بعد قمم الرياض التي وضعت إيران في مكانها الحقيقي دولة راعية للإرهاب بات واضحا بالنسبة للإيرانيين أن الأوضاع الإقليمية والدولية لا تشجع على ظهورهم العلني قوة إقليمية منافسة لقوتي الردع الأميركية والروسية.
وهو ما دفعهم إلى إعادة النظر في خططهم للحفاظ على مصالحهم السياسية التي لا تخفي طابعها الطائفي، بل تظهره أكثر مما يتحمل الواقع.
ذلك لأن ما حققته إيران من اختراقات في المنطقة خلال العقود الثلاثة الماضية انتهى إلى قيام ميليشيات خارجة على القـانون بسلاحها مـثل حزب الله اللبناني من غير أن يؤدي إلى بناء كيانات سياسية يمكن التعويل عليها مستقلا.
لا تزال تلك الميليشيات تعتاشُ على ما توفره لها طهران من أسباب حياة وقوة، وهو ما يعني أنها ستواجه مصيرها مفلسة وخاوية إذا ما انقطعت عنها سبل التمويل الإيراني المبـاشر.
وكمـا يبدو فإن نظام الملالي في طهران لم يخطط في المراحل السابقة إلا لإنشاء قوى تابعة له، تكون بمثابة أدواته لنشر الفوضى في العالم العربي، يلجأ إلى تحريكها حين يضيق بأزماته الداخلية أو حين يتعرض لضغوط خارجية.
وكما عبر مسؤولون في النظام الإيراني فإن تلك الجماعات الملحقة بالحرس الثوري هي الأذرع التي تقاتل إيران بها الآخرين.
الأمر الذي يقود إلى حقيقة أن الإمبراطورية الفارسية التي تدين بالولاء للولي الفقيه هي أشبه بالأخطبوط. إيران هي الجسد أما الجماعات الموالية فما هي إلا أذرع ميتة لا تدبُّ الحياة فيها إلا حين يحتاج ذلك الجسد للدفاع عن نفسه.
وهكذا يكون النظام الإيراني قد نجح في مرحلة سابقة في إقامة منظومته الدفاعية على حساب إمكانية أن تقوم حياة طبيعية في جزء مهم من العالم العربي، وهو الجزء الذي صار موضع اشتباك دولي، حاولت إيران أن تجد لها موقعا فيه من غير أن تحقق نتائج مؤكدة.
اليوم تشعر إيران جديا بأن أذرعها مهددة بالقطع. وهو ما يجعلها تستعد للبدء في تنفيذ خطة تتيح لها الاستمرار قوة إقليمية، لكن من خلال وصل ما يمكن أن ينقطع من خطوط بين جماعاتها المسلحة في المنطقة، بعضها بالبعض الآخر وهو ما يمكن أن نفهمه من تصريح أحد مسؤولي الحرس الثوري من أنهم يستعدون لاستعمال ميليشيات الحشد الشعبي العراقية في مهمات قتالية خارج العراق.
ما هو ملحّ ومصيري في هذه المرحلة أن يتم تأمين طريق بغداد – دمشق، أما طريق دمشق – بيروت فقد تم تأمينها عبر سنوات الحرب الماضية من خلال إطلاق يد حزب الله للإمساك بالأرض بعد معارك اتسم بعضها بسياسة الأرض المحروقة.
تقضي الخطة الإيرانية أن يكمل الحشد الشعبي اليوم ما بدأ به حزب الله بالأمس. وهي خطة ولدت ميتة كما يُقال. ذلك لأن أي قوة محلية مهما أوتيت من قدرات لا يمكنها أن تضع يدها على الطريق التي تصل الحدود العراقية بالعاصمة السورية.
فكيف إذا كانت تلك القوة ميليشيا كان قد جرى تلفيقها لأسباب طائفية انهارت فيه مقومات الوعي الوطني.
هذا من جهة ومـن جهة أخـرى فإن المنطقة التي تخترقها تلك الطريق تشهد سباقا محموما بين قوى كبرى، صارت تستشعر الخطر الذي يمثله استمرار الميليشيات التابعة لإيران في تلقي الدعم المادي من إيران، فمن خلال تلك الميليشيات لا يمكن الحديث عن مسألة تحجيم إيران واحتـوائها وإنهـاء دورهـا الضار في المنطقة.
بناء على تلك المعطيات فإن الطريق إلى دمشق لن تكون سالكة أمام أي قوة تدفع بها إيران في مغامرة خاسرة. فالحرب هنـاك ليست نـزهة، كما أن الحشد الشعبي الذي يعرف العسكريون الإيرانيون مدى هزاله أكثر من غيرهم، إنما يتألف من عاطلين عن العمل أجبرتهم ظروفهـم المعيشيـة على الالتحـاق بالميليشيات الطائفية فهم ليسوا سوى جنود شطرنج.
قد يقاوم حزب الله نهايته بعض الوقت إذا ما أغلقت أمامه أبواب التمويل الإيراني. في تلك الأثناء سيكون كل شيء في طهران قد عاد إلى الصفر.
فنهاية حزب الله تعني انطفاء الحلم الإيراني في إخضاع المنطقة لمزاج الولي الفقيه.
الصراع على الحدود الشرقية والشمالية لسورية اختبار صعب لجميع المتصارعين في هذا البلد. إنه امتحان أول لسياسة الرئيس دونالد ترامب في الشرق الأوسط. وامتحان أيضاً لقدرة الرئيس فلاديمير بوتين على تسويق مشروعه للتسوية أو التهدئة أقله في الظروف الحالية. ويشكل مفترق طرق لسياسات اللاعبين الآخرين. من إيران وتركيا إلى إسرائيل والأردن وقوى عربية أخرى قريبة وبعيدة، فضلاً عن الكرد عموماً. الدينامية التي رفعت وتيرة هذه الحرب انطلاقُ السباق المحموم لوراثة تركة «داعش»، مع اقتراب هزيمته في الموصل وبعدها في الرقة. وكذلك قرار أطراف لقاءات آستانة إقامة «مناطق خفض التوتر»، أو «مناطق آمنة». فقد فتح القرار شهية جميع المتصارعين على تقاسم خريطة بلاد الشام، في غياب أي تفاهم بين الكبار. وهناك أيضاً قرار قمم الرياض الثلاث بمواجهة التمدد الإيراني في الأقليم. وهو قرار يسير بالتوازي مع الحرب على الإرهاب، بعدما ساوت واشنطن بين الجمهورية الإسلامية والتنظيمات «الجهادية». وكلها تطورات لا تبشر بقرب تسوية سياسية بقدر ما تضيف مزيداً من الزيت والتعقيدات إلى الحروب المستعرة والمستنقع المفتوح. وتوسع دائرة الترابط بين أزمات المشرق، من حدود العراق الشرقية إلى شاطىء المتوسط. وقد تكرس تقسيماً غير معلن لبلاد الشام لا يقف عند حدودها وحدها. وهو ما تخوف منه سيد الكرملين.
كرست قمم الرياض الثلاث رغبة واشنطن وحلفائها التقليديين في جمع خصوم دمشق وطهران في حلف واحد جديد لاجتثاث الإرهاب ومصادر تمويله، ومواجهة الهلال الإيراني وكسره. ولا أحد يجهل أن السيطرة على المنطقة الشرقية لسورية تحقق جملة أهداف استراتيجية، على رأسها قطع خطوط التواصل البري لإيران عبر الحدود مع العراق حتى شاطىء المتوسط، وإكمال الطوق حول إسرائيل من جنوب لبنان إلى الجولان. كما أن المنطقة غنية بالنفط تعزز موقع الممسكين بها في مواجهة الآخرين، اقتصادياً وعسكرياً. وواضح من التحركات العسكرية الأميركية الأخيرة في التنف ومحيطها، وتعزيز القدرات التسليحية لـ «قوات سورية الديموقراطية» وفصائل عربية أخرى في الجزيرة السورية، أن واشنطن تجهد لمنع قوات النظام في دمشق والميليشيات التي يرعاها «الحرس الثوري» من الاقتراب من هذه المنطقة. وهو هدف لا يريح موسكو التي تحرص على إعادة تأهيل الجيش السوري وتقديمه القوة الوحيدة القادرة على ضمان أي اتفاقات. فضلاً عن أن الهدفين، الأميركي والروسي،لا يلتقيان أبداً مع أهداف طهران الراغبة في المرابطة على حدود الجولان، وبقاء ممراتها البرية مفتوحة حتى بيروت مروراً بدمشق. ويضيرها تفاهم الدولتين الكبريين على تكريس مناطق خالية من الميليشيات.
