مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٣٠ أكتوبر ٢٠١٧
«حزب الله» إذ يرهّب جمهوره

غلب الترغيب على علاقة حزب الله اللبناني مع بيئته الشيعية، لاستدراج أبنائها، خصوصاً القاطنين في الأطراف، ضحايا وقرابين، لمشاريع إقليمية تديرها ولاية الفقيه في إيران، توسعاً ونفوذاً واستيطاناً، لتعميق الخراب في سوريا والعراق واليمن. والترغيب، إذ تمثل في منظومة خدمية مؤسساتية تشمل كافة مناحي الحياة، وتستوعب أكبر عدد من أبناء الطائفة، كثمن مدفوع مسبق لموتهم المحتمل، انطوى كذلك، على فساد وتأمين الخارجين عن الدولة، بتدرج مستوياتهم، بدءا من المخالفات البسيطة، وصولاً إلى تجارة المخدرات وعصابات الخطف.

وإذا كان الجانب المؤسساتي قليل التعرض للضعف، بحكم الأموال التي تضخ للحزب من إيران، فإن الفساد، شديد الهشاشة والانفضاح بحكم ارتباطه بما هو أهلي وأيضاً، بعلاقة الحزب مع الدولة، فهو عادة ما يرشي الأخيرة بمنحها سيادة مؤقتة تتسبب بانفجارات اجتماعية. وهذا ما حصل الأسبوع الماضي في حي السلم وسط الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل «حزب الله»، إذ اقتحمت القوى الأمنية فجراً المكان وأزالت «أكشاك» تجارية مخالفة، ما ولّد «ثورة» من قبل المتضررين، ترجمت غضباً وحرقاً وشتائم، نالت من أمين عام الحزب حسن نصر الله. وزاد من أثر الحدث، توثيقه تلفزيونياً، واختلاط النقد بين المعيشي والأخلاقي والسياسي، فقد اعترض أحدهم على إرسال الشباب الشيعة للقتال في سوريا، فيما تجرأت امرأة على فضح بعض قيادات الحزب، الذين يرهنون مساعدتهم للنساء المحتاجات بعقود متعة.

تصدّع صورة الحزب التي جرت على الهواء مباشرة، ومن داخله هذه المرة، وشاهدها معظم اللبنانيين، وتسربت على مواقع التواصل، مقاطع فيديو قصيرة لتصل إلى عموم العالم العربي، لاسيما الناقم على «المقاومة»، حرّضت لدى قيادة الأخيرة نازع الترهيب، لاستعادة ما فقد من معنى وهيبة. فسارع النائب عن الحزب في البرلمان والمعروف براديكاليته في الدفاع عن «الشيعية السياسية»، علي عمار إلى استرداد «هالة» نصر الله التي مرّغها المستاؤون من تضرر مصالحهم، رافعاً إياه إلى مصاف القديسين، مستعيداً حادثة تقبيله حذاء «السيد» حيث شعر بالخروج من «الناسوت» والدخول إلى «الملكوت»، كما قال.

وإن صح أن تأليه أمين عام الحزب ليس جديداً على الماكينة السياسية والإعلامية للحزب، فإن رابط ما بين كلام عمار، وحادثة حي السلم يرتسم بوضوح ليحدد مسار الترهيب الذي أعلنته «المقاومة» ضد جمهورها. فقد أراد النائب أن يوصل رسالة إلى الأهالي «المنتفضين» بأن غضبهم ممنوع تصريفه ضد «السيد» القابع في «الملكوت»، فذاك كفر، والكفر يستوجب العقاب.

وبعد ساعات قليلة على كلام عمار الذي يعيد تثبيت صورة نصر الله بوصفه أعلى درجة من البشر، خرج الذين قادوا حملة الشتم والاستياء ضد الحزب وأمينه العام ليعلنوا توبتهم، في إخراج تلفزيوني لا يقل رداءة عن ذاك الذي نراه على شاشات التلفزة البعثية في سوريا الأسد. بأصوات مبحوحة ومنكسرة وبروح ذليلة، قدموا جميعها اعتذارهم لـ»السيد» متلمسين العذر منه. ولتكتمل دائرة الترهيب، سُرب على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو تعذيب لشاب يدعى جعفر، متهم بإهانة أحد رموز الشيعة (السيدة زينب). الشاب العشريني صفع وضرب وأهين، وأجبر على الغناء والرقص وهو معصوب العينين. الفيديو الذي قيل إن تصويره تم عام 2014 داخل أحد مراكز «حزب الله»، لا يدل توقيت إخراجه إلى العلن سوى أن «المقاومة» أرادت أن تظهر لجمهورها، كيف يكون عقاب من يهين الرموز، وزينب هنا معادل لحسن نصر الله.

هكذا أصلح الحزب صورة أمينه العام، عبر كلام علي عمار، ثم أخضع المتطاولين عليه بإعادة صياغة تصريحاتهم، ليصار أخيراً إلى كشف عقاب من يكرر الفعلة عبر شريط فيديو مقزز.

صحيح أن مراحل صناعة الترهيب هذه، لا تغير شيئاً في علاقة الحزب بجمهوره، الذي ينظر إلى حسن نصر الله كأب إذا أراد، فمن حقه أن يعاقب، لكن في السياسة، يأتي ما حصل في توقيت خاص. إذ إن الحزب سيصبح قريباً في مواجهة فراغ وظيفته. فالإرهاب الذي صاغت «المقاومة»، مؤخراً، دورها على وقع محاربته، انتهى في لبنان بعد معارك الجرود، ويكاد ينتهي في سوريا والعراق. أما الداخل، الذي لجأ إليها الحزب في السابق، بعد الهدنة الصامدة مع إسرائيل، متفرغاً للاغتيالات، فمضبوط بتسوية محلية، وبقرار دولي بعدم التوتير، ما يعني أن الحزب سيعاني من العطالة مجدداً، ولن يجد بسهولة، معنى لوجوده. هذا ما سيعزز ارتفاع مستوى الترهيب من قبل «المقاومة» ضد جمهورها، وسيعزز أيضاً، وهو الأهم، إعادة النظر بصورة الأب لدى جمهور الحزب، ألم يكن من ألقاب حافظ الأسد «الأب القائد»؟

اقرأ المزيد
٣٠ أكتوبر ٢٠١٧
هل صار الدب الروسي أذكى من الحمار الأمريكي؟

ارتبطت صورة السياسة الروسية على مدى عقود في أذهان الكثيرين بالدب الروسي الغبي. وهو مصطلح يطلق على روسيا على الدوام، ويستخدم في رسوم الكاريكاتير ليشير إلى الروس في الشرق والغرب، وقد استعير هذا الاسم ليطلق على روسيا من ذلك الحيوان القطبي الشهير الأبيض الفراء، الضخم الجثة، العظيم الأنياب، والذي لا يهمه إلا اصطياد فرائسه بأي وسيلة كانت بكل بطش وشراسة. ويبدو أن أوجه الشبه بين هذا الدب والحكم الروسي كثيرة، فهو يتسم بالعدوانية ـ تماماً كالدب الروسي- إضافة إلى التسلط والاعتداء على الشعوب الأخرى بدءاً بعهد القياصرة ووقوفًا عند الثورة البلشفية وتأملًا فيما فعله السوفييت بالجمهوريات المستقلة التي ضموها إلى معسكرهم ومصادرتهم لحريات شعوبها وطمسهم لهوياتها وفصلهم لها عن أديانها ومعتقداتها.

لكن هل يا ترى مازالت روسيا تعمل بعقلية الدب الروسي، أم إنها بدأت في عهد بوتين تجمع بين عقلية الدب والثعلب، لا بل إن عقلية الثعلب صارت أكثر وضوحاً في السياسات الروسية منذ وصول الرئيس بوتين إلى السلطة، فوجه الرئيس نفسه أقرب إلى وجه الثعلب الذكي منه إلى وجه الدب الذي امتاز به القادة السوفيات على مدى القرن الماضي. ولو قارنا بين وجه بوتين ووجوه القادة الروس الذين حكموا الاتحاد السوفياتي على مدى أكثر من سبعة عقود في القرن العشرين، لوجدنا أن السياسة الروسية لم تتغير فقط في الجوهر، بل أيضاً في المظهر، فمنذ سقوط الاتحاد السوفياتي بدأت تتغير طبيعة الوجوه التي تحكم روسيا. صحيح أن باريس يلتسن الذي حكم البلاد بعد انهيار الاتحاد لفترة قصيرة كان أقرب في شكله إلى العهد الماضي بملامحه الدببية، إلا أنه قد يكون آخر زعيم روسي ينتمي إلى الشكل الدبي شكلاً ومضموناً.

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، لم يتغير شكل القائد الروسي فحسب، بل تغير جوهر السياسة الروسية، على الأقل حسبما نرى من خلال سياسات الرئيس فلاديمير بوتين على مدى العقد الماضي، فقد تخلص من الكثير من صفات الدب الروسي الجلف الذي لا يعرف سوى العدوانية والوحشية.

صحيح أن الروس لم يصبحوا حملاناً وديعة، وصحيح أنهم مارسوا أفظع أنواع العدوانية والوحشية التي يتسم بها الدب الروسي، وخاصة في سوريا ومن قبل في الشيشان، لكن هذه الوحشية لا تقتصر فقط على الروس، فالأمريكان مارسوا مثلها وأبشع في أفغانستان والعراق وحتى سوريا. لكن الذي بدأ يميّز الاستراتيجية الروسية البوتينية الجديدة أنها لم تعد تعتمد فقط على الوحشية والعدوانية المرتبطة بالدب الروسي، بل بدأت تمارس السياسة الماكيافيلية على أفضل وجه. لقد أصبح الروس يلعبون الشطرنج، خاصة وأن لديهم أفضل وأمهر اللاعبين في هذه اللعبة على مستوى العالم. من لا يعرف كاسباروف بطل الشطرنج الأسطوري؟ لم يعد لاعب السياسة الروسي يبدو كالحيوان القطبي متجهم الوجه الذي يسير في خط مستقيم باتجاه فريسته ليلتهمها بعدوانية ووحشية، بل صار أقرب إلى كاسباروف الذي يحرك أحجاره في كل الاتجاهات ليربك الخصم، وليستولي على أكبر مساحة من رقعة الشطرنج. ويكفينا أن ننظر إلى هذا الاجتياح الروسي العسكري والدبلوماسي للعالم على مدى السنوات الماضية، إلى حد أن بريطانيا القطب الغربي الأهم باتت ترى في التمدد الروسي خطراً على أمنها القومي تحديداً، خاصة وأن الطيران الروسي اقترب من الأجواء البريطانية أكثر من مرة، وشوهد حول الفضاء الاسكتلندي. والأخطر من ذلك أن مصادر بريطانية تتهم الروس بتحريض الاسكتلنديين على الانفصال عن المملكة المتحدة. ولا شك أن معظمنا سمع عن التحرش الروسي المستمر بالدول الاسكندنافية. وعندما هدد الرئيس الكوري الشمالي الأمريكيين في الأسابيع الماضية بصواريخ نووية، فلا شك أنه فعل ذلك بإيعاز وضوء أخضر روسي.

