.

تحمل المعركة المنتظرة في الرقة مجموعةً من التعقيدات السياسية، يخصّ الجانب الأكبر منها طبيعة القوات المهاجمة المكونة أساساً من عناصر كردية، ستقاتل تحت لواء قوات سورية الديمقراطية، وستتحرّك وفق رافعة أميركية واضحة، والتهديد الذي يحسّ به الجانب التركي، وقد أعلن، بوضوح، موقفه المناوئ لهذه التشكيلة العسكرية، فضلاً عن برامج التقسيم التي يعمل بموجبها هذا الفصيل، وإن كان لا يفصح عنها. هذه التعقيدات فائض سياسي عن الحمولة الإنسانية الكبيرة التي سنتشأ مع بدء المعارك، فتنظيم الدولة الإسلامية، وإنْ كان يعلن أنه دولة، يتعامل مع "رعاياه" باعتبارهم مختطفين، وهو يتوقع عوائد من استمرار احتجازهم. أما الجانب الآخر المتعطش للأرض، فهو يستميت للحصول على أكبر مساحة منها، وإن كانت خاليةً من سكانها، فهي نقطة إضافية. لذلك، من المتوقع أن تنتهي المعارك، وينفرج الدخان عن بقعة محروقة من الأرض، وأكداس جديدة من فاقدي الاتجاه والذاكرة والحاضر والمستقبل الذين تعرِّفهم الأمم المتحدة لاجئين.

اقرأ المزيد
٧ يونيو ٢٠١٧
لماذا يتسامح العالم مع التهجير القسري في سورية؟

من يتابع مجريات الأمور في سورية اليوم، يشعر في كل مرة بأن الكارثة السورية وصلت إلى أقصى القاع، لكنه يكتشف أن القاع ذاته لم يعد له قاع، وأن حقائق جديدة باتت تتشكل على الأرض، ففي عام 2011 لم يتصور أي سوري أن النظام السوري سيستخدم الطائرات المقاتلة كما فعل القذافي في أوائل عام 2011 لقتل شعبه. قلنا لأنفسنا في ذلك الوقت إننا «أكثر تحضراً»، وأن «إجرام» النظام مهما علا فإن «مهنية» الجيش والمؤسسات ربما تمنع ذلك، كما أن ما يسمى «المجتمع الدولي» لن يسمح بذلك. ونسمح لأنفسنا بالتذكر دوماً كيف تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا بعد التهديد باستخدام القوة الجوية ضد المدنيين في بنغازي! في عام 2013 وبعد ذلك بدأت البراميل المتفجرة تمطر وأصبحت السلاح الأكثر استخداماً وانتشاراً، كما باتت السلاح الأكثر شعبية لدى الأسد ضد المدنيين السوريين كل يوم وفي كل مدينة في المناطق التي أصبحت خارج سيطرة حكومة الأسد، فقد قتل أكثر من 120 ألفاً بسبب استخدام هذه البراميل المتفجرة، لكن استجابة المجتمع الدولي لهذه المأساة كانت تغض الطرف عن هذا الانتهاك المستمر للقانون الدولي الإنساني.

بعد ذلك، ما زلت أتذكر مناقشتنا في ورش العمل ومؤتمرات المعارضة السورية حول استخدام الأسلحة الكيماوية. كل واحد منا في عام 2012 قال بوضوح أن حكومة الأسد لا تستطيع عبور الخط الأحمر الذي رسمه الرئيس أوباما، ولكن فوق ذلك كله ليس لدى النظام حاجة لاستخدام مثل هذا النوع من الغاز مثل السارين وغيره لا سيما أنه يستمر في سياسة قتل الناس بالأسلحة التقليدية، لكن، وللأسف كنا مخطئين هنا مرة أخرى، استخدمت حكومة الأسد غاز السارين في آب (أغسطس) 2013، وقتل أكثر من 1400 بينهم 400 من الأطفال، ومرة ​​أخرى أخبرتنا الحكومة السورية والعالم بأنها تخلت عن كل ترسانتها من الأسلحة الكيماوية بعد الاتفاق بين الولايات المتحدة تحت إدارة أوباما وروسيا في عام 2013، ولكن مرة أخرى استخدمت الحكومة السورية غاز السارين في نيسان (أبريل) 2017 وأسفر ذلك عن مقتل ما لا يقل عن 83 شخصاً في خان شيخون في إدلب، وبين هذين الحادثين استخدمت الحكومة السورية غاز الكلور 50 مرة على الأقل وفي شكل رئيسي وعلى نطاق واسع في معركة حلب حيث نجحت في إجبار المعارضة على مغادرة الأراضي التي تسيطر عليها منذ عام 2012 في منطقة شرق حلب.

الآن، ما هو القاع الجديد؟ كل واحد منا ينكر حقيقة أن سورية تمر بمرحلة من التقسيم، فليس واضحاً كيف سيبدو أو سيكون هذا التقسيم؟ وما هي القوى الدافعة وراء ذلك، ولكن منذ عام 2015 بدأت لعبة التغيير الديموغرافي وعلى نطاق ضيق اتسع نطاقه باطراد عبر ما سمته الحكومة السورية «المصالحة المحلية»، أما المعارضة فأطلقت عليها سياسة «التطهير العرقي» لغالبية السكان السنّة بمنح الجنسية لمزيد من الشيعة العراقيين والإيرانيين والأفغان ليحلوا محلهم في بلداتهم وقراهم التي تم إجبارهم على تركها.

لكن ما جرى الشهر الماضي كان لافتاً للغاية، وهي الصفقة التي أصبح يطلق عليها «المدن الأربع» التي تعني مبادلة بين المدنيين والمسلحين في الفوعة وكفريا (وهما بلدتان شيعيتان) اللتان كانتا تحت الحصار من قبل المعارضة السورية المسلحة، مع المدنيين والمقاتلين من الزبداني ومضايا (وهما مدينتان سنيتان) وكلتاهما كانتا تحت الحصار من قبل الحكومة السورية بشكل يمنع الغذاء أو المياه لمدة ثلاث سنوات تقريباً، وغطت وسائل الإعلام الدولية صور الأطفال من مضايا الذين ماتوا بسبب الجوع في عام 2014.

جاءت هذه الصفقة بعد خمس صفقات مختلفة قبلها شملت المدن الرئيسية التي شاركت في الاحتجاجات المناهضة للحكومة في عام 2011 ثم انضمت إلى المعارضة المسلحة بهدف منع قوات الحكومة السورية من الغزو أو الاحتلال بغية قتل المدنيين، كما جرى في مدينة حمص، حيث نظم النظام اتفاقاً مع مقاتلي «الجيش السوري الحر» لطرد المقاتلين البالغ عددهم 2250 مقاتلاً، فضلاً عن المدنيين المحاصرين معهم في المدينة إلى الريف الشمالي. وأدى هذا الاتفاق إلى إفراغ المدينة القديمة تماماً من سكانها الأصليين، لجذب المزيد من الموالين للحكومة بدلاً منهم، حيث انخفض عدد سكان حمص من مليون ونصف المليون في عام 2011 إلى ما يقرب من 400 ألف شخص الآن، و65 في المئة من سكان المدينة الأصليين غادروا إلى محافظة إدلب.

