في اليوم الرابع من شهر يونيو/ حزيران عام 1967، وجه أحد شعراء "البعث" رسالة إذاعية مفتوحة إلى الأمة العربية، تدعوها إلى الاصطياف في نهاريا، مدينته الفلسطينية التي قال إن الجيش السوري، جيش البعث، سيحرّرها في الساعات الأولى بعد نشوب حرب التحرير المقبلة. وفي اليوم التاسع منه، كانت رئيسة الاتحاد النسائي تطلق صرخات استغاثةٍ يائسة تناشد العالم وقف "العدوان الصهيوني" الذي يستهدف عزل دمشق، أقدم مدينة في العالم، والتي تتعرّض لموجات قصفٍ أسقطت عشرات آلاف الشهداء من الأطفال والنساء. في اليوم ذاته، أذاع وزير دفاع النظام، الفريق حافظ الأسد، بيانا أعلن فيه سقوط القنيطرة، عاصمة الجولان، في يد العدو الصهيوني الغاشم، وأمر جيشه بتنفيذ انسحابٍ كيفي منه، قال رجال القانون، في ما بعد، إنه كان أمرا بحل الجيش، والدليل أنه لم يدافع عن الأرض الوطنية، بل سلمها من دون قتال للعدو الذي لم يرسل قواته لاستلامها إلا بعد ثلاثة أيام.
بين وعد التحرير والدعوة إلى الاصطياف في نهاريا، وحرب لم تدم فعلا غير ساعات قليلة، سلم الأسد خلالها الجولان لإسرائيل، وحل الجيش، دمرت إسرائيل الطيران السوري على مدرجات مطاراته، وغنمت آلاف الدبابات والمدافع بذخائرها. بعد الهزيمة، قال النظام إن "الحزب القائد" أحبط مؤمراة استهدفت "نظام الثورة المعادي للصهيونية والإمبريالية"، ومنع العدو من إسقاط النظام الذي خرج منتصرا من المعركة. في المعارك الكبرى، هكذا قيل، ليس احتلال الأرض أمرا مهما، بما أنه يمكن تحريرها واستعادتها، أما النظام، فهو لا يعوّض أو يستعاد. صحيح أن العدو احتل الجولان، لكن فشل المؤامرة هو شرط تحريره، في سياق استراتيجية النظام لتحرير فلسطين، بطبيعة الحال.
ذات يوم، احتلت فرنسا أرضا ألمانية، فجمع رئيس أركان الجيش الألماني ضباطه، وطلب منهم وضع خطة لتحريرها، وأصدر إليهم أمرا يقول: "سنفكّر بها وسنعمل لتحريرها دوما، ولن نتحدث عنها أبدا". بعد احتلال الجولان، اعتمد النظام الموقف التالي: "سنتحدّث عن الجولان دوما، لن نفكر به أو نعمل لتحريره أبدا". هل نعجب إن كان يرزح، منذ خمسين عاما، تحت احتلال إسرائيل، وكان النظام قد حوله إلى "لا قضية"، في سياق صرف احتلاله إلى مزايداتٍ خطابيةٍ، لعبت دورا مهما في ردع معارضيه وملاحقتهم، واتهامهم بالعمالة للعدو، لأنهم يعيقون جهوده لتحرير فلسطين، ولمقاومة عملاء العدو في منظمة التحرير الفلسطينية، والقوى الوطنية اللبنانية التي رفضت احتلاله بلادهم، بموافقة إسرائيلية علنية، والذين دانوا دوره في دعم الحرب الإيرانية ضد العراق، وانتهاجه سياساتٍ طوت تماما، منذ عام 1974، صفحة الصراع العربي/ الإسرائيلي، وفتحت صفحة الصراعات العربية/ العربية، ويبدو أنها ستبقى مفتوحة إلى أن يشاء الله.
قال بيان أسدي عام 1967: لا أهمية للأرض الوطنية في سياق صد مؤامرة ضد النظام يقف وراءها العدو الخارجي. وفي عام 2011، عام الثورة، قال بيان أسدي آخر: لا أهمية للشعب في سياق صد مؤامرة داخلية ضد النظام، يتولاها الشعب. وفي الحالتين: لا أهمية إلا للنظام. في هذه الحالة: أين المشكلة إذا سلم أرضا وطنية إلى العدو مقابل بقائه، أو إذا أبيد الشعب، إن كان يريد إسقاطه؟
ما هذا النظام الذي يتخلي عن أرض وطنيةٍ، يقوّض احتلالها الدولة، ويلغي أحد أركان وجودها: سيادتها الكاملة على داخلها الوطني. وينقضّ، في الوقت نفسه، وبكل سلاح لديه، على شعبه، بجرم مطالبته بإصلاح أحواله؟ ما هذا النظام الذي تمت المحافظة عليه، لأنه تخلى عن الجولان، واحتل لبنان، وحارب فلسطين والعراق، ويقضي على شعب سورية بدعم إقليمي ودولي غير محدود؟ ولماذا، بربكم، لا تحميه إسرائيل وغيرها، إن كان يقوم منذ ستة أعوام بما عجزت عنه دوما: القضاء على دولة سورية ومجتمعها، الأمر الذي كان سيكلفها عشرات آلاف القتلى من جنودها، وسيدمر أجزاء واسعة من دولتها، من دون أن يكون نجاحها فيه مؤكّدا؟
إذا كانت النظم تحافظ على أرض وطنها وسلامة شعبها، بأي معيار وطني أو إنساني يراد لنا أن نسمي الأسدية نظاما، وهي التي فرّطت بالأولى وتقضي على الثاني؟ من غير إسرائيل أفاد من "نظام" خدمها نيفاً ونصف قرن؟
صواريخ كروز الروسية الأربعة التي أطلقت يوم الثلاثاء الماضي على منطقة تدمر واستهدفت عناصر من مقاتلي المعارضة التي تدعمها واشنطن، قالت موسكو إنهم عناصر «داعش» كانوا يفرّون من الرقة، لم تكن أكثر من رسالة متأخرة رداً على عملية القصف التي نفذتها القوات الأميركية قبل أسبوعين، على منطقة التنف على الحدود السورية العراقية، واستهدفت رتلاً عسكرياً لقوات النظام والميليشيا الإيرانية التي تسانده كانت تتقدم نحو الحدود العراقية، في سعي واضح ومعلن هدفه الالتقاء مع قوات من «الحشد الشعبي» الذي تدعمه إيران، تتقدم من الأراضي العراقية نحو الحدود السورية.
المعارضة السورية أكّدت أن مقاتلي «داعش» الذين فروا من الرقة اتجهوا إلى محيط دير الزور، بينما تتقدم «قوات سوريا الديمقراطية» نحو الرقة بهدف إسقاطها، وأعلنت أنها اقتربت منها وباتت على أبواب حي المشلب شرق المدينة، وقد حصل هذا التقدم بعد قصف كثيف من قوات التحالف الدولي.
قياساً بالتطورات العسكرية المتسارعة في تلك البادية على مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية، تبدو عملية القصف الروسي بمثابة دخول على خط التنافس الذي يتصاعد بوتيرة حامية بين إيران وأميركا، للسيطرة على تلك المنطقة البالغة الأهمية لأسباب استراتيجية ذات بعدين، سياسي إقليمي واقتصادي دولي.
قبل الحديث عن هذه الأبعاد الاستراتيجية، دعونا نتذكّر أن المقاتلات الأميركية ألقت بعد عملية قصف قوات النظام التي كانت تتقدم نحو منطقة التنف منشورات تحذّر من أنها على استعداد لتكرار هذه العمليات إذا استمرت محاولة الالتقاء بين قوات «الحشد الشعبي» التي تتقدم من العراق وقوات النظام وحلفائه من الأذرع الإيرانية التي تتقدم من الحدود السورية.
على خلفية كل هذا تحوّلت منطقة التنف ساحة مواجهة في ظل إعلانات من «الحشد الشعبي» بأنه مستعد للقتال حتى داخل الأراضي السوري، وفي ظل إصرار أميركي حازم على الحيلولة دون ذلك من خلال العمل الجاد لإقامة منطقة آمنة تمتد من الجولان فدرعا فالسويداء، وصولاً إلى دير الزور عبر معبري التنف وأبو كمال.
بالعودة إلى العوامل الاستراتيجية في بعدها السياسي، من الواضح أن سيطرة «داعش» عام 2014 على الرقة وإلغاء الحدود السورية العراقية، قطعت خطوط الاتصال الإيرانية التي تصل بين العراق وسوريا ولبنان، وهو ما يطلق عليه تعريف «الهلال الشيعي»؛ ولهذا فإن إيران تستميت لاستعادة السيطرة على هذا الكوريدور الحيوي، الذي لا يوصلها إلى شاطئ المتوسط جنوب لبنان فحسب، بل يعطيها عناصر جغرافية تساعدها في القول إنها تحارب إسرائيل.
لكن الولايات المتحدة مع سياسات الرئيس دونالد ترمب التي تصنف إيران دولة إرهابية، بدأت تقف بالمرصاد في وجه هذه الحسابات، لا بل إنها تصعّد بقوة ضد التدخلات الإيرانية في المنطقة، وذكرت أنباء نشرت يوم الأحد الماضي أن واشنطن بعثت برسالة إلى طهران بعد عملية قصف قوات النظام في التنف، هددت فيها بضرب مواقع داخل إيران، إذا تعرضّت هذه للجنود الأميركيين في العراق أو سوريا، وأشارت هذه الأنباء إلى أن واشنطن تعمّدت إيصال هذه الرسالة عبر ضباط روس يشاركون في جلسات للتنسيق العسكري بين الطرفين داخل سوريا.