ولو ركزنا على الاستراتيجية الروسية الجديدة في الشرق الأوسط لاتضحت السياسة الثعلبية الروسية أكثر فأكثر في مواجهة الغباء الأمريكي. وهنا نحن لا نتهم أمريكا بالحمرنة، بل الأمريكيون أنفسهم يتخذون من الحمار شعاراً للحزب الديمقراطي العريق. لاحظوا كيف بدأ الشرق والغرب يقترب من روسيا، ويبتعد عن أمريكا، خاصة في عهد ترمب الذي بات يعادي ويستفز الحلفاء قبل الخصوم. لاحظوا كيف تقف أوروبا في المعسكر الروسي الإيراني فيما يخص الاتفاق النووي مع إيران. لاحظوا كيف تقترب أمريكا من مواجهة نووية مع كوريا الشمالية، بينما تستخدم روسيا البعبع الكوري لإرهاب الأمريكيين. لاحظوا كيف تجمع روسيا القوى الكبرى الناشئة تحت جناحها في مجموعة البريكس، ولاحظوا كيف تخسر أمريكا حلفاءها الواحد تلو الآخر. حتى العرب المحسوبون على الحلف الأمريكي بدأوا يتوافدون على روسيا، ويعقدون معها صفقات مليارية كالسعودية وبقية دول الخليج.

ويقول الحكام العرب القريبون من أمريكا في لقاءاتهم الخاصة مع المسؤولين الروس إن روسيا صارت موثوقة أكثر من أمريكا لأنها لا تخون حلفاءها. وبينما تخسر أمريكا أصدقاءها، نجد أن روسيا تمكنت من التقارب مع حلفائها وخصومها ببراعة واضحة في الفترة الأخيرة. لقد فرضت روسيا نفسها، كما يرى الباحثون، كلاعب دولي أساسي «على مسارح الشرق الأوسـط وجبهـاته عبر اختراقها الاستراتيجي في سوريا، وعلاقاتها المرسخة أو الجديدة مع الدول العربية في الخليج ومصر وشمال أفريقيا، بالإضافة لحلف المصلحة مع إيران والتنسيق المرن مع إسرائيل والصلة المستعادة مع تركيا. عبر هذه العلاقات المتكاملة أو المتضاربة أحياناً، نسجت روسيا شبكة تضمن توسع نفوذها ومصالحها على حساب بعض اللاعبين الدوليين والإقليميين».

هل صار الدب الروسي فعلاً أذكى وأكثر حنكة بكثير من الحمار الأمريكي، أم إن الأفخاخ التي ينصبها الأمريكي للروسي في أكثر من منطقة ستنفجر في وجهه في قادم الأيام، وستثبت مرة أخرى أن الدب الروسي ما زال دباً؟

اقرأ المزيد
٣٠ أكتوبر ٢٠١٧
تصريحات أمريكا حول نهاية الأسد مرهونة بإضعاف روسيا وإيران

أدلى وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون الخميس الماضي بتصريح لافت حول اقتراب نهاية حكم الرئيس السوري بشار الأسد، معيدا مقولة أمريكية وأوروبية تكررت على مدار السنوات الست الماضية، وهي إن لا مكان لأسرة الأسد في مستقبل سوريا.

التصريح جاء بعد لقاء تيلرسون بالمندوب الأممي إلى سوريا ستافان دي ميستورا وفي سياق التعليق على إعلان الأخير أن مفاوضات جنيف بين المعارضة السورية والنظام ستستأنف في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، غير أن معاني التصريح يمكن أن تفيض عن هذه الواقعة المحددة وتتشعّب في اتجاهات أخرى لا تقتصر على الوضع السوري بل تمتد إلى مجريات الأوضاع السياسية والعسكرية في المنطقة والعالم.

يجيء التصريح بعد فشل الولايات المتحدة في تمرير قرار قدّمته لمجلس الأمن الثلاثاء الماضي لتمديد تفويض لجنة التحقيق في استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا بعد استخدام روسيا لحق النقض «الفيتو» ضده، وتوازى ذلك مع اتهام واشنطن لموسكو عبر حلف الأطلسي (الناتو) بتضليل الحلف بشأن نطاق مناوراتها الحربية الشهر الماضي ما اعتبر انتهاكا لقواعد تستهدف «خفض التوتر بين الشرق والغرب» وبأن قواتها حاكت هجوما على الغرب. وحسب الأمين العام لحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ فإن «عدد القوات المشاركة في المناورات تجاوز بصورة كبيرة العدد المعلن قبلها والسيناريو كان مختلفا والنطاق الجغرافي أكبر مما سبق الإعلان عنه».

هاتان الحادثتان مثالان على المناوشات الجارية بين البلدين، وكان التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية وردود الأفعال المتصلة عليه، من تخفيض أعداد الدبلوماسيين وإغلاق القنصليات ومنع الإعلانات الروسية في وسائل التواصل أحد أشكال هذه المناوشات.

ورغم أن تيلرسون لم يتطرق لكل هذه الوقائع التي سبقت تصريحه لكنّ تتبع آثار ذلك ممكن من خلال الرابط في قوله إن السبب الوحيد في نجاح قوات الأسد في تحويل دفة الحرب المستمرة منذ أكثر من ست سنوات هو «الدعم الجوي الذي تلقته من روسيا».

وإذا كانت الرسائل المتبادلة بين واشنطن وموسكو على الساحة السورية، وارتباطها بأشكال النزال العسكري والدبلوماسي بين الطرفين واضحة للعيان، فإن التصعيد اللفظي الأخير يرتبط أيضاً ومن دون شك بالتحركات الأمريكية والإقليمية لاحتواء النفوذ الإيراني في سوريا والمشرق العربي وكانت آخر المستجدات في هذا الموضوع العقوبات التي أقرها مجلس النواب الأمريكي (الكونغرس) على «حزب الله» في لبنان، ورعاية واشنطن للتقارب السعودي ـ العراقي، وملامح التوجه السياسي الأمريكي فيما يخص المنطقة بعد الانتهاء من تنظيم «الدولة الإسلامية» واستيعاب النقلات التي ترتّبت على إعلان الاستفتاء الكردي وهجوم «الحشد الشعبي» على كركوك ومطالبة تيلرسون بخروج «الميليشيات الإيرانية» من العراق.

وإذا نظرنا إلى تصريح وزير الخارجية الأمريكي حول «اقتراب نهاية الأسد» ضمن هذا السياق فإن المقصود منه قد يعتبر تهديداً لدكتاتور قصر المهاجرين لدفعه للابتعاد عن إيران أكثر من كونه اشتغالا أمريكياً فعلياً على تحقيق تلك «النهاية». فالإدارة الأمريكية على مدار السنوات الستّ الماضية (باستثناء الضربة المختصرة التي تلقّاها النظام على مطار الشعيرات بعد قصفه بلدة خان شيخون بالسلاح الكيميائي)، ساهمت، خلال إدارتي باراك أوباما ودونالد ترامب، هي أيضاً في الإبقاء على النظام السوري، رغم كل الإعلانات الصاخبة المستمرة عن انتهاء أيامه وضرورة رحيله.

ففي شهور الثورة السورية الأولى مارست واشنطن ضغوطاً هائلة لقولبة المعارضة ضمن أجندتها، ومنعت إنشاء حكومة انتقالية تلغي شرعية النظام، ثم انشغلت بترتيب الاتفاق النووي مع إيران، ولاحقاً بلعت «خطوطها الحمر» للنظام وركّزت على تفكيك ترسانته الكيميائية. لتسلّم بعدها أوراق اللعبة للروس وتخذل تركيا حين حاولت التصدي لهم.

وفي مرحلة أخرى، حاولت أمريكا تمويل معارضة تتفرغ لقتال حركات الجهادية المسلحة وتتحاشى قتال النظام، وقوّت خصوم أنقرة اللدودين من واجهات حزب العمال الكردستاني في سوريا الخ. وعليه، فإن دعم روسيا وإيران للنظام لم يكونا السبب الوحيد في عدم سقوطه.

التصعيد الأمريكي، بهذا المعنى، محدود، بحدود معارك واشنطن الدبلوماسية والاستخباراتية مع روسيا، وبمحاولتها تقليم أظافر طهران في المشرق العربي.

ما يعني أن التصريحات عن «نهاية الأسد» لن يكون لها تأثير سريع على مجريات الأحداث في سوريا (ناهيك عن تأثيرها على مفاوضات جنيف المقبلة) ما لم تحصل تغيّرات حقيقية في المنطقة العربية أو العالم تضعف دعم روسيا وإيران للنظام السوري ورئيسه.

اقرأ المزيد
٣٠ أكتوبر ٢٠١٧
أي ضمانة لبقاء سورية موحدة؟

تختلف طبيعة التسوية التي تريدها، وتعمل من أجلها موسكو، بالتنسيق مع النظام في سورية ومع طهران ومليشياتها الطائفية، عن التي تعمل من أجلها واشنطن مع حلفائها من المعارضة السياسية والأكراد وقوى في الإقليم تنسق معها، من بينها إسرائيل، فقبل أيام، حملت وزارة الدفاع الروسية بقوة على الولايات المتحدة، واتهمتها بـ "عرقلة التسوية السياسية في سورية"، وقالت إنها "تمتلك معلومات عن مساعدات أميركية للإرهابيين". في حين شدّد وزير الخارجية، سيرغي لافروف، على "الحاجة لإطلاق عملية سياسية في أقرب وقت"، وتعهد منع "تسييس ملف الكيميائي السوري"، بالتزامن مع تحذير نظيره السوري، وليد المعلم، الأكراد من أن "المساعدات الأميركية لن تستمر طويلاً". واتهم بيان أصدرته الوزارة واشنطن بأنها باتت تعرقل وقوع تقدّم في عملية التسوية السياسية في سورية، من خلال الدعم الذي تمنحه للإرهابيين، ومحاولات عرقلة عمل القوات الحكومية السورية والقوات الروسية ضد معاقلهم.

وقد أضفى الاستفتاء الكردي العراقي بنتائجه، وتاليا بما قد يقود إليه من تداعياتٍ، إلى مزيد من التعقيدات التي تكتنف المشهد الإقليمي برمته، بدءا من العراق وصولا إلى سورية، حتى ليمكن القول إنه لا أحد من القوى المتصارعة اليوم في سورية، بدءا من النظام وحماته وداعميه الروس والإيرانيين ومليشياتهم المذهبية، ولا حتى التحالف الدولي الأميركي – الأوروبي، ولا العديد من قوى المعارضة على اختلافها، في وسعه الادّعاء أو الزعم أنه قادر على الدفع بالتسوية والسلم الأهلي، وإعادة بناء ما هدمته جولات الحروب الأهلية التي خيضت هناك، طوال السنوات السبع المدمرة، فالسبع العجاف المقبلة لن يكون في مستطاعها، أيضا، إنقاذ سورية من نفسها، ومن مطامع بعضهم بها، ومن مطامح أخرى لقوى كانت تتمنى أن تكون شريكة السلطة في التسلط الاستبدادي، وفي التموقع استراتيجيا على الصعيد الأمني أولا، لضمان حماية الأمن الإسرائيلي، وهو ما تقوم به روسيا في مواجهة إيران وتحالفها المليشياوي المذهبي، فيما يقوم هؤلاء الأخيرون، وعبر تموقعهم الاستراتيجي الهادف لحماية النظام أولا، ولخدمة مشروع الولاية الإمبراطورية التي يُراد لها التواصل بين طهران وبيروت مرورا ببغداد ودمشق، ولإقامة نفوذ إقليمي لها، تصلب من واقع نظامها في الداخل الإيراني، وتشكل له مظلة من الحماية والردع في مواجهة النفوذ الأميركي والأوروبي، في منطقة الثروات النفطية واحتياطات الغاز وأسواق التجارة في مواد الاستهلاك، وأخيرا في سوق إعادة الإعمار، بعد أن تتوقف الحرب.