تبعتها مدينة داريا التي وضعتها حكومة الأسد تحت الحصار الشديد واعتمد المدنيون تماماً على الأنفاق تحت الأرض لمدة 4 سنوات من أجل استمرار الحياة كما تعرضت لقصف استثنائي عبر إسقاط البراميل المتفجرة في شكل يومي، حتى أن وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق شؤون الإغاثة في حالات الطوارئ، ستيفن أوبراين، وصف داريا في إحاطة له لمجلس الأمن بأنها «عاصمة البراميل المتفجرة»، ولكن وفي نهاية عام 2016 قرر المدنيون والمسلحون الانسحاب من المدينة بعد تهديدات من الحكومة بأنهم سيحرقون ما تبقى منها. غادر المدنيون إلى إدلب التي أصبحت عاصمة المعارضة. هذه هي الصفقة الثانية التي فتحت الباب للسياسة الجديدة التي اعتمدها النظام السوري والقائمة على «التهجير القسري». كان عدد سكان المدينة 250 ألفاً قبل عام 2011 واليوم تحولت إلى مدينة فارغة بالمطلق. وعندما أتم النظام السوري عملية التهجير زار الأسد المدينة الخاوية على عروشها وأجاب عن مسألة التغير السكاني في داريا وغيرها بالقول إن «التغير الديموغرافي هو تغير يتم عبر الأجيال».

ما جرى في داريا في كانون الأول (ديسمبر) 2016، تكرر في مدينة حلب في أوائل عام 2017، حيث بدأت قوات النظام السوري مع الميليشيات العراقية والإيرانية المدعومة من القوات الجوية الروسية باستخدام التكتيكات نفسها التي استخدمتها وتم توثيقها في شكل جيد من قبل تقرير مجلس الأطلسي بعنوان «كسر حلب» عبر استخدام البراميل المتفجرة والقنابل الثقيلة الأخرى واستهدفت جميعها المستشفيات والمراكز الطبية، ثم استخدام غاز الكلور عبر رسالة واضحة للمدنيين والمسلحين أنه لا يوجد رحمة وليس هناك خيار آخر بدلاً من قبول الصفقة التي تعني إخلاء المنازل والأحياء. نفس النمط تكرر في مضايا والزبداني.

ينص القانون الدولي الإنساني الدولي واتفاقيات جنيف التي وقعتها سورية والتزمت بها في المادة 129 بوضوح على أنه «لا يجوز لكل الأطراف في أي نزاع مسلح غير دولي أن تأمر بتهجير السكان المدنيين كلياً أو جزئياً لأسباب تتعلق بالنزاع»، كما أن ميثاق المحكمة الجنائية الدولية نص بوضوح على أن «تهجير السكان المدنيين لأسباب تتعلق بالنزاع، يشكل جريمة حرب».

إن منع التغيير الديموغرافي والتطهير العرقي الذي يحدث في سورية اليوم يتطلب موقفاً صريحاً وواضحاً من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، أنه لا معنى لاستمرار مفاوضات عبثية في جنيف إذا استمر التغيير السكاني لسورية بهدف تحقيق مخططات مسبقة لدى النظام السوري، كما أن ذلك يتطلب أيضاً قيادة جديدة من قبل الولايات المتحدة في الضغط على روسيا لوقف هذه السياسة المنهجية، وإلا فإننا سنستمر في رؤية سورية التي نعرفها وهي تختفي أمام أعيننا وإلى الأبد.

اقرأ المزيد
٧ يونيو ٢٠١٧
سياسات بدل الإدانات

في أعوام الثورة السورية، تحولت المسألة الكردية السورية إلى قضية دولية بامتياز، لكن ائتلاف قوى الثورة والمعارضة، ومعظم المعنيين بالشؤون السورية، لم يغيروا رؤيتهم للعلاقة بين عرب وكرد سورية التي قامت خلال حكم "البعث" على علاقة مركزٍ بطرف، وتعينت بتبعية الطرف الكردي للمركز العربي، والحجة أن العرب يمثلون أغلبية سورية ساحقة، بينما الكرد إثنية قليلة العدد محدودة الوزن، لا يجوز أن يختلف وضعها عمّا تقرّره الأغلبية لها، حتى في حال قامت دولة ديمقراطية، لن يعبر قيامها، في هذه الرؤية، إلا عن حكم أغلبي هو الجهة الوحيدة التي يجب أن تخوّل ديمقراطيا بتحديد هوية وآليات اشتغال وسياسات الدولة وعلاقاتها بمكوناتها، وعلاقات هذه مع بعضها. لذلك، على الأقلية قبول ما تقرّره الأغلبية، وإلا غدت مواقفها ضربا من تهديد داخلي، يضمر مخاطر تمزّق المجتمع وتقوّض الدولة، الأمر الذي يلزم الأغلبية بالامتناع عن الاستجابة لمطالبها، مهما غلفتها بمفاهيم تخفي ما تضمره من تحدٍّ للجماعة الوطنية، يطاول وحدة مكوناتها وعيشها المشترك. في هذا الفهم، يصير من الطبيعي والمقبول إنكار حق الأقلية في الاختلاف مع الأغلبية، بحجة أنها حامل الخيار الديمقراطي والمجتمعي الشرعي، الجامع والمقبول وطنيا. وهناك ملاحظتان تطرحهما هذه الرؤية:

أولا: للديمقراطية نمط واحد لا يجوز أن تحيد عنه في ما يتعلق بتنظيم الدولة الإسلامية، وعلاقات مكونات المجتمع بعضها ببعض، هو النمط الأغلبي/ المركزي، بسلطته التي لا بد أن تتمتع بصلاحياتٍ مفتوحة تغطي كل مجالات الحياة العامة ومؤسسات الدولة ومفاصلهما، بما في ذلك اللامركزية منها. ومع أن الخروج على هذا التصور قد يكون صعبا في بلادٍ تعرّضت لتدميرٍ واسع، يتطلب إخراجُها منه سلطةً قويةً تمسك قضاياه بيد قويةٍ واسعة الصلاحيات والقدرات، فإن من الضروري طرحه لحوار وطني، يتوافق على حقوق مكونات الجماعة الوطنية السورية وعلاقاتها في ظل الدولة الديمقراطية، يمنع تمترس أي منها وراء مطالب قومية أو إثنية ضيقة، يمليها نزوع غير ديمقراطي نحو خصوصيةٍ ذات ميولٍ انقسامية مجتمعيا تفكيكية دولويا، تواجهها "الأغلبية" بممارساتٍ تستبعد أكثر فأكثر فرص الحوار والتفاهم، وآليات توازن المصالح والتوافق العامة.

ثانيا: ليست الديمقراطية نظام أغلبية تحدّد حقوق بقية مكونات مجتمعها، وتوزع نعمتها أو نقمتها عليها من دون أن يكون لها حق الاعتراض، أو إبداء الرأي بما يقرّر لها. الديمقراطية نظام تشاركي، يشتغل بآليات حوارية مغطاة قانونيا تحمي حقوقا عامة، بغض النظر عن أصحابها، وتنجح بقدر ما يكون بلوغها متاحا لجميع أطراف العقد الوطني بالطرق السلمية/ الحوارية، وبالحسابات التوازنية/ التوافقية.. إلخ.