الإيرانيون نفوا أنهم تلقوا الرسالة، لكن إلقاء المنشورات الأميركية جاء تأكيداً عملياً لهذا الإنذار؛ ما يعني على المستوى الاستراتيجي، أنه إذا فقدت إيران ممراتها إلى لبنان عبر سوريا والعراق فإنها ستفقد نفوذها في العراق، الذي بدأ يسجل مواقف متصاعدة ضدها حتى من قيادات شيعية، مثل رئيس الحكومة حيدر العبادي الذي ينتقد ممارسات «الحشد الشعبي»، ومقتدى الصدر الذي يدعو صراحة إلى وقف العبث الإيراني بالعراق، ومن ثم تفقد نفوذها في سوريا، حيث لن تبقى منصتها السياسية المتمثلة في الرئيس بشار الأسد، وهذا ما يدركه الروس ضمناً رغم تمسكهم به.
لكل هذا؛ فإن ما سيحصل على الحدود السورية العراقية الأردنية من الجولان إلى أبو كمال مروراً بنقطة الاشتباك الحامية في التنف، سيقرر مستقبل التوازنات الاستراتيجية الحساسة في المنطقة كلها، خصوصاً إذا انتهى الأمر باقتلاع الهلال الشيعي الذي تهدد طهران بجعله بدراً!
في السياق الميداني لهذه الوقائع واضح وجود سباق بين أميركا والتحالف الدولي من جهة، وبين إيران والنظام وميليشياتهما للوصول إلى الحدود، أميركا تريد السيطرة على طريق دمشق بغداد لملاقاة «قوات سوريا الديمقراطية» التي تدعمها والقادمة من الشمال والتي بدأت يوم الأربعاء تسلّم أسلحة أميركية ما أثار غضب أنقرة؛ وذلك استعداداً للانقضاض على تنظيم داعش في الرقة ودير الزور، وفي المقابل تسعى إيران والنظام للوصول إلى التنف لتلاقي الحشد الشعبي القادم من الشرق بهدف السيطرة على الكوريدور الاستراتيجي الذي يوصل طهران إلى الناقورة جنوب لبنان.
يوم الثلاثاء الماضي رد قائد «الحشد الشعبي» هادي العامري على التهديدات الأميركية بالقول إن قواته سيطرت على قرية تارو في محاذاة جبل سنجار قرب الحدود السورية، وأنها ستبدأ عمليات عسكرية لتطهير الحدود في اتجاه قضاء القائم غرب محافظة الأنبار، لكن بعد ساعات رد قيادي من «قوات سوريا الديمقراطية» بالقول: إنه سيتم التصدي فوراً لقوات «الحشد الشعبي» إذا عبرت الحدود إلى مناطق سيطرتها، وأنه «من غير المقبول بتاتاً وجود إيران هنا، ولن نكون تحت أي ظرف من الظروف جسراً بين (الحشد الشعبي) والنظام السوري».
أما فيما يتصل بالبعد الاقتصادي لهذه المواجهة الاستراتيجية، فقد بدا للمراقبين أن إطلاق الصواريخ الروسية الأربعة، جاء بمثابة دخول محدود ومدروس على خط التحديات بين واشنطن وإيران، وخصوصاً أنه حصل عشية المحادثات العسكرية التي يجريها مسؤولون أميركيون وروس في عمان لإقامة «منطقة آمنة» جنوب سوريا.
لكن صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» الروسية أعادت تسليط الأضواء على ما كان قد تردد كثيراً عن المنافسة الضمنية بين واشنطن وموسكو للسيطرة على حقول النفط والغاز، عندما وصفت قلق وزارة الدفاع الأميركية من التقدم الذي أحرزته القوات السورية المدعومة روسياً وإيرانياً في اتجاه جنوب سوريا، بأنه يشي باحتدام المنافسة غير المعلنة بين روسيا وأميركا للسيطرة على حقول الغاز والنفط الغنية في دير الزور تحديداً، وعلى طرق النقل عبر تدمر ووادي الفرات والمناطق المحاذية للحدود الأردنية العراقية!
على خلفية كل هذا تبدو المساحة الممتدة من الحدود السورية العراقية وجنوباً إلى الحدود الأردنية، ساحة لمواجهة استراتيجية لن تقرر بالتالي مستقبل الوضع السوري، بل مستقبل التوازنات الإقليمية في ظل حدود الدور الإيراني، والدولية في ظل رسم الأدوار والحصص الأميركية والروسية في المنطقة!
المالكي ونصرالله ينفذان واحدة من أخطر فقرات الرؤية الإيرانية. تلك الفقرة التي تقضي بأن العرب لا يستحقون حياة كريمة. أشاع الرجلان القبح في أعز مدينتين عربيتين.
إذا أردت التعرف على حقيقة إيران عليك بالذهاب إلى العراق. أما إذا منعتك الأوضاع الأمنية في أخطر مدينة في العالم وهي بغداد من زيارتها فلا بأس عليك من أن تلقي نظرة سريعة على الضاحية الجنوبية ببيروت.
سوف تُصدم. أهذه بيروت؟ أهذا هو الشعب اللبناني؟
لقد استورد العراقيون واللبنانيون أسوأ ما لدى الشعب الإيراني من ذائقة وعادات ومزاج وتقاليد وسلوك، وأضافوا إليه الشيء الكثير من نتاج تراثهم الباكي والكئيب والمكرر والممل فأضفوا على البضاعة الثقافية الإيرانية قبحا قد يُصدم به الإيرانيون.
بغداد اليوم كما تسجل صورها عدسات مصوري وكالات الأنباء هي أقبح مدينة في العالم، كما أن الضاحية الجنوبية هي أقبح جزء من بيروت.
وكما هو معروف فإن قبح المدينة ينعكس قبحا في النفوس. وهو ما يجري العمل عليه كل لحظة من غير أي شعور بالرحمة. فحين نتحدث عن غسل العقول فإن ذلك لا يجري بمعزل عن تدمير البيئة المحيطة من خلال إلحاق أكبر ضرر بشكلها الجمالي والاكتفاء بوظائفها الأساسية. كأن يكون البيت مجرد مأوى. وهو ما يساوي بين البشر والحيوانات.
وإذا ما كان حزب الله يفاخر بالمستشفيات والمدارس التي بناها من خلال التمويل الإيراني، وهو أمر مشكوك بصحته من جهة أن تكون تلك المستشفيات متاحة للجميع والمدارس صالحة لرعاية وتربية العقول، فإن سياسيي العراق وفي مقدمتهم نوري المالكي فشلوا بالرغم من ثروات العراق الهائلة في بناء مدرسة أو مستشفى، ذلك لأنهم كانوا عبر سنوات حكمهم حسب تعبير المالكي يدافعون عن المشروع الإسلامي.
ولكن ألا يحق لنا أن نتساءل عن ماهية ذلك المشروع الإسلامي الذي أدى إلى أن تُضرب حياة الناس بالقبح في مدينتين كانتا الأجمل دائما؟
حسب المعطيات الواقعية فإن ما يُسمى بالمشروع الإسلامي، الذي يتولى تنفيذه حزب الله في لبنان وحزب الدعوة في العراق، هو في حقيقته صورة عن المخطط الذي وضعه آيات الله لحياة البشر في الدنيا وهي صورة لا تمت إلى حقوق الإنسان وكرامته وحريته واستقلاله بصلة، إضافة إلى أنها تتناقض كليا مع العلم وتجلياته المعاصرة.
نظرة سريعة وخاطفة إلى ما آلت إليه أحوال الناس في العراق وفي الضاحية تكشف عن هول الكارثة التي ضربت العراقيين واللبنانيين بسبب ذلك المشروع الذي يُربط بالإسلام عنوة بالرغم من أنه قد أدى إلى انحطاط سبل العيش، وقبلها انهيار وسائل التعليم والتربية والصحة في كلا البلدين.
ما لا يسبب صدمة لرعاة ذلك المشروع الوهمي أن يكون القبح عنوانا لحياة بشر قيض لهم بالصدفة أن يكونوا ضحايا لمشروعهم. فالجمال والقبح ليسا معيارين معتمدين في قاموسهم. خدمة الولي الفقيه هي المعيار الوحيد لقياس صلاحية الإنسان لعيش حياة آمنة.
ولأن الولي الفقيه هو خلاصة المذهب الشيعي حسب الخميني، وهو الذي وضع ذلك المصطلح في سياق سياسي فإن التعبير عن الولاء له هو بمثابة نوع من الخلاص. يكذب الكثيرون حين يضعون هذا الأمر في مكان آخر.
فالولي الفقيه حسب الرواية الخمينية هو منقذ الأمة وهو مبشرها بالجنة التي لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال الإيمان بالإمامة.
كل ذلك اللعب بالغيبيات كان القصد منه تمرير القبح الذي ظلل مشروع أتباع إيران حياة الناس في العراق ولبنان به. كل هذا الفساد يٌمكن القبول به ما دام يتم في ظل راية الولي الفقيه الذي يعرف أكثر من سواه ما الذي يحتاجه المؤمن لكي ينجو في آخرته من النار.
بعيدا عن الأهداف الإيرانية، فإن المشروع الإسلامي الذي ينادي به نوري المالكي في العراق وحسن نصرالله في لبنان هو مشروع رث ومتهالك ورخيص وعدواني بما ينطوي عليه من استهانة بالحياة البشرية.
المالكي ونصرالله ينفذان واحدة من أخطر فقرات الرؤية الإيرانية. تلك الفقرة التي تقضي بأن العرب لا يستحقون حياة كريمة. لقد أشاع الرجلان القبح في أعز مدينتين عربيتين.