هناك من يتوقع أن الأزمة السورية تشهد فصولها الأخيرة، مع عدم القدرة على الحسم الكامل، في ظل مساع دولية متعدّدة لإبقاء النظام على حاله، أو لتغييرات طفيفة في بنيته السلطوية، نظرا إلى دوره الأمني الاستراتيجي، في منطقة يتمتع الوجود الوظيفي الإسرائيلي فيها بحماية ودعم من يريدون للنظام السوري الاستمرار بالمهام الوظيفية نفسها التي تتمتع بها عادة الأنظمة التابعة.

وفي مرحلة تقاسم المغانم التي باتت سمة الوضع الراهن، وفي ظل فشل قوى المعارضة على اختلافها، وخسارة التنظيمات الإرهابية معظم "حيازاتها" السابقة من الأراضي، لا يتوقع استمرار التلويح بتسويةٍ هنا أو هنالك، لا سيما وأن التسليم ببقاء الأسد في السلطة بات شبه محسوم لدى كل أطراف الأزمة، حتى أن التسوية الممكنة سوف تمضي على قاعدة بقائه حاكما لسورية/ الجزر الديموغرافية التي غيرت وجهها لمصلحة المشروع المذهبي الإيراني من جهة، ولمصلحة النفوذ الروسي الدولي الذي نجح، من خلال الأزمة السورية، في استعادة بعض هيبة الاتحاد السوفييتي السابق.

على الرغم من ذلك، لا يتوقع أن تستقر أوضاع سورية بعودتها إلى نصف أو ربع ما كانته قبل بداية الأزمة، فالصراع الأهلي والإقليمي والدولي على مغانم حرب متقلبة ومتغيرة، لن يقدر لها أن تتوقف مرة واحدة ونهائيا، قبل أن تحقق الأطراف الإقليمية والدولية ما تعتقد أنه "حقها" المكتسب، وفق أدوارها ومصالحها الزبائنية، مستحقات لها بعد القيام بأدوارها المعروفة، والمشهود لها في الإبقاء على نظامٍ لا يساهم في ضمان استمرار مصالحها في سورية فقط، بل وفي المنطقة ككل أيضا، سواء تعلق الأمر بالنظام الإيراني أو بروسيا أو بالتحالف الدولي، أو حتى بإسرائيل.

وإذا كانت أهداف موسكو، بعد عامين من تدخلها في سورية، قد تحققت في معظمها، إلا أن جهودها لتتويج ذلك كله بتسوية ناجحة ودائمة، ما قد يقدم لها الحصة الأكبر من مغنم إعادة الإعمار الذي قد يتجاوز مائتي مليار دولار على أقل تقدير؛ يبقى ذلك الهدف الأثمن لموسكو، إلى جانب نجاحها الجزئي في الحد من نفوذ الغرب الأميركي والأوروبي في المنطقة، بل هي تسعى إلى إعادة الاستقرار، ليس هنا فقط، بل وفي دول الجوار حول روسيا في البلطيق وجورجيا وأوكرانيا، وقطع دابر العناصر الإرهابية والمتطرّفة في كلتا المنطقتين، قبل أن يعود بعضهم ليتسرّب، مرة أخرى، إلى مناطق يمكنه منها شن هجمات إرهابية ضد أهدافٍ في الداخل الروسي، حيث كانت مصادر صحفية قد أشارت إلى وجود أكثر من ثلاثة آلاف إرهابي روسي يقاتلون مع "داعش" في سورية، ومن المفيد لموسكو التخلص منهم حيث هم.

في كل الأحوال، لا يبدو الوضع السوري أقرب إلى التسوية الناجزة بعد، في ظل تعقيدات المشهد الإقليمي بعد الاستفتاء الكردي، وما قد يجرّه من تداعيات استمرار الصراع وتداخلاته في كل من سورية والعراق، واتجاه الفاعلين الإقليميين والدوليين للانخراط في أشكال عديدة لتلك التداعيات، وما قد تجرّه من تعقيدات إضافية ضافية، في منطقةٍ لا يتوقع لها أن تستريح حتى وقت سيطول، على الرغم من الجهود الروسية الكبرى لوقف انفلات الوضع الإقليمي من السيطرة، وما قد يجرّه ذلك من تأثيراتٍ لا حدود لها على الوضع الدولي، وبضمنه العلاقات المتوترة، ولكن شبه المستقرة والمستمرة بين أكبر أطرافها: موسكو وواشنطن كفاعلين رئيسيين يهمهما استمرار إمساكهما بقواعد اللعبة المعقدة، بأكثر مما كانه الوضع الدولي أيام الحرب الباردة؛ وإلا فإن انفلات الوضع الدولي سوف يقود إلى كوارث، من الصعب إعادة التحكم به، وفق معايير عالم اليوم وعلاقات القوة وموازين القوى فيه.

هل من ضمان وضامنين لبقاء سورية موحدة، وبالتالي ديمقراطية وتعدّدية، أم أن "الكأس العراقية" باتت أقرب إلى تجرّع ما فيها في سورية أيضا؟ على الرغم مما يقال إنه من الممكن أن تصبح سورية دولة فيدرالية، "إذا كان هذا النموذج سيخدم الحفاظ على وحدة البلاد"، وفق ما كان أعلن نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف. ولكن هناك فرق جوهري بين أن تستمر سورية "أسدية"، كما كانت طوال عهود الاستبداد، أو أن تتحول مع الفيدرالية إلى دولة اتحادية ديمقراطية، تصون حقوق مواطنيها كافة باعتبارها دولة لكل مواطنيها، بدون تمييز أو تفرقة بين كل مكونات الوطن والدولة السورية، وهذا يفترض التوصل إلى تسوية عادلة، تنفي فرضيات استمرار الاستبداد وتقاسم المصالح وتوزيع المغانم حصصا وإقطاعيات ومقاطعات ديموغرافية، تعمل السكاكين والسواطير في الجسد السوري، تحت مرأى النظام وبمساعدته، مقابل إبقائه حاكما ومتحكما وسيدا سلطويا يفرّق ولا يجمع، كما تفعل التنظيمات الإرهابية في استيلادها وتفريخها أحاديات ومجاميع ذئبية، تنظمها عقود ومبايعات إجرام "فقه التوحش" وانعدام الأنسنة في مسلكياتها العدمية.

اقرأ المزيد
٢٩ أكتوبر ٢٠١٧
عجائبيات «داعش» بين الروس والأميركيين والقوى الإقليمية

شهدت الأيام الأخيرة اتهام الروس للأميركيين بأمرين؛ تخريب الرقة بفظاعة ما كانت الوقائع تقتضيها، ومن جهة أُخرى التآمُر مع «داعش» على تسلُّم المناطق التي تحتلها بشرق دير الزور والفرات، لتسبق بذلك قوات النظام السوري وحلفائه. والدعويان متناقضتان. فإذا كان «داعش» متآمراً مع الأميركيين أو مُسالماً لهم، فما الداعي لقصفهم العنيف للرقة على مدى سنوات، وقد كانوا يستطيعون الاتفاق معهم على التسلُّم والتسليم. لكنْ في الحقيقة فإنّ احتلال «قوات سوريا الديمقراطية» لحقل العمر النفطي، وسبْق القوات السورية والميليشيات إلى ذلك، رغم أنهم كانوا أقرب إليه (3 كيلومترات) يثير شكوكاً بالفعل. وهذا بالإضافة إلى شكوك لافروف في انسحاب «داعش» لصالح الأميركيين لجهة محافظة الحسكة. وهناك أمرٌ غامضٌ ثالثٌ إذا صحَّ التعبير، وهو غارات المجموعات الخاصة الأميركية وإنزالاتها بدير الزور قبل شهرين. ووقتها كانت القوات السورية والميليشيات الإيرانية تقترب من المدينة على أساس أنّ هناك «قسمة»: للأميركيين وحلفائهم الرقة، وللروس وحلفائهم دير الزور. ولذلك فقد فهم المراقبون أنّ إنزالات الأميركيين بدير الزور كان هدفها أحد أمرين: إما إجلاء عملائهم في قلب المدينة قبل اقتراب الروس وحلفائهم منها، أو إجلاء بعض الأجانب الدواعش، الذين تواصلوا معهم من أجل ذلك.

وعلى أي حال؛ فإنّ الغامض الأكبر هو «داعش» ذاته. فمنذ العام 2014 يُهوِّل علينا الأميركيون بأنّ الأجانب وحدهم، الذين انضموا إلى «داعش» بسوريا والعراق، يزيدون على الأربعين ألفاً. وإذا افترضنا أنّ «محليي داعش» يبلغون العدد نفسَه أو يقاربونه؛ فإنّ معنى ذلك أنّ «داعش» كان يملك ما لا يقل عن السبعين ألفاً من المقاتلين في سوريا والعراق!

أين ذهب هؤلاء؟ فمنذ شهور يقال إن «داعش» بالموصل لا تزيد قوته على الألفي مقاتل؛ وفي تلعفر أقل من ألف، ومئات في بقية المناطق بالعراق. أما في سوريا؛ فإنّ «داعش» قيل إنه يملك زهاء الأربعة آلاف بالرقة، وثلاثة آلاف بدير الزور، وثلاثة آلاف أخرى في مختلف أنحاء البادية وحواشيها فيما بين القريتين وحمص والميادين والبو كمال. وقد خرج حتى الآن من عشرات البلدات والقرى، ومن بينها الرقة لصالح الكُرد، والميادين والقريتين لصالح ميليشيات النظام السوري وحلفائه. وفي الأيام الأخيرة التي سبقت سقوط الرقة أو تحريرها، قال الأميركيون إنه ما عاد هناك غير نحو المائتين من «داعش» في المشفى الوطني ومحيطه. وهكذا فالثمانون ألفاً التي أحصاها الأميركيون انخفضت إلى 15 ألفاً بسوريا والعراق، ثم ما بقي منهم غير مئات قليلة على مشارف سقوط الموصل وتلعفر والرقة والميادين والقريتين... الخ. هل قُتل هؤلاء في المعارك؟ هذا أيضاً غير مؤكد. فحتى قتلاهم في الموصل والرقة، وهما مدينتان كبيرتان، لا يزيدون على الألفين. أما الخسائر الهائلة ففي المدنيين وفي العمران، ومعظم خسائر المدنيين كانت من الطيران بالموصل والرقة ودير الزور؛ وكذلك بالطبع تدمير العمران. وعائلات «داعش» التي تتعذب الآن في العراء والمخيمات من النساء والأطفال، لا تزيد أعداد أطفالها ونسائها على الألفين. فإما أن تكون الأعداد الهائلة أسطورة شارك «داعش» والإعلام الدولي في نشرها وتضخيمها، أو أنّ الأميركيين في العراق وسوريا نسّقوا عمليات ترحيل للأجانب عبر تركيا (!). والأرجح أنّ الأمرين حصلا. فالأعداد ما كانت بعشرات الألوف، ولو كانت كذلك ما كانت السيارات المفخخة سلاحاً رئيسياً. ومن جهة أُخرى فقد تواصلت الجهات الدولية والإقليمية والمحلية مع «داعش»، وقد كان بعضها يتاجر معه بالنفط والسِلَع الأُخرى. قال لي ضابط سابق في المخابرات التركية تقاعد عام 2015 إنه تحت وطأة الاتهامات الهائلة لتركيا من جانب الولايات المتحدة والروس، بوجود علاقات مع «داعش»، قطع الأتراك علاقتهم به، وأبوا أن يقطعوا علاقاتهم مع «النصرة» لفوائد ذلك للجميع. ثم في أواسط العام 2016 قيل لهم: لا بأس باستعادة بعض العلاقة في مسائل محددة، وعندما تواصلوا وجدوا أنّ الجميع قد فعلوا ذلك، وبخاصة الإيرانيون والروس والنظام السوري! وقد بدت اتصالات الإيرانيين الوثيقة بالتنظيم، في تمكنهم من عقد اتفاقية معه لسحب مسلحيه من لبنان أخيراً. وفي القريتين أيضاً فإنّ الدواعش كانوا مستعدين لتسليم البلدة إلى الحزب والإيرانيين، وهم قابعون من سنواتٍ بجوارها، لكنهم يشكون الآن أنّ ميليشيات النظام السوري دخلتها، وبدأت تنهب بيوت الناس وتُهجِّرهم!