لن يكون سهلاً على إدارة ترامب أن تحكم إقفال الحدود العراقية - السورية. اعتمادها على «وحدات حماية الشعب» قد لا يكون كافياً ومضموناً، ولن ينتهي بلا ثمن يتقاضاه الكرد. لقد حذر هؤلاء «الحشد الشعبي» العراقي من تجاوز الحدود عبر أراضيهم. لكنهم هم القريبون من «حزب العمال الكردستاني» سيجدون أنفسهم أمام امتحان صعب إذا اندلعت مواجهة واسعة بين قوات الحزب و»البيشمركة» في منطقة سنجار. علماً أن قوات الحزب تقيم تنسيقاً متيناً مع إيران وميليشيات «الحشد». فيما يرتبط إقليم كردستان بمعاهدة دفاعية مع الولايات المتحدة، وستجد قيادته نفسها أمام امتحان صعب على شفير مواجهة لا مفر منها. وقد حذرت أخيراً من أنها لن تتساهل في أمن المناطق التي تحررت من الإرهابيين. كما أن تركيا يقلقها تمدد «حزب العمال» من شرقها إلى شمال العراق فشمال شرق سورية. وتخشى أن يحكم هذا الطوق على حدودها الشرقية والجنوبية الشرقية. لذلك لا تكف عن الاحتجاج على انخراط البنتاغون في تسليح «قوات سورية الديموقراطية» وجلها من الكرد. وإذا كانت واشنطن ستستخدم الكرد في حربها على «داعش» من دون دعم تطلعاتهم إلى إقامة منطقة حكم ذاتي كما هي حال كرد العراق، فإنهم لن يترددوا في التعاون مع قوى أخرى. علماً أنهم أخلوا في السابق مواقع لهم للقوات النظامية السورية. بل هم يتحدثون عن رغبتهم في فتح ممر يربط مناطقهم بساحل المتوسط. فهل يمكن الإدارة الأميركية أن تتجاهل كلفة الاعتماد عليهم وإدارة الظهر لأنقرة، وهي حليف تعتمد عليه في خطة كسر الهلال الإيراني؟
أبعد من ذلك، تركيا التي تتعمد الابتعاد عن حلفائها التاريخين في الغرب، لم تتورع عن التهديد بقصف القوات الأميركية إذا واصلت دعمها للكرد شمال سورية. ولم تبد حتى الآن رغبة حقيقية في اللجوء إلى مجموعات تركمانية أو «حشود سنية» في العراق لمقارعة الميليشيات التي ترعاها إيران سواء في سورية أو العراق. تعلي الصوت في وجه التمدد الفارسي لكنها تترجم ذلك في الجلوس إلى طاولة واحدة مع ممثلي هذا التمدد في آستانة لتقرير مصير بلاد الشام. إنها ركن آخر في استراتيجية الرئيس ترامب قد لا يؤدي دوره المنتظر... لكنه سيجد نفسه بلا دور فاعل إذا سارت استراتيجيات الآخرين قدماً. كذلك لا يمكن واشنطن أن تعول كثيراً على نتائج الصراعات السياسية في العراق. يبدو شبه مستحيل أنخراط القوى والأحزاب الشيعية المستاءة من جارها الشرقي في جبهة تقليم أظافر الجمهورية الإسلامية. حتى حكومة الرئيس حيدر العبادي لا يمكنها الذهاب بعيداً في ملاقاة واشنطن وسياساتها على حساب طهران. ولعل خير دليل على حدود قدرة بغداد على مقاومة نفوذ جارتها الشرقية، أن الأجواء والأراضي العراقية مفتوحة عملياً أمام طائرات الشحن والقوافل لنقل السلاح والعتاد من إيران إلى سورية ولبنان والعراق طبعاً. أضف إلى كل ذلك أن أي تفاهم بين واشنطن وموسكو لن يتيح للأخيرة المجازفة بخسارة حليفها في سورية. فهي تحتاج إلى ميليشياته على الأرض ما دام أنها لا ترغب في توسيع انخراط قواتها البرية. من هنا يبدو صعباً أن تتجاهل الحضور العميق لإيران في بلاد المشرق العربي. بل ستظل تفيد من هذا الحضور حتى دفع أميركا إلى الاعتراف بها قطباً دولياً له ما لها. ولا يغيب عن بال سيد الكرملين أن نجاح الأميركيين في ترسيخ سياستهم في بلاد الشام يقلل من قدرته على التقدم ببلاده نحو ترسيخ أقدامها قوة كبرى تنطلق من دمشق إلى الإقليم كله. لذلك يجهد إلى إرضاء تركيا من أجل إبعادها عن أحضان «الناتو». مثلما يجهد لتمتين علاقاته بمصر لحاجته إليها في ليبيا وشمال أفريقيا عموماً. وينتابه قلق عميق من صورة الود القائم بين الرئيسين ترامب وعبد الفتاح السيسي! يراوده طموح التفاهم مع الرئيس ترامب في المنطقة كلها، كما هي حال الأخير مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في شبه الجزيرة الكورية.
خوف روسيا من انزلاق اللعبة عن قواعدها المرسومة حتم عليها الزج بطائراتها إلى حدود المنطقة الشرقية في سورية. وقصفها فصائل تدعمها الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج. وتقدم آلياتها وقواتها نحو جبهة الجنوب، على رغم المحادثات الديبلوماسية والعسكرية مع الأردنيين والأميركيين في عمان لتعريف «المنطقة الآمنة» جنوب سورية ورسم حدودها التي يفترض أن تشمل القنيطرة في الجولان حتى درعا وريفها. وتتهم موسكو «التحالف الدولي» والكرد بأنهم يسهلون لعناصر «داعش» الخروج من الرقة نحو دير الزور وتدمر. وكانت سابقاً عارضت وطهران ترك باب مفتوح لهم للخروج من غرب الموصل إلى الأراضي السورية عندما بدأت المعركة في اكتوبر الماضي. وهو ما دفعها أخيراً إلى التلويح باستخدام قوتها الجوية الضاربة لمنع وصول المجاهدين إلى ريف حمص وباديتها. ما تخشاه أن تكون المعركة الأكثر كلفة مع التنظيم الإرهابي في دير الزور. لذلك تسابق الأميركيين في مناطق شمال شرقي البادية، لئلا تكون المواجهة الحاسمة مع مقاتلي «دولة الخلافة» من مسؤوليتها وحلفائها بعد خروجهم من عاصمة الخلافة. وهي بذلك تجازف ربما بأخر أمل للتفاهم مع إدارة ترامب.
إضافة إلى هذا الهم، يجد الرئيس بوتين نفسه أمام خيارات صعبة على جبهة الجنوب. سيظل حريصاً على تفاهماته مع القيادة الأردنية خصوصاً في مجال التعاون الأمني والاستخباري الخاص بالمجموعات الإرهابية. كما أنه يحتاج إلى عمان باباً ومنطلقاً مساعداً إلى عواصم عربية أخرى، خليجية خصوصاً، لعلها تنحاز إلى مشروعه للتسوية في بلاد الشام. ومراعاة هذا الموقف للمملكة لا يروق بالتأكيد لحليفه الإيراني الساعي إلى الاقتراب من حدود الجولان والساعي إلى السيطرة على معابر سورية شرقاً وجنوباً. أما الأردنيون فلا يكتمون مخاوفهم من تسرب عناصر «داعش» جنوباً إذا أقفلت بوجههم سبل الفرار من شرق سورية. وهم يتذكرون اندساس مئات منهم في صفوف اللاجئين الذين أُوقفوا في مخيم الركبان السوري القريب من حدود المملكة، على رغم المناشدات الدولية بفتح الأبواب أمامهم. وقد أكد الملك عبد الله الثاني ورئيس الأركان أن القوات الأردنية لن تدخل الأراضي السورية. لكنها لن تسمح بتمركز إرهابيين أو عناصر تابعة للميليشيات الحليفة لإيران على حدودها الشمالية. قد لا تعارض في النهاية مرابطة قوات نظامية، ولكن ماذا لو أصرت واشنطن على رفض أي دور لهذه القوات؟ وإسرائيل بدورها ترفض اقتراب الميليشيات الإيرانية من منطقة الجولان المحتل. وهي تنتظر ترجمة ميدانية لمضمون اتصال هاتفي بين وزير دفاعها أفيغدور ليبرمان ونظيره الروسي سيرغي شويغو، قالت إنه تناول امكان قيام المنطقة الآمنة جنوب سورية، «ترابط فيها قوات للنظام من دون الميليشيات». هذا الاصرار على استبعاد الميليشيات يقلق طهران مثلما تخشى موسكو أن يؤدي انصياعها إلى رغبات الجارين الجنوبيين لسورية إلى هز تحالفها مع الجمهورية الإسلامية.
حرب الحدود مستنقع يسعر الحرب في سورية، ويرسم خريطة جديدة على أنقاض ما بقي من خريطة «سايكس- بيكو». مثلما يطرح خيارات وسياسات مختلفة على جميع المتصارعين. والسؤال من سيخرج منهم منتصراً من هذا المستنقع؟
قد يبدو غريباً مثل هذا السؤال، ولا يتناسق مع المنطق الطبيعي للأشياء، فالدول التي تذهب إلى احتلال غيرها ليست أي دول، بل لها سمات ظاهرة متشكّلة من فائضٍ في القوة، ومشروع استراتيجي طموح، واقتصاد متطور يبحث عن موانئ للتصدير والاستيراد وأسواق لفائض الإنتاج.
ليس هذا الترف متوفراً للعراق الحالي الذي يساعده تحالفٌ دوليٌّ عريض للتخلص من احتلال "داعش" الذي وصل به الأمر إلى حد السيطرة على ما يقارب نصف مساحة العراق، ولولا عشراف آلاف الغارات الجوية لدول التحالف التي أسهمت في إضعاف بنية القوة لدى "داعش"، وتدمير خطوط إمداده، لكان "داعش" قد غيّر خريطة العراق بشكل كبير ولعقود مقبلة.
لكن، وعلى الرغم من كل ما سبق، كان العراق يصدّر آلاف المقاتلين إلى سورية الذين انتشروا على كامل مساحة البلد من حلب إلى درعا. وعلى الرغم من انهيار الاقتصاد العراقي وعجزه عن سد الحاجات الأساسية لسكان الموصل وتكريت والرمادي، إلا أنه كان يموّل الجهود الإيرانية في الحرب السورية، وقد أشارت تقارير عديدة محايدة إلى هذا الأمر الذي لم يقف عند هذا الحد، بل لا تخفي جماعات الحشد الشعبي، وهي مليشيات يتجاوز عدد أفرادها مائة ألف، عزمها الدخول إلى سورية في وقت قريب، لمحاربة القوى المعارضة لنظام الأسد، مع العلم أن آلافاً من المقاتلين العراقيين جرى توطينهم في مناطق قريبة من دمشق، من خلال تهجير أهل تلك المناطق عنوة، كما داريا، أو منعهم من العودة إلى مناطقهم، كما جنوب دمشق وقرى القلمون الغربي.
كيف يمكننا قراءة مثل هذه الظاهرة المتناقضة، والتي تدعو إلى الغرابة، ذلك أن الوضع الطبيعي للعراق أن ينكفئ على نفسه ويلملم شتاته، لا أن يبادر إلى الهجوم بهذه الكثافة!
يستدعي فهم هذه الظاهرة قراءة السياق الذي يصدر عنه العراق، وهو تفكيك الدولة نهائياً، ومعها جرى تفكيك الأطر والأهداف والاستراتيجيات الدولتية، وتحوّل مركز القرار إلى خارج العراق، إيران تحديداً التي باتت تضع الأهداف، وتصنع السياسات للعراق، كما تصنع توجهاته السياسية وتصوغ موقفه وموقعه الإقليمي، في ظل وجود نخبٍ حاكمة في العراق، أقرب إلى صفة الموظفين لدى الإدارة الإيرانية، يقودهم مدراء، على شاكلة قاسم سليماني، لتنفيذ المشاريع الإيرانية.
كما أعادت إيران صياغة الهوية العراقية، واستبدلت الهوية العربية بالهوية الشيعية، مستغلةً مرحلة الاضطرابات التي عانى منها العراق بعد الاحتلال الأميركي، وتصدّع الهوية الوطنية، ودخولها في مرحلة فراغ، ما سمح لإيران بتشكيلها على مقاسات مشروعها في المنطقة، وخصوصاً في جزئية السيطرة على سورية، حيث تنتشر مقامات آل البيت التي ستستدرج عشرات آلاف الشباب العراقي، المتشكّلة عقيدته على الفداء والثأر، والعدو واضح ومعلوم "شعب سورية الثائر على الأسد".
تشكّل سورية حيزاً مناسباً لتصريف الطاقة العراقية المتفجرة، بل ربما تبدو المنفذ الوحيد لاستيعاب الزخم العراقي، إذ على الرغم مما يشاع عن إجراءات أميركية لتقطيع أوصال المشروع الإيراني، فإن عدم وجود استراتيجية فاعلة في هذا الخصوص، يجعل الأمر برمّته يتحوّل إلى محفّز جديد للاندفاع العراقي صوب الحيّز السوري.
هذا الافتراض تؤهله حقيقةُ أن أدوار الوكلاء على الأرض في الحرب السورية هي الفاعلة، وذلك كونهم يشكلون أوراقاً يمكن المغامرة بها، فيما لا يجرؤ المشغّلون على الظهور المباشر، ربما لحساب ما قد يرتبه ظهورهم من استحقاقاتٍ، أو ما يستدعيه من صداماتٍ مباشرة، يسعى اللاعبون الأساسيون إلى تجنبها.
وثمّة عوامل داخلية "سورية" تشجع حصول الاحتلال العراقي لسورية، فنظام الأسد الذي لا حول ولا قوة له لن يكون منزعجاً من الاحتلال العراقي، ما دامت بغداد تموّل خزينته الفارغة، وما دام العنصر العراقي يؤمن له الكادر الذي يواجه خصومه، بعد أن استنزفت الطائفة العلوية (قُتل حوالى 150 ألفاً من شبابها).
كما لا يجب إنكار حقيقة وجود بيئة مساندة للاحتلال العراقي لسورية، بعد نجاح الدعاية الإيرانية بأن أذرعها "الحشد الشعبي وحزب الله" هم حماة الأقليات في سورية والعراق، وخصوصاً المسيحيين، وقد كانت لافتةً زيارة وفد من حركة النجباء العراقية الأسبوع الماضي، الأب لوقا الخوري معاون البطريرك لبطركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، الذي أشاد بدور المقاومة الإسلامية وحركة النجباء في سورية، وخصوصاً في منطقة محردة في الدفاع عن المسيح وتحرير مناطقهم من يد الإرهاب. وزار الوفد مدينة السويداء، واستقبلهم شيخ العقل لدى الطائفة الدرزية، حكمت الهجري، الذي أشاد بدور الحركة في سورية في تحقيق الانتصار.
وعلى الرغم من الظاهر الفوضوي للقوة العراقية، إلا أنها تعمل وفق خطةٍ، هدفها حصار التجمعات السنية، وعزلها في العراق وسورية، وعزلها عن الأردن والعمق الخليجي، ولاحقاً عزلها عن تركيا، بما يضمن عدم وجود كتلةٍ مقابلةٍ قادرة على الدفاع عن نفسها أو مقاومة هذا الزحف على سورية، ما يعني أن هذه القوى تعمل وفق استراتيجية منسقة ومنظمة، تحصد نتائجها عشرات السنين المقبلة.
هل يحتل العراق سورية؟ كلّما طال عمر نظام الأسد، وغرقت الدول العربية بالخلافات الجانبية، واستمرت أميركا بممارسة الضجيج الفارغ، بتنا نقترب من عتبة مثل هذا الاحتمال، وصحيح أن العراق دولةٌ غير مؤهلة لإنجاز هذه المهمة، لكن لديه طاقات هائلة، تبحث عن مشغّل لها، وإيران التي مارست التنويم المغناطيسي على العراق تعرف بحرفية هائلة أزرار تشغيل هذا الكيان المشحون بطاقة كبيرة، وتضع له خريطة مسار صوب المقامات المقدّسة.
التحذير الذي أطلقه ذات يوم الملك الأردني عبد الله الثاني من خطر قيام «هلال شيعي» لم يؤخذ على مجمل الجد. «هلال شيعي» يربط إيران بلبنان والمتوسط عبر العراق وسوريا، اعتبر في حينه ضربا من الخيال. لكن ما حذّر منه الملك سرعان ما تمّ وضعه في التطبيق. في لبنان كان هناك «تسامح» مع خطوات الانقلاب على الطائف والدستور، وتواطؤ في عملية بناء جيش رديف: «حزب الله»، الذي أُنشئ على أيدي بعض جنرالات الحرس الثوري الإيراني، ومن البداية نفذ المحتل السوري خطة قضت بإخلاء الساحة لهذا الجيش الصاعد، فجرى وضع جبهة المقاومة الوطنية أمام كماشة التصفية الجسدية أو الترهيب والتضييق لإلغاء الدور، وتم تعطيل أي مشروع جاد لإعادة بناء جيش وطني للبلاد، والموجود من هذا الجيش جرى تقنين دوره.
ومع إسقاط ديكتاتورية صدام حسين في العراق، ومجيء أكثر الحكام الجدد على متن الدبابات الأميركية، وبعضهم قدِم من طهران مباشرة، شكل قرار «بريمر» حل الجيش العراقي الطامة الكبرى، والبقية معروفة، إذ سارعت طهران إلى إطلاق أكبر خطة لملء الفراغ على أنقاض الجيش العراقي. وكان للجنرال قاسم سليماني ما أراد، فإلى شبه جيش، تم إنشاء ميليشيات طائفية توجت بـ«الحشد الشعبي» الذي تم مؤخرا تشريعه، وهو بنهاية المطاف ذراع عراقية للحرس الثوري الإيراني، وربما الأداة الأبرز في تعميق الشرخ الطائفي وتفتيت العراق لتسهيل الهيمنة عليه.
عام 2005 هزّ اغتيال رئيس حكومة لبنان رفيق الحريري نظامين أمنيين في بيروت ودمشق، وأدى الالتقاء الموضوعي بين «انتفاضة الاستقلال» التي أطلقها اللبنانيون، والتحرك الدولي ضد الاستباحة السورية والمُعبر عنه في قرار مجلس الأمن الدولي 1559، إلى فرض جلاء رسمي للاحتلال الأسدي عن لبنان، فاهتزت بقوة صورة الحكم السوري، الذي ذهب إلى الحد الأبعد في عملية الالتحاق بالنظام الإيراني.. أما القوى السياسية اللبنانية، التي حازت الأغلبية في برلماني 2005 و2009 (المستمر حتى اليوم نتيجة تمديدين قسريين) فقد تعايشت مع الأمر الواقع، ودون أي تجن، لم تقدم أي مشروع لبسط سلطة الدولة دون أي شريك، واستسهلت ممارسة الحكم من خارج الدستور المعلق منذ إقراره قبل نحو من 27 سنة، وأدت الحكومات المتتالية التي تساكن فيها أطراف الفريقين الطائفيين 8 و14 آذار، إلى تحاصص الدولة ووارداتها، وتغلغل غير مسبوق لـ«حزب الله» في كل المؤسسات العامة فأمسك أبرز مفاصل القرار.
منتصف مارس (آذار) 2011 انفجرت انتفاضة الشعب السوري، نجحت بتحدي آلة القمع الوحشي، وكُسرت هيبة «مملكة الصمت» القائمة على التخويف والقتل، وخلال أشهر قليلة بات نحو 60 في المائة من سوريا خارج سيطرة الحكم الديكتاتوري في دمشق، الذي ارتمى في حضن النظام الإيراني، ودفعا معا لفرض عسكرة الانتفاضة وإلصاق تهمة الإرهاب بالشعب السوري، وخدم هذا المخطط، ربما لأهداف أخرى، بعض الأطراف الإقليمية التي تتحمل مسؤوليات جساما عن تخريب الأوضاع في مصر وليبيا وسوريا (..)، وشكلت مفاوضات الاتفاق النووي، التي استمرت نحو خمس سنوات، المظلة للتوسع الإيراني في المشرق العربي واليمن. توسع ما كان ممكنا لولا خطة ممنهجة اعتمدتها طهران لزعزعة الاستقرار وتخريب النسيج الداخلي لبلدان تبجح مرارا قادة الحرس الثوري بالسيطرة على أربع من عواصمها.
مع تيقن موسكو، التي تدخلت في الحرب السورية مجربة أسلحتها بالمدنيين والعمران، بأن لا حلّ عسكرياً للأزمة السورية، طرحت كل جولات السؤال المحوري عن مصير القوى الخارجية، وأولاها الأذرع المسلحة للحرس الثوري التي تعيث فسادا وخرابا لا يقل عما تقوم به الميليشيات الطائفية الأخرى. لكن التطور النوعي تمثل في مجيء الإدارة الأميركية الجديدة، التي وإن حددت أول أهدافها اقتلاع «داعش» وأضرابها، فقد حمّلت إيران المسؤولية عن زعزعة استقرار المنطقة، والتقت مواقف صناع القرار في واشنطن على ضرورة محاصرة التمدد الإيراني. وحتى لا يكون هناك أي التباس، فإن أميركا التي استهدفت التوسع العسكري الإيراني، لم تطلق أي إشارة بأنها ذاهبة اليوم إلى خوض مواجهة عسكرية مباشرة، لكن كل المؤشرات بدأت تشي بأن الميدان لم يعد مفتوحاً لإيران كما تخطط، وتوجيه ضربة للميليشيات التي كانت تتقدم باتجاه الحدود مع العراق وفّر مصداقية عما تعتزمه واشنطن.. وجاءت قمم الرياض التاريخية لتكرس عزل نظام طهران، ووسمت إيران بوصفها دولة راعية للإرهاب. بهذا السياق كان لافتا أن وزير الخارجية الأميركية تيلرسون دعا الرئيس روحاني الفائز بولاية رئاسية ثانية إلى العمل الفوري لتفكيك المنظومة الإرهابية للحرس الثوري.
اليوم السؤال الذي يطرح نفسه بعد المواقف الأميركية، هو هل الإمكانية متوفرة لاتخاذ إجراءات جدية تحاصر التمدد العسكري الإيراني؟ السؤال داهم وقد بات الهامش ضيقاً جداً، مع الاندفاعة الإيرانية للحفاظ بأي ثمن على المواقع التي تحتلها الآن، كمراكز نفوذ دائمة.
المعروف أن طهران التي تعمل لتوسيع بحيرة نفوذها حتى المتوسط، عدلت من خطتها الربط البري مع العراق عبر تلعفر وغرب الموصل، بعدما باتت منطقة الحدود تلك من جهة، مركز نفوذ ووجود الحركة الكردية، وتعمل على قتال «داعش» واستعادة الرقة تحت غطاء أميركي كبير، ومن الجهة الأخرى أقام الجيش الأميركي فيها مهابط للطائرات، فعمدت إيران لتجنبها، وغيرت مسار ممرها البري نحو الجنوب، نحو معبر «النتف» قرب دير الزور، وبدا ضغط ميليشيات الحرس الثوري انطلاقا من القلمون الشرقي ومنطقة تدمر جليا، ويقابله تقدم «الحشد الشعبي» العراقي نحو «باعج» التي كانت مقراً للبغدادي زعيم «داعش»، والمنطقة حلقة أساسية في المخطط الإيراني الذي يربط المحافظات الشيعية جنوب العراق بالبادية السورية فتدمر ومحيط دمشق الذي عرف تغييرات ديموغرافية معينة، ومن هناك إلى القلمون الغربي والحدود اللبنانية.
الثابت أن طهران تتجه لخوض معركة حياة أو موت، بالنسبة لاستمرارية نفوذها وحجمه في سوريا والمنطقة، وتقوم بحشد قوات كبيرة من مختلف أذرع الحرس الثوري ومعهم وحدات من الجيش السوري، ومن الوجهة الإيرانية وحده هذا الواقع الميداني يمنح طهران التأثير اللاحق على قرار دمشق حتى بعد التغيير في رأس القيادة السورية. بالمقابل فإن واشنطن التي تعدُّ لمعركة الرقة في الشمال الشرقي، تجد نفسها في قلب معركة في الجنوب، وتدرك أن الأولوية الآن لهذه المعركة بالذات، لأنه فقط عبر إبعاد الميليشيات الإيرانية عن معبر «النتف»، يتم قطع «الهلال الشيعي» وتصبح معركة إنهاء «داعش» في دير الزور أكثر سهولة. وبهذا السياق ترتدي المباحثات العسكرية الأميركية - الروسية، التي تستضيفها عمان، أهمية خاصة، كونها تناقش إقامة منطقة آمنة ومحظورة على الميليشيات الإيرانية، وتمتد من القنيطرة إلى درعا والسويداء والنتف ودير الزور، والأكيد أن عقدة النقاش تكمن بالتوافق على الأحجام والنفوذ والأثمان وهو الأمر المعروف عما تريده روسيا.. وهذه المباحثات التي شملت أيضا إسرائيل، وفق ما كشفه وزير الدفاع الروسي، تؤكد أن السباق العسكري على الأرض يتقدم على جنيف وآستانة، والمصداقية الأميركية على المحك أكثر من أي وقت سابق.
شيعة عرب من لبنان ومن العراق ملكوا الجرأة على مواجهة المد الفارسي في دولتهم من بعد طول صمت، ومرجعيات شيعية فقهية عراقية ولبنانية حملت راية الهوية العربية وانتصرت للدولة العربية، وواجهوا المراجع الفارسية انتصاراً للدولة في العراق ولبنان، كالأمين والوائلي وفضل الله، وكالعلامة محمد الحسيني من لبنان الذي أسس مجلساً إسلامياً عربياً كتب على بابه: «إن الشيعة العرب هم اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يكون انتماؤهم تامّاً إلى أوطانهم التي يعيشون فيها ودولهم العربية، وإما أن يتحولوا إلى طابور خامس في خدمة مشاريع التمدد في أمتنا العربية فيجلبون إليها وإلى أنفسهم الخراب والدمار».
يعرف المجلس الإسلامي العربي الذي أسسه الحسيني بأنه المرجعية الإسلامية لشيعة العرب، وهو الإطار الجامع والراعي والمرشد والموجه لهم إسلاميّاً وسياسيّاً والمهتم بشؤونهم كما هو مدوَّن عبر موقعه الإلكتروني، ومهمته التي يعمل من أجلها هي استرجاع المنخدعين من الشيعة العرب بالأكاذيب والأراجيف الضالّة المضلّة من أحضان نظام ولاية الفقيه وبراثنه، وإعادتهم إلى الأحضان الرؤومة لأمتهم العربية كما هو مذكور، ويعمل المجلس وفق مبادئ لا نعتقد أنها تختلف عما تنادي به الشعوب العربية بكل أطيافها الدينية والمذهبية:
- كالسعي والعمل على تأكيد أن ولاء شيعة العرب لأوطانهم ولها فقط، فلا يجوز بأي شكل من الأشكال أن يوالوا نظام ولاية الفقيه تحت أي غطاء أو مبرر أو دعوة مذهبية كانت، حيث لا يمکن إطلاقاً جَمْع ولاءين في قلبٍ واحد.
- ليس لشيعة العرب مشروع لإقامة كيان خاصّ لهم في الدول العربية كافة، ولا يجوز التفكير أو السعي للوصول إلى مثل هذا المشروع البعيد عن تفكيرهم، وأي تفكير في هذا الخط الملتوي هو خيانة عظمى، وإخلال بمبادئ المواطنة والإخلاص للوطن.
- إن شيعة العرب مواطنون صالحون في أوطانهم، وهم جزء لا يتجزأ من النسيج العربي مع إخوانهم السُّنَّة، ولا يفكرون في الابتعاد ولا التمايز ولا الارتباط بأوطان أخرى، ويؤمنون أن أي منحرف عن هذه الأهداف يستحق محاكمته بجريمة الخيانة العظمى.
- إن على شيعة العرب أن يكونوا عامل استقرار وأمان في أوطانهم، وأن يتعاونوا مع إخوانهم في العروبة، وعليهم الحذر ورفض الدعوات المشبوهة والمغرضة التي يطلقها نظام ولاية الفقيه بدعوى دعم الأقليات من الشيعة.
– لقد اختار الشعب العربي في كل دولة، والشيعة جزء منه، نظام الحكم الذي يناسبه ويلبي طموحاته ويحقق أهدافه. لذا فإن الولاية على الشيعة العرب هي للأنظمة التي اختاروها، وليست للولي الفقيه الذي تقتصر ولايته على حدود بلده، إذا ارتضى ذلك شعبه. وقد بَيَّنت الأحداث أنه حتى في إيران سقط هذا النظام شرّ سقوط.
- على شيعة العرب الانخراط بمؤسسات دولهم كغيرهم من المواطنين، وأن يعوا جيداً ما يخطِّط لهم المغرضون والدساسون من أحابيل ومكائد ليست هنالك من مصلحة لهم فيها سوى تحقيق غايات أجنبية لا علاقة لها بأوطاننا وأمتنا العربية.
- على شيعة العرب أن يبتعدوا عن الأحزاب والجمعيات الهدامة التي تنادي زوراً بـ«حقوق الشيعة» كفئة مستقلّة لها كيانها الخاص. إن هذه الأحزاب مدسوسة ومغرِضة ومموَّلة من الخارج بهدف زعزعة استقرار الدولة التي تعمل فيها خدمة لمشروع أجنبي غير عربي.
- على الشيعة العرب واجب الحفاظ على الأمن القومي العربي بكل إمكاناتهم، وأن يبذلوا في سبيل هذا الواجب كل غالٍ ونفيس حتى ولو تعرضوا في سبيل تحقيق هذا الهدف إلى تقديم الأرواح قرابين للوصول إلى الهدف. (انتهى).
لا أعرف حجم تأثير مثل هذا المركز، إنما هذا قول ومنطق وكلام وطني بامتياز نحتاج إلى أن نسمعه، فإذا كان للفقيه الإيراني معارضون إيرانيون داخل وخارج إيران رفضوا ولاية الفقيه الكلية لا كنظرية فقط، بل رفضوها أيضاً كمشروع توسعي يعتمد على استغلال المذهب ويتدخل في شؤون الدول الأخرى، رفضوا استغلال الدين استغلالاً لا ينم عن احترام للدين ولرسوله ولقيمه ومبادئه، بل ينم عن بغض وحقد على تحريض المواطنين العرب على أوطانهم وجلب المتاعب لإيران الدولة.
وكذلك فعل شيعة عرب رأوا ما آل إليه متطرفون من طائفتهم من محاذير خطرة قد تمتد لأجيال مقبلة، سيدفع ثمنها أبناؤهم، وتحول بينهم وبين انخراطهم مع شركائهم في الأوطان العربية، فتحملوا المسؤولية ورفعوا الصوت الآن دفاعاً عنها، خصوصاً بعد أن انتهى الحلف الأميركي الإيراني، فتصدوا للمد الإيراني وامتلكوا الشجاعة لقول رأيهم والمجاهرة به وكسر طوق العزلة.
تلك أعمال جليلة لشيعة عرب قام بها رجال شجعان سيذكرهم التاريخ وتحملوا من أجلها كل أنواع التهديد والابتزاز... ولكن لا بد من تحرك كل المثقفين والعلماء والتكنوقراط وغيرهم من مواطني هذه الدول لوضع الأمور في نصابها ووضعها الصحيح... الانتصار للأوطان قيمة وشيمة لا يعرفها غير الأحرار.
في اليوم الرابع من شهر يونيو/ حزيران عام 1967، وجه أحد شعراء "البعث" رسالة إذاعية مفتوحة إلى الأمة العربية، تدعوها إلى الاصطياف في نهاريا، مدينته الفلسطينية التي قال إن الجيش السوري، جيش البعث، سيحرّرها في الساعات الأولى بعد نشوب حرب التحرير المقبلة. وفي اليوم التاسع منه، كانت رئيسة الاتحاد النسائي تطلق صرخات استغاثةٍ يائسة تناشد العالم وقف "العدوان الصهيوني" الذي يستهدف عزل دمشق، أقدم مدينة في العالم، والتي تتعرّض لموجات قصفٍ أسقطت عشرات آلاف الشهداء من الأطفال والنساء. في اليوم ذاته، أذاع وزير دفاع النظام، الفريق حافظ الأسد، بيانا أعلن فيه سقوط القنيطرة، عاصمة الجولان، في يد العدو الصهيوني الغاشم، وأمر جيشه بتنفيذ انسحابٍ كيفي منه، قال رجال القانون، في ما بعد، إنه كان أمرا بحل الجيش، والدليل أنه لم يدافع عن الأرض الوطنية، بل سلمها من دون قتال للعدو الذي لم يرسل قواته لاستلامها إلا بعد ثلاثة أيام.
بين وعد التحرير والدعوة إلى الاصطياف في نهاريا، وحرب لم تدم فعلا غير ساعات قليلة، سلم الأسد خلالها الجولان لإسرائيل، وحل الجيش، دمرت إسرائيل الطيران السوري على مدرجات مطاراته، وغنمت آلاف الدبابات والمدافع بذخائرها. بعد الهزيمة، قال النظام إن "الحزب القائد" أحبط مؤمراة استهدفت "نظام الثورة المعادي للصهيونية والإمبريالية"، ومنع العدو من إسقاط النظام الذي خرج منتصرا من المعركة. في المعارك الكبرى، هكذا قيل، ليس احتلال الأرض أمرا مهما، بما أنه يمكن تحريرها واستعادتها، أما النظام، فهو لا يعوّض أو يستعاد. صحيح أن العدو احتل الجولان، لكن فشل المؤامرة هو شرط تحريره، في سياق استراتيجية النظام لتحرير فلسطين، بطبيعة الحال.
ذات يوم، احتلت فرنسا أرضا ألمانية، فجمع رئيس أركان الجيش الألماني ضباطه، وطلب منهم وضع خطة لتحريرها، وأصدر إليهم أمرا يقول: "سنفكّر بها وسنعمل لتحريرها دوما، ولن نتحدث عنها أبدا". بعد احتلال الجولان، اعتمد النظام الموقف التالي: "سنتحدّث عن الجولان دوما، لن نفكر به أو نعمل لتحريره أبدا". هل نعجب إن كان يرزح، منذ خمسين عاما، تحت احتلال إسرائيل، وكان النظام قد حوله إلى "لا قضية"، في سياق صرف احتلاله إلى مزايداتٍ خطابيةٍ، لعبت دورا مهما في ردع معارضيه وملاحقتهم، واتهامهم بالعمالة للعدو، لأنهم يعيقون جهوده لتحرير فلسطين، ولمقاومة عملاء العدو في منظمة التحرير الفلسطينية، والقوى الوطنية اللبنانية التي رفضت احتلاله بلادهم، بموافقة إسرائيلية علنية، والذين دانوا دوره في دعم الحرب الإيرانية ضد العراق، وانتهاجه سياساتٍ طوت تماما، منذ عام 1974، صفحة الصراع العربي/ الإسرائيلي، وفتحت صفحة الصراعات العربية/ العربية، ويبدو أنها ستبقى مفتوحة إلى أن يشاء الله.
قال بيان أسدي عام 1967: لا أهمية للأرض الوطنية في سياق صد مؤامرة ضد النظام يقف وراءها العدو الخارجي. وفي عام 2011، عام الثورة، قال بيان أسدي آخر: لا أهمية للشعب في سياق صد مؤامرة داخلية ضد النظام، يتولاها الشعب. وفي الحالتين: لا أهمية إلا للنظام. في هذه الحالة: أين المشكلة إذا سلم أرضا وطنية إلى العدو مقابل بقائه، أو إذا أبيد الشعب، إن كان يريد إسقاطه؟
ما هذا النظام الذي يتخلي عن أرض وطنيةٍ، يقوّض احتلالها الدولة، ويلغي أحد أركان وجودها: سيادتها الكاملة على داخلها الوطني. وينقضّ، في الوقت نفسه، وبكل سلاح لديه، على شعبه، بجرم مطالبته بإصلاح أحواله؟ ما هذا النظام الذي تمت المحافظة عليه، لأنه تخلى عن الجولان، واحتل لبنان، وحارب فلسطين والعراق، ويقضي على شعب سورية بدعم إقليمي ودولي غير محدود؟ ولماذا، بربكم، لا تحميه إسرائيل وغيرها، إن كان يقوم منذ ستة أعوام بما عجزت عنه دوما: القضاء على دولة سورية ومجتمعها، الأمر الذي كان سيكلفها عشرات آلاف القتلى من جنودها، وسيدمر أجزاء واسعة من دولتها، من دون أن يكون نجاحها فيه مؤكّدا؟
إذا كانت النظم تحافظ على أرض وطنها وسلامة شعبها، بأي معيار وطني أو إنساني يراد لنا أن نسمي الأسدية نظاما، وهي التي فرّطت بالأولى وتقضي على الثاني؟ من غير إسرائيل أفاد من "نظام" خدمها نيفاً ونصف قرن؟
صواريخ كروز الروسية الأربعة التي أطلقت يوم الثلاثاء الماضي على منطقة تدمر واستهدفت عناصر من مقاتلي المعارضة التي تدعمها واشنطن، قالت موسكو إنهم عناصر «داعش» كانوا يفرّون من الرقة، لم تكن أكثر من رسالة متأخرة رداً على عملية القصف التي نفذتها القوات الأميركية قبل أسبوعين، على منطقة التنف على الحدود السورية العراقية، واستهدفت رتلاً عسكرياً لقوات النظام والميليشيا الإيرانية التي تسانده كانت تتقدم نحو الحدود العراقية، في سعي واضح ومعلن هدفه الالتقاء مع قوات من «الحشد الشعبي» الذي تدعمه إيران، تتقدم من الأراضي العراقية نحو الحدود السورية.
المعارضة السورية أكّدت أن مقاتلي «داعش» الذين فروا من الرقة اتجهوا إلى محيط دير الزور، بينما تتقدم «قوات سوريا الديمقراطية» نحو الرقة بهدف إسقاطها، وأعلنت أنها اقتربت منها وباتت على أبواب حي المشلب شرق المدينة، وقد حصل هذا التقدم بعد قصف كثيف من قوات التحالف الدولي.
قياساً بالتطورات العسكرية المتسارعة في تلك البادية على مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية، تبدو عملية القصف الروسي بمثابة دخول على خط التنافس الذي يتصاعد بوتيرة حامية بين إيران وأميركا، للسيطرة على تلك المنطقة البالغة الأهمية لأسباب استراتيجية ذات بعدين، سياسي إقليمي واقتصادي دولي.
قبل الحديث عن هذه الأبعاد الاستراتيجية، دعونا نتذكّر أن المقاتلات الأميركية ألقت بعد عملية قصف قوات النظام التي كانت تتقدم نحو منطقة التنف منشورات تحذّر من أنها على استعداد لتكرار هذه العمليات إذا استمرت محاولة الالتقاء بين قوات «الحشد الشعبي» التي تتقدم من العراق وقوات النظام وحلفائه من الأذرع الإيرانية التي تتقدم من الحدود السورية.
على خلفية كل هذا تحوّلت منطقة التنف ساحة مواجهة في ظل إعلانات من «الحشد الشعبي» بأنه مستعد للقتال حتى داخل الأراضي السوري، وفي ظل إصرار أميركي حازم على الحيلولة دون ذلك من خلال العمل الجاد لإقامة منطقة آمنة تمتد من الجولان فدرعا فالسويداء، وصولاً إلى دير الزور عبر معبري التنف وأبو كمال.
بالعودة إلى العوامل الاستراتيجية في بعدها السياسي، من الواضح أن سيطرة «داعش» عام 2014 على الرقة وإلغاء الحدود السورية العراقية، قطعت خطوط الاتصال الإيرانية التي تصل بين العراق وسوريا ولبنان، وهو ما يطلق عليه تعريف «الهلال الشيعي»؛ ولهذا فإن إيران تستميت لاستعادة السيطرة على هذا الكوريدور الحيوي، الذي لا يوصلها إلى شاطئ المتوسط جنوب لبنان فحسب، بل يعطيها عناصر جغرافية تساعدها في القول إنها تحارب إسرائيل.
لكن الولايات المتحدة مع سياسات الرئيس دونالد ترمب التي تصنف إيران دولة إرهابية، بدأت تقف بالمرصاد في وجه هذه الحسابات، لا بل إنها تصعّد بقوة ضد التدخلات الإيرانية في المنطقة، وذكرت أنباء نشرت يوم الأحد الماضي أن واشنطن بعثت برسالة إلى طهران بعد عملية قصف قوات النظام في التنف، هددت فيها بضرب مواقع داخل إيران، إذا تعرضّت هذه للجنود الأميركيين في العراق أو سوريا، وأشارت هذه الأنباء إلى أن واشنطن تعمّدت إيصال هذه الرسالة عبر ضباط روس يشاركون في جلسات للتنسيق العسكري بين الطرفين داخل سوريا.
الإيرانيون نفوا أنهم تلقوا الرسالة، لكن إلقاء المنشورات الأميركية جاء تأكيداً عملياً لهذا الإنذار؛ ما يعني على المستوى الاستراتيجي، أنه إذا فقدت إيران ممراتها إلى لبنان عبر سوريا والعراق فإنها ستفقد نفوذها في العراق، الذي بدأ يسجل مواقف متصاعدة ضدها حتى من قيادات شيعية، مثل رئيس الحكومة حيدر العبادي الذي ينتقد ممارسات «الحشد الشعبي»، ومقتدى الصدر الذي يدعو صراحة إلى وقف العبث الإيراني بالعراق، ومن ثم تفقد نفوذها في سوريا، حيث لن تبقى منصتها السياسية المتمثلة في الرئيس بشار الأسد، وهذا ما يدركه الروس ضمناً رغم تمسكهم به.
لكل هذا؛ فإن ما سيحصل على الحدود السورية العراقية الأردنية من الجولان إلى أبو كمال مروراً بنقطة الاشتباك الحامية في التنف، سيقرر مستقبل التوازنات الاستراتيجية الحساسة في المنطقة كلها، خصوصاً إذا انتهى الأمر باقتلاع الهلال الشيعي الذي تهدد طهران بجعله بدراً!
في السياق الميداني لهذه الوقائع واضح وجود سباق بين أميركا والتحالف الدولي من جهة، وبين إيران والنظام وميليشياتهما للوصول إلى الحدود، أميركا تريد السيطرة على طريق دمشق بغداد لملاقاة «قوات سوريا الديمقراطية» التي تدعمها والقادمة من الشمال والتي بدأت يوم الأربعاء تسلّم أسلحة أميركية ما أثار غضب أنقرة؛ وذلك استعداداً للانقضاض على تنظيم داعش في الرقة ودير الزور، وفي المقابل تسعى إيران والنظام للوصول إلى التنف لتلاقي الحشد الشعبي القادم من الشرق بهدف السيطرة على الكوريدور الاستراتيجي الذي يوصل طهران إلى الناقورة جنوب لبنان.
يوم الثلاثاء الماضي رد قائد «الحشد الشعبي» هادي العامري على التهديدات الأميركية بالقول إن قواته سيطرت على قرية تارو في محاذاة جبل سنجار قرب الحدود السورية، وأنها ستبدأ عمليات عسكرية لتطهير الحدود في اتجاه قضاء القائم غرب محافظة الأنبار، لكن بعد ساعات رد قيادي من «قوات سوريا الديمقراطية» بالقول: إنه سيتم التصدي فوراً لقوات «الحشد الشعبي» إذا عبرت الحدود إلى مناطق سيطرتها، وأنه «من غير المقبول بتاتاً وجود إيران هنا، ولن نكون تحت أي ظرف من الظروف جسراً بين (الحشد الشعبي) والنظام السوري».
أما فيما يتصل بالبعد الاقتصادي لهذه المواجهة الاستراتيجية، فقد بدا للمراقبين أن إطلاق الصواريخ الروسية الأربعة، جاء بمثابة دخول محدود ومدروس على خط التحديات بين واشنطن وإيران، وخصوصاً أنه حصل عشية المحادثات العسكرية التي يجريها مسؤولون أميركيون وروس في عمان لإقامة «منطقة آمنة» جنوب سوريا.
لكن صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» الروسية أعادت تسليط الأضواء على ما كان قد تردد كثيراً عن المنافسة الضمنية بين واشنطن وموسكو للسيطرة على حقول النفط والغاز، عندما وصفت قلق وزارة الدفاع الأميركية من التقدم الذي أحرزته القوات السورية المدعومة روسياً وإيرانياً في اتجاه جنوب سوريا، بأنه يشي باحتدام المنافسة غير المعلنة بين روسيا وأميركا للسيطرة على حقول الغاز والنفط الغنية في دير الزور تحديداً، وعلى طرق النقل عبر تدمر ووادي الفرات والمناطق المحاذية للحدود الأردنية العراقية!
على خلفية كل هذا تبدو المساحة الممتدة من الحدود السورية العراقية وجنوباً إلى الحدود الأردنية، ساحة لمواجهة استراتيجية لن تقرر بالتالي مستقبل الوضع السوري، بل مستقبل التوازنات الإقليمية في ظل حدود الدور الإيراني، والدولية في ظل رسم الأدوار والحصص الأميركية والروسية في المنطقة!
المالكي ونصرالله ينفذان واحدة من أخطر فقرات الرؤية الإيرانية. تلك الفقرة التي تقضي بأن العرب لا يستحقون حياة كريمة. أشاع الرجلان القبح في أعز مدينتين عربيتين.
إذا أردت التعرف على حقيقة إيران عليك بالذهاب إلى العراق. أما إذا منعتك الأوضاع الأمنية في أخطر مدينة في العالم وهي بغداد من زيارتها فلا بأس عليك من أن تلقي نظرة سريعة على الضاحية الجنوبية ببيروت.
سوف تُصدم. أهذه بيروت؟ أهذا هو الشعب اللبناني؟
لقد استورد العراقيون واللبنانيون أسوأ ما لدى الشعب الإيراني من ذائقة وعادات ومزاج وتقاليد وسلوك، وأضافوا إليه الشيء الكثير من نتاج تراثهم الباكي والكئيب والمكرر والممل فأضفوا على البضاعة الثقافية الإيرانية قبحا قد يُصدم به الإيرانيون.
بغداد اليوم كما تسجل صورها عدسات مصوري وكالات الأنباء هي أقبح مدينة في العالم، كما أن الضاحية الجنوبية هي أقبح جزء من بيروت.
وكما هو معروف فإن قبح المدينة ينعكس قبحا في النفوس. وهو ما يجري العمل عليه كل لحظة من غير أي شعور بالرحمة. فحين نتحدث عن غسل العقول فإن ذلك لا يجري بمعزل عن تدمير البيئة المحيطة من خلال إلحاق أكبر ضرر بشكلها الجمالي والاكتفاء بوظائفها الأساسية. كأن يكون البيت مجرد مأوى. وهو ما يساوي بين البشر والحيوانات.
وإذا ما كان حزب الله يفاخر بالمستشفيات والمدارس التي بناها من خلال التمويل الإيراني، وهو أمر مشكوك بصحته من جهة أن تكون تلك المستشفيات متاحة للجميع والمدارس صالحة لرعاية وتربية العقول، فإن سياسيي العراق وفي مقدمتهم نوري المالكي فشلوا بالرغم من ثروات العراق الهائلة في بناء مدرسة أو مستشفى، ذلك لأنهم كانوا عبر سنوات حكمهم حسب تعبير المالكي يدافعون عن المشروع الإسلامي.
ولكن ألا يحق لنا أن نتساءل عن ماهية ذلك المشروع الإسلامي الذي أدى إلى أن تُضرب حياة الناس بالقبح في مدينتين كانتا الأجمل دائما؟
حسب المعطيات الواقعية فإن ما يُسمى بالمشروع الإسلامي، الذي يتولى تنفيذه حزب الله في لبنان وحزب الدعوة في العراق، هو في حقيقته صورة عن المخطط الذي وضعه آيات الله لحياة البشر في الدنيا وهي صورة لا تمت إلى حقوق الإنسان وكرامته وحريته واستقلاله بصلة، إضافة إلى أنها تتناقض كليا مع العلم وتجلياته المعاصرة.
نظرة سريعة وخاطفة إلى ما آلت إليه أحوال الناس في العراق وفي الضاحية تكشف عن هول الكارثة التي ضربت العراقيين واللبنانيين بسبب ذلك المشروع الذي يُربط بالإسلام عنوة بالرغم من أنه قد أدى إلى انحطاط سبل العيش، وقبلها انهيار وسائل التعليم والتربية والصحة في كلا البلدين.
ما لا يسبب صدمة لرعاة ذلك المشروع الوهمي أن يكون القبح عنوانا لحياة بشر قيض لهم بالصدفة أن يكونوا ضحايا لمشروعهم. فالجمال والقبح ليسا معيارين معتمدين في قاموسهم. خدمة الولي الفقيه هي المعيار الوحيد لقياس صلاحية الإنسان لعيش حياة آمنة.
ولأن الولي الفقيه هو خلاصة المذهب الشيعي حسب الخميني، وهو الذي وضع ذلك المصطلح في سياق سياسي فإن التعبير عن الولاء له هو بمثابة نوع من الخلاص. يكذب الكثيرون حين يضعون هذا الأمر في مكان آخر.
فالولي الفقيه حسب الرواية الخمينية هو منقذ الأمة وهو مبشرها بالجنة التي لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال الإيمان بالإمامة.
كل ذلك اللعب بالغيبيات كان القصد منه تمرير القبح الذي ظلل مشروع أتباع إيران حياة الناس في العراق ولبنان به. كل هذا الفساد يٌمكن القبول به ما دام يتم في ظل راية الولي الفقيه الذي يعرف أكثر من سواه ما الذي يحتاجه المؤمن لكي ينجو في آخرته من النار.
بعيدا عن الأهداف الإيرانية، فإن المشروع الإسلامي الذي ينادي به نوري المالكي في العراق وحسن نصرالله في لبنان هو مشروع رث ومتهالك ورخيص وعدواني بما ينطوي عليه من استهانة بالحياة البشرية.
المالكي ونصرالله ينفذان واحدة من أخطر فقرات الرؤية الإيرانية. تلك الفقرة التي تقضي بأن العرب لا يستحقون حياة كريمة. لقد أشاع الرجلان القبح في أعز مدينتين عربيتين.
لم يعد السؤال الملحّ اليوم سورية إلى أين؟ وفقط، فثمة سؤال آخر: السوريون إلى أين؟ وهو سؤال يطرح نفسه، بعد أن أغلقت في وجه السوريين كل المعابر، ورفعت الأسوار حولهم، حتى في بلاد اللجوء، فهم محاصرون، إما تحت قنابل النظام أو تحت رحمة قوانين جائرة في دولة احتلال (إسرائيل) أو دول الجوار، أو تحديد إجراءات الإقامة والسفر وتقييدها في دول اللجوء.
لا يعني السؤال أين يجب أن يذهب السوريون، تحت عنوان متابعة سياسة النظام في تهجير من تبقى منهم داخل سورية، أو بقاء الذين ينتظرون في المناطق الحدودية الساخنة حيث هم، وإنما المقصود الحديث عن سورية المستقبل، وسيناريوهات الحل المنتظر من المجتمع الدولي الذي صار يخيّرنا بين التقسيم أو التقاسم، بين أن نكون تحت النفوذ الإيراني أو الروسي، بين الإبقاء على روسيا، بمشاركة كل قوى العالم في سورية، مقابل خروج إيران والإبقاء على نظام الأسد، بين استمرار موتنا بيد النظام وفي معتقلاته، وتحت براميله العشوائية والغبية، أو موتنا تحت قصف الطائرات الأكثر تطوراً وتقنية وتصويباً وذكاءً؟
بالفعل، عن أي سوريين نتحدث؟ هل عن الذين يفضلون الموت تحت أنقاض بيوتهم، أو الذين يلوذون في مناطق تحت سيطرة النظام، ويعيشون ظروفاً اقتصادية قاسية، أم عن المشرّدين بين عابر للحدود، أو الذين يحاولون الاندماج بمجتمعاتهم الجديدة التي لن تستطيع أن تتقبلهم بالمرونة نفسها التي تتحدث بها تلك المجتمعات عن حقوق الإنسان وحق اللجوء.
في المختصر، نحن نتحدث عن سوريين تنقصهم حقوق المواطنة في كل شيء، وفي أي مكان، في سورية داخل مناطق النظام، وتحت حكم "المعارضة"، وفي خارج سورية في دول عربية، أو غربية، في ظل قوانين اللجوء، أو الحماية المؤقتة أو الإقامة وقتاً محدّداً.
إذاً، ووفقاً لما سبق، يدخل الحديث عن سورية الواحدة والشعب السوري الواحد اليوم في مأزق، أو في التباسات، عند الاعتراف بالواقع، فالبلد بات مقسماً على أساس جغرافي وديمغرافي، بين سورية النظام وسورية المعارضة، وسورية القوات الديمقراطية "الكردية" وسورية مناطق جبهة النصرة وتنظيم داعش، وهناك سورية التي، على ما يبدو، نسيها السوريون في ظل انقساماتهم، وترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي، وما فيها من سوريين رفضوا الهوية الإسرائيلية، وتشبثوا بسوريتهم التي يرونها تضيع ضمن كل هذه السوريات المنقسمة جغرافياً وديمغرافياً، إذ سورية كل السوريين غائبة حتى الآن.
سورية التي نشأت حسب خريطة سايكس بيكو، والتي انطلقت الثورة فيها عام 2011 ، والتي نادى القوميون العرب بشعاراتهم "التسويقية" بكسر حواجز حدودها مع الدول العربية، حالمين بالوطن العربي الواحد، بينما نادى "المتطرّفون من المتأسلمين" الذين جاءوا ليمتطوا الثورة، لإقامة دولتهم التي لا تعترف بحدود سورية أساساً، ولا بالسوريين شعباً واحداً، ولا بمشروع ثورتهم لإقامة دولة المواطنة، دولة مواطنين أحرار متساوين.
هذا المشروع الوطني وفق الرؤية الديمقراطية، والتي أعادت الأمل لسوريي الجولان بأن تعود قضيتهم إلى الواجهة، وأن تعود سورية إليهم، سورية هذه البديل لسورية الأسد، حيث استمر النظام بحكم سورية بطريقة استبدادية أمنية متغولة على حياة المواطنين المحرومين من أبسط حقوقهم.
هذه سورية التي سأل عنها أهلنا في الجولان في ندوة نظمها صالون الجولان (التابع لمركز حرمون)، في مدينة مجدل شمس، وحضرها نخبة من المثقفين السوريين والشخصيات الوطنية في الجولان، وشارك فيها لأول مرة شخصياتٌ من المعارضة السورية في الخارج، بمناسبة الزيارة الأولى للكاتب ماجد كيالي إلى فلسطين، بلده التي يراها بعد أكثر من ستين عاماً على حلم اللقاء، والتي بدأها من بلد المولد سورية، من أرضها المحتلة الجولان، وأنهاها منها تأكيداً على انتمائه الكامل لكلا البلدين، سورية وفلسطين، حيث قال: "نمت ليلتي الأولى في هذه الرحلة في مجدل شمس في الجولان السورية، وأختم ليلتي الأخيرة منها، أنا الفلسطيني السوري أو السوري ـ الفلسطيني، سيان، فقد تصالحت هويتي الفلسطينية مع هويتي السورية، في الكفاح من أجل الحرية والمساواة، إذ قضية فلسطين ليست مجرد قطعة أرض، وإنما هي معنى للحرية والكرامة أيضاً".
حظيت بشرف المشاركة في الندوة، إضافة إلى الأصدقاء ميشيل كيلو وحازم نهار وزكريا السقال، من مجموعة العمل الوطني الديمقراطي، وكانت هذه التجربة سابقة فريدة من نوعها، أبدى فيها المشاركون من الجولان ترحيباً وتكريماً عرفوا به دوماً، كما عرفوا بروحهم الوطنية وانتمائهم القومي. طرحت في الندوة، أسئلة عديدة، ضمنها السؤال عن مصير الجولان المحتلة، مؤكدين رفضهم مشاريع التقسيم، سيما أن هذه المشاريع تصب في خانة إسرائيل التي ستكرّس اغتصابها الجولان، كما أنها ستصب في خانة إضعاف سورية وتقسيم شعبها.
طوال الفترة الماضية، تركت المعارضة السورية الجولان، وأهل الجولان، على الرغم من الحاجة إلى التواصل، وللتأكيد على أننا شعب واحد، واقترح أن ندوات كهذه ضرورية ومطلوبة. لذا هذه تحية لمن عمل على إقامة صالون الجولان، وهي ملاحظة للمعارضة لتلافي النقص في هذا الأمر. كما هي تحية لأهلنا الأعزاء في الجولان المحتل، المتمسكين بسوريتهم وهويتها، على الرغم من ظروف الاحتلال القاسية، بينما يعمل النظام بسياسة التهجير التي يتبعها، لسحبها من كل من طالب بالحرية والكرامة ودولة مواطنين أحرار ومتساوين، دولة ديمقراطية مدنية.
كشفت الحرب، بل الحروب، الجارية على الأرض السورية، المستمرة منذ ست سنوات، عن الأزمة العميقة التي تهز نظام العالم الذي ولد من حربين أوروبيتين، أو بالأحرى غربيتين، سمّيتا عالميتين، أنهتا عصر الحروب القاريّة، وكرّستا، في الوقت نفسه، السيطرة الغربية على العالم. فخلال العقود الستة، أو السبعة الماضية، تبدل وجه العالم، ونمت قوى كثيرة في القارات الثلاث الكبرى، وتطوّرت اقتصاداتها وقواها العسكرية ومشاركتها الدولية ونفوذها، بعد أن لم يكن يُحسب لها حساب، كما غيرت ثورة المعرفة والمعلوماتية نمط تفكير الأجيال وتطلعاتها، بينما حافظ نظام نهاية الحرب العالمية الثانية العالمي، المجسّد بمنظومة الأمم المتحدة، على نفسه كما كان.
وبمقدار ما عجز هذا النظام المتجمد، كما هو متوقع، عن ترجيع صدى التغييرات الكبيرة والحثيثة التي جرت في توزيع القوة، وتطور المصالح، وغطّى على التناقضات الوليدة والمتفاقمة، وأخفق في المساهمة في إيجاد الحلول الملائمة لها، كما هو متوقع من أي منظومةٍ سياسيةٍ قانونية، أوجد التربة المناسبة لانتشار الحروب والنزاعات الداخلية والإقليمية التي أصبح من الصعب السيطرة عليها. وفي أحيان كثيرة، كان هو نفسه المشجع على مثل هذه النزاعات والمغذي لها، من أجل تفريغ التناقضات المستعصية على الحل في حروبٍ جانبية، أو موازية، يمكن التحكّم بها، بل والاستفادة منها، لتخفيف الضغوط على النظام الدولي وتثبيته ودعمه.
ومن بين هذه الحروب حروب الشرق الأوسط الكثيرة، وجديدها الحرب السورية التي تكاد تقتفي أثر الحرب العراقية، وتتحول إلى فوهة بركان دائم الاشتعال، لخفض مستوى التوترات الإقليمية والدولية. لكن الحرب السورية التي تكثفت فيها، وتقاطعت أيضا، حروبٌ عديدة، إقليمية ودينية وقومية ومذهبية وعالمية، لم تكشف اختلالات النظام الدولي فحسب، ولكنها لعبت، ولا تزال، دورا كبيرا في تعميقها وتفجير تناقضاتها. يتجلى ذلك في الانقلاب الزاحف على نموذج العالم المنظم والمتضامن والعادل الذي وعدت به الدول المنتصرة البشرية، بعد الحرب العالمية الثانية، وحاولت أن تكرّس قواعده في مواثيق الأمم المتحدة الكونية والشاملة، وفي مدوّنة حقوق الإنسان، ومن العودة إلى تأكيد منطق القوة على حساب القانون، والتمييز العنصري على حساب المساواة، ومبدأ السيطرة بالقوة بدل الحرية، وبالتالي المخاطرة بالاستثمار في مزيد من الفوضى والعنف، بدل السعي إلى وضع مزيدٍ من الاتساق داخل النظام. كيف حصل ذلك؟
قران القومية والرأسمالية
كانت القومية والرأسمالية اللتان ازدهرتا في القرنين التاسع عشر والعشرين أكبر قوتين وحركتين وعقيدتين ونظامين ساهما، بعد النزعة الإنسانية للقرن السادس عشر، في توليد العالم الجديد، الحي والديناميكي، على أنقاض الماضي التقليدي، البطيء والجامد. وكان لهما الفضل في تحديثه، والوصول إلى ما نسميه اليوم الحداثة أو العالم الحديث. ومن دونهما، لا نعرف كيف كان سيكون عليه مصير العالم.
وبهذا المعنى، كانت القومية والرأسمالية تمثلان قوةً تقدميةً بالمعنى التاريخي الحديث الذي يمكن تلخيصه في توسيع دائرة سيطرة البشر على مصيرهم، وتحقيق أوسع هامش مبادرةٍ لهم في مواجهة قوانين الطبيعة الجائرة، أو نظامها الخارج عن إرادة البشر، وكذلك في توسيع دائرة سيطرة الفرد وهامش مبادرته أيضا داخل نظمٍ اجتماعيةٍ، بقيت هي نفسها جامدة، حبيسة التقاليد والقيم الثابتة والمقدسة العصية على التجديد قروناً طويلة.
أما اليوم فهما تمثلان القوتين الأكثر محافظةً ورجعيةً في تاريخ البشرية الحديثة، وتشكلان المصدر الأكبر للبربرية الزاحفة، وإعادة العالم إلى عصور عبودية من طراز جديد، تختلط فيها قيم الاحتقار والعنصرية والكراهية والتمييز بين البشر مع خطابٍ يتم تجويفه باستمرار، حتى يكاد يتحول إلى ورقة توت، عن الحقوق الإنسانية، الفردية والجماعية. وكلاهما تتحملان المسؤولية الرئيسية عن إنتاج الشروخ والتصدّعات المتزايدة التي يكاد من الصعب تصور إمكانية تجاوزها ووقف آلية تحطيم الإنسان في داخل النظم الاجتماعية الخاصة، وعلى مستوى النظام الدولي المتحكم بها. وبالتالي، تجنب خطر القضاء على مستقبل المدنية الحديثة التي نشأت في حجرهما. وتكاد الحالة السورية تمثل ذروة هذه البربرية التي أصبحت العدو الأول لهذا النظام الدولي، والضامن له في الوقت نفسه.
والسبب أن القومية التي ولّدت مفهوم الأمة، وما تضمنته من ثورة سياسية ومفاهيم في السيادة والحرية والمواطنة والمشاركة الديمقراطية، من خلال فرضها نموذج الدولة السيدة، وفصلها السلطة الزمنية عن السلطة الروحية، أي في الواقع تحطيم أساس الاستبداد القائم على تماهي السلطة المركزية للدولة والعقيدة أو الدوغما العقائدية، وتحديدها حقوق الدول والمجتمعات، ووضعها قواعد التعامل في ما بينها، بصرف النظر عن عقيدة الجماعات والأفراد التي تقطن تحت سقفها، أي بعد أن كانت الحاضنة لإنتاج أكثر تنظيمات المجتمعات الإنسانية تقدّما، بالمقارنة مع ما سبق من نظم إقطاعية أو ملكية أو سلطانية أو إمبرطورية، تحولت، وبشكل أشد فأشد، إلى إطارٍ لتقسيم العالم الذي وحّدت تطلعاته وطموح شعوبه بين قطبين: الأول مسيطر ومتحكّم بالقوة العسكرية والعلمية والتقنية والمالية، حر وقانوني، وقطب ثان يمثل معظم المجتمعات البشرية أو أكثريتها يعيش تابعا فقيرا مستلب الإرادة تجاه الخارج والداخل معا، لا أمل له ولا مستقبل. وهي تدفع به بشكلٍ أكبر اليوم نحو تجاوز الاستقطاب الثنائي إلى التشظي والتبعثر والانحلال.
والسبب أن القومية التي بنت الدولة الأمة التي خلقت شروط تحرير الفرد وتحويله من رعيةٍ إلى مواطنٍ مشاركٍ في تقرير مصيره الفردي والجماعي هي نفسها التي رسّخت سياسات الأنانية القومية، والاستهتار بمصير الدول والأمم الأخرى ومستقبلها، فبمقدار ما عمّقت الشعور بالمسؤولية لدى القادة المركزيين تجاه أمتهم وشعوبهم، حرمتهم من أي تعاطفٍ أو تفهم لمصالح الشعوب الأخرى، بل جرّدتهم من أي إحساسٍ بالمصائب التي تواجهها، أو المساعدة على حلها، وبرّرت لنفسها جميع المخططات والاستراتيجيات والحيل السياسية والقانونية والأخلاقية التي تشرعن نهب موارد الدول الأخرى والتحكم بمصيرها واستتباعها ووضعها في خدمتها.
وفي سبيل منع المجتمعات المنافسة من الدخول في دائرة الحداثة الفعلية والفعالة، عملت كل ما تستطيع لإجهاض نهضتها، والتفريق بين عناصر قوتها المادية والبشرية، في سبيل أن تحتفظ وحدها بالسيطرة العالمية وتضمن أطول فترة ممكنة تفوقها وهيمنتها، وتبعد عن نفسها أي منافسةٍ جدية. ولم تنجح في كسر قاعدة الهيمنة هذه إلا المجتمعات والشعوب الكبيرة والراسخة في الحضارة التي كانت من القوة والانتشار بحيث تملك هامش مناورة استراتيجية استثنائية، وتنتصر في امتحان القوة التاريخي الذي اتخذ في حضارةٍ كالصين شكل حرب تحرير طويلة دامت عقودا، أو بعض الشعوب التي وافتها ظروفٌ استثنائيةٌ ونجحت، بعد قرن من المناورات والحروب والنزاعات الداخلية والخارجية، في وضع أسس النهضة الحديثة، قبل أن تتحوّل هي نفسها أيضا إلى دول قومية إمبريالية. باختصار، إن الدولة الأمة التي حرّرت المجتمعات، في جزء كبير من المعمورة، ومكّنتها من تقرير مصيرها، والتعبير عن إرادتها، هي نفسها التي حلت عرى أكثر المجتمعات وفكّكتها عبر الاستعمار وبعده، وحكمت عليها بالدخول في أزمة فكرية وسياسية واقتصادية دائمة، وأدانتها بالبقاء في قفص الديكتاتورية والاستبداد والطغيان.
أما الرأسمالية التي فجرت طاقات الاقتصاد السياسي، من خلال تطوير روح المبادرة والاستثمار المنتج، وأطلقت في إثرها وأخصبت في حضنها ثورة تقنية وعلمية ومعلوماتية عالمية، فقد تحولت إلى أكبر عاملٍ في اجتياح الاقتصادات الأخرى، وإغلاق أفق التحول لدى الشعوب والمجتمعات التابعة، واستخدام ثرواتها البشرية والمادية من أجل دعم نموها الخاص وتقدم مجتمعاتها. وقد تحولت بشكل مضطرد إلى قوةٍ إمبريالية تتغذّى من المضاربات المالية والسياسية، فتضعف فرص الشعوب في بناء اقتصادات منتجةٍ، وتحرم أغلب سكان المعمورة من حقهم في التحرّر والسيادة والتنمية الطبيعية.
الزواج المثير بين القومية أو الدولة الأمة والرأسمالية ولد منذ ثلاثة قرون ظاهرة إمبريالية، أو نظام سيطرة عالمية متداخلة، غير مسبوق في قوته ووحشيته، في أي حقبةٍ، نظام عالمٍ على المستوى نفسه من الانقسام والتناقض والتبعثر والاستقطاب على كل المستويات، وفي كل الميادين. ولم يحصل أن وجد قبله عالم عرف مستوىً من الثراء والتقدم التقني والعلمي وتجمع القوة وتمركزها، وفي الوقت نفسه اتساع دائرة الفقر والبؤس وهشاشة شروط الحياة وفقدانها أي معنىً عند مليارات البشر، كما يحصل في عالمنا اليوم. وإذا لم تحصل معجزةٌ، واستمر التنافس من دون معايير ولا حدود، واستمر سعي الأمم كل لإنقاذ نفسها من دون سؤال عن مصير الكل العالمي، كما يحصل اليوم في الولايات المتحدة وروسيا، ويتجلى في سورية المدمرة، فلن يكون هناك مخرج آخر سوى الانتحار الجماعي، ودفع العالم إلى الجنون والانفجار. فالدينامية التي دفعت الأمم من منطلق المصلحة القومية والأنانية إلى التنافس ومراكمة الموارد والأرباح وتعزيز السيطرة على رأس المال، هي نفسها التي وقفت، منذ قرنين، ولا تزال تقف ضد أي مشروع إنساني جماعي، يهدف إلى مساعدة الدول الفقيرة والشعوب التي زعزع استقرارها وحطم توازناتها ودمر اقتصاداتها وقوّض مسار تقدمها الاستعمار قبل أن تحول دون بنائها القومي والرأسمالي الهيمنة الدولية أو تحول القومية والرأسمالية إلى إمبريالية عالمية. وتكاد هذه الدول الفقيرة مع تصميم القوى الأكبر على تركها تتخبط في أزماتها ونزاعاتها وحروبها الداخلية والبينية نتيجة بؤسها، تفقد أي أمل بالخروج من مأزقها وتأمين الموارد والخبرات والكفاءات، لتأهيل نفسها للحياة ضمن مجتمع الحداثة والتقدم التقني والعلمي.
سافر الإدلبيون كثيراً وتغربوا عن بلدهم بحثاً عن رزقهم؛ حاولوا إيجاد فرصاً جديدة تنهي عهد الاستبعاد والتهميش الذي فرضه نظام الأسد على مدى خمسين عاماً. خسر الكثير منهم فرص عمل ثمينة على الرغم من مؤهلاتهم العلمية وإتقانهم المهني وقدرتهم على تحمّل ساعاتٍ طويلةٍ من العمل، ذهب كلّ ذلك أدراج الرياح لتهمةِ بقرابةٍ أو صداقةِ أو علاقةٍ تربطهم بمطلوبين على خلفية ثورة الثمانينات.
مضت عقودٌ وهم على هذه الحالة، ليعود أكثرهم اليوم إلى بيوتهم وديارهم بعد تحريرها من عصابات الأسد، وتحوَلت إدلب لعاصمةٍ ثوريةٍ تجمع في أزقتها وبلداتها ضيوفاً هُجّروا إليها قسرا من المحافظات الأخرى، فترى الحارة الواحدة تجمع الحمصي والشرقي ابن البادية مع الدمشقي والحوراني ابن الجنوب، إضافة للجيران القادمين من حلب وحماة والساحل لتختلط فيها العائلات، وتشكّل بانوراما اجتماعيةً سوريةً ملونةً بكلّ العادات والتقاليد.
جاء إليها أهل حمص الذين كسبوا في بيئتهم طيب المعشر من طيب المناخ، فهم أهل الطيبة والكرم و ملاحة الطباع وجمال الشكل وعذب الحديث وتفوق الدراسة إضافةً للهجة المحببة، حتى أنّ طيب معشرهم جعلهم مضرب المثل لما يتمتّعون به من روح النكتة الطريفة والمرح الخفيف، ومعروفٌ عن أهل حمص نسجهم للطرائف التي تنتشر في عموم سوريا وبلاد الجوار.
كما فتح الإدلبيون بيوتهم وقلوبهم للمهجَرين من أهل الشام؛ الذين وصفهم الحجاج بقوله: “لايغرنّك صبرهم، ولا تستضعف قوتهم، فهم إن قاموا لنصرة رجل ما تركوه إلّا والتَاج على رأسه”.
كذلك هجّرت داعش الثوار من مناطق سيطرتها، ليجتمعوا جميعاً في المحافظة الخضراء، جاؤوا بمهنهم وأعمالهم وأصرّ الكثير منهم على ممارسة أعمالهم وحرفهم على أرض هذه المحافظة، ليشكّلوا مع أهلها مزيجاً متكاملاً، ويرمَموا النقص الّذي تعرضت البلدات له نتيجة القصف والقتل وتدمير البنية التحتية للمحافظة، بينما شعر البعض بالغربة، وفضّلوا الانسحاب للحدود التركية السورية، ومنهم من عبر الحدود تاركاً البلاد وما فيها بعد أن خسر كلّ شيء.
اختلطت المهن في الأسواق، واندمج الأطفال في الأزقة والحارات، كما اندمج المقاتلون على الجبهات، وكذلك النساء في جلساتهن الخاصة وينتج عن ذلك اندماج التجارب والعادات والأعراف، كما يتبادلن صنع الأكلات والمعجنات.
تكاد فرص العمل أن تكون قليلة إلا أنّ حُبّ البقاء جمع كلّ هؤلاء ليشكّلوا درعاً مقاوماً لنظام الأسد والميليشيات الأجنبية المقاتلة معه، ودرعاً منيعاً في وجه الانفصاليين الأكراد في الشمال، فتمنع تمددهم وسيطرتهم على أراض عربية جديدة.
يحرص الجميع على البقاء في إدلب رغم كلّ الدمار والفقر والتهديدات الداخلية والخارجية ورغم سياسة التضييق، وإغلاق الحدود ورغم تجفيف موارد الإغاثة القادمة من الشمال، لأن ضريبة الانسحاب أكبر بكثير من ضريبة البقاء والمحافظة على هذه البقعة الجغرافية من الاحتلال.
حكومة إيران لديها هدف واضح هو خلق واقع يناسبها على الأرض يفرض نفسه عند تقرير مصير سوريا، ويوسع دورها في العراق، لاحقاً. باتجاه هذا الهدف تقود الميليشيات العراقية، وغيرها التي أسستها، وأخرى لها نفوذ عليها في العراق، باتجاه سوريا، لتخوض معارك كبيرة للسيطرة على المعابر والممر البري إلى دمشق والمناطق الحيوية. هذا يعني أن الصراع سيطول لسنين أخرى، حيث ستدفع الدول الإقليمية إلى دعم جماعات مضادة، وسيعيد إنتاج «داعش» من جديد، وإفشال الحرب على الإرهاب.
في إدارة مشروعه يستخدم نظام طهران ذرائع مختلفة لتبرير مشروعه، أبرزها محاربة التنظيمات الإرهابية، وأنه سيقوم بحراسة حدود العراق، في حين أنه يقوم برسم مناطق سيطرته والتحكم في معابر الحدود مع سوريا، ويحاول فرض وجوده على معظم الثلاثمائة كيلومتر، ثم العبور بالميليشيات العراقية إلى أراضي سوريا.
وكان فيلق القدس الإيراني قد دخل سوريا لإنقاذ نظام الأسد من الانهيار في البداية تحت ذريعة حماية المزارات الدينية الشيعية. والآن يبني وجوده العسكري بحجة محاربة «داعش»، لكن في الحقيقة له مشروع طويل الأمد، وهو الهيمنة على العراق وسوريا ولبنان.
الحضور العسكري الإيراني على الأرض سيتمدد في حالة التوتر، وزيادة التطرف الطائفي في البلدين، وبالتأكيد إفشال مشروع التحالف بالقضاء على «داعش» الإرهابي، لأن التنظيم بوجود ممارسات الحشد الشعبي الطائفية سيجعل المناطق السنية تؤسس جماعات مضادة.
الاتجاه نحو الحدود يطرح جملة أسئلة حول جدية الحملة الدولية لمحاربة «داعش»، وسيفتح جبهات معارك مع المسلحين الأكراد الذين يمر الحشد بمناطقهم، ويجعل عبور تنظيم مسلح عراقي إلى دولة أخرى هي سوريا محل مساءلة قانونية، كما يحدث للقوات التركية في العراق.
إيران تحاول فرض أمر واقع على القوى الدولية، بما في ذلك حليفتها روسيا، بعد أن اشتمت رائحة تبدل جزئي في موقفها. وقد نسب للجانب الروسي قوله إنه مضطر إلى التعامل في المرحلة الحالية مع إيران وميليشياتها الأجنبية، لأنها موجودة على الأرض، وهذا ما تحاول طهران التأكيد عليه بنقل آلاف من المقاتلين العراقيين وغيرهم إلى شمال العراق والعبور إلى سوريا.
إيران بتحركاتها ستمزق العراق، وتزيد سوريا تمزيقا، وترفع من مخاطر الإرهاب المستفيد من الفوضى وصراع المحاور المتعددة. ولا يعقل أن تسعى الأطراف المعنية بالبحث عن حل سياسي في آستانة أو جنيف وتترك القيادات العسكرية الإيرانية تقوم بتخريب الوضع وإفشال الجهود الدولية. وهذا يتطلب تكثيف الضغط على إيران، ووضعها أمام ضرورة إخراج المقاتلين الأجانب جميعا.