لم يعد السؤال الملحّ اليوم سورية إلى أين؟ وفقط، فثمة سؤال آخر: السوريون إلى أين؟ وهو سؤال يطرح نفسه، بعد أن أغلقت في وجه السوريين كل المعابر، ورفعت الأسوار حولهم، حتى في بلاد اللجوء، فهم محاصرون، إما تحت قنابل النظام أو تحت رحمة قوانين جائرة في دولة احتلال (إسرائيل) أو دول الجوار، أو تحديد إجراءات الإقامة والسفر وتقييدها في دول اللجوء.
لا يعني السؤال أين يجب أن يذهب السوريون، تحت عنوان متابعة سياسة النظام في تهجير من تبقى منهم داخل سورية، أو بقاء الذين ينتظرون في المناطق الحدودية الساخنة حيث هم، وإنما المقصود الحديث عن سورية المستقبل، وسيناريوهات الحل المنتظر من المجتمع الدولي الذي صار يخيّرنا بين التقسيم أو التقاسم، بين أن نكون تحت النفوذ الإيراني أو الروسي، بين الإبقاء على روسيا، بمشاركة كل قوى العالم في سورية، مقابل خروج إيران والإبقاء على نظام الأسد، بين استمرار موتنا بيد النظام وفي معتقلاته، وتحت براميله العشوائية والغبية، أو موتنا تحت قصف الطائرات الأكثر تطوراً وتقنية وتصويباً وذكاءً؟
بالفعل، عن أي سوريين نتحدث؟ هل عن الذين يفضلون الموت تحت أنقاض بيوتهم، أو الذين يلوذون في مناطق تحت سيطرة النظام، ويعيشون ظروفاً اقتصادية قاسية، أم عن المشرّدين بين عابر للحدود، أو الذين يحاولون الاندماج بمجتمعاتهم الجديدة التي لن تستطيع أن تتقبلهم بالمرونة نفسها التي تتحدث بها تلك المجتمعات عن حقوق الإنسان وحق اللجوء.
في المختصر، نحن نتحدث عن سوريين تنقصهم حقوق المواطنة في كل شيء، وفي أي مكان، في سورية داخل مناطق النظام، وتحت حكم "المعارضة"، وفي خارج سورية في دول عربية، أو غربية، في ظل قوانين اللجوء، أو الحماية المؤقتة أو الإقامة وقتاً محدّداً.
إذاً، ووفقاً لما سبق، يدخل الحديث عن سورية الواحدة والشعب السوري الواحد اليوم في مأزق، أو في التباسات، عند الاعتراف بالواقع، فالبلد بات مقسماً على أساس جغرافي وديمغرافي، بين سورية النظام وسورية المعارضة، وسورية القوات الديمقراطية "الكردية" وسورية مناطق جبهة النصرة وتنظيم داعش، وهناك سورية التي، على ما يبدو، نسيها السوريون في ظل انقساماتهم، وترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي، وما فيها من سوريين رفضوا الهوية الإسرائيلية، وتشبثوا بسوريتهم التي يرونها تضيع ضمن كل هذه السوريات المنقسمة جغرافياً وديمغرافياً، إذ سورية كل السوريين غائبة حتى الآن.
سورية التي نشأت حسب خريطة سايكس بيكو، والتي انطلقت الثورة فيها عام 2011 ، والتي نادى القوميون العرب بشعاراتهم "التسويقية" بكسر حواجز حدودها مع الدول العربية، حالمين بالوطن العربي الواحد، بينما نادى "المتطرّفون من المتأسلمين" الذين جاءوا ليمتطوا الثورة، لإقامة دولتهم التي لا تعترف بحدود سورية أساساً، ولا بالسوريين شعباً واحداً، ولا بمشروع ثورتهم لإقامة دولة المواطنة، دولة مواطنين أحرار متساوين.
هذا المشروع الوطني وفق الرؤية الديمقراطية، والتي أعادت الأمل لسوريي الجولان بأن تعود قضيتهم إلى الواجهة، وأن تعود سورية إليهم، سورية هذه البديل لسورية الأسد، حيث استمر النظام بحكم سورية بطريقة استبدادية أمنية متغولة على حياة المواطنين المحرومين من أبسط حقوقهم.
هذه سورية التي سأل عنها أهلنا في الجولان في ندوة نظمها صالون الجولان (التابع لمركز حرمون)، في مدينة مجدل شمس، وحضرها نخبة من المثقفين السوريين والشخصيات الوطنية في الجولان، وشارك فيها لأول مرة شخصياتٌ من المعارضة السورية في الخارج، بمناسبة الزيارة الأولى للكاتب ماجد كيالي إلى فلسطين، بلده التي يراها بعد أكثر من ستين عاماً على حلم اللقاء، والتي بدأها من بلد المولد سورية، من أرضها المحتلة الجولان، وأنهاها منها تأكيداً على انتمائه الكامل لكلا البلدين، سورية وفلسطين، حيث قال: "نمت ليلتي الأولى في هذه الرحلة في مجدل شمس في الجولان السورية، وأختم ليلتي الأخيرة منها، أنا الفلسطيني السوري أو السوري ـ الفلسطيني، سيان، فقد تصالحت هويتي الفلسطينية مع هويتي السورية، في الكفاح من أجل الحرية والمساواة، إذ قضية فلسطين ليست مجرد قطعة أرض، وإنما هي معنى للحرية والكرامة أيضاً".
حظيت بشرف المشاركة في الندوة، إضافة إلى الأصدقاء ميشيل كيلو وحازم نهار وزكريا السقال، من مجموعة العمل الوطني الديمقراطي، وكانت هذه التجربة سابقة فريدة من نوعها، أبدى فيها المشاركون من الجولان ترحيباً وتكريماً عرفوا به دوماً، كما عرفوا بروحهم الوطنية وانتمائهم القومي. طرحت في الندوة، أسئلة عديدة، ضمنها السؤال عن مصير الجولان المحتلة، مؤكدين رفضهم مشاريع التقسيم، سيما أن هذه المشاريع تصب في خانة إسرائيل التي ستكرّس اغتصابها الجولان، كما أنها ستصب في خانة إضعاف سورية وتقسيم شعبها.
طوال الفترة الماضية، تركت المعارضة السورية الجولان، وأهل الجولان، على الرغم من الحاجة إلى التواصل، وللتأكيد على أننا شعب واحد، واقترح أن ندوات كهذه ضرورية ومطلوبة. لذا هذه تحية لمن عمل على إقامة صالون الجولان، وهي ملاحظة للمعارضة لتلافي النقص في هذا الأمر. كما هي تحية لأهلنا الأعزاء في الجولان المحتل، المتمسكين بسوريتهم وهويتها، على الرغم من ظروف الاحتلال القاسية، بينما يعمل النظام بسياسة التهجير التي يتبعها، لسحبها من كل من طالب بالحرية والكرامة ودولة مواطنين أحرار ومتساوين، دولة ديمقراطية مدنية.
كشفت الحرب، بل الحروب، الجارية على الأرض السورية، المستمرة منذ ست سنوات، عن الأزمة العميقة التي تهز نظام العالم الذي ولد من حربين أوروبيتين، أو بالأحرى غربيتين، سمّيتا عالميتين، أنهتا عصر الحروب القاريّة، وكرّستا، في الوقت نفسه، السيطرة الغربية على العالم. فخلال العقود الستة، أو السبعة الماضية، تبدل وجه العالم، ونمت قوى كثيرة في القارات الثلاث الكبرى، وتطوّرت اقتصاداتها وقواها العسكرية ومشاركتها الدولية ونفوذها، بعد أن لم يكن يُحسب لها حساب، كما غيرت ثورة المعرفة والمعلوماتية نمط تفكير الأجيال وتطلعاتها، بينما حافظ نظام نهاية الحرب العالمية الثانية العالمي، المجسّد بمنظومة الأمم المتحدة، على نفسه كما كان.
وبمقدار ما عجز هذا النظام المتجمد، كما هو متوقع، عن ترجيع صدى التغييرات الكبيرة والحثيثة التي جرت في توزيع القوة، وتطور المصالح، وغطّى على التناقضات الوليدة والمتفاقمة، وأخفق في المساهمة في إيجاد الحلول الملائمة لها، كما هو متوقع من أي منظومةٍ سياسيةٍ قانونية، أوجد التربة المناسبة لانتشار الحروب والنزاعات الداخلية والإقليمية التي أصبح من الصعب السيطرة عليها. وفي أحيان كثيرة، كان هو نفسه المشجع على مثل هذه النزاعات والمغذي لها، من أجل تفريغ التناقضات المستعصية على الحل في حروبٍ جانبية، أو موازية، يمكن التحكّم بها، بل والاستفادة منها، لتخفيف الضغوط على النظام الدولي وتثبيته ودعمه.
ومن بين هذه الحروب حروب الشرق الأوسط الكثيرة، وجديدها الحرب السورية التي تكاد تقتفي أثر الحرب العراقية، وتتحول إلى فوهة بركان دائم الاشتعال، لخفض مستوى التوترات الإقليمية والدولية. لكن الحرب السورية التي تكثفت فيها، وتقاطعت أيضا، حروبٌ عديدة، إقليمية ودينية وقومية ومذهبية وعالمية، لم تكشف اختلالات النظام الدولي فحسب، ولكنها لعبت، ولا تزال، دورا كبيرا في تعميقها وتفجير تناقضاتها. يتجلى ذلك في الانقلاب الزاحف على نموذج العالم المنظم والمتضامن والعادل الذي وعدت به الدول المنتصرة البشرية، بعد الحرب العالمية الثانية، وحاولت أن تكرّس قواعده في مواثيق الأمم المتحدة الكونية والشاملة، وفي مدوّنة حقوق الإنسان، ومن العودة إلى تأكيد منطق القوة على حساب القانون، والتمييز العنصري على حساب المساواة، ومبدأ السيطرة بالقوة بدل الحرية، وبالتالي المخاطرة بالاستثمار في مزيد من الفوضى والعنف، بدل السعي إلى وضع مزيدٍ من الاتساق داخل النظام. كيف حصل ذلك؟
قران القومية والرأسمالية
كانت القومية والرأسمالية اللتان ازدهرتا في القرنين التاسع عشر والعشرين أكبر قوتين وحركتين وعقيدتين ونظامين ساهما، بعد النزعة الإنسانية للقرن السادس عشر، في توليد العالم الجديد، الحي والديناميكي، على أنقاض الماضي التقليدي، البطيء والجامد. وكان لهما الفضل في تحديثه، والوصول إلى ما نسميه اليوم الحداثة أو العالم الحديث. ومن دونهما، لا نعرف كيف كان سيكون عليه مصير العالم.
وبهذا المعنى، كانت القومية والرأسمالية تمثلان قوةً تقدميةً بالمعنى التاريخي الحديث الذي يمكن تلخيصه في توسيع دائرة سيطرة البشر على مصيرهم، وتحقيق أوسع هامش مبادرةٍ لهم في مواجهة قوانين الطبيعة الجائرة، أو نظامها الخارج عن إرادة البشر، وكذلك في توسيع دائرة سيطرة الفرد وهامش مبادرته أيضا داخل نظمٍ اجتماعيةٍ، بقيت هي نفسها جامدة، حبيسة التقاليد والقيم الثابتة والمقدسة العصية على التجديد قروناً طويلة.
أما اليوم فهما تمثلان القوتين الأكثر محافظةً ورجعيةً في تاريخ البشرية الحديثة، وتشكلان المصدر الأكبر للبربرية الزاحفة، وإعادة العالم إلى عصور عبودية من طراز جديد، تختلط فيها قيم الاحتقار والعنصرية والكراهية والتمييز بين البشر مع خطابٍ يتم تجويفه باستمرار، حتى يكاد يتحول إلى ورقة توت، عن الحقوق الإنسانية، الفردية والجماعية. وكلاهما تتحملان المسؤولية الرئيسية عن إنتاج الشروخ والتصدّعات المتزايدة التي يكاد من الصعب تصور إمكانية تجاوزها ووقف آلية تحطيم الإنسان في داخل النظم الاجتماعية الخاصة، وعلى مستوى النظام الدولي المتحكم بها. وبالتالي، تجنب خطر القضاء على مستقبل المدنية الحديثة التي نشأت في حجرهما. وتكاد الحالة السورية تمثل ذروة هذه البربرية التي أصبحت العدو الأول لهذا النظام الدولي، والضامن له في الوقت نفسه.
والسبب أن القومية التي ولّدت مفهوم الأمة، وما تضمنته من ثورة سياسية ومفاهيم في السيادة والحرية والمواطنة والمشاركة الديمقراطية، من خلال فرضها نموذج الدولة السيدة، وفصلها السلطة الزمنية عن السلطة الروحية، أي في الواقع تحطيم أساس الاستبداد القائم على تماهي السلطة المركزية للدولة والعقيدة أو الدوغما العقائدية، وتحديدها حقوق الدول والمجتمعات، ووضعها قواعد التعامل في ما بينها، بصرف النظر عن عقيدة الجماعات والأفراد التي تقطن تحت سقفها، أي بعد أن كانت الحاضنة لإنتاج أكثر تنظيمات المجتمعات الإنسانية تقدّما، بالمقارنة مع ما سبق من نظم إقطاعية أو ملكية أو سلطانية أو إمبرطورية، تحولت، وبشكل أشد فأشد، إلى إطارٍ لتقسيم العالم الذي وحّدت تطلعاته وطموح شعوبه بين قطبين: الأول مسيطر ومتحكّم بالقوة العسكرية والعلمية والتقنية والمالية، حر وقانوني، وقطب ثان يمثل معظم المجتمعات البشرية أو أكثريتها يعيش تابعا فقيرا مستلب الإرادة تجاه الخارج والداخل معا، لا أمل له ولا مستقبل. وهي تدفع به بشكلٍ أكبر اليوم نحو تجاوز الاستقطاب الثنائي إلى التشظي والتبعثر والانحلال.
والسبب أن القومية التي بنت الدولة الأمة التي خلقت شروط تحرير الفرد وتحويله من رعيةٍ إلى مواطنٍ مشاركٍ في تقرير مصيره الفردي والجماعي هي نفسها التي رسّخت سياسات الأنانية القومية، والاستهتار بمصير الدول والأمم الأخرى ومستقبلها، فبمقدار ما عمّقت الشعور بالمسؤولية لدى القادة المركزيين تجاه أمتهم وشعوبهم، حرمتهم من أي تعاطفٍ أو تفهم لمصالح الشعوب الأخرى، بل جرّدتهم من أي إحساسٍ بالمصائب التي تواجهها، أو المساعدة على حلها، وبرّرت لنفسها جميع المخططات والاستراتيجيات والحيل السياسية والقانونية والأخلاقية التي تشرعن نهب موارد الدول الأخرى والتحكم بمصيرها واستتباعها ووضعها في خدمتها.
وفي سبيل منع المجتمعات المنافسة من الدخول في دائرة الحداثة الفعلية والفعالة، عملت كل ما تستطيع لإجهاض نهضتها، والتفريق بين عناصر قوتها المادية والبشرية، في سبيل أن تحتفظ وحدها بالسيطرة العالمية وتضمن أطول فترة ممكنة تفوقها وهيمنتها، وتبعد عن نفسها أي منافسةٍ جدية. ولم تنجح في كسر قاعدة الهيمنة هذه إلا المجتمعات والشعوب الكبيرة والراسخة في الحضارة التي كانت من القوة والانتشار بحيث تملك هامش مناورة استراتيجية استثنائية، وتنتصر في امتحان القوة التاريخي الذي اتخذ في حضارةٍ كالصين شكل حرب تحرير طويلة دامت عقودا، أو بعض الشعوب التي وافتها ظروفٌ استثنائيةٌ ونجحت، بعد قرن من المناورات والحروب والنزاعات الداخلية والخارجية، في وضع أسس النهضة الحديثة، قبل أن تتحوّل هي نفسها أيضا إلى دول قومية إمبريالية. باختصار، إن الدولة الأمة التي حرّرت المجتمعات، في جزء كبير من المعمورة، ومكّنتها من تقرير مصيرها، والتعبير عن إرادتها، هي نفسها التي حلت عرى أكثر المجتمعات وفكّكتها عبر الاستعمار وبعده، وحكمت عليها بالدخول في أزمة فكرية وسياسية واقتصادية دائمة، وأدانتها بالبقاء في قفص الديكتاتورية والاستبداد والطغيان.
أما الرأسمالية التي فجرت طاقات الاقتصاد السياسي، من خلال تطوير روح المبادرة والاستثمار المنتج، وأطلقت في إثرها وأخصبت في حضنها ثورة تقنية وعلمية ومعلوماتية عالمية، فقد تحولت إلى أكبر عاملٍ في اجتياح الاقتصادات الأخرى، وإغلاق أفق التحول لدى الشعوب والمجتمعات التابعة، واستخدام ثرواتها البشرية والمادية من أجل دعم نموها الخاص وتقدم مجتمعاتها. وقد تحولت بشكل مضطرد إلى قوةٍ إمبريالية تتغذّى من المضاربات المالية والسياسية، فتضعف فرص الشعوب في بناء اقتصادات منتجةٍ، وتحرم أغلب سكان المعمورة من حقهم في التحرّر والسيادة والتنمية الطبيعية.
الزواج المثير بين القومية أو الدولة الأمة والرأسمالية ولد منذ ثلاثة قرون ظاهرة إمبريالية، أو نظام سيطرة عالمية متداخلة، غير مسبوق في قوته ووحشيته، في أي حقبةٍ، نظام عالمٍ على المستوى نفسه من الانقسام والتناقض والتبعثر والاستقطاب على كل المستويات، وفي كل الميادين. ولم يحصل أن وجد قبله عالم عرف مستوىً من الثراء والتقدم التقني والعلمي وتجمع القوة وتمركزها، وفي الوقت نفسه اتساع دائرة الفقر والبؤس وهشاشة شروط الحياة وفقدانها أي معنىً عند مليارات البشر، كما يحصل في عالمنا اليوم. وإذا لم تحصل معجزةٌ، واستمر التنافس من دون معايير ولا حدود، واستمر سعي الأمم كل لإنقاذ نفسها من دون سؤال عن مصير الكل العالمي، كما يحصل اليوم في الولايات المتحدة وروسيا، ويتجلى في سورية المدمرة، فلن يكون هناك مخرج آخر سوى الانتحار الجماعي، ودفع العالم إلى الجنون والانفجار. فالدينامية التي دفعت الأمم من منطلق المصلحة القومية والأنانية إلى التنافس ومراكمة الموارد والأرباح وتعزيز السيطرة على رأس المال، هي نفسها التي وقفت، منذ قرنين، ولا تزال تقف ضد أي مشروع إنساني جماعي، يهدف إلى مساعدة الدول الفقيرة والشعوب التي زعزع استقرارها وحطم توازناتها ودمر اقتصاداتها وقوّض مسار تقدمها الاستعمار قبل أن تحول دون بنائها القومي والرأسمالي الهيمنة الدولية أو تحول القومية والرأسمالية إلى إمبريالية عالمية. وتكاد هذه الدول الفقيرة مع تصميم القوى الأكبر على تركها تتخبط في أزماتها ونزاعاتها وحروبها الداخلية والبينية نتيجة بؤسها، تفقد أي أمل بالخروج من مأزقها وتأمين الموارد والخبرات والكفاءات، لتأهيل نفسها للحياة ضمن مجتمع الحداثة والتقدم التقني والعلمي.
سافر الإدلبيون كثيراً وتغربوا عن بلدهم بحثاً عن رزقهم؛ حاولوا إيجاد فرصاً جديدة تنهي عهد الاستبعاد والتهميش الذي فرضه نظام الأسد على مدى خمسين عاماً. خسر الكثير منهم فرص عمل ثمينة على الرغم من مؤهلاتهم العلمية وإتقانهم المهني وقدرتهم على تحمّل ساعاتٍ طويلةٍ من العمل، ذهب كلّ ذلك أدراج الرياح لتهمةِ بقرابةٍ أو صداقةِ أو علاقةٍ تربطهم بمطلوبين على خلفية ثورة الثمانينات.
مضت عقودٌ وهم على هذه الحالة، ليعود أكثرهم اليوم إلى بيوتهم وديارهم بعد تحريرها من عصابات الأسد، وتحوَلت إدلب لعاصمةٍ ثوريةٍ تجمع في أزقتها وبلداتها ضيوفاً هُجّروا إليها قسرا من المحافظات الأخرى، فترى الحارة الواحدة تجمع الحمصي والشرقي ابن البادية مع الدمشقي والحوراني ابن الجنوب، إضافة للجيران القادمين من حلب وحماة والساحل لتختلط فيها العائلات، وتشكّل بانوراما اجتماعيةً سوريةً ملونةً بكلّ العادات والتقاليد.
جاء إليها أهل حمص الذين كسبوا في بيئتهم طيب المعشر من طيب المناخ، فهم أهل الطيبة والكرم و ملاحة الطباع وجمال الشكل وعذب الحديث وتفوق الدراسة إضافةً للهجة المحببة، حتى أنّ طيب معشرهم جعلهم مضرب المثل لما يتمتّعون به من روح النكتة الطريفة والمرح الخفيف، ومعروفٌ عن أهل حمص نسجهم للطرائف التي تنتشر في عموم سوريا وبلاد الجوار.
كما فتح الإدلبيون بيوتهم وقلوبهم للمهجَرين من أهل الشام؛ الذين وصفهم الحجاج بقوله: “لايغرنّك صبرهم، ولا تستضعف قوتهم، فهم إن قاموا لنصرة رجل ما تركوه إلّا والتَاج على رأسه”.
كذلك هجّرت داعش الثوار من مناطق سيطرتها، ليجتمعوا جميعاً في المحافظة الخضراء، جاؤوا بمهنهم وأعمالهم وأصرّ الكثير منهم على ممارسة أعمالهم وحرفهم على أرض هذه المحافظة، ليشكّلوا مع أهلها مزيجاً متكاملاً، ويرمَموا النقص الّذي تعرضت البلدات له نتيجة القصف والقتل وتدمير البنية التحتية للمحافظة، بينما شعر البعض بالغربة، وفضّلوا الانسحاب للحدود التركية السورية، ومنهم من عبر الحدود تاركاً البلاد وما فيها بعد أن خسر كلّ شيء.
اختلطت المهن في الأسواق، واندمج الأطفال في الأزقة والحارات، كما اندمج المقاتلون على الجبهات، وكذلك النساء في جلساتهن الخاصة وينتج عن ذلك اندماج التجارب والعادات والأعراف، كما يتبادلن صنع الأكلات والمعجنات.
تكاد فرص العمل أن تكون قليلة إلا أنّ حُبّ البقاء جمع كلّ هؤلاء ليشكّلوا درعاً مقاوماً لنظام الأسد والميليشيات الأجنبية المقاتلة معه، ودرعاً منيعاً في وجه الانفصاليين الأكراد في الشمال، فتمنع تمددهم وسيطرتهم على أراض عربية جديدة.
يحرص الجميع على البقاء في إدلب رغم كلّ الدمار والفقر والتهديدات الداخلية والخارجية ورغم سياسة التضييق، وإغلاق الحدود ورغم تجفيف موارد الإغاثة القادمة من الشمال، لأن ضريبة الانسحاب أكبر بكثير من ضريبة البقاء والمحافظة على هذه البقعة الجغرافية من الاحتلال.
حكومة إيران لديها هدف واضح هو خلق واقع يناسبها على الأرض يفرض نفسه عند تقرير مصير سوريا، ويوسع دورها في العراق، لاحقاً. باتجاه هذا الهدف تقود الميليشيات العراقية، وغيرها التي أسستها، وأخرى لها نفوذ عليها في العراق، باتجاه سوريا، لتخوض معارك كبيرة للسيطرة على المعابر والممر البري إلى دمشق والمناطق الحيوية. هذا يعني أن الصراع سيطول لسنين أخرى، حيث ستدفع الدول الإقليمية إلى دعم جماعات مضادة، وسيعيد إنتاج «داعش» من جديد، وإفشال الحرب على الإرهاب.
في إدارة مشروعه يستخدم نظام طهران ذرائع مختلفة لتبرير مشروعه، أبرزها محاربة التنظيمات الإرهابية، وأنه سيقوم بحراسة حدود العراق، في حين أنه يقوم برسم مناطق سيطرته والتحكم في معابر الحدود مع سوريا، ويحاول فرض وجوده على معظم الثلاثمائة كيلومتر، ثم العبور بالميليشيات العراقية إلى أراضي سوريا.
وكان فيلق القدس الإيراني قد دخل سوريا لإنقاذ نظام الأسد من الانهيار في البداية تحت ذريعة حماية المزارات الدينية الشيعية. والآن يبني وجوده العسكري بحجة محاربة «داعش»، لكن في الحقيقة له مشروع طويل الأمد، وهو الهيمنة على العراق وسوريا ولبنان.
الحضور العسكري الإيراني على الأرض سيتمدد في حالة التوتر، وزيادة التطرف الطائفي في البلدين، وبالتأكيد إفشال مشروع التحالف بالقضاء على «داعش» الإرهابي، لأن التنظيم بوجود ممارسات الحشد الشعبي الطائفية سيجعل المناطق السنية تؤسس جماعات مضادة.
الاتجاه نحو الحدود يطرح جملة أسئلة حول جدية الحملة الدولية لمحاربة «داعش»، وسيفتح جبهات معارك مع المسلحين الأكراد الذين يمر الحشد بمناطقهم، ويجعل عبور تنظيم مسلح عراقي إلى دولة أخرى هي سوريا محل مساءلة قانونية، كما يحدث للقوات التركية في العراق.
إيران تحاول فرض أمر واقع على القوى الدولية، بما في ذلك حليفتها روسيا، بعد أن اشتمت رائحة تبدل جزئي في موقفها. وقد نسب للجانب الروسي قوله إنه مضطر إلى التعامل في المرحلة الحالية مع إيران وميليشياتها الأجنبية، لأنها موجودة على الأرض، وهذا ما تحاول طهران التأكيد عليه بنقل آلاف من المقاتلين العراقيين وغيرهم إلى شمال العراق والعبور إلى سوريا.
إيران بتحركاتها ستمزق العراق، وتزيد سوريا تمزيقا، وترفع من مخاطر الإرهاب المستفيد من الفوضى وصراع المحاور المتعددة. ولا يعقل أن تسعى الأطراف المعنية بالبحث عن حل سياسي في آستانة أو جنيف وتترك القيادات العسكرية الإيرانية تقوم بتخريب الوضع وإفشال الجهود الدولية. وهذا يتطلب تكثيف الضغط على إيران، ووضعها أمام ضرورة إخراج المقاتلين الأجانب جميعا.
بما أن الأنظمة العربية، وخاصة الجمهوريات أو الجملكيات، أممت كل شيء، وأخضعت كل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والحزبية والأهلية والاقتصادية والتربوية والفنية والفكرية للأمن السياسي، فلا عجب أن تقوم بإخضاع المؤسسة الدينية لسلطانها، بحيث تصبح تلك المؤسسة مجرد خادم ذليل لدى الحاكم ونظامه. لطالما سمعنا في الماضي عن وعاظ السلاطين، ولا ضير في ذلك، لكن التغول الأمني داخل المؤسسة الدينية في عصر الديكتاتوريات العربية تجاوز مرحلة وعاظ السلاطين بأشواط طويلة.
لقد غدت مؤسسة الإفتاء في العديد من الدول العربية أشبه بفروع المخابرات، وغدا العاملون فيها مجرد عناصر أمنية آخر ما يهمهم نشر الدين الحنيف وتوعية الناس أخلاقياً وروحياً. لقد أصبحوا بوقاً مفضوحاً للأجهزة الأمنية، وخاصة في بلد كسوريا، حيث يصعب التمييز بين الخطاب الأمني والإعلامي الرديء للنظام وبين خطاب المؤسسة الدينية، لا بل إن خطباء المساجد، وخاصة خطيب الجامع الأموي الشهير في دمشق، يزايد على فضائيات النظام التعبوية في خطبه الرديئة، فقد وصل به الأمر إلى تمجيد الرئيس الروسي بوتين الذي تقتل طائراته السوريين ليل نهار، كما وصفه بأنه أحد الفاتحين، مع العلم أن وزير الدفاع الروسي اعترف بأن الطائرات الروسية شنت أكثر من سبعة وسبعين ألف غارة جوية على المدن والقرى السورية، ناهيك عن أن روسيا اعترفت على الملأ بأنها استخدمت أكثر من مئتي نوع من الأسلحة الجديدة على الأرض السورية، بحيث تلوثت الأجواء والأراضي السورية بالمواد المشعة لمئات السنين، مع ذلك لم يتورع خطيب الجامع الأموي عن الإطناب في تمجيد الروس. حتى وسائل إعلام النظام تخجل من تمجيد الجيش الروسي ورئيسه بنفس الطريقة التي مجده فيها مأمون رحمة.
لماذا أوغلت الديكتاتوريات في تسييس المؤسسة الدينية، وحولت وظيفة المفتي وخطباء الجوامع إلى مجرد أبواق أمنية مفضوحة؟ أليس من المخجل أن قرار تعيين مفتي الجمهورية والخطباء وطبقة رجال الدين المعتمدة من قبل قسم الأمن السياسي في المخابرات السورية؟ أليس من المضحك أن تصل خطبة الجمعة للخطباء من فروع الأمن في سوريا وغير سوريا طبعاً؟ هل يخطب مأمون رحمة وأمثاله من الخطباء العرب من رؤوسهم، أم مما وصله من فرع الأمن السياسي؟ لاحظوا أيضاً أن منصب مفتي الجمهورية يصدر بمرسوم رئاسي… هل رأيتم مدى أهميته التعبوية والدعائية بالنسبة للأنظمة الديكتاتورية؟ لا عجب إذاً أن المفتي وشلته يلقون علينــا خطبــاً عن عدل سيدنا عمر بن الخطاب ،وفي نهـــاية الخطبة يدعون لحـاكم قاتل مجرم لص يسرق قوت الشـــعوب ويشردها ويقتلها بالملايين.
وبما أن وظيفة المفتي في الديكتاتوريات العسكرية وظيفة أمنية وسياسية بالدرجة الأولى، فإن كل نظام يختار المفتي الذي يعبر عن توجهاته ومنطلقاته السياسية والحزبية والعقائدية، فإذا كان النظام يدّعي العلمانية والانفلات الاجتماعي مثلاً كالنظام السوري، فيقوم بتعيين «مفتن» مستعد أن يمشي في الشارع عارياً بحجة أن لا إكراه في الدين، ومستعد أيضاً أن يحلل الخمر والفاحشة بحجة أن «لكم دينكم ولي دين». وقد شاهدناه ذات مرة وهو يتشدق أمام وفد أمريكي في دمشق بليبراليته الإسلامية الصارخة، حيث قال حرفياً: «لو طلب مني نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن أكفر بالمسيحية أو اليهودية لكفرت بمحمد». وهي بلا شك رسائل سياسية من النظام للأمريكيين لا علاقة للمفتي الدجال بها أبداً، بل هو مجرد بوق يوصل رسائل سيده الدينية للغرب كي يرضى عنه ويعتبره متحرراً دينياً. ومعروف أنه كلما انقلب النظام على الدين لاقى تأييداً واحتضاناً غربياً أكثر. لهذا وضع على رأس المؤسسة الدينية مهرجين مستعدين أن يحللوا له كل شيء لإفراغ الدين من مضمونه وتوجيهه لخدمة الأهداف السياسية الدنيئة.
وإذا كان بعض الأنظمة العربية يريد أن يوهم الناس بأنه ملتزم جداً بالدين، وأن كل شيء في البلد يسير حسب التعاليم والقوانين الدينية فيقوم بتعيين «مفتي» يحرّم حتى الاستماع إلى زقزقة العصافير بحجة أنها حرام. وإذا كان النظام يدّعي التعايش ومحاربة الطائفية فيقوم بتعيين «مفتي» يحرّم حتى الحديث عن أي طائفة أو مذهب إسلامي آخر بحجة أن ذلك يثير الفتنة بين المذاهب والطوائف، مع العلم أن النظام نفسه يكون غارقاً في الطائفية والمذهبية حتى أذنيه، لهذا يتحجج بضرورة التعايش بين المذاهب والطوائف لا كي يسود الوئام بين الشعب، بل كي يحمي طائفته ونفسه من أتباع المذهب العام الذين يعاديهم في الباطن.
هل إذاً المفتي ورجال الدين في الديكتاتوريات العربية صوت الدين فعلاً، أم سوط المخابرات؟
بعد عقود على رأس السياسة الروسية، لا يمكن لفلاديمير بوتين أن يكون شخصية غير معروفة القدرات والإمكانات على الأقل فيما يتعلق باهتمامات المختصين في السياسة الغربية. ومن أهم التساؤلات التي ينبغي عليهم طرحها يدور حول: إلى أي مدى ووفق أي قوة يمكن دفع السيد بوتين للالتزام بحدود السلوك المقبول لديهم.
فتحت زيارة بوتين القصيرة إلى فرنسا خلال هذا الأسبوع، وبالتحديد إلى قصر فرساي، المجال لطرح هذا التساؤل بطريقة أكثر هدوءاً وتعقلاً.
وحقيقة أن السيد بوتين تقبل الدعوة لزيارة موجزة من الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون عكست رغبة الزعيم الروسي المتقدة لمحاولة «إعادة» الدخول إلى ما يعرف بدائرة القوى العظمى العالمية. وبعد استبعاد روسيا من مجموعة دول الثماني، كان السيد بوتين شديد الحرص على التقاط صورة «ما» تعكس ولو «ثُلمة» صغيرة في جدار العزلة الدولية المفروض عليه.
وبعد ذلك، كان من بين المواضيع التي طرحها السيد بوتين في قصر فرساي هو أمله في أن يعتبر المختصون الغربيون روسيا العصر الحاضر كما هي عليه، وليست كمثل ما كان الاتحاد السوفياتي البائد من قبل.
وكانت ذريعة زيارة قصر فرساي هي الذكرى الثلاثمائة لزيارة بطرس الأكبر القيصر الروسي الخامس ومؤسس روسيا الحديثة إلى فرنسا. وكان القيصر بطرس هو مؤسس ما يسمى المدرسة «التغريبية» الفكرية - اعتناق الثقافة الغربية، وهي من مدارس الفكر القومي الروسي والتي يدور طرح مثقفيها حول اعتبار أن روسيا جزء من القارة الأوروبية، وأنه ينبغي عليها تحرير ذاتها من وحشية التراث الآسيوي العقيمة.
رغب القيصر بطرس الأكبر في أن تتبنى بلاده العلوم الحديثة، ونظم التعليم المتقدمة، والذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك بدعوة «البويار - أفراد النخبة الأرستقراطية الإقطاعية من نبلاء روسيا» إلى حلق لحاهم الكثيفة، ودعوة «الموزيك – الفلاحين والمزارعين الروس» إلى ارتداء الملابس الأوروبية التقليدية. وخلال مدة زيارته إلى فرنسا التي استغرقت 12 أسبوعاً، استأجر القيصر الروسي مجموعة من الفرنسيين، وغيرهم من الأوروبيين، من المعلمين، والمؤرخين، والفنانين، والمهندسين، والمعماريين، والإداريين لمرافقته إلى روسيا ومساعدته في تحويلها إلى أمة حديثة على غرار أوروبا وبلدانها. وكان مطلوباً من هؤلاء الموظفين أن يحولوا مدينة بتروغراد، والتي هي سان بطرسبرغ اليوم، إلى مدنية على الطراز الإيطالي، وإعادة تصميم العاصمة موسكو لتكون كمثل المدن الفرنسية الحديثة في ذلك الوقت.
عارض السلافيون جهود التغريب المحمومة التي كانت يقودها القيصر بطرس الأكبر في البلاد، وكان السلافيون يعتقدون أن لروسيا شخصيتها المميزة وروحها الأصيلة ومن ثم ينبغي عليها الوفاء بمصيرها الواضح من خلال توسيع الإمبراطورية الروسية ونشر نسختها الخاصة من الديانة المسيحية.
حاول السيد بوتين، خلال حياته المهنية في المضمار السياسي، أن يلعب على كلا الوترين، فلقد كان متطلعاً للغرب في بعض الأحيان، وسلافياً محضاً في أحيان أخرى. ولكن في قصر فرساي، كانت الإشادة المضطرمة بالقيصر بطرس الأكبر قولاً والتماهي مع الدور الغربي لسيد الكرملين فعلاً.
وكانت الرسالة الاستثنائية التي أراد بوتين أن يبعث بها تدور حول الفتوحات الروسية الأخيرة في كل من جورجيا وأوكرانيا، وأنه لا ينبغي على الغرب النظر إليها من زاوية محاولة أوسع لإعادة إحياء الإمبراطورية السوفياتية التي عفى عليها الزمن. وخلال المؤتمر الصحافي المشترك الذي جمعه بالرئيس الفرنسي في قصر فرساي، تخلى السيد بوتين عن روتينه القومي المعتاد ووصف الغرض الأوْلى من مهام السياسة بمحاولة تحسين حياة الشعوب.
وكان غرضه هو طمأنة الفئات الوسطى من المجتمع الروسي والتي تأثرت للغاية جراء العقوبات الاقتصادية الدولية، وانخفاض أسعار النفط العالمية، والتدهور العام في الاقتصاد الروسي منذ عام 2012.
ثم حاول الرئيس الروسي تغيير مسار الحوار من خلال طرح قضايا مثل الأزمة السورية والأوكرانية باعتبارها من بعض البنود المدرجة على جدول الأعمال العالمي المثقل بكثير من المشاكل والأزمات. ولقد دندن حيناً ورقص حيناً حول تيمة مكافحة الإرهاب، وهي من التيمات التي يعلم جيداً أنها تجذب على الدوام المزيد من الانتباه في الغرب، ومن ثم تحدث عنها عارضاً المساعدة والتعاون الروسي الأكيد. ومن الواضح بجلاء حرص السيد بوتين على إظهار «إعادة» ربط روسيا بدوائر الدول العالمية الكبرى حتى ولو بالحد الأدنى من الوسائل على أقل تقدير، ثم تقبل بوتين على الفور اقتراح السيد ماكرون بإقامة مجموعة عمل مشتركة لوضع استراتيجيات مكافحة الإرهاب.
وإجمالاً للقول، كان بوتين الذي رأيناه في قصر فرساي هذا الأسبوع يبدو أقل تحدياً، وأكثر قابلية لخوض غمار اللعبة الدولية وفقاً لبعض قواعدها المتعارف عليها. ومن المؤكد، أن هذا لا يمكن أن يكون سوى موقف مؤقت متخذ في لحظة صعبة.
لقد وضع بوتين بلاده على مسار شديد الاضطراب. ولكن الهدف ينبغي أن يكون العودة بروسيا من هذا المسار المضطرب.
وإن كان السيد بوتين مستعداً لفتح نافذة جديدة من الفرص السانحة فلن يكون من الحكمة بحال أن نُغلق هذه النافذة في وجهه. غير أن هذا لا يعني دعوة الرجل إلى مائدة متنوعة من التنازلات تماماً كما صنع الرئيس باراك أوباما عبر سياسة «إعادة تعيين العلاقات» الطفولية.
كان السيد بوتين محقاً في إشارته إلى أن روسيا اليوم ليست هي الاتحاد السوفياتي السابق. حيث كان الاتحاد السوفياتي عدواً مباشراً للديمقراطيات الغربية، في حين أن روسيا اليوم في أسوأ حالاتها مع الغرب ليست إلا خصماً من الخصوم.
ووفقا إلى المصادر الفرنسية المطلعة، صدر عن السيد بوتين في قصر فرساي مجموعة من التلميحات المثيرة للحيرة. فعند حديثه عن سوريا عطف على ذكر الرئيس بشار الأسد، الدمية التي تتلاعب بها طهران وموسكو سعياً وراء تحقيق غايات خاصة. بدلا من ذلك، أصر السيد بوتين على أن أي تسوية بشأن الأزمة السورية لا ينبغي أن تكون على حساب الإطاحة بمؤسسات الدولة. وهذا من الأمور التي سوف تجد القوى الغربية، وجموع الشعب السوري، صعوبة ليست بالبالغة في قبوله.
ومع استبعاد بضع مئات من الأشخاص المتورطين بشكل مباشر في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، فلا يوجد سبب يمنع البقية المتبقية من موظفي الدولة السورية في أن يكون لهم مكان في مستقبل سوريا الحرة.
ويأتي الموقف الجديد للسيد بوتين على خلفية الانخفاض الحاد في النشاط العسكري الروسي في سوريا. ولقد أعلن بشار الأسد ووزير خارجيته وليد المعلم في الشهر الماضي عن عملية عسكرية على غرار عملية حلب، ولكنها موجهة هذه المرة نحو محافظة إدلب مع القوات الجوية الروسية التي سوف تشن عمليات القصف الضخمة والمروعة. غير أن هذا لم يحدث. كما ابتلعت روسيا، مرغمة، هجومين شنتهما القوات الأميركية على مواقع ووحدات تابعة لقوات بشار الأسد من دون أن تحاول الرد بأي صورة من الصور. وصار السيد بوتين الآن يستخدم مصطلح «عدم التصعيد» حيال كل من الأزمات في سوريا وأوكرانيا.
وربما يحاول السيد بوتين شراء بعض الوقت لغرض ما أو هو يحاول تقسيم خصومه.
ولكنه قد يعكس حقيقة مفادها أنه صار يتعلم من تجاربه وأن السياسات الإمبريالية القديمة قد عادت بالهزيمة على نفسها في نهاية المطاف. ولا ينبغي رفض موقفه المتخذ أخيراً، ولا يجب تعريضه للاختبار كذلك، فإن تحقق أنه يريد العودة إلى المجتمع الدولي مرة أخرى، فلا غرو من مساعدته على القيام بذلك.
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خروج بلاده من اتفاقية باريس للمناخ التي وقعها سلفه باراك أوباما عام 2015. الاتفاقية كانت علامة فارقة على أن البشرية قرّرت (أن تحاول) الخروج من طريق الفناء الذي بدأت بسلوكه منذ دخول أوروبا العصر الصناعيّ وصولاً إلى هذه المرحلة التي شمل التلوّث التربة والبحار والأنهار والهواء، وأدّى تراكم الغازات الصناعية إلى التأثير على الغلاف الجوّي المحيط بالأرض مما ساهم بدوره في احترار متزايد للكرة الأرضية مع كل العناصر المرتبطة بهذا الاحترار من قحط وجفاف وتصحّر وذوبان الثلوج وارتفاع مدّ البحر، وهذه كلها عوامل لا يمكن مقارنتها بما يمكن أن يحصل من مخاطر في العقود المقبلة من غرق بلدان وجزر وانقراض حيوانات ونباتات وارتفاع لدرجة حرارة الأرض ما يجعلها مكانا غير صالح للحياة.
حسب وسائل الإعلام الأمريكية فإن ترامب اتخذ القرار بـ»الغريزة»، بعد أن كان يعلن، منذ حملته الانتخابية للرئاسة، كرهه للاتفاقية ويصفها بأنها «صفقة سيئة» تضرّ العمال الأمريكيين، وبعد أن استمع إلى نقاشات شارك فيها مستشاره للشؤون الاستراتيجية ستيفن بانون (المدافع الشرس عن قرار حظر المسلمين والمعجب بروسيا)، وبدعم من نوّاب للحزب الجمهوري تدعمهم شركات النفط والغاز والفحم.
القرار، حسب ترامب، يستند إلى شعاريه الأثيرين: «أمريكا أولا» و»لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً»، غير أن الشعارين مضلّلان بأكثر من طريقة.
الأكيد في شعار «أمريكا أوّلا» أن سحب حصّة أمريكا من دعم الاتفاقية سيضرّ حقّاً بباقي بلدان العالم، وسيؤدي إلى معاناة هائلة للبلدان التي تعيش «على الخط الأمامي للتغير المناخي» حيث سيقلص موارد المياه وهطول الأمطار ويؤثر على الإنتاج الزراعي ومصائد الأسماك ويساهم في سوء التغذية والأمراض المعدية والسيول وأسعار الغذاء، ولكنّه، بالقدر نفسه، سيضرّ البيئة الأمريكية وصناعاتها الأكثر تفوقاً في العالم، في مجالات الإبداع كافّة، التكنولوجية والرقمية والاقتصادية والغذائية، وكان هذا واضحاً من خلال اتصال رئيسي شركتي أبّل للإلكترونيات وتيسلا لصناعة السيارات الكهربائية بترامب ومحاولة إثنائه عن قراره، وفي الغضب العارم الذي اجتاح الكثير من الشركات والقطاعات الاقتصادية في أمريكا نتيجة هذا الانسحاب.
ما قام به ترامب لا يتعلّق بـ»أمريكا أولا» بل بالجزء العنصري والجشع والمتغطرس فيها، بحيث يهتمّ بمصالحه اليوم والآن ولو كان ذلك على حساب أولاده وأحفاده، وهو بالتالي ليس ضد العالم فحسب بل ضد أمريكا ذاتها.
تحليل ردود الفعل الدولية يبيّن وجود تقارب بين كتلتين اقتصاديتين هائلتين، هما الاتحاد الأوروبي والصين، وابتعاد الولايات المتحدة الأمريكية التي صارت، إضافة إلى نظام سوريا الكيميائي، ودولة نيكاراغوا الصغيرة في أمريكا اللاتينية، هي ثالث دول العالم التي لم ترفض اتفاقية باريس.
يلفت النظر هنا، أن روسيا، بلسان رئيسها فلاديمير بوتين، لم تنتقد قرار الرئيس الأمريكي، وهو ما يضيف بعدا «مناخياً» إلى العلاقة السياسية غير المسبوقة بينهما، والتي تبادل فيها الرئيسان الإعجاب أكثر من مرّة، ولا تنفك تزداد كل يوم الأخبار المربكة التي تربط بين بطانة ترامب الخاصة مع سيّد الكرملين، وتتأكد الأنباء أن الروس ساعدوا ترامب في الحصول على منصبه الرئاسي، وهو أمر لا يجد تفسيراً، على ابتعاد المنظومتين السياسيتين للبلدين، غير التقارب الفكري في النظرة إلى شؤون إدارة العالم.
التقارب «المناخي» بين روسيا وأمريكا، وبين الصين وأوروبا، يقدّم مفاتيح جديدة لفهم اتجاهات العالم لكن اللغز الكبير فيه هو: ما هو موقع العالم الإسلامي؟
ثمة دعوة إلى إصلاح «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» تدور في أوساط المعارضة السورية أطلقها أعضاء حاليون أو سابقون فيه على خلفية حالة الترهل التي بلغها والمطالبة بالخروج منها من دون ظهور ضوء في نهاية النفق على رغم مرور مدة زمنية كافية لذلك.
لم وأين المشكلة؟
أولاً، لم تنجح الدعوة في استقطاب قوى اجتماعية وسياسية مؤثرة لاعتبارات كثيرة وخطيرة أولها حالة الشقاق والانقسام داخل صفوف المعارضة وحواضن الثورة التي ترتبت على استبدال «الائتلاف» بـ «المجلس الوطني السوري» ودوافع القوى الإقليمية والدولية التي عملت على تشكيله ورعت ولادته.
ثانياً، حالة انعدام الثقة بـ «الائتلاف» وبالشخصيات التي تسلمت قيادته، ومنها أصحاب دعوة الإصلاح بخاصة، المنتشرة بين أوساط حواضن الثورة والتي ترتبت ليس على الفشل في إدارة الصراع من قبل «الائتلاف» ومؤسساته فقط، بل على الأمراض الذاتية التي عكستها سلوكياتهم من جهة، وانحيازهم خلال ممارستهم أدوارهم للاعتبارات والمصالح الخاصة (هروب معظمهم من ساحة المواجهة عند شعورهم باحتمال تعرضهم للخطر وقبولهم العيش خارج سورية، العمل بشروط مريحة، الترف، البذخ، النجومية، وما تفرضه من تنازلات وخضوع للجهة الممولة والراعية، الارتجال ورد الفعل، العجز عن العمل الجماعي المنظم والمدروس) من جهة ثانية، حيث لم تشاهد حواضن الثورة أياً من تلك الشخصيات، إلا على شاشات التلفاز وفي قاعات الفنادق الفاخرة، لم تلتق بهم لا في مخيمات اللجوء ولا في الأراضي المحررة. إنها هوة واسعة وشرخ عميق بين واقعين: الشعب السوري بعامة وحواضن الثورة بخاصة (حيث مواجهة القتل والدمار والتشرد والجوع والبرد واللجوء والموت غرقاً)، وشخصيات وقوى سياسية، يفترض أنها تقدمت لتمثيلهم وقيادتهم من أجل تحقيق مطالبهم، تعيش في «فقاعة» رفاهية خمسة نجوم خارج البلاد وعلى الضد من معاناة العباد.
ثالثاً، عدم الثقة بأهلية أصحاب دعوة الإصلاح للقيام بهذه المهمة الحيوية والخطيرة والشك في منطقية المراهنة على وعودهم في ضوء التجربة المرة معهم عملاً بالمثل الشعبي «اللي يجرب المجرب عقلو مخرب».
رابعاً، تقدير الحواضن الشعبية لدوافع الدعوة وارتباطها بدواعٍ ذاتية (الهرب من مركب يغرق، تبرئة الذات والهروب من المسؤولية عن الفشل في إدارة الصراع والتسبب بهدر الإمكانيات والتضحيات، الادعاء بالتميز والقدرة على اجتراح المعجزات) وبمستدعيات الصراع على سورية بين دول «أصدقاء» الشعب السوري، إذ ولّد التنافس على الإمساك بالورقة السورية صراعاً على الإمساك بالمعارضة السورية وزجها في سجالات وحروب سياسية وعسكرية بالوكالة.
خامساً، وهو الأخطر، ارتباط نجاح عملية الإصلاح بحالة الثورة في شكل عام وبالتقديرات لطبيعة النهاية المنتظرة للصراع في سورية وعليها بشكل خاص. فالمشهد العام يشي بسلبيات كبيرة (تصدر الصراع على سورية المسرح، تبعية قوى الثورة والمعارضة للدول الداعمة، انخراطها في صراعات وحروب بالوكالة، قتل ودمار، خسائر ميدانية، فوضى، انكسار معنويات الثوار وخضوع لمستدعيات اللحظة بسبب غياب الأمل بنجاح الثورة في تحقيق أبسط مطالبها والذي جسدته حالات انتقال ثوار للقتال في صفوف ميليشيات النظام وحلفائه بعد أن قاتلوه لسنين). والتقديرات السياسية تنذر بكوارث كبيرة وخطيرة قادمة تحت تأثير انفجار الصراعات الدينية والمذهبية من جهة، وانخراط قوى ودول في الصراع على سورية وفرض خططها وأجنداتها على الصراع في سورية الذي أطلقته الثورة ضد نظام مستبد وفاسد من جهة ثانية.
تقتضي عملية إصلاح «الائتلاف»، إن كان ثمة إمكانٌ لإصلاحه، إعادة نظر في منطق التعاطي مع المشكلة والتدقيق في سلم الأولويات، بدءا من التفكير في أسباب انكسار الثورة وتراجع الأمل في تحقيق أهدافها إلى مواجهة الذات وتحدي حالة الرضا الخادعة عنها وتحديد المسؤوليات والاعتذار عن الأخطاء والممارسات السابقة التي قادت إلى كثير من السلبيات والنتائج المدمرة مروراً بوضع تصور منطقي وعملي لإخراج الثورة من عنق الزجاجة كمدخل لإصلاح «الائتلاف» ومؤسسات الثورة الأخرى. فالجدوى مرتبطة، وجوداً وعدماً، بإمكان إحياء الثورة وإطلاق مفاعيلها وتحقيق إجماع على أهدافها ومستدعياتها.
في هذا الشهر من العام 2014 وبعد سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على محافظة نينوى العراقية وإعلانها ولاية قام عناصره بإزالة السواتر الترابية على الحدود العراقية ـ السورية ونشر على حساب أخبار ولاية البركة (الحسكة السورية) على موقع «تويتر» صورا لعملية إزالة السواتر وعبور آليات عسكرية تابعة للتنظيم معلنا أنه «ستبقى الشام والعراق ساحة واحدة ولن تفصل بينهما حدود» ومتوعداً بـ»مسح الحدود من الخريطة»، وفي أيار/مايو 2016 قبل خمسة أشهر من الذكرى المئوية للاتفاقية البريطانية ـ الفرنسية الشهيرة باسم وزيري خارجيتي البلدين آنذاك سايكس ـ بيكو تباهى التنظيم المذكور بالقضاء على الاتفاقية المذكورة.
وكما طبع التنظيم حدث كسر الحدود بين البلدين بطابع طائفي بإعلانه حينها بأن «الدولة الإسلامية» أرسلت «مجاهديها إلى الشام لقتال النصيرية (العلويين) لكنها لم تترك قتال الروافض (الشيعة) في العراق» فإن الميليشيات العراقية الموالية لإيران عزفت على الأسطوانة الطائفية نفسها فأعلنت عن تأسيس «جيش المؤمل في العراق والشام» في مثل هذا الشهر من العام الماضي، للقتال في العراق وسوريا «دفاعاً عن المقدسات الشيعية»، وانضافت إليها ميليشيات أخرى كـ»لواء أبو الفضل العباس» و»لواء ذو الفقار» و»كتائب حزب الله ـ العراق»، ومن داخل سوريا شهدنا تقدّم «حزب الله» اللبناني وميليشيات عراقية تقاتل داخل سوريا باتجاه الحدود السورية العراقية بحيث يلتقي الطرفان ويصنعان «وحدة عراقية -سورية» ولكن… تحت راية إيران!
الافتراق الطائفي والمذهبي بين «الدولة الإسلامية» والميليشيات الموالية لإيران لا يمنع رؤية التشابه في «المنطلقات النظرية» الطائفية التي تجمعهما، والتي تجعل كل منهما صورة مقلوبة للآخر، وكونهما ضرورة وجودية ولازمة لكل طرف منهما، وكذلك الأحلام التي يسعى الطرفان إليها.
يتجلى هذا في حلم تنظيم «الدولة» بالخلافة الإسلامية التي بدأها باحتلال أجزاء كبيرة من بلاد دولتي العباسيين والأمويين، ولكنه وصل لنهاياته وانسداد آفاقه تحت ضربات «التحالف الدولي» وهجمات «الحشد الشعبي» وقوّات الجيش والشرطة والقوات الخاصة العراقية، وهو ما فتح الباب لأحلام الميليشيات الشيعية في المنطقة بتأسيس خلافة فاطميّة جديدة تبدأ في طهران وتمر ببغداد ودمشق وتنتهي (أو لا تنتهي) ببيروت.
ووردت أنباء أمس أن «الحشد الشعبي» وصل إلى بعض القرى في ريف محافظة الحسكة السورية (ثم تردّد أن من استولوا على القرى هي قوّات إيزيدية عراقية على علاقة بالحشد)، ويبدو أن مزيداً من هذه الأخبار سيتوالى في الأيام المقبلة كدليل على التوتّر الإقليمي الكبير الناشئ عن خطط الميليشيات العراقية المذكورة.
الإيرانيون، على ما يبدو، متحمّسون لهذا الحلم الكبير وقد حشدوا حشودهم من ضفتي الحدود العراقية ـ السورية، وهو أمر يصبّ الزيت على نار الصراعات الإقليمية والمحلّية المشتعلة، ويثير القلق في الجوار القريب، وخصوصاً في تركيا والأردن، ولدى الأطراف المتصارعة والإثنيات والطوائف والجماعات، كما القوى الكبرى التي تراقب تحوّل الانتصار (وهو انتصار مؤقت لأن عوامل الأزمة ما زالت موجودة) على تنظيم «الدولة» إلى اندياح كبير للميليشيات الموالية لإيران في محاولة لتغيير كبير في معالم المنطقة السياسية.
مفارقة كبيرة أن يكون البلدان اللذان حكمهما حزب البعث العربي الاشتراكي بشعارات الوحدة العربية والأمة ذات الرسالة الخالدة لم يتمكن من توحيدهما وأن «تبعث» ظلاماته وقهره وخساراته العسكرية ومغامراته حلم الوحدة مرة على يد غلاة السنّة ومرّة على يد غلاة الشيعة وأن يكون الحصاد الأخير لصالح أمّة أخرى!