سخر الأميركيون من اتهام الروس لهم بالقسْوة على العمران والإنسان في الرقة، وسألوهم عمّا فعلوه هم في نواحي حمص، وفي حلب التي دمّروها؛ وهي أكبر من الرقة بكثير، وما كان «داعش» موجوداً فيها. وعندما أُحرجوا بالأسئلة عما جرى لـ«داعش» بالرقة، وأين ذهب مقاتلوه، قالوا إن العشائر وإنّ مجلس الرقة المدني هم الذين تفاوضوا مع الدواعش لكي ينسْحبوا من المدينة وقُراها. لكنْ إلى أين؟ لا أحد يعرف، الأرجح أنّ الأجانب (وهم مئاتٌ وليسوا أُلوفاً) سُحبوا إلى داخل تركيا، وسُلِّموا إلى دولهم، أمّا الآخرون المحليون، فسُجن بعضهم للحاجة إلى معلوماتهم، وتُرك البعضُ الآخرُ من غير ذوي المنزلة، لمصيرهم!

هل يعني ذلك أنّ «ظاهرة داعش» صناعة من القوى الإقليمية والدولية، وقد استخدمتها ضد بعضها، وهي تحاول الآن الاتفاق على إبادتها؟ لا يبدو أنّ المطلوب والمسْعي إليه هو الإبادة، بل التجميد وإعادة الاستخدام إذا أتاحت الظروف والمنافسات ذلك. وهكذا حصل مع «القاعدة» قبل مقتل أسامة بن لادن وبعده.

أما مَنْ أنتج «داعش» فهو سؤالٌ مبرَّر أكثر من تسويغ السؤال حول «القاعدة». في «القاعدة» كانت هناك آلاف العناصر التي استخدمت في الحرب الأفغانية. وقد أُهملت بعد خروج الروس. ولذلك أمكن جمعها وتنظيمها، وأتاحت لها «طالبان» البيئة الملائمة. أما حالة «داعش» بين النظامين بسوريا والعراق، والإيرانيين والأتراك؛ فإنّ الوضع يختلف. «داعش» تغلب عليه الصناعة، وبخاصة في الجانب الإعلامي قبل القدرات العسكرية. ولذلك كما تركّب بسرعة؛ فإنه أمكن تفكيكه بسرعة. والذي أراه أنه وبخلاف «القاعدة»، لن تكون للتنظيم آثار أو استمرارية بصيغٍ أُخرى، رغم كثرة التهويل بذلك.

والذي أراه أنه سيظل لهم نشاط إعلامي كبير، وسيظلون قادرين على إثارة بعض الأفراد، لكنهم لن يكونوا قادرين على تشكيل قوة قتالية معتبرة في أي مكان، وهو الأمر الذي قدرت عليه «القاعدة».

تستطيع تلك القوى جميعاً الآن الزعم أنها رابحة. أما الطرف الخاسر فهو الشعوب العربية في البلدان والعمران والإنسان. والخاسر هو الإسلام السني الذي ستظل الحملات عليه، وعلى معتنقيه، لسنواتٍ طويلة قادمة. فيا للعرب، ويا للإسلام!

اقرأ المزيد
٢٩ أكتوبر ٢٠١٧
أميركا... انتشار عسكري وانكفاء سياسي

استناداً إلى أرقام وزارة الدفاع الأميركية وكثير من الدراسات والتقارير المنشورة في دوريات متخصصة أو في وسائل الإعلام الأميركية، فإن الولايات المتحدة لديها وجود عسكري بشكل أو بآخر في 172 بلداً حول العالم، ويوجد نحو 240 ألفاً من قواتها في الخارج اليوم للقيام بمهام متنوعة. هذا الوجود العسكري يشمل مكاتب الملحقيات العسكرية بالسفارات، مثلما يشمل القوات التي تشارك في حماية البعثات الدبلوماسية الأميركية في الخارج، أو تلك التي تشارك في عمليات حفظ السلام. لكن العدد الأكبر من القوات الأميركية في الخارج هو الموجود في القواعد الأميركية المنتشرة في نحو 74 بلداً حول العالم، أو الذي يشارك حالياً في عمليات ضمن الحرب على الإرهاب.

هذه الأرقام لا تشمل بالطبع القوات التي شاركت في ذروة الحرب في أفغانستان والعراق وسحبت فيما بعد، وإلا لأصبحت الأرقام بالملايين. فوفقاً لإحصائيات منظمات قدامى المحاربين فإن إجمالي عدد الجنود الذين شاركوا في العمليات الأميركية في هذين البلدين (منذ 2001 في أفغانستان و2003 في العراق) يبلغ أكثر من مليوني عنصر من جنود القوات المسلحة أو من عناصر الاحتياط أو من الحرس الوطني الذين خدموا فترة واحدة أو أكثر على مدى سنوات الحرب في البلدين، التي كلفت تريليونات الدولارات (يضعها البعض في حدود 6 تريليونات).

حتى بعد سحب أميركا معظم قواتها وتقليص وجودها في إطار اتفاقيات مع حكومتي أفغانستان والعراق، فإن أعداداً كبيرة من القوات الأميركية ما تزال هناك وفي مواقع أخرى حول العالم مكلفة بعمليات ومهام في إطار حرب الإرهاب من سوريا إلى ليبيا، ومن الصومال إلى النيجر حيث قتل في بداية الشهر الحالي أربعة جنود أميركيين في كمين نصبته عناصر موالية لتنظيم داعش في ظروف ما تزال بعض جوانبها غامضة مما أثار أسئلة في وسائل الإعلام التي ضغطت على وزارة الدفاع (البنتاغون) لتقديم المزيد من المعلومات.

في ظل الجدل الذي أثاره مقتل الجنود الأميركيين الأربعة في النيجر، خصوصاً بعدما انتقدت نائبة في الكونغرس الرئيس دونالد ترمب بسبب الطريقة التي وصفت بـ«الفظة وعديمة الإحساس» التي عزى بها أرملة أحد الجنود القتلى، خصصت صحيفة «نيويورك تايمز» افتتاحية في 22 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي بعنوان «حروب أميركا الأبدية» تناولت فيه موضوع الانتشار العسكري الأميركي الواسع حول العالم، وحرب الإرهاب وتكلفتها، داعية الكونغرس للقيام بواجبه في تمحيص بعض العمليات الخارجية، والنظر في التخويل المفتوح الممنوح للإدارة الأميركية منذ هجمات سبتمبر (أيلول) الذي جعل الإدارات المتعاقبة ترسل قوات إلى الخارج من دون أسئلة. كما دعت الصحيفة إلى تقييم الانتشار العسكري الواسع خصوصاً في الوقت الذي ترفع فيه ميزانية وزارة الدفاع ويصعّد فيه الرئيس ترمب من لغة التهديد والوعيد.

اللافت أنه في الوقت الذي تتمدد فيه أميركا عسكرياً خصوصاً في ظل حرب الإرهاب، فإنها في ظل الإدارة الحالية تنكفئ سياسيا ودبلوماسيا. فقد استهل ترمب عهده بالانسحاب من اتفاقية الشراكة لدول الباسفيك، ولوح بالانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة لشمال أميركا (النافتا) لولا مساعي كندا وبعض الدوائر الأخرى في واشنطن التي جعلته يتراجع عن الانسحاب ويكتفي بالدعوة لمراجعة الاتفاقية.

مسلسل الانسحابات الأميركية من المنظمات والاتفاقيات الدولية تواصل مع إعلان ترمب انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، وأخيراً مع إعلانه الانسحاب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو). والتوقعات أن ترمب سينسحب من منظمات واتفاقيات أخرى مستقبلاً لأنه يراها عبئاً على أميركا، أو لا يتفق مع مبادئها ومواقفها، أو لأنه يريد تقويضها لأسباب سياسية أو مصلحية، أو يحاول فقط الضغط عليها لتحقيق مطالبه منها. فهو هاجم مراراً حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى الحد الذي جعل بعض الدول الحليفة مثل ألمانيا وإيطاليا تتحدث عن أن أميركا لم تعد حليفاً يعتمد عليه في ظل الإدارة الراهنة. كما أنه أثار غضب وقلق حلفاء كثيرين في أوروبا بمواقفه المعادية للاتحاد الأوروبي وتأييده للخروج البريطاني منه (البريكست).

بعض مستشاري ترمب كانوا يدافعون عن مواقفه بالقول إن تبنيه شعار «أميركا أولاً» لا يعني أن أميركا ستنكفئ على نفسها في «عزلة مجيدة» جديدة، لكن الرجل أثبت من خلال عدة قرارات اتخذها أنه ليس ميالاً إلى المنظمات والدبلوماسية الدولية، مفضلاً الاستثمار في تعزيز قدرات أميركا العسكرية وفي سياسة التلويح بالعصا الغليظة. هذا الأمر يثير قلق كثير من الدوائر خارج أميركا وفي داخلها أيضاً خصوصا في ظل مواقف ترمب المتشددة أو المباغتة التي يطلقها عبر «تويتر» وميله إلى التلويح بالحرب وباستخدام السلاح النووي مثلما حدث في رده على كوريا الشمالية.

أميركا هي القوة العظمى في العالم اليوم، وأمنها وأمن العالم يعتمد كثيراً على طريقة استخدامها قوتها العسكرية والاقتصادية، وعلى بقائها أيضاً عضواً فاعلاً بإيجابية في المنظمات والدبلوماسية الدولية، بدلاً من الانكفاء والتلويح بالعصا الغليظة.

اقرأ المزيد
٢٩ أكتوبر ٢٠١٧
هل من «طبخة» أميركية للعراق بعد «الورقة» الكردية؟

ترفض إيران أن يكون للأكراد دولة (سنعيدكم إلى الجبال. قال لهم قاسم سليماني)، في حين لا تكتفي هي بدولتها، بل تريد التمدد إلى بقية الدول العربية (الدور الإقليمي) قال الرئيس حسن روحاني يوم الاثنين الماضي: وضع إيران الإقليمي لم يكن أقوى مما هو الآن. ويحذر مصدر دبلوماسي من أن «الدولة الإسلامية» (داعش) إلى انحسار، لكن «الجمهورية الإسلامية» (إيران) إلى تمدد، إذا لم يتم صدها للحؤول دون استكمالها مخطط زعزعة استقرار الشرق الأوسط.

إن انهيار قوات البيشمركة تحت ضغط مشترك من العراق وإيران يمكن أن يزعزع استقرار شمال العراق بدلاً من توحيد البلاد. لقد قللت إيران من دور الميليشيات التي تدعمها من أجل إضفاء الشرعية عليها كأدوات بيد الدولة العراقية، والمثير للغضب أن التغطية الإعلامية الغربية، والبيانات التي أدلى بها مسؤولون أميركيون تساعد الخداع الإيراني من خلال إنكار دور الميليشيات الشيعية في كركوك. رغم جولات وتصريحات سليماني، وأبو عزرائيل، والمهندس والعامري.

ما حدث في الأسبوعين الأخيرين سوف يبقى في الذاكرة الحية لأكراد العراق، حيث فقد إقليم كردستان أراضي شاسعة كانت تسيطر عليها حكومة الإقليم منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003. بعد الاستفتاء عانت حكومة الإقليم وشعبه من تدابير انتقامية من بغداد وجيرانها، وأمر رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي بتجمع قوات عسكرية من نظامية وميليشيات خارج كركوك، وتعهد القادة الأكراد بالدفاع عنها حتى الموت.

كانت هناك تكهنات بأن القوات العراقية وقوات البيشمركة – الطرفان مشاركان في التحالف الدولي لمحاربة «داعش»، ومجهزان بأسلحة أميركية – بأنها ستتجنب أي تبادل عسكري مباشر، وذهب التفكير بأن المواجهة ستكون طويلة الأمد. لكن يبدو أن الحسابات تغيرت، وبينما حاول ضباط الجيش الأميركي على الأرض التوسط بين بغداد والأكراد، بذلوا أيضاً جهوداً للتقليل من حدة الاشتباكات المتفرقة التي وقعت في كركوك. وصرح ناطق باسم الجيش الأميركي: «إن تسليم المدينة كان من المفترض أن يكون منسقاً». وصدر عن العبادي تصريح بأنه أعطى الأوامر للجيش العراقي والبيشمركة للتنسيق معاً في كركوك.

بعد سقوط كركوك، بدأت لعبة اللوم المعتادة في كردستان العراق. وقال مسرور بارزاني ابن مسعود والمسؤول عن الأمن: «إن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني خان كركوك وكردستان، وخضع لإيران وانسحب من الخطوط الأمامية دون قتال». وقال مسعود بارزاني في مؤتمر صحافي حُضّر على عجل، إن خسارة كركوك «كانت نتيجة القرارات الأحادية الجانب لبعض الأشخاص داخل حزب سياسي كردي معين». كان يعني الاتحاد الديمقراطي. وكانت شائعات انتشرت مع سقوط كركوك بهذا الشكل السريع والمذهل، أن اتفاقاً تم بين الحكومة المركزية و«الاتحاد الوطني الكردستاني» بدعم من إيران للانسحاب من كركوك، وهذا ما أكدته الأحداث لاحقاً، حيث غادرت وحدات «الاتحاد الوطني» دون قتال.

إن اتهامات الخيانة والصفقات السرية مع بغداد لها تقاليد عريقة في التاريخ الكردي العراقي. لكن كركوك هي معقل «حزب الاتحاد الوطني الكردستاني»، وكان المحافظ (الفار الآن) نجم الدين كريم الطبيب الشخصي لجلال الدين طالباني مؤسس الحزب.
وربما لا تنظر فصائل في «حزب الاتحاد الوطني» إلى التوصل إلى اتفاق مع بغداد، على أنه خيانة للحلم الكردي بالاستقلال، بل رد فعل على سياسة مسعود بارزاني وطموحاته.

هناك من قال إن بارزاني ارتكب خطأ تاريخياً بالمضي قدماً في الاستفتاء رغم اعتراض كل الأطراف التي يُحسب لها حساب. العرض الأميركي وصل متأخراً، وكان بارزاني ضمناً سعى إلى إجبار «حزب الاتحاد الوطني» و«حزب غوران» والأحزاب الكردية المنافسة بالتلويح بالاستقلال، مع العلم أن الحزبين تاريخياً يميلان إلى التفاوض مع بغداد، بدل الوصول بشكل منفرد إلى حافة الهاوية. وعلى الرغم من معارضة حزب «غوران» مبدئياً على الاستفتاء فإنه و«حزب الاتحاد الوطني» أجبرا على القيام بحملة «نعم» في نهاية المطاف؛ لأنه لا يمكنهما تحمل اتهام بأنهما أعاقا استقلال الأكراد.

من ناحية بارزاني، من المؤكد أنه أراد الاستفادة في جلب خصومه إلى الخط، وباعتباره «والد تصويت الاستقلال» توقع انتصاراً ساحقاً لحزبه في الانتخابات البرلمانية التي كان من المقرر إجراؤها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. هو اعتقد أن الأحزاب المنافسة له في وضع ضعيف لمقاومته، فالاثنان فقدا مؤسسيهما هذا العام، والمؤسسان من القادة التاريخيين للأكراد. نوشيروان مصطفى (غوران) في مايو (أيار) الماضي، وجلال طالباني قبل أسبوعين فقط. لكن بدل المعاناة من الضعف، ولا سيما في «حزب الاتحاد الوطني»، يبدو أن وفاة طالباني تسببت بصراعات داخلية أدت إلى اتفاق الانسحاب من كركوك، وبرز إثر ذلك ابن جلال طالباني بافل، حيث اتهم «زعماء أكراداً من جيل معين بأنهم فقدوا حس الواقع المعيش» (بي بي سي) يوم الأحد الماضي. ودعا إلى الحوار مع بغداد وتوحيد الصوت الكردي. وهكذا مادت الأرض من تحت قدمي بارزاني.

الأكراد منقسمون. فقدوا كل الفرص في مواجهة بغداد. وبدا أن بارزاني وافق على ما لا يمكن بعد تجنبه بعد خسارة كركوك؛ فأمر البيشمركة بالانسحاب من سنجار، ومخمور وخانقين، تقريباً جميع الأراضي المتنازع عليها، وحاولت حكومة الإقليم وصف منطقة القوش بأنها متنازع عليها، فرد السكان المحليون بأنها آشورية ويرغبون في البقاء في العراق. مع خسارة الأكراد 40 في المائة من الأراضي التي كانوا يسيطرون عليها، حاولت قوات الحشد الشعبي زعزعة كردستان العراق كمنطقة مستقلة ذاتياً. قوى عليا تدخلت وعاد الألمان لتدريب البيشمركة. وأكد الإيطاليون، أن على العالم أن يتذكر أن الأكراد حاربوا «داعش» عندما انهارت القوات العراقية. لكن يعرف العبادي رئيس الوزراء الذي يواجه انتخابات العام المقبل، أن الزخم والمجتمع الدولي إلى جانبه، وأن نوري المالكي في مواجهته، وأن علاقات العراق العربية مطروحة وبقوة. لذلك؛ إذا لم يتوقف الأكراد عند هذا الحد من الانقسام، فقد يشعر العبادي بأن الفرصة مواتية له ليزيد من انقساماتهم ويسحقهم، ووضع حد بالتالي لتطلعات كردية استقلالية أوسع نطاقاً داخل العراق.

هل اعتقد مسعود بارزاني أن لعبته ستبتلع أوراق الآخرين؟ هل هناك لعبة أكبر تلعبها أميركا على مستوى العراق، وأيضاً سوريا، استدعت منها التضحية بالأحلام الكردية العراقية الآن؟ من المحتمل أن هناك شيئاً ما يطبخ، وليس الحذر مطلوباً الآن من الأكراد، بل من رئيس الوزراء العراقي. لقد انتقلت ديناميكية السلطة التي كانت تحدد السياسة العراقية على مدى العقدين الأخيرين مجدداً إلى بغداد. وانقلبت الأقدار رأساً على عقب، وعلى الأكراد الانتباه ألا تصل انقساماتهم إلى أربيل؛ إذ عندها ستقع تحت رحمة حكومة مركزية أقوى وأكثر تصميماً من أي وقت مضى، يجب الاعتراف لبارزاني بأنه حمى أربيل ودهوك من أي نفوذ أو سيطرة إيرانية. لكن الأكراد الآن كمن رمى بالكرة على الحائط فعادت لترتطم بقوة برؤوسهم. والمؤلم أن الخسائر التي مُنوا بها على الأرض، لن تكون نهاية معاناتهم. حتى أسابيع قليلة جداً كان قادتهم يخبرونهم بأنهم على طريق الاستقلال. هذا صحيح، لكن هذه الهزيمة لن تنهي أحلامهم. والأنظار تتجه إلى حيدر عبادي؛ إذ تاريخياً ومنذ 1920، كان العراق كلما شعر بأنه قوي التفت إلى مهاجمة الأكراد. العبادي الآن قوي، لكن لوحظ ارتباكه مؤخراً؛ إذ قال: «إن التدخل في الشؤون الداخلية للدول يجب أن يتوقف». ولم يستفض، المهم أن تحترم إيران السيادة العراقية وحرية الخيارات العراقية، لا أن تدفع بكل قوتها لاستفزاز كرامة العراقيين.

لقد أعاد العبادي البوصلة إلى بغداد، لكن لن يجعل الأكراد يحبون العراق من خلال مهاجمة أراضيهم والتشديد عليهم وإلحاق عقاب جماعي بهم. منذ 1990 لم يشاهدوا جندياً عراقياً واحداً في منطقتهم، وهم لن يقبلوا الآن. على كل الأطراف إنهاء الجنون الداخلي، وعدم الإصغاء للتحريض الخارجي وبدء الحوار.

اقرأ المزيد
٢٩ أكتوبر ٢٠١٧
غوطة دمشق في عمق الكارثة

يرسم الوضع الراهن في غوطة دمشق الشرقية صورة من أشد الصور الوحشية، التي اتسمت بها سياسات نظام الأسد وحلفائه في سوريا. فقصف قوات النظام مستمر ومتصاعد على المنطقة، ومحاولاته مستمرة لاقتحام مناطقها خصوصاً القريبة من وسط دمشق على ما هو الحال في حي جوبر الذي لا يبعد عن قلب دمشق أكثر من ثلاثة كيلومترات، فيما تشدد قوات النظام وحلفائه حصارها على مدن الغوطة وبلداتها، التي يصل عدد المقيمين فيها إلى 350 ألف نسمة، أنهكتهم ودمرت قدراتهم الحرب والحصار المستمران منذ أكثر من أربع سنوات.

وترسم وقائع ما يجري في الغوطة وحولها، وضعاً كارثياً خصوصاً في جانبه المتعلق بأطفال الغوطة، حيث نقلت تقارير صحافية، أن عشرات منهم ماتوا في الأسابيع القليلة بسبب فقدان الغذاء ولا سيما حليب الأطفال. كما يموت الكبار لفقد الغذاء وقلته، وهذا باستثناء الضحايا الآخرين الذين يموتون لأسباب أخرى بينها فقدان الدواء أو العمليات العسكرية والقصف، وأعدادهم بالعشرات يومياً.

لقد أدى الحصار المحكم لقوات النظام على الغوطة إلى إغلاق المعابر القليلة، التي كانت تحيط بالغوطة، وتسمح بصورة جزئية بمرور بعض الاحتياجات الإنسانية الضرورية من غذاء ودواء، التي كان يمررها عملاء للنظام، يستنزفون ما تبقى من قدرات متواضعة لسكان الغوطة، ويتقاسمونها مع النافذين في قوات النظام وميليشياته، والفاسدين من عملائهم في التشكيلات المسلحة.

ولم يكن بإمكان النظام الاستيلاء على المعابر وإغلاقها، لولا الحروب المجنونة التي خاضتها الجماعات المسلحة فيما بينها في العامين الأخيرين، والتي لم تضعف مقاومة الغوطة في مواجهة النظام من الناحيتين السياسية والعسكرية فقط، وإنما جعلت النظام يتشدد في عملياته للسيطرة على الغوطة ضمن مساعيه في تحصين وتأمين مركز سلطته في دمشق بالسيطرة على منطقة استراتيجية قريبة من وسط المدينة، وتتحكم بشريان مواصلاته الحيوية لقربها من مطار دمشق الدولي.

وبطبيعة الحال، فإن هذه التطورات أكدت حضورها في عملية ضم الغوطة إلى مناطق خفض التصعيد طبقاً لاتفاقات آستانة ذات الرعاية الروسية، التي تتضمن في محتوياتها الأساسية، وقف الهجمات العسكرية من جهة، والسماح بمرور مساعدات، تشمل الأدوية والغذاء لتك المناطق في إطار مساعي إعادة تطبيع الحياة فيها، وصولاً إلى الحلول السياسية المقبلة.

وبدل الذهاب إلى تنفيذ الاتفاق في الغوطة، فإن نظام الأسد وحلفائه انخرطوا في سياسة مختلفة. فشددوا الحصار توازياً مع تصعيد هجماتهم العسكرية بالقوات كما يحصل على أكثر من جبهة في الغوطة، ومن خلال هجماتهم بالطيران التي شارك فيها طيران النظام، والطيران الروسي مرات كثيرة تحت حجة ضرب مواقع «الإرهابيين» في إشارة للتشكيلات المسلحة بما فيها جماعات مشاركة في آستانة.

وتعكس مشاركة الطيران الروسي في الهجمات وفي السكوت عن سياسات النظام حيال الغوطة، أكثر من التخلي عن اتفاق ضم الغوطة إلى مناطق خفض التصعيد، وصولاً إلى المشاركة في تحقيق أهداف نظام الأسد من هجماته على الغوطة وحصارها، التي تشمل مزيداً من القتل والتدمير تمهيداً لإعادة السيطرة على المنطقة بأقل قدر من السكان.

وتضع وقائع ما يجري في الغوطة وحولها أطراف آستانة بما فيها ممثلو التشكيلات السورية المسلحة وتركيا على وجه الخصوص أمام مسؤولياتها في تأكيد سريان اتفاق خفض التصعيد على الغوطة، ووضعه موضع التنفيذ العملي وتجاوز كل المبررات الكاذبة والادعاءات، التي يعلنها النظام والروس على السواء، بوقف الحرب على الغوطة والسماح بمرور البضائع المساعدات على أوسع نطاق في الحد الأدنى، والبدء في معالجة الأوضاع المأساوية هناك، والتي تتعلق بالغذاء والدواء والسكن والتعليم.

كما تضع وقائع ما يجري في الغوطة وحولها المجتمع الدولي بدوله ومؤسساته وهيئاته أمام مسؤولياتهم في متابعة أوضاع الغوطة الكارثية والدفع إلى قرارات وسياسات من شأنها ليس فقط معالجة الوضع الراهن للغوطة، وإنما معالجة القضية السورية، التي لم تعد في الأهم من جوانبها سوى استمرار عمليات القتل والتدمير ليس إلا، خصوصا بعد ما تحقق من تقدم في الحرب على «داعش» في شرق البلاد، التي تم استخدامها على نطاق واسع مبرراً لتخلي دول ومؤسسات عن مسؤولياتهم إزاء قتل السوريين وتدمير بلادهم وقدراتهم المتهاوية.

اقرأ المزيد
٢٨ أكتوبر ٢٠١٧
فلاديمير بوتين... الحنين إلى الماضي

على رغم أن فلاديمير بوتين عندما تولى السلطة عام 2000 قال إن الحرب الباردة انتهت وأبدى إشارات عن استعداده للتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب، غير أن هذا لم يمنعه من القول إن انهيار الاتحاد السوفياتي كان أكبر خطأ استراتيجيي في القرن العشرين. وفسَّر مراقبون هذا باعتباره نوعاً مِن الحنين، ليس إلى النظام السوفياتي وأيديولوجيته، وإنما إلى ما كان يتمتع به الاتحاد السوفياتي مِن مكانة دولية. وهو ما جعل بوتين مصمماً على استعادة هذه المكانة، وأن تعامل روسيا باحترام وأن يكون لها دور في قضايا العالم.

غير أن ما أبداه بوتين من استعداد للتعاون مع الولايات المتحدة والغرب قوبل بسياسات رآها مهددة للأمن القومي الروسي، مثل ما شرعت فيه واشنطن مِن بناء نظم صواريخ في عدد من دول شرق أوروبا، ثم تطور إلى محاولات اختراق جوار روسيا المباشر، وما عرف بالثورات البرتقالية بهدف إقامة حكومات معادية لروسيا والعمل على ضمها إلى حلف الأطلنطي. وجاء رد الفعل الروسي عبر التدخل العسكري في جورجيا عام 2010، ثم في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم عام 2015، وهو السلوك الذي ووجه من قبل أميركا والغرب بعقوبات اقتصادية موجعة، فضلاً عن تصعيد حلف الأطلنطي لمناوراته العسكرية على الحدود الروسية بما فيها دول البلطيق، الأمر الذي جعل المحللين يتحدثون عن حرب باردة ثانية.

إلى جانب تحركات بوتين دولياً لبناء تحالفات للرد على محاولات عزل روسيا، عمد داخلياً إلى إحياء «الروح الوطنية» والمشاعر القومية. وفي هذا ركَّز في أحاديثه على ثلاثة ميادين: التعليم، القوة العسكرية، والقيم المعنوية، مستحضراً التجربة السوفياتية في هذا المجال. استذكر بوتين أن هذه المهمة كان يتولاها قسم التوجيه الأيديولوجي في الحزب الشيوعي، متحسراً على أن روسيا بعد انقضاء العهد السوفياتي لم تعد تضم دائرة متخصصة في بلورة الروح الوطنية وتعزيزها في شكل ممنهج. ولكي يطرد بوتين الانطباع بأنه يريد نسخ التجربة السوفياتية حرفياً، شدَّد على أن الهيئة التي يدعو إليها لن تنشر أيديولوجيات أو تقيم آليات للدعاية السياسية، «فهذه أساليب لم تعد مقبولة وتعب الناس منها».

أما ما هو مطلوب من المناهج والبرامج المطروحة فهو «تقرير ما يوحد الروس بما في ذلك دياناتهم وانتماءاتهم القومية وتوجهاتهم السياسية والرغبة المشتركة في أن يعيشوا في بلد قومي». واستخلص بوتين أن «تشويه الوعي القومي والتاريخي والأخلاقي أدى إلى كوارث في عدد من البلدان، وأن الأساس لبناء روسيا المستقبل هو الروح الوطنية وهنا لا بد من الإفادة مِن تجربة روسيا الإمبراطورية والاتحاد السوفياتي، في مجال التربية والتعليم».

في المجال العسكري، أجرى بوتين تغييرات مع القيادات العسكرية، مشدداً على أن إحدى مهامه ستكون إعادة تسليح الجيش والأسطول. وكان بوتين بعد انتخابه حدَّد لإدارته هدف إعادة التسليح وتخصيص 550 بليون يورو للدفاع في السنوات العشر المقبلة، وأوصى رئيس الأركان بأن يؤسس شراكة جيدة ومستقرة مع أبرز المؤسسات الصناعية في مجال الدفاع. وفي خطابه عن حال الأمة في 2015، حذر بوتين مِن أن العالم يدخل في فترة من «التغيرات الأساسية بل وربما انتقاضات»، متنبئاً بأن الأرض ممهدة لصراعات جديدة ذات طابع اقتصادي، جيوسياسي وعرقي، وأن التنافس على الموارد سيصبح أكثر قسوة». واستخلص أن «مَن سيكسب القيادة ليس مَن سيصبح غريباً ويفقد استقلاله، وإنما مَن يعتمد ليس فقط على إمكاناته الاقتصادية، ولكن على قوة إرادة الأمة». وعلى هذا فإن روسيا، «يجب أن تكون بلداً ذا سيادة ونفوذ، ومن أجل هذا فإننا يجب ليس فقط أن نتقدم بثبات، ولكن أيضاً أن نحتفظ بقوتنا القومية والروحية. لا يجب أن نفقد أنفسنا كأمة». وعاد بوتين ليلاحظ في ذلك الخطاب أن روسيا اختارت طريق الديموقراطية، «ولكنه بالتأكيد طريق قوة الشعب الروسي بتقاليده، وليس طريق تحقيق المستويات المفروضة علينا من الخارج». والواقع أن ما يثيره حديث بوتين من تأكيد للهوية الروسية ورفضه النموذج الغربي، إنما يثير مجدداً الإشكالية الممتدة منذ العهد القيصري إلى العهد السوفياتي لجهة علاقة روسيا بالغرب. وهي الإشكالية التي كانت موضع جدل على المستويين الفكري والفلسفي من تيارات روسيا الثقافية وتبلورت حول النزعتين السلافية والغربية، إذ رأى دعاة السلافية أن محاولات التحديث على النموذج الغربي التي بدأها بطرس الأكبر في القرن السابع عشر، هي خيانة للأساس القومي الأصيل الذي تقوم عليه الحياة الروسية.

أما أصحاب النزعة الغربية فاعتبروه السبيل الوحيد لتنوير روسيا وربطها بالمدنية الغربية. فهل نستطيع القول إزاء ما عبر بوتين عنه مِن رفض «المستويات المفروضة من الخارج»، أنه ينتمي إلى المدرسة الأولى، وإن كان ذلك لا يعني أنه يريد فصل روسيا عن الغرب وعدم بناء علاقات تعاونية معها؟

اقرأ المزيد
٢٨ أكتوبر ٢٠١٧
سوريا... اقتراحات روسية مربكة والحل في المبادرة الفرنسية!

غريب جداً أن يبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مواقفه المستجدة تجاه الأزمة السورية متناقضاً مع نفسه ومُرْبكاً بالنسبة إلى الذين بقوا يتابعونه ويتابعون وزير خارجيته سيرغي لافروف، فالمعروف أنه ومنذ بدايات انفجار هذه الأزمة الطاحنة، التي مع الوقت تحولت إلى أزمة إقليمية وأيضاً إلى مشكلة دولية، بقي يتمسك بوجهة نظر واحدة تقريباً وبقي يدور حول حلٍّ واحد أحاطه بمناورات كثيرة لا حصر لها هو «تنفيس» قوى المعارضة وإشغالها بالمشكلات والإشكالات الجانبية، وبأنَّ الأولوية هي لمواجهة «الإرهاب» و«داعش» وليس لإسقاط نظام بشار الأسد الذي سيؤدي سقوطه، حسب الرئيس الروسي، إلى انهيار سوريا كدولة، وإلى فوضى عارمة في الشرق الأوسط كله!

كانت روسيا قد وافقت على «جنيف1» وعلى قرار مجلس الأمن رقم 2254، لكنها بقيت تحول دون حوارٍ مباشر بين المعارضة ونظام بشار الأسد، والأخطر أنها في غياب الأميركيين الفعلي، إنْ في عهد باراك أوباما وإنْ في عهد الرئيس دونالد ترمب، بقيت تحتكر هذه الأزمة بكل ما فيها وبكل ما عليها واستطاعت أن تنقل التفاوض الذي كان عملياً بين المعارضين والمبعوث الدولي ستافان دي ميستورا من هذه المدينة السويسرية الآنفة الذكر إلى آستانة في طاجيكستان، وحيث بقيت المفاوضات حواراً عَدَمياً وبلا نهاية، وكل هذا مع أنه ترتب على التدخل العسكري الروسي في سبتمبر (أيلول) 2015، خلل في موازين القوى على الأرض جعل النظام السوري يبدو كأنه منتصر، وجعل قواته الممزقة والمتردية تبدو كأنها قد كسبت الحرب والمعركة وحسمت الصراع بصورة نهائية.

لقد كان واضحاً ومنذ البدايات أن هدف الروس، الذين استخدموا معادلة «إما الإرهاب وإما بشار الأسد» استخداماً جيداً ومتفوقاً، هو إفشال الثورة السورية، وهو إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل مارس (آذار) عام 2011، ولكن مع بعض الرتوش واللمسات التجميلية، والأخطر هنا هو أنهم في ظل التقاعس الأميركي في عهد باراك أوباما وإدارته واستخدام حزب العمال الكردستاني - التركي الـ«P.K.K» ضد رجب طيب إردوغان استخداماً عسكرياً وإرهابياً فعالاً، قد تمكنوا من إخراج تركيا من عضويتها «الأطلسية» عملياً، ونقلها من الدائرة الأميركية إلى الدائرة الروسية، ثم إن الأكثر خطورة هو أن الرئيس التركي، الذي كانت قد تزعزعت جبهته الداخلية حتى حدود الانهيار، وبخاصة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي اُتهم بها المعارض التركي القديم فتح الله غولن الذي كان قد لجأ إلى الولايات المتحدة مبكراً، قد وجد نفسه مضطراً إلى مواجهة النزعة الانقسامية الكردية إلى التحالف مع إيران التي - إذا أردنا قول الحقيقة - استطاعت بسبب عوامل كثيرة أن تصبح لاعباً يحظى بدور كبير في الشرق الأوسط.

المهم أن فلاديمير بوتين، الذي يعتبر صاحب فكرة المناطق الأقل توتراً، مع أن المعروف والمؤكد أن هذه الفكرة هي لوزير خارجيته سيرغي لافروف، قد فاجأ العالم بإبداء مخاوفه من احتمال تقسيم سوريا على أرضية مناطق خفض التصعيد، لكنه ما لبث أن أعطى انطباعاً واضحاً بأنه بطرحه لهذا الاحتمال قد قصد التخويف والإثارة، عندما كشف النقاب خلال مشاركته في منتدى «فالداي» الدولي للحوار الأخير في سوتشي الروسية عن ملامح تصور بديل للعملية السياسية الحالية لحل الأزمة السورية، المتمثلة بـ«جنيف 1» والقرار الدولي 2254 والقرارات الدولية الأخرى، يستند إلى عقد مؤتمر وطني أطلق عليه اسم «كونغرس شعوب سوريا»! تشارك فيه كل المجموعات العرقية والدينية والحكومة والمعارضة... «وفي حال تمكنّا من تنفيذ هذه الفكرة بمساعدة الدول الضامنة والقوى الإقليمية الكبرى مثل السعودية ومصر، فإن هذا سيمثل خطوة إضافية تالية لكن غاية في الأهمية في التسوية السياسية ثم صياغة الدستور الجديد».

ولعل ما يشير إلى أن الروس يتبعون سياسة القفز فوق حبل مشدود الطرفين، أنهم كانوا قد تحدثوا قبل اقتراحات بوتين هذه آنفة الذكر عن ضرورة دعوة المؤتمر للنظام والمعارضة في قاعدة «حميميم» الروسية، يتبعه مؤتمر عام آخر ينعقد في مطار دمشق الدولي بـ«ضمانة روسية» وذلك من دون أي ذكر لا للمرحلة الانتقالية ولا لـ«جنيف1» ولا للقرار الدولي رقم 2254 والقرارات الأخرى، وكل هذا على أساس استمرار بشار الأسد في موقع الرئاسة حتى عام 2021، حيث بعد ذلك تُجرى انتخابات رئاسية جديدة لن يتم استبعاد هذا الرئيس الحالي منها لا بصورة واضحة ولا بصورة خفية.

ولعل الأخطر في هذا كله أن الروس بمجرد انتهاء معركة «الرقة» قد بادروا، متناسين هذه الحلول آنفة الذكر كلها، إلى المناداة بتسليمها لنظام بشار الأسد، وذلك مع أن تحرير هذه المدينة وهذه المنطقة قد تم على أيدي قوات سوريا الديمقراطية وبمشاركة عسكرية مباشرة وفاعلة للولايات المتحدة، مما يوضح ويؤكد أن ما تقوم به روسيا الاتحادية منذ البدايات وصولاً إلى تدخلها العسكري في سبتمبر (أيلول) 2015 هو مجرد «تكتيكات» ومناورات هدفها تفريغ المعارضة السورية من محتواها، والقضاء على مكتسباتها العسكرية والسياسية كلها، والعودة بالأمور إلى ما كانت قبل انفجار انتفاضة درعا في عام 2011.

فهل يا ترى سينجح الروس في كل هذا الذي مرَّ ذكره، ويستبدلون كل الحلول السياسية المدرجة على جدول أعمال الدول الكبرى والأمم المتحدة وأهمها «جنيف 1» وقرار 2254، ويعيدون سوريا إلى ما كانت عليه قبل عام 2011... كأن أي شيء لم يكن؟!

وهنا فإنه بالإمكان اعتبار أن الجواب عن هذا السؤال يكمن في الوعد الذي قطعه الرئيس الأميركي على نفسه وعلى إدارته بأن واشنطن، وقد تم القضاء عملياً بعد الانتصار في الرقة على تنظيم داعش، سيكون لها تصورها الجديد في سوريا، والمعروف أن واشنطن كانت قد دعت إلى تحالف دولي ضد حزب الله اللبناني، أي ضد إيران وضد نظام بشار الأسد... وربما أيضاً ضد روسيا الاتحادية إنْ هي واصلت عملية خنق الحلول السياسية للأزمة السورية التي أساسها «جنيف1» وقرار مجلس الأمن رقم 2254 والقرارات الأخرى.

إنه لا يمكن للروس، الذين يعانون مشكلات اقتصادية وسياسية فعلية وجدية كثيرة، أن يفرضوا حلولهم بالنسبة إلى الأزمة السورية على الآخرين، وبخاصة أن الأميركيين - كما يبدو - جادون في إخراج إيران من العراق وسوريا، وهكذا فإن المطلوب أميركياً وأوروبياً وعربياً هو دعم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في اقتراحه الذي دعا فيه لأن تكون هناك مشاركة دولية فعلية في حل الأزمة السورية ممثلة بالدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي (الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية وفرنسا والصين وبريطانيا) ومعها ألمانيا كدولة عظمى... والمشكلة هنا أن الروس يحاولون إقحام إيران في هذا الاقتراح، وذلك مع أنها متهمة بعلاقات مؤكدة مع الإرهاب، وأنها تمثل عنصراً رئيسياً في كل هذا الذي يجري في سوريا وفي العراق وفي اليمن.

والمؤكد أن المقصود بـ«المشاركة الدولية» هو الإشراف الدولي الملزم على محادثات النظام السوري والمعارضة السورية المفترضة، وأن يكون القرار النهائي لهذه الدول الدائمة العضوية، لكن يبقى أنَّ الروس، إنْ هم لم يتعرضوا لضغوط جدية، سيواصلون سياسة التعطيل التي اتبعوها منذ بداية هذه الأزمة التي أصبحت في غاية التعقيد، والتي أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه!

اقرأ المزيد
٢٨ أكتوبر ٢٠١٧
بين العقوبات والتغيير الميداني

تضيف العقوبات الأميركية على «الحرس الثوري» الإيراني و «حزب الله» بذريعة مخالفة البرنامج الصاروخي الباليستي لطهران ودورها في زعزعة الاستقرار الإقليمي، والتي ستأخذ طريقها إلى النفاذ قريباً، عنصراً جديداً في المواجهة الدولية مع حكم ولاية الفقيه وتمدده الخارجي، لكن الأرجح أنها لن تفعل فعلها في ثني «الحرس الثوري» عن مواصلة استراتيجيته في المنطقة.

العقوبات قد تفرض عليه جهداً للتحايل عليها ومواربتها بمساعدة دول أخرى (العين على قطر ولبنان...)، وتدفعه إلى التشدد أكثر في الداخل إزاء احتجاجات الإصلاحيين على إنفاقه أموال البلد الغني، على التسلح والتوسع الإقليمي، وتجاهل حاجات مجتمع فتي يعاني البطالة في المدن، وفي أرياف غارقة في الفقر والتخلف... لكنها لن تعدّل الطموحات الإيرانية.

إذا كان هدف العقوبات كما قال وزير الخارجية ريكس تيلرسون التأثير في الداخل لإحداث التغيير في النظام، فإن انضمام الرئيس حسن روحاني إلى المفاخرة بأنه «لا يمكن في العراق وسورية ولبنان وشمال أفريقيا والخليج الفارسي القيام بأي خطوة حاسمة» (بعض الترجمات استخدم عبارة مصيرية) من دون الدولة الفارسية، يدل إلى أن على واشنطن أن تنتظر طويلاً قبل حصول التغيير. فموازين القوى الداخلية تجبر أمثال روحاني على الالتحاق بـ «الحرس» طالما أن وظيفة وجوده لم تتحقق: إراحة الاقتصاد برفع العقوبات.

الأسئلة كثيرة عما إذا كان نهج إدارة دونالد ترامب مختلف في العمق والجوهر، عن نهج سلفه باراك أوباما حيال طهران. فالأخير، حين برر أمام الأميركيين توقيعه الاتفاق النووي عام 2015، (لمن يتذكر) أبقى العقوبات المتعلقة ببرنامجها الصاروخي، وزعزعتها استقرار جيرانها وتدخلاتها الإقليمية، وخرقها لحقوق الإنسان... فهل يختلف قول ترامب ومستشاره للأمن القومي الجنرال هربرت ماكماستر «أينما تحل المشكلات وتشتعل الفتن بين المجتمعات وتدور رحى العنف المدمرة، ترى أيادي الحرس الثوري الإيراني»، عن موقف أوباما؟

مشكلة الموقف الأميركي هي في الانطباع الدائم الذي يطرحه ديبلوماسيون أميركيون سابقون ومنهم موفد واشنطن السابق إلى سورية السفير روبرت فورد: تأخرنا في مواجهة نفوذ طهران. ولا يقتصر استنتاج خبراء غربيين على القول إن العقوبات قد تزيد من نفوذ «الحرس الثوري» على الوضع الاقتصادي بحجة مواجهة هجمة واشنطن العقابية، بل يتخطاه عند المتابعين للسلوك الأميركي إلى الحقائق الواقعية: أي تعديل في نفوذ طهران يفترض أن يتم ميدانياً أولاً وأخيراً. وعلى واشنطن أن تغادر السياسات التي تعاقبت عليها الإدارات في العقود الماضية، والتي غضت الطرف عن توسع «الحرس» في المنطقة، فكانت ترفض الإقرار بأن طهران تتدخل في اليمن لدعم الحوثيين، قبل أكثر من 10 سنوات. وحين انكشف التدخل اعتمدت نظرية الإفادة من تقاتل الحوثيين مع «القاعدة». وواشنطن هي التي أخلت الساحة لإيران في العراق، وتركت لها أن تتغلغل في سورية بذريعة قتال «داعش»، وبالتالي أن تمتّن دورها في لبنان. وحسن النية قد يدفع إلى القول أنها فعلت كل ذلك من دون تحسب لمرحلة ما بعد «القاعدة» و «داعش» ولمن يملأ الفراغ بعد انحسارهما. لكن الحقيقة هي أن واشنطن ارتكزت إلى هدف ضمني خبيث عبّر عنه أوباما حين أمل بإحداث توازن بين القطب الشيعي وبين الدول السنّية في المنطقة، بإضعاف الأخيرة، فكان مآل هذه السياسة خراب الإقليم وإضعاف الدول العربية، وتهشيم النسيج الاجتماعي في العديد منها، وتقدم إيران على حسابها. وإذا كان حسن النية يفترض أن هناك «صحوة» أميركية إزاء الأضرار الهائلة لتلك السياسة، فإن تصويب الأمور يحتاج أكثر من العقوبات. فماذا فعلت واشنطن، ميدانياً، لإخراج إيران من اليمن؟ وماذا ستفعل عملياً لسحب ميليشيات إيران من العراق بعد أن اعتبرتها شريكاً في قتال «داعش» وبعد أن جرى تشريعها؟ وهل يمكن أي متابع أن يجد تعريفاً مفهوماً لخططها في سورية؟ قد يستثني المرء السؤال عن سياستها في لبنان طالما أن «التسوية» فيه جنبت البلد الصغير الحرب الدائرة في الدول الثلاث الأخرى، وجعلت منه «ملتقى» لخدمات تلك الحروب، وما دامت تدعم تقوية الجيش اللبناني والمؤسسات، لأن المعادلة فيه تخضع لموازين القوى في دول أكثر أهمية.

امتنعت طهران سابقاً عن الاستجابة لمحاولة أوباما التفاوض معها على أزمات المنطقة، برفض البحث في أي أمر غير الاتفاق على النووي، مستقوية بحاجته إلى إنجازه. وإذا كان ترامب يأمل من العقوبات جرها إلى التفاوض، كيف يمكنه ذلك من دون تعديل الواقع الميداني، في أي من الدول المحورية، أو على الأقل من دون اتفاقه مع اللاعب القوي الجديد، روسيا؟

اقرأ المزيد
٢٨ أكتوبر ٢٠١٧
سورية بين حلول التقسيم و «الفدرلة» الروسية

تتطور لغة الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا من جلسة إلى أخرى في مجلس الأمن، خلال تقديم إحاطته حول العملية التفاوضية بين الأطراف السورية، فقد انتقلت من الآمال العائمة بداية، إلى وضع السيناريوات لاحقاً، ومن ثم بعد تسليم واشنطن الملف السوري إلى موسكو أصبحت لغة تقرير واقع واستحقاقات مستقبلية، قد تتأخر أحياناً في الظهور إلى حيز التنفيذ، لكنها في وقت لاحق تصبح أهم البنود التي على الطرفين السوريين مناقشتها، وإيجاد الآلية لتنفيذها. مثال ذلك ما طرحه دي ميستورا بداية توليه الملف السوري (2014) عن تقسيم العمل إلى ورشات، ثم أصبحت سلالاً، انشغلت جولات جنيف التفاوضية بها، وهي تعالج قضايا الحكم غير الطائفي والإرهاب والدستور والانتخابات، بعد الاستفادة من هدنات محلية اقترحها ولم يوفق في الحصول على الموافقة عليها، إلا أن النظام استفاد من اقتراح الوسيط الدولي، وعمل مع إيران على عقد تلك الهدنات التي أنتجت توسعاً للنظام في أكثر من مكان، منها منطقة الريف القريبة من دمشق وحمص.

وفي خطوات لاحقة، وبعد إعلان «الهيئة العليا للمفاوضات» من لندن، رؤيتها للحل في سورية، سارع دي ميستورا إلى طرح اقتراح جديد، مرة عبر المفوضية الأوروبية، ومرة من خلال لقاءاته المباشرة مع قيادات المعارضة، وهو ينقلب على رؤية لندن من حيث شكل الحكم من رئاسي إلى برلماني، ومن لا مركزي إلى حكم المجالس المحلية (فيديرالية مخففة). واليوم بعد تحرير الرقة من «داعش» على يد «قوات سورية الديموقراطية»، المدعومة أميركياً، وذات الصلات الوثيقة بروسيا، يعود الحديث عن المجالس المحلية لحكم المناطق، عبر تصريحات من أعلى المسؤولين الدوليين، مثل الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، وعلى رغم أن مقدمات دي ميستورا للمعارضة كانت واضحة بضرورة إعادة النظر في ما قدمه رياض حجاب المنسق العام لهيئة التفاوض في لندن، (وتم الاعتراض عليه رسمياً من المجلس الوطني الكردي المنضوي في الائتلاف وفي الهيئة العليا للتفاوض التي صاغت الرؤية)، فإن المعارضة مضت في تقديم نفسها من خلال مشروعها الذي يتناقض مع مبدأ تغيير النظام، لتكون شريك النظام في الاستراتيجية الحاكمة ذاتها، من حيث تدري أو لا تدري.

وتشير اليوم نتائج الاتفاقيات التي عقدتها روسيا من خلال مفاوضات آستانة، أو عبر اتفاقيات منفصلة للغوطة، تحت مسمى «المناطق المنخفضة التصعيد»، وكذلك المعارك التي أدارتها الولايات المتحدة في الشمال ضد تنظيم «داعش»، من خلال كرد سورية، إلى أن مرحلة العمل بدستور النظام 2012، أو وفقاً لرؤية المعارضة (أيلول- سبتمبر 2016)، قد انتهت حيث لا يمكن العمل بنظام المركزية المتشدد للنظام، ولا بإقصاء مكون الكرد من معادلة سورية الجديدة للمعارضة. ولعل هذا يستدعي إيجاد رؤية سياسية جديدة، متوافق عليها بين كل الخصوم، ومتحللة في الوقت ذاته من مركزية العاصمة لمصلحة مناطق حكم ذاتية، تحت مسميات لا يزال كل من النظام والمعارضة يستصعب الاعتراف بها، وهي في شكل أو آخر تندرج في مستويات وأشكال متعددة من النظم الفيديرالية المعمول فيها في دول عدة.

لا شك في أن ما قامت عليه اتفاقيات آستانة من حلول جزئية، وتقسيم سورية إلى مناطق نفوذ دولية (روسيا- إيران- تركيا- الولايات المتحدة الأميركية) لم يكن بعيداً من رؤية متكاملة للحل في سورية، كانت وضعته الديبلوماسية الروسية، وحاولت فرضه مراراً، قبل آستانة من خلال دخولها في الصراع المسلح رسمياً في سورية (في أيلول 2015)، أو من خلال جملة لقاءاتها مع مسؤولين أميركيين وأوروبيين، وصاغته عبر دستور أعدت نسخته في موسكو، وتم الترويج لرفضه من فصائل المعارضة في آستانة، علماً أن مضامين الاتفاقات الحاصلة تؤسس قاعدة لقبول سورية فيديرالية غير مركزية، وأن الآليات التي تعتمدها الفصائل العسكرية المعارضة في سيطرتها في مناطق نفوذها («المناطق المحررة») تتوافق مع ذلك.

هكذا فإن خشية روسيا من تقسيم سورية، التي عبر عنها بوتين، هي مقدمة للعمل على الحل الذي يتوافق مع إرادة ترامب في دعم مناطق الحكم المحلية، والتي تتساوى في الفهم مع المطلب الأوروبي في «فدرلة سورية»، أو «حكم المجالس المحلية»، وهو ما يعبر عنه بوضوح مصطلح «سورية المفيدة» للنظام، وما تنفذه فعلياً الفصائل المسلحة التي تسيطر على مناطق متفرقة من سورية، حيث تتخذ قراراتها كسلطة مفوضة غير مرتبطة ببقية المناطق المحررة، بينما تصرخ في بياناتها رافضة الفيديرالية، تحت ذريعة أنها مطلب أكراد سورية، وأن هدفها انفصالي، في الوقت الذي ترفض هي العودة إلى مرجعيتها السياسية في الهيئة العليا للتفاوض، والتي أصبح عملها لاحقاً لعمل الفصائل وليس متكاملاً معها.

وأمام استحقاقات مفاوضات آستانة، أي المسار الموازي الذي ابتدعته موسكو منذ مطلع هذا العام، ومفاوضات جنيف، التي مهد لها الوسيط الدولي بخريطة طريق وفق المفهوم الروسي- الأميركي للحل السوري، يبقى استحقاق المؤتمر الوطني للمعارضة السورية، الذي ترحب به موسكو، وتتجاهله واشنطن حالياً، وتحتفظ به كخط رجعة لها إلى الملف السوري عبر مفاوضات جنيف. يبقى هو خط النهاية الذي يجب أن تقف المعارضة عنده، لتحدد هويتها ومطالبها وخريطة الطريق إليها بعيداً من الدعاية الإعلامية التي عودتنا عليها.

وبينما تقدم روسيا من خلال جولة آستانة المقبلة بادرة حسن النية، بفتح ملف المعتقلين ولو نظرياً، للتلويح بقدرتها على فرضه على النظام السوري، تبدو مناطق خفض التصعيد في أسوأ حالاتها، حيث الاختراقات من جهة والجوع يحاصرها من جهات عدة، والغوطة مثال، وتقدم روسيا للتداول مساراً آخر تستثمر فيه جهودها في العامين الماضيين في إنشاء «الهيئات المحلية»، التي قامت عبر قاعدة الهدنات التي عقدتها في بعض مناطق المعارضة، وتضعه كفزاعة أمام المعارضة الحالية تحت مسمى «مؤتمر الشعوب السورية».

مع الانتباه إلى توقيت إطلاق هذا التصريح وفي خضم كل التعقيدات، لا بد من الاعتراف أولاً أنه بات من الصعب تجاوز واقع تقاسم مناطق النفوذ في سورية. ثانياً، أن المعارضة السياسية والعسكرية هي الطرف الأضعف في هذه المعادلة، وأن عليها أن تدرك ذلك وتواجه واقعها الذي تتحمل مسؤوليته. وثالثاً، وهو الأهم أن الولايات المتحدة لم تقل كلمتها بعد، لذا فلا شيء محسوماً، لكن أيضاً لا شيء حتى الآن يخالف إرادتها. رابعاً، لم يعد ترقيع النظام مجدياً، بعد فقدانه سيادته وتآكل قدرته على السيطرة واستنزاف موارده، لذا لا بد من تغيير سياسي في سورية حتى ولو كان بهذا القدر أو ذاك، لاستعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي واستعادة السوريين بلدهم، ومن ثمّ استعادة مقاصد ثورتهم والعمل عليها في مساحة من الأمان والاستقرار.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو