اثبتت التجارب العملية على مدار سنوات أن تحرير الشعوب من الاستبداد لا يحققه الفكر المتشدد الذي تتبناه بعض التنظيمات التي تدعي إسلاميتها وتتولى بنفسها اسم الدفاع عن الشعوب باسم الإسلام ومن خلال العشارات الإسلامية التي تخالفها ذات التنظيمات في تصرفاتها، فتسيئ للإسلام أولاً قبل أن تسيئ لنفسها وتدمير بلداً وشعباً وتضيع أحلامه، في ذلك أمثلة كثيرة في أفغانستان والشيشان والعراق والصومال.
في الحراك الثوري السوري كان الأمر مختلفاً قليلاً لحين ظهور هذه التنظيمات التي تبنت حراك الشارع المدني ونصبت نفسها الوصي عليه وعلى ثورته، فبرزت عدة تنظيمات منها "الدولة في العراق والشام" و "جبهة النصرة" التي تبنت فكر القاعدة ثم انتهجت كلاً منها لنفسها فكراً خاصاً، لم يختلف لحد كبير عن الفكر الجهادي في العبارات والتصرفات والممارسات في المناطق التي تتواجد فيها وتسيطر فيها على كامل مقدراتها.
لعل اختلاف طبيعة الحراك السوري والصراع الذي نسب في وقت مبكر بين تلك التنظيمات دفع البعض منها للتقرب من الشعب أكثر ومحاولة الغوص أكثر بين الثوار والعمل على جذب الشباب السوري للانضمام لصفوفها حتى باتوا يشكلون غالبية مكوناتها ساعد لحد كبير في تغير مسارها والابتعاد عن فكر "القاعدة" لحد ما مع بقاء التأثر بشكل واضح بفعل وجود شخصيات مازالت متحكمة في مفاص القرار لدى جبهة النصرة ومن بعدها جبهة فتح الشام وآخرها هيئة تحرير الشام.
التغيرات التي طرأت على "جبهة النصرة" منذ عام 2012 حتى 2017 وتعدد التسميات التي أطلقتها على نفسها مع تعدد الرايات، في الوقت الذي استمرت فيه ذات التصرفات في محاربة فصائل الحر وكل من يرفض الخضوع لها، فنالت من 30 فصيلاً آخرهم أحرار الشام والتي كانت أقرب الفصائل توجها لها في مراحل عديدة من عمر الثورة، هذه التغيرات مع استمرار ذات التصرفات خلقت فجوة كبيرة بينها وبين الحاضنة الشعبية التي تراجعت عن تأييدها لفترات عديدة إبان أوج قوتها والمعارك التي أثبتت فعلياً أنها الأقوى فيها.
ولعل الشعارات التي أطلقتها تحرير الشام في كثير من الأحيان والأسباب التي روجت لها لإنهاء فصائل كثيرة كانت في تلك المرحلة محرمة ومن الكبائر، باتت هي اليوم من تمارسها وتنتهجها بعد أم ملك كل القرار العسكري في بقعة جغرافية كبيرة في إدلب وحماة وحلب واللاذقية، أيضا الجانب المدني الذي عملت على التفرد فيه وإقصاء الجميع فيه من مؤسسات مدنية تتبع للحكومة المؤقتة أو غيرها.
يبرر أنصار تحرير الشام هذا الانقلاب على الذات والشعارات التي أطلقتها سابقاً بأنها لضرورة المرحلة، مع ملاحظة تغير التوجه بشكل كبير للهيئة في الخطاب السياسي وفي الخطاب الداخلي تجاه الثورة والثوار واعتبار نفسها جزء من الثورة السورية وصل الأمر لرفع أنصارها علم الثورة السورية عبر حساباتهم وكثير من المواضع، بعد أن كان علماً علمانياً محارباً سفكت دماء لأجل رفعه.
اتجهت تحرير الشام بعد إنهاء الأحرار في تموز الماضي لخط سياسة وأسلوب جديد من الالتفاف بحسب البعض والسبب أنها أدركت نفسها باتت في مواجهة حتمية مع كل العالم وأن النهاية اقتربت، لم تنفعها كل التحولات التي قامت بها في شكلها واسمها وضم فصائل أخرى لها، كونها لم تستطع كبح جماح التصرفات والممارسات التي أوصلتها لهذا الحد من المواجهة.
هذا الاتجاه بعد إنهاء الأحرار كان كمحاولة التفاف على العالم والمجتمع السوري والثورة أيضاَ من خلال بناء كيان مدني كإدارة مدنية تطور لاحقاً لحكومة إنقاذ تحركها هي بشكل مباشر من غرف مظلمة، واختارت لنفسها شخصيات كواجهة مدنية تدير حكومة مدنية، ملكتها كل المؤسسات وكل ماهو في المحرر، طبعا هناك اتفاق ضمني بين الهيئة وتركيا لذلك مقابل دخول تركيا للشمال المحرر دون مواجهة، وتركيا طبعاً تعي ماتفعل.
لمسنا تشكيل حكومة الإنقاذ بدءاً من مبادرة الأكاديميين والدعم الذي قدمته تحرير الشام لها ولظهورها، والدفع الذي ساعدت فيها على تشكيلها، ولاننكر وجود شخصيات ثورية ومستقلة في الحكومة ولكن ليست صاحبة قرار أبداً والقرار الفعلي هو لمن يدير الدفة ممثلة بالدولة العميقة في هيئة تحرير الشام، أيضاَ التغيرات التي طرأت على الجناح الأمني في مدينة إدلب والبدء بتشكيل الشرطة العسكرية التي سيكون عناصر تحرير الشام نفسهم عمادها مع تغيرات في الأسماء المتصدرة وزج أسماء جديدة، كذلك الدفع لبعض المجالس الكبرى في سلقين وجسر الشغور لتشكيل مجالس تتبع للحكومة الجديدة علماً أن هذه المدن كانت وماتزال محرومة من أي مشاريع خدمة بسبب وجود القرار في يد تحرير الشام وقادتها العسكريين.
هذه التحولات الكبيرة التي تطال بنية تحرير الشام العسكرية مع رفض كبير داخل أروقة الهيئة لهذا التعديل وهذا النهج، يقوده العديد من القادة في الصف الأول والثاني لاسيما في قطاع البادية الرافض للحكومة بشكل مطلع ولهذا النهج الذي تتبعه تحرير الشام مدنياً، ترسم التحولات بداية تحول كبير لتحرير الشام بعد سلسلة تحولات سبقتها مع استمرار نفس الممارسات، فهل تكون هذه المرحلة بداية خلع البدلة العسكرية وتسلط القبضة الأمنية لتحرير الشام، تغيير كسابقه لمجرد تغيير البدلة العسكرية بالطقم المدني مع الحفاظ على ذالت القالب والتوجه والفكر .....!؟
ترسم التطورات الحالية تحدياً كبيراً في مدى نجاح هذه التجربة لتحرير الشام ومدى كونها لصالح المدنيين أو الثورة السورية أو أنها ستكون باباً كسابقاته للتغلب وتمكين القبضة في الحكم والإدارة وإنهاء الخصوم وتغليب المنهج ولكن بواجهة وقبضة مدنية تتحكم في مفاضل القرار أمنياَ ومؤسساتياً، ستكشف الأيام اللاحقة مدرى قدرة هذه الحكومة على التحرك والعمل فعلياً على تحقيق مطالب المدنيين ووقف ممارسات العسكر ...
يمكن أن نقسّم الأحداث المتعلقة بالدول إلى عدة أقسام، فهناك من بلغت درجة إيمانه أن إيران قد قبضت على عواصم عربية بعد أن تغلغلت بميليشياتها في دولة عربية عريقة وكبيرة في حضارتها وتاريخها ورجالها هي العراق، وهناك من لم يؤمن بهذا، ويرى في الأفق عراق العروبة وهو ما زال جزءاً من جسد أمته، بمعنى أنه لن يكون رهناً لإيران رغم احتفالات إعلامها وعملائه، وستنتهي الفوضى في المنطقة، وستقلم أظافر النظام الإيراني في كل العواصم العربية التي أنشبها فيها، وكانت الأولوية معقودة بمواصلة الجهود لإيقاف العبث الذي يمارسه هذا النظام في دعم الميليشيات؛ سواء في العراق أم في لبنان أم في اليمن، ومدّ الحوثيين بالصواريخ الباليستية والألغام في انتهاك صارخ لقرار مجلس الأمن رقم 2216، وبناء عليه أدان وزراء الخارجية ورؤساء هيئات الأركان العامة للدول الأعضاء في التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن تحركات إيران الإرهابية.
بهذا الشكل أتت الوقفة العربية الخليجية الحازمة، وبتحرك سعودي متفرد ومتميز؛ لتجسّد حقيقة العلاقة المتينة وإعادة توهجها بين الدول الأربع ودول التحالف، لإيقاف ما تقوم به إيران عبر ميليشيا الانقلابيين، من قتل للشعب اليمني وتعريضه للجوع والخوف والمرض والعبث بمقدراته، وتهديدها لأمن واستقرار دول المنطقة.
إن الأمر باختصار يتعلق بإيران، وهو بمثابة معركة تدور بينها وبين الدول العربية تضيف إلى وجودها شيئاً مخزياً تظهره للعالم بصورة مارقة ومنحرفة، تريد باختصار تسخير خدماتها لنشر الفوضى في كل مكان من المنطقة.
ويمكن للمسكون بهموم السياسة، والحامل للجينات العربية أن يتوق لمعرفة إجابة السؤال الأهم الذي ما زال ساخناً، يقول السؤال: لماذا تركنا ميليشيات إيران تستولي على المراكز القيادية في دولنا وفي العراق أولاً، وتسلب من شعوب تلك الدول كثيراً من حقوقهم وتقتل أحلامهم وآمالهم؟ كيف بلغ الأمر أن تعارضت سياسات القوى الدولية وتخاذلت عن إنقاذ العراق وسوريا واليمن، من براثن وذيول إيران، ثم من قطعان «داعش» وميليشيا الحوثيين؟ إذ لا يعدو الأمر أن يكون إفراطاً في إبراز قوتها للملأ، ولا يرى العالم إلا النزر اليسير من إشاراتها وصواريخها الباليستية، وهي تعمل في الخفاء على زعزعة أمن دول الخليج. وهذه الإدانة الأخيرة من التحالف تحمّل النظام الإيراني وأدواته مسؤولية العبث بأمن المنطقة، والانتهاكات التي ترتكبها الميليشيات الحوثية ضد الأطفال، والزج بهم في النزاع المسلح.
لدينا إذن لائحة واضحة في ثلاث لحظات، في بدايتها ضرورة قيام دول التحالف بإبراز رسالتها، ووسطها الاستمرار في كشف المخططات والممارسات الإجرامية التي تقوم بها ميليشيات الانقلابيين، بدعم من إيران و«حزب الله»، ونهايتها أن الجماعة الحوثية المسلحة هي أول جماعة إرهابية خارج القانون تمتلك القدرات الباليستية، وهو خطر حقيقي وتقاطع طرق.
لا شك أن الحقائق المنحوتة ستظهر، وينفض عنها ركام السنين، بعدما ران عليها العنف والحرب، وبهذا يتبين أن الجهود المبذولة من المملكة العربية السعودية تمثل تاج السياسة الحكيمة، ونضج الرؤية، وبهذه المنزلة يكتمل البناء فيها، فتحددت معالمها، وعمل الملك سلمان ورئيس الوزراء العراقي بمقتضى ذلك على البدء في تأسيس مرحلة جديدة وتغير المواقف والتصورات الماضية، وتؤسس للعلاقة المتمكنة مع تجاوز العقبات.
وأكدها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بالدعم والتأييد لوحدة العراق واليمن واستقرارهما، قائلاً حول العراق: «إن الإمكانات الكبيرة الموجود في السعودية والعراق تتيح فرصا كبيرة لبناء شراكة فاعلة، تحقق الأهداف والتطلعات المشتركة بين البلدين».
ولا عجب عندئذ أن تجد صدى للجهود المبذولة، وما تحقق من إنجازات في القضاء على الإرهاب والطائفية التي تواجه دول المنطقة، ومن هذه الحوادث التي مرت بالشعب العراقي «داعش»، وميليشيات مدعومة من إيران تزعزع أمنه واستقراره، وها هي اليوم القوات العراقية تطرد «داعش» من مناطق جديدة في القائم.
أظهرت ردة فعلِ سوريا سلبيةً إزاء المساعي الروسية لعقد «مؤتمر الشعوب السورية» في سوتشي، وظهر الرفض علناً في أوساط المعارضة السياسية، كما في أوساط المعارضة المسلحة، ومنها أطراف كانت شاركت في مؤتمر «آستانة» الذي هو صنيعة روسية، وامتدت روح معارضة المؤتمر الروسي إلى أوساط سياسية واجتماعية وثقافية وشعبية أعلنَتْ رفضها المشاركة في المؤتمر، رغم أن بعض المعارضة، خصوصاً القريبين من موسكو ومن نظام الأسد، أبدوا موافقتهم على المشاركة، لكن موافقة هؤلاء لا تعني أن المؤتمر سوف يُعقَد، وأنه إذا انعقد سوف يحقق أهدافه.
السوريون، في غالبيتهم، يعرفون أن روسيا، اليوم، صارت فاعلاً رئيسياً في القضية السورية، ليس بسبب حجمها الدولي، وهي واحدة من الدول الكبرى، ولا بسبب إمكانياتها الكبيرة فقط، وإنما (إضافةً إلى ما سبق) بسبب وجودها السياسي والعسكري في سوريا، من جهة، ونتيجة استقالة الدول الكبرى والقوى الإقليمية من دورها، وعزوفها عن التعامل مع القضية السورية بما تستحق من أهمية.
ولهذه العوامل، يرغب كثير من السوريين في أن يكون لروسيا دور في معالجة قضيتهم وإخراجها من نفق القتل والتهجير والتدمير الذي تُوغِل فيه مما يهدد بنهايتها كياناً وشعباً لا أحد يسعى إلى الإبقاء عليهما، ووضع حد لكارثة سبع سنوات مضت، كلفت كثيراً من البشر والقدرات المادية، وخلقت معطيات جديدة لتدمير ما تبقى.
غير أن رغبة السوريين في دور روسي في القضية تصطدم بمواقف موسكو وخياراتها في سوريا؛ حيث عملت بصورة نشطة للحفاظ على النظام، وتصر على بقاء رأس النظام في السلطة بعد كل ما ارتكبه من جرائم، وتسعى بكل جهد لتبرئته من تلك الجرائم، وتبرر سياساته، وهي في سبيل أهدافها تتحالف مع إيران والميليشيات الشيعية المقاتلة إلى جانب النظام، وقد عارضت أيّة سياسات اتبعتها الدول الأخرى والمنظمات الدولية لإدانة النظام والدفع نحو معاقبته على جرائمه، بل مارست شتى الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية ضد دول من أجل تغيير مواقفها، كما فعلت مع تركيا التي أجبرتها على الانخراط في مسار «آستانة»، وفرض تعاونها في جلب قوى من المعارضة المسلحة إلى هناك.
أما في الداخل السوري فقد قامت بفعل الكثير؛ فإضافة إلى عملياتها العسكرية، خصوصاً استخدامها سلاح الجو في هجمات، تجاوزت ما تعتبرُهُ معاقلَ لقوى المعارضة المسلحة «الإرهابية والمتطرفة» إلى ضرب حواضن اجتماعية مدنية خارجة عن سيطرة النظام، بما فيها مناطق سكنية وأسواق ومدارس ومراكز طبية، لتسهيل عودة تلك المناطق إلى سيطرة النظام، وسَعَتْ إلى عقد مصالحات في مناطق استحال أو صعب إخضاعها بالقوة العسكرية، وأسهمت في عمليات التهجير بما يعني إعادة صياغة الديموغرافية السورية بما يتوافق ومصلحة حلفائها من نظام الأسد وإيران.
وأضافت، في سياق سياساتها، بناء حواضن سياسية مرتبطة بها على نحو ما هي عليه منصة موسكو، والجماعات المرتبطة بقاعدة حميميم الروسية، وأنشأت صلات مع أوساط اجتماعية في مناطق سيطرة النظام تؤيد السياسة الروسية في سوريا، كما نسجت علاقات عميقة مع شخصيات وفعاليات في الداخل، وبينهم عسكريون في جيش النظام وأجهزته الأمنية.
ورغم سوء الدور الروسي في سوريا وحولها، فإن كثيراً من السوريين يمكن أن يندمجوا في خط التفاهم مع موسكو وطروحاتها لمعالجة القضية السورية وحلِّها، إذا توفرت في الموقف الروسي تحولات أساسية؛ أولها إيقاف العمليات العسكرية ضد الأهداف المدنية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والسماح بالمرور الحر للسلع والبضائع والمساعدات الإنسانية إلى تلك المناطق، سواء كانت ضمن مناطق خفض التصعيد أو خارجها. والثاني تأكيد موسكو دورها المستقل في إنجاز تسوية للقضية السورية تشارك فيها كل الأطراف، تكون عتبتها إعلان جنيف لعام 2012 وما تلاه من قرارات دولية في هذا السياق، مما يعني الموافقة على قضية الانتقال السياسي بصورة مبدئية. والثالث انفتاح روسي أوسع على القوى والأطراف الدولية والإقليمية والداخلية المنخرطة والمهتمة بالصراع في سوريا وحولها، لضمان مساندتها للحل الروسي وتفاعلها الإيجابي معه.
إن قيام موسكو بهذه الخطوات، سوف يبدِّل من نظرة الأطراف المختلفة للدور الروسي في القضية السورية، وسوف يجعل السوريين بمختلف اتجاهاتهم وتوجهاتهم أقدر على التفاعل مع دور روسي بنّاء في حل القضية السورية وفي علاقات روسية - سورية أفضل في المستقبل.
لقد جرَّبَت موسكو طوال السنوات الماضية في القضية السورية سياسات مختلفة، بدأت من الدعم المستور لنظام الأسد إلى الدعم والمساندة المكشوفين، وصولاً إلى التدخلات العسكرية المباشرة، وممارسة سياسات التفرد، والضغوط المختلفة على كل الأطراف الداخلية والخارجية، ولم تصل إلى النتائج المطلوبة في تحقيق أهدافها ومصالحها، ولا في تحقيق أهداف ومصالح النظام وحلفائه، وفي ظل مساعيها الراهنة لتعزيز الدور الروسي وتقويته، لا بد لها من إجراء تغييرات في سياساتها، لأنها إن لم تفعل، فإن أطرافاً أخرى سوف تتدخل، وتشغل حيزاً أوسع في القضية السورية، والمثال الأكثر وضوحاً في ذلك ما حصل في الحرب على «داعش»، الذي أعطى الوجود الأميركي زخماً وأهمية في سوريا وقضيتها لم يكن حاضراً في السابق، وما لم تذهب موسكو في هذا الاتجاه، فلن ينفعها عقد «مؤتمر الشعوب السورية» في شيء، خصوصاً بعدما أثبت مؤتمر «آستانة» في اجتماعه الأخير أنه وصل إلى طريق مسدود.
عندما يغيب الأمن ، يغيب معه الأمان والاستقرار والطمأنينة ، وتغيب العدالة ، وتحل الفوضى ويتفشى الخوف والظلم ، ويصبح المجتمع خالياً من مضمونه حيث لم يعد الإنسان يأمن على حياته وحياة من حوله ، ويعيش في دوامة الخوف والرعب ويصبح صيداً ثميناً وفريسة سهلة لكل القتلة والمجرمين والعابثين بأرواح الناس وأمنهم وارزاقهم .
لقد أثبتت الوقائع الميدانية وشبه اليومية في محافظة درعا أن المناطق المحررة منها والتي تخضع لسيطرة فصائل الجيش الحر هي من أقل المناطق أمناً واستقراراً وتنظيماً مقارنة ببعض المناطق المحررة في بعض المحافظات الأخرى ، والمتابع لذلك يدرك حق الإدراك مدى الفشل والتسيب والإهمال وعدم الإحساس بالمسؤولية من قبل الجهات المعنية بالحفاظ على أمن هذه المناطق .
حيث شهدت ومازالت تشهد العديد من مدن وبلدات المحافظة وبشكل شبه يومي الكثير من التفجيرات والاغتيالات وحوادث القتل المتفرقة والعديد من حالات الخطف والسلب وغيرها من الحوادث التي ازدادت وتيرتها في الآونة الاخيرة والتي ذهب ضحيتها الكثير من عناصر الجيش الحر والمدنيين من بينهم عناصر في الدفاع المدني .
هذه المناطق التي من المفترض أن تنعم بالهدوء والاستقرار وتحضى بدعم أمني كبير نظراً لوقوعها تحت سيطرة الفصائل الثورية ، بعكس المناطق التي تخضع لسيطرة قوات النظام والتي تشهد هدوءاً ملحوظاً ما جعل البعض يفكر جدياً بالانتقال إليها بحثاً عن الأمان لحماية عائلته وأطفاله من الخطر .
هذا المنعطف الخطير التي وصلت إليه الأمور في حوران اليوم يأتي جراء الفلتان الأمني والفوضى العارمة التي تشهدها المناطق المحررة ، وجراء التسيب الأمني غير المبرر وظاهرة انتشار السلاح العشوائي بين أيدي الجميع ، والذي ترتكب من خلاله الكثير من الجرائم وتزهق الأرواح البريئة دون وجه حق ودون معرفة هوية القتلة وانتمائاتهم أو أهدافهم في ظل غياب كامل لمبدأ الرقابة والمتابعة لضبط هذا السلاح وحصرية استخدامه ومعاقبة حامليه .
ورغم الخسائر البشرية الكبيرة والمتزايدة التي نتجت عن هذه الحوادث إلا أن الجهات المعنية بحماية المدن والبلدات ومراقبة الطرقات الرئيسية والفرعية لم تتخذ حتى اللحظة أية احتياطات أو إجراءات جديّة وملموسة للحد من هذه الحوادث التي تحولت وللأسف لظاهرة شبه يومية تحصد وتهدد حياة الكثيرين من الأبرياء .
كل ذلك يجري في ظل غياب كامل للدور الفعلي الذي يجب أن تقوم به “محكمة دار العدل” التي لاحول لها ولاقوة بسبب تحجيمها وتهميشها حسب بعض المعلومات ، وهذا ما يتطلب من جميع الفصائل والفعاليات الأخرى ضروة التنسيق السريع فيما بينها لإعادة هيكلتها من جديد ورفدها بكل الكفاءات النزيهة والقادرة على القيام بدورها المطلوب لتظهر كقوة تنفيذية فاعلة يُحسب لها ألف حساب دون التشكيك بها أو بقدراتها لتكون مرجعاً لإحقاق الحق وصوتاً لكل المظلومين في حوران.. وما أكثرهم .!
ولا يتحقق هذا إلا من خلال دعمها أمنياً ومعنوياً وإعطائها كامل الصلاحيات بعيداً عن أية ضغوطات أو تدخلات بشؤونها من قبل أي جهة كانت عسكرية أو مدنية وذلك لأداء دورها الحقيقي بفرض الأمن ومحاسبة كل من تسول له نفسه العبث بأمن حوران وأهلها مهما علا شأنه ومهما كانت انتماءاته الفصائلية أو العشائرية .
وإلا.. ستبقى حوران عنواناً للفوضى ومسرحاً للقتل وارتكاب الجريمة وسيبقى القتلة والعملاء والعابثون يسرحون ويمرحون في طول حوران وعرضها مخلفين ورائهم المزيد من الضحايا بلا رقيب أو حسيب .
فالوضع خطير جداً وحماية الناس هي من أولى الأولويات ومسؤولية الجميع والتهاون والاستهتار بحياتهم وأمنهم وأرزاقهم لم يعد مقبولاً ، فالبيانات الرنانة والتصريحات الإعلامية لم تعد لها قيمة مع بقاء الوضع على ما هو عليه ، ويجب الانتقال من الأقوال إلى الأفعال وإلا ستنزلق حوران إلى منعطف أخطر بكثير قد يصعب التنبؤ بنتائجه أو السيطرة عليه مستقبلاً ..
“حوران في رقابكم أمانة فاحفظوها من الضياع” .!
تنويه : المقال يعبر عن رأي كاتبه، وتجمع أحرار حوران ليس مسؤولاً عن مضمونه.
لم تخل برامج الأحزاب الغربية المتنافسة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية من نقطة تتعلق بالموقف من قضية اللجوء وطالبيه السوريون، ما أدى إلى تنامي أحزاب يمينية وعنصرية معادية لسياسة استيعاب اللاجئين الإنسانية، نالت في فرنسا وألمانيا وزناً لافتاً وحازت أكثرية برلمانية في النمسا.
ولم تخجل حكومة أنقرة من توظيف مشكلة اللاجئين خارج جوهرها الإنساني، إن في ابتزاز الغرب والضغط سياسياً واقتصادياً عليه، وإن في جعلها مدخلاً لتحصيل بعض النفوذ الإقليمي وتمكين أردوغان من فرض مشروعه الإسلاموي، وإن في تدريب بعض اللاجئين وتعبئتهم لمحاصرة التمدد الكردي في سورية، ناهيكم عن الاستغلال البشع لقدراتهم من خلال قرارات تمييزية تتيح أفضل الفرص لمالكي رؤوس الأموال وذوي الكفاءات العلمية على حساب المساواة الإنسانية المفترضة بين عموم اللاجئين.
وكان للبنان حصته في استثمار ورقة اللاجئين سياسياً، بسبب الانقسام المزمن في المجتمع بين تيارين متعارضين في الموقف من النظام السوري، زاد الأمر وضوحاً التدخل العسكري المباشر لـ «حزب الله» في الصراع الدموي السوري، وانتماء الكتلة الرئيسة من اللاجئين إلى مذهب تلاحقه لعنة الإرهاب وكل عملية تقوم بها جماعات «النصرة» و «داعش» فوق الأراضي اللبنانية، ما سهّل إلى حد كبير خلق مناخ اجتماعي ونفسي مناهض لوجود اللاجئين السوريين، وتمرير مطلب إعادتهم من حيث أتوا أو طردهم من البلاد، يحدوه تبلور سياسة رسمية للبنان، معززة بانتخاب ميشال عون رئيساً، وبضغوط أطراف سياسية واقتصادية وأجهزة أمنية، تميل إلى تطبيع علاقاتها مع النظام، كخيار لتحسين حضورها الداخلي والإقليمي، وضمان دور لها في المرحلة السورية المقبلة.
لكن ذاك الاستثمار السياسي لقضية إنسانية نبيلة ومؤلمة، كقضية اللاجئين الهاربين من أتون عنف منفلت، ما كان ليمضي قدماً لولا تضافر عوامل مختلفة.
أولاً، تدهور الدور الدولي في حماية القيم والمعايير المشتركة المتعلقة بحقوق الإنسان وحماية المدنيين، انعكس في الخصوصية السورية، بعجز أممي مزمن وفاضح عن فرض حلول سياسية توقف العنف وتضمن الأمن وتخفف حدة النزوح والهجرة، زاد الطين بلة اضطراب الدعم العالمي لقضية اللاجئين، وما صار إليه من تقصير مالي وتراجع المعونات الإغاثية تحت حجج وذرائع مختلفة، سواء من الحكومات التي أبدت اهتمامها بمعاناة السوريين، وسواء من المنظمات الدولية المعنية بشؤون اللاجئين والتي باتت تشكو من شح المساعدات ونقص التمويل، وحين يبقى العالم عاجزاً ومقصراً في معالجة ما يعترضه من أزمات إنسانية بالغة الفجاعة، يمكن تفسير كيف تغدو محنة اللاجئين السوريين ورقة مهملة في مهب تنازع سياسي تحكمه مصالح الأطراف الدولية ومطامعها.
ثانياً، يمكن اعتبار الارتفاع المتواتر في أعداد اللاجئين السوريين جراء طول أمد الصراع وشدة العنف والتنكيل اللذين رافقاه، أحد دوافع تحويل قضيتهم الإنسانية إلى ورقة سياسية من قبل قوى لا تريد تحمل عبئاً يزداد ثقلاً ووطأة. وبلا شك، فإن مليون لاجئ إلى أوروبا وما يقارب المليونين في تركيا وأكثر من مليون في كل من لبنان والأردن، يشكلون ضغطاً على تلك المجتمعات عموماً وعلى إمكانياتها الاقتصادية والاستيعابية، فكيف الحال لدى بلدان تعاني من صعوبات في توفير احتياجات مواطنيها، ما منح بعض الديماغوجيين فرصة سياسية ثمينة للالتفاف على الأسباب الحقيقية لازمات مجتمعاتهم ولإثارة نوازع السكان الأصليين ضد هؤلاء اللاجئين باعتبارهم أساس الداء والبلاء!
ثالثاً، لعبت الاندفاعات العدوانية لجماعات إرهابية عابرة للحدود، لا سيما من «النصرة» و «داعش»، دوراً مهماً في إثارة مخاوف جدية لدى المجتمعات التي ضمت لاجئين سوريين، ربطاً بما أظهرته تحقيقات عن ضلوع بعض طالبي اللجوء في ممارسات إرهابية طالت مدنيين أبرياء، والأهم اندفاع أوساط سياسية وقيادات أمنية نحو المبالغة في الترويج لارتباط تلك الجماعات المتطرفة مع عموم اللاجئين، بغرض تأليب الرأي العام ضدهم.
رابعاً، ما يزيد محنة اللاجئين سوءاً واستغلالاً سياسياً، تنوع وكثرة القوى التي باتت فاعلة ومقررة في الصراع السوري ولجوء بعضها لاستخدام اللاجئين ورقة لتعزيز موقعه السياسي التفاوضي، وتنصل بعضها الآخر منهم ما داموا يشكلون عبئاً عليه أو يحسبون اجتماعياً وطائفياً على أطراف تخاصمه، بدليل تنكر النظام لمشكلة اللاجئين ومجاهرته بأن لا مكان لهم أو حقوق في مجتمعه المتجانس.
وهو ليس مجرد تفصيل صغير حين تجد المجتمعات التي تضم لاجئين سوريين أن السلطة في بلدهم قد ألغتهم من حساباتها، ألا يعزز ذلك من تهميشهم وتسهيل انتهاك حقوقهم وزيادة فرص تسخير جماعات منهم لخدمة أهداف سياسية لمصلحة هذا الطرف أو ذاك؟
وفي كل حال، إذ يصح القول إن محنة اللاجئين السوريين باتت بلغة الأرقام والوقائع أسوأ محنة إنسانية في تاريخنا المعاصر، وإن ثمن إهمالها والاستهتار بتداعياتها سيكون باهظاً وسوف يصطدم، ليس فقط بازدياد أعداد اللاجئين والمهجرين قسراً، أو بشدة معاناتهم وإنما أيضاً بتنوع سبل إذلالهم واضطهادهم واستغلالهم سياسياً. ولعله أضعف الإيمان، التأكيد والتشديد، في مواجهة جميع المتلاعبين بهذه القضية الإنسانية، على المعايير الأساسية للأمم المتحدة التي يفترض أن تلتزم بها سائر الدول تجاه قضية اللاجئين، بدءاً باحترام عودتهم الطوعية دون قسر أو إكراه، بصفتها خياراً حراً، تحدوه إزالة الظروف السياسية والأمنية التي دفعت بهم للهروب، مروراً بضمان أمانهم الجسدي والقانوني بما في ذلك حقوق الحرية والحياة والحماية من العنف والملاحقة والاعتقال والتعذيب، وإنتهاءاً بحفظ كراماتهم وعدم التمييز بينهم لأية أسباب أو دوافع، خاصة في حصولهم على الوثائق الشخصية واستعادة ممتلكاتهم وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية وفرص العمل والمقاضاة.
واستدراكاً، مثلما لا يصعب الاستنتاج أن هذه المعايير لا يمكن تحقيقها، في ظل سلطة الاستبداد والفســاد ووسط استمرار الإهمال الأممي والإقليمي، لا يصعب الاستنتاج كم كان مطلب السوريين بدولة المواطنــة والديموقــراطية، محقاً ومشروعاً.
هيربرت ماركوزا وجون بول سارتر اثنان من المثقفين الأوروبيين الذين أُعجبوا بدايةً بالنموذج السوفياتي حتى اكتشاف الجرائم الستالينية فاعتذرا ومضيا قُدماً. أما مارتن هيدغر أحد أبرز فلاسفة القرن العشرين فانتمى في فترة من حياته إلى الحزب النازي ونسب إليه بعضهم تُهمة معاداة السامية. ومثلهم مثقفون ومبدعون على طول القارة الأوروبية وعرضها أيدوا موسوليني وفاشيته أو حكم فرانشيسكو فرانكو الانقلابي على الجمهورية الإسبانية. بمعنى أن مثقفين كباراً أخطأوا في مواقفهم وقراءاتهم الواقع، ولا يزال هذا الخطأ وصمة عار في تاريخهم الشخصي وإرثهم يلاحقهم أينما ذُكروا.
وفي سياق متصل، شهدت التجربة العالمية في ذروة حملة التطهير الستالينية داخل الحزب الشيوعي أو ضد مَن اعتبرهم معادين للثورة، مثقفين على مدار العالم يدافعون عنه وعن جرائمه. ورأينا مجتمعات ونُخباً أوروبية تفعل الأمر ذاته مع النازية وتنضمّ إلى جهودها في تطهير بلاد من سكانها وفي إنجاز محرقة اليهود. والأمر ذاته حصل في سياق الفاشية الإيطالية والفرانكوية في إسبانيا وفي حالات مشابهة. فثمة مجتمعات كاملة وأوساط ثقافية واسعة سقطت في امتحان جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، مرة عندما دافعت عنها ومرة عندما شاركت فيها بالفعل أو بالصمت.
ومن تجربة العالم هذه تحديداً في النصف الأول من القرن الفائت، جاءت نصوص القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة والمحاكم الدولية ودستور مجلس الأمن الدولي وسواها من مؤسسات وآليات دولية بهدف واضح وصريح: منع تكرار ما حصل والحدّ قدر الإمكان من احتمالات تكرار جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لا سيما الإبادة الجماعية والتطهير العرقي واستخدام أسلحة محرّمة وما إلى ذلك. وهي جرائم، قالت هنه أرنت، أنها ممكنة الحدوث والتكرار وأن كل شعب ومجتمع قابل لتنفيذ مثلها. بمعنى أن الشرّ لم ينتهِ في الهولوكوست وأنه عادي ومألوف وما مِن أحد محرّر من إغراء القيام به. لهذا السبب، قاطعت المؤسسة الصهيونية أرنت اليهودية الأصل ولم يُترجم أي من كتبها وإبداعاتها التنظيرية إلى اللغة العِبرية إلا في السنوات الأخيرة. وهذا لإصرار الصهيونية على مؤسساتها أن الهولوكوست فعل استثنائي لم يكن ليحصل لو أن ضحاياه من اليهود وأن ما من جريمة تشبهها! وهو ما نفته أرنت في تقارير كتبتها عن محاكمة المجرم النازي أدولف آيخمان في إسرائيل في الستينات كمندوبة لصحيفة أميركية. وهي تقارير تحوّلت في ما بعد إلى نص نظري فلسفي ألمعي شهير لأرنت عن «عادية الشرّ»، جزمت فيه بأن المجرم آيخمان لم يكن استثناء وإنما هو - في ارتكابه الجرائم التي نُسبت إليه - تجسيد واضح لقُدرة النُظُم الشمولية على تجريد الإنسان الفرد من إنسانيته وعلى تحويله، كما المُجتمع، إلى ماكنات قتل وفتك لا تسأل ولا تستأنف، وأن هذه السِّمة من سِمات كل الأنظمة الشمولية وليس النازية فحسب!
هذا يعني أن أرنت الألمعية استطاعت أن تضع يدها على مفصل في السلوك السياسي للدول الشمولية والمجتمعات فيها وأن تفتح لنا باب الفهم على مصراعيه لنُدرك، مروراً منه، إمكانية تكرار التجربة النازية بتسميات أخرى. كأنها استطاعت بعينها النافذة أن تتوقع ما حصل في كمبوديا زمن الخمير الحمر أو في سورية الآن، وأن ترسم لنا خريطة السلوكات السياسية التدميرية للدولة السورية ممثلّة بنظامها الشمولي وبالأفراد، بوصفهم منزوعي الإنسانية وعلى استعداد للإتيان بأي فعل كجزء من القوة الهائلة التي تعتمدها لتحقيق نظريتها ومصالحها (كما فعل عصام زهر الدين وأمثاله!). وإذا كانت تنظيراتها تعطينا مفاتيح فهم الظاهرة في شكلها الأكثر وحشية وشرّاً، فإنها تُعطينا أيضاً فهما لما يُمكن أن يكون سبباً في كون أناس ليسوا سوريين يؤيّدون جرائم النظام واستخدامه القوة المدمّرة. كما تُعطينا التجربة التاريخية القريبة التفسير لهذا السوك لدى المثقفين أو «المتثقفين» ولدى العامة. وهو سلوك قد يكون له أكثر من منبع واحد لكن نتيجته واحدة، وهي التغطية على أبشع الجرائم و «غسلها» بالكلمات وإيجاد «المبرّرات» لها كأنها جزء من السياسة وحماية للدولة والمجتمع، كأنها حرب مع أبشع عدوّ وأكثره خطراً على وجود الدولة، وما شابه من ادعاءات تبدو منطقية ظاهرياً لولا أنها تستر أبشع الجرائم ضد الإنسانية!
علينا أن نستحضر الألمعية أرنت في السياق السوري لنفهم أداء الدولة - النظام في تأهيل المجتمع والأفراد للمجزرة المستمّرة وللعنف المُطلق ولنفهم إصرار سوريين وعرب وأجانب على اعتبار هذا العنف وهذه المجزرة شرعية أو لها ما يُبررها، ولنفهم الصمت القاتل عنها وحيالها من جهات مختلفة. علينا أن نستعير منها ألمعيتها في القراءة والتحليل والتسمية لنخاطب ذوي القابلية على ارتكاب المجزرة والمنافحين عنهم وأولئك الذين يُغطّون استمرارها بخطاب يساوي بين الفاعل والضحية وبين نظام شمولي مُستبدّ مُجرم وبين شعب ضحية، تارة كمُشارك في جزء منه وتارة كجثث تحت الرُكام. وهو ما يعني أن حقبة مروّعة في تاريخ البشرية كما عبّرت عنها تجربة الهولوكوست وسواها من إبادة وتطهير عرقي قد اندملت هي أيضاً تحت رُكام المناطق السنّية باعتبار ضحاياها يهود هذه الحقبة! وهذا يعني، أيضاً، أن أطناناً من الأدبيات القانونية والتنظيرات في نقد الحداثة والدولة الشمولية والفلسفات المستأنفة الممانعة كلّها أيضاً دفنها المجرمون في سورية وأعوانهم في كل مكان في قبور جماعية لا يزال بعضها مفتوحاً لاستيعاب المزيد من هذه النصوص التي ماتت في السجون أو بالغاز في شيخون ومعضمية الشام، والتي لا تزال تُهجّر قسراً وبالدم من الغوطة والرقّة وإدلب وحلب وسواها. هذا ما يحدث هناك الآن. هناك مَن يُريد التخلّص من الشعب السوري ومن التاريخ ومن نصوصه المستأنفة كي يواصل هو جريمته!
حملت الدعوة الروسية إلى مؤتمر «الشعوب السورية»، كما سماه الرئيس فلاديمير بوتين، في سوتشي في روسيا، في 18 الجاري، بذور فشلها في طياتها نفسها، حين اختارت موسكو جدول الأعمال وأسماء القوى المدعوة، كأنها ترمي إلى خلق مرجعية جديدة للتجمعات السورية المعنية بالأزمة السورية وبالحلول المفترضة لها.
يكفي أن يكون عدد الأحزاب أو المجموعات المدعوة من دمشق نفسها، أكثر من19 تنظيماً من أصل 33 «حزباً» وجّهت إليها الدعوة، لإثارة الشكوك حول الأمر. فقلة قليلة من هذه المجموعات مصنفة في المعارضة مثل «هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي» التي بقي معظم قادتها في العاصمة السورية وتعرض بعضهم للاضطهاد والسجن... أما البقية فهي تنظيمات ومجموعات، إما موالية، يشارك بعضها في تركيبة النظام الحاكم ومنضوية في ما يسمى حيلة «الجبهة الوطنية» ولها وزراء، أو أنها من «تفريخ» أجهزة الاستخبارات التابعة له. هذا فضلاً عن أن بعض المجموعات التي دعيت من الخارج هي الأخرى من تفريخ خارجي غير بعيد من نظام بشار الأسد أو من دول تتعاون معه أبرزها روسيا نفسها.
ومع أن موسكو أبلغت قوى في المعارضة أن اللائحة قابلة للزيادة، كان من الطبيعي أن تصف المعارضة الحقيقية التي أعلنت مقاطعتها هذا المؤتمر بأنه «حوار بين النظام ونفسه».
لم يقتصر فشل موسكو على إجهاضها إمكان لعبها دوراً رئيساً في الحل السياسي السوري، عبر هذه الدعوة، بل هي كشفت المناورة التي تلجأ إليها في كل مرة تدعو إلى اجتماعات آستانة لبحث وقف النار وتوسيع مناطق خفض التوتر، والهادفة إلى تقزيم مسار جنيف والبحث في تطبيق القرار الدولي 2254، لاستبعاد بحث الانتقال السياسي.
لكن على المرء أن يفترض أن موسكو ليست بهذه السذاجة، لكي تلعب تلك الورقة المكشوفة، على رغم أن هدفها المرحلي تعويم بشار الأسد. وباتت خططها في سورية تحتاج إلى قراءة أخرى على رغم القول إن الكرملين مثل قوى دولية أخرى ينتظر «تعب الشعب السوري» حتى يسعى إلى فرض الحل. وهو تعب فعلاً، والقرار لم يعد في يده بسبب كثرة التدخلات الخارجية، والمجتمع الدولي لم يصل إلى مرحلة التعب من الأزمة السورية، طالما أن لا وفاق أميركياً روسياً بعد على إنهاء هذه الحرب، بل على العكس هناك حرب بالواسطة تخوضها الدولتان الكبريان في الميدان السوري وغيره من الميادين في المنطقة والعالم.
وفي انتظار توافق الدولتين، يبدو اللعب في الوقت الضائع سمة المرحلة. وأحد أوجه الإفادة منه هو استخدام الميدان السوري في الصراع بين الدولتين، وبين الولايات المتحدة وبين إيران في المرحلة الجديدة من العقوبات المتصاعدة ضد الأخيرة. فرهان بعض العرب وإدارة دونالد ترامب على أن تبعد موسكو طهران عن سورية، بحجة تعارض أهدافهما ومصالحهما، أثبت اجتماع القمة بين روسيا وطهران وأذربيجان في طهران أول من أمس، أن ما يربطهما يتقدم على ما يفرقهما. فالرئيس حسن روحاني اقترح أن يتم التبادل التجاري بين الدول الثلاث بالعملات الوطنية، وعبر البنك المركزي لكل منها مباشرة، بعد أن ارتفع التبادل بين موسكو وطهران 7 أضعاف. وهي وسيلة للدولتين كي تتجنبا العقوبات المالية الأميركية و (الأوروبية بالنسبة إلى موسكو حول أوكرانيا) ولتصمدا حيالها.
والحال هذه، لماذا لا تكون سورية ميداناً للتحايل على العقوبات، بموازاة تحولها ميداناً لتجربة الأسلحة على اختلافها؟ ففي هذا الميدان نشأ في أكثر من 6 سنوات، اقتصاد الحرب، وانتشر أمراؤها بدءاً بالموالين للنظام، مكافأة لهم من الأمير الأول على وقوف ميليشياتهم المناطقية والطائفية معه، كما ترعرعوا في مناطق المعارضة أيضاً. ومن الطبيعي أن يصبح هذا الميدان وسيلة لغسل أموال العقوبات مقابل «الخدمات» العسكرية والسياسية. تحوّل اقتصاد الحرب السورية، الذي يشمل تصنيع المخدرات والكبتاغون في العديد من المدن التي «حرّرها» النظام والميليشيات الخارجية الحليفة تحت شعار «محور الممانعة»، إلى اقتصاد دولي تدخل عبره وتخرج منه بلايين الدولارات. وهناك من يهيّء لتوسيع هذا الاقتصاد الموازي، عبر «كذبة» إعادة إعمار سورية، بحجة اتساع مناطق خفض التوتر، إلى وسيلة لغسل الأموال هذا، عن طريق نشوء شركات في دول الغرب قد تحظى بعقود بمبالغ يسهل التلاعب بأرقامها.
في انتظار التوافق الروسي الأميركي، يقود مؤتمر»الشعوب السورية» إلى مزيد من التفتيت والتفكيك. وما الطريقة التي دعت فيها موسكو 33 كياناً سياسياً إلا وسيلة لمزيد من الخلافات بين المكوّنات. وبعض المدعوّين من رموز اقتصاد الحرب.
التقيت أحد المسؤولين الكبار في حركة فتح في قبرص بعد أشهر على إجلاء قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982. ما زلت أذكر أنه قال لي لو لم تخرجنا إسرائيل من لبنان لخرج أهل لبنان لطردنا بالشلاليط (الأحذية). كان الرجل يغمز من قناة تعفّن أصاب الوجود الفصائلي الفلسطيني وتبرم مما كان يعرف آنذاك بـ «التجاوزات الفلسطينية».
قد يكون في كلام الرجل مبالغة يراد منها «مياكولبا» تفسر سرّ الهزيمة المدوي. لكن في كلامه أيضاً ما كان يعبر عن أن القضاء على الوجود الفلسطيني المسلح لم يكن فقط وليد تفوّق عسكري أنهى في ثلاثة أشهر قوة كانت تعد قبلها بتحرير كل فلسطين، بل مآل منطقي لانهيار البيئة المجتمعية، سواء تلك في لبنان أو تلك في العالمين العربي والإسلامي، التي جردت الفعل الفلسطيني من أي سقوف راعية وداعمة في العالم.
قد تشبه الأعراض التي تصيب «حزب الله» في لبنان تلك التي أصابت منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان عشية الاجتياح الشهير صيف عام 1982. صحيح أن قوة حزب الله العسكرية تفوق بأضعاف ما كانت تملكه الفصائل الفلسطينية قبل 35 عاماً، وصحيح أن الحزب، على عكس منظمة التحرير، جزء من المنظومتين السياسية والاجتماعية للبنان، إلا أن وضع الحزب هذه الأيام بات مرادفاً لخلل لم يعد يحتمله البلد عامة، بحيث تسرّب الورم خبيثاً داخل البيئة اللصيقة المفترض أنها «جمهور المقاومة» الذي لا يهتز ولاؤه.
وما الشتائم التي كيلت مؤخراً إلى الحزب و «سيده» إلا مشهد فاضح لما تبيّته بيئة حزب الله خلف الأبواب. ولا يمكن الانطلاق من مشهد الردح المنقول على الهواء مباشرة لاستنتاج «ثورة» ضد حزب «المقاومة»، بل يمكن، على الأقل، التسليم بأن حالة اللادولة التي تعيشها الضاحية وأهلها، باتت تتصادم مع حالة اللادولة التي أرادها حزب الله دائماً منهجاً يبرر من خلاله ولادته ووجوده وبقاءه وشططه من خبايا الخطف في الثمانينات إلى خبايا العبث على ثغور المدن السورية.
والأدهى أن عملية التأديب التي لا نعرف نوعها، والتي نقلت الرداحين إلى مصاف المعتذرين التائبين، حوّلت خلال ساعات «المقاومة» المقدسة في عرف جمهور الحزب إلى سطوة قهر وسلطة تفرض على «أشرف الناس» قواعد جديدة ودفتر شروط مستحدثة ستنظم علاقة الحزب ببيئته.
وفيما لا يردُ حزب الله كثيراً على انتقادات منتقديه من داخل الطائفة الشيعية ولا يكترث كثيراً لهجماتهم التي تنهال على الحزب وأمينه العام، فإن شتائم «حي السلم» أقلقت قيادة الحزب على نحو دفعه لارتجال مسرحية الاعتذار من «السيد» بأشكال يتضح التصنّع فيها بما يُفترض أن لا يليق بقداسة الحزب المقاوم وسيده.
والحقيقة أن ركاكة إخراج قصائد الاعتذار ليست وليدة عجلة فقط، بل إن في شكلها المتصدّع ما يوحي بأن الحزب لم يعد يستطيع الركون إلى رصيده في العقل الجمعي للشيعة في لبنان، ولم يعد بإمكانه تسويق «العقيدة الحسينية» لدى العامة، وهو المتلعثم في تبرير «شهادة» مقاتليه أثناء حربهم لخصوم مفترضين في سورية. ينتقل الحزب للتعامل مع حالات الغضب والاعتراض على نحو قمعي لا تَسامُح فيه على غرار ما تمارسه أجهزة الأمن في نظم الاستبداد التقليدية.
ثم أن «فضيحة» الشتائم في شوارع الضاحية تعكس بلادةً زرعها حزب الله في الوعي العام لبيئة المقاومة. بدا أن الحزب خلال العقود الأخيرة استطاع إخصاء قوة التمرد والعصيان لدى طائفة عرف عنها مند الاستقلال عصيانها الدائم على السائد سواء كان سياسة أو ثقافة أو اجتماعاً. كان في بعض الصراخ الأخير عتب على حزب، يدفع الشباب من أجله الأرواح، فيما يسكت عن قيام الدولة بقمع مخالفات. بمعنى آخر، أن تلك البيئة لا ترى مسوغاً للاعتراض على قيام الحزب بقتل السوريين في سورية، لكنها تنتفض ضد هذا الحزب لأنه نظرياً سمح للدولة أن تفرض أنظمتها عليها وتنهي استثناءها من قوانينها. والأنكى أن في بعض نصوص الاعتذارات من طالب بأن يُرسل إلى سورية (وليس إلى فلسطين مثلاً) من أجل التكفير عن إثم الشتيمة المرتكبة.
لم تصل أمور منظمة التحرير في لبنان إلى هذا المستوى من الاهتراء المجتمعي العام. كان أبو عمار ممسكاً بمفاتيح مهمة في لبنان، لكن البلد كان في صلب حرب أهلية منقسماً جغرافياً، فيما كانت قضية فلسطين آنذاك ما زالت «قضية العرب الأولى». في المقابل، يمسك حزب الله حالياً بقرار الحكم في البلد ويجلس على ترسانة صاروخية تتجاوز لزوميتها حجم لبنان ووظيفته، لكن أرضيته اللبنانية باتت طرية تتحرك داخلها رمال جوانية فضحتها شتائم «حي السلم». ليس هذا ما سيطيح أسطورة الحزب الدائم الانتصار، لكن ذلك ما سيوفّر ظروف أي خطط مقبلة في هذا الصدد.
تبدو تصريحات المسؤولين الروس حول الوضع في سورية شديدة التفاؤل، إذا ما أخذنا في الاعتبار حقيقة أن المعركة على الإرهاب لم تنته بعد، على رغم التراجع الكبير في قدرات «داعش»، وأن المفاوضات في جنيف وآستانة لم تحقق نتائج ملموسة حتى الآن، وأن إيران، بطلة التخريب الإقليمي، لا تزال ناشطة بقوة على الأرض السورية، ولا يزال الأميركيون يعلنون رفضهم دوراً لبشار الأسد في مستقبل بلاده، بينما تتمسك موسكو وطهران بالدفاع عنه وعن نظامه.
فخلال يومين فقط، أكدت موسكو، أولاً، أن المهمات الرئيسة لجيشها في سورية أُنجزت وأن الحرب على «داعش» ستنتهي بحلول نهاية العام، لكنها ستُبقي هناك على قوة عسكرية كافية «لمنع الإرهابيين من العودة»، وقالت، ثانياً، إن اجتماعات آستانة فاعلة وتؤدي الدور المطلوب منها، وإن «التوصل إلى تسوية سياسية في سورية بات ممكناً مع استعداد الأسد لإعداد دستور جديد وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية على أساسه»، وأعلنت، ثالثاً، أن «مؤتمر شعوب سورية» الذي طرحت فكرته قبل فترة وجيزة سيُعقد في غضون أقل من ثلاثة أسابيع في سوتشي، وأن المدعوين، بمن فيهم الأكراد، يعتزمون مناقشة الدستور السوري الجديد.
هكذا، بسحر ساحر، صار الحل في سورية «على الأبواب»، والجميع «متفق» على أن روسيا هي الضامن والراعي والقادر على فرض أي اتفاق يتوصل إليه السوريون بمختلف انتماءاتهم، وأن «شعوب سورية» تنتظر على أحرّ من الجمر لقاء سوتشي لتتبادل العناق والتهاني، وتمسح في ساعات قليلة سبع سنوات من العنف والقتل أوقعت أكثر من نصف مليون قتيل وثلاثة ملايين جريح، وهجّرت أكثر من عشرة ملايين آخرين من بيوتهم وقراهم ومدنهم التي أزالت بعضها عن وجه الأرض، ودمّرت بنية تحتية تحتاج عقوداً طويلة لإعادة بنائها ومئات بلايين الدولارات لتعويضها.
وبات بوتين ورجاله ومساعدوه مثل أهل العروس والعريس معاً، منهمكين في التوفيق بين الرغبات واسترضاء مختلف المدعوين، وفي الوقت نفسه، إظهار عضلات القصف الصاروخي من الغواصات والقصف المدمر من الطائرات، بالتزامن مع توزيع الابتسامات والمصافحات الحارة.
لكن لماذا الاستعجال والرغبة في لفلفة سريعة لوضع ملتهب، حتى قبل أن تبرد المدافع والقلوب قليلاً، وقبل أن تتضح ملامح التسوية المقترحة؟ ولماذا تتصرف موسكو كأنها الطرف الوحيد الذي يمسك بكل خيوط «اللعبة» في سورية، وأنها قادرة على إقناع المختلفين أياً كانت تبايناتهم، وجمع المتنابذين مهما كانت مآربهم متباعدة؟
الجواب يكمن في ملفات ومناطق أخرى لا يمكن مقاربتها بنجاح ما لم يثبت بوتين فعلاً دوره الحاسم في الشرق الأوسط، وقدرته على فرض الحلول التي تنال رضا كل من نظام الأسد والمعارضة ورعاتهما الإقليميين والدوليين، بما في ذلك روسيا نفسها والولايات المتحدة، وكذلك إيران وتركيا وإسرائيل والصين والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة... وفي مقدم هذه الملفات بالطبع، أوكرانيا وحدود تمدد حلف شمال الأطلسي شرقاً.
فهل فعلت موسكو وقدّمت ما يكفي لإقناع العالم بأنها تملك وحدها مفاتيح الحل في المنطقة، وأنها قد تقبل مشاركة أطراف آخرين، مقابل صفقات في مناطق أخرى؟
الفرق بالتأكيد واسع بين تفاؤل روسيا والحقائق الميدانية. صحيح أنها نجحت، بفضل جهدها العسكري، في إنقاذ نظام الأسد من السقوط، لكنها ليست وحدها في سورية، إذ لا تزال المعارضة السورية موجودة ومسلحة وقادرة، ولا يزال الأكراد يسيطرون على أجزاء واسعة من شمال البلاد وشمالها الشرقي، ولا تزال لدى «داعش» القدرة على التخريب.
ولا تزال إيران التي قدمت الإسناد البشري بميليشياتها المتعددة وساهمت بالسلاح والمال في الحرب منذ بدايتها، تشكل عقبة لا يمكن للروس تجاوزها بسهولة. لكنهم يحاولون بالطبع استغلال الاستدارة الهائلة في السياسة الأميركية إزاء طهران لدفعها إلى تفويضهم وحدهم بإيجاد الحل، بما قد يسمح لهم بإجراء مقايضة يتوقون إليها بشدة في جبهتهم الغربية. ولعل هذا ما ذهب بوتين لمناقشته في طهران أمس.
تحتفل جمهورية إيران الإسلامية هذه الأيام، من خلال المسيرات والخطب النارية، بالذكرى الثامنة والثلاثين لاحتلال السفارة الأميركية في طهران، واحتجاز الدبلوماسيين الأميركيين كرهائن طيلة 444 يوماً. وفي الوقت الذي يسعي فيه الكونغرس الأميركي إلى تضييق الخناق على إيران، لا تزال القيادة في طهران حبيسة أوهامها القديمة التي يتمحور أغلبها حول الولايات المتحدة التي بثت الرعب، وكذلك سحرت لبَّ الملالي منذ استيلائهم على السلطة منذ 40 عاماً. فالملالي يخشون الولايات المتحدة، لأن نظرتهم للتاريخ يحكمها إيمانهم بنظرية المؤامرة. فهم يرون الولايات المتحدة كماكينة شيطانية مركزية تديرها زمرة ضئيلة من المتآمرين الذين عقدوا العزم على الهيمنة على العالم، ويرون المعارك السياسية داخل الولايات المتحدة كجزء من سيناريو محبوك هدفه إرباك العالم الخارجي. فبحسب أحد الملالي البارزين، فإن الرئيس دونالد ترمب «يلعب بهوس وفق نظرية هنري كسينغر، بهدف بث الرعب في نفوس المسلمين»، فيما يرى ملا بارز آخر أن المبارزة التي جرت بين هيلاري كلينتون وترمب «لم تكن سوى عرض مسرحي لإرباك العالم».
وفي بعض الأحيان، يجري تصوير الولايات المتحدة على أنها باتت «على حافة الهاوية» بسبب «انعدام الأخلاق واستشراء الفساد المتأصل فيها»، وفي أحيان أخرى يصفونها على أنها «الشيطان الأكبر» القوي الشرير كما تصفه الكتب المقدسة. وبالنسبة لبعض الملالي، ومنهم آية الله إمامي كشاني، فإن كراهية الولايات المتحدة جزء لا يتجزأ من الإيمان، وبالنسبة لآخرين مثل آية الله قراءاتي، فهو يرى أن الصلاة لا تصح إلا إذا اختتمت بعبارة «الموت لأميركا»..
ويواظب الرئيس حسن روحاني الذي يعتبر أحد الملالي ذوي الرتب المتوسطة، هو وجميع أعضاء إدارته، كل يوم على الوطء بأقدامهم على العلم الأميركي قبل دخول مكاتبهم. ونادراً ما مرَّ يوم منذ وصول الملالي إلى السلطة من دون احتجاز الجمهورية الإسلامية لبعض الرهائن الأميركيين. ويعتبر اليوم الذي تعرضت فيه السفارة الأميركية في طهران للهجوم في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1979 «ثورة ثانية»، وتحتفل فيه الحكومة الإيرانية بتنظيم المسيرات وعقد المؤتمرات وإقامة المعارض، وتدشين الحملات الدعائية في جميع أنحاء البلاد.
ولا تزال الجهورية الإسلامية تحتفظ ببقايا جثامين ثلاثة أميركيين على الأقل تعود لمدير سابق لمحطة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) في بيروت كان قد اختطفه «حزب الله»، وقتل نتيجة للتعذيب في إيران، وعميل متقاعد لمكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) كان يعمل لدى شركة أميركية خاصة في دبي، وضابط أميركي انتدب للعمل مع قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بجنوب لبنان.
ومن الملالي وأتباعهم التكنوقراطيين من رسموا الولايات المتحدة على أنها غوريلا ساذجة تزن 800 كيلوغرام يسهل خداعها واستقطابها.
في عام 2015 وفي ذروة محادثات الاتفاق النووي، روج محمد جواد ظريف، الموظف الذي درس في الولايات المتحدة ليلعب دور وزير الخارجية في بلاده، لبعض القصائد الفكاهية حول هذا المضمون. فمثلاً تقول إحدى القصائد: «لا تعتقدوا أنه ظريف بالفعل، فهو يستطيع بضربة واحدة أن يسقط ستة منهم (في إشارة إلى مجموعة 5 + 1)»، وقال البيت الثاني بنفس القصيدة: «ظريف يحارب وأميركا ترتجف».
ويزعم الخبير الاستراتيجي للحرس الثوري، الدكتور حسن عباسي، الملقب بـ«كسنغر الإسلام»، أن لإيران «عشرات الآلاف من العناصر النائمة» داخل الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية، وجميعهم مستعدون «لتفجير وتفتيت الولايات المتحدة إلى قطع صغيرة في غضون لحظات».
أضاف الدكتور، أن «الأميركيين يدركون هذا ولذلك فهم يخشوننا». في الحقيقة، بدا الرئيس السابق باراك أوباما مصمماً على مسايرة الجمهورية الإسلامية بأي تكلفة كانت، فقد كان أوباما على قناعة بأن الولايات المتحدة قد أخطأت في حق إيران، وأن عليه أن يكفر عن ذلك الذنب، وهو ما اعتبره الملالي وتابعوهم مؤشراً على ضعف الولايات المتحدة.
بيد أن الصفوة الحاكمة الآن تبدو مفتونة بالولايات المتحدة. فقد جرى الإعلان في طهران في أغسطس (آب) الماضي عن قائمة تضم 700 طفل من أبناء كبار مسؤولي الجمهورية الإسلامية يدرسون حالياً في الجامعات الأميركية. وبحسب عضو المجلس الإسلامي كريمي قدوس، فإن نحو 1500 من مسؤولي الجمهورية الإسلامية يحملون إما جنسية مزدوجة (أميركية) أو إقامة دائمة في الولايات المتحدة، ناهيك عن الأعداد الضخمة من المسؤولين والأعضاء السابقين في «الحرس الثوري» المقيمين في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، بعضهم من العاملين في المراكز البحثية والجامعات.
ومنذ عامين، وصف الرئيس روحاني الاتفاق النووي الذي وقعه مع أوباما بأنه أعظم انتصار دبلوماسي في تاريخ الإسلام. لكن الآن، وفي عهد الرئيس الجديد، فإن «الشيطان الأعظم» يسلط الضوء على هشاشة هذا «الانتصار»، وذلك لأن عائدات النفط الإيرانية تراكمت عبر السنين، وجمدت في البنوك الغربية واليابانية والصينية والهندية، وفي غيرها من الدول التي تخشى العقوبات الأميركية حال تراخت عن تجميد تلك الأرصدة، وهذا هو السبب في تعطيل ما أطلق عليه «صفقة القرن» الشهيرة التي أبرمتها إيران مع شركة «توتال» الفرنسية العملاقة. كان ذلك أيضاً المصير المؤسف الذي آلت إليه اتفاقات مبدئية، كان من المفترض أن تقوم إيران بمقتضاها بشراء طائرات ركاب طراز «إيرباص» و«بوينغ». كذلك ضاعت وعود كانت إيران قد حصلت عليها من روسيا بالحصول على حدود ائتمانية بقيمة 5 مليارات دولار ذهبت إلى غياهب النسيان، بعدما تيقن الجميع من أن ترمب لن يغني من كتاب التراتيل الذي كتبه سلفه أوباما.
وعلق ظريف مؤخراً على هذا الوضع بقوله «حالياً لا نستطيع فتح حتى حساب مصرفي في لندن لسداد رواتب موظفي سفارتنا هناك».
ولكي نكون واثقين، ففي فترة حكمه الأخيرة، قام أوباما بطمأنة إيران إلى حدّ ما بشأن معالجة مشكلة تدفقاتها النقدية، لكن من الواضح الآن أنه بعد رحيل أوباما، فمن غير المرجح أن تنعم طهران بشيء من الراحة في القريب العاجل.
ماذا تفعل إيران إذا؟
على إيران البحث في جذور تلك العداوة غير المبررة، ومحاولة اقتلاعها بمراجعة سياساتها الخارجية وطريقة إدارة دبلوماسيتها. فمن اللافت أنه بعض مرور 38 عاماً الآن، لم يحدث أن أخبرنا الملالي عن السبب الذي جعلهم ينظرون إلى الولايات المتحدة بوصفها «عدواً» بدلاً من خصم أو، لنكون أكثر واقعية، قوة على خلاف مع إيران.
وهذا هو السبب في أن جميع الإيرانيين تقريباً يعانون في حياتهم اليومية، من دون تسجيل ولو نقطة واحدة في مرمى «الشيطان الأعظم».
وعلى مدار أربعة عقود تقريباً، فإن الوطء بالأقدام على العلم وحرق صور الرؤساء الأميركيين وترديد هتاف «الموت لأميركا» لم يحل أياً من مشاكل إيران، ولا «الشيطان الأعظم» غير من نهجه. فالمنطق يقول: إنه عندما تفشل سياسة ما فمن العقل تغييرها. لكن في إيران اليوم، فإن العقول المتحجرة لا تزال متمسكة بالهتاف وحرق الأعلام.
تقلبات المشهد السياسي ومياعة مناطق النفوذ وموازين القوى في الشرق الأوسط تثير تساؤلا مهما لدى أي قارئ ومتابع مفاده: هل السياسة الأمريكية جادة في تقويض النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وفي العمل على افشال مشروع الهلال الشيعي، أم أن مواقفها العملية هي اثبات واضح لعكس ما تزعمه وتدعيه في تصريحاتها العلنية؟
ما جرى ويجري في العراق وسوريا واليمن ولبنان هي خير مفاتيح للإجابة على السؤال الآنف، لكننا سنكتفي بالعراق وسوريا فهذين المثالين يفيان بتقديم صورة واضحة حول حقيقة التواطؤ الأمريكي -الايراني في إعادة هيكلة الشرق الأوسط بطريقة تُسهّل اجندات مشروع الهلال الشيعي.
فبعد سقوط صدام عملت أمريكا ما بوسعها لتسليم مقاليد السلطة الى شيعة العراق، ممن يدينون بولائهم المطلق للمرجعة المذهبية في قم إيران وليس نجف العراق. حيث تجل النفوذ الايراني في العراق بفترة حكم المالكي بشكل واضح، وبلغت ذروتها بانسحاب الجيش الأمريكي من العراق في ٢٠١١ بضغط إيراني واضح ليتحول العراق إلى عمق استراتيجي إيراني إضافي تمد من خلاله أذرع ونفوذ فيلق القدس من طهران نحو العواصم العربية، مصدرة الحرب والخراب والتشيّع.
استمر الحال في العراق على ما هو عليه حتى مجيء داعش، الذي استطاع السيطرة على اغلب مناطق السنة في العراق ومنها المناطق المتنازع عليها بين اقليم كردستان وحكومة المركز في بغداد، وذلك بتواطئ فاضح من قبل حكومة المالكي واولياء امره في طهران. لكن قوات البيشمركة تمكنت من دحر التنظيم المتطرف وبسط سيطرتها على اغلب المناطق المتنازع عليها، حتى ان انتهت عملية الاستفتاء في إقليم كردستان في الخامس والعشرين من أيلول الماضي، لتجد إيران وأذرعها العراقية في الاستفتاء ذريعة كافية لإتمام عملية قضم العراق، وخصوصا المناطق الكردستانية الغنية بالنفط وتحويل تلك الجغرافيات الى معابر مفصلية تتوج الانجاز الجيوسياسي لتفاصيل مفهوم الهلال الشيعي.
كل متابع يدرك بان العبادي وميليشيات الحشد الشعبي لم يكن ليستطيعوا السيطرة على كركوك وحقولها النفطية بتلك السهولة دون دعم مباشر من حرس الثورة الايراني وبدون الحصول على ضوء اخضر من الأمريكان. بينما المفارقة الأكبر التي تواجه المتابع هي تزامن احداث السيطرة على كركوك بتصاريح نارية أطلقها البيت الأبيض في الخامس عشر من أكتوبر الماضي ضد إيران والتزاماتها بالاتفاقية النووية، وذلك بإعلان دونالد ترامب عن سلسلة من الاجراءات العقابية لتجفيف مصادر التمويل لميليشيات فيلق القدس. بالمقابل تتالت تصريحات المرجعيات الإيرانية: “بان بسط السيطرة على نفط كركوك كان ضرورة تاريخية كي لا تذهب عائداته الى أعداء الثورة الايرانية”، واستكمالا للمشهد تذرعت الحكومة العراقية بعدة حجج، لإيقاف استخراج وتصدير نفط المنطقة عبر أنبوب كركوك- جيهان التركية، فيقوم ايران بتنفيذ مشروعه المُعد مسبقا بمد انوب لنقل نفط كركوك الى ايران، أي تحويل عائدات النفط العراقي الى مصدر تمويل إضافي لإيران وميليشياتها، تلك الميليشيات التي تدعي أمريكا بانها ستجفف مواردها المالية.
كل مهتم بالعملية السياسية في العراق يدرك بان العبادي هو الحلقة الأضعف في موازين المعادلة الشيعية العراقية وهو الشخص الأقل شعبية، وكافة المحاولات الامريكية لتسويق العبادي إقليميا، والترويج لزياراته المكوكية الى دول الجوار وعقد اتفاقيات ثنائية مع المملكة السعودية، وغض الطرف عن استعانته بالحشد الشعبي، وتحديدا فصائل منه مدرجة تحت قائمة الإرهاب لأفشال مشروع الاستفتاء الذي جرى في إقليم كردستان، لن تاتي اكلها بل بالعكس لها مردود عكسي سلبي. تلك الخطوات لن تجدي نفعا في تقوية جبهة العبادي داخليا وإعادة العراق الى محيطه العربي الطبيعي، ولن تؤدي الى تقويض النفوذ الايراني وتغيير موازين القوى في العملية السياسية العراقية، كما ان تلك الخطوات لن تحول العبادي الى بطل قومي يلتأم حوله صدع البيت العراقي، بل انها في المحصلة تخدم تفاصيل مشروع الهلال الشيعي وكما نوهنا آنفا تغذي مصادر تمويل الميليشيات القائمة على تنفيذ المشروع، ونتائجها واضحة في توسع رقعة الهيمنة الإقليمية الايرانية على حساب نظيره السني، هذا الواقع ينسف في الوقت نفسه مزاعم الولايات المتحدة، في الحد من النفوذ الايراني وتجفيف تمويل اذرعه ” الارهابية”.
وفي سوريا ومنذ بدأ الثورة في عام ٢٠١١، تواطئ الامريكان وتخاذلوا بتعمد أمام خطط النظام بعسكرة الثورة. ورغم التصريحات المتكررة بدعم مطالب الشعب السوري، والخطوط الحمراء المعلنة، لكن الامريكان اكتفوا بالمطالبة بتنحي الأسد، الذي اعلنوا فقدانه للشرعية مرارا، بينما على ارض الواقع كانوا يراقبون ميليشيات حزب الله وعصائب أهل الحق والحرس الثوري الإيراني كيف تعيث فسادا وتتفنن في قتل الشعب السوري وكيف تغير ديموغرافية سوريا دفاعا عن الأسد وطائفته، دون تحريك ساكن، على طول الست سنوات لم يقدموا للثورة السورية سوى دعم خجول ومتردد لبعض فصائل الجيش الحر،اما بعد انشقاق داعش عن جبهة النصرة واعلانه عن دولته المزعومة في سوريا والعراق، فقد اختزلت المواقف الامريكية في دباجة واحدة مكررة وهي: محاربة الإرهاب والقضاء على داعش تحديدا هي على رأس اولويات واشنطن، أما اللوحة من زاوية أخرى تظهر مشهدا أكثر قتامة.. فقد دأب الأمريكان على تنفيذ مخططات تمعن في إفشال الثورة السورية على عدة مستويات، أولها، تفتيت صفوف المعارضة السورية الحقيقية، تارة بإخضاع امرها لمشيئة دول اقليمية وعربية ومخططاتها، أو بلعب دور العراب لربط الأطراف المعتدلة بالتنظيمات المتطرفة أو بتجفيف كافة الخيارات البديلة الممكنة لإجبار المعتدلين على الهروب الى أحضان التنظيمات المتطرفة. على مستوى آخر كانت تبحث عن حليف داخلي يتمكنون من خلاله الامعان اكثر في تشتيت صفوف الثورة السورية، اذ وجدوا حينها ضالتهم في حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي.
وعبر تحالفاتهم المبهمة مع الحزب استطاعوا تحييد قسم كبير من الكرد عن مقاومة النظام السوري مما شكل احدى عوامل الانهاك المهمة للثورة السورية، المستوى الثالث كان بالعمل على تفتيت ما تبق من فصائل الجيش الحر كما تزامنت هذه المرحلة مع التدخل الروسي العسكري المباشر، والذي تم دون اعتراض أمريكي يذكر.
تجلت هذه المرحلة أولا بقتل زهران علوش الذي كان يشكل خطرا جسيما على العاصمة دمشق، ومن ثم تتالت الدعوات لمؤتمرات أستانة التي أفرزت مفهوم مناطق تخفيض التصعيد، ليتسنى من خلالها للنظام السوري التفرغ لمهاجمة ديرالزور والسيطرة عليها وفتح خيار طريق الإمدادات الإيرانية إلى دمشق عبر معبر البادية السورية في محيط محافظة دير الزور.
جدير بالذكر ان التركيز على خيار البادية السورية كطريق لإيصال الامدادات من طهران الى دمشق تم تبنيه بعد فشل الخيار الاول، أي الطريق العابرة عبر أراضي كردستان العراق من طهران نحو دمشق، حيث كان الرئيس مسعود البارزاني قد رفض الطلبات الايرانية المتكررة منذ عام ٢٠١٢ لجعل أراضي كردستان العراق ممرا لقوافل الامداد العسكرية الايرانية لدمشق، منذ ذاك التاريخ وبدات محاولات طهران للي ذراع الرئيس بارزاني داخليا بهدف اجباره على قبول املاءات فيلق القدس لكن جميعها باءت بالفشل. الى ان شارك الفيلق ميدانيا ليستطيع هذه المرة السيطرة على كركوك. واضافة الى الأسباب المذكورة سابقا، التحرك الميداني لقاسم سليماني تنطوي أيضا على نزعة انتقامية من إقليم كردستان لرفضه المتكرر للانصياع للمطالب الايرانية في فتح أراضي كردستان العراق امام الامدادات العسكرية الايرانية، وما اصرار الحكومة المركزية في بغداد لبسط سيطرتها على المنافذ الحدودية بين إقليم كردستان وسوريا سوى عملية احياء للمشروع ذاته.
لا يمكن لعاقل ان ينكر بان المواقف الامريكية تجاه الثورة السورة قد قدمت خدمات جلية لبشار الأسد ونظامه وحلفاؤه، حيث انها عززت مزاعم النظام السوري امام الرأي العالمي في محاربة الإرهاب و” الازمة” هو صراع بين الخير والشر صراع بين قوات حكومية و” ارهاببيين “ولا وجود لما يسمى بثورة شعبية، اما ميدانيا فقد ساهمت واشنطن في إتمام مخطط الهلال الشيعي وترسيخ دعائمه ليتحول الى امر واقع راسه في طهران وذيله في بيروت باذرع تمر ببغداد ودمشق وحتى اليمن.
اما ورقة اليمن ومحاولة دفع المملكة السعودية للغوص في مستنقع الحرب هناك فقد ازكت ناره لسببين أساسيين أولهما كان محاولة استنزاف قدرات المملكة السعودية عسكريا واقتصاديا، حيث انها تبوأت موقع القطب الاكثر ثقلا في مواجهة التمدد الشيعي في العالمين العربي والسني في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي، ثانيا لزعزعة الاستقرار الداخلي للملكة لإجبارها على إعادة النظر في قائمة أولويات امنها القومي والانكفاء عن لعب دور محوري في دعم الثورة السورية كدولة وطرف مهم جدا بين مجموعة “أصدقاء الشعب السوري”، لذلك نرى التحولات التي جرت في مواقف المملكة تجاه اسقاط نظام الاسد، خصوصا بعد استلام الملك سلمان لمقاليد الحكم، ففي الوقت الذي كانت فيه السعودية تقدم دعما سياسيا وعسكريا للمعارضة السورية المتمثلة بالإتلاف وفصائل الجيش الحر المعتدل، وبعد المضي في عمليات عاصفة الحزم ضد الحوثيين المدعومين إيرانيا..، أصبح سقوط بشار الأسد أمرا ثانويا بالنسبة للملكة السعودية.
التوسع الايراني وخروقات الحرس الثوري الايراني وفيلق القدس لسيادات الدول حدث ويحدث على مرأى ومسمع امريكا دون أن أي تدخل فعلي لأيقاف وتقويض هذا التمدد والدفاع عن امن ومصالح شركاؤها المفترضين من دول المحور السني، أما الان وبعد سيطرة قوات الحشد الشعبي وداعمها الأساسي أي فيلق القدس على مساحات شاسعة من أراضي كردستان العراق، خصوصا جبال شنكال( سنجار)، التي جعلت عواصم المنطقة من انقرة مرورا بالرياض وحتى تل ابيب تحت رحمة أهواء مدافع ايران البعيدة المدى، فقد آن الاوان لمراجعة الحسابات، لان الخطر الأكبر بات على مرمى حجر من حدائق دورنا. لقد بدأت ايران بالانتهاك العملي لحرمات الحليف الأضعف في المحور السني الشرق اوسطي، أي الكرد، ولم يسعفهم احد من الاشقاء، والسؤال هنا من هو التالي على قائمة النهم التوسعي الايراني ؟ سؤال مهم برسم الإجابة من قبل عقلاء القوم.
مرت الغارة الإسرائيلية ليل أول من أمس على ما قيل أنه مصنع للذخائر قرب مدينة حمص السورية، من دون أن تثير قدراً يذكر من الاهتمام. بعد نصف ساعة من انتشار النبأ، اختفى من موجزات الأخبار ومواقع الأنباء العاجلة.
إنها مجرد حركة على لوح شطرنج الصراع الإسرائيلي– الإيراني سبقتها حركات وستتبعها شبيهات لها كثيرات إلى أن يُعد مسرح المواجهة العسكرية المفتوحة في سورية ولبنان أو أن يجري التوصل إلى تسوية سياسة في إطار رسم خرائط المشرق العربي بعد فشل الثورات.
في السادس عشر من الشهر الماضي، شنت الطائرات الإسرائيلية غارة على موقع للدفاع الجوي السوري بعد إطلاقه صاروخاً على طائرة إسرائيلية كانت في دورية استطلاع «روتينية» في الأجواء اللبنانية. بعد أيام، أطلقت رشقة من الصواريخ على مرتفعات الجولان المحتلة، حمّلت إسرائيل المسؤولية عنها إلى عناصر «حزب الله» المنتشرين هناك وأعقبت ذلك بنشرها صورة واسم من قالت إنه المسؤول عن قوات الحزب في منطقة الجولان. أول من أمس، ردت الدفاعات الجوية على الغارة على الموقع المستهدف بصاروخ يبدو أنه سقط على السلسلة الشرقية لجبال لبنان محدثاً دوياً كبيراً، أثناء زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران.
غارتان في أقل من شهر وقبلهما مناورات ضخمة للجيش الإسرائيلي استعداداً لحرب على جبهتي الشمال، السورية واللبنانية، وتهديدات مستمرة من المسؤولين الإيرانيين لإسرائيل، في سياق عريض هو العثور على حل وسط للحاجات الاستراتيجية الإيرانية والإسرائيلية في بلادنا، التي نغيب عنها كمقررين لمصيرها ومستقبلها ونحضر فيها كضحايا وأطفال يموتون جوعاً في الغوطة وكلاجئين، حاليين ومحتملين، نشكل أزمة للدول المضيفة.
لم يتفق الروس والأميركيون- وكأنها عبارة مستلة من قاموس الحرب الباردة- لم يتفقوا على «مصالح» إسرائيل وعلى «مصالح» إيران في سورية (وفي لبنان، استطراداً). هذا ما بقي من الثورة السورية ومن التضحيات المرعبة التي قدمها السوريون ومن دمار بلدهم وتدخل القوى الإقليمية والدولية لإفشال الثورة وتحويلها «مهاوشة على صيدة» على ما قال أحدهم قبل أيام.
وإذا كانت الحرب هي الخيار الإسرائيلي المفضل، فإن بنيامين نتانياهو، الذي يتجاذبه إغراء التصعيد في غزة حيث فجر نفقاً مكتشفاً قبل أسابيع لإفشال المصالحة الفلسطينية، وإغراء ضرب «حزب الله» و «الحرس الثوري» الإيراني في سورية، يعلم أن الأمر يتطلب إعداداً كبيراً لئلا تتكرر نتائج حرب تموز (يوليو) 2006، فيهدي نصراً آخر إلى علي خامنئي وحسن نصرالله. والإعداد يتطلب حسماً أميركياً للموقف من الاتفاق النووي مع إيران واقتناعاً أميركياً، أيضاً، بأن الدور الروسي في سورية لن يفضي إلى النتيجة التي تريدها واشنطن. هذان المعطيان لم يتحققا بعد وقد لا يتحققان في القريب العاجل بسبب استمرار المضمون «الأوبامي» للسياسة الخارجية الترامبية.
الغارة الليلية قرب حمص تصب في الخط التصاعدي للاستعدادات للحرب المقبلة. ويمكننا، في الإطار ذاته، أن ننتظر في القريب العاجل رداً من الجولان بصواريخ مجهولة الهوية. لكن الواضح أن الإسرائيليين والإيرانيين ينتظرون إشارات صريحة من راعييهما الدوليين للقفز إلى نقلة نوعية في العمل الميداني، ما دام البازار السياسي لم يقفل بعد. لقد عادت منطقتنا ساحة خالية من الأهل.