لا تؤيد أغلبية كرد سورية مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي (البايادا) الإقليمي، القائم على وجود أرض وطنية كردية، يقطنها شعب خاص، استعمره عرب سورية، فمن حقه تحريرها وإقامة دولته القومية عليها. يؤمن أغلبية الكرد بمشروعٍ مقابل، يعبّرون من خلاله عن انتمائهم إلى سورية دولةً ومجتمعا، في إطار إعادة تنظيم علاقاتهم معهما على أسس ديمقراطيةٍ، تقر بما لهم من حقوق. ويعلن معظم كرد سورية خوفهم من مشروع "البايادا"، بحمولته الانفصالية التي تخيف غيرهم من السوريين أيضا، لاعتقادهم أنها تهدّد بإطلاق صراع جديد، يتخطى عرب سورية وكردها، يرجّح أن يدمر ما أبقته حرب الأسد من حياةٍ وعمرانٍ لديهما، وأن يحول دون تسوية مشكلاتهم، بما بينهم من أخوة تاريخية، وانتماء مشترك.

هناك مشروع كردي سوري لا بد من حوار مع حملته يحدّد نمط الدولة الذي يلبي حاجة العرب والكرد إلى علاقاتٍ تنهض على حقوق ثابتة، ومعرّفة بدقة لجميع مكونات الجماعة الوطنية السورية من جهة، وقبول نهائي بوحدة دولة ومجتمع سورية من جهة أخرى. وهناك مشروع إقليمي الطابع، يتبناه حزب إقليمي الطابع بدوره، ليس معظم من ينتمون إليه كردا سوريين، يجب إفشاله استباقيا بالتفاهم مع كرد سورية الذين تحظى مطالبهم اليوم بتفهم معظم أطراف العمل الوطني، في ظل تخليها المتزايد عن نموذج مركز/ طرف ومسبقاته، والمغالطات التي تساوي الديمقراطية بحكم أغلبية تقرّر حقوق غيرها، من دون مشاركته أو موافقته.

تتحوّل المسألة الكردية إلى عقدة تشابكاتٍ داخليةٍ وإقليميةٍ ودولية، لا بد أن نبادر إلى تسويتها سوريّاً، وإلا حملت إلينا مخاطر إقليمية ودولية، لن تبقى بلادنا معها ما نريد لها أن تكون عليه حرّة وموحّدة. السؤال: هل نبادر أم ننتظر كالعادة وصول الفأس إلى الرأس؟

اقرأ المزيد
٧ يونيو ٢٠١٧
طريق طهران – دمشق ليست سالكة

بعد قمم الرياض التي وضعت إيران في مكانها الحقيقي دولة راعية للإرهاب بات واضحا بالنسبة للإيرانيين أن الأوضاع الإقليمية والدولية لا تشجع على ظهورهم العلني قوة إقليمية منافسة لقوتي الردع الأميركية والروسية.

وهو ما دفعهم إلى إعادة النظر في خططهم للحفاظ على مصالحهم السياسية التي لا تخفي طابعها الطائفي، بل تظهره أكثر مما يتحمل الواقع.

ذلك لأن ما حققته إيران من اختراقات في المنطقة خلال العقود الثلاثة الماضية انتهى إلى قيام ميليشيات خارجة على القـانون بسلاحها مـثل حزب الله اللبناني من غير أن يؤدي إلى بناء كيانات سياسية يمكن التعويل عليها مستقلا.

لا تزال تلك الميليشيات تعتاشُ على ما توفره لها طهران من أسباب حياة وقوة، وهو ما يعني أنها ستواجه مصيرها مفلسة وخاوية إذا ما انقطعت عنها سبل التمويل الإيراني المبـاشر.

وكمـا يبدو فإن نظام الملالي في طهران لم يخطط في المراحل السابقة إلا لإنشاء قوى تابعة له، تكون بمثابة أدواته لنشر الفوضى في العالم العربي، يلجأ إلى تحريكها حين يضيق بأزماته الداخلية أو حين يتعرض لضغوط خارجية.

وكما عبر مسؤولون في النظام الإيراني فإن تلك الجماعات الملحقة بالحرس الثوري هي الأذرع التي تقاتل إيران بها الآخرين.

الأمر الذي يقود إلى حقيقة أن الإمبراطورية الفارسية التي تدين بالولاء للولي الفقيه هي أشبه بالأخطبوط. إيران هي الجسد أما الجماعات الموالية فما هي إلا أذرع ميتة لا تدبُّ الحياة فيها إلا حين يحتاج ذلك الجسد للدفاع عن نفسه.

وهكذا يكون النظام الإيراني قد نجح في مرحلة سابقة في إقامة منظومته الدفاعية على حساب إمكانية أن تقوم حياة طبيعية في جزء مهم من العالم العربي، وهو الجزء الذي صار موضع اشتباك دولي، حاولت إيران أن تجد لها موقعا فيه من غير أن تحقق نتائج مؤكدة.

اليوم تشعر إيران جديا بأن أذرعها مهددة بالقطع. وهو ما يجعلها تستعد للبدء في تنفيذ خطة تتيح لها الاستمرار قوة إقليمية، لكن من خلال وصل ما يمكن أن ينقطع من خطوط بين جماعاتها المسلحة في المنطقة، بعضها بالبعض الآخر وهو ما يمكن أن نفهمه من تصريح أحد مسؤولي الحرس الثوري من أنهم يستعدون لاستعمال ميليشيات الحشد الشعبي العراقية في مهمات قتالية خارج العراق.

ما هو ملحّ ومصيري في هذه المرحلة أن يتم تأمين طريق بغداد – دمشق، أما طريق دمشق – بيروت فقد تم تأمينها عبر سنوات الحرب الماضية من خلال إطلاق يد حزب الله للإمساك بالأرض بعد معارك اتسم بعضها بسياسة الأرض المحروقة.

تقضي الخطة الإيرانية أن يكمل الحشد الشعبي اليوم ما بدأ به حزب الله بالأمس. وهي خطة ولدت ميتة كما يُقال. ذلك لأن أي قوة محلية مهما أوتيت من قدرات لا يمكنها أن تضع يدها على الطريق التي تصل الحدود العراقية بالعاصمة السورية.

فكيف إذا كانت تلك القوة ميليشيا كان قد جرى تلفيقها لأسباب طائفية انهارت فيه مقومات الوعي الوطني.

هذا من جهة ومـن جهة أخـرى فإن المنطقة التي تخترقها تلك الطريق تشهد سباقا محموما بين قوى كبرى، صارت تستشعر الخطر الذي يمثله استمرار الميليشيات التابعة لإيران في تلقي الدعم المادي من إيران، فمن خلال تلك الميليشيات لا يمكن الحديث عن مسألة تحجيم إيران واحتـوائها وإنهـاء دورهـا الضار في المنطقة.

بناء على تلك المعطيات فإن الطريق إلى دمشق لن تكون سالكة أمام أي قوة تدفع بها إيران في مغامرة خاسرة. فالحرب هنـاك ليست نـزهة، كما أن الحشد الشعبي الذي يعرف العسكريون الإيرانيون مدى هزاله أكثر من غيرهم، إنما يتألف من عاطلين عن العمل أجبرتهم ظروفهـم المعيشيـة على الالتحـاق بالميليشيات الطائفية فهم ليسوا سوى جنود شطرنج.

قد يقاوم حزب الله نهايته بعض الوقت إذا ما أغلقت أمامه أبواب التمويل الإيراني. في تلك الأثناء سيكون كل شيء في طهران قد عاد إلى الصفر.

فنهاية حزب الله تعني انطفاء الحلم الإيراني في إخضاع المنطقة لمزاج الولي الفقيه.

اقرأ المزيد
٦ يونيو ٢٠١٧
هل يخرج منتصرون من حرب الحدود في سورية؟

الصراع على الحدود الشرقية والشمالية لسورية اختبار صعب لجميع المتصارعين في هذا البلد. إنه امتحان أول لسياسة الرئيس دونالد ترامب في الشرق الأوسط. وامتحان أيضاً لقدرة الرئيس فلاديمير بوتين على تسويق مشروعه للتسوية أو التهدئة أقله في الظروف الحالية. ويشكل مفترق طرق لسياسات اللاعبين الآخرين. من إيران وتركيا إلى إسرائيل والأردن وقوى عربية أخرى قريبة وبعيدة، فضلاً عن الكرد عموماً. الدينامية التي رفعت وتيرة هذه الحرب انطلاقُ السباق المحموم لوراثة تركة «داعش»، مع اقتراب هزيمته في الموصل وبعدها في الرقة. وكذلك قرار أطراف لقاءات آستانة إقامة «مناطق خفض التوتر»، أو «مناطق آمنة». فقد فتح القرار شهية جميع المتصارعين على تقاسم خريطة بلاد الشام، في غياب أي تفاهم بين الكبار. وهناك أيضاً قرار قمم الرياض الثلاث بمواجهة التمدد الإيراني في الأقليم. وهو قرار يسير بالتوازي مع الحرب على الإرهاب، بعدما ساوت واشنطن بين الجمهورية الإسلامية والتنظيمات «الجهادية». وكلها تطورات لا تبشر بقرب تسوية سياسية بقدر ما تضيف مزيداً من الزيت والتعقيدات إلى الحروب المستعرة والمستنقع المفتوح. وتوسع دائرة الترابط بين أزمات المشرق، من حدود العراق الشرقية إلى شاطىء المتوسط. وقد تكرس تقسيماً غير معلن لبلاد الشام لا يقف عند حدودها وحدها. وهو ما تخوف منه سيد الكرملين.

كرست قمم الرياض الثلاث رغبة واشنطن وحلفائها التقليديين في جمع خصوم دمشق وطهران في حلف واحد جديد لاجتثاث الإرهاب ومصادر تمويله، ومواجهة الهلال الإيراني وكسره. ولا أحد يجهل أن السيطرة على المنطقة الشرقية لسورية تحقق جملة أهداف استراتيجية، على رأسها قطع خطوط التواصل البري لإيران عبر الحدود مع العراق حتى شاطىء المتوسط، وإكمال الطوق حول إسرائيل من جنوب لبنان إلى الجولان. كما أن المنطقة غنية بالنفط تعزز موقع الممسكين بها في مواجهة الآخرين، اقتصادياً وعسكرياً. وواضح من التحركات العسكرية الأميركية الأخيرة في التنف ومحيطها، وتعزيز القدرات التسليحية لـ «قوات سورية الديموقراطية» وفصائل عربية أخرى في الجزيرة السورية، أن واشنطن تجهد لمنع قوات النظام في دمشق والميليشيات التي يرعاها «الحرس الثوري» من الاقتراب من هذه المنطقة. وهو هدف لا يريح موسكو التي تحرص على إعادة تأهيل الجيش السوري وتقديمه القوة الوحيدة القادرة على ضمان أي اتفاقات. فضلاً عن أن الهدفين، الأميركي والروسي،لا يلتقيان أبداً مع أهداف طهران الراغبة في المرابطة على حدود الجولان، وبقاء ممراتها البرية مفتوحة حتى بيروت مروراً بدمشق. ويضيرها تفاهم الدولتين الكبريين على تكريس مناطق خالية من الميليشيات.

لن يكون سهلاً على إدارة ترامب أن تحكم إقفال الحدود العراقية - السورية. اعتمادها على «وحدات حماية الشعب» قد لا يكون كافياً ومضموناً، ولن ينتهي بلا ثمن يتقاضاه الكرد. لقد حذر هؤلاء «الحشد الشعبي» العراقي من تجاوز الحدود عبر أراضيهم. لكنهم هم القريبون من «حزب العمال الكردستاني» سيجدون أنفسهم أمام امتحان صعب إذا اندلعت مواجهة واسعة بين قوات الحزب و»البيشمركة» في منطقة سنجار. علماً أن قوات الحزب تقيم تنسيقاً متيناً مع إيران وميليشيات «الحشد». فيما يرتبط إقليم كردستان بمعاهدة دفاعية مع الولايات المتحدة، وستجد قيادته نفسها أمام امتحان صعب على شفير مواجهة لا مفر منها. وقد حذرت أخيراً من أنها لن تتساهل في أمن المناطق التي تحررت من الإرهابيين. كما أن تركيا يقلقها تمدد «حزب العمال» من شرقها إلى شمال العراق فشمال شرق سورية. وتخشى أن يحكم هذا الطوق على حدودها الشرقية والجنوبية الشرقية. لذلك لا تكف عن الاحتجاج على انخراط البنتاغون في تسليح «قوات سورية الديموقراطية» وجلها من الكرد. وإذا كانت واشنطن ستستخدم الكرد في حربها على «داعش» من دون دعم تطلعاتهم إلى إقامة منطقة حكم ذاتي كما هي حال كرد العراق، فإنهم لن يترددوا في التعاون مع قوى أخرى. علماً أنهم أخلوا في السابق مواقع لهم للقوات النظامية السورية. بل هم يتحدثون عن رغبتهم في فتح ممر يربط مناطقهم بساحل المتوسط. فهل يمكن الإدارة الأميركية أن تتجاهل كلفة الاعتماد عليهم وإدارة الظهر لأنقرة، وهي حليف تعتمد عليه في خطة كسر الهلال الإيراني؟

أبعد من ذلك، تركيا التي تتعمد الابتعاد عن حلفائها التاريخين في الغرب، لم تتورع عن التهديد بقصف القوات الأميركية إذا واصلت دعمها للكرد شمال سورية. ولم تبد حتى الآن رغبة حقيقية في اللجوء إلى مجموعات تركمانية أو «حشود سنية» في العراق لمقارعة الميليشيات التي ترعاها إيران سواء في سورية أو العراق. تعلي الصوت في وجه التمدد الفارسي لكنها تترجم ذلك في الجلوس إلى طاولة واحدة مع ممثلي هذا التمدد في آستانة لتقرير مصير بلاد الشام. إنها ركن آخر في استراتيجية الرئيس ترامب قد لا يؤدي دوره المنتظر... لكنه سيجد نفسه بلا دور فاعل إذا سارت استراتيجيات الآخرين قدماً. كذلك لا يمكن واشنطن أن تعول كثيراً على نتائج الصراعات السياسية في العراق. يبدو شبه مستحيل أنخراط القوى والأحزاب الشيعية المستاءة من جارها الشرقي في جبهة تقليم أظافر الجمهورية الإسلامية. حتى حكومة الرئيس حيدر العبادي لا يمكنها الذهاب بعيداً في ملاقاة واشنطن وسياساتها على حساب طهران. ولعل خير دليل على حدود قدرة بغداد على مقاومة نفوذ جارتها الشرقية، أن الأجواء والأراضي العراقية مفتوحة عملياً أمام طائرات الشحن والقوافل لنقل السلاح والعتاد من إيران إلى سورية ولبنان والعراق طبعاً. أضف إلى كل ذلك أن أي تفاهم بين واشنطن وموسكو لن يتيح للأخيرة المجازفة بخسارة حليفها في سورية. فهي تحتاج إلى ميليشياته على الأرض ما دام أنها لا ترغب في توسيع انخراط قواتها البرية. من هنا يبدو صعباً أن تتجاهل الحضور العميق لإيران في بلاد المشرق العربي. بل ستظل تفيد من هذا الحضور حتى دفع أميركا إلى الاعتراف بها قطباً دولياً له ما لها. ولا يغيب عن بال سيد الكرملين أن نجاح الأميركيين في ترسيخ سياستهم في بلاد الشام يقلل من قدرته على التقدم ببلاده نحو ترسيخ أقدامها قوة كبرى تنطلق من دمشق إلى الإقليم كله. لذلك يجهد إلى إرضاء تركيا من أجل إبعادها عن أحضان «الناتو». مثلما يجهد لتمتين علاقاته بمصر لحاجته إليها في ليبيا وشمال أفريقيا عموماً. وينتابه قلق عميق من صورة الود القائم بين الرئيسين ترامب وعبد الفتاح السيسي! يراوده طموح التفاهم مع الرئيس ترامب في المنطقة كلها، كما هي حال الأخير مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في شبه الجزيرة الكورية.

خوف روسيا من انزلاق اللعبة عن قواعدها المرسومة حتم عليها الزج بطائراتها إلى حدود المنطقة الشرقية في سورية. وقصفها فصائل تدعمها الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج. وتقدم آلياتها وقواتها نحو جبهة الجنوب، على رغم المحادثات الديبلوماسية والعسكرية مع الأردنيين والأميركيين في عمان لتعريف «المنطقة الآمنة» جنوب سورية ورسم حدودها التي يفترض أن تشمل القنيطرة في الجولان حتى درعا وريفها. وتتهم موسكو «التحالف الدولي» والكرد بأنهم يسهلون لعناصر «داعش» الخروج من الرقة نحو دير الزور وتدمر. وكانت سابقاً عارضت وطهران ترك باب مفتوح لهم للخروج من غرب الموصل إلى الأراضي السورية عندما بدأت المعركة في اكتوبر الماضي. وهو ما دفعها أخيراً إلى التلويح باستخدام قوتها الجوية الضاربة لمنع وصول المجاهدين إلى ريف حمص وباديتها. ما تخشاه أن تكون المعركة الأكثر كلفة مع التنظيم الإرهابي في دير الزور. لذلك تسابق الأميركيين في مناطق شمال شرقي البادية، لئلا تكون المواجهة الحاسمة مع مقاتلي «دولة الخلافة» من مسؤوليتها وحلفائها بعد خروجهم من عاصمة الخلافة. وهي بذلك تجازف ربما بأخر أمل للتفاهم مع إدارة ترامب.

إضافة إلى هذا الهم، يجد الرئيس بوتين نفسه أمام خيارات صعبة على جبهة الجنوب. سيظل حريصاً على تفاهماته مع القيادة الأردنية خصوصاً في مجال التعاون الأمني والاستخباري الخاص بالمجموعات الإرهابية. كما أنه يحتاج إلى عمان باباً ومنطلقاً مساعداً إلى عواصم عربية أخرى، خليجية خصوصاً، لعلها تنحاز إلى مشروعه للتسوية في بلاد الشام. ومراعاة هذا الموقف للمملكة لا يروق بالتأكيد لحليفه الإيراني الساعي إلى الاقتراب من حدود الجولان والساعي إلى السيطرة على معابر سورية شرقاً وجنوباً. أما الأردنيون فلا يكتمون مخاوفهم من تسرب عناصر «داعش» جنوباً إذا أقفلت بوجههم سبل الفرار من شرق سورية. وهم يتذكرون اندساس مئات منهم في صفوف اللاجئين الذين أُوقفوا في مخيم الركبان السوري القريب من حدود المملكة، على رغم المناشدات الدولية بفتح الأبواب أمامهم. وقد أكد الملك عبد الله الثاني ورئيس الأركان أن القوات الأردنية لن تدخل الأراضي السورية. لكنها لن تسمح بتمركز إرهابيين أو عناصر تابعة للميليشيات الحليفة لإيران على حدودها الشمالية. قد لا تعارض في النهاية مرابطة قوات نظامية، ولكن ماذا لو أصرت واشنطن على رفض أي دور لهذه القوات؟ وإسرائيل بدورها ترفض اقتراب الميليشيات الإيرانية من منطقة الجولان المحتل. وهي تنتظر ترجمة ميدانية لمضمون اتصال هاتفي بين وزير دفاعها أفيغدور ليبرمان ونظيره الروسي سيرغي شويغو، قالت إنه تناول امكان قيام المنطقة الآمنة جنوب سورية، «ترابط فيها قوات للنظام من دون الميليشيات». هذا الاصرار على استبعاد الميليشيات يقلق طهران مثلما تخشى موسكو أن يؤدي انصياعها إلى رغبات الجارين الجنوبيين لسورية إلى هز تحالفها مع الجمهورية الإسلامية.

حرب الحدود مستنقع يسعر الحرب في سورية، ويرسم خريطة جديدة على أنقاض ما بقي من خريطة «سايكس- بيكو». مثلما يطرح خيارات وسياسات مختلفة على جميع المتصارعين. والسؤال من سيخرج منهم منتصراً من هذا المستنقع؟

اقرأ المزيد
٦ يونيو ٢٠١٧
هل يحتل العراق سورية؟

قد يبدو غريباً مثل هذا السؤال، ولا يتناسق مع المنطق الطبيعي للأشياء، فالدول التي تذهب إلى احتلال غيرها ليست أي دول، بل لها سمات ظاهرة متشكّلة من فائضٍ في القوة، ومشروع استراتيجي طموح، واقتصاد متطور يبحث عن موانئ للتصدير والاستيراد وأسواق لفائض الإنتاج.

ليس هذا الترف متوفراً للعراق الحالي الذي يساعده تحالفٌ دوليٌّ عريض للتخلص من احتلال "داعش" الذي وصل به الأمر إلى حد السيطرة على ما يقارب نصف مساحة العراق، ولولا عشراف آلاف الغارات الجوية لدول التحالف التي أسهمت في إضعاف بنية القوة لدى "داعش"، وتدمير خطوط إمداده، لكان "داعش" قد غيّر خريطة العراق بشكل كبير ولعقود مقبلة.

لكن، وعلى الرغم من كل ما سبق، كان العراق يصدّر آلاف المقاتلين إلى سورية الذين انتشروا على كامل مساحة البلد من حلب إلى درعا. وعلى الرغم من انهيار الاقتصاد العراقي وعجزه عن سد الحاجات الأساسية لسكان الموصل وتكريت والرمادي، إلا أنه كان يموّل الجهود الإيرانية في الحرب السورية، وقد أشارت تقارير عديدة محايدة إلى هذا الأمر الذي لم يقف عند هذا الحد، بل لا تخفي جماعات الحشد الشعبي، وهي مليشيات يتجاوز عدد أفرادها مائة ألف، عزمها الدخول إلى سورية في وقت قريب، لمحاربة القوى المعارضة لنظام الأسد، مع العلم أن آلافاً من المقاتلين العراقيين جرى توطينهم في مناطق قريبة من دمشق، من خلال تهجير أهل تلك المناطق عنوة، كما داريا، أو منعهم من العودة إلى مناطقهم، كما جنوب دمشق وقرى القلمون الغربي.

كيف يمكننا قراءة مثل هذه الظاهرة المتناقضة، والتي تدعو إلى الغرابة، ذلك أن الوضع الطبيعي للعراق أن ينكفئ على نفسه ويلملم شتاته، لا أن يبادر إلى الهجوم بهذه الكثافة!

يستدعي فهم هذه الظاهرة قراءة السياق الذي يصدر عنه العراق، وهو تفكيك الدولة نهائياً، ومعها جرى تفكيك الأطر والأهداف والاستراتيجيات الدولتية، وتحوّل مركز القرار إلى خارج العراق، إيران تحديداً التي باتت تضع الأهداف، وتصنع السياسات للعراق، كما تصنع توجهاته السياسية وتصوغ موقفه وموقعه الإقليمي، في ظل وجود نخبٍ حاكمة في العراق، أقرب إلى صفة الموظفين لدى الإدارة الإيرانية، يقودهم مدراء، على شاكلة قاسم سليماني، لتنفيذ المشاريع الإيرانية.

كما أعادت إيران صياغة الهوية العراقية، واستبدلت الهوية العربية بالهوية الشيعية، مستغلةً مرحلة الاضطرابات التي عانى منها العراق بعد الاحتلال الأميركي، وتصدّع الهوية الوطنية، ودخولها في مرحلة فراغ، ما سمح لإيران بتشكيلها على مقاسات مشروعها في المنطقة، وخصوصاً في جزئية السيطرة على سورية، حيث تنتشر مقامات آل البيت التي ستستدرج عشرات آلاف الشباب العراقي، المتشكّلة عقيدته على الفداء والثأر، والعدو واضح ومعلوم "شعب سورية الثائر على الأسد".

تشكّل سورية حيزاً مناسباً لتصريف الطاقة العراقية المتفجرة، بل ربما تبدو المنفذ الوحيد لاستيعاب الزخم العراقي، إذ على الرغم مما يشاع عن إجراءات أميركية لتقطيع أوصال المشروع الإيراني، فإن عدم وجود استراتيجية فاعلة في هذا الخصوص، يجعل الأمر برمّته يتحوّل إلى محفّز جديد للاندفاع العراقي صوب الحيّز السوري.

هذا الافتراض تؤهله حقيقةُ أن أدوار الوكلاء على الأرض في الحرب السورية هي الفاعلة، وذلك كونهم يشكلون أوراقاً يمكن المغامرة بها، فيما لا يجرؤ المشغّلون على الظهور المباشر، ربما لحساب ما قد يرتبه ظهورهم من استحقاقاتٍ، أو ما يستدعيه من صداماتٍ مباشرة، يسعى اللاعبون الأساسيون إلى تجنبها.

وثمّة عوامل داخلية "سورية" تشجع حصول الاحتلال العراقي لسورية، فنظام الأسد الذي لا حول ولا قوة له لن يكون منزعجاً من الاحتلال العراقي، ما دامت بغداد تموّل خزينته الفارغة، وما دام العنصر العراقي يؤمن له الكادر الذي يواجه خصومه، بعد أن استنزفت الطائفة العلوية (قُتل حوالى 150 ألفاً من شبابها).

كما لا يجب إنكار حقيقة وجود بيئة مساندة للاحتلال العراقي لسورية، بعد نجاح الدعاية الإيرانية بأن أذرعها "الحشد الشعبي وحزب الله" هم حماة الأقليات في سورية والعراق، وخصوصاً المسيحيين، وقد كانت لافتةً زيارة وفد من حركة النجباء العراقية الأسبوع الماضي، الأب لوقا الخوري معاون البطريرك لبطركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، الذي أشاد بدور المقاومة الإسلامية وحركة النجباء في سورية، وخصوصاً في منطقة محردة في الدفاع عن المسيح وتحرير مناطقهم من يد الإرهاب. وزار الوفد مدينة السويداء، واستقبلهم شيخ العقل لدى الطائفة الدرزية، حكمت الهجري، الذي أشاد بدور الحركة في سورية في تحقيق الانتصار.

وعلى الرغم من الظاهر الفوضوي للقوة العراقية، إلا أنها تعمل وفق خطةٍ، هدفها حصار التجمعات السنية، وعزلها في العراق وسورية، وعزلها عن الأردن والعمق الخليجي، ولاحقاً عزلها عن تركيا، بما يضمن عدم وجود كتلةٍ مقابلةٍ قادرة على الدفاع عن نفسها أو مقاومة هذا الزحف على سورية، ما يعني أن هذه القوى تعمل وفق استراتيجية منسقة ومنظمة، تحصد نتائجها عشرات السنين المقبلة.
هل يحتل العراق سورية؟ كلّما طال عمر نظام الأسد، وغرقت الدول العربية بالخلافات الجانبية، واستمرت أميركا بممارسة الضجيج الفارغ، بتنا نقترب من عتبة مثل هذا الاحتمال، وصحيح أن العراق دولةٌ غير مؤهلة لإنجاز هذه المهمة، لكن لديه طاقات هائلة، تبحث عن مشغّل لها، وإيران التي مارست التنويم المغناطيسي على العراق تعرف بحرفية هائلة أزرار تشغيل هذا الكيان المشحون بطاقة كبيرة، وتضع له خريطة مسار صوب المقامات المقدّسة.

اقرأ المزيد
٦ يونيو ٢٠١٧
معركة النتف ـ دير الزور: مربط الفرس

التحذير الذي أطلقه ذات يوم الملك الأردني عبد الله الثاني من خطر قيام «هلال شيعي» لم يؤخذ على مجمل الجد. «هلال شيعي» يربط إيران بلبنان والمتوسط عبر العراق وسوريا، اعتبر في حينه ضربا من الخيال. لكن ما حذّر منه الملك سرعان ما تمّ وضعه في التطبيق. في لبنان كان هناك «تسامح» مع خطوات الانقلاب على الطائف والدستور، وتواطؤ في عملية بناء جيش رديف: «حزب الله»، الذي أُنشئ على أيدي بعض جنرالات الحرس الثوري الإيراني، ومن البداية نفذ المحتل السوري خطة قضت بإخلاء الساحة لهذا الجيش الصاعد، فجرى وضع جبهة المقاومة الوطنية أمام كماشة التصفية الجسدية أو الترهيب والتضييق لإلغاء الدور، وتم تعطيل أي مشروع جاد لإعادة بناء جيش وطني للبلاد، والموجود من هذا الجيش جرى تقنين دوره.
ومع إسقاط ديكتاتورية صدام حسين في العراق، ومجيء أكثر الحكام الجدد على متن الدبابات الأميركية، وبعضهم قدِم من طهران مباشرة، شكل قرار «بريمر» حل الجيش العراقي الطامة الكبرى، والبقية معروفة، إذ سارعت طهران إلى إطلاق أكبر خطة لملء الفراغ على أنقاض الجيش العراقي. وكان للجنرال قاسم سليماني ما أراد، فإلى شبه جيش، تم إنشاء ميليشيات طائفية توجت بـ«الحشد الشعبي» الذي تم مؤخرا تشريعه، وهو بنهاية المطاف ذراع عراقية للحرس الثوري الإيراني، وربما الأداة الأبرز في تعميق الشرخ الطائفي وتفتيت العراق لتسهيل الهيمنة عليه.
عام 2005 هزّ اغتيال رئيس حكومة لبنان رفيق الحريري نظامين أمنيين في بيروت ودمشق، وأدى الالتقاء الموضوعي بين «انتفاضة الاستقلال» التي أطلقها اللبنانيون، والتحرك الدولي ضد الاستباحة السورية والمُعبر عنه في قرار مجلس الأمن الدولي 1559، إلى فرض جلاء رسمي للاحتلال الأسدي عن لبنان، فاهتزت بقوة صورة الحكم السوري، الذي ذهب إلى الحد الأبعد في عملية الالتحاق بالنظام الإيراني.. أما القوى السياسية اللبنانية، التي حازت الأغلبية في برلماني 2005 و2009 (المستمر حتى اليوم نتيجة تمديدين قسريين) فقد تعايشت مع الأمر الواقع، ودون أي تجن، لم تقدم أي مشروع لبسط سلطة الدولة دون أي شريك، واستسهلت ممارسة الحكم من خارج الدستور المعلق منذ إقراره قبل نحو من 27 سنة، وأدت الحكومات المتتالية التي تساكن فيها أطراف الفريقين الطائفيين 8 و14 آذار، إلى تحاصص الدولة ووارداتها، وتغلغل غير مسبوق لـ«حزب الله» في كل المؤسسات العامة فأمسك أبرز مفاصل القرار.

منتصف مارس (آذار) 2011 انفجرت انتفاضة الشعب السوري، نجحت بتحدي آلة القمع الوحشي، وكُسرت هيبة «مملكة الصمت» القائمة على التخويف والقتل، وخلال أشهر قليلة بات نحو 60 في المائة من سوريا خارج سيطرة الحكم الديكتاتوري في دمشق، الذي ارتمى في حضن النظام الإيراني، ودفعا معا لفرض عسكرة الانتفاضة وإلصاق تهمة الإرهاب بالشعب السوري، وخدم هذا المخطط، ربما لأهداف أخرى، بعض الأطراف الإقليمية التي تتحمل مسؤوليات جساما عن تخريب الأوضاع في مصر وليبيا وسوريا (..)، وشكلت مفاوضات الاتفاق النووي، التي استمرت نحو خمس سنوات، المظلة للتوسع الإيراني في المشرق العربي واليمن. توسع ما كان ممكنا لولا خطة ممنهجة اعتمدتها طهران لزعزعة الاستقرار وتخريب النسيج الداخلي لبلدان تبجح مرارا قادة الحرس الثوري بالسيطرة على أربع من عواصمها.
مع تيقن موسكو، التي تدخلت في الحرب السورية مجربة أسلحتها بالمدنيين والعمران، بأن لا حلّ عسكرياً للأزمة السورية، طرحت كل جولات السؤال المحوري عن مصير القوى الخارجية، وأولاها الأذرع المسلحة للحرس الثوري التي تعيث فسادا وخرابا لا يقل عما تقوم به الميليشيات الطائفية الأخرى. لكن التطور النوعي تمثل في مجيء الإدارة الأميركية الجديدة، التي وإن حددت أول أهدافها اقتلاع «داعش» وأضرابها، فقد حمّلت إيران المسؤولية عن زعزعة استقرار المنطقة، والتقت مواقف صناع القرار في واشنطن على ضرورة محاصرة التمدد الإيراني. وحتى لا يكون هناك أي التباس، فإن أميركا التي استهدفت التوسع العسكري الإيراني، لم تطلق أي إشارة بأنها ذاهبة اليوم إلى خوض مواجهة عسكرية مباشرة، لكن كل المؤشرات بدأت تشي بأن الميدان لم يعد مفتوحاً لإيران كما تخطط، وتوجيه ضربة للميليشيات التي كانت تتقدم باتجاه الحدود مع العراق وفّر مصداقية عما تعتزمه واشنطن.. وجاءت قمم الرياض التاريخية لتكرس عزل نظام طهران، ووسمت إيران بوصفها دولة راعية للإرهاب. بهذا السياق كان لافتا أن وزير الخارجية الأميركية تيلرسون دعا الرئيس روحاني الفائز بولاية رئاسية ثانية إلى العمل الفوري لتفكيك المنظومة الإرهابية للحرس الثوري.
اليوم السؤال الذي يطرح نفسه بعد المواقف الأميركية، هو هل الإمكانية متوفرة لاتخاذ إجراءات جدية تحاصر التمدد العسكري الإيراني؟ السؤال داهم وقد بات الهامش ضيقاً جداً، مع الاندفاعة الإيرانية للحفاظ بأي ثمن على المواقع التي تحتلها الآن، كمراكز نفوذ دائمة.
المعروف أن طهران التي تعمل لتوسيع بحيرة نفوذها حتى المتوسط، عدلت من خطتها الربط البري مع العراق عبر تلعفر وغرب الموصل، بعدما باتت منطقة الحدود تلك من جهة، مركز نفوذ ووجود الحركة الكردية، وتعمل على قتال «داعش» واستعادة الرقة تحت غطاء أميركي كبير، ومن الجهة الأخرى أقام الجيش الأميركي فيها مهابط للطائرات، فعمدت إيران لتجنبها، وغيرت مسار ممرها البري نحو الجنوب، نحو معبر «النتف» قرب دير الزور، وبدا ضغط ميليشيات الحرس الثوري انطلاقا من القلمون الشرقي ومنطقة تدمر جليا، ويقابله تقدم «الحشد الشعبي» العراقي نحو «باعج» التي كانت مقراً للبغدادي زعيم «داعش»، والمنطقة حلقة أساسية في المخطط الإيراني الذي يربط المحافظات الشيعية جنوب العراق بالبادية السورية فتدمر ومحيط دمشق الذي عرف تغييرات ديموغرافية معينة، ومن هناك إلى القلمون الغربي والحدود اللبنانية.
الثابت أن طهران تتجه لخوض معركة حياة أو موت، بالنسبة لاستمرارية نفوذها وحجمه في سوريا والمنطقة، وتقوم بحشد قوات كبيرة من مختلف أذرع الحرس الثوري ومعهم وحدات من الجيش السوري، ومن الوجهة الإيرانية وحده هذا الواقع الميداني يمنح طهران التأثير اللاحق على قرار دمشق حتى بعد التغيير في رأس القيادة السورية. بالمقابل فإن واشنطن التي تعدُّ لمعركة الرقة في الشمال الشرقي، تجد نفسها في قلب معركة في الجنوب، وتدرك أن الأولوية الآن لهذه المعركة بالذات، لأنه فقط عبر إبعاد الميليشيات الإيرانية عن معبر «النتف»، يتم قطع «الهلال الشيعي» وتصبح معركة إنهاء «داعش» في دير الزور أكثر سهولة. وبهذا السياق ترتدي المباحثات العسكرية الأميركية - الروسية، التي تستضيفها عمان، أهمية خاصة، كونها تناقش إقامة منطقة آمنة ومحظورة على الميليشيات الإيرانية، وتمتد من القنيطرة إلى درعا والسويداء والنتف ودير الزور، والأكيد أن عقدة النقاش تكمن بالتوافق على الأحجام والنفوذ والأثمان وهو الأمر المعروف عما تريده روسيا.. وهذه المباحثات التي شملت أيضا إسرائيل، وفق ما كشفه وزير الدفاع الروسي، تؤكد أن السباق العسكري على الأرض يتقدم على جنيف وآستانة، والمصداقية الأميركية على المحك أكثر من أي وقت سابق.

اقرأ المزيد
٦ يونيو ٢٠١٧
الانتصار للأوطان

شيعة عرب من لبنان ومن العراق ملكوا الجرأة على مواجهة المد الفارسي في دولتهم من بعد طول صمت، ومرجعيات شيعية فقهية عراقية ولبنانية حملت راية الهوية العربية وانتصرت للدولة العربية، وواجهوا المراجع الفارسية انتصاراً للدولة في العراق ولبنان، كالأمين والوائلي وفضل الله، وكالعلامة محمد الحسيني من لبنان الذي أسس مجلساً إسلامياً عربياً كتب على بابه: «إن الشيعة العرب هم اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يكون انتماؤهم تامّاً إلى أوطانهم التي يعيشون فيها ودولهم العربية، وإما أن يتحولوا إلى طابور خامس في خدمة مشاريع التمدد في أمتنا العربية فيجلبون إليها وإلى أنفسهم الخراب والدمار».

يعرف المجلس الإسلامي العربي الذي أسسه الحسيني بأنه المرجعية الإسلامية لشيعة العرب، وهو الإطار الجامع والراعي والمرشد والموجه لهم إسلاميّاً وسياسيّاً والمهتم بشؤونهم كما هو مدوَّن عبر موقعه الإلكتروني، ومهمته التي يعمل من أجلها هي استرجاع المنخدعين من الشيعة العرب بالأكاذيب والأراجيف الضالّة المضلّة من أحضان نظام ولاية الفقيه وبراثنه، وإعادتهم إلى الأحضان الرؤومة لأمتهم العربية كما هو مذكور، ويعمل المجلس وفق مبادئ لا نعتقد أنها تختلف عما تنادي به الشعوب العربية بكل أطيافها الدينية والمذهبية:

- كالسعي والعمل على تأكيد أن ولاء شيعة العرب لأوطانهم ولها فقط، فلا يجوز بأي شكل من الأشكال أن يوالوا نظام ولاية الفقيه تحت أي غطاء أو مبرر أو دعوة مذهبية كانت، حيث لا يمکن إطلاقاً جَمْع ولاءين في قلبٍ واحد.

- ليس لشيعة العرب مشروع لإقامة كيان خاصّ لهم في الدول العربية كافة، ولا يجوز التفكير أو السعي للوصول إلى مثل هذا المشروع البعيد عن تفكيرهم، وأي تفكير في هذا الخط الملتوي هو خيانة عظمى، وإخلال بمبادئ المواطنة والإخلاص للوطن.

- إن شيعة العرب مواطنون صالحون في أوطانهم، وهم جزء لا يتجزأ من النسيج العربي مع إخوانهم السُّنَّة، ولا يفكرون في الابتعاد ولا التمايز ولا الارتباط بأوطان أخرى، ويؤمنون أن أي منحرف عن هذه الأهداف يستحق محاكمته بجريمة الخيانة العظمى.

- إن على شيعة العرب أن يكونوا عامل استقرار وأمان في أوطانهم، وأن يتعاونوا مع إخوانهم في العروبة، وعليهم الحذر ورفض الدعوات المشبوهة والمغرضة التي يطلقها نظام ولاية الفقيه بدعوى دعم الأقليات من الشيعة.

– لقد اختار الشعب العربي في كل دولة، والشيعة جزء منه، نظام الحكم الذي يناسبه ويلبي طموحاته ويحقق أهدافه. لذا فإن الولاية على الشيعة العرب هي للأنظمة التي اختاروها، وليست للولي الفقيه الذي تقتصر ولايته على حدود بلده، إذا ارتضى ذلك شعبه. وقد بَيَّنت الأحداث أنه حتى في إيران سقط هذا النظام شرّ سقوط.

- على شيعة العرب الانخراط بمؤسسات دولهم كغيرهم من المواطنين، وأن يعوا جيداً ما يخطِّط لهم المغرضون والدساسون من أحابيل ومكائد ليست هنالك من مصلحة لهم فيها سوى تحقيق غايات أجنبية لا علاقة لها بأوطاننا وأمتنا العربية.

- على شيعة العرب أن يبتعدوا عن الأحزاب والجمعيات الهدامة التي تنادي زوراً بـ«حقوق الشيعة» كفئة مستقلّة لها كيانها الخاص. إن هذه الأحزاب مدسوسة ومغرِضة ومموَّلة من الخارج بهدف زعزعة استقرار الدولة التي تعمل فيها خدمة لمشروع أجنبي غير عربي.

- على الشيعة العرب واجب الحفاظ على الأمن القومي العربي بكل إمكاناتهم، وأن يبذلوا في سبيل هذا الواجب كل غالٍ ونفيس حتى ولو تعرضوا في سبيل تحقيق هذا الهدف إلى تقديم الأرواح قرابين للوصول إلى الهدف. (انتهى).

لا أعرف حجم تأثير مثل هذا المركز، إنما هذا قول ومنطق وكلام وطني بامتياز نحتاج إلى أن نسمعه، فإذا كان للفقيه الإيراني معارضون إيرانيون داخل وخارج إيران رفضوا ولاية الفقيه الكلية لا كنظرية فقط، بل رفضوها أيضاً كمشروع توسعي يعتمد على استغلال المذهب ويتدخل في شؤون الدول الأخرى، رفضوا استغلال الدين استغلالاً لا ينم عن احترام للدين ولرسوله ولقيمه ومبادئه، بل ينم عن بغض وحقد على تحريض المواطنين العرب على أوطانهم وجلب المتاعب لإيران الدولة.

وكذلك فعل شيعة عرب رأوا ما آل إليه متطرفون من طائفتهم من محاذير خطرة قد تمتد لأجيال مقبلة، سيدفع ثمنها أبناؤهم، وتحول بينهم وبين انخراطهم مع شركائهم في الأوطان العربية، فتحملوا المسؤولية ورفعوا الصوت الآن دفاعاً عنها، خصوصاً بعد أن انتهى الحلف الأميركي الإيراني، فتصدوا للمد الإيراني وامتلكوا الشجاعة لقول رأيهم والمجاهرة به وكسر طوق العزلة.

تلك أعمال جليلة لشيعة عرب قام بها رجال شجعان سيذكرهم التاريخ وتحملوا من أجلها كل أنواع التهديد والابتزاز... ولكن لا بد من تحرك كل المثقفين والعلماء والتكنوقراط وغيرهم من مواطني هذه الدول لوضع الأمور في نصابها ووضعها الصحيح... الانتصار للأوطان قيمة وشيمة لا يعرفها غير الأحرار